دروس للشيخ سفر الحوالي

سفر الحوالي

الحكم بغير ما أنزل الله

الحكم بغير ما أنزل الله تكلم الشيخ حفظه الله عن الحكم بغير ما أنزل الله من المنطلق التاريخي، مبيناً أن بداية البشرية كانت على التوحيد، وظلت عشرة قرون حتى بدأ الخلاف وظهر الشرك، فانقسم الناس إلى قسمين: مؤمنين ومشركين، وأول ما بدأ الحكم بغير ما أنزل الله عن طريق العمل بالأعراف، ثم ظهرت بعض القوانين المكتوبة كقانون حمورابي أو القانون الروماني ثم قامت الثورة الفرنسية، وظهرت خلال ذلك الدساتير المكتوبة. ومع سقوط الخلافة العثمانية بدأت الدول الإسلامية بالاقتداء بالغرب، وهكذا دخلت الدساتير أكثر البلاد الإسلامية. ثم تحدث الشيخ حفظه الله عن موضوع الحكم بما أنزل الله، مبيناً أهميته، ثم ذكر كلاماً للشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى:10]، وذكر الآيات التي تدل على صفات من يستحق الحكم، وأن هذه الصفات كلها خاصة بالله عز وجل، وعلى هذا فلا يحق أن يحكم خلق الله إلا وفق شرع الله.

مراحل التشريع على وجه الأرض

مراحل التشريع على وجه الأرض نبدأ باستعرض تاريخ الحكم بغير ما أنزل الله، ونشأته في الجماعة الإنسانية منذ أن خلقها الله تبارك وتعالى إلى اليوم.

عشرة قرون يتحاكمون إلى شرع الله

عشرة قرون يتحاكمون إلى شرع الله فنقول: إن آدم وذريته من بعده كانوا على التوحيد عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فكانوا يتحاكمون إلى شرع الله، وهذه أول قضية نخالف فيها من يكتبون في تاريخ التشريع في العالم، لأنهم يزعمون أن الإنسانية تطورت وبدأت أولاً بالأعراف وأحكام شيخ القبيلة، ثم القوانين غير المكتوبة، ثم لما اكتمل التطور الذي ظهر في العصر الحديث وما قبله في العصر الروماني، ظهرت القوانين المكتوبة المدونة الآن بما يسمى الدساتير، ثم القوانين بفروعها المدني والتجاري والإداري إلى آخره، ثم اللوائح التنفيذية لها، وهذا هو الفرق بين قولنا نحن المسلمين وبين قولهم.

بداية الشرك والخلاف

بداية الشرك والخلاف والقصد أنه لما وقع الاختلاف ووقعت الأمة في الشرك، بعث الله النبيين، وأرسل الرسل، وأنزل الكتاب، والكتاب هنا اسم جنس، والمقصود به جنس الكتب، وأنزل الله تعالى الكتب لتحكم بين الناس فيما يختلفون فيه، فلم يترك الله تبارك وتعالى الإنسانية هملاً، ولم يترك الجماعة البشرية بلا كتاب ولا شريعة تنظم حياتهم، فلا يزعم زاعم أن الكتب السماوية إنما نزلت لتنظيم ما يسمونه بالجانب الروحي فقط، وتركت للناس الاحتكام إلى الطواغيت أو الأهواء أو الشرائع الوضعية عامة.

انقسام تاريخ الإنسانية إلى خطين

انقسام تاريخ الإنسانية إلى خطين انقسم تاريخ الإنسانية إلى خطين: الأول: أصحاب اليمين: وهؤلاء موجودون على مدار التاريخ وهم يحتكمون إلى شرع الله. الثاني: المنحرفون المشركون التاركون لدين الله ولشرعه، الذين يحتكمون إلى الطواغيت على اختلاف أنواعها كما سنذكر. أما أصحاب اليمين فهؤلاء كانوا كما في القرآن والسنة على نوعين: النوع الأول: الأنبياء والرسل، وهذا واضح جداً ولا تخفى الأمثلة على ذلك، مثل: داود وسليمان: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:78 - 79] وهكذا بقية الرسل، ولهذا قال الله تعالى عن التوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44]. فكان النبيون يحكمون -عموماً- في جميع مراحل التاريخ، حيثما وجد النبي فإنه يحكم بين المؤمنين وبين أتباعه فيما يشجر بينهم، ثم منهم من تقام له دولة كبيرة كما كان لسليمان عليه السلام، ومنهم من يكون أقل، فالمقصود أن أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يحتكمون إلى الرسل، وكما صح أيضاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي}. النوع الثاني: الملوك العادلون الذين يحكمون بين الناس بما أنزل الله ويتبعون شرعه، وإن لم يكونوا أنبياء، وهذا كثير في التاريخ أن ملوكاً آمنوا بدين الله، واتبعوا هديه، وورثوا شريعة من شرائعه، أو بعث فيهم نبي من أنبيائه فآمنوا به أمثال طالوت فقد كان ملكاً، وكان الأنبياء في عهده يخبرونه بحكم الله، وكذلك ذي القرنين من أعظم ملوك الدنيا الذي ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن -وهو غير ذي القرنين الذين يسمونه المقدوني الوثني اليوناني، فذاك على الإيمان والتوحيد كما ذكر الله تبارك وتعالى، وهذا مشرك ملحد- ثم جاء من بعدهم الكثير.

كيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله

كيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله أما النموذج الثاني الذي هو موضوع حديثنا، وهو كيف نشأت القوانين الوضعية، وكيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله حتى أصبح الناس يتحاكمون إلى شرع غير شرع الله؟ فأما كيف وجدت هذه الشرائع فبحسب ترتيبها.

الاحتكام إلى الأعراف

الاحتكام إلى الأعراف أول ما وجد عند الناس من الانحراف هو الاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد وشيوخ القبائل والملوك المتسلطين المتألهين، فلم تكن القوانين مكتوبة. فالمرحلة الأولى من مراحل الانحراف لم تكن القوانين مكتوبة، فلم يضاهوا فيها شرع الله، وهذه المرحلة موجودة في كثير من الأمم البدائية، وما تزال إلى هذه اللحظة عند الأمم البدائية التي لم تعرف الكتابة، فيحتكمون إلى هذه الأعراف والتقاليد والأوضاع المألوفة كما في البوادي، حتى في البلاد الإسلامية وجزيرة العرب.

بداية تدوين القانون

بداية تدوين القانون ومع ذلك فإن التاريخ القديم قد سجل لنا بعض الأحكام التي وجدت والتي ربما نقشت أو كتبت، ومن أشهرها قوانين الملك الآشوري القديم حمورابي، والتي يعتبرها القانونيون أساساً للتشريع الحديث، وأن هذا الرجل من تجديداته وإبداعاته أنه وضع شرائع، فالرجل إذا قتل رجلاً أو سرق ثوراً فله حكم كذا وكذا من العقوبة، ويجعلون هذا عصراً جديداً للتقنين ولمعرفة الأحكام، بينما نحن نعتقد أن هذه القوانين -على ضئلتها وقلتها- ما كان فيها من خير وحق فإنه يحتمل أن يكون أُخِذها عن شريعة نبي لم يذكر، وإما من بقايا كتب ورسالات أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإما أن يكون اجتهاداً ووافق بعض الصواب، ثم جاء بالباقي من عند نفسه كأي طاغوت من الطواغيت يضع من عنده تشريعات، فنجد فيها ما يوافق الحق أحياناً اتفاقاً، وأما الباقي فهو مردود عليه، ولا يعد ذلك فتحاً ولا تجديداً، وإنما يعد انحرافاً واحتكاماً إلى الطاغوت، ولو أنهم رجعوا إلى دين الله وإلى شرعه لوجدوا خيراً كثيراً، فكل أمة أنزل الله تبارك وتعالى لها من الشرع والدين ما يكفل لها حياتها ونظامها. ثم في التاريخ الوسيط -كما يسمونه- القرون الوسطى، نجد أن أشهر من وجدت عندهم من الأمم التشريعات والقوانين المكتوبة هم الرومان، ولذلك إلى الآن يقولون: إن القانون الروماني هو أفضل وأوسع وأشمل أنواع القوانين المعروفة في القرون الوسطى، لأنهم لا يعدون شريعة الإسلام ودين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعاً، ولا يعترفون به مع أنه كان يحكم الحياة جميعها، وهو تشريع مكتوب أيضاً. فالمقصود أن المرحلة الثانية هي مرحلة تدوين القوانين، وأنها أول ما ابتدأت بشكلها القريب من المعاصر في عصر الامبراطورية البيزنطية أو الامبراطورية الرومانية، وأشهر هذه القوانين قوانين الامبراطور جوستنيان الذي ظهر في أوائل القرن السابع، أو في أواخر القرن السادس الميلادي، فهو معاصر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقريباً، وبلغت الامبراطورية الرومانية في عصره شأناً عظيماً، وكتبت القوانين المسماة قوانين جوستنيان. وكان دينهم في ذلك الزمان هو النصرانية؛ لأن النصرانية دخلت إلى أوروبا عام (325م) والامبراطور الذي اعتنق النصرانية وأدخلها في بلاده هو قسطنطين، وهو الذي جمع الأساقفة واختار دين التثليث، وترك مذهب التوحيد. وأخذ هذا الدين المنحرف من المحرف الأكبر شاؤول الذي غير اسمه إلى بولس اليهودي. وهنا نعرف قضية بني إسرائيل، فعيسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل خاصة بنص القرآن، وكما في الأناجيل أيضاً يقول: 'إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة'. ولهذا يذكرون قصة المرأة الفينيقية أو السورية التي ذكرت في الأناجيل المحرفة أنها جاءت إلى عيسى عليه السلام واشتكت أن فيها روحاً شريرة، أي بها مس من الجن وقالت: يا روح الله! عالجني أو أعطني مما أعطاك الله، فقال: يا امرأة من أين أنت؟ فقالت: فينيقية، أو قالت: سورية. فقال لها: 'إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة' فبكت وتضرعت، وقالت: إن لم تعطني الخير فمن أين أذهب؟ حتى آواها ورضي أن يعلمها وأن تكون من المدعوين. فالشاهد أن عيسى عليه السلام أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه الإنجيل مكملاً لما بين يديه من التوراة، وفيه زيادة أحكام مثل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] وفيه تخفيف من الآصار والأغلال التي كانت على اليهود، وفيه تحليل بعض ما كان محرماً في شريعة التوراة، فهو كتاب مكمل في حدود بني إسرائيل، هذه القضية الأولى. والقضية الأخرى: أنه هل وصل هذا الكتاب نفسه -مع أنه لم يكن تشريعاً للعالم كله- إلى الرومان أو إلى غيرهم كما أنزله الله؟ فقد وقع التحريف والطمس والتبديل والتغيير على يد بولس وعلى يد أناس آخرين. حتى أنه مرت مراحل كثيرة كان الامبراطور يأمر بكتابة الإنجيل من جديد وحذف ما لا يكون مناسباً، فيأتي الأحبار والرهبان الكبار ويكتبون ويحرفون الكلم عن مواضعه {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم، فلم يكن الإنجيل شرعاً عاماً، وما نراه اليوم من انتشار المنصرين في جيمع أنحاء العالم وطبع الإنجيل إلى أكثر من ألف ومائتي لغة، كل ذلك خارج عن الأصل الذي بعث الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام من أجله، حتى لو كانوا يدعون إلى الإنجيل الحقيقي، فهو لم يكن شرعاً عاماً، ولا ديناً للإنسانية عاماً هذا أولاً. والأمر الآخر أنه لم يصل إلى تلك الأمم الإنجيل الحقيقي، إذ قد حرف وبدل، ومع ما فيه من تحريف، فلا يوجد فيه من التشريعات والتنظيمات ما يكفل الحياة؛ لأن الناس إذا حرفوا شيئاً وطمسوه وبدلوه لا يمكن أن تكون فيه الديمومة والمنفعة الكاملة، وعليه فإن الأناجيل الموجودة بالجملة ليس فيها تشريعات كافية، مع العلم أن هذه الكتب أنزلت محدودة في الزمان والمكان إلى بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعندما أنزل الله القرآن وأرسل محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] لم يعد يُعمل بكتاب غير القرآن الذي أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاحتكام إنما يكون إليه فقط. ولما لم تجد الدولة النصرانية الكفاية في تسيير شئون حياتها وتلبية احتياجات الناس بسبب النقص الحاصل في التوراة، ووجدت نفسها أنها في حاجة إلى تنظيمات وإلى تشريعات، ووجدوا أن لهم أعرافاً وقوانين وأنظمة فجاء جوستنيان وأمثاله فنظموها، ثم كتب بعد ذلك عدة قوانين وانتشرت حتى سمي القانون الروماني، وهذه قصة التاريخ أو التقنين في العصور الوسطى كما يسمونها.

قيام الثورة الفرنسية

قيام الثورة الفرنسية المرحلة الثالثة: وهذه هي المعلم الفاصل في تاريخ أوروبا الذي يعتبرونه فجر العصر الحديث والإنسانية كلها، وهي الثورة الفرنسية التي قامت سنة (1789م)، فأقامت لأول مرة في تاريخ أوروبا النصرانية مبادئ لا تستند إلى الدين في شيء، وجعلت ارتكاز الحياة والاحتكام في الحياة إلى أهواء الناس، وكان شعارهم وهم يتظاهرون ويذبحون ويسفكون الدماء: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، أي: أنهم يقضون على الإقطاع الملكي من جهة وعلى الدين من جهة أخرى، لتقوم دولة علمانية لا تحتكم إلى الدين في شيء، كذلك نحيت التوراة والإنجيل وما فيها من أحكام، وابتدأ الناس في وضع الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية، وأخذوا يفكرون في إنشاء دساتير.

طريقة الدساتير المكتوبة

طريقة الدساتير المكتوبة وبعد الثورة الفرنسية ظهر نابليون الذي اجتاح معظم أوروبا، هذا الطاغوت الكبير عندما ظهر وضع لهم القانون الأول المكتوب في أوروبا وهو المعروف بقانون " نابليون " وضعه عام (1804 م)، وهو عبارة عن مدونة في الأحكام أغلبها يتعلق في المعاملات وما أشبه ذلك، فانقسم بعد ذلك التاريخ الأوروبي التشريعي -أي: التقنيني- على فرعين: الفرع الذي أخذ بالاتجاه الفرنسي، وهذا يضع التقنينات التفصيلية في كل شيء، وفرنسا نموذج لذلك، فهناك قانون التجارة، وقانون القضاء، ودستور البلاد. ثم القوانين الفرعية: القانون المدني، والقانون التجاري، والقانون الإداري، وكل ذلك نما مع الزمن وتطور وتتدرج إلى أن وصل إلى المرحلة التي نراها اليوم.

طريقة القوانين غير المكتوبة

طريقة القوانين غير المكتوبة وهذا الاتجاه قابله اتجاه آخر، وهو الاتجاه الذي ساد في بريطانيا ويمثله في الدرجة الأساسية الإنجليز، وهم لا يأخذون التقنين على أنه مواد مكتوبة، وإنما أخذوا طريقة العرف المتبع أو القوانين غير المكتوبة نظام السوابق، فيأتون إلى القضاء الإنجليزي، فإذا وقعت قضية إن كان لها سابقة رجع إلى ما كان قد عمل به وحكم به الأولون، وإن كانت قضية جديدة فهذه توضع وتكون سابقة، وهكذا، فيسمى نظام السوابق، وهو نظام غير مدون على الشكل الفرنسي. والعالم الإسلامي نقل النموذجين فتجد هنالك دولاً أخذت الطريقة الفرنسية فتكتب الدستور مائة مادة أو مائتين مادة، ثم بعد ذلك تغيره، وكل أمر من أمورها ترجع فيه إلى مادة من مواد الدستور، وبعضهم جرى على الطريقة الإنجليزية -الأنجلو سكسونية- وهي طريقة الرجوع إلى الأعراف، فيقال: قد سبق أنه في عام كذا صدر مرسوم بكذا، وهكذا تدرس اللجنة القضائية القضية وتتخذ فيها حكماً، ثم يصبح سابقة، وتأتي قضية أخرى تدرسها كذلك، فيسمى نظام السوابق. ففي الولايات المتحدة الأمريكية حصل فيها دمج بين النظامين، فمن جهة الدستور فمكتوب، وهو الذي يفخر به الأمريكيون؛ لأنهم وضعوه عند قيام اتحاد الولايات الأمريكية، وفي نفس الوقت نجد أن الأنظمة في أمريكا كالقانون المدني والتجاري وما أشبه ذلك على الطريقة الإنجليزية ليس مكتوباً، وإنما هو حسب السوابق، فهذا مجمل للكيفية التي يحتكم بها هؤلاء المتحاكمون إلى الطواغيت وإلى القوانين.

القوانين الغربية

القوانين الغربية أما كيف نشأت هذه القوانين وتسربت إلى العالم الإسلامي فنقول:

ظهور أول نموذج في العالم الإسلامي

ظهور أول نموذج في العالم الإسلامي النموذج الوحيد الذي عرفه العالم الإسلامي من القوانين هو نموذج الياسق أو الياسا، الذي أتى به التتار، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية تكلم في فتواه المشهورة عن التتار، وهو أكثر من فصّل في الياسق، وما هو حاله وشأنه وتاريخه. وكذلك المقريزي في كتاب الخطط عندما تكلم عن المماليك في مصر، وأنهم كانوا يتحاكمون إلى الياسق، قال: وهذا الياسق عبارة عن كتاب وضعه جنكيز خان. والحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر ذلك باقتضاب في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] قال: مثل ما يتحاكم به التتار إلى كتابهم الذي يسمى الياسق، وجنكيز خان من أكبر الطواغيت في العصر الوسيط أو التاريخ الإسلامي، فقد جمع القبائل الهمجية من المغول في أواسط آسيا ثم اكتسح بهم والجانب الشرقي من العالم الإسلامي بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد عظيمة فسيحة جداً، وكان في أيام الدولة الخوارزمية، وما كان أحد يأبه لهذه القبائل، واجتاحت هذه القبائل بعد حروب دامية الجانب الشرقي من العالم الإسلامي ودمرته، ثم أتوا على بلاد السند التي تسمى الآن باكستان، وبلاد خراسان وأفغانستان، وشمال إيران ثم بلاد فارس، ثم وصل حفيده هولاكو إلى بغداد عام (656هـ) التي كانت فيها وقعة التتار المشهورة في بغداد، وكانوا يعتقدون أنه إله، وأنه ابن الشمس، ولهذا شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في رده عليهم يقول: 'هذه شمس، نزلت إلى الخيمة، ثم حملت به أمه ودخلت الخيمة' كيف هذا؟! فهذا اعتراف منهم بأنهم لا يعرفون له أباً، فهو ابن غير شرعي -نعوذ بالله- والشاهد أن هذه العقيدة هي التي يعتقدها أكثر المجوس إلى الآن، حتى اليابانيون يعتقدون أن الامبراطور من سلالة الشمس، وهي نفس العقيدة القديمة الموجودة عند البوذيين المجوس في شرق آسيا. فقالوا إن هذا الرجل لما كان بهذه العظمة وبهذه المنزلة جمع هذه القبائل ووضع لهم تشريعات وقوانين، وكتبها كما يقول المقريزي في ألواح من الفولاذ، وجعلها شرعاً في بنيه يحتكمون إليها، وهو أقرب إلى القوانين العسكرية المعروفة الآن. لكن كما يقول ابن كثير رحمه الله: 'اشتمل على بعض الأحكام من المجوسية واليهودية وبعض الأحكام اقتبسها من الشريعة الإسلامية، وأحكام أخرى وضعها من عنده فجمع وغيَّر وبَدَّل كما يشاء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] '. ولما غزا هولاكو بغداد واجتاح التتار العالم الإسلامي، حصل أن بعض التتار أسلموا لكنه كان ضعيفاً كإسلام كثير ممن يعيش في دول الغرب ليس لهم من الدين إلا الاسم، وكانت قوة الإسلام متمركزة في بلاد الشام ومصر. وهنا تأتي فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار ذلك الحين، التي كان سببها كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن الناس اختلفوا في شأن التتار، فقال قوم: كيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الشبهة القديمة الحديثة المتجددة، وقال قوم: يقاتلون قتال البغاة، وقال قوم: يقاتلون قتال الخوارج فاختلف الناس في أمرهم، وصارت ضجة ولم يحسم العلماء الموقف في شأنهم، فيقول الحافظ ابن كثير: فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله فتواه في شأنهم، فاجتمعت عليها الكلمة، واتفقت عليها الأمة والحمد لله، وهو أنه قال: إنهم يحتكمون إلى الياسق الذي وضعه الطاغوت جنكيز خان فلم يحكموا بشرع الله، فهذا مما يبرر قتالهم قتال الخارجين على شريعة الله تعالى ودينه، فبناءً على ذلك وفق الله تعالى المسلمين كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله واجتمعت كلمتهم وخرجوا ومعهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، لقتال التتار صفاً واحداً، وكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقاتلهم ويبشر المسلمين بالنصر، حتى كسر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شوكة التتار وخفض أمرهم وانتصر عليهم المسلمون.

بداية دخول القوانين الوضعية

بداية دخول القوانين الوضعية وجاءت بعد ذلك الدولة العثمانية وظل الإسلام والشرع كما هو في كتب الفقه، حتى تدنت هذه الأمة في الحضارة، وانحطت في جميع المجالات، وظهر الغرب بقوة عصرية مادية تنظيمية، فحصلت الفتنة بالكفار وركوب سننهم وطرائقهم، والدخول فيما دخلوا فيه، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال المسلمون: لا بد أن نقتبس من الغرب هذه الحضارة، وظهر أعداد من الذين يسمون المستنيرين في مصر وتركيا، فظهر الشيخ رفاعة الطهطاوي وظهر خير الدين التوسي، وأما في تركيا فقد ظهرت على مستوى رئيس الوزراء وأمثاله، فكانت هناك دعوة إلى اقتباس هذه النظم المفيدة حسب زعمهم. وظهرت في تركيا الدعوة المسماة بالتنظيمات، وصدر قانون التنظيمات الأول لعام (1255هـ)، وقيل: إنه لا بد من الاقتباس من تنظيمات الأمم الراقية، واعتبار أن هذه القوانين قوانين راقية، وأنها جديرة بأن تقتبس. وكالعادة بدأت القوانين تحاصر الشريعة الإسلامية، فأول ما ابتدأت بالمعاملات والتنظيم العسكري، واستقدم خبراء من السويد وفرنسا لتنظيم الجيش العثماني ليكون من الجيوش الحديثة. وفي المجال التجاري كانت الدولة تتعامل مع أوروبا تجارياً، فأخذوا القوانين الفرنسية التجارية، وأخذوا نفس المواد، وغيروا فيها شيئاً ما حتى أصبح يسمى القانون العثماني التجاري، والتنظيمات الإدارية أخذوا بها عندما ظهرت فكرة البرلمانات والمجالس النيابية في أوروبا. وهكذا شيئاً فشيئاً حتى ظهر ما سموه الدستور عام (1908م) أيام السلطان عبد الحميد، ولما ظهر الدستور قالوا: الآن وصلنا إلى أن نكون أمة حديثة وأمة راقية متمدنة لها دستور تحتكم إليه، وتتعامل بمقتضاه، ويكفل حرية جميع المواطنين، ثم حدثت مشكلة الثورة على الدستور وإلغاء الدستور. فالمقصود أن العملية انتهت بإلغاء نظام الخلافة على يد كمال أتاتورك عام (1924م)، وانتهت بذلك كل الأحكام الشرعية تقريباً، وما بقي منها شيء في تركيا، ومسخوا الإسلام مسخاً كلياً، حتى أنهم ألغو الأذان وغيروه، فأصبح المؤذن لا يؤذن باللغة العربية، وألغو الحروف العربية، ومزقوا الحجاب، وفرضوا هذه القبعة الصليبية، وكل ما فيه تغريب فرضوه بالقوة، هذا في تركيا. وفي العالم الإسلامي بدأت المحاولات أيام سعيد باشا وحلمي باشا لتطوير البلاد، وأول ما وضع الدستور المصري عام (1923م)، وأعلن عند الناس وافتخرت مصر بأنها وضعت دستوراً، وأصبحت أمة حديثة تسير على القوانين الحديثة، والتحقت بركب الأمم الراقية التي هي في الحقيقة أمم غاوية، ثم توالت بعد ذلك الدول العربية والإسلامية بالأخذ بالقوانين حتى عمت هذه القوانين أكثر أنحاء العالم الإسلامي. وهناك دولة أخرى لا ينبغي أن ننساها وهي الهند فعندما جاء الإنجليز كانت الشريعة الإسلامية هي الأصل، وكان ملوك المغول الذين يحكمون الهند مسلمين، ومنهم أرونق زيب هذا الملك العالم وأمثاله. فقامت الحكومة الإنجليزية بإلغاء الشريعة الإسلامية، وأعطت الأفضلية لعباد البقر، وهم الأكثرية لأن المسلمين اشتغلوا ببناء تاج محل، وبناء القباب، وبناء المشاهد، واشتغلوا باللهو والطرب، بل وصل ببعضهم الأمر إلى الإلحاد، وتركوا الدعوة إلى الله، وظل عباد البقر، يعبدون البقر فجاء الإنجليز فطمسوا شريعة الله، وحكموا بين الناس القوانين الوضعية التي قبلها ورضيها عباد البقر. ولذلك نجد أن الهند وباكستان وبنجلادش التي هي باكستان الشرقية هي أكثر الأمم تقريباً في العالم تقليداً وتبعية للنظام الإنجليزي، فنفس الطريقة في الأحكام والبرلمان والانتخاب واختصاصات رئيس الدولة، واختصاصات رئيس الوزراء؛ لأنها مأخوذة حرفياً من الإنجليز، ومن أشهر القانونيين الذين وضعوا القوانين أو الدساتير في العالم العربي عبد الرزاق السنهوري، فقد وضع القانون المدني المصري، ثم انتدب لوضع قوانين في عدة بلاد عربية أخرى. وبذلك وصلت الأمة إلى الحالة التي ترونها اليوم من غياب حكم الله، والاحتكام إلى غير شرع الله في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وأخذ الناس يتحاكمون إلى الطاغوت الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] إلى آخر الآيات، فالتحاكم إلى الطاغوت هو السائد في العالم الإسلامي، وإن تعرضنا لشمال أفريقيا فإنها تعرضت كذلك لمسخ أكبر على يد فرنسا والله المستعان.

موقع الحكم بما أنزل الله من الدين وأهميته

موقع الحكم بما أنزل الله من الدين وأهميته قال المصنف رحمه الله تعالى: 'وهنا أمر يجب أن يُتفطَّن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً إما مجازياً وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه به أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاصٍ، ويسمى كافراً كُفراً مجازياً أو كفراً أصغر. وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ، فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور'. موضوع الحكم بما أنزل الله موضوع مهم وخطير وعظيم الشأن، وقد كثر فيه الجدل والنزاع في القديم، ولكنه في هذا الزمن أصبح أكثر مما سبق، ولا بد للمؤمن الذي يريد أن يعرف دينه، وأن يعرف معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أن يعلم حقيقة هذا الأمر ومنزلته ومكانته من دين الإسلام، وهذا -إن شاء الله- الذي سنجعله تقدمة أولى لكلام المصنف رحمه الله، فسنتحدث عن أهمية الحكم بما أنزل الله، وما موقعه، وما مكانته، وما علاقته بتوحيد الله تعالى والإيمان به؟ ثم نتحدث -إن شاء الله- بعد ذلك عن تاريخ الانحراف في حياة البشرية عن الحكم بالكتب التي أنزلها الله تعالى، وهي كتاب واحد باعتبار أن غايتها واحدة وهدفها واحد ودعوتها الأساسية واحدة، ومتى ظهرت القوانين الوضعية؟ سواء منها المكتوب أو العرفي غير المكتوب؟ ثم ما وصلت إليه الحالة في العالم الإسلامي المعاصر بهذا الشأن. وبعد ذلك -إن شاء الله- سوف نتكلم بالتفصيل في آيات الحكم، ولا سيما قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ونبين ما وقع عندها من إشكال عند بعض الفرق والطوائف، وما هو منهج أهل السنة والجماعة ومذهبهم في هذا الشأن. فهذه الثلاث الأصول لا بد من معرفتها ثم بعد ذلك نشرع في كلام المصنف رحمه الله، لأن هذا الموضوع المهم لم يكن علماء العقيدة وعلماء السلف الصالح قديماً يكثرون من الحديث عنه، وإن كانوا قد تكلموا فيه كما تكلموا في سائر الأمور؛ لأنه لم يكن في عصرهم من ينكر حكم الله، أو يخرج على حكم الله، أو يجاهر بأنه لا يتحاكم إلى شرع الله، ومع هذا يزعم بأنه مسلم، وإنما ذكر الله تعالى هذه الحالة عن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] فهذه حالة شاذة وقعت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأول فقرة هي: موقع الحكم بما أنزل الله وأهميته. ونقول: إن الحكم بما أنزل الله هو جزء من التوحيد، فعندما يقول المسلم كلمة التوحيد التي بها يدخل الإنسان في الإسلام، فمعنى ذلك أنه قد التزم وأقر بألا يتحاكم إلا إلى الله وإلى شرعه، وإلى ما أنزله، وأنه كافر بالطاغوت، لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله هي -كما بين الله تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]. فهذه هي شهادة أن لا إله إلا الله مكونة من ركنين: ركن النفي: لا إله، وهو الكفر بالطاغوت. وركن الإثبات: إلا الله، وهو الإيمان بالله، والشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. فمعنى الشهادة بأنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يحكَّم قوله الذي هو الوحي سواء كان مبلغاً إياه عن الله أم من عند نفسه؛ لأنه لا ينطق عن الهوى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] فلا يقدم بين يديَّ الله ولا بين يديّ كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأي ولا هوى، ولا معقول كما كان يسميه الأولون من علم الكلام أو أي شيء يعارضه. فكلمة مسلم أو مؤمن تعني: أن الإنسان مذعن منقاد مستسلم لأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يتحاكم إلى غير الله عز وجل أبداً، وإنما ذكر الله من يريد أن يتحاكم إلى غير شرع الله عن المنافقين، سواء كانوا في الأمم السابقة كاليهود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23] أو كانوا منافقي هذه الأمة: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50]. فهذا حالهم وهذا شأنهم، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، فهم ليسوا مقرين حقيقةً بأن الله هو الإله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رسول الله، ولم يشهدوا بذلك حقاً، ولو شهدوا به حقاً وآمنوا به صدقاً لما عدلوا عن التحاكم إليه، وتحاكموا إلى غير شرع الله، وإلى غير ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والكلام في هذا كثير جداً مما ذكر الله تعالى في القرآن، ومما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة، ومما تكلم به العلماء، ومنها ما ذكره وتكلم به العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في هذا الشأن، وهو من هو في علمه وفضله وتبحره وتوسعه في العلم والفقه واللغة والبيان، وهو رحمه الله ورضي عنه وأرضاه عاش في عصرنا هذا، وأدرك هذه القوانين، وعرف خطرها وضررها وشرها، وتكلم فيها وفي أهلها بمقتضى كتاب الله تعالى. كما ذكر في كتابه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، فبين في تفسير سورة الشورى في قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] فذكر أمراً عظيماً جداً متعلقاً بهذا الشأن، وهو أنه رحمه الله ربط موضوع التحاكم إلى شرع الله وإلى ما أنزله بصفاته سبحانه تعالى. فبين أنه لا يستحق أحد أن يتبع شرعه إلا من كانت صفاته هي صفات الألوهية، وهو الله تعالى الذي لا ينازعه ولا يشاركه أحد في هذه الصفات، ومن لم يكن إلهاً متصفاً بصفات الألوهية الحقة فإنه لا يصلح أن يتحاكم إليه ولا إلى قوله، لما فيه من الضعف والجهل والعجز والهوى، وسائر صفات النقص التي لا بد أن تعتري كل مشرع من دون الله، ولعلنا -إن شاء الله- نأتي على بعض ما في القوانين الوضعية من تناقض وتضارب وخلل ظاهر، سواء ما كان منها في الشرق أو الغرب وهذا واضح بين والحمد لله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]. ففيها كلها اختلافات وتناقضات، والعاقل إذا تأملها أيقن وصدَّق أن شرع الله هو وحده الحق، وأنه لا خير ولا سعادة ولا صلاح إلا في اتباع شرع الله الحكيم العليم السميع البصير الخالق الرازق إلى آخر الصفات التي ربطها فضيلة الشيخ رحمه الله بهذا الموضوع.

من يملك حق التشريع

من يملك حق التشريع يقول: 'اعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بيَّن في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له، ويؤخذ منه التشريع، ويؤخذ منه التحليل والتحريم، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن -إن شاء الله- ويقابلها مع صفات البشر المشرِّعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع، سبحان الله وتعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم -ولن يكون- فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية' يبين الشيخ: أننا إن وجدنا أن صفات من له التشريع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تنطبق عليهم -ولن يكون ذلك- فلنتبع تشريعهم، وإلا فلا نتخذهم طواغيت ونتبع ما يشرعون من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: 'وتعالى الله أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه' جعل الثلاثة -العبادة والملك والحكم- كما جاء في القرآن في مواضع كثيرة خاصة به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يجوز أن يشرك به في عبادته ولا في حكمه ولا في ملكه.

الصفة الأولى

الصفة الأولى يقول: 'فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] ثم قال مبيناً صفات من له الحكم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] '. فقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] بيَّن بعده صفات هذا الإله الذي لا يستحق غيره أن يرجع إليه وإذا وقع النزاع أن يتحاكم إليه؛ لأنه لا يوجد فيه هذه الصفات، فهي صفات خاصة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ' {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:11 - 12] '. يقول الشيخ رحمه الله بعدما أورد هذه الآيات: 'فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوَّض إليه الأمور، ويتوكل عليه. وهذه من قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] '.

الصفة الثانية

الصفة الثانية ثم قال: 'وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقها ومخترعها على غير مثال سابق'.

الصفة الثالثة

الصفة الثالثة ثم قال: 'وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً' وهذه من قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً} [الشورى:11]. وهذه من صفات الله التي بها ومن أجلها يستحق وحده أن يتحاكم إليه، فإنه لا يمكن لأحد أن يخلق شيئاً ولو ذباباً ولو اجتمعوا له، ومع ذلك فإن الله جعل في هذا الخلق آية عظيمة وهي أنه جعل من كل شيء زوجين، فجعل الزوجية هي قاعدة عامة في الحياة، سواء منها الحياة الإنسانية أو غيرها، ولذلك من أعظم وأهم التشريعات التي أنزل الله تعالى ومن أولها ما يتعلق بالأسرة، وما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين وبين الأبناء، وهذا هو أهم جانب من جوانب التشريع. ولذلك تجد أن الناس اليوم في العالم الإسلامي رغم أنهم أخذوا القوانين الوضعية في شئون الاقتصاد والمال، وفي الشئون السياسية والتعليمية وفي أمور كثيرة، يظل هذا الجانب معترفاً به إلى حدٍ ما، لأنه إذا فُقد لم يبق للإنسان معنى أنه مسلم أبداً، وهو ما يسمونه هم في القوانين الوضعية: الأحوال الشخصية. فيقول تعالى في ذلك: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] يقول الشيخ رحمه الله: 'وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ' فهو سبحانه المستحق وحده للعبادة، والمستحق وحده لأن يؤخذ منه التشريع.

الصفة الرابعة والخامسة

الصفة الرابعة والخامسة قال: 'وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ' فهل يمكن أن يقال في أي مشرع كائناً من كان: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]؟ جل الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وهاتان الصفتان من أعظم ومن أخص صفات الله تعالى، فهو الذي يحكم ويشرع ويحلل ويحرم؛ لأنه السميع الذي أحاط سمعه بكل المسموعات، والبصير الذي أحاط بصره بكل شيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الصفة السادسة

الصفة السادسة قال: 'وأنه: له مقاليد السماوات والأرض' الحكم والتشريع إنما يكون من الحاكم عادة، أو ينفذه الحاكم، حتى إن اقترح فهو من شأن الحاكم فمن الذي له مقاليد السماوات والأرض؟! الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وهل يمكن لأحد أن ينازع في هذا أو يدعي أنه له مقاليد السماوات والأرض؟ فهذا لا يمكن أبداً، بل الناس في هذا العصر الذي يسمونه عصر العلم وتسخير العلم للطبيعة وللكون -كما يسمونها- هم أكثر معرفة بكثير جداً ممن كان قبلهم بعظمة هذا الكون وسعته، ولا يرون ولا يعلمون منه إلا ما دون السماء الدنيا، بل جزءاً من ذلك، ومع ذلك فلا يمكن لأحد أن يقول: لي مقاليد السماوات والأرض. أو أن يقول: أنا ربكم الأعلى، الكلمة التي قالها فرعون وهو في منتهى غروره، ليخدع بها أولئك السذج البلهاء الذين لا يفقهون ولا يعقلون: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] فهل يستطيع أحد أن يدعي ذلك، أو أن عاقلاً يفكر ويزعم أن أحداً له مقاليد السماوات والأرض فهذا؟ لا يمكن أن يحدث. فالذي يتحاكم إليه هو من له مقاليد السماوات والأرض.

الصفة السابعة

الصفة السابعة يقول: 'وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي: يضيقه على من يشاء' وهنا نلحظ أن كثيراً من المناهج الوضعية والقوانين تتعلق بالنواحي المالية والأرزاق، كالاشتراكيين الذين ادعوا أنهم أصحاب العدالة، وكادوا أن يسيطروا على الدنيا، فهؤلاء إنما بنوا نظريتهم على أساس العدالة في التوزيع كما يزعمون. والآخرون الرأسماليون الذين يحتكرون العالم ويمتصون خيراته وثرواته، ويبنون نظريتهم على أساس حرية التجارة، وحرية الربح، وحرية العمل، وحرية الكسب إلى آخر ذلك، فهؤلاء وهؤلاء يجعلون أساس نظمهم الوضعية وقوانينهم البشرية هو المال أو الرزق، وذلك بيده وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو إذاً الذي يجب أن يتحاكم إليه وحده ولا يشرك به في ذلك. ثم يقول الشيخ بعد قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] يقول الشيخ رحمه الله: 'فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ولا تقبلوا تشريعاً من كافرٍ خسيس حقير جاهل'.

الصفة الثامنة

الصفة الثامنة يقول: 'ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف: 26] ' فلا يمكن لأحدٍ أن يدعي ذلك، لأن النفوس حجبت عنه، ولهذا سمي غيباً: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان:34] فأي نفس كائنة من كانت لا تدري ماذا سيحدث لها ولو كان هذا الأمر بعد ساعة أو بعد حين، كما قال الشاعر: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله لكنني عن علم ما في غدٍ عمي فانظر إلى هذه النقطة العظيمة: أو ليست القوانين قواعد أو أحكام توضع ليسير عليها الناس، فالذي وضعها لا يدري ماذا سيقع؟ وكيف ستكون الأمور؟ فكيف يوكل إليه أن يشرع؟! ولهذا تجد الذين يشرعون ويضعون القوانين من دون الله يضعون من التخبطات والانحرافات والظلم والحيف الشيء الكثير. ثم يأتي بعد ذلك زمن وإذا بذلك القانون لا يفي بالحاجة ولا يكفي للمطلوب، ثم تكلف لجان أخرى أو مشرعين آخرين أو برلمان آخر بحسب الدول المختلفة، ويبدءون من جديد، ويقولون: هذا لم يعد يصلح الآن، ولم يعد يتناسب مع هذا التوسع، ويضعون قانوناً جديداً، ويبدءون في تطبيقه، ثم سرعان ما ينخرم ذلك ويبلى، وتجد بعض القوانين الوضعية في المادة أو المادتين في القانون تأتيها من التعقيبات ومن الاستثناءات حتى تصبح ملفاً ضخماً، وكل ذلك لأنهم بشر لا يعلمون الغيب، والله تعالى يقول: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف:26] فهذا صفات من لا يشرك معه في حكمه، بل هو وحده له الحكم. ويتكلم الشيخ عن هذه الآية: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] فيقول: 'فهل في الكفرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض، وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ '. وقوله تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] أي: وهو رب كل شيء وولي كل شيء، فكيف يكون لغيره أن يشرع وأن يحلل ويحرم، ثم قال في قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26]: 'فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته' والمقصود بالعبادة هنا الصلاة والصيام وما أشبه ذلك. ومعنى ذلك أن من اتبع شرعاً غير شرع الله فهو كمن صلى وسجد وصام وحج لغير الله، فالإشراك به في هذا، كالإشراك به في هذا، يوضحه بجلاء قوله تعالى عن أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] كما صح في تفسيرها، وهو أنهم لم يكونوا يسجدون أو يركعون لهم، ولكنهم اتبعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، ويقول الشيخ أيضاً عند قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26]: 'وفي قراءة ابن عامر من السبعة: {وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] بصيغة النهي، وقال في الإشراك به في عبادته: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فالأمران سواء' والآيتان في سورة واحدة، يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] ثم قال: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] '. فالموضوع واحد، والحكم واحد، والشأن واحد، فلا يشرك بالله لا في تشريعه، ولا في أمره ونهيه، ولا في عبادته والتقرب إليه والتمسك بأمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الصفة التاسعة

الصفة التاسعة يقول الشيخ رحمه الله: 'ومن الآيات الدالة على ذلك -أي: من الآيات الدالة على أنه لا يجوز لأحدٍ أبداً أن يتبع شرعاً غير شرع الله، وأن الله تعالى هو وحده المستحق لأن يؤخذ منه التشريع- قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]. قال: فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد، وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟! ' الذي له البقاء ودوام الحياة لكمال حياته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] فكل هؤلاء هالكون ميتون، فكيف يوكل التشريع إلى أموات وإلى هالكين! قال: 'وأن الخلائق يرجعون إليه' وهذا من قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] فلا رجوع إلا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: 'تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته'.

الصفة العاشرة

الصفة العاشرة ثم قال: 'ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العلي الكبير؟! ' {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]. أي: العلي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علو الذات، وعلو القهر، وعلو العظمة، وعلو القدر والمكانة وكل ما يليق بجلاله، ولا يشاركه أحد في هذه أبداً، وهو الكبير سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فمن يشاركه في ذلك؟! يقول الشيخ: 'سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك'.

الصفة الحادية عشرة

الصفة الحادية عشرة ثم قال رحمه الله: 'ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:70 - 73]. فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة؟! ' وهذا من الحكم العجيبة، فإن هذا الليل وهذا النهار لا يملك أحدٌ كائناً من كان أن يدبره إلا الله تعالى، وكل الخلائق يستفيدون من هذه النعم العظيمة، والله تعالى هو الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وهو الذي سخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، وهو الذي يعبد وحده، ويتبع شرعه وحده، ويطاع أمره وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما عداه فلا يستحق شيئاً من ذلك أبداً.

الصفة الثانية عشرة

الصفة الثانية عشرة ثم قال: 'ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم؟! سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً'. فالحكم بما أنزل الله، واتباع دين الله تعالى هو من عبادة الله تعالى، فمن فرق وقال: نعبد الله بالصلاة والصوم والزكاة ونجعلها لله، وأما الحكم فهو لغير الله من قال ذلك كائناً من كان من الآراء أو المذاهب أو النظريات أو المشرعين، فقد فصل بين هذين وأشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما فعل المشركون من قبل عندما جعلوا لله نصيباً مما ذرأ من الحرث والأنعام وجعلوا لغير الله نصيباً، فهذا هو الشرك بعينه، وهذا هو الذي نهى الله عنه وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] هذا هو الدين القيم، وما عدا ذلك فهو تلبيسات، ودين ممزوج فيه الشرك والنفاق والبدع والضلال وإن ظن صاحبه أنه على شيء.

الصفة الثالثة عشرة

الصفة الثالثة عشرة قال: 'ومنها -أي من الآيات الدالة على صفات من يستحق أن يعبد ويتبع في التشريع وفي التحليل وفي التحريم وهو الله وحده- قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه وتفوض الأمور إليه! ' وهذا لا يوجد في أحد منهم.

الصفة الثالثة عشرة

الصفة الثالثة عشرة قال: 'ومنها قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49 - 50] فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى؟! ' هذا لا يمكن؛ لأن المشرِّع أو القانوني أو المنظر إنما يضع أو يكتب أو يقرر من خلال ثقافته وفكره، وما يرى أنه صواب، فهو متبع لهواه بلا ريب، لأن كل ما خالف شرع الله ودين الله تعالى فهو هوى. فجعل الله تعالى شيئين متقابلين إما ما أنزل الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون، فمهما كانوا في العلم الدنيوي فإنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ومهما ادعوا أنهم بلغوا من المعرفة فهم لا يعلمون؛ لأن هذا حكم الله عليهم، ولذلك نجد أن سائر من اشتغل بهذه العلوم يعلمون أن الإنسان إذا اجتهد وتخصص وبحث في الأمور التجريبية، أو الطبيعية، أو الرياضية، أو ما أشبه ذلك أنه يأتي بشيء نافع ولو في دنياه، ويكون ذلك من العلم الظاهر في الحياة الدنيا، ولكن تجد أن الفرق كبير جداً بين النظريات العلمية كما تسمى في عصرنا الحاضر بالتجريبي والتطبيقي، وبين الدراسات والنظريات التي يسمونها الإنسانية، التي تتعلق بعلم النفس، وعلم الاجتماع، والإدارة والنظم، والقوانين أو ما أشبه ذلك، تجد الفرق بين هذين كبيراً جداً، وتجد أنها أهواء كما ذكر الله تبارك وتعالى. والدراسات النفسية والاجتماعية مأخوذة ومركبة على أهواء كثيرة، وأراء متناقضة مختلفة، فلا يجد الباحث شيئاً يستطيع أن يجزم بأنه حق، قال: 'وأن من تولى أصابه الله ببعض ذنوبه' أي: شرع غير شرع الله ثم تولى عما شرع الله، أصابه الله ببعض ذنوبه: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران:32] أي: عن اتباع ما تحكم به من الحق، وما أنزلنا من الكتاب والشرع: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49]. وكل أمة وكل فرد وكل مجتمع لم يحكم بما أنزل الله فلا بد أن يصيبه الله ببعض ذنوبه، يقول: 'لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة' فالمؤاخذة بجميع الذنوب لا تكون إلا في الآخرة، لكن في الدنيا يؤاخذ ببعض ما كسبوا ويعفوا عن كثير، مع أنه لا يصيبهم إلا بما كسبت أيديهم، لكنه يعفو ويصفح ويتجاوز ويمهل حتى إذا ظن الظالمون أن ذلك منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إهمال أو نسيان، أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون. قال: 'وهل هناك أيضاً من يوصف أنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يؤمنون؟! '. وفي قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] نجد أن الأحكام على نوعين فقط لا ثالث لهما: إما حكم الله الذي أنزله في كتابه أو جاء به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أخذ منه، وهذا كله يشمله حكم الله، أو حكم الجاهلية، سواء كان تشريعات بدائية أو أعراف البادية، أو سلوم القبائل، أو كانت نظم ودراسات متطورة حديثة في أرقى المجتمعات حضارة، فكلها يطلق عليها اسم واحد، وهي أنها حكم الجاهلية، ولا فرق بينها. ولذلك يلبس أحياناً على العقول بأن حكم الجاهلية هو الذي كان في الجاهلية الأولى قبل الإسلام فقط، لكن الذي يأتي من دول الغرب والباحثين والدارسين ومن الفقهاء -فقهائهم- لا يسمى جاهلية!! بل هذه دراسات علمية أو نظريات علمية!!! إلى أن يقول: ' {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] فهل فيهم من يستحق بأن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟! ' ويفصل في الأمور كلها!

الصفة الخامسة عشرة

الصفة الخامسة عشرة قال: 'ومنها قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:114 - 115] الآية. فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً، والذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق، وبأنه تمت كلماته صدقاً وعدلاً، أي: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم؟! سبحان ربنا ما أعظمه وما أجل شأنه! ' وتأمل قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام:114] فهي مثل قوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [الأعراف:140] وقال: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فجعل العبادة والحكم سواء، وهنا جعل اتخاذ غير الله رباً أو اتخاذ غير الله حكماً سواء. إذاً: هو وحده له الحكم، وهو وحده له العبادة، والشرك في هذه كالشرك في تلك.

الصفة السادسة عشرة

الصفة السادسة عشرة قال: 'ومنها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟! لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم' فقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} [يونس:59] وهذا من أقدم أنواع التشريع الذي عرفه الناس، وهو أن العالم بما فطروا عليه من التعبد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما أشركوا به غيره وأرادوا أن يتقربوا إليه، أخذوا ينذرون لغير الله، ويجعلون شيئاً مما أعطوا من الرزق لغير الله، وحرموا بعضاً وأحلوا بعضاً، فاتبعوا في ذلك شركاءهم، وقد سماهم الله شركاء: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] وقال في آية أخرى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. ومن أنواع الإشراك بالله في التحليل والتحريم أنهم جعلوا البحيرة وغيرها من الأنعام محرم أكلها أو ركوبها كما قال الله عنهم: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} [الأنعام:138] وجعلوا تشريعات من عند أنفسهم، وهي تشريعات البدائيين كما يسميها الآن العصريون، فأول ما عرف أنهم جعلوا هذا حلال وهذا حرام، ثم تطورت بهم الأحوال فيما بعد حتى حرموا بعض ما رزقهم الله تعالى، مما أحل من فضله عز وجل. والخلاصة من المقدمة الأولى: أن الحكم بما أنزل الله أصل من أصول الدين وجزء من توحيد الله، ومن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.

شرح رسالة تحكيم القوانين

شرح رسالة تحكيم القوانين شرع الشيخ -سدده الله- في شرح رسالة تحكيم القوانين للإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والتي تعرض فيها لوجوب رد النزاع إلى الله ورسوله، وأقام الأدلة على ذلك، وبيَّن أنه لا أحسن من حكم الله جل وعلا، فهو الشامل الصالح لكل زمان ومكان؛ لأنه صادر عن لطيف خبير سبحانه وتعالى. وبيَّن بعض الحالات التي يكفر فيها الحاكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر مخرجاً من الملة. ونبه على مدى خطر مضاهاة القوانين الوضعية للمحاكم الشرعية ومعاندتها للشرع، ثم نبه على أن الإيمان قول وعمل، وأنها متلازمة لا يغني ركن منها عن ركن، وأخيراً ذكر من القسم الأول -الكفر المخرج من الملة- ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر من عادات الآباء والأجداد، وبين أنه لا زال موجوداً، وأنه من الكفر الأكبر المخرج من الملة.

التحاكم إلى القوانين الوضعية

التحاكم إلى القوانين الوضعية موضوع هذا الدرس هو في الحكم بغير ما أنزل الله، وفي ذلك رسالة قيمة صغيرة الحجم، كبيرة الفائدة، عظيمة النفع؛ للعالم المجتهد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وسوف نشرحها شرحاً موجزاً إن شاء الله تعالى. يقول رحمه الله: 'إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين'. فهذه أول عبارة بدأها الشيخ لعلمه بالاختلاف الواقع في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله. وهل هو مخرج من الملة أو غير مخرج! فبدأ بتأصيل الأصل، وهذا من كمال الفقه والحكمة في الدعوة، وهو أن الداعية إذا أراد أن يتكلم في أمر وفي هذا الأمر تفصيل، ومنه -مثلاً- جائز وواجب، وأصل واستثناء، وبعضه مجمل وبعضه مبين، فالحكمة أن يبدأ بتقرير الأصل العام وبتقرير القاعدة الكلية، ثم بعد ذلك يبين ما يستثنى من ذلك، أو ما لا يدخل ضمن هذه القاعدة. فيقول رحمه الله: ' إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين'. وهذه حقيقة بدهية! لا يجوز أن يماري فيها أي مسلم، وانطلاقاً منها تأتي التفريعات، فكيف يجعل القانون الذي يضعه البشر بأهوائهم وشهواتهم، ويفترون على الله به الكذب، بمنزلة ما نزل به الروح الأمين -جبريل عليه السلام- على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لا يرضى بذلك مؤمنٌ أبداً. يقول: ' في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين؛ مناقضةً ومعاندةً لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] '.

تحاكم إلى الطاغوت

تحاكم إلى الطاغوت يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: ' والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه، وذلك أنه من حق كل أحد -أي: من واجبه- أن يكون حاكماً بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقط لا بخلافه، كما أن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوز حده حكماً أو تحكيماً، فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حدَّه'. وأحياناً يكون طاغوتاً؛ لأنه تجاوز حده وافترى على الله الكذب، وقال: أنا أشرع للناس ما فيه مصلحة لهم، وأضع القوانين لذلك. وأحياناً قد يتجاوز بالشيء حده وهو ليس بمتجاوز بذاته كما لو اجتهد مجتهد من الأئمة المجتهدين في مسائل وأفتى فيها، فجاء أناس من أتباعه فقدموا كلامه على كلام الله ورسوله فردوا كل شيء اختلفوا فيه إلى كلامه، وقدَّموا كلامه على كلام الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هؤلاء قد جعلوه طاغوتاً وتجاوزوا به حده، إذ حدَّه أن يكون عبداً صالحاً لله، أو إماماً مجتهداً إن كان كذلك، حتى الملك المقرب جبريل عليه السلام حدَّه أن يكون ملكاً لله، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدَّه أن يكون عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه إلى آخر ما ذكر الله تعالى عنه، وأخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفسه. لكن أن يعبد من دون الله، أو أن يُدعى جبريل أو محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيرهم، ويستعان بهم، ويصرف لهم شيء من الربوبية أو الألوهية؛ فمن فعل ذلك فقد تجاوز بهم الحد، فإن هذا من الكفر الصريح. وينبغي أن نفرق بين الطاغوت الحقيقي وبين من يُتخذ أو يُجعل طاغوتاً وليس هو بطاغوت، وإنما جعله طاغوتاً من تجاوز حده الشرعي من الناس. ومثاله: عيسى عليه السلام، فقد اتُخذ إلهاً من دون الله، فلا يُسمَّى طاغوتاً وحاشاه، وقد قال فيما ذكره الله عنه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117]، ولكن النصارى غلوا فيه وجاوزوا به حده.

الأدلة على ذلك

الأدلة على ذلك يقول: ' وقد نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإيمان عمن لم يُحكِّموا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما شجر بينهم، نفياً مؤكداً بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] '. أكد سبحانه نفي الإيمان عمن لم يُحكَّموا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما شجر بينهم بأمرين: بتكرار أداة النفي وهي "لا" في قوله: (فلا)، وقوله: (لا يؤمنون)، وبالقسم في قوله: (وربك). يقول: 'ولم يكتف تعالى وتقدَّس منهم بمجرد التحكيم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] والحرج: هو الضيق '. ولهذا يقال: أرض حرجة، أو مكان حرج، أي: كثير الشجر ملتف شجره. يقول: 'بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك'. أي: تتسع صدورهم وتنتفخ وتسر بحكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. 'وسلامتها من القلق والاضطراب'. فلا قلق ولا اضطراب من حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: 'ولم يكتف تعالى -أيضاً- هنا بهذين الأمرين -أي: بالتحكيم وعدم الضيق- حتى يضموا إليهما أمراً ثالثاً هو التسليم: وهو كمال الانقياد لحكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحيث يتخلون هاهنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحُكم الحق أتم تسليم، ولهذا أكد ذلك -أي: التسليم- بالمصدر المؤكَّد وهو قوله جل شأنه (تَسْلِيماً) المُبيِّن أنه لا يُكتفى هاهنا بالتسليم بل لا بد من التسليم المطلق '.

مراتب الدين بالنسبة لتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم

مراتب الدين بالنسبة لتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين حول هذه الآية: ' إن هذه الآية اشتملت على مراتب الدين الثلاث، فالدين مراتب ثلاث كما جاء في حديث جبريل عليه السلام' أي: إن هذه الآية بالنسبة لتحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاتباع هديه جاءت على مراتب الدين الثلاث، فمقام الإسلام هو مقام التحكيم، فمن لم يحكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس بمسلم. فإذا حكَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان في صدره ضيق وحرج ولم يسلم تسليماً فهذا ليس بمؤمن، فبتحكيمه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج بذلك عن أن يكون كافراً، ولكنه لم يدخل في عداد المؤمنين؛ لأنه لم ينتف الحرج والضيق من صدره لحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والله تبارك وتعالى إنما أثنى في القرآن ووعد بالجنة لمن اتصف بمرتبة الإيمان، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} [المؤمنون:1] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، وقال جل شأنه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1 - 3] وغير ذلك من الآيات. فانتفاء الحرج هو المقام الثاني، وهو مقام الإيمان. والمقام الثالث: هو مقام الإحسان؛ فإذا حكَّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن في نفسه حرج، وسلَّم بذلك كمال التسليم فهذا قد بلغ الغاية العظمى، وهي مقام الإحسان. ومن حكَّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن في نفسه حرج من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنه لم يبلغ الغاية العظمى في ذلك وهو أنه لم يُسلم كمال التسليم، فهذا مسلمٌ مؤمنٌ وليس بمحسنٍ؛ لعدم حصول كمال التسليم منه. فهذه الآية اشتملت على هذه المراتب الثلاث، والشاهد هو: أن من لم يُحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بمسلم. ثم يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: 'وتأمل ما في الآية الأولى وهي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] كيف ذكر النكرة وهي قوله: (شيء) في سياق الشرط، وهو قوله جل شأنه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُم) المفيد للعموم، فيما يتصور التنازع فيه جنساً وقدراً '. أي: في أي جنس من أجناس التنازع، وفي أي قدر، وفي أي أمر كان كبيراً أو صغيراً، فيدخل في ذلك كل خلاف ونزاع، سواء في أسماء الله وصفاته، أو في الإيمان، أو في أمور العقيدة، أو الأحكام الفقهية، أوفي الحقوق والدماء والأموال والأعراض وكل شيء. قال: ' ثم تأمّل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء:59] '. وكلمة (شيء) هي أعمّ كلمة في اللغة كما يقول اللغويون، لأنها تطلق على الكبير والصغير، فكلها يمكن أن تُطلق عليه. وهي هنا عامة تماماً؛ لأنها حاءت نكرة في سياق الشرط، ويمكن أن تُطلق على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما في قوله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] فيجوز أن يطلق عليه شيء ولكن أي شيء هو؟ هو جل وتعالى أعظم وأكبر من كل شيء! رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنوداً فالقضية الكبرى المتنازع فيما بين اثنين على ممكلة عظيمة نقول إن هذه القضية شيء، وكذا لو تنازعا على ربع درهم لقلنا إنهما تنازعا على شيء وتحاكما عليه، فكل أجناس وأنواع القضايا تدخل في وجوب التحاكم ورد التنازع فيها إلى الله ورسوله؛ لأنها ضمن كلمة (شيء) في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} [النساء:59] ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] وفيها (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) فحكم هذا الشرط (من شيء)، وتقدمها الجار والمجرور لزيادة تأكيد العموم، وهو التحاكم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورد التنازع إليه عز وجل في كل شيء، بحيث لا يخرج شيء عن ذلك. فشرط الإيمان بالله واليوم الآخر هو رد التنازع في أي شيء إلى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] فدعوى الإيمان زعم، أما في الحقيقة فليسوا بمؤمنين، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النساء:60]. قال رحمه الله: ' ثم قال جل شأنه: (ذَلِكَ خَيْرٌ) فشيء يطلق الله عليه أنه خير لا يتطرق إليه شرٌ أبداً، بل هو خيرٌ محض، عاجلاً وآجلاً، ثم قال: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي: عاقبة في الدنيا والآخرة ' فرُد الأمر إلى الله ورسوله هو أحسن عاقبة في الدنيا والآخرة، وفي الحاضر والمستقبل، وفي كل زمن وعصر ولو كره المنافقون.

الغفلة عن عواقب التحاكم إلى غير الشرع

الغفلة عن عواقب التحاكم إلى غير الشرع قال: 'فيفيد -أي: هذا الكلام- أن الرد إلى غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عند التنازع شر محض وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة '. وهذا واقع تشهد به أحوال الأمم في هذا الزمان وفي غيره؛ أن التحاكم إلى غير شرع الله والتقاضي إلى غير ما أنزل الله شر في الدنيا، وما ينتظرهم عند الله تبارك وتعالى أعظم من ذلك وأشد، قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:33]. يقول: 'عكس ما يقوله المنافقون'. أي: أن هذا الذي قرره الله هو 'عكس ما يقوله المنافقون' فهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والطاغوت هو القانون وزناً ومعنى، فالطاغوت يعني القانون، والقانون يعني الطاغوت. والطاغوت: هو ما تجاوز به العبد حده عموماً من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاعٍ في غير طاعة الله ورسوله. فطاغوت كل قوم هو ما يعبدونه من دون الله أو يتحاكمون إليه ويطيعونه في غير طاعة الله، ومن ذلك هذه القوانين الوضعية فهؤلاء المنافقون يقولون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62]، وهذه دعاوى قديمة وحديثة، ولهذا فلا يظن أن أحداً يتجرأ على الله عز وجل من غير تأويل ولا شبهة ولا دعوى، فحتى الأصنام لما عبدت لم تعبد إلا بتأويل، مع أنها حجارة صماء بكماء كما يراها العقلاء؛ لكنهم قالوا: هذه الحجارة نحتت على صورة "ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر" وهؤلاء رجال صالحون لهم عند الله مكانة فنحن نحب هذه الصور لكي نتذكر عبادتهم، ثم عبدت من دون الله بعد أن دُرس العلم. وهؤلاء المتحاكمون إلى القوانين الوضعية لا يقولون: هذا القرآن ليس بجيد؛ بل يقولون: نحن نحب القرآن والسنة ولا نريد أن نخالفهما؛ لكننا نريد أن نوفق بينها وبين متطلبات القرن العشرين، وبين الإسلام وبين متطلبات الحياة الحديثة، فنتحاكم إلى القوانين ونحن لم نخرج عن الإسلام ونحن نحب القرآن والسنة، فتراهم يعتمرون ويحجون ويطوفون ويسعون، وربما يتصدقون ويصومون ويصلون، لكن يقولون: نحن الآن في القرن العشرين، والعالم قد تحضَّر، والأحوال قد تغيَّرت، والأمور قد تطورت، فلا بد أن نوفق بين الإسلام وبين متطلبات الحياة الجديدة، فنسمح بالأنظمة والقوانين، ونطور موضوع المرأة والحياة الاجتماعية ولا نزال مسلمين!! فهم لا يقولون: اكفروا بالله، ولم يوجد أحد قام وقال: اكفروا أيها الناس! ولذلك فإن مشكلة الشعوب المغفلة، والأمم التي يحيطها مكر الليل والنهار أنها تنتظر من يقول لها: اكفري بالله حتى تتنبه إلى خطورة المؤامرة، وأعداء الله أذكى من أن يقولوا لهم ذلك، لأن هذه أساليبهم ومهارتهم. فكل عصر فيه تلبيس وكيد يناسبه، ومعلمهم الأول إبليس لم يقل لأبينا آدم عليه السلام: اكفر بالله، بل قال كما قال تعالى عنه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، وقال: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]، وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]. فهؤلاء وأمثالهم وإن تسموا وادعوا أنهم مصلحون وقالو: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] فقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كذبهم وباطلهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:12]. ومن العجيب أن كل من يكتب في تنحية شرع الله أمثال جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومدحت باشا في اصطلاح المفكرين الغربيين والمستشرقين وأذنابهم يسمونهم: المصلحين أو زعماء الإصلاح حتى أنهم أطلقوا على حركة كمال أتاتورك: (الحركة الإصلاحية)!! قال: 'وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم، بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صِرْف بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'. أي: أن من يقول: لا بد أن نضع القوانين أو نتحاكم إلى القوانين في شئون العقوبات، أو ما يسمونه بقانون العقوبات أو الجزاء، أو في القانون المدني، أو في القانون التجاري، أو في المعاملات التجارية عموماً، أو في المعاملات المالية، أو في أي جانب من هذه الجوانب، من يقولون ذلك فهم إنما يسيئون الظن بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن معنى كلامهم ولازمه: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إما أنه لم يعلم بأن العصر سيتغير، وأن الأحوال سوف تتطور، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ومن قال أو اعتقد ذلك فقد كفر. وإما أن يقولوا: إنه يعلم لكنه لم ينزل لذلك أحكاماً، فيكون - تعالى الله عن ذلك - قد تركنا هملاً في أمور عظيمة نحتاجها، ويكون هذا الكتاب ليس فيه تفصيل كل شيء، ويكون أمره بأن نحتكم إلى الله ورسوله في كل شيء، وأن نرد كل شيء تنازعنا فيه إلى الله لغواً؛ لأنه يأمرنا بالرجوع إليه في كل شيء مع أنه لم ينزل فيه أحكاماً لكل شيء، وهذا تناقض لا يفعله أي عاقل، فكيف بالله -تعالى الله عن ذلك- فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليمٌ حكيم، وهو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وهو الذي أمرنا أن نجتهد وأن نبحث، وجعل للمجتهد المصيب أجرين وللمخطئ أجر. يقول: 'ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة. إن هذا لازم لهم'. فلا بد أن يلزمهم ذلك، أو أن يذعنوا لحكم لله ويتوبوا ويعودوا إلى شرع الله وإلى ما أنزل الله. قال: 'وتأمل أيضاً ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فإن اسم الموصول - (ما) بمعنى الذي- مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع كما أنه من ناحية القَدْر'. فمن ناحية النوع: كمال أو دم أو عرض أو حقوق أو بين الدول بعضها مع بعض، أو بين دولة وفرد، أو بين جماعة وجماعة، أو بين فرد وفرد، فكل ذلك داخل في "ما" من حيث النوع. ومن ناحية المقدار: في درهم أو درهمين أو أكثر أو أقل لأنها تدل على العموم. يقول: 'فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنافقين'. هذا دليل آخر كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] وهنا يظهر فقه الشيخ -رحمه الله- ودقة استنباطه؛ فإن قوله: (أَلَمْ تَرَ) أسلوب يستلفت الذهن، فكأنه يقول: انظر وتعجب، أيها المخاطب! وإن كان الأصل في الخطاب أنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في هذه الآية وفي كل آية فيها هذا الأسلوب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ثم قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] فهم ما آمنوا في الحقيقة ولكنهم يزعمون، والزعم هو الكذب يقوله ولا حقيقة ولا صحة له. يقول: 'فإن قوله عز وجل: {يَزْعُمُونَ} [النساء:60] تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر'. وانظروا قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا} [النساء:60] فهم لم يتحاكموا إلى الطاغوت، ولم يتبعوه، ولم يتخذوه ديناً، ولم يلزموا الناس به ويردوهم إليه بالقوة؛ بل أرادوا أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ويرون أنه لا بأس به، ومع ذلك نفى الله عنهم الإيمان ووصفهم بما وصفهم به. وبهذا يظهر أن الأمر يتعلق بالإرادة، فإن الإنسان إذا أراد الكفر قد يكفر بذلك إذا استحله، وإن لم يفعل الكفر، ومثل هذا من لا يمتلك الأموال والبنوك بل هو فقير، لكنه يدافع عن أكلة الربا وعن البنوك؛ فإنه يأثم مثلهم وإن استحل ذلك فيكفر وإن لم يأكل.

موقف القانونيين من الأحكام الشرعية

موقف القانونيين من الأحكام الشرعية قال: ' وتأمل قوله عز وجل: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] ' فبعد أن قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] أكَّد ذلك بقوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60]، وهذا من أصرح الأدلة على أن تحكيم غير الشرع كفر وتحكيم القوانين الوضعيه كفر. قال: ' تعرف منه معاندة القانونيين وإراداتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعاً، والذي تُعبدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59] ' قال تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] والعروة الوثقى: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وهي نفي الكفر بالطاغوت وإثبات الإيمان بالله. فإذا تأمل الإنسان ذلك -كما يقول الشيخ رحمه الله- عرف معاندة القانونيين وإرادتهم خلاف مراد الله، فالله تعالى أمر أن يكفر بالطاغوت، وأن يتحاكم إلى ما أنزل الله، وهؤلاء يوجبون على الناس التحاكم إلى ما يشرعون، ويصرفونهم عن التحاكم إلى شرع الله وإلى دينه.

القانونيون وتناقضاتهم

القانونيون وتناقضاتهم يقول الشيخ: 'وأما القانونيون فمتناقضون حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً' سبحان الله! وكأنَّ هذه الآيات ما نزلت إلا علينا في هذا الزمن ' وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:151] ' أي: الذين يفرقون بين الله ورسوله، ويقولون: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [النساء:150]، وقال تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [الحجر:90] أي: الذين قسموا القرآن والدين، وكما قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] أي: أجزاءً يأخذون بعضاً ويتركون بعضاً. فتجد هؤلاء يؤمنون بالله ويوحدونه، ويقرون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين، وأنه نبي للعالمين، وأنه أمرنا بالصلاة والزكاة والصوم وإلخ. كل هذا يقرون ويؤمنون به؛ لكن إذا ما جئنا إلى الكلام عن الربا مثلاً: تراه يضطرب، ويجادل، ويؤول النصوص ويحرفها، فقائل يقول: نريد الاشتراكية؛ لأنها تمنع الاستغلال، وتساوي في الملكية بين الشعب والحكومة! ومع أنه يصلي ويصوم إلا أنه في الجانب الاقتصادي يريد الاشتراكية. وآخر يقول: لا. لا نريد الاشتراكية، نحن نريد الاقتصاد الحر، لأنه ليس فيه قيود بأن هذا حلال وهذا حرام؛ فهو يريد الرأسمالية!! وتجد ثالثاً يقول: الدين كله طيب ونؤمن به؛ لكن موضوع المرأة مشكل فإن المرأة في بعض دول العالم أصبحت رئيسة للبلاد، وفي بعضها وزيرة وأنتم لا تزالون تمنعونها من العمل، وتقولون: تبقى في بيتها، ولا تشهد حتى صلاة الجماعة، والرجال قوامون على النساء!! هذا مع أنه يصلي ويصوم. وتجد رابعاً يقول: في مسألة معاداة الكفار، وعدم موالاتهم مع كثرة النصوص المبينة، لذلك تجده يقول: كان هذا في السابق قبل النظام العالمي الجديد، أما الآن فقد أصبحنا أسرة دولية، ومجتمعاً دولياً واحداً، ولم يعد هناك عداوات، فتقول له: ونصوص القرآن؟ فيقول: القرآن صحيح ولا ينكره؛ لكنه يفرغ الآيات عن مقتضاها ويحرفها؛ ولهذا لم ترَ في إذاعات العالم الإسلامي وصحافته وتلفازه من يقول ويصف دول الكفر بأنها دول كافرة، وإنما قد يقولون: دولاً غير إسلامية. والأمثلة على ذلك تطول، ونظرة سريعة على أحوال كثير من المسلمين اليوم تبين لك بجلاء أن منهم من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، والله المستعان. يقول الشيخ رحمه الله: ' أما القانونيون فمتناقضون '. لإنهم يفرقون بين الله ورسله، ويفرقون بين أحكام الله وبين أحكام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كثيراً جداً، فتجد أن بعض الناس يهتم ويحرص على بعض السنن، مثل: تقديم طعام العَشاء على صلاة العِشاء إذا حضر، لكن لو ذكرت له اللحية -مثلاً- فإنه يأبى أن يلتزم بها، وقس على ذلك، فيأخذ ما يوافق الهوى ويترك منها ما يخالفه، نعوذ بالله من ذلك. وتجد ذلك في بعض المسائل الفقهية المختلف فيها؛ فإذا أراد أن يكشف وجه المرأة، قال لك: قال بعض العلماء: إنه ليس بعورة ولا شيء فيه! أما إذا كان الكلام عن قريبته، فهو لا يريد أن يراها أحد، ويقول: لا يجوز الكشف، وهذا هو ما سماه الله نفاقاً، وهو النفاق بعينه؛ لأنه جعل القرآن والسنة عضين، يأخذ منهما ما يوافق الهوى ويترك ما يخالفه!! يقول رحمه الله: 'ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ' قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: 'ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله؛ كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم'. فهذا هو المثال الأول: وهو أن أهل الجاهلية كانوا يتحاكمون إلى الطواغيت والكهان، فيذهبون إلى الكاهن ليحكم بينهم، أو إلى شيخ القبيلة، أو إلى الأزلام يضربونها. قال -والكلام لا يزال لـ ابن كثير -: 'وكما يُحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم كتاباً مجموعاً من أحكام، قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه'. هذا هو المثال الثاني، وهو يدل على فقه ابن كثير وفهمه للواقع. وهذا الكتاب الذي وضعه جنكيز خان هو " الياسق "، وكما قال الشيخ -رحمه الله-: 'وقد اقتبسه من شرائع شتى وكثير مما فيه مأخوذ من الشريعة الإسلامية'. فكأن جنكيز خان جعل الشريعة الإسلامية مصدراً أصلياً ولم يجعله احتياطياً، فكيف بمن يجعل الشريعة الإسلامية مصدراً احتياطياً وليس هو أول المصادر الاحتياطية، فغالباً ما يكون الثالث أو الرابع؟! يقول: 'فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن فعل ذلك -أي: من تحاكم إلى هذه الأهواء سواء كانت الجاهلية أو أحكام الياسق - فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] أي: يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عَقَل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم من الوالدة بولدها، فإنه تعالى العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء' انتهى كلام ابن كثير. فهذه الصفات كلها لله وحده. أولاً: علم الله تبارك وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو كما قال الشيخ الأمين رحمه الله: أنه لا يستطيع أن يشرع إلا من كان علمه محيطاً بكل شيء وليس ذلك لأحد إلا لله وحده تبارك وتعالى. وثانياً: قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على كل شيء؛ فإن العاجز الضعيف لا يمكن ولا يصلح أن يكون مشرعاً. وثالثاً: عدل الله الكامل، فالله هو العادل في كل شيء، ثم هو أرحم من الوالدة بولدها، وعندما قال الله تعالى في حق عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ظن كثير من الناس أن رحمة الله تعالى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختصة بالمسلمين، والحقيقة أن الله رحم به العالمين، حتى الكفار نالهم من رحمة الله ببعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشيء الكثير، فإن أهل الذمة أمنوا على أنفسهم وعلى أموالهم، والمحاربون الذين يحاربهم المسلمون وجدوا هذه الحرب التي لا نظير لها في التاريخ حرباً إسلامية، فلا مثلة فيها، ولا قتل لصغير ولا لكبير ولا امرأة ولا للرهبان المعتكفين في الصوامع.

اتباعهم لإرادة الشيطان

اتباعهم لإرادة الشيطان قال: 'ثم تأمل قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} [النساء:60] كيف دل على أن ذلك ضلال؟! '. وهذا حال من يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت. فيقول الشيخ: 'وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى'. أي: التحاكم إلى الطاغوت، ويقولون: هذا شيء حسن، وهذا رُقي وتطور، بل ربما يفتخرون بقولهم: في عام كذا وضعنا نظاماً وقانوناً للبنوك الاقتصادية، وفي عام كذا وضع القانون المدني، ويرون أن هذا اهتداءً، وأن الأمة قبله كانت في حالة تخلف وفي ضلال، عكس ما قاله الله تبارك وتعالى تماماً!! كما دلت الآية. يقول الشيخ: 'كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان'. فالتحاكم إلى الطواغيت أو القوانين هذا من إرادة الشيطان، فهو يريد أن يُضلهم فيتحاكمون إليها. يقول الشيخ: 'عكس ما يتصور القانونيون من بُعْدهم من الشيطان، وأنه فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بعث به سيد ولد عدنان، معزولاً من هذا الوصف ومنحىً عن هذا الشأن'. فهم قلبوها، فجعلوا الحكمة والرحمة والمصلحة في مرادات الشيطان، وأمَّا ما أنزله الرحمن، وما أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا فيه-كما يزعمون - التأخر والانحطاط، أو عدم الصلاحية. قال: 'وقد قال تعالى منكراً على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحاً أنه لا حكم أحسن من حكمه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فتأمل هذه الآية الكريمة، وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية '. فالحكم حكمان لا ثالث لهما، وأي حكم في الدنيا لا يخرج عن هذين الحكمين. يقول: ' وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية شاءوا أم أبوا، بل هم أسوأ منهم حالاً وأكذب منهم مقالاً، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد '. والجاهلية المطلقة هي الجاهلية، وإن كانت الجاهلية قد انتهت ببعثة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن هناك جاهلية حديثة لكنها مقيدة ببلد أو بجماعة أو بفرد أو بحكم ما كالجاهلية الغربية بأحكامها، ومن يريد التحاكم إلى الطاغوت من أبناء هذه الأمة. يقول الشيخ: ' ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد ' لأنهم لا يؤمنون بالله ولا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يدّعون ذلك، ولا يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن؛ فلذلك تحاكموا إلى خلاف ما جاء في القرآن والسنة فهم ليسوا متناقضين؛ لكن المتناقض هو من يزعم الإيمان ويدعيه ثم يتحاكم إلى أحكام هؤلاء الجاهليين.

وأن احكم بينهم بما أنزل الله

وأن احكم بينهم بما أنزل الله قال الشيخ رحمه الله: 'وقد قال -عز شأنه- قبل ذلك مخاطباً نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48]، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]، وقال تعالى مخيّراً نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم إن جاءوه لذلك: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] والقسط هو العدل، ولا عدل حقاً إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور والظلم والضلال والكفر والفسوق'. يبين الشيخ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها في هذه الآيات الثلاث، وهي: {فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48]، وفي الأخرى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وفي الثالثة: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42]، وهذه كلها تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يحكم إلا بما أنزل الله، وأن الحكم بما أنزل الله هو القسط والعدل، وأن ما عداه هو الجور والظلم والكفر، أما تخيير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الحكم بين الكفار أو تركه، فبعض العلماء يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّر في أول الآيات ثم أوجب الله تبارك وتعالى عليه أن يحكم بينهم بقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48] فلا تخيير؛ بل يجب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وبعض العلماء يقولون: لا نسخ في الآيات وإنما المقصود بالآية الأولى قوم، والمقصود بالآية الأخرى آخرون، فالذين خُيِّر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم قوم ليسوا داخلين تحت حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليسوا من أتباع الدولة الإسلامية التي رأسها وحاكمها هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الراجح لأن اليهود منهم من كان داخلاً تحت حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم: قبائل أخرى كخيبر لم يدخلوا في حكمه إلا بعد أن جاهدهم. والمقصود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمر في هذه الآيات الثلاث أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وأن هذا الحكم بما أنزل الله هو القسط، ثم يقول الشيخ بعد ذلك: 'ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] '. فهذه الثلاث الآيات في موضوع الحكم، وهي ضمن الآيات التي سوف نتعرض لها -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل، ونبين هل هي أوصاف لموصوف واحد؟ فالذين يحكمون بغير ما أنزل الله تنطبق عليهم هذه الصفات الثلاث بأنهم كافرون وظالمون وفاسقون؟ أو أن الكافرين قوم، والظالمين قوم، والفاسقين قوم؟ ثم من هم هؤلاء: هل هم أهل الكتاب خاصة؟ أو أنهم كل من تشملهم الآية من اليهود ومن المسلمين ومن غيرهم؟ أو أنّ هناك بعض تفصيل؟ أو أن المسألة كفر دون كفر؟! كل هذا سيرد -إن شاء الله تعالى- وإنما المقصود هنا أن الشيخ يريد أن يبين أن الله تعالى أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاث آيات بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، وأن يحكم بينهم بالقسط، وأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق.

مظاهر الحكم بغير ما أنزل الله

مظاهر الحكم بغير ما أنزل الله قال: 'فانظر كيف سجَّل الله تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يُسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاوس وغيره يدل أنَّ الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة'. وهذا التفصيل يدل على فقه الشيخ، وما أظن أحداً سبقه إليه.

تجويز الحكم بغير ما أنزل الله

تجويز الحكم بغير ما أنزل الله الرابع: ' ألا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه، لا عتقاده جواز ما عُلِمَ بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه'. وهذا -أيضاً- نوع كالذي قبله نوع من أنواع الكفر الأكبر الناقل من الملة - نسأل الله السلامة والعافية - وكثير من الناس لا يأبهون ولا يتنبهون لهذا، ولو أن المسلمين عرفوا حقيقة العقيدة والتوحيد، وحقيقة تعظيم كتاب الله وتعظيم شعائر الله، وتعظيم حرمات الله، وكانت فيهم الغيرة على دين الله؛ لكان حالهم اليوم غير هذا الحال وإلى الله المشتكى.

سن القوانين

سن القوانين يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: 'الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندةً للشرع، ومكابرةً لأحكامه، ومشاقةً لله ولرسوله، ومضاهاةً بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً وإرصاداً، وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات. فكما أنَّ للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون المُلفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك'. هذا النوع الخامس هو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه؛ لأن الأنواع الأولى قد تفعل فردياً أو على سبيل الاعتقاد، لكن هذا النوع أعظم وأشد ضرراً وخطراً لأنه عام للأمة، وهو أن يأتي أحد فيفتح المحاكم غير الشرعية ويقيمها في البلاد طولاً وعرضاً، ويجعل لها أنواعاً وتفريعات ومراجع ومستندات إلى آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله، ويلزم الناس بالتحاكم إليها والرجوع إليها عند التنازع وألاَّ يرجعوا إلى سواها. فهذا أكبر وأعظم وأشد، في جحد ما أنزل الله تبارك وتعالى وإنكاره وعدم الإقرار به، وإن قالوا بألسنتهم: إنا نقربه؛ لأن الواقع يخالف ذلك تماماً، وفي ذلك -كما ذكر الشيخ- معاندة للشرع حيث يفرض حكم غير حكم الله تبارك وتعالى على الناس، وفيه مكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يتخذ غير ما أنزل شرعاً، وأن يتخذ سبيل غير سبيل المؤمنين، ومضاهاةً للمحاكم الشرعية، وهذه من علامات أنه كفر أكبر، فإن من دلائل ذلك أن في هذه المحاكم وفي بنائها وفتحها وتفريعها مضاهاة للمحاكم الشرعية.

مساواة حكم غير الله به

مساواة حكم غير الله به يقول: ' النوع الثالث: ألا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله'. وهذا مثلما قال التتار: رجلان عظيمان، محمد وجنكيز خان، ومثلما يقول بعض الناس اليوم: ينبغي للناس أن يتبعوا الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية وكأنها سواء، فنسأل الله السلامة والعافية. فيقول: 'فهذا - أي: من اعتقد أن حكم غير الله مساوياً لحكمه - كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافراً الكفر الناقل عن الملة'. أي: كمن فضَّل القوانين الوضعية على المنزل، أو كمن جحد أحقية الحكم المنزل. يقول الشيخ: 'كافر الكفر الناقل عن الملة لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق'. كما يقول أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] فهم في ضلال مبين؛ لأنهم سوّوهم برب العالمين في التعظيم والمحبة والإجلال واتباع أمرهم وتقدير كلامهم، وهذا هو العدل الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] والعدل: هو التسوية في المحبة والإجلال، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]. ولا يشترط أن يسووا بينهم في الخلق والرزق، والإحياء والإماتة والتدبير، بل كان الجاهليون يعتقدون أن الخلق والرزق والإحياء وتدبير الأمر، وإنزال المطر، ونحو ذلك كله هو من فعل الله وحده لا شريك له قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، والآية الأخرى: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. فلم تكن القضية عندهم في الخلق والرزق، وإنما كانت في الإجلال والتعظيم والتوقير، فمن قال: إن كلام الله وحكم الله تعالى مثل حكم ذلك القانون الوضعي الخبيث أو نظيره، فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ناقلاً له عن الملة، لأنه سوّى بين الخالق والمخلوق. يقول: 'لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11] ونحوها من الآيات الكريمة الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه '. وهذا يُذكرنا بكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما قال: ما صفات من يستحق أن يحكم بين الناس؟ {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [الشورى:10 - 11] مثلاً. فمن هذه صفته فهو الذي يتحاكم إليه، فإذا جاء أحد فقال: حكم الله وحكم غير الله سواء، فمعنى ذلك أنه خلع تلك الصفات التي تفرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها على ذلك المخلوق، الذي لا يمكن أن تكون فيه هذه الصفات، وبهذا تجد التشابه الكبير بين كلام الإمام الشنقيطي والشيخ محمد بن إبراهيم؛ وذلك لأن أهل السنة ينهلون من منهل واحد، ويغترفون من معين واحد، فمهما اختلفت عصورهم أو ألفاظهم أو اجتهاداتهم فإن هنالك تشابه واتفاق فيما يذهبون إليه من الأحكام ومن الآراء.

فهم خاطئ

فهم خاطئ يقول: 'وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قلَّ نصيبهم أو عُدِم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعةً لها، منقادة إليها مهما أمكنهم، فيُحرفون لذلك الكلم عن مواضعه، وحينئذٍ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مُستصْحَبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'. والشيخ رحمه الله يرد على من أثاروا في هذه الأيام مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان -وإن كان لما قالوا نصيب من الحق- إلا أن الدين في نظر هؤلاء يتجدد ويتقلب بحسب هذه الإرادات الشهوانية، والأغراض البهيمية كما يشاءون. ولذلك ينبغي أن يُعلم أن الأحكام الشرعية ثابتة، وأنها مبنية على العلل الثابتة التي لا يُمكن أن تتغير، فالناس هم الذين يتغيرون، ويجب أن نرد تغيرهم إلى الحق الذي تغيروا عنه، فكل الأحكام جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محققة للمصالح ونافية للمفاسد، والخير والشر، والمصالح والمفاسد كلها ثابتة لا تتغير. أما مسألة الضروريات أو ما يباح في وقت الضرورة فهذا شيء آخر، فهناك أمور تدخلها الضرورة، وهناك أمور لا تدخلها الضرورة كما بين ابن القيم رحمه الله. فمثلاً: كون الميتة تُباح أو يُباح شرب الخمر للمضطر {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] وما أشبه ذلك، فهذا يدخل في بعض الأحكام. أما مسألة الإيمان والكفر والموالاة والمعاداة بالقلب فلا اضطرار في ذلك أبداً، وإنما نص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعفا عن أمر واحد فقط في حال الاضطرار وهو: أن يقول الإنسان بلسانه كلمة الكفر، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان} [النحل:106] فالقلب لا ضرورة فيه، ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن يبحث أو يفتش عن قلبك، وأن يعلم ما في داخلك، أما اللسان فيسمعونه، فلهذا إذا اضطر الإنسان في حالة التعذيب الشديد -كما وقع لبعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في أول الإسلام- أن يقول كلمة الكفر بلسانه، ولكنه في قلبه يعتقد الحق ويؤمن به ولا يتزحزح عنه. فتغير الفتوى -حنيئذٍ- حق، ولكن لا تتغير الأحكام، ولا تتغير النصوص، ولا تتغير مقاصد الشارع، والحِكَم التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مناطاً للأحكام، ولذلك إذا تغيَّر الحكم -كما في حالة الضرورة- فإننا نجد أن العلة وأن المناط الشرعي مقصود هناك. فمثلاً: لمَّا حرَّم الله تبارك وتعالى الميتة كان ذلك لحكمة ومصلحة مقصودة من ذلك، فإذا أباحها للمضطر لم يتغير الحكم ولم تتغير المصالح، بل هي موجودة وهي حفظ النفس، إذا وصل الحال بالإنسان إما أن يموت وإما أن يأكل من الميتة، وفي هذا الموضع المصلحة أعظم وأظهر لما فيها من الضرر في دينه وفي دنياه، فهنا نقدم مصلحة على مصلحة. إذاً: فالمصالح باقية، والحِكَمُ باقية، والنصوص باقية، والأحكام باقية، وإنما تتغير بحسب الأحوال، أما إذا خضع الأمر لأهواء الناس أو لآرائهم أو لشهواتهم، أو كما يسمونه هم [لنمو المجتمع] ومسايرةً للمجتمعات الحديثة والمجتمعات الملحدة الكافرة، فإن ذلك خروج عن هذه الحكم والمصالح جميعاً، ولذلك فلا حجة فيه. فهم يقولون نحن ننشر الفساد ونبثه بين الناس؛ فإذا ما انتشر فإنهم سوف يقبلون بالواقع ويفتون بالجواز ولو بعد عشرين سنة، فالمناط في نظر هؤلاء هو رغبة الناس وأهوائهم، بينما نحن نقول: المسألة مرتبطة بأصول وبأحكام شرعية قطعية ثابتة لا تتغير كما ذكر الشيخ رحمه الله. فيقول: 'ليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قل نصيبهم أو عُدِمَ مِنْ معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها، مهما أمكنهم، فيُحرفون لذلك الكلم عن مواضعه'. وما أكثر ما يقع من تحريف الكلم عن مواضعه والاستدلال بالآيات في غير مواضعها. يقول: 'وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مستصحبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'. وذلك كما لو كثر في الناس شرب الخمر، أكثر من ذي قبل، فقيل: إنه ما دام ذلك قد وقع فلنجعل عقوبة السائق إذا خالف أو عمل حادثاً وهو سكران ضعف ما إذا كان غير سكران في العقوبة المعروفة العادية في النظام أو الحق، ليكون زجراً له عن ذلك، فالمصلحة هنا أن ينزجر الناس عما حرم الله. وهكذا فإن كل ما نراه يخل بهذه المصلحة فإنه يجوز لنا أن نجتهد وأن نحدث ما يمنع ويردع الإخلال بهذه المصلحة من أحكام أو من عقوبات ما دام في ضمن التعزيز الشرعي والضوابط الشرعية. قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه- 'يُجدُّ للناس من الأقضية مثل ما يُجدُّون من القضايا'. فكلما استجد الناس قضية نجد لهم أيضاً نحن من الأقضية، فنقضي على تلك، وهكذا فما دامت المصلحة والحكمة مراعاة فإن تغيير الفتوى جائز، بل قد يكون ضرورياً، وفي ذلك حكمة عظيمة من حكم التشريع، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل هذا الكتاب محكماً، وجعل أحكامه محكمة، ومع ذلك فإنها تتلائم فعلاً مع الأحوال، وتتحقق المصلحة في أي حال كانت، وفي أي ظرف كان، وفي أي زمان وفي أي مكان، ولهذا قال بعض العلماء: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، وليس معنى هذا أن يتلاعب بالدين باسم المصلحة، فما نص الشرع على تحريمه فهو مفسدة لا مصلحة فيه بحال، لكن المراد بهذا ما كان من الأمور المتغيرة المتجددة الحادثة واجتهد من له الحق في الاجتهاد أن في ذلك مصلحة فثم شرع الله. يقول الشيخ: 'ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد'. أهل القوانين الوضعية لا ينظرون إلى مسألة المصالح الشرعية والعلل المرعية، وإنما ينظرون إلى أهوائهم وشهواتهم. وبهذا ينتهي الحديث عن النوع الثاني من أنواع الكفر الاعتقادي.

تفضيل حكم غير الله على حكم الله

تفضيل حكم غير الله على حكم الله قال: 'الثاني: ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقاً'. وهذا بخلاف الأول الذي جحد وأنكر ذلك. يقول: "لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن من حكمه وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع'. وهذا النوع يقع في كثيرٍ من الكتابات أو التعبيرات، فيأتي بعض الناس ويتكلم في التربية أو في القانون أو في النظام الاجتماعي - مثلاً - فيذكر كيف كان الحال عند الرومان، ثم عند اليونان، ثم في الإسلام، ويبين أن الإسلام جاء بتوجيهات في ذلك، ويذكر بعض الأحاديث ثم يذكر النظريات الحديثة ويتوسع فيها، ويبين فضلها ومزاياها وهذا يدلك على أن هذا الكاتب يرى أن هذه النظرية أفضل مما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم ينطق وإن لم يتكلم، لكن عرضه وسياقه للموضوع يشعر ويوحي بذلك، نسأل الله السلامة والعافية. يقول الشيخ: 'إما مطلقاً -أي: أن بعض الناس يرى أن حكم غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطلقاً- أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال'. فتقول بعض الدول: أمَّا ما يتعلق بالأحوال الشخصية كالطلاق، والحقوق، والمعاشرة بين الزوجين، والنفقة، والعدة، فهذه تؤخذ من الإسلام، ويتحاكم إليه، أما في النواحي التجارية وأنظمة العمل والعمال والقوانين المدنية وما إلى ذلك، فلا يرى الرجوع في ذلك إلى الإسلام. والبعض يرى أنه لا في هذا ولا في هذا حتى بالنسبة للأحوال المدنية أو الأحوال الشخصية لا يتحاكم إلى الإسلام؛ لأن تغير الإنسان اقتصادياً واجتماعياً يجعله يتغير شخصياً ونفسياً وخلقياً وسلوكياً، فما دام أن ما سبق قد تغيَّر، فإن الدين وحكمه لا يتمشَّى معه، فينكرون بذلك حكم الله في الكل، نسأل الله السلامة والعافية. يقول: 'وهذا -أيضاً- لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد -هذا تعليل من الشيخ رحمه الله في تكفير القائل بهذا القول- ثم قال الشيخ: وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية -كائنة ما كانت- إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، عَلِمَ ذلك من علمه وجهله من جهله'. فحكم الله لا يتغير، والله تبارك وتعالى قد أتمه {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلا} [الأنعام:115]؛ فقد أتم الله تعالى الكتاب صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، وأنزله مفصلاً، وجعله تبياناً لكل شيء، فهو شامل، والحكم الذي فيه حكم معين ومحدد، لا يختلف باختلاف الأزمان، وتغير الأحوال والبيئات أبداً. وما من قضية ولا كائنة ولا واقعة تقع إلا وحكمها في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إما [نصاً] بآية تدل عليها أو حديث، كما جاء في آيات الدين، وآيات الربا، والأحكام المعروفة، كالصيام والزكاة وما أشبه ذلك، وكذلك في السنة كما هو معلوم. [أو ظاهراً]: بأن تدل عليها النصوص دلالة ظاهرة، وتكون الدلالة على غيرها أرجح، لأن النص هو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وأما الظاهر فهو ما احتمل وجهاً آخر؛ ولذلك يختلف العلماء وتتنوع اجتهاداتهم. [أو استنباطاً]: فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل هذا الكتاب العظيم مجالاً لأولي الألباب، لأولي النهي، لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، أي: يتفكرون ويستنبطون ويستخرجون من هذا الذكر الحكيم والقرآن العظيم ما يقيمون به حياتهم، فيتحاكمون إليه، وأكثرهم فقهاً هو من وفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكان أكثر تدبراً واستنباطاً من غيره، فإنه يستنبط ويعلم ما لا يعلمه الآخر ولكل أجره ونصيبه. فالاستنباط وجه من وجوه الاستدلال بالكتاب والسنة -وهذا واضح- فإن كثيراً من الأشياء التي استجدت في هذا العصر، يستدل عليها علماؤنا الأجلاء بالآيات من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العلماء وعلى الناس. ومن حكمته تعالى وفضله أن جعل هذا الكتاب بهذه المنزلة والمكانة، ولو جاءت عصور أخرى، وتغيرت الأحوال، وتجددت بأشكال أخرى؛ فإنه يُقيِّض ويُسخِّر من يستنبط الأحكام ويأخذها من هذا الكتاب، ويتحاكم الناس إليها، ويكونون سائرين على ما أنزل الله بمقتضى هذا الاستنباط الذي أوتيه أرباب الفقه والفكر والتدبر.

جحد أحقية حكم الله

جحد أحقيَّة حكم الله قال: 'أما الأول وهو كفر الاعتقاد'. هذا هو الكفر المخرج من الملة، الذي يكون صاحبه قد ارتد وخرج من دين الإسلام بالكلية ولا يرجع إليه إلا بتجديد الإيمان والتوبة من هذا الكفر. قال: ' فهو أنواع، أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله'. فيقول: لا يجب على الناس أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله، فهذا لا ريب ولا شك في تكفيره؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وجحد أمراً قطعياً في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومتواتراً في سنة وسيرة محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يقول: 'وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم'. أي: إن جَحْدَ أيَّ حكم من الأحكام الثابتة القطعية فلا نزاع بين أهل العلم أنه كفر، فلو أن أحداً جحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة، أو وجوب صوم رمضان، أو وجوب الجهاد، أو أي أمر من هذه الأمور المعلومة، فإنه يكفر ويخرج من الملة. قال الشيخ: 'فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم -أي: أهل العلم- أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطعياً فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة'. وهذا النوع هو الذي لا يكون إلا ممن جاهر بالردة، أو ممن لم يلتزم دين الإسلام كاليهود والنصارى وأشباههم، فهم لا يرون أن التحاكم إلى الكتاب والسنة واجب، أو أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أو يصوم أو يعف عن الزنى أو الخمر، فهذه الأمور خارجة عندهم عن دائرة الوجوب، لأنهم -أصلاً- جاحدون لما أنزل الله، ومن جحد شيئاً من ذلك فهو كمن جحد كل ما أنزل الله؛ حتى وإن زعم أنه مسلم فإنه يكون جاحداً للكل!! وهذا بالنسبة للأحكام موجود فيمن ينتسب إلى الإسلام، ومن ذلك من يقول: إن العصر قد تغير، وإن الزمان قد اختلف، وإن الحكم بما أنزل الله إنما كان واجباً في زمن كانت الإنسانية فيه بدائية، والحياة بدائية، والأحوال أقرب إلى البساطة، أما الآن في عصر الحضارة والتعقيد والتطور فإنه لا يجب، وهذا يقولونه: إما بلسان الحال أو بلسان المقال، وهو كفر مخرج من الملة، فهذا النوع الأول، وقد عده سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز من نواقض الإسلام.

المرجع القانوني

المرجع القانوني قوله: 'إعداداً وإمدادا، ً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً، وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات'. هذا دليل على أن الشيخ رحمه الله لديه خبرة ومعرفة جيدة بواقع المحاكم القانونية، فإنها -كما ذكر- وضعت ورتبت كما لو كانت محاكم شرعية، من حيث المراجع والمصادر والإمداد والسجلات والأنواع، وهذا شيء عجيب جداً! فتجد في أكثر بلاد العالم الإسلامي مثل هذه المحاكم، محاكم ابتدائية -كما يسمونها- ثم محاكم النقض! أو المحاكم الاستئنافية التي تستأنف عندها الأحكام، وتنقض أحكام المحاكم التي دونها، وهناك فوق ذلك المحكمة العليا، أو المحكمة الدستورية، أو المجلس الأعلى للقضاء -وبلا شك القضاء غير الشرعي- وهناك محاكم إدارية، ومحاكم تجارية، ومحاكم مدنية، ومحاكم جزائية، ومحاكم عمالية، ولها مراجع ومصادر ويرجعون إلى أصول القوانين التي استمدت منها القوانين. فتجدهم يقولون: قد رجعنا إلى ما قاله الفقيه فلان -يسمون أصحابهم فقهاء- وما قاله القانوني فلان وفلان، ورجعنا إلى أصل هذه المادة في القانون الفرنسي، فوجدنا فيها كذا، ثم وجدنا كذا، وبناءً عليه حكمنا بكذا، فيرجعون رجوعاً صريحاً واضحاً إلى ذلك. بل إن الأمر تجاوز هذا، فترى الكليات القانونية التي بدأت بفروع وبأقسام صغيرة، ثم في النهاية أصبحت كليات مستقلة للقوانين من بعد المرحلة الثانوية التعليمية إلى الدكتوراه، ولها أساتذة متخصصون، ولها مراجع ولها استمدادات، ثم بعد ذلك يتخرج الطالب من الكلية التي يسمونها كلية الحقوق أو كلية القانون، ويتعين في درجة دنيا من درجات السلم القضائي، ثم يرتفع ويترقى حتى يصبح في المحكمة العليا، أو رئيساً للمحكمة العليا وهو المنصب الأعلى في تلك البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله، نسأل الله العفو والعافية. فهذا فيه -كما ذكر الشيخ- مكابرة ومعاندة ومشاقة ومضاهاة لحكم الله، وللمحاكم الشرعية، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات، ومرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذه المحاكم -أيضاً- مراجع هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني. وقد سبق أن بينا أن أكثر القوانين في العالم العربي والدول الإسلامية تستمد من القانون الفرنسي وأشباهه كالقانون السويسري؛ لأنها قوانين تعتمد وتقوم على التقنين وهو التشريع المكتوب الذي يفصل في مواد قانونية. أما القانون الأمريكي أو الإنجليزي -والأمريكان تبع للإنجليز في هذا- فهو لا يقوم على الكتابة القانونية المفصلة، فالشرع والحكم عندهم يعتمد على نظام السوابق، العرف القضائي، وما تعارفت عليه المحكمة، ولذلك إذا جاءت قضية ينظرون: هل سبق أن حكمت المحكمة ولو قبل ثلاثين سنة أو أربعين أو أكثر في مثل هذه القضية؟ فإن وجدوا لها سابقة حكموا بمثل ما حكم من قبلهم، وإن لم يجدوا لها سابقة فإنهم يجتمعون ويقررون، ثم يصبح هذا الحكم سابقة لمن بعدهم ويبنى عليه ويقاس عليه في المستقبل. يقول: ' ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك '. وأيضاً قد يخلطون مع القوانين الوضعية، الأخذ من مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، فقد ينتسب بعض الناس إلى الشريعة ويأتي ببدع في الأحكام، وهذا -مع الأسف- هو النموذج الذي يراد له الآن أن يظهر وأن ينتشر في العالم الإسلامي، مثل بدعة (الإسلام العصري) وهذه البدعة الخطيرة معناها أن الإسلام يزيد لمصلحة العصر. أو يضفي عليه ثوب العصر، أو يطور ليلائم العصر، أو ما أشبه ذلك من العبارات، وهذه الدعوة الخبيثة لا تنكر النص القرآني، لكنها تفقده قيمته ومعناه بما تحوره ليوافق كما يزعمون "روح العصر". فهم ليسوا دعاةً بالضرورة إلى تحكيم القوانين الوضعية مباشرةً، لكن يقولون: الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمان، فالحدود يمكن أن توقف في بعض الأحيان، وبعض الأحكام لا بد من تعديلها وإعادة النظر فيها، وبعض القضايا لابد من الرجوع فيها إلى أقوال معينة ولا نلتزم بأقوال، حتى قالوا لو وجدنا ما يوافق العصر في أقوال الزيدية أو الهادوية أو الجعفرية الرافضة -لعملنا به، لأننا عندما نلتزم بأن نأخذ برأي الجمهور، أو المجمع عليه، ونترك ما شذ عن هذا الإجماع، فهذا قد يكون فيه تضييع، وربما يكون الإجماع قائماً على شيء لا يوافق العصر ولا يتماشى مع روح الحياة الحديثة، ويكون القول الشاذ أو المرجوح، أو الذي قالت به إحدى الطوائف، أو أحد المجتهدين في عصور التاريخ الطويلة هو الأفضل. مثلما يأخذون عن هذا الرافضي الطوفي -والغريب أنه كان حنبلياً أشعرياً رافضياً- وكم فرح هؤلاء القوم بمقولته: إن المصلحة تقدم على النص الشرعي!! فأخذوا بها وظلوا يؤصلون لها ويروجون لها. فهؤلاء المبتدعون المنتسبون إلى الشريعة يحسن ويحلو للقانونيين أن يأخذوا منهم؛ لأنهم في الحقيقة لا يختلفون كثيراً عن أصحاب القوانين الوضعية، الذين يريدون أن يوفِّقوا بين هذا الدين وبين لوازم أو متطلبات الحياة الحديثة، فيبقى الدين نصوصاً مكتوبة يقرأها الناس ويتبركون بها لا غير وهو في الواقع يؤوَّل ويحرف الكلم عن مواضعه، فمنها ما يُلغى، ومنها ما يلوى عنقه، ومنها ما يغير عن حقيقته، والمقصود واحد من الجميع وهو الذي ذكره الله تعالى عن المنافقين من أنهم يقولون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62].

توحيد العبادة وتوحيد الحاكمية

توحيد العبادة وتوحيد الحاكمية يقول: 'فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب ألاَّ يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم، الحميد، الرؤف الرحيم'. والقرآن صريح في هذا وواضح، ولو أن الناس يتدبرون كلام الله تبارك وتعالى كسورة الأنعام وهي التي ذكر فيها التشريعات، وذكر فيها ضرورة الحكم بما أنزل الله، وهي سورة التوحيد العظمى في القرآن، فيقول فيها: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14]. ولو أن الناس تدبروا لفهموا من هذه الآية أن من الشرك أن يتخذ الإنسان ولياً من دون الله يخافه ويدعوه ويرجوه ويتقيه كما يفعل عباد الأولياء والصالحين إلخ. وقال أيضاً في آخر السورة: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164] الله تعالى رب كل شيء، فكيف يكون الله تبارك وتعالى رب كل شيء {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد:15] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ويأتي هذا الإنسان المخلوق الضعيف فلا يتخذه رباً، وإنما يتخذ غيره من الأرباب إما من الأصنام، وإما من الطواغيت من البشر كفرعون وأمثاله؟! وهذا -أيضاً- نوع معروف أن من فعله فإنه كافر. وقال في نفس السورة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114] وقال في الآية التي بعدها: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:115 - 116] فكما أنَّا لا نتخذ غير الله إلهاً وولياً ولا رباً ولا خالقاً ولا رازقاً، فكيف نتخذ غير الله حكماً، وهو الذي أنزل هذا الكتاب المفصل، وقد تمت كلمته صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام؟! وكيف نطيع البشر في مخالفة أمر الله وإن كثروا! {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنعام:116] قال بعد ذلك: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. فالقضية واحدة كما ذكر الشيخ، فاتخاذ غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكماً، هي مثل اتخاذ غير الله تعالى ولياً وإلهاً ورباً خالقاً رازقاً، لا يختلف هذا عن هذا. إذاً: لماذا يستنكر المسلمون أو يستعظمون ويستبشعون أن يعبد غير الله وأن يصلى ويسجد لغير الله، ولايستبشعون أو يستفظعون أن يتحاكم إلى غير الله، وأن يتخذ غير الله تعالى حكماً، وأن يتخذ كتاب الله ظهرياً، ويؤتى بقوانين البشر المتألهين والمتسلطين، وتحكم في الدماء والأموال والأعراض والرقاب؟! هذا ما يريد الشيخ رحمه الله تعالى أن يوضحه، وقد سبق الإشارة إلى كثرة الأدلة في ذلك والحمد لله. يقول الشيخ: 'دون حكم المخلوق الظلوم الجهول -كما قال تعالى عنه: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]، وهكذا حال الإنسان- الذي أهلكته الشكوك، والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات '. ألا ترى أن المسلم لا يجوز له أن يقلد عالماً من علماء الإسلام أو مفتياً في كل ما يقوله أو يفتي به؟ لأن هذا لا يكون إلا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يؤخذ عنه كل قول يقوله، أما من عداه فيؤخذ من قوله ويرد؛ فإذا كان هذا في حق علماء الأمة وإن كانوا الأئمة الأربعة، أو من هو أفضل منهم ممن تقدمهم من التابعين أو من الصحابة، فكيف في حق أصحاب التشريع والقانون الوضعي الذين لا صلة لهم بالدين ولا بالعبودية؟!! إذا كان قد يخطئ العالم المجتهد فكيف بالكافر الملحد المتصف بالظلم، والجهل، والكفر، والطغيان والشكوك، والشبهات، والشهوات، وكلها مجتمعة فيه! ولذلك تأتي أحكامهم وشرائعهم بالعجب العجاب من هذه التناقضات -نسأل الله العفو والعافية- حتى إن العاقل منهم لو تأمل لما صدق أنهم يحتكمون إلى هذه الشرائع! ولعجب منهم كيف يؤمنون بها! وما ذلك إلا لخفاء وجهل كثير من الناس بحقائق الدين وشرائعه، بسبب سيطرة الإعلام الغربي -ولو من بعيد- من قبل اليهودية والصهيونية والإلحادية والعلمانية والنصرانية، وتوجيه الإعلام توجيهاً خاصاً، فيجهل كثير من الناس حقيقة ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم تجدهم يعجبون ويندهشون عندما يجدون أحكام الله وما فيها من العدالة والسهولة مما لم يكن يخطر لهم على بال. وقد سمعنا برنامجاً في صوت أمريكا عن امرأة مسلمة متخصصة في الدراسات القرآنية والإسلامية في إحدى الجامعات، فتقول: إن المرأة في الإسلام ترث ويحق لها التملك إلى درجة تثير الدهشة عندنا نحن الغربيين! ثم تقول: وإن في المملكة العربية السعودية حيث تطبق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالميراث تملك المرأة ما يعادل (40%) من الممتلكات فتعجبت!! وقالت: إن هذا شيء عجيب جداً، ولا أدري من أين أخذت الرقم؟ ونحن لا نستغرب ولا جديد فيه عندنا أن النساء يملكن الأموال العظيمة، لكن الغرب وبسبب جهلهم بدين الله أصيبوا بهذه الدهشة. يقول الشيخ رحمه الله: ' فيجب على العقلاء أن يربأوا بأنفسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء، والأغراض، والأغلاط، والأخطاء، فضلاً عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون َ} [المائدة:44]. أي: فضلاً عن أن هذا كفر، فالعاقل يربأ بنفسه عن أن يكون عبداً لبشر مخلوق مثله، والله تعالى بعث الرسل في جميع الأزمان يذكرون الناس بهذا، أن كيف تعبدون بشراً أمثالكم؟! وكيف تدعون من دون الله من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا حياةً ولا موتاً؟!

حكم سن القوانين

حكم سن القوانين يقول الشيخ رحمه الله: ' فهذه المحاكم الآن -هذا في زمنه رحمه الله وقد توفي عام (1389هـ)، وألف هذه الرسالة عام (1380هـ)، "في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب "، فهم لا يجدون مكاناً يتحاكمون فيه إلا هذه المحاكم بمختلف أسمائها وأنواعها وأشكالها. يقول: يحكم حكامها بينهم، بما يُخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون وتلزمهم به'. أي: إلزام السلطة التنفيذية -ممثلة بمجلس الوزراء وما يتعلق به- للناس بأحكام هذه المحاكم. يقول رحمه الله: 'وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟! '. أي: وإن زعم أصحابه أنهم مسلمون، وإن صلوا وصاموا وحجوا البيت وهم ما زالوا يتحاكمون إلى هذه القوانين ويلزمون بها الناس، ويحتمونها على الأمة، ويعرضون عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجعلونها وراء ظهورهم. فهل هناك كفر أكبر من هذا كما يقول الشيخ رحمه الله؟ لا كفر أشد من هذا، حتى وإن قال: كلام الله حق وخير، ودينه حق، ورسوله حق، فلا ينفعهم ذلك ولا يكون مؤمناً أبداً. ومثلهم كمثل أحبار أهل الكتاب الذين كانوا يشهدون بصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا يؤمنون به ولا يتبعونه، فما نفعهم ذلك، بل قاتلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبى ذراريهم وأموالهم، وكذلك هؤلاء، فمن أين جاءهم وصف الإسلام وهم بهذا الحال من المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!

الادلة على كفر المشرع والمتحاكم

الادلة على كفر المشرِّع والمتحاكم يقول الشيخ: 'وذِكْرُ أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط معلومة معروفة لا يحتمل ذكرها هذا الموضع!! -الأدلة على أن هذا كفر أكبر مخرج من الملة معلومة معروفة، وقد سبق ذكر بعضها والحمد لله- يقول: " فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله نصاً أو استنباطاً " -وهذا هو الواقع!! كيف يرضى هؤلاء أن يؤلهوا بشراً مثلهم أو أقل منهم ولا خير في أحكامهم- يقول: تدعونهم يحكمون في أنفسكم، ودمائكم، وأبشاركم، وأعراضكم، وفي أهاليكم، من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم، وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد'. وهنا يخاطب الشيخ رحمه الله العلماء والعقلاء، والأمة عامة التي فرضت عليها هذه الأحكام مستنكراً عليهم رضاهم بها، ولو أن الناس أنكروا هذه المحاكم وهذه الأحكام، لكان الحال غير هذا الحال، لكنهم استمرأوا ذلك، وسكتوا وأخلدوا إليه، وأصبحوا يرونه كأنه أمراً عادياً. ولذلك أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حريصون أشد الحرص على الوقوف في وجه كل داعية يدعو الناس في أي بلد من البلاد إلى الاحتكام الكامل والكلي إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن ذلك يخالف تمام المخالفة ما يريدونه من نشر الفاحشة والرذيلة وإبقاء التبعية، وفرض العبودية على هذه الأمة، لتظل تعيش في ركاب الأمم النصرانية الغربية. فالشيخ رحمه الله يستثير النفوس، ويستنفر الهمم؛ لتقف في وجه هذا التيار الخبيث، الذي يريد أن يجعل هذه الأمة تابعاً ذليلاً لتلك الأمم في هذا الكفر والشرك الأكبر والعياذ بالله. يقول: 'وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخٌ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله ولا يعبدون إلا إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب ألا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات'. فبين الشيخ أن معنى أنكم مؤمنون، وأنكم تعبدون الله، وأنكم مسلمون أن ترضخوا لأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تنقادوا لها، وإلا كيف تقولون: لا نعبد إلا إياه ولا نسجد إلا له، ثم تتحاكمون إلى غير شرعه، هذا لا يمكن بل هذا هو الشرك، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك في القرآن، فإن مما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفات أهل الكتاب الذين أوجب الله تبارك وتعالى على المؤمنين جهادهم، وضرب الجزية عليهم، أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فإذا كان من يحكِّم التوراة ويتحاكم إليها كافر؛ لأنه يحكم بشريعة منسوخة مع ما فيها من الأحكام التي لم تحرف، كتحريمهم الربا على اليهود فيما بينهم، وتحريم بيع الغرر، والغش، وعند النصارى كل الفواحش ما ظهر منها وما بطن محرمة، فكيف بمن يتبع أقواماً لا صلة لهم بالدين وإنما هم علمانيون لا دينيون، ملحدون كالمشرعين الغربيين اليوم، يحكموا والشرائع والقوانين الوضعية التي وضعتها حثالة الأفكار؟!! لا شك أن هذا الثاني أشد كفراً وأعظم جرماً.

علاقة الظاهر بالباطن ودلالته عليه

علاقة الظاهر بالباطن ودلالته عليه ولابد من الإشارة إلى أنه من الخطأ أن نسأل أصحاب القوانين الوضعية الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ويأصلون ويفرعون، ونقول لهم: هل تقرون بحكم الله أو لا؟ وهل تفضلون القوانين الوضعية على حكم الله أو لا تفضلون؟ وبناءً على هذا السؤال نحكم عليهم، فهذا ليس بسديد، لأن الله تعالى قد فطر النفوس على أنها تختار الأفضل وتفعله، ولهذا إذا كان هناك طالب في كلية ما، ثم تركها وانتقل إلى كلية أخرى فهل يتصور أنه يفضل الكلية التي تركها؟ لا؛ فإن هذا لا يفعله عاقل، ولهذا فلا نحتاج أن نسأله: هل تفضل الكلية التي انتقلت إليها أولاً؟ بل السؤال الذي ينبغي أن يطرح: لماذا فضلت هذه الكلية على غيرها؟ هذا سؤال العقلاء، وهكذا من خطب امرأة ثم عدل عنها إلى أخرى وعلى ذلك فهؤلاء القوم المحكِّمون للقوانين الوضعية لا يُسألون هل هم مفضلون لهذه القوانين اللعينة على شرع الله وحكمه أم لا؟ فالإقرار اللفظي هنا لا قيمة له. ومثالهم -كما قد بينا- مثال اليهود والنصارى المقرون بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولمَّا ينقادوا له ويتبعوه، فلم ينفعهم ذلك الإقرار، وذلك الاعتراف. وهذه المسألة مرتبطة بما يذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، فلا ينفع قول بدون عمل القلب وعمل الجوارح، فتنبه! ومن الجهل بمكان أن نظل نتلمس المبررات والحجج الواهية، لمثل هؤلاء المشرعين للقوانين الوضعية، وشبيه هذا من يقول: عبادة الله أفضل، وليله ونهاره وهو يذبح للأصنام ويدعوها وينذر لها! فلا يعد هذا مؤمناً ولا كرامة. والقصد أن هؤلاء الذين يقيمون هذه الأحكام في بلاد المسلمين ويتبعون هذه الشرائع ويلزمون المسلمين بها، خارجون عن الملة، ومهما انتسبوا إلى الإسلام فلا حقيقة لهذا الانتساب، وهذه الأنظمة غير شرعية إطلاقاً -الشرعية بالمعنى الإسلامي لا الشرعية الدولية والشرعية القانونية- فنحن لا نعترف بشرع غير شرع الله، فإذا قلنا: هذه الشرعية، فمعنى ذلك أن الله تعالى أذن بها وشرعها وأنزلها، أما غير ذلك فغير شرعي، وهذا الذي يجب أن يعتقده كل مسلم، وأن يعلم أنه من صميم عقيدة أن لا إله إلا الله التي معناها الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] والطاغوت هو الذي قال الله تعالى فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما ذكر أنواع الطواغيت الخمسة، ذكر نوعين من الخمسة، أحدهما: إبليس، وهو خارج عن البشر، والأربعة من الإنس: نوع هو الحاكم بغير ما أنزل الله، والآخر الحاكم الجائر المغير لأحكام الله. أي: أن نصف طواغيت البشر هم في طواغيت الحكم والتشريع كما هم في طاغوت العبادة، وادعاء علم الغيب والكهانة، فهذا شرك وذاك شرك، وهذا طاغوت وذاك طاغوت. فلا ينبغي للدعاة أن يتحدثوا عن جانب من الشرك، ونوع من الطاغوت، ويهملوا الآخر، وإنما الواجب أن يتكلموا في كل طاغوت، وفي كل نوع من أنواع الشرك بمقدار خطره وانتشاره في البيئة، لكن نحن الدعاة في الجملة يجب أن تكون نظرتنا متوازنة ومتساوية لهؤلاء.

التحاكم إلى الأعراف القبلية

التحاكم إلى الأعراف القبلية قال الشيخ: 'السادس: ما يحكم به كثيرٌ من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها: (سلومهم)، يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به، ويحضون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءً على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبةً عن حكم الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا حول ولا قوة إلا بالله'. هذا النوع قديم جديد، فهو قديم منذ أن انحرف الناس عن التوحيد وعن طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واتبعوا أهواءهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم، وهو جديد، إذ ما يزال إلى اليوم في كثير من أنحاء الأرض. والأصل أن القوانين المنحرفة عن دين الله وعن هدى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوانين عرفية غير مكتوبة، تتعامل بها القبيلة مع أفرادها، والقبيلة مع القبيلة، والمجتمعات القبلية مع المجتمعات القبلية الأخرى، وهذه القبائل تجتمع ويكون بينها نظام طاغوتي يتحاكمون إليه، سواء وضعه شيخ القبيلة أو وضعه الساحر أو الكاهن أو أياً كان واضعه؛ لأنه العادة في تلك القبائل، وهذا موجود إلى الآن في قبائل أمريكا الوسطى والجنوبية، وقبائل المناطق الاستوائية من إفريقيا وفي قبائل آسيا الوسطى والمناطق النائية من آسيا، وكذلك في قبائل جزر الهند الشرقية وغيرها- أن لديها زعيماً للعشيرة أو شيخاً، ولديها - غالباً - الساحر أو الكاهن الذي يقوم بوظيفة التطلع إلى السماء بزعمهم كعادة المنجمين، وإخبار القبيلة بما ينبغي أن تفعله وإخبارها بالأمطار أو بعدم الأمطار، والحكم فيما بينها أيضاً عند الخلاف وما أشبه ذلك، ومع الزمن تتولد وتترسب لدى القبيلة قوانين، ترسخ وتثبت حتى تصبح هي التي يتحاكمون إليها ولا يقبلون حكم غيرها. فهذه الأحكام القبلية هي التي نشأت وظهرت منها القوانين المكتوبة، لأنه عندما تتقدم المجتمعات وتترقى أكثر في التمدن والاجتماع والحضارة المادية، فإنها تحول تلك القوانين إلى قوانين مكتوبة، ثم تصبح دستوراً مكتوباً كما ذكرنا ذلك سابقاً.

مثال للأعراف القبلية التي تحكم من دون الله

مثال للأعراف القبلية التي تحكم من دون الله أحببت أن أعرج على وثيقة قديمة في منطقة غامد وزهران الواقعتان في الجزيرة العربية حتى تطلعوا على شيء مما كان يوضع أو يجعل ليتحاكموا إليه، وربما يوجد في مناطق أخرى ما هو أشد منها، وهذا نموذج فقط للوثيقة المكتوبة، فلم تكن مجرد قانون عرفي وإنما كانت قانوناً مكتوباً. وهذه الوثيقة كتبت عام (1260هـ) تسمى (الشدّة) بمعنى: العقد والمعاهدة، وهي تعتبر نموذجاً لفكر يعتبر راقياً، وفيها شيء من الأحكام الشرعية ونوع من حفظ الحقوق بالإضافة إلى مخالفات واضحة كما لا يخفى. أولها يقول: 'الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، لقد تحاضر جماعة من المسلمين ممن يأتي أسماؤهم -ثم ذكرت الأسماء- وإنه عهد موروث حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، ما دام الله يُعبد، والماء يورد، والغراب أسود، والناس تصلي على محمد'. وهذا من قوة التأكيد في العهد بين القبيلتين، إلى أن ذكروا بعض الأحكام، وأولها قولهم: 'يعامل المثل بالمثل في كل شيء' وهذه قاعدة صحيحة ما لم تخالف نصاً شرعياً، أي: بالنسبة للأسواق والمعاملات التجارية يُعامل المثل بالمثل. وتقول: 'والسوق من المتكفلات يكفل الجار جاره والسبيل والمتبع والضيف، يكفل كل من يهبط فيه'. كان النظام عندهم أن السوق يكفل كل من يهبط فيه، فإذا كانت قرية من القرى سوقها يوم السبت، وقرية سوقها الأحد، فالقرية التي سوقها يوم الأحد يكون كل ما يُراق من دماء أو يقع من مشاكل أو سرقة أو أي مشكلة في حدود هذا السوق وما حوله، فهو في ضمان وكفالة القبيلة التي فيها السوق، أي: عليها أن تحمي الجار والضعيف وتأخذ الحق للمظلوم حتى تخرجه من حدودها إلى حدود القبيلة الأخرى فينتهي دورهم 'إذا هبط إلى سوق آخر' وهبط بمعني: تسوق. والشاهد قولهم: 'والمقروعات والمشتبهات فيها قول عارفة'. فكانوا يتحاكمون إذا اشتبهت الأمور إلى قول عارفة، وهو رجل صاحب خبرة، فإذا اشتبهوا في مكيال أو ميزان أو في أمر من الأمور أتوا بهذا الرجل، فإذا حكم بينهم ألزم الناس به، ومضوا عليه. إلى أن يقول في هجرة الجار: 'ذنبه على جنبه'. كان عندهم نظام الجوار، والإنسان إذا قتل أو ارتكب أي مصيبة في بلده يجار عند قبيلة تحميه، فينزل في هذه القبيلة ويعيش حتى يصبح من أهلها وينسى أصله القديم، فإذا فعل شيئاً فذنبه على جنبه. أي: فليس له قبيلة تدافع عنه، ولا أحد يحاكم عنه، لكن لو اعتدي عليه فإن القبيلة تكفله كما لو كان من أبنائها، ثم يقول: ' فالذي يخدم بماله دون رجاله فله (65 ريال) ومآكلها ذبيحة وبيضاء من عراق'. أي: بأن الإنسان الذي يخدم ضيفه أو يعطي أي شيء في مناسبة: ' فينشرون له البيضاء' أي: قماش أبيض يرفعونه في السوق، ويقولون: هذه البيضاء لفلان، علامة على أنه فعل جميلاً وأكرم الضيوف وفعل وفعل، ويتنافس الناس في رفع الراية البيضاء. ثم يقول: 'ومن نقى غير علق ولا دعاية فله البيضاء، وهي رأسان من القماش'. والرأس هو الطاقة الكاملة، ومعنى هذا الكلام: أنه إذا أجرم شخص وعمل مصيبة من غير ما علق، والعلق هو أن يضع الشخص رهناً أو (معدالاً) كما يسمونه، فإذا جاءت جماعة وشكت من فلان واتهمته فإن هذا الرجل يأخذ أغلى ما عنده، وغالباً أغلى ما عندهم هو السلاح، فيضع ذلك السلاح عند القبيلة وقد تأخذ منه القبيلة أكثر من ذلك أو أقل، ثم بعد ذلك إما أن يحاموا عليه وإما أن يخرج من الفضيحة بريء، فإذا أخطأ أتى أمام الناس -ويكون ذلك غالباً في السوق- فيضرب نفسه بالجنبية أو بأي شيء حتى يعاقب نفسه بنفسه، فتقول له الجماعة: يكفي وقد اعترفت وعَرفْت الحق بنفسك، فإذا فعل ذلك نشروا له البيضاء. يقول: 'سبعة رءوس مطابيح' يحدد القماش، حتى لا يكون فيه فرق بين قبيلة وأخرى أو بين سوق وآخر. ' سبعة رءوس مطابيح مردوفة'، من نوع القماش الذي يسمونه المضرم الذي لونه داكن، والذي يفعل منه خرائط الدقيق يذكر اللوازم إذا عزر أحداً وذبح أحد ' وقوانينها سمنها ولبنها وذبائحها تبعها، فالذي يذبح ضيفه لأجل أن يأخذ ماله فلا له وقا ' والوقا هو: الجوار، أي: لا يجاور أحداً، وهذا بخلاف ما لو قتل شخصاً كائناً من كان ثم التجأ إلى واحد من الجماعة فإن له الوقا، والقبيلة تحميه. أما إذا نزل بإنسان ضيفُ فقتل الضيف من أجل أن يأخذ ماله، فهذا ما له من وقا، ولا يجوز لأحد أن يحميه، ولا بد أن تعاقبه القبيلة، وهذا من تقديرهم للضيف، وهي عادة عربية قديمة وإسلامية ما تزال والحمد لله. يقول: ' ولا له في ماله شيء 'وحكمه أن تأخذ القبيلة ماله الذي أخذه من الضيف، والذي له فتتحكم فيه. 'والذي يبيع رفيقه فلا فيه وجه' الوجه نفس الالتجاء، ومعنى ذلك أنه لو كان هناك اثنان في قبيلة ما ثم جاء رجل من قبيلة آخرى وهجم عليهما فمن لم يقاتل مع رفيقه ويدافع عنه فإنه قد باع رفيقه، فما له وجه عندهم ولا أحد يحميه ولا له قيمة، وفي هذا حكم من أحكام الجاهلية التي كانت موجودة عندهم، إذ أن الرفيق قد يكون هو الظالم أحياناً وهو المعتدي، فهم لا يفرقون في ذلك بين الظالم والمظلوم، والمعتدى عليه في عرضه أو ماله، فإذا قامت الحرب عندهم أو دعى الداعي فيجب أن يكون الرفيق مع رفيقه حتى الموت، وكذلك في أمر الشهادة: فإن الواحد منهم لا يشهد على رفيقه أبداً، وأقل أحواله أنه يسكت، فإن شهد عليه -شهادة حق- فماله وجه عند الجماعة أبداً، فهكذا العرف الجاهلي نسأل الله السلامة والعافية. ثم يقول: 'والبير التي على الطريق فعلى راعيها إما دفنها، إلا يهب عليها شهود أقران، وإلا يحمل ضررها' أي: ضرر البئر التي على الطريق. 'والهيماء من الإبل والجمل العادي، والثور النطاح، وليس معه قائد يحمل ضرره، والضمان يلزم لكل شيء'. وهذه قاعدة من قواعد العرب، وباب من أبواب الشرع، فلا شك أن الضمان باباً من أبواب الشرع، لكن قد لا يضمن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ' المعدن جبار، والعجماء جبار'، فهذه لا يضمن فيها شرعاً، فليس على الرجل في الشرع أن يضمن العامل، فلو أنك اتخذت عاملاً يبني لك بناء، فسقط من أعلى البناء، فليس عليك شيء شرعاً، وكذلك لو أنك اتخذت عامداً؛ لاستخراج المعادن، فوقع المنجم على العامل فيه، فمات، فليس عليك شيء. ذوالبئر جبار أيضاً، -هدر في الشرع- بمعنى إذا كان لديك بئر، ووقع إنسان فيها، فليس على صاحبها شيء، ما لم يكن هناك تفريط. وكذلك العجماء جبار، والعجماء هي الدابة وجبار أي: هدر، ما لم يكن منك تفريط، فلو أن إنساناً لديه دواب وجمال أو ثيران أو ما أشبه ذلك، فوقعت معركة أو مشكلة بين هذا الجمل وبين شخص بين الناس، وأكله الجمل، أو نطحه الثور فمات، أو رفسه الحمار أو البغل فمات، فإنه ليس على صحابه شيء شرعاً، ما لم يكن تعمد الاعتداء أو الإضرار، أو كان هناك تفريط معين. إذاً: هذه الأمور في الشرع تعتبر هدراً ليس فيها شيء، فلا يضمن أصحابها، لكن هؤلاء الأعراب كانوا يخالفون، وهذا مثل القوانين الحديثة، فهي تلزم صاحب العمل، وتغرِّمه بذلك. يقول: ' وإن ذُبح المستعمل -أي: الشغال الأجير- فعلى الذي استعمله نصف الدية، وإن كان بعيداً من طرف الجماعة، فعليهم -أي: القبيلة- الدية ' أي: إذا قُتل أو ذُبح شخص في داخل القبيلة، فنصف الدية على صاحب العمل الذي أتى به ليعمل عنده، وصاحب العمل ليس له أي ذنب في ذلك، قالوا: وإن كان بعيداً عن طرف الجماعة، فعلى القبيلة الدية. 'وإن أخذ أو احتاج دية للجماعة فللجماعة ثلثها، فإذا جاء شخص وأخذ دية شخص أجير قُتل في قبيلة ثانية، فالجماعة -جماعة الذي أخذ الدية- لها ثلثها، إن كان من سد الريع'والريع: هو الذي نسميه الآن: الجبهة، وفي الحدود بين الدول المتقاتلة، والقبائل المتحاربة. ' فإن كان من سد الريع'يعني وقع من الجبهة، أي: من المقاتلين الأعداء، هذا الحكم. وما كان داخل قبيلة فله حكم آخر، وإن كانت الدية من الجماعة، فلإقاربه الثلث، والثلثين للجماعة. ثم يقولون: ' والرجل إذا قتل واجتلى'. وهو الذي نسميه الآن لاجئ، أي: ترك دياره ورحل إلى ديار بعيدة، فإن اصطلح على ديته الجماعة أو القبيلة فعليهم الحساب من ثمار بلاده، فيضعوا يدهم على البلاد ويحاسبوا، هذا إذا كانت القبيلة هي التي دفعت الدية لرجل من خارج القبيلة، فيزرعون بلاده، ويجمعون الدية ويعطونها القبيلة، ثم يستردون الدية من ثمار بلاده، باعتباره قد انتقل ولم يعد يعرف ولا يعلم أين هو، أي: لا نستطيع أن نأخذ منه أي شيء. ' وإن خلصوا بقتل' أي: اصطلحوا بقتل ' فثمار البلاد تُحمَّل إلا أن يكون قتل خطأ، فلا لهم حساب ' وهذه من أحكام الجاهلية والعياذ بالله، ومن الجور الذي نهى عنه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأمرنا بالعدل ولو كان ذا قربى وما ذكرناه هو كمثال فقط. وفي هذا شبه بالأحكام الدولية وتعامل الدول بعضها مع البعض، وكذلك هنا تجد الأحكام التي تتعلق بالقبيلة مع القبيلة، والأحكام الجنائية، وأحكام المعاملات وتشمل الأحكام التجارية كما في كلامهم عن السوق وغيره، وتشمل الأحكام العمالية كما في أحكام المستأجر والأجير إذا قتل. فأحكام تلك المجتمعات وتقاليدها وقوانينها وقواعدها بحسب عصرها يمكن أن تعتبر قوانين متكاملة، أو مسودات قوانين جاهزة. فهذه الوثيقة نموذج من الأحكام التي كانوا يتحاكمون إليها وربما كان عند بعض القبائل ما هو أسوأ وما هو أشد من ذلك، ومما عرفناه من كبارهم أنهم يحكمون في السارق أحياناً بأخذ ربع ماله إذا سرق ولا حدَّ عليه، أو يرهن رهينة معينة، وإذا وقع الزنا من إنسان وثبت عليه فإنه أيضاً يفتدي ببلاد أو بمال من المجني عليهم، وهكذا فحتى الحدود فقد كانت لديهم أحكام وكانت لديهم قوانين يرجعون لها.

التحاكم إلى السلوم والأعراف القبلية

التحاكم إلى السلوم والأعراف القبلية فهذه الأحكام والقوانين -كما يقول الشيخ محمد رحمه الله- من جنس الحكم بغير ما أنزل الله المخرج من الملة، لأنه التزام وتحاكم إلى شرع غير شرع الله، وتعاقدهم وتعاهدهم وتعاونهم على تثبيت هذه الأحكام، وإقامتها، ومعاقبة من يخالفها، فهذا النوع يدخل في النوع المكفر، بغض النظر عن الحكم على الأشخاص أو أنهم لا يجدون غير ذلك، فنحن لا نتكلم عن المتحاكمين، وإنما نتكلم عن الحكم في ذاته، أي أن الحكم بغير ما أنزل الله في هذه الصورة -وإن لم يكن على ما سبق من التفصيل- كفر أكبر. يقول الشيخ: ' وعاداتهم التي يسمونها سلومهم، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحضون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءً على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبةً عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله '. فهؤلاء أناس عندهم حكم الله، وفي إمكانهم أن يتحاكموا إليه، ولكنهم يعرضون عنه ويتحاكمون إلى الطاغوت. والدليل على ذلك أنهم كانوا يتحاكمون في الميراث والإرث إلى شرع الله، وفي الدماء إلى غير شرع الله، فلو أرادوا حكم الشرع لعمموه لكنهم لم يلتزموه. ولا شك أن الدولة في ذلك الزمن -الدولة العثمانية أو دولة الأشراف- لم تكن تقيم حكم الله عز وجل فيما بينهم، ولم تضبط الأمن، ثم هم أيضاً يتحاكمون إليها رغبة عن حكم الله، وإلا فقد كان في إمكانهم أن يصطلحوا -على الأقل- على ما يستطيعون أن يتحاكموا إليه من شرع الله، ثم الباقي يكون في ضرورات معينة، لكن المشكلة أن التواطؤ قد حصل، والإهمال حاصل من الدول ومن الأفراد، فلا يحتكمون إلى الشرع إلا في أمور الميراث -مثلاً- أو في الأمور الزوجية كالطلاق والزواج وما إلى ذلك، مع ما يدخل ذلك من بدع كثيرة. نقول: لكن إذا أعرضوا عن حكم الله ورسوله، وأعرضوا عن الاحتكام إلى كتاب الله، وتعمدوا الإبقاء على هذه الأحكام الجاهلية حتى مع إمكانية الاستغناء عنها، فإنهم بذلك يقعون في هذا النوع الخطير الغليظ، وهو كما ذكر الشيخ نوع يخرج من الملة نسأل الله العفو والعافية. وبذلك نعرف خطر التحاكم إلى غير الكتاب والسنة وإلى غير الشريعة، وأنه خطر عظيم سواءً على الدول أو على القبائل أو على الأفراد، فالكل يجب أن يعبد الله وحده وأن يتحاكم إلى حكم الله وحده، ولا يجوز لأحد أن يتحاكم إلى شرع غير شرع الله، كما لا يجوز له أن يعبد أحداً غير الله أو يدعو أحد غير الله، وهذه هي القاعدة العامة. ثم ينتقل الشيخ رحمه الله إلى القسم الآخر، وقد سبق وأن قال: ' ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً؛ بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد، ثم قال: أما الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع ' وذكر منها الستة.

النظام العشائري في العالم الإسلامي

النظام العشائري في العالم الإسلامي ظل النظام العشائري أو القبلي سائداً حتى في العالم الإسلامي، فما يزال هذا النظام في بلاد الشام إلى اليوم، ففيها: نظام العشيرة، وحاكم العشيرة، وشيخ العشيرة، وأعراف العشيرة تتحكم وتسيطر على الناس ويتحاكمون إليها، والحكومات في بعض الدول تقر أحكام العشيرة؛ لأنها تخلصها من مشاكل الناس من جهة، ولأن الناس أصلاً لا يقبلون إلا حكم العشيرة، فمهما حاولت الدولة أن ترغمهم على أحكامها أو قوانينها فإنهم لا يقبلون ذلك. أما في إفريقيا وغيرها من المناطق فمعروف أن الطابع القبلي ما يزال سائداً كما هو سائد أيضاً في المناطق الداخلية من آسيا في شمال باكستان وفي أفغانستان، فالنظام السائد هو نظام القبيلة وعرفها، وما اجتمعت عليه القبيلة. وكلام الشيخ محمد رحمه الله لعله مأخوذ من كلام شَيْخ الإِسْلامِ في القبائل أو في أحكام القبائل التي كانت تعيش في أيامه، والتي سُئِلَ عنها وعن حكمها.

النظام الإقطاعي في أوروبا

النظام الإقطاعي في أوروبا ومن جانب آخر نجد أن أوروبا خاصة عاشت نظاماً أبشع وأسوأ من الأنظمة القبلية الأخرى، وهو النظام المعروف بالنظام الإقطاعي، وهذا النظام فيه من الظلم على الإنسان ما لم يشهده أي نظام آخر في التاريخ، وخاصة عندما كانت أوروبا غارقة في ظلمات القرون الوسطى وقبل أن تظهر فيها حركات التحرر، أو حركات العتق التي يسمونها الليبرالية. هنالك كان القانون والشرع والنظام يضعه المالك الذي يملك الإقطاعية، والإقطاعية قد تكون قرى ومناطق كبيرة، وقد تكون ما يعادل في هذا الزمان إقليماً، أو إمارة، أو محافظة، فكلها يملكها رجل واحد هو الرجل الإقطاعي، وهذا الرجل هو الذي يشرع كما يشاء ويفعل ما يشاء بكل من هو داخل هذه الإقطاعية، فالكل يحرثون ويحصدون ويجمعون، والسيد يتحكم في ذلك؛ لأنه يملك الأرض ومن عليها، فيتحكم في الثروة ويحوزها كلها إليه، ويتحكم في نسائهم وأموالهم ودمائهم، فله التصرف المطلق في كل شيء. ولذلك فـ أوروبا لما عانت من هذا النظام الإقطاعي المرارة والألم عممته، وهذا أحد الأخطاء التي يرتكبها المؤرخون في تاريخ التشريع أو التقنين أو تاريخ التطور الاجتماعي أو تاريخ علم الاجتماع إلخ. فيظنون أن هذا النظام قد عمَّ العالم كله بهذا الشكل، ثم ينظرون إلى العالم الإسلامي اليوم، ويقولون: إنه ما زال يعيش في الإقطاع ويتهمونه بأنه دول إقطاعية. ولا شك أن الإقطاع وجد بشكل من أشكاله في أيام الدولة العثمانية، لكنه لم يوجد بشكل كامل كما في أوروبا وهو ليس من الإسلام أصلاً، ثم إنه غير موجود الآن، والشاهد على أن النظام الإقطاعي شهد أسوأ وأشد أنواع التسلط والظلم؛ أن التشريع كان يستمد من المالك الإقطاعي الذي يملك الأرض ومن عليها، وهو الذي يشرع لهم كل شيء، وهذا من أفحش وأشد أنواع الظلم، حتى أنه كان لا يحق لأي رجل من الإقطاعية أن يتزوج أو أن يدخل بزوجته إلاَّ بعد أن يراها السيد المالك الإقطاعي، فإن أعجبته فإنه يدخل بها قبل زوجها ويفعل بها الفاحشة، وإن لم تعجبه تركها، فوصلوا إلى حالات من الظلم قد لا يكون لها نظير. ومن المؤلم والمؤسف أن نذكر أن نظام الإقطاع سخَّر كثيراً من المسلمين وجعلهم عبيداً في الأراضي، فدرجتهم أدنى من درجة المزارعين والفلاحين، وهؤلاء العبيد هم من الأندلس الذين هجِّروا وطُردوا، وهم من المسلمين الذين أسروا في الحروب الصليبية وفي غيرها، فأرغموا على أن يتركوا دينهم، وأن يعيشوا عبيداً للأرض، يخدمون المزارعين الذين هم ملك للسيد أو للمالك الإقطاعي، وهكذا دائماً تجد معاملة كل من لا يعرف الله عز وجل ولا يوحده ولا يخافه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا هو حاله مقترن به الظلم والجهل والجبروت والتسلط، وخاصةً من اليهود والنصارى وأمثالهم على المسلمين، وهذه -في جانب من جوانبها- هي عقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على المسلمين، على ما فعلوا وارتكبوا وفرطوا في دينهم.

الحالة الثانية من الحكم بغير ما أنزل الله

الحالة الثانية من الحكم بغير ما أنزل الله ثم قال: ' وأما القسم الثاني '. و (أما) هذه هنا معطوفة على أما التي في القسم الأول وهو كفر الاعتقاد الأكبر المخرج من الملة الذي ذكر المصنف تحته ستة أنواع، قال: ' وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يُخرج من الملة. أي: كفر العمل لا كفر الاعتقاد.

تفسير ابن عباس لآية الحكم

تفسير ابن عباس لآية الحكم قال: ' فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: [[كفر دون كفر]] وقوله أيضاً: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]] '. فهو يشير إلى ما تقدم في كلام المصنف رحمه الله: أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ومن الممتنع ومن المحال أن يسمي الله تبارك وتعالى ذنباً ما كفراً ولا يكون صاحبه كافراً؛ لكن عند التفصيل ننظر هل هذا الكفر كفر أكبر ينقل عن الملة أم هو كفر أصغر لا ينقل عن الملة. فالأول هو كفر الاعتقاد، والآخر هو كفر العمل، وهذا هو المقصود، فهو كفر فعلي، فهو يقول: إن ما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من السلف -على ما سنفصل إن شاء الله من أن الآية تشمل الكفر الأكبر فهي كذلك تشتمل على الكفر الأصغر، وإن كانت في الأصل نزلت في الكفر الأكبر.

مثال توضيحي

مثال توضيحي قال: ' وذلك -وهذا تعريفه- أن تَحمِلَه شهوتهُ وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أنَّ حكمَ الله ورسوله هو الحقُ، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى '. فإذا أردنا توضيح المسألة أكثر، فنقول وبالتعبير السائد الآن أو بشكل أكثر بساطة ووضوحاً: إن القاضي سواء كان قاضياً في محكمة أو مجرد قاضٍ يقضي -وكل من قضى في مسألة فهو قاضٍ- إما أن يكون شرعه ودينه وقانونه ونظامه الذي يحكم به هو ما أنزل الله -كما سيأتي في الآثار والنقاش الذي دار بين الخوارج وبين أبي مجلز رحمه الله، وإما أن يكون شرعه وقانونه ودينه شيئاً آخر، كالشرائع المنسوخة في التوراة والإنجيل، أو قوانين موضوعة مثل شرائع التتار أو شريعة نابليون، أو أي قانون من القوانين الوضعية، وهذا هو مفترق الطرق، فهذان قسمان لا صلة بينهما؛ فهذا متبع وملتزم ومنقاد ومستسلم لأمر الله ودينه وشرعه، وهذا يتحاكم ويحكم ويتبع وينقاد ويستسلم لدين غير دين الله، وشرع غير شرع الله فهو شريعته ونظامه، وهو دينه، كما ذكر الله سبحانه في سورة يوسف {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] فمعنى في دين الملك أي: في حكمه وفي شرعه، وكل إنسان شرعه ونظامه هو دينه. فهذا شيء وذلك شيء آخر.

القسم الأول: الملتزم بحكم الله

القسم الأول: الملتزم بحكم الله ونرجع إلى القسم الأول: وهم المنقادون لحكم الله والمؤمنون والملتزمون به، والمستسلمون له، هل هم في كل مرة وفي كل حكم يحكمون بما أنزل الله في الواقع، أو أنهم قد يخالفون أمر الله؟ تقع المخالفة وتقع المعصية والجهل والخطأ والتأويل، فإن هذه هي مثل سائر العبادات، وسائر شعب الإيمان، فليس كل من يلتزم الإيمان والإسلام يكون مقيماً له كاملاً، بل يقع من أهل الإيمان مخالفة لما آمنوا به، فقد يقع الزنا ممن يؤمن بأن الله قد حرَّم الزنا ويكرهه ولا يريده، ويوجد من يعتقد تحريم السرقة أو الرشوة أو الربا ويفعلها، فهذه معاصٍ تقع من المؤمن. لكن يوجد من المؤمنين من هو ملتزم بما أنزل الله كاملاً، أي: يطبقه ويقيمه. وهنا نقول: هذا الفرق بين هؤلاء وبين أولئك، فالقاضي الملتزم بما أنزل الله، والذي هو دينه ومنهجه ونظامه الذي يحكم به ويتحاكم إليه ولا يُقر بغيره ولا يعتقد حكماً آخر غيره، هو حكم الله وشرع الله، وهو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما تفرع عنهما من أنواع الإجماع وأقوال الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم. فإذا جاء القاضي رجل من قرابته، أو من له عليه مال، أو رجل من أصحاب السلطان أو من أصحاب الشهوات، فحكم في القضية كما قاله المصنف: ' تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله '. أي: وهو معتقد في نفسه أن الحكم الحق هو ما أنزل الله، وأن الشرع الحق هو ما شرعه الله واعترف على نفسه بالخطأ، وأن هذا الذي حكم به لم يحمله على فعله إلا الشهوة والهوى وطاعة الشيطان، فهذه الحالة الأولى في هذه القضية. أما لو أنه التزم شرعاً غير شرع الله، حتى ولو كان في محكمة شرعية، لكنه التزم أن كل من أتاه في حد زنا أن يحكم فيه بما تحكم به شريعة نابليون -مثلاً- أن هذا هو من حق الزوج، وننظر إلى المرأة هل هي دون عمر الثامن عشرة سنة؟ وهل هي مغصوبة أو غير مغصوبة؟ متزوجة أم غير متزوجة؟ والأمر يرجع إلى الزوج أو يحكم عليه بكذا (جُنيه) أو يسجن، فإذا كان هذا شرعه وهذا دينه فإن هذا غير ملتزمٍ أصلاً بما أنزل الله، لكن هذا الكلام الذي نقوله هو في هذه الحالة التي قضى فيها القاضي بما أنزل الله، وقد يخالف أمر الله عن عمد وعن هوى.

القسم الثاني: الجاهل والمتأول

القسم الثاني: الجاهل والمتأول وقد يخالفه عن جهل بحكم الله سبحانه، إذ ليس كل من وليَّ القضاء والحكم بين الناس يعلم جميع ما أنزل الله ويعرف الأحكام، وإن كان الواجب ألاَّ يعين إلا من هو في درجة الاجتهاد، وقد يولى شخص فيحكم في هذه المسألة أو في بعض المسائل بما أنزل الله خطأً منه في ذلك فيظن أن هذا الذي فعل حده. القتل أو القطع فيخلط بين الحدين، وقد يقع في الخطأ ويقع منه التأويل، والتأويل له أبواب. فبعض القضاة يتأول الآية على غير وجهها، والحديث على غير وجهه ويخالف حكم الله تعالى فيه. وبعض القضاة يقول: مذهبنا لا يعتبر هذا الحديث دالاً على ذلك لأنه خالف ظاهر القرآن، ومخالفة الحديث ظاهر القرآن يعتبر نسخاً إلى آخره، وهناك أمور تفصيلية لا داعي للاستطراد فيها، كالأصول الفقهية في المذاهب الأربعة وغيرها، فقد يَرد الإنسان حكم الله الذي يدين به أهل الحق لأصل من أصول مذهبه التي يتوهم ويظن أنها حق وهي غير كذلك، فيحكم بها، فهذا متأول له اجتهاد وإن كان غير سائغ وغير مقبول. المهم أن المخالفة لحكم الله تقع إما خطأً، وإما اجتهاداً وتأولاً، وقد يقع هوىً وشهوة، والكلام هنا هو في المخالف اتباعاً للهوى واتباعاً للشهوة، وهو في بلد يحكم بما أنزل الله، وفي محكمة تحكم بما أنزل الله، وهو مستسلم لأمر الله، معتقد أن من حَكَّم شرعاً غير شرع الله، ومن أحل القوانين الوضعية محل شرع الله، فقد كفر. كل هذا موجود لديه، لكنه عدل عن حكم الله في هذه القضية أو في هذه المسألة اتباعاً للهوى وللشهوة أو لأي داعٍ من دواعي معصية الله، كما تعرض للإنسان في كل الأحكام، وكما تعرض له في الزنا وشرب الخمر وكل المعاصي، فهذا هو الذي لا يكون خارجاً عن الملة. ولكن كما قال المصنف رحمه الله: ' وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى '. وكلام المصنف في هذه المسألة سيأتي له إيضاح من أقوال العلماء إن شاء الله. قال: ' وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى' -أي: هذا الحكم الذي حكم به- أكبر من الكبائر، كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس، وغيرها، وهذا الفعل أكبر من بقية الكبائر لأن المعصية التي سميت كفراً، أعظم من المعصية التي لم تسمَّ في لسان الشرع كفراً. 'فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً، أعظم من معصية لم يسمها كفراً'. وهذا تقدم شرحه في أول الكلام، عند ذكر النصوص المبينة لأنواع الكفر. قال: ' نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقياداً ورضاءً، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه '. وبذلك انتهت فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.

فتوى الشيخ ابن باز عن الحاكمية

فتوى الشيخ ابن باز عن الحاكمية وبهذه المناسبة أيضا نجد أن سماحة الشيخ ابن باز حفظه الله، وقد صدرت -والحمد لله- مجلدات من مجموع فتاواه، وسيصدر قريباً إن شاء الله المجلد السابع وهو تحت الطبع. وفي المجلد الرابع من مجموع الفتاوى للشيخ صفحة (416) سئل عن حكم من يحكم بغير ما أنزل الله وهذا نص Q السؤال: هل يعتبر الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفاراً، وإذا قلنا: إنهم مسلمون فماذا نقول عن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]؟ وهذا نشر في مجلة الدعوة العدد (963) في [5/ 2/1405هـ]. A يقول: 'الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكِّم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائزاً، حتى وإن قال: إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله". أي: من أجاز الحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية، ولو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل -وهذا كمن ذكرنا لكم- مثل من يقول: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً يقول: 'ولو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله، أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى أو لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه'. أي عداوة شخصية، أو لكونه من غير بلده أو جنسيته، أو لكونه من قبيلة ضد قبيلته، أو على مذهب غير مذهبه، ونحن مأمورون بالعدل لأننا مسلمون، ومن أهم خصائص وعلامات أهل السنة العدل حتى لو جاءك كتابي -يهودي أو نصراني- من أهل الذمة، ممن يعيش بين المسلمين بعقد ذمة، ومسلم من خيار الناس، ومن أفاضل الناس، وأنت قاضٍ، فالواجب عليك ألاَّ تحكم رأساً لهذا التقي البار المجاهد، العلامة إلى آخره على الكتابي، بل لا بد أن تسمع من الطرفين، وتنظر في الحجتين، وتقضي بما أنزل الله، بعد أن تتأمل هل الحق لليهودي أو لهذا العلامة المجاهد، فالعدل هو ديننا لا نحيف ولا نجور. فالشيخ حفظه الله يقول: " قد يحكم إما اتباعاً للهوى أو لرشوة أو لعداوة بينه بين المحكوم عليه". ولا عداوة أعظم من عداوة الدين، ومع ذلك لا بد أن نعدل في الحكم. قال:" أو لأسباب أخرى، وهو يعلم -يعتقد- أنه عاص لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، ويعتبر قد أتى كفراً أصغر وظلماً أصغر، وفسقاً أصغر". لأن الظلم الأكبر هو الشرك، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] والفسق الأكبر هو الكفر بدليل قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] وهذا فسق أكبر أي: كفر مخرج من الملة، فهذا الذي حكم بغير ما أنزل الله في هذه الواقعة وفي هذه القضية، نظراً لهوى أو لعداوة أو لقرابة أو لعصبية إلخ وهو موقن بشرع الله ومنقاد له ومستعصم به، ويعلم أنه عاصٍ لله، وأنه خالف ما أنزل الله إلخ هذا يكون كَفَرَ كفراً أصغر، وظلم ظلماً أصغر وفسقاً أصغر غير مخرج من الملة. قال: 'كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس وعن طاوس وعن جماعة من السلف الصالح وهو المعروف عند أهل العلم والله ولي التوفيق' وبهذا ينتهي نقل فتوى الشيخين الفاضلين، محمد بن إبراهيم رحمه الله، وابن باز حفظه الله، في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله.

حكم المجتهد المخطئ

حكم المجتهد المخطئ لعل شخصاً استشكل عليه أمرٌ وهو: هل يوجد من اجتهد ليحكم بما أنزل الله لكن لم يوفق لذلك؟ A نعم، نحن ذكرنا أنه ليس كل أحد يصيب في حكم الله، فقد يجتهد فيخطئ وله أجر، ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر} وهذا واضح، وهو من فضل الله على هذه الأمة وعلى أهل العلم والفقه والاستنباط منها. وأيضاً لا يفهم أن القاضي المؤهل-معنى كونه مؤهلاً- أنه لا يخطئ في حكم الله في كل قضاء يقضي به، لا يشترط ذلك، لكنه أهلٌ للقضاء، وفيه الشروط التي جمعها بعض العلماء واعتبروها فيمن يكون في هذا المنصب الشرعي، فهذا اجتهد ولكنه أخطأ وما أكثر ما يخطئ الناس! ولو أنا ذهبنا نتتبع أخطاءهم لم يولَّ أحد، فالمخطئ لا يدخل في كلامنا ولا يدخل الجاهل من غير تقصير، ولكن كلامنا فيمن يعصي وهو يعلم أنه عاصٍ، وأنه مخالف لحكم الله وأنه اتبع هواه وشهوته.

مفهوم الجهاد

مفهوم الجهاد في هذا الدرس تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن مفهوم الجهاد، في إطار مناقشة كلام للشيخ عبد الله عزام -رحمه الله- في كتابه "الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان"، وقد علق الشيخ على عنوان الكتاب، مبيناً أن أهم فروض الأعيان هو التوحيد، وأن الجهاد إنما هو لأجل تحقيقه لا لأجل الأرض، ورد على استدلالات المؤلف مبيناً مذاهب الفقهاء، ثم حث الأمة على الدعوة والتوحيد، حتى يتحقق النصر في الجهاد الأكبر.

تصحيح مفهوم الجهاد

تصحيح مفهوم الجهاد الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: إن هناك قضية ثارت عند الشباب وأثيرت، وما كنت أحب أن أدلي برأيي الخاص فيها، وليس ذلك من باب التواضع، ولكنها الحقيقة؛ لأننا نريد أن يكون علماؤنا -جزاهم الله خيراً- هم الذين يفتون؛ لأنهم أهلٌ لذلك في مثل هذه الأمور. لكن لما رأينا أن العلماء قد حصل بينهم بعض الاختلاف، ورأينا اندفاع الشباب إلى جهة واحدة والأخذ بها فقط، ولم يتفطنوا إلى غيرها من الجهات ولم يتبينوا الأمر كما ينبغي، أحببنا أن ندلي في هذه القضية برأينا، ونحن لا نعتبر أنفسنا إلا أننا إخوة نتذاكر ونتناصح، ونتعاون على ما يرضي الله. فالكلام الذي سأقوله لا تعتبروه فتوى نهائية، بل نعتبر الموضوع موضوع مذاكرة، يقبل المناصحة والمناقشة، وإذا كنا نقول ونقول دائماً: إن العلماء الأجلاء، بل حتى الأئمة الأربعة، إذا وجدنا أحداً منهم يخالف الدليل، فإننا لا نأخذ بقوله، فما بالكم بنا نحن طلبة العلم؟! فمن حق كل إنسان إذا رأى في الكلام الذي أقوله خطأً أو التباساً أن يناقش؛ لنصل جميعاً إلى الحق، فلعل ذلك يكتب أو ينشر أو يقرأ بطريقة أفضل من الآن. نحن نسمع عن الجهاد، ولا يوجد مسلم لا يسمع أخبار هذا الجهاد، وكل مسلم يتمنى أن ينصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المجاهدين في أفغانستان، وفي كل مكان، وهذا أمر لا يشك فيه أي مسلم، ونحن نعلم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق} ونعرف أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ونعلم أن هذا الدين لن تقوم له قائمة إلا بالجهاد في سبيل الله عز وجل. بل إننا ننكر على الذين يظنون أن الجهاد في سبيل الله هو مجرد دعوة فقط، ويستبعدون السيف استبعاداً نهائياً، ويفسرون (في سبيل الله): على أن معناه هو مجرد الخروج أو الدعوة! فإن منهج أهل السنة والجماعة واضح في هذه المسألة، كما هو معروف في أبواب العقيدة، فالمسألة ليست مجالاً للنقاش في أصلها؛ لأنها قضية اعتقاد، فإن يكن هناك مثبطون عن الجهاد، أو لا يريدون الجهاد، أو يصرفون الناس عنه، أو يؤولون آيات الجهاد وأحكام الجهاد، فهذا شيء مرفوض في منهج أهل السنة والجماعة، ولا يقره أي إنسان. لكن هذا الأمر شيء، وقضية الغلو في مفهوم الجهاد شيء آخر، وهي أن يأتي أناس ويقولون: الدعوة إلى الله لا تقوم إلا عن طريق الجهاد فلابد أن نجاهد! أو يأتي أناس ويقولون: إن الجهاد في مكان ما فرض عين على كل مسلم ومسلمة؛ فلا يستأذن الرجل أبويه، ولا تستأذن الزوجة زوجها مهما كان، بل يترك عمله ويذهب ليجاهد في هذا المكان؛ أياً كان ذلك المكان! هذا لا يقر، وهو غير الإقرار بحكم الجهاد وفرضية الجهاد، وأنه لابد منه لهذا الدين ولقيام الدعوة. فقد أصبحنا الآن نناقش ونعايش ونسمع فتوى أنه يجب علي وعليك وعلى كل إنسان في المجتمع أن يترك أهله وعمله ووالديه وكل شيء، ويذهب إلى مكان ما ليجاهد، لا نقول: أفغانستان وحدها؛ لأنه قد يأتي قائل ويقول: أريد مكاناً آخر، فهل هذا هو الحكم الشرعي الصحيح الذي يتوافق مع قواعد النصوص التي نص عليها أهل السنة والجماعة؟ أم أن هذا كلام فيه نظر، ويحتاج إلى دقة، ويحتاج إلى أن يبحث ويتأمل؟

وقفات مع كتاب عبد الله عزام

وقفات مع كتاب عبد الله عزام والذي دفعنا لهذا الكلام هو صدور كتاب عنوانه: (الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان). وهذا العنوان أثار عجبي، فنحن منذ زمن طويل نقرأ أن أهم وأوجب فرض فرضه الله سبحانه على عباده هو توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، فكيف نقول: إن الدفاع عن الأراضي هو أهم فروض الأعيان؟! هذا شيء عجيب يستوقف الإنسان المنصف المخلص ليرجع إلى أصل القضية. وأنا أقول: فَرقٌ بين من يقول: "إن الجهاد واجب" -وقد أفتى بذلك الشيخ عبد العزيز بن باز جزاه الله خيراً- أي: على المسلمين عموماً بما يستطيعون، وبين من يقول: الجهاد أو الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان. في أي كتاب هذا القول وبأية سنة؟! لابد أن نعرف الغلو الواقع في هذا العنوان وفي هذا الكتاب؛ مع أننا لا ننكر أصل القضية، ولكن نحن نعلم من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن أهم فروض الأعيان هو عبادة الله وحده، والإخلاص لله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أجل ذلك نجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، فليست القضية قضية أرض ولا تراب.

معارضة عنوان الكتاب للأحاديث الصحيحة

معارضة عنوان الكتاب للأحاديث الصحيحة والأدلة من نفس هذا الكتاب، فمثلاً: الحديث الذي ذكره في بداية الكتاب يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له}. وهذا الحديث جاء به الشيخ في أول الكتاب! فلماذا بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيف؟ أحتى يدافع عن أراضي الإسلام؟ أم حتى يعبد الله وحده لا شريك له؟ إن أهم فروض الأعيان -وهو الفرض الذي من أجله فرض الجهاد- أن يعبد الله وحده لا شريك له. وكون ذلك لا يتحقق إلا بالجهاد مسألة أخرى؛ مع أنه قد يتحقق بغير الجهاد أحياناً، فلذلك لابد أن نعد أنفسنا ونعد أمتنا لتحقيق الفرض العيني الواجب على كل مسلم وعلى كل مكلف، وهو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. لما بعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل إلى اليمن أمره بقوله: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} ولا يعني هذا أنهم لا يجاهدون الكفار، بل يجاهدون؛ لكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يبدأ بأهم فروض الأعيان وهو توحيد الله. ثم قال له: {فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات}. ثم بعد ذلك الزكاة، وبعد ذلك تأتي الأحكام الأخرى فلا يجوز أن نخرج عما أنزل الله، وعما شرع الله.

معارضة عنوان الكتاب للآيات القرآنية

معارضة عنوان الكتاب للآيات القرآنية ونذكر نفس الآيات التي ذكرها الشيخ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40]. فقد أذن الله للمؤمنين بالجهاد؛ حتى لا تهدم المساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيراً، وهذا يدل على أن أهم شيء يجب أن نحافظ عليه هو الدين، هو أن تبقى المساجد يذكر فيها اسم الله عز وجل، وأن تبقى أماكن العبادة لله وحده. فهذا الذي من أجله ندعو ومن أجله نجاهد، وبناءً على ذلك نعمل بفرض العين الأساسي الذي يجب على كل مسلم أن يعمل من أجله، فإذا اعتدي على بقعة من بقاع المسلمين وجاهدنا المعتدي، فليس من أجل الدفاع عن الأرض، بل من أجل المساجد، ومن أجل ألا يعبد إلا الله وحده، إذا استبانت هذه القضية فحينئذٍ نسأل: ما حكم هذه البقعة؟ هل نذهب جميعاً؟ هل يذهب بعضنا؟ هل نساعد؟ فتلك أحكام أخرى. والشيخ -غفر الله لنا وله- يقول: أفتى الشيخ -يعني الشيخ عبد العزيز بن باز - بأن هذه الرسالة طيبة، ووافق عليها، ولكنه اقترح علي أن أختصرها؛ حتى يكتب لي مقدمة، وبعد ذلك يقول: كان الوقت ضيقاً أيام الحج، ولم يتسع المجال لعرضها عليه مرة أخرى، ولذلك لا نستطيع أن نقول: إن الشيخ ابن باز أقر هذه الرسالة. ثم يقول: أفتى الشيخ ابن باز في مسجد ابن لادن في جدة وفي الجامع الكبير بـ الرياض أن الجهاد اليوم فرض عين وهذا الكلام مجمل، أي: فتوى الشيخ ابن باز بأن الجهاد فرض عين. فأنا أقول: إن الجهاد فرض عين؛ لكن إذا كان الجهاد فرض عين، فهل يعني ذلك أن نلزم كل إنسان بالذهاب إلى الجهاد؟ أم نأخذ أهم فروض الأعيان؟ وفروض الأعيان هل هي فرض واحد أم فروض؟ الشيخ عبد الله قال: "أهم فروض الأعيان" فلنفترض أنها خمسة مثلاً أو سبعة، فهي عدة فروض، فما هو أهمها؟ نبدأ بذكرها واحداً واحداً، فإذا ذكرنا أحدها، نظرنا: هل هو أهمها؟ فقد يكون فرض عين؛ لكن ترتيبه العاشر أو الثامن أو الرابع أو الثاني، فكون الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله قال: "إن هذا فرض عين" لا يعني أنه أهم فروض الأعيان، وأن به نبدأ الآن، وننطلق وننسى ما عداه من الفروض! وهذا الشيء ينبغي أن يعلم.

متى يصير الجهاد فرض عين

متى يصير الجهاد فرض عين يقول: 'اتفق السلف والخلف وجميع الفقهاء والمحدثين في جميع العصور الإسلامية، أنه إذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين؛ أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، بحيث يخرج الولد دون إذن والده، والمرأة دون إذن زوجها'. هذا الكلام غير صحيح، وإذا أردتم أن ننقضه، وأن نبين أن هذا غير صحيح فمن نفس الكتاب، وليس من أي كتاب آخر، فهذا الكلام من صفحة (6)، فلننظر إلى صفحة (11)، فقد أتى فيها بكلام الشيخ عبد الله علوان، وكرره ص22 من نفس الكتاب. يقول: 'قال ابن عابدين من فقهاء الحنفية: وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فيصير فرض عين على من قرب منهم -تأملوا ما قال! فقد قال: على من قرب منهم، ولم يقل: على كل مسلم ومسلمة، فهو كلام مختلف، ثم قال:- فأما من كان وراءهم على بعدٍ من العدو فهو فرض كفاية إذا لم يحتج إليهم، فإن احتيج إليهم بأن عجز من كان بقرب العدو عن المقاومة، أو لم يعجزوا عنهم، لكن تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم '. فالقول بأن الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة بإطلاق خطأ؛ لأن الفقهاء ما اتفقوا على هذا، وإنما قالوا: على أهل البلد القريب، ثم على من يليهم، ثم على من يليهم وهكذا. ثم إن الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله يقول: 'بسم الله الرحمن الرحيم لقد سمعت ما كتبه أخونا عبد الله عزام بحكم الدفاع عن أراض المسلمين التي احتلها أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأعداؤهم من أجناس الكفار، والبالغ 120 صفحة، وهو كتاب جيد، أرى أن يعرض على رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية لتقرير ما تراه في ذلك ونشره، ليعم الانتفاع بمضمونه، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله'. وهذا الكلام حق فهو يقول: أنا أرى أن هذه الرسالة جيدة، وتعرض على الرئاسة، وهذا كلام نحن نقوله، فليس في هذا تزكية، والشيخ عبد الله عزام ذكره هنا على أساس أنه تزكية، وأن الكلام حق ومجمع عليه بين العلماء. فلنرجع إلى الأدلة التي ذكرها الشيخ -غفر الله لنا وله- يقول مثلاً: 'من أهم الفرائض الغائبة والواجبات المنسية فريضة الجهاد التي غابت عن واقع المسلمين، فأصبحوا كغثاء السيل' وهذا كلام صحيح، فمن أهم الفرائض التي تركها المسلمون الجهاد، هنا (من أهم) وهناك (أهم)، وهذه هي المشكلة يا شيخ! هناك فرق بين (أهم) و (ومن أهم)، ولا ينبغي أن نقع في التناقض، والمسألة دماء، والمسألة أنفس، فالإنسان إذا أفتى في أمر بدرهم أو دينار لا يجوز أن يتسرع فيه، فكيف إذا كانت الفتوى تتعلق بالدماء والأنفس؟ العنوان (أهم) وبالداخل (من أهم)، فلو استبدلت (أهم) بـ (من أهم) فنحن معك وعندها يكون هناك ما هو أهم منه نقدمه عليه. هذا الكلام في (ص:19) وأعاده في (ص:20) يقول: "أنواع الجهاد: جهاد الدفع -أي دفع الكفار عن بلادنا- وهذا يكون فرض عين، بل أهم فروض الأعيان'.

رأي ابن تيمية

رأي ابن تيمية ويستشهد على أنه أهم فروض الأعيان بكلام شَيْخ الإِسْلامِ، يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية كما نقله المؤلف؛ لأن كلام شَيْخ الإِسْلامِ له قبله كلام وبعده كلام، لكن فقط نقرأ ما كتب هو يقول: 'وأما قتال الدفع، وهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً -وهناك فرق بين واجب وبين فرض عين- والعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه' فهو يقرر أن أهم فروض الأعيان هو الإيمان والتوحيد، بعد ذلك يأتي الدفع؛ فكيف يستشهد بكلام شَيْخ الإِسْلامِ على أنه أهم فروض الأعيان؟!

مذاهب الفقهاء الأربعة

مذاهب الفقهاء الأربعة نرجع إلى كلام الفقهاء: أولاً: مذهب الحنفية: وقد قرأنا لكم نصهم فهم يرون التدرج، يكون فرض العين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار، وفرض كفاية على من يليهم، ثم يتدرج وتتسع الدائرة حتى تشمل جميع بلاد المسلمين. ثانياً: مذهب المالكية: وقد ذكر عنهم ما في حاشية الدسوقي فقط، وهذا لا يعبر عن كلام المالكية، بل حتى الحنفية لا نسلِّم أن ما قاله ابن عابدين يكفي، لكن لنفترض ذلك، والشيخ أخذ في المذهب أشد ما يجد فيه، يقول المالكية: "توجه الدفع على كل أحد، وإن كان امرأةً أو عبداً أو صبياً، ويخرجون ولو منعهم الوالي والزوج ورب البيت"، وهذا الكلام: "توجه الدفع على كل أحد" نص معلق؛ لأننا لا نعرف ما هو الشرط، فلا نستطيع أن نقول: إن فيه حجة، حتى نعرف متى يتوجه الدفع؛ لأنه لم يذكر هل ذلك إذا دخلوا بلاد المسلمين؟ هل إذا دخلوا البلدة نفسها؟ هل إذا دخلوا بلاداً بعيدة بأطراف الثغور؟ لا ندري، فهذا لا دليل فيه. ثالثاً: مذهب الشافعية: يقول: "جاء في نهاية المحتاج للـ الرملي: فإن دخلوا بلدة لنا، وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر، فيلزم أهلها الدفع حتى من لا جهاد عليهم من فقير، وولد، وعبد، ومَدين وامرأة". الشافعية اشترطوا -ليكون الجهاد فرض عين- أن يكون بيننا وبين العدو أقل من مسافة القصر، أي: 80 كيلو، وبعض العلماء يقول: 48ميلاً فنفهم من كلام الشافعية أن العدو إذا لم يكن بينك وبينه مسافة القصر، فلا يجب عليك وجوباً عينياً حينها أن تجاهد، فهل في هذا الكلام الذي يقول: (وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر) دليل لمن يقول: إنه فرض عين على جميع المسلمين في أطراف الدنيا كما في العنوان؟! فعلى مذهب الشافعية؛ لا يجب الجهاد حتى على المسلمين الذين في باكستان قريباً من الحدود بقدر 80 كيلو متر، إِذَنْ هذا لا دليل فيه! رابعاً: عند الحنابلة: يقول ابن قدامة: ' ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع: إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان. ثانياً: إذا نزل الكافر ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم ' وأيضاً لا شاهد في هذا. ' الثالث: إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير '. هذه القضية الثالثة: إذا استنفر إمام المسلمين قوماً لزمهم النفير، وإذا لم يستنفرهم الإمام لم يلزمهم، فنرجع إلى قضية أخرى وهي قضية الإمام العام للمسلمين، وقد جاء كلام الفقهاء على هذه الصيغة؛ لأنهم يتصورون أن الأمة الإسلامية لها إمام واحد -هذا هو الأصل- ويحكمها جميعاً خليفة واحد، كما كان في عهد الراشدين ومن بعدهم، وهذا الإمام إذا استنفر قوماً وجب عليهم؛ لأنه ينظر إلى المصلحة نظرة متكاملة، فهو أعرف بالحدود. فيقول: "الحدود الشرقية ليس فيها مشكلة، لكن عندنا في الغرب عدو، تعالوا يا أهل الشرق واذهبوا إلى الغرب"؛ لأنه بلد واحد، وحالتنا نحن المسلمين في هذا العصر مختلفة تماماً، الواقع الآن أن المسلمين مقسمون إلى دول، وكل دولة لها حدود مع الأخرى، فلا ينطبق عليها أن واحداً يحكم بلداً بعيداً يستنفر بقية البلاد، فكيف وهو لا يوجد إمام حتى في البلاد التي تريد أن نُستنفر إليها، وإنما جبهات مختلفة؟! نسأل الله أن يجمع كلمتهم على الحق إنه سميع مجيب. فكلام ابن قدامة ليس فيه دليل. نأتي الآن إلى كلام ابن تيمية: ويقول ابن تيمية: ' إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا '، وليس في هذا دليل لكلام الشيخ عبد الله، فهل هذا ينطبق مع كلام الشيخ عبد الله حيث يقول: اتفق السلف والخلف وجميع الفقهاء والمحدثين في جميع العصور الإسلامية، أنه إذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين، أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، بحيث يخرج الولد دون إذن والده، والمرأة دون إذن زوجها أين هذا من هذا؟ فليس هناك دليل، وكما نلاحظ الحنفية دليلهم صريح، وكلام المالكية معلق، وكلام الشافعية والحنابلة ليس فيه دليل، وهكذا انتهت المذاهب الأربعة التي يظن الشيخ أنها أجمعت على أن ما يقوله صحيح.

مناقشة نصوص النفير

مناقشة نصوص النفير بعد ذلك يأتي بآيات النفير العام يقول: ' ويقول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] والفتنة هي: الشرك، كما قال ابن عباس والسدي، وعند نزول الكفار واستيلائهم على الديار، فالأمة مهددة في دينها ومعرضة للشك في عقيدتها؛ فيجب القتال لحماية الدين والنفس والعرض والمال ' وهذا كلام حسن. المناقشة: إذاً: الجهاد من أجل الدين، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، والفتنة هي: الشرك، فيجب أن نقاتل المشركين حتى لا يكون شرك؛ لأنه لو لم نقاتلهم لاحتلوا بلادنا، ولتمكنوا فنشروا الشرك. إذاً: الذي نحاربه نحن هو الشرك، وليس لأن فلاناً احتل بلدي، مع أن الدفاع عن البلاد مطلوب؛ لكن ليس هو القضية التي من أجلها نزلت الآية، ليس هو الجهاد الذي نقول: "إنه فرض عين"، فهو شيء آخر، الجهاد الذي هو ذورة سنام الإسلام، والذي به جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأصل فيه أنه من أجل أن يكون الدين كله لله، وألا يشرك بالله عز وجل. إذاً: نحن نحارب المشرك سواء كان أخي أو ابن عمي أو أبي أو في بلدي أو من بعيد جاء بالسيف ليحتل بلدي، فلو جاءنا مشرك؛ لكن لم يأتِ بالسيف، وإنما جاءنا بكتاب أو بقبر، أفلا نحارب هذا المشرك؟ بلى. فإننا إذا لم نحاربه فقد أبطلنا مفهوم الجهاد؛ لأن الجهاد إنما يكون من أجل إزالة الشرك، فإذا وجد الشرك في أية صورة من صوره، فيجب أن يجاهد بالقلم أو بالسيف إذا لم يمكن دفعه إلا بالسيف أو بأي شكل من أشكال الجهاد.

حديث: {وإذا استنفرتم فانفروا}

حديث: {وإذا استنفرتم فانفروا} ثم يقول الشيخ: ' وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا} ومدار الواجب: على حاجة المسلمين أو استنفار الإمام كما قال ابن القيم '. المناقشة: الحديث لم يذكر حاجة المسلمين، وإنما قال: {وإذا استنفرتم} ومن أين لنا أن مدار الواجب على شيئين: على الحاجة وعلى الاستنفار؟! نحن لا ننكر أن الحاجة توجب؛ لكن نحن نقول: إن الحديث لم ينص إلا على شيء واحد وهو الاستنفار، ولم يذكر الحاجة، والحاجة تحتاج إلى دليل خارج الحديث، فهذا التخيير ليس موجوداً في الحديث، ثم إن الوجوب شيء وفرضية العين شيء آخر، ثم فرضية العين درجات، فبعض الفروض أهم من بعض.

قاعدة الضرورات الخمس

قاعدة الضرورات الخمس ثم يقول: ' إن كل دين نزل من عند الله جعل لحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال -ومن هذا يقول- يجب الجهاد '. المناقشة: نقول: هذا الكلام لا غبار عليه؛ لكنه لا يصلح دليلاً؛ لأن الجهاد فرض مهم ولا بد منه للدين، ونحن متفقون على ذلك، ولا يخالف في ذلك إلا الرافضة أو من لا يُعتدُّ بكلامهم، أو أناس غافلون عن الدين تماماً، أما من هو مهتم بدينه فلا ينكر أبداً أن الجهاد مهم؛ لكن هل يدل على أن الجهاد فرض عين، وأنه أهم فروض الأعيان؟ لا. لا يدل على ذلك. مثلاً: لو رجعنا إلى كلام الشيخ يقول في (ص:41): ' والحفاظ على الدين مقدم على الحفاظ على النفوس ' ثم ذهب يفصل دليل: الحفاظ على الدين مقدم على الحفاظ على النفوس، والحفاظ على النفوس أولى من الحفاظ على المال. المناقشة: نقول: هذا صحيح، إذاً: أهم شيء هو الحفاظ على الدين، وأول شيء هو التوحيد، فهو جزاه الله خيراً يريد الحق، ولهذا تجده في مواضع كلامه الأخير يناقض كلامه الأول، فما دام أهم شيء هو الدين، وأهم شيء هو التوحيد، وأكبر هدف نسعى إليه هو إزالة الشرك، إذن نجعل القضية في موضعها الصحيح ولا نغلو في شيء من ذلك.

دفع الصائل وقتال الفئة الباغية

دفع الصائل وقتال الفئة الباغية ثم ذكر حكم الصائل وأنه يجب أن يدفع، وذكر أيضاً قتال الفئة الباغية. المناقشة: هذا كلام ليس له علاقة بفرضية العين على جميع المسلمين، فمن صِيل عليه وجب عليه أن يدافع عن نفسه، وهذا معروف، ولا دلالة في وجوب قتال الفئة الباغية إذا لم تندفع بالإصلاح، على أن الجهاد فرض عين على كل المسلمين، وفي وقت معين، وفي مكان معين أنت تفرضه، وليس بين المسألتين أية علاقة. وتترسُ الكفار بالمسلمين لا يمكن أن يؤدي إلى أن يكون الجهاد فرض عين على كل المسلمين، ولا علاقة بين المسألتين، ويقول: ' هذا دليل على أن الجهاد فرض عين ' والحقيقة أنه لا يوجد دليل، وحتى هذه المسألة -مع أنه لا شاهد فيها- هي أيضاً فيها خلاف كما يفيده كلام ابن تيمية، حيث قال: ' فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بأسرى المسلمين وضيق على المسلمين إذا لم يقاتلوا، جاز رمي أولئك المسلمين على أحد قولي العلماء '.

أولويات الجهاد

أولويات الجهاد ثم يتكلم: ' لماذا أفغانستان أو فلسطين أو غيرها؟ ' ونحن نحتاج هنا أن نتكلم قليلاً عن فلسطين، وعن أفغانستان بالذات. فنقول: نحن متفقون على أن الجهاد فرض على الأمة الإسلامية، وأن تواطؤ المسلمين على ترك الجهاد يأثم به المسلمون جميعاً، ويجب أن يكون فيهم المجاهدون، ولا سيما من أجل الأصل الأول الذي يحارب المسلمون عليه الآن في كل مكان، وهو توحيد الله وعبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه قضية حكمية لا نختلف فيها، لكن نرجع إلى القضايا في الواقع، ونرجع إلى معرفة الأحكام الشرعية المنصوص عليها؛ لنرى انطباق هذه على تلك.

البدء بالمرتدين والمنافقين وأهل البدع المحاربين

البدء بالمرتدين والمنافقين وأهل البدع المحاربين نقول: المسلمون إذا أرادوا أن يجاهدوا في سبيل الله، وكان لهم أعداء، وكان الأعداء نوعين: النوع الأول: مرتدون كبني حنيفة الذين كانوا مع مسيلمة ومن معه. النوع الآخر: كفار صرحاء مثل الروم أو الفرس، فبأي العدوين يبدأ المسلمون؟ لا ينبغي أن يوجد خلاف في أن أهم وأوجب القتال هو قتال المرتدين قبل قتال العدو الخارجي، فلو وجد عندنا قوم تجمعوا على بدعة من البدع، وكانت لهم شوكة ومنعة، وفارقوا بها جماعة المسلمين فأيهما أولى: قتالهم أو قتال الروم والفرس؟ قتالهم أولى، والدليل أن الصحابة -رضي الله عنهم- قاتلوا الخوارج وأجمعوا على قتالهم؛ لأنهم تجمعوا على بدعة فارقوا بها جماعة المسلمين، أرأيتم لو أننا فتحنا أرض فارس كلها، وتركنا الخوارج فدخلوا وأفسدوا دين الإسلام الذي في فارس والذي في جزيرة العرب، ماذا نستفيد لو كان المسلمون على دين الخوارج؟ لم نستفد شيئاً، بل ضاعت بيضة الدين وحوزته، فكون الروم أو الفرس يقاتلون هذا مكسب؛ فلا نضيع بيضة الدين، ونضيع رأس المال من أجل المكسب. فأول ما يجب أن يبدأ به في القتال هو قتال أهل البدع المارقين الذين يجتمعون ولهم منعة وشوكة، يخرجون بها على صفوف المسلمين، وأعظم من ذلك قتال المرتدين ردة صريحة كاملة كبني حنيفة وأمثالهم، ولو طبقنا هذا على واقع الأمة الإسلامية نجد أن الباطنيين والملاحدة -جميعاً في أي بلد وجدوا- هم أولى بالقتال من العدو الخارجي الذي هو شرقي أو غربي، فهم أولى الناس به.

البدء بأشرف البقاع

البدء بأشرف البقاع إننا إذا وصلنا إلى القول بأن أهم الفروض في هذه المرحلة -وهو التوحيد- قد تحقق، ثم ننتقل إلى واجب أو فرض آخر علينا، وهو أننا نطهر بلاد المسلمين من الأعداء الذين احتلوها، فما هي أول بقعة يجب أن تطهر؟ نقول: أولاً: الجزيرة العربية؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على ذلك وأوصانا به عند الموت، وطبق ذلك الخلفاء الراشدون، فقال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} ثم القدس؛ لأنها أفضل، ثم الشام عموماً؛ لأنها أرض الإسلام، وأرض فتحها الصحابة. فالبلدان تتفاوت في أهميتها كتفاوت الأعداء وكتفاوت الفروض، ولها أحكام ولها ترتيب، فننتقل من الأهم إلى المهم؛ إلا إذا عرفنا أنه لا يجب علينا هذا الشيء، فيجب أن ننتقل إلى ما بعده، ونستعمل أنواع الجهاد: جهاد الدعوة، جهاد العلم، جهاد السيف. ولا بد أن نسير على الترتيب الشرعي، كالبدء بالمرتدين، ثم من حيث الأراضي كالبدء بـ جزيرة العرب، ثم أرض فلسطين، ثم ما بعدها. فإذا كانت جزيرة العرب كلها على التوحيد والإيمان، وما فيها حزب ولا جماعة ولا دولة قائمة على الشيوعية أو على الشرك، فعندها ننتقل إلى فلسطين. فقول الشيخ هنا: "نبدأ بـ أفغانستان " كلام مناقض للأدلة الشرعية، وهذا هو الذي ينبغي لنا أن نعرفه، فلا يمكن أن تبنى الأحكام الشرعية، وأن يستنفر الناس على مجرد رأي، ولا مانع من أن يبدي المرء رأيه. لكن ليس له أن يلزم به الأمة، ولا يغلو فيه، حتى يتأكد أن من يخالفه لا حجة له، أو أنه ضعيف الحجة، ويجب علينا أن نكون في ديننا على نور من ربنا وعلى بصيرة وعلى برهان، والمسألة مسألة أنفس تباع، وليست قضية درهم أو دينار قابلة للحل ببساطة!

حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد

حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد ننتقل إلى قضية أخرى، وهي قضية غريبة في الحقيقة، يقول: ' هل نقاتل مع مسلمين ليسوا على مستوى معين من الإيمان؟ '. ثم يرجح الشيخ عبد الله عزام جواز ذلك، ويستدل على ذلك بأنه يجوز أن نستعين بالكفار! وهذا يدخلنا في مشكلة خطيرة، وهي الاستعانة بالكفار في الجهاد؛ لأنه لو فتح هذا الباب فسيضيع الجهاد كله، ثم يجيب ويقول: ' وقد اتفق الفقهاء الأربعة على جواز الاستعانة بالكفار بشروط: أولاً: أن يكون حكم الإسلام هو الظاهر ' أي: يكون المسلمون أقوى من مجموع المشركين. ' ثانياً: أن يكون الكافر حسن الظن بالمسلمين وتؤمن خيانته لهم. ثالثاً: أن يكون المسلمون بحاجة إلى الكفار '.

مذاهب الفقهاء في الاستعانة بالمشركين

مذاهب الفقهاء في الاستعانة بالمشركين ولنستعرض أقوال المذاهب الأربعة: أولاً: مذهب الحنفية: رأي الحنفية: قال محمد بن الحسن: ' لا بأس أن يستعين المسلمون بأهل الشرك على أهل الشرك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب '، وقال الجصاص: ' وقال أصحابنا: لا بأس بالاستعانة بالمشركين على غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر ' فرأي الحنفية أصحاب الرأي يوافق ما قال، فله فيه دليل ثم ننتقل إلى المالكية. ثانياً: مذهب المالكية: قال ابن القاسم: ' ولا أرى أن يستعينوا بهم يقاتلون معهم إلا أن يكونوا نواتية أو خدماً -النواتية: هم خدم الدواب- فلا أرى بذلك بأساً '. وقال مالك: ' لا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين إلا أن يكونوا خدماً '. فكأن مالكاً يقول: المسلمون يحاربون وعندهم دواب، ويحتاجون أناساً يخدمونهم في خدمات النظافة، أو يجمعون الحطب، أو يطبخون أو أية خدمة معينة، فيمكن أن يأتوا ببعض المشركين يخدمونهم في هذه الأشياء، والمسلمون هم الغالبون، فيجوز استخدام المشركين بهذا الشرط: أي: ألا يكون لهم نفوذ، وألا تكون لهم جبهة، وألا يكون لهم قتال، ولا أي شيء، فلا دليل في هذا للشيخ، بل بالعكس هذا دليل ضد ما يقول. ثالثاً: مذهب الشافعية: يقول الرملي صاحب كتاب نهاية المحتاج: ' وللإمام أو نائبه الاستعانة بكفار ولو أهل حرب؛ كأن يعرف حسن رأيهم فينا، ويشترط في الاستعانة: احتياجنا لهم لنحو خدمة أو قتال لقلةٍ ' فقد ذكر شرط الخدمة أو الحاجة للقتال، فالحكم ليس باتفاق الفقهاء كما قال الشيخ. رابعاً: مذهب الحنابلة: قال ابن قدامة: ' وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة بالمشرك؛ بل روي عن أحمد أنه يقسم للكافر من الغنائم إذا غزا مع الإمام خلافاً للجمهور الذين لا يقسمون له '. القول الراجح في حكم الاستعانة بالمشركين: هناك رواية عن أحمد مع كلام الحنفية توافق ما قاله الشيخ، لكن المالكية والشافعية ورواية عن أحمد تخالف قوله. وهناك حديث صحيح في صحيح مسلم ذكره الشيخ هنا، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لمشركٍ يوم بدر: ارجع فلن أستعين بمشرك}. وحديث آخر يقول فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين} فالمذهب الصحيح والقول الصحيح هو ما دل عليه الحديث الصحيح: {لا نستعين بالمشركين على المشركين} والعلماء الذين قالوا: "نأخذهم خدماً" رأوا أن هذا لا يخالف الحديث؛ لأن الحديث ينص على الاستعانة في القتال، وهذه إنما هي خدمة، وقالوا: لعل هذا لا يدخل. فكلام الأئمة الأربعة يوافق الحديث إلا الحنفية مع رواية أحمد فإنها مخالفة للحديث فكيف يقول: اتفق الأئمة الأربعة على ذلك؟! ثم يبني على جواز الاستعانة بالمشرك، جواز الاستعانة بالمسلم الذي عنده شركيات، ليقاتل معنا الكفار، وهذا استدلال مع الفارق، وتعسف لا يصح أبداً.

الجهاد في أفغانستان

الجهاد في أفغانستان بعد ذلك أقول للمسلمين ولنفسي: إن الجهاد في أفغانستان مسئولية جميع المسلمين وفي كل مكان، وإنه يجب علينا أن نساعدهم بما نستطيع، وبالأخص ما هم أحوج ما يكونون إليه؛ وهو المال، فنبذل ما نستطيع من أموالنا فلنساعدهم. لكن لا نصرف المال كله لهم؛ فالمجاعة تقتل إخواننا في إفريقيا، وإخواننا في الفلبين، كذلك في يوغسلافيا وفي بلغاريا، والمسلمون في كل مكان مثل الأيتام على مأدبة اللئام. ونحن -بحمد الله- في هذا البلد مستورون، فنتبرع بنصيب أوفى لإخواننا الأفغان، لكنا أيضاً لا ننسى غيرهم، وكذلك إذا كان عندنا هنا جيران فقراء، فلا نتركهم لنعطي أهل مكان بعيد، بل نتصدق هنا وهناك، ونحاول أن نعطي هنا وهناك.

نصائح في طريق الجهاد والدعوة

نصائح في طريق الجهاد والدعوة أولاً: ننصح إخواننا جميعاً بتوحيد الله عز وجل، وإخلاص العبادة لله عز وجل، ولا يستنكف أحد عن النصيحة، ويقول: أنت تتهمني في عقيدتي؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّى أصحابه على هذا، والله عز وجل ينزل القرآن عليهم ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]. يخاطبهم وهم مؤمنون بصفة الإيمان ويأمرهم مع ذلك به، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرات عديدة يقوي إيمانهم ويبين لهم الدلائل؛ فليس هذا اتهاماً لهم أنهم ما آمنوا، لكن هذا أهم شرط من شروط النصر، قال تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55]. فإذا كان عندك عشرة آلاف مجاهد من العامة لم يتربوا التربية الكافية، كما يقول الشيخ عبد الله، فنحن لا نقول: لا يمكن أن نجعل العشرة آلاف يعدلون المليون، بل إن عندنا وسيلة تجعل العشرة آلاف يعدلون المليون، وهي: الإيمان الصحيح. فهذا سعد رضي الله عنه يكتب إلى عمر يريد ثلاثة آلاف مقاتل، فيرسل له القعقاع بن عمرو وحده، ويقول: أرسلت لك ثلاثة آلاف! وهو وحده، لكنه بمنزلة ثلاثة آلاف. فالمجاهد المسلم في أفغانستان أو في أي مكان إذا عرف التوحيد وحقيقة الإخلاص لله عز وجل، حولناه من فرد إلى مائة إلى ألف وربما إلى ثلاثة آلاف، وهذا من أسباب النصر بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فإذا حققنا التوحيد انتصرنا على أنفسنا؛ لأن المسألة ليست مسألة أرض وتراب، المسألة مسألة توحيد الله، فإذا فعلنا ذلك انتصرنا على أنفسنا، وانتصرنا على عدونا بإذن الله. ومن استطاع في إجازة ربيع أو غيرها أن يأخذ معه ما يستطيع من كتب إسلامية في العقيدة ويذهب إلى هناك، أو إلى أي بلد، فيعلمهم التوحيد والإيمان، فجزاه الله خيراً، وبهذا نجعل الأمة الإسلامية في حماية من عدوها. ويوم هُزِمَ المسلمون في أحد قال لهم الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فهو من عند أنفسهم. ولم يقع الشرك في عبادة الله، وإنما وقع شرك الإرادة، وهو لا يخرج من الملة إلا إذا غلب على القلب. وقد ذكر الله عز وجل شرك الإرادة في قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] وقد كانوا قليلاً من الرماة، إذ كان الرماة خمسين رجلاً عشرة منهم بقوا على الجبل، وأربعون نزلوا. ففي الجيش كله أربعون نفراً يريدون الدنيا، ويمكن ألا يكون كل الأربعين كذلك، لكن وافق بعضهم بعضاً وتتابعوا يريدون الغنائم، وما دام في الجيش من يريد الدنيا فلن ينتصر الجيش، والمسلمون إنما ينهزمون في كل مكان؛ لأن فيهم من يريد الدنيا، وفيهم من يجاهد الآن وهدفه أن تكون الدولة له، أو على الأقل أن تكون هناك وزارة له ولحزبه. ونحن لا نقول هذا لنثبط هممهم، لكن إذا كانت هذه هي الحقيقة فيجب أن نعرفها، وأن نتعاون على إزالتها، فما دام فينا من يريد الدنيا فلن ننتصر، فكيف إذا وقع ما هو أكبر من شرك الإرادة، وهو شرك العبادة؟! وهذا قد يقع، بل هو واقع في أنحاء العالم الإسلامي، وما أكثر ذلك! نسأل الله أن يهدي جميع المسلمين. ولا بد أن نتفطن لهذا الشيء، ونعرف أهم الواجبات وأوجبها علينا جميعاً؛ بالنسبة لإخواننا المسلمين في كل مكان، وهو أن نخلص عبادتنا ونياتنا لله عز وجل في كل أمر من الأمور، وحينئذٍ ينصرنا الله عز وجل، وذلك عليه يسير. إن الكفار ليسوا شيئاً بالنسبة لقوة الله عز وجل، بل لا يسلط الله عز وجل الكفار علينا إلا إذا كنا نستحق ذلك؛ كما قال سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] والله تعالى لا يخلف الميعاد، فقد قال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. فإذا غَلَبَنا الكفار بأي نوع من أنواع الغلبة، فلنتهم أنفسنا أولاً؛ فإنما سلط الله علينا عدونا بذنوبنا، فنفتش عنها ونتوب منها. إذا كان الله عز وجل سلَّط الكفار على الصحابة؛ لأن نفراً يسيراً منهم يريدون الدنيا؛ فكيف لا يسلط الكفار على الأمة الإسلامية اليوم والدنيا أكبر همها؟! لا غرابة في الأمر، بل كما قال عز وجل: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15] وأنه لو يؤاخذنا بذنوبنا؛ لكان الحال أعظم مما نرى بكثير. كل المسلمين يعرفون أن الزنا حرام، ومع ذلك ففي كثير من البلاد المسلمة يفشو الزنا، والبلد الوحيد الذي فيه هيئة أمر بمعروف هي السعودية، أما البلاد الأخرى فيوجد فيها مراقص وملاهي. والخمر في بعض البلدان تُشرب علناً في الفنادق وفي الشوارع، بل ويوجد أكبر من ذلك، ثم نقول: لماذا لا ننتصر؟! سبحان الله! يا أخي: أنا ما انتصرت على قارورة أمنع نفسي عنها؛ فكيف ينصرني الله على العالمين؟! ذنب واحد يكفي لأن نهزم، فكيف وقد اجتمعت فينا مصائب وذنوب؟! الذنب الواحد منها لو وقع في أمة لأهلكها؟! وقد أهلك الله الأمم قبلنا بذنب من الذنوب، أهلك قوم لوط بذنب، وهذا الذنب انتشر -والله المستعان- في أكثر بلاد المسلمين!! ومن فضل الله على هذه الأمة أنه أكرم نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستجاب له بأنه لا يهلكهم بسنة عامة، وأنه لا يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم، أي: لا يهلكهم هلاكاً عاماً، ولا يمسخهم مسخاً عاماً، ولا يغرقهم غرقاً عاماً، بل يكون فيهم طائفة منصورة باقية على الحق، لا يضرها من خالفها. وأهم ما يجب علينا -نحن طلبة العلم- أن نكون من هذه الطائفة المنصورة الذين يحققون هذا الدين قولاً وعملاً، ويجتهدون في تحقيق التوحيد في أنفسهم، ويدعون الناس إليه، ويجاهدون في الله حق جهاده، بجهاد العلم وبجهاد السيف، وهذه الطائفة المنصورة باقية، وهي التي يحفظ الله الأمة بسببها، وهذا ما أحببنا أن نتعرض له، ونسأل الله أن يغفر لنا وللمؤلف ولإخواننا المسلمين.

الأسئلة

الأسئلة

أصل خلق آدم عليه السلام

أصل خلق آدم عليه السلام Q قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] فهل معناها أن آدم خلق من روح الله؟ A ليس هكذا يا إخوان! الله عز وجل قال: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ولم يقل خلقته, فهو ليس مخلوقاً من روح الله, بل نفخ الله فيه الروح, والإضافة هذه قد بينا لكم حكمها في مواضع سابقة.

الإفراط في استعمال الطرفة في الدعوة إلى الله

الإفراط في استعمال الطرفة في الدعوة إلى الله Q يرد إلينا أحياناً وسائل وصيغ لا تخلو من طرافة, وذلك بحجة أنها من أساليب الدعوة الحديثة, وهذه الصيغة جاءت هنا كمثال: تذكرة غير التذكرة الأولى: لمزيد من المعلومات يرجى الاتصال الفوري بكتاب الله وسنة رسوله, ملاحظة: الاتصال مباشر ومجاناً ولا داعي لتأكيد الحجز، فما الحكم في مثل هذه العبارات؟ A يا إخوان! لا ينبغي أن يمتهن دين الله, وتمتهن الدعوة إلى هذا الحد, فهذه العبارات لا تجوز، هدانا الله وإياكم.

حكم أهل الفترة

حكم أهل الفترة Q يطالب الناس يوم القيامة بذكر ما أجابوا به المرسلين، فهل يطالب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصحاب الفترات بين الرسل والذين لم تبلغهم الدعوة بالإقرار والإشهاد عليهم فقط؟ A بل له حكم آخر -الذي لم تبلغه على الإطلاق- لكن قد نظن أن فلاناً من أصحاب الفترة وهو ليس كذلك، مثل قريش ومن معهم من العرب، الذين انحرفوا عن دين التوحيد الذي كان عليه الخليل عليه السلام إلى الشرك. فهؤلاء لا نستطيع أن نجزم أنهم من أهل فترة، لأن دين إبراهيم عليه السلام كان متوارثاً، بينهم وكان فيهم الحنفاء الموحدون الذين لم يعبدوا غير الله عز وجل، فلا نستطيع أن نجزم أنهم أهل فترة في الجملة، أما على الأعيان فيوجد من أعيان الناس من لم يبلغه دين، وهذا حكمه إلى الله، وأقول: إنه لا ينبغي أن نشغل أنفسنا في قضايا لا يرد عليها علم أو اعتقاد أو عمل لنا.

خلقنا في عالم الذر

خلقنا في عالم الذر Q هل خلقنا خلقاً كاملاً ونحن في عالم الذر؟ A ما خلقنا خلقاً كاملاً، وإنما استخرجت أرواحنا وكلمها الله عز وجل ثم ردها.

الجهاد الأكبر

الجهاد الأكبر Q هل جهاد النفس هو الجهاد الأكبر؟ وما مدى صحة الحديث القائل: {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر}؟ A الحديث غير صحيح، وكلمة (في سبيل الله) إذا أطلقت؛ فالأصل فيها هو جهاد الكفار، والجهاد الأكبر هو قتال الكفار، ولكن أيضاً لا ننسى أن الجهاد نفسه -كما قلنا- درجات: جهاد الدعوة، وجهاد العلم، وجهاد القتال؛ فلو جادلت الكفار ودعوتهم وناظرتهم وصبرت على عدائهم، لكان هذا جهاداً، فليس جهادك فقط أن تقاتلهم، فهذا أيضاً جهاد الدعوة الذي قال الله عنه لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، أي: بالقرآن، وسماه جهاداً كبيراً. وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9] قال بعض السلف: أي: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بالحجة، وذلك كما قال الله عز وجل: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] فالله تعالى يأمره أن يجاهد المنافقين بإقامة الحجة، مثل من يقول: أنا مسلم! وعنده شركيات، فإنه يُجَاَهدُ جهاداً قولياً، جهاد حجة وبيان ودعوة. ولكن الجهاد بالسيف رغم عظم شأنه قد يكون من أهون أنواع الجهاد، فإذا قام في المسلمين قائمة فإنه قد يجتمع في اليوم الواحد عشرة آلاف، وينفع فيه الذي يستطيع أن يحمل السيف فقط، وكل واحد يستطيع أن يمارس فيه دوراً، لكن جهاد الدعوة لا يستطيع له ولا ينفع فيه إلا قليل جداً؛ فطلبة العلم في كل بلد قليل، والذي ينفع منهم للدعوة قليل، وهذه هي المشكلة، والجهاد الأساس الذي نجتهد ونسعى في تحصيله، ولولاه ما نفع الجهاد، أنك تجمع الناس وتعلمهم وتربيهم. فالقبائل في أي بلد من البلدان، إذا استنفروا نفروا كلهم من أجل جهاد الكفار، أو قتال أية طائفة، لكن لو كانت عندهم عادة اجتماعية من العادات السيئة فإنهم ليسوا مستعدين أن يتنازلوا عنها حتى لو قاتلتهم بالسيف، فمن أصعب الأمور أن تستقيم النفوس على دين الله عز وجل، أما الاستنفار لقتال الآخرين فإن كثيراً من الناس يرونه سهلاً، وهؤلاء غالباً يفرون عند أول لقاء؛ لأن المسألة عندهم ليست من أجل الدعوة، بل من أجل أنهم استنفروا، أو يطمعون في مغنم ما. والقضية دقيقة تحتاج إلى تفصيل أكثر من هذا.

أهل الفترة

أهل الفترة Q ألا يدل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة:19] على أن قريشاً في ذلك العصر كانوا على فترة؟ A الفترة هي الانقطاع، {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة:19] أي: على انقطاع من الرسل، والخطاب لأهل الكتاب، وأهل الكتاب ليسوا أهل فترة؛ لأن عندهم علماً بالكتاب كما أنهم حرفوه عامدين، وهل يدل هذا على أن قريشاً كانوا أهل فترة؟ نقول: الوقت وقت فترة؛ لكن هذا لا ينطبق عليهم بأعيانهم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاء رجل يسأله عن أبيه قال: {أبي وأبوك في النار} وأيضاً قال: {استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي} فالحكم لا يشمل كل واحد بعينه.

أنواع العقائد

أنواع العقائد Q كم أنواع العقائد؟ وهل هناك للكفار عقائد؟ A العقائد نوعان: عقائد صحيحة، وعقائد باطلة. وعند الكفار عقائد لكنها باطلة، أي: عندهم دين، فالدين هو العقيدة والإيمان، كما قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] لهم دين لكنه دين باطل {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19].

حكم زيارة القبور لرؤية العظام

حكم زيارة القبور لرؤية العظام Q ما حكم من يزور القبور لكي يرى العظام في القبور؟ وهل يجوز لهم ذلك؟ A إذا كان قصد السائل أن يذهب إلى القبر، فيفتح القبر من أجل أن يرى العظام، فهذا لا يجوز.

واجب المسلمين أمام نعم الله

واجب المسلمين أمام نعم الله نعم الله كثيرة تترى، لا يستطيع الإنسان لها حصراً ولا عدا، فهي متمثلة أمامه في كل شيء، بل في ذاته هو، ومع ذلك تجد بعض الناس غافلين عن هذه النعم جاحدين لها، وفي هذه المادة ينبه الشيخ على بعض هذه النعم كنعمة الخلق والهداية، وواجب المسلم نحوها، ثم يبين أهمية وجود الصالحين المصلحين في المجتمع، موصياً الناس بالاقتداء بهم والاستجابة لندائهم.

من نعم الله علينا

من نعم الله علينا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: أيها الإخوة الكرام: أحمد الله تبارك وتعالى أولاً وهو أهل الحمد والثناء، وأشكره عز وجل وهو لذلك أهل، ثم أشكركم على أن أتحتم لنا هذه الفرصة لنذكر الله تبارك وتعالى، ونتذاكر فيما ينفعنا ويُقربنا إلى مرضاته عز وجل. وما هذا بغريب عليكم، فهذه البلاد -ولله الحمد- مصدر ومهد للخير والإيمان، خرج منها صحابة كرام، وفاتحون، وعلماء عظام، وما تزال -بإذن الله تبارك وتعالى- منبعاً للخير ومصدراً للهدى، وما يدرينا فلعل في آخر هذه الأمة من يكون كأولها بإذن الله تبارك وتعالى، وما هذا الشباب الذي بدأ يُقبل على حفظ القرآن وتجويده وتلاوته آناء الليل وآناء النهار، وما هؤلاء الذين أخذوا يتخرجون من الجامعات وينشرون الدعوة في هذه المنطقة إلا بواكير الخير وبداياته. فهذا هو الخير الذي نرجوه، ونحن إن جئنا من بعيد فإنما نأتي لنشارك في الخير والأجر، وإلا ففي هذه البلاد -ولله الحمد- من لديه من العلم والخير والدعوة والجهد الشيء الكثير الذي يفوق ما عندنا، ولكن المحبة في الله توجب التزاور والتذاكر، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين. تعلمون أن الله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وكما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً} فهو عز وجل كما قال -أيضاً- في نفس الحديث: {إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني}. فلا نستطيع أن ننفعه أو أن نضره، بل هو غني عن عبادتنا وطاعتنا مهما أطعناه، وكذلك لا تضره معصيتنا مهما عصيناه، فإن عصينا واستكبرنا وعاندنا وأبينا إلا أن نحيد عن أمر الله، فالخسارة والضرر علينا في الدنيا والآخرة، وإن آمنا بالله واتقيناه وأطعناه في كل أمر واجتنبنا ما نهى عنه فالخير لنا في الدنيا والآخرة.

وجعلنا الليل لباسا

وجعلنا الليل لباساً لو تأملت كيف تستيقظ، من الذي أعطاك العافية؟ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، من الذي هيأ لك أن تقوم؟ كم من نائم نام تلك الليلة ولم يستيقظ إلا والملكان يسألانه في قبره، وأنت أيقظك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حياً سليماً معافاً، وقد بت ونمت وعندك الأولاد والخير والنعمة والراحة. والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بأقل من هذا فقال: {من بات وهو آمن في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها} سبحان الله! عافية في بدنك تلك الليلة، وأكل على قدر تلك الليلة، وأمن في تلك الليلة تنام وأنت مطمئن لا يهاجمك عدو ولا شيء يضرك، كأنما حيزت لك الدنيا. ولو أن عبداً ملك الدنيا جميعاً من أولها إلى آخرها من شرقها إلى غربها، لكان غاية وأعظم ما يتنعم به في تلك الليلة هو هذه النعمة، هو أن ينام وهو مطمئن وشبعان وآمن معافى وماذا غير ذلك؟ وهل في الدنيا شيء بعد ذلك يطلب؟ لا شيء. فالله تعالى أنعم عليك أيها العبد وأنت مغمور بنعم الله ولا تدري، وربما أن النوم يدرك بعضنا -يأتيه النوم في الليل غصباً عنه- وهو يفكر كيف أن فلاناً عنده من الأموال، وفلاناً عنده من النعم، وفلاناً أخذ وأخذ، وفلاناً ربح وتاجر وأنا ليس لديَّ إلا هذا الشيء القليل، نسي تلك النعمة لأنه ينظر إلى غيره، وهذا عكس ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن.

كيف ندرك نعمة الله علينا

كيف ندرك نعمة الله علينا والمؤمن التقي الذي يرجو لقاء الله، كيف ينظر في أمر الدنيا وكيف ينظر في أمر الآخرة؟ إذا نظرت في أمر الدنيا وشأنها فانظر إلى من هو دونك، من هو أقل منك مالاً وأولاداً وعافية فذلك أحرى وأجدر وأليق ألاَّ تزدري نعمة الله عليك، وتعلم أنه أنعم عليك بنعم عظيمة فتعرف نعمة الله عليك ومن خلال هذه النعمة، من خلال هذه النظرة إلى من هو دونك. ولكن إذا نظرت أو تدَّبرت أو تفكَّرت في الآخرة فانظر إلى من هو أعلى منك، فإن كنت تقرأ شيئاً من كتاب الله فانظر إلى من يحفظه ويقرأه كله. إن كنت تؤدي شيئاً من فرائض الله أو بعضها فانظر إلى من يأتي بالفرائض وبالنوافل وزاد على ذلك من الخير ومن البر. إن كنت تدعو إلى الله وفتح الله على يديك من الخير فانظر إلى من دعوا إلى الله تبارك وتعالى فأحيا الله بهم أمماً من الضلالة ومن الجهل، فالمقصود أن الإنسان إذا كانت هذه نظرته عرف وعلم نعمة الله تبارك وتعالى عليه. فهو الذي أعطاك العافية، والصحة، والفراغ، فإذا قمت واستيقظت وعبدت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وصليت الفجر جماعة في المسجد فقل: الحمد لله الذي منَّ عليّ بهذا، فإذا جاء الإنسان إلى هذا المسجد وصلّى وذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يكون قد أحسن؟ إلى نفسه، نال الأجر، والثواب، ونال الخير والبركة في بدنه وفي يومه ذلك بفضل الله تبارك وتعالى. إذاً: الفضل لله، بنعمته وبهداه وبتقواه ننال الخير في الدنيا والآخرة.

نعمة الهداية

نعمة الهداية حتى هدايتك جعلها الله تبارك وتعالى ميسورة، ولم يتركنا الله تبارك وتعالى سُدى لا نؤمر ولا نُنهى، بل بعث إلينا رسولاً من أنفسنا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] فمن رحمة الله تبارك وتعالى أن بعث في كل أمة رسولاً بلسان قومه ليبين لهم، وليعلمهم كيف يهتدون إلى طريق الله، وكيف ينعمون بالحياة المطمئنة الطيبة في الدنيا، ثم يلقون الله تبارك وتعالى فيدخلون دار كرامته حيث النعيم المقيم الأبدي. فجعل الهداية -أيضاً- ميسورة لكل إنسان بما بعث الله به هؤلاء الرسل الكرام، وأفضلهم وخاتمهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنَّ الله تبارك وتعالى علينا بهذا الدين وبهذا الإيمان، ويسر لنا القرآن {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. يسر لنا هذا القرآن، فإذا قرأناه أو سمعناه نجد هذه الرقة والعذوبة والمتعة العجيبة للقاريء والسامع، هذا القرآن يسره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وامتنَّ علينا بتعليمه {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4]. وأعظم نعمة هي تعليم القرآن، وبغير هذا القرآن، وبغير هذا الهدى يكون الإنسان كالحيوان. والحيوان كذلك مهَّد الله له العيش، ويسره له، ورزقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو رب كل دابة، وهو الذي يهيئ لها رزقها وإن كانت في ظلمات الأرض وأينما كانت، لكن الإنسان ما الذي يفرق بينه وبين هذا الحيوان؟ إنه هذا القرآن، وهذا الهدى، وهذه الرسالة. ومع ذلك فكيف يكون حال العبد وكيف تكون مقابلة هذه النعمة؟ نحن في صلاتنا نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هو عز وجل أمرني أن أصلي في اليوم خمس صلوات، وأن أستيقظ لصلاة الفجر ثم أؤدي بقية الفرائض، فهل لي منة، هل لي فضل إذا أديَّت هذه العبادة التي أوجبها الله تبارك وتعالى؟!

نعمة الخلق

نعمة الخلق هذه قاعدة عظيمة يجب أن يعلمها عباد الله المتقون -جعلنا الله وإياكم منهم- أنه يجب على كل منا ألا ينسى وأن يتذكر دائماً أن ما أصابه من حسنة وخير فمن ربه، وأن ما أصابه من شر ونكد وشظف عيش وبلاء وأذىً فمن ذنبه، وقد قال ذلك رب العزة والجلال لأفضل خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. ولو أن العبد تأمل ونظر كما أمره ربه عز وجل أن ينظر {فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، {فَلْيَنْظُرِ الإنسان إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24]. لو نظر في ذلك لعلم حقاً أن هذا ما قُرر وما قيل: إنه ما أصابه من خير فهو من ربه، وما أصابه من شر فهو بسبب ذنبه ومعصيته لله عز وجل. وإلا فما هو هذا العبد؟ من أنت أيها المخلوق الضعيف إذ كنت صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، أميراً أو حقيراً عند الناس، غنياً أو فقيراً في دنيا الناس، من أنت؟! أياً كان هذا الإنسان، ماذا لو نظر الإنسان مم خلق؟ {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] من نطفة حقيرة قذرة، والآن يقول ويقرر الأطباء: إنه لم يخلق من النطفة كلها بل من جزء منها ضئيلٍ جداً لا يرى إلا بالمجاهر. سبحان الله! هذا المتكبر على الله، المعرض عن كتاب الله، الذي لا يبالي بقال الله ولا قال رسول الله، ولا يبالي بما ارتكب من محارم الله، خُلِقَ من هذه النطفة الحقيرة. سبحان الله! ومن الذي خلقه؟ ومن الذي جعله في قرار مكين؟ ومن الذي غذاه في ظلمات ثلاث في بطن أمه؟! وهو عز وجل ييسر له الغذاء وييسر له كل أسباب الحياة. حتى إذا انقضى الأمر، وبلغ الأجل الذي قدَّره الله تبارك وتعالى، وجاء هذا المولود وخرج إلى هذا الوجود، هيأ الله تبارك وتعالى له أسباب الحياة الدنيا مما لم يكن ميسوراً له وهو في بطن أمه، ومما لم يكن محتاجاً إليه وهو في بطن أمه، والآن ينتقل إلى عالم جديد يحتاج فيه إلى الغذاء والهواء، ويحتاج فيه إلى من يرعاه ويحفظه ويحوطه برعاية مباشرة، يسر الله تبارك وتعالى له ذلك فهداه الله تعالى من الزيف. يولد الطفل من الذي علمه؟ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78] علَّمه أن يرضع من هذا الثدي، ولو أن الله لم يُعلِّمه ذلك من يستطيع أن يعلمه من الناس أو من الأطباء؟! لا يستطيع أحد أن يعلم المولود في يومه الأول، بل في عامه الأول فما بعد، إلا بعد حين أن يُعلَّمه شيئاً من الأمور. ولكن الله تبارك وتعالى علَّمه وهداه أن يأخذ هذا الثدي وأن يتغذى به، وهذا الثدي قد هيئ فيه درجة حرارة معينة مناسبة، وبغذاء مناسب لمن ولد الآن، بخلاف إذا رضع منه الطفل في عامه الثاني. فقد هيئ الله له في الحليب المواد التي تكفي وتغذي من قد عاش سنة فأكثر. فسبحان الله! الذي يحوطه برعايته، ويحوطه بعنايته ويهيئ له في كل حالة وفي كل وقت ما يناسبه وما يلائمه مما يحتاج إليه هذا الإنسان. من الذي جعل الأم تحوطك برعايتها وعنايتها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلا فبعد أن لقيت ما لقيت من الوحم ومن التعب أثناء الولادة ثم ما بعدها من مشاق عظيمة لألقتك وذهبت بعيداً وتركتك وتخلت عنك. والمرأة هي من أغلظ الناس قلباً، وأخبثهم طباعاً وجلافةً، فإذا وُلد لها ولدٌ كانت من أحن الناس وأرقهم على هذا الولد، وإذا قيل لأي أم أعطينا هذا الولد لنذبحه، وخذي ما شئت من أموال الدنيا؟ والله لا تجدون أماً ترضى بهذا أبداً، سبحان الله العظيم! كيف نزلت هذه المحبة، من أين هبطت هذه الرحمة والشفقة على ذلك القلب الغليظ الجافي؟ من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكي يحوطك أيها الإنسان، ولكي تتربى وتتغذى في نعمه تبارك وتعالى، سخر لك الأب وسخر لك كل ما يعيشك.

رحيم غفور

رحيم غفور

دفع العذاب وتأخيره

دفع العذاب وتأخيره وتعلمون بم يدفع الله العذاب ويؤخره ويؤجله؟ أقول: هذا لأن بعض من أعمى الله بصيرته، وختم على قلبه وأضله، لا يكف آناء الليل أو النهار عن السخرية والوقيعة والاستهزاء بمن هدى الله تبارك وتعالى من الشباب الصالحين. ما الذي يدفع عنا عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أراد أن يعذبنا؟ نعوذ بالله من العذاب؛ إنه دعاء الصالحين. إذن نستبقي هؤلاء الصالحين، ونحمد الله إذا كثر هؤلاء الشباب الذين يقرءون كتاب الله ويحفظونه، ويدعون إلى الخير، وإلى الالتزام بالحجاب، ويدعون ألى ترك الربا، والزنا، وإلى ترك المنكرات، وإلى ترك الغناء والملاهي. إن وجود هؤلاء بيننا يدعوننا نعمة، وبدعوتهم للإصلاح وبدعائهم لله يدفع الله العذاب {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] ما دام فينا مصلحون، ولا يدري الفاسق، الفاجر، اللاهي، العابث الساهر ليله كله، والنائم نهاره عن طاعة الله، ما يدري أن النعمة هذه أنها بفضل الله أولاً ثم بوجود الأخيار الأتقياء، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يعذبنا وهؤلاء مصلحون يدعون إلى تقوى الله، ويسألونه المعافاة ودفع البلاء. فينظر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأعمالنا، فإن استجبنا لهؤلاء الدعاة واتبعنا ما يقولون، ليس ما يقولون لأنفسهم بل قولهم: قال الله وقال رسول الله؛ رحمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن قابلناهم بالرد والاستهزاء والسخرية جاء العذاب -نسأل الله العفو والعافية- وحتى وإن أتى العذاب في الدنيا على الجميع فإنهم يبعثون على نياتهم، وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها لما سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث} إذا كثر الخبث يأتي الهلاك وإن كان فينا صالحون. لكن متى يمتنع العذاب؟ إذا كان فينا مصلحون. إذاً الحمد لله أن هؤلاء الدعاة يدعوننا، وإذا لم يدعونا ظلوا صالحين ونحن ما زلنا عاصين جاء العذاب، ولو كثر الصالحون، لكن إذا كان المصلحون يدعوننا ونحن نسمع وفينا من يستجيب، دفعنا وأجلنا وأخرنا -بإذن الله- عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي لا يُرد عن القوم المجرمين إلا بالتوبة، وبالإيمان، وبالإنابة، وبالضراعة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فنحن -والله- في غفلة عظيمة، قلوب قاسية، نتقلب في نعم الله ولا نذكر الله إلا قليلاً، وإذا عبدناه واتقيناه أتانا الشيطان وجعل المنة والفضل لنا، وقال: أنتم من المهتدين، ومن المتقين، وأنت أحسن من غيرك، وأنت فيك وفيك، ليزين لك عدو الله أسباب الضلال، وليحبط عملك. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يمنَّ علينا وعليكم بالهداية والاستقامة، وأن يعيذنا من شر الشيطان، ونزغاته، ووساوسه.

استعجال العذاب

استعجال العذاب إذا ذكر العباد بالله كان حالهم أنهم يستعجلون عذاب الله، ويقولون: أين عذاب الله؟ كثير من الناس قد لا يقول هذا بلسانه، ولكن يقوله بحاله، لأنه لم يتب {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:12]. وإذا لم يستغفروا الله، ولا بالوا بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذاًَ كأنهم يقولون: أين ما وعد الله به من العذاب؟ الوعاظ والخطباء يوم الجمعة، والناصحون، والمذكرون، يقولون لنا: إن عصينا الله فسوف يُعذبنا، وإن اتقينا الله فسوف يُنعم علينا، فيأتي الشيطان ويقول: كم عصينا الله؟ ولم يحصل إلا استمرار النعم، لا يوجد إلا نعمة الزاد. لا. هذا جهل، وهذا ضلال عظيم، ولا تنظر إلى كرمه، ولا تنظر إلى استدراجه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تنظر إلى إمهاله للمجرمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه إذا أخذ فإنه يأخذ أخذ عزيز مقتدر، منتقم جبار، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا تنظر إلى ذلك وانظر إلى أن هذا الباب، يجب أن يستغل، إن زاد الخير فهو استدراج {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] يفتح الله أبواب كل شيء، إذا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. لا تقل كما قال الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:204 - 207] كم عمرك يا مسكين؟ تقول: أنا من حين خلقت وأنا أعصي الله وما أصابني شيء، هذا العمر كم سنة يكون؟ لقد أهلك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من كان قبلنا من القرون الذين أخبرنا الله تبارك وتعالى عنهم {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45]. كم المعشار؟ قال المفسرون في المعشار: هو عشر العشر {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]. الله أكبر! عمروا الأرض، وزرعوا، وبنوا أكثر منا، وكانوا أكثر منا أموالاً، وأولاداً، ومع ذلك أهلكهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأخذهم بذنوبهم؛ وإن كان قد أمهلهم ما أمهلهم {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء:204]. لا والله، لا نستعجل عذاب الله {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] تذهب تلك النعمة في لحظة انتقام واحدة ويفرون ويركضون، لو جاء زلزال -عافانا الله وإياكم- ادعوا الله دائماً أن يعافينا وإياكم من الزلازل والفتن. الزلازل هذه أمرها عظيم، وشأنها خطير، وقد كانت هذه الجزيرة العربية في منأى وفي مأمن عنها كما كانوا يقولون، يقولون: إن جزيرة العرب وهذه الجبال التي يُسمونها الدرع العربي في مأمن من الزلازل إلى أن حدث قبل سنوات زلازل في مناطق قريبة، والآن تسجل هزات على طول الساحل -نسأل الله العفو والعافية- وفي كل منطقة تقريباً تسجل هزات خفيفة وقد تكون قريبة مما يكون بعده الدمار والناس في غفلة. لكن لو نزلت لركض الناس وهربوا، وأول ما يخرج منه الإنسان ويهرب منه ربما ذلك البيت الذي أفنى عمره كله وهو يزخرفه ويزينه، ويشتري الثريات من مكان، والبلاط من مكان، والزينة من مكان، ويهتم به أعظم الاهتمام، ولهذا يقول تعالى: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} [الأنبياء:13] لا يفكر لا في مسكنه ولا في شيء آخر، يريد أن ينجو فقط بنفسه، تصبح الأرض مثل الماء فلا تضع رجلك إلا وتنزلق فيها {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. والله ما هي من الظالمين ببعيد، ولا يدفعها إلا أن نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا تستطيع قوة، ولا معدات، ولا آلات، ولا وسائل إنقاذ، ولا أي شيء أن يدفعها إذا جاءت هي أو غيرها إلا أن نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نجأر ونتضرع إلى الله، وألا نستعين على معصية الله بنعمه. الإنسان الآن يأكل نعمة الله، والموسيقى تعزف في وسيلة من وسائل الإعلام أو أمامه، نقول: الأمم والقرى قبلنا، ونحن نفعل مثل ما فعلوا وأكثر، أين شكر نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يؤذن المؤذن ويصلي الناس، والموسيقى تعزف والغناء يسمع في السيارة أو في البيت ونحن غافلون. سبحان الله! هذا نذير النجاة، أم نذير الهلاك؟ يذهب الناس للاستسقاء ويستغيثون الله أن يغيث هذه البلاد وأن يرحمها -نسأل الله أن يستجيب لنا إنه سميع مجيب- وبعضهم يسمع الغناء والملاهي في البيت أو في السيارة في غفلة تامة، وربما كانوا في المقاهي يلهون ويلعبون، وهذا والله نذير الهلاك، هذا نذير العذاب إلا أن نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

يقبل التوبة ويعفو عن السيئات

يقبل التوبة ويعفو عن السيئات فإذا قلَّت النعمة وإذا لم تنزل الأمطار وإذا قلَّت البركة، فإلى من يرجع الأمر؟ إلى ذنوبنا. فيجب أن يعلم العبد أن ما أصابه من خير فمن ربه، ولكن ما أصابه من شر فمن ذنبه {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:17]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. لا تنفد خزائنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن إذا لم يؤمنوا لم يتقوا وكذبوا، فيأخذهم بما كانوا يكسبون، بذنوبهم، ومع ذلك {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15]، {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34]. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتجاوز وهو كريم، كرمه لا يُحد ولا يُوصف، وكما أشرنا فإنه لا يمد المؤمنين ويرزقهم ويغيثهم فحسب، بل حتى الكافرين إذا أخلصوا في الدعاء إليه. وكذلك ليست نعمته وكرمه ورحمته خاصة بالمتقين، بل يفتح الباب للمجرمين وللمذنبين وللمدبرين أن تعالوا ويناديهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يا عبادي يا عبادي. الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال في مثل هذه الحالة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] سبحان الله! كان يكفينا أن نعلم أننا إذا تبنا وآمنا وعملنا الصالحات أن يعفو عنا، اللهم لك الحمد عفوت عنا، ولكن ليس كرمه عند هذا الحد، بل يتكرم بالعفو عنا ويتكرم بأن يُبدل تلك السيئات حسنات، الكفة التي كانت على الشمال مثل الجبال تتحول إلى اليمين إلى الحسنات مثل الجبال أيضاً، بماذا؟ بأن نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله تعالى {يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل}، سبحان الله! غني عنا، وغني عن عبادتنا، وغني عن طاعتنا لا تضره معصيتنا ولا يبالي بنا. ولكن لو عصيناه لم يبال بأي واد هلكنا، ومع ذلك يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار. الله أكبر! ما أكرم هذا الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.

هو الرحمن الرحيم

هو الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. قال السلف رحمهم الله: فضل الله ورحمته: هي القرآن، والإسلام، والإيمان، والوحي، ورسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل ذلك صحيح وهذا هو من زيادة الأمثلة المتنوعة لشيء واحد. الله تعالى أنعم علينا بهذا الدين، فبه نفرح وهو خيرٌ مما يجمعون، فمهما جمعنا في الدنيا، فإن هذا الدين الذي أعطانا الله هو خير مما نجمع، من هم أغنى أغنياء العالم؟ -والغنى لله الحق تبارك وتعالى- هم اليهود. أيها الإخوة: هذه البنوك الربوية التي تمتد من بلادهم إلى بلادنا -مع الأسف- أكثرها وأكبرها لليهود، وهل اليهود مكرمون عند الله؟ {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء} أبداً، لكن لا تعدل ذلك ولا تساويه عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما كما قال: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] نمد المؤمنين ونمد الكافرين، لماذا؟ لأنه لا رب إلا الله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] نقولها في الفاتحة في كل ركعة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] لا رب سواه، ولا رازق سواه، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يرزق. الرب الذي ربى جميع العالمين بنعمه، ولهذا يستجيب تبارك وتعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. هل قال الله تعالى أمن يجيب المؤمنين إذا دعوه؟ المضطر أياً كان مؤمناً كان أو كافراً إن دعا الله أغاثه الله؛ لأنه لا مغيث إلا الله، ولا رب إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا دعوه أغاثهم ولو لم يغثهم لم يغثهم أحد أبداً، لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يمنُّ على الكافر وعلى المؤمن، وما كان عطاؤه محظوراً، بل نعمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نازلة، مستديمة، مستفيضة على هؤلاء العباد.

وصية خاتمة

وصية خاتمة أوصي نفسي أولاً وأوصيكم بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنها وصية الله إلى الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ولا تكون تقوى الله إلا باجتناب ما حرم الله والعمل بما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نستشعر دائماً وأبداً أننا مذنبون وأننا مفرطون ومقصرون في جنب الله، ومقصرون في حق الله، وأنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وأننا لن ندخل الجنة بأعمالنا مهما كثرت، فإن ما نعمله من عمل، وكل ما نأتيه من العبادة لا يكافئ ولا يقابل نعمة صغرى من نعم الله، ولكن ندخلها برحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن الفضل بيد الله أولاًَ وأخيراً وفي كل حين وفي كل ساعة؛ فهو خلقنا ورزقنا وهدانا وأنعم علينا. واعلموا أن هناك فريضة منسية مهملة يجب أن نحييها نحن -جميعاً- وهي ما أمر الله تبارك وتعالى به حين قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] نحن -إلا من رحم الله- في مثل هذه المناطق عندنا طبيعة وعادة متعارف عليها وهي المجاملة، والمداهنة، والمراءاة. لا أستطيع أن أقول: يا فلان! اتق الله، يا أخي! حجِّب زوجتك، وانتبه لأبنائك لا يكونوا مع الفساق، يا أخي! لماذا لا نراك في المسجد -إلا من رحم الله منا- من يؤِّدي الدعوة المباشرة بالنصح وبالحكمة وبالموعظة الحسنة. لكن إذا كنا تكلمنا بذلك الفاجر تارك الدين، وهذا والله ليس أسلوب الأنبياء ولا عباد الله الصالحين، ويجب أن ندعو إلى الله وأن نفرح إذا كان فينا من يدعو إلى الله، وأنتم بلا شك تفرحون إذا جاءكم من يدعوكم إلى الله من أي مكان، وهذا دليل الإيمان، وهذا شيء ملموس ويشاهده كل من جاء إلى هذه البلاد والحمد لله. لكن يجب أن تكون فرحتكم بمن يمنُّ الله تعالى عليهم بالهداية والعلم والدعوة من أبناء هذه القرى والمناطق أشد وأعظم، لأن الزائر غريب ضيف ليلة في السنة وربما ليلة في العمر يمر عليكم. لكن إذا أنبت الله النبات الحسن الطيب من أبنائكم في حلقات التحفيظ، وفي المعاهد العلمية، والمراكز الصيفية، والمساجد، ومنتديات الخير، فهذا خير باق مستمر تستفيدون منه في كل وقت ويرجع إليها الجاهل فيتعلم، والمستفيد فيستفيد، وينشرون الخير والعلم طوال السنة. نحن -كما تشاهدون- هذه الأيام من فضل الله تعالى في الأسبوع مرتين أو ثلاثاً ولكن كما سمعنا وعلمنا أن هذه أمور موسمية -أي في هذا الموسم- حيث يأتي الزوار أو الدعاة أو ما أشبه ذلك مع أن الخير -والحمد لله- في المنطقة وأبناؤها موجودون. فيجب أن نحيي هذه الدعوة وأن نقابلها بالفرح والاستبشار، وأن نهيئ لها في كل مكان، لكي تثمر وتؤتي ثمارها بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن هذا خير وبركة دائمة مستمرة لدينا هنا وليست وافدة زائرة تأتي ثم ترتحل. فيجب أن نفرح إذا جاءنا الواعظ، أو جاءنا المذكر، أو الناصح، كما نفرح إذا أمطرنا، وجاءتنا السيول، والبركات والنعم، والغيث من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وكيف نفرح بالغيث في بلادنا ولا نفرح بغيث الإيمان في قلوبنا؟ نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يُوفقنا وإياكم لما يُحب ويرضى وأن يجنبنا من فتنة القول كما يجنبنا من فتنة العمل إنه سميع مجيب. وهذا كما أشرت -والحمد لله- أمر ملموس وواضح أن الإقبال على الخير وعلى ذكر الله أصبح -والحمد لله- أمراً ظاهراً يحبه الجميع، ونحمد الله تبارك وتعالى على ذلك، ونسأله زيادة الإيمان في قلوبنا جميعاً. لكن كما أشرت وأعيد للتكرار أن الدعوة التي تنطلق من أبناء هذه البلاد إذا تعاونوا فهي دائمة وثابتة، ولا يعني ذلك أن الذي من خارجها لا يأتي، بل كل منطقة تتحرك في داخلها يأتي الدعاة إليها من الخارج. نحن لنا إخوة وزملاء من هذه البلاد -والحمد لله- ومما حولها خير منا وأفضل منا علماً وعملاً، ويدرسون هنا في المتوسطات وفي الثانويات وفي المعاهد، أو يدرسون هناك وهم -والحمد لله- يقومون بما نقوم به وأكثر وأفضل. إذاً القضية ليست قضية أنه لا يوجد طاقات تقيم هذه الدعوة والندوات باستمرار، لكن يجب أن يتعاون هؤلاء الإخوة من جهة، كما يجب علينا -نحن جميعاً هنا- أن نفتح لهم سبل الخير، وأن نعينهم عليه، وأن يجدوا فينا من التجاوب والاستماع والحرص ما يشجعهم ويعينهم على طلب الخير، وإلا فهذه المراكز -كما تعلمون- أن أصحابها لا يتقاضون عليها أجراً لا انتداباً ولا راتباً ولا ربع راتب ولا شيء؛ وإنما يفعلون ذلك احتساباً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فأنا وأمثالي من المدرسين فرحنا بالعطلة نتمشى ونذهب إلى أهلنا وإلى أولادنا ونذهب إلى كل مكان، وهذا الرجل انتهى من الاختبار وفتح المركز، هل لأنه ليس لديه أولاد أو أهل؟ ربما عنده مثل ما عندي أو أكثر ومن الأعمال، لكن عنده احتساب، وعنده رغبة في الأجر، ورغبة في الآخرة، ورغبة فيما عند الله أنه يلم شتات أبنائنا في هذه العطلة، والمؤمن لا يعرف العطلة إلا إذا مات ولقي الله، أما في الحياة فهو مسئول، ومحاسب عن وقته دائماً، فيأتون في هذه العطلة بما يحفظ الله به شبابنا. فإذا جاءتنا هذه المراكز وهذه المواسم الخيرة والمخيمات، وكذلك الندوات فيجب أن نستفيد منها، لينفعنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قلوبنا جميعاً.

الأسئلة

الأسئلة

تنزيل حكم الجهاد

تنزيل حكم الجهاد Q ما حكم الجهاد في الوقت الحاضر أثابك الله؟ A الجهاد في القرآن واجب على طلبة العلم {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] جهاد الدعوة، وجهاد النفس على طاعة الله واجب -أيضاً- في كل زمان ومكان وعلى كل إنسان، وأما جهاد الأعداء، وقتال الكفار فهو نوعان: الأول: جهاد الطلب. والثاني: جهاد الدفع. فأما جهاد الدفع فهو إذا نزل الكفار في بلدان المسلمين، وجب على أهلها أن يردوه، هم ومن حولهم حتى تتسع الدائرة إلى من هو أبعد منهم ممن لديه القدرة عليه. وأما جهاد الدعوة فهو أفضل الجهاد كما جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أن ندعو وأن نقيم دين الله في أنفسنا، ونقيمه في مجتمعنا، ثم نخرج ونغزو الأمم ونفتح البلاد لتدين بدين الإسلام وتخضع له وتنقاد لأحكامه. بعد أن نكون قد حققنا الإيمان والتوحيد، ودعونا إلى الله وانتصرنا على أنفسنا ثم ننتصر بإذن الله على أعدائنا، فهذان جهادان يجب علينا الآن في كل بلد من بلاد المسلمين أن نسعى إلى جهاد الدعوة، ونبدأ بالدعوة إلى الله وننتهي بقتال الكفار وفتح بلادهم. هذا كله يسمى جهاد الدعوة، وهذا الذي كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما جهاد الدفع فأكثر بلاد المسلمين محتلة التي لم يدخلها الروس، يحكمها الباطنيون والبعثيون والإشتراكيون والديمقراطيون، كلها مذاهب كفرية أين تذهب ومن الذي يذهب؟ وما الذي لا تدع؟ الواجب أن يحيي اليوم جهاد الدعوة ابتداءً من الدعوة المجردة وانتهاءً بقتال الكفار، لتكون كلمة الله هي العليا {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] ولا نستطيع أن نقول أكثر من هذا في هذا المقام والحمد لله رب العالمين، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الفرق الإسلامية

الفرق الإسلامية Q ما رأيك أن يجتمع المسلمون يداً واحدة بمختلف عقائدهم من صوفي وأشعري وغير ذلك يداً واحدة ضد الأعداء ثم بعد ذلك نصلح أنفسنا؟ ثانياً: هل نعتبر أصحاب الفرق والملل كفاراً أم مسلمين، وأقصد الذين يؤولون الصفات وفي هذا انتقاص لحق الله سبحانه؟ A بالنسبة للفقرة الأولى فلا تحتاج إلى كثرة شرح، فهذه نضرب لكم فيها مثالاً واحداً لو أن عدواً لنا هناك على رأس الجبل، فقال أحدنا: اعطونا العميان والعرجان والمكسرين والعجائز وكل واحد نحارب به العدو وبعد ذلك نداوي أنفسنا، هل يعقل هذا الكلام؟ نقول: لا يقاوم العدو حقيقةً ولا يحاربه إلا القادر النشيط القوي، فوالله ما لم نعالج أنفسنا فلن نستطيع أن نحارب عدونا وقد جربنا في كل بلد يُحارب فيه أهل الشرك والضلال والبدع والموبقات، الصحابة الكرام أفضل جيل، وأطهر جيل على هذه الأرض عصوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى معصية نعتبرها اليوم عادية. قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد {هذا الجبل لا تبرحوه انتصرنا أم انهزمنا} فكانت الدائرة على الكفار وانهزموا وذهبوا وجاء المسلمون يقتسمون الغنائم، وأولئك على الجبل، فقال قائدهم: [[لا تبرحوا فإن نبيكم نهاكم عن ذلك]] فعصوه ونزلوا إلا عشرة نفر، فلما نزلوا التف المشركون من وراء الجبل وكانت الهزيمة، وقتل من صناديد المسلمين سبعون، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقع له ما كاد أن يودي بحياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هزيمة بسبب ماذا؟ بسبب معصية واحدة حصلت من أفضل وأطهر جيل. هذه المعصية منعت النصر من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فكيف إذا كان فينا المبتدعة وفينا المؤول والمعطل وفينا الشيعي والمخرف والكاهن والدجال وكل شيء؟! ونقول: نواجه العدو أول شيء وبعد ذلك نصلح أنفسنا؟! أولاً: نصلح أنفسنا وقبل أن نجاهد الأعداء نجاهد أنفسنا بطاعة الله، أو مع ذلك فهذا أمر لا بد منه ويكفينا ذلك. وأما هل يعتبرون كفاراً؟ الذين يؤولون لا يعتبرون كفاراً في الجملة -أي: ليس أهل التأويل أهل كفر- وإنما نسميهم أهل بدعة وضلال وانحراف، لكن في آحادهم قد يوجد فيهم منافقون في الباطن، فيوجد من الصوفية ومن الأشعرية ومن المؤولة منافقون في الباطن، لكن الذي ظاهره فقط أنه يؤول الصفات أو يبتدع بدعاً غير مكفرة هذا لا نكفره في الجملة ولا نكفر فرقة في الجملة، بل هم من أهل الوعيد، إن شاء الله غفر لهم، وإن شاء عذبهم فإن كان لهم من الجهاد والحسنات والإيمان باليوم الآخر ما يوازي أو يزيد عن هذا الذنب غفر الله لهم، وإن كان غير ذلك فهم مؤاخذون كأهل الذنوب والمعاصي، أما أهل البدع المكفرة كما يقول: كـ غلاة الصوفية وغلاة الشيعة والجهمية الذين ينكرون جميع الصفات وأشباههم. فهؤلاء كفار خارجين من الملة، فهناك فرق خارجة من الملة، وهناك فرق غير خارجة من الملة، ولكنهم من أهل الوعيد، والفرقة الناجية هم الذين على مثل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، جعلنا الله وإياكم منهم إنه سميع مجيب.

حكم الإسبال في الثياب

حكم الإسبال في الثياب Q هل يستطيل الإنسان بالثياب؟ A لا يستطيل الإنسان بالثياب، إذا كنا لا نقوم من طاعة الله إلا بالقليل الذي لا يكلف شيئاً، مثلاً: إذا قلت لبعض الناس ذلك؟ يقول: نحن الحمد لله فينا أشياء بسيطة، مادامت بسيطة تجنبها، فلا يعقل أن شخصاً يحمل حجراً كبيراً، وتقول له: احمل هذا، يقول: هذا بسيط اتركه. يا أخي! لو حملت الصغير قبل أن تحمل هذا الكبير، لكن هذا دليل أن التزامنا ضعيف. إذاً إعفاء اللحية شيء بسيط، فالحمد لله الذي جعله بسيطاً لا يكلفك شيئاً، بل يوفر عليك في دنياك وفي آخرتك، وأيضاً تقصير الثوب بسيط، ولا ينظر الله إلى المسبل إزاره، ولا عقوبة أعظم من هذه، وبعض العلماء يرى أن صلاته لا تصح ولا تقبل وإذا قبلت فهو عاصٍ آثم، فالإثم ملاحق له. إذا رأيت إنساناً مسبلاً ثيابه، عرفت أنه من أهل الكبر، وإذا رأيت إنساناً رافعاً إزاره أو ثوبه على الكعب عرفت أن هذا عليه سمات من الخير. ما أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء إلا والخير كل الخير فيه، ولا نهانا عن شيء إلا والشر كل الشر فيه، عرفنا ذلك أو جهلناه. فيجب علينا أن نتقي الله في أوامره وفي هديه وفي سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أوجب ما يجب علينا في هذه الحالة أننا لا نستهزئ بمن يطبق السنة، يكفي أنني مُقصِّر، وأني مذنب، فإذا زدت على الذنب ذنباً أعظم وهو الاستهزاء بشعائر الدين التي كفر الله بها المنافقين {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] هذا ذنب أعظم وهو الاستهزاء بالمتمسكين بالسنة أو الثياب، أو بتعليم القرآن، أو بحضور الجمعة والجماعات، أو بحضور حلقات الذكر. الاستهزاء بهم أعظم جرماً وذنباً من أن تترك هذه الفروض أو السنن وهو مما أخرج الله به المنافقين من الإيمان نسأل الله العفو العافية.

حكم الغناء

حكم الغناء Q ما حكم الغناء مع ذكر الدليل لتحريمه، وما هي الطريقة لاجتنابه بعد الانغماس فيه؟ A الغناء كلمة عامة نفصل فيها -إن شاء الله- بإيجاز: الغناء يطلق على شيئين يجب أن نفرق بينهما. الأول: إنسان مع غنمه في الجبل أو متكئ في بيته، وأعجبته قصيدة ما فغنىَّ بها هذا يسمى غناء. الثاني: مع موسيقى ورقص نساء أو رجال وفرقة يسمونها فرقة ترقص؛ هذه يسمونها أيضاً غناء. ويأتي بعض العلماء أو بعض الناس، ويقول: العلماء اختلفوا في الغناء منهم من يقول: حلال، ومنهم من يقول: حرام. الحقيقة أنهم لم يختلفوا لو تبينا ذلك، ولكن تكلم كل منهم في شيء، بعض العلماء من علماء المدينة في الصدر الأول قالوا: 'إن أهل المدينة يبيحون الغناء'. كيف أهل المدينة يبيحون الغناء؟ الغناء ذاك الذي ليس فيه أي شيء، يحدث نافع عن عبد الله بن عمر 'لما كان ماشياً وجد راعياً معه قصبة يزمر فيها، فوضع ابن عمر إصبعه في أذنيه -سدها- يقول نافع: وأنا يومئذ صغير، فسألته فقال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع الراعي فوضع يديه هكذا'. فالغناء الذي فيه موسيقى وفيه آلات، وفيه معازف حرام، كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {سيأتي على الناس زمان يستحلون فيه الحر والحرير والخمر والمعازف}، فهذا الغناء حرام، الزنا والحرير والخمر والمعازف والقمار هذه محرمات قطعية، ونافع يقول: ' وأنا يومئذ صغير ' يقول: أنا ما وضعت إصبعي في أذني لأني صغير لأنني لا أدري ولا أعرف الحكم، يعتذر أنه لم يسد أذنه عن سماع القصبة، قصبة الراعي. فبالله لو رأوا الفرقة الموسيقية ورأوا الأفلام في الفيديو وفي التلفزيون، ورأوا الملايين التي تُبذر للمطربين والمطربات، هل يمكن أن يختلف العلماء؟ يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] يقول عبد الله بن مسعود [[والله الذي لا إله غيره إنه الغناء]] يحلف ونؤثمه! بل صدق والله. ويقول ابن عباس رضي الله عنه: [[الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع]] هذا الذي نراه، وقد ورد فيه من الزجر ما تقشعر منه الأبدان. وأنا أحيل الإخوة وفيكم طلبة علم أحيلكم إلى كتاب وهو كتاب عظيم في هذا الباب وغيره، كتاب إغاثة اللهفان في هذا الباب، ذكر خمسين وجهاً في ضرر الغناء، وذكر من كلام السلف ما يعتبر به الإنسان. وقد أباح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنساء في العرس الدف، وفرق بين الدف والطبل، ولكن متى؟ ليس في كل وقت، بل في الزواج فقط وماعدا ذلك فيحرم. فلنتق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أنفسنا، ولنتق الله في هذه الملاهي، والمعازف التي ألهتنا عن ذكر الله وشغلتنا عن طاعة الله، وأصبح العلماء لا يجدون لهم مكاناً في المجتمع، والفساق المغنون تعلق صورهم في أعلى الأماكن، كصور الملوك والأمراء، لماذا؟ لأنهم وجدوا شهوات الناس تحُب الغناء. لو أنه قيل لنا: إن الشيخ ابن باز يأتي لهذه المنطقة -وإن شاء الله يأتي لهذه المنطقة- فإن كثيراً من الناس لن يفرحوا؛ كما لو قيل: المطرب الفلاني آتٍ إلى المنطقة، يأتون من كل مكان وليروه ولو استطاع النساء لأتين وخرجن ليروا هذا المطرب العظيم، لماذا؟ نحن أشهرنا وأعلينا الفساق وأظهرناهم، وجعلنا المتقين في الدرجة الأقل. وكما تعلمون من واقعنا وبيئتنا أنها بيئة قبلية أصيلة، من أبناء الأسر الأصيلة، فأي شيخ قبيلة أو رجل محترم أو إنسان طيب يرضى أن يكون ابنه يضرب هذا الطبل أو يعمله؟ بالله هل يرضى أحد هذا الشيء؟ إخوانه سوف يتبرؤون منه وأرحامه وعمه وأبوه، فإذاً هذه مهنة حقيرة وضيعة، فإذا جاءت في التلفزيون ارتحنا؛ وقلنا هذا فنان عظيم، لماذا عظيم؟ لأنه بعيد، أما إذا كان قريباً لك، تقول: هذا خير فيه الطبال الزمار، الذي ما فيه خير لا نعرفه ولا يعرفنا، ولا يقرب لنا ولا نقرب له. لا يا أخي! لا تنظر بميزانين، واجعل ميزانك واحداً، وهو ميزان الدين والشرع، وما وضعه الشرع ضعه، وما رفعه الشرع والدين فارفعه يرفعك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

حكم تقصير اللحية

حكم تقصير اللحية Q ما حكم الإسلام في تقصير اللحية وحلق العارض كما يفعل كثير من إخواننا هداهم الله؟ ونسأل الله لنا ولكم التوفيق. A هذا مما يتكرر فيه الكلام -والحمد لله- من الوعاظ ومن العلماء وما علينا إلا نسمع فنعمل. هذه اللحية شعيرة من الشعائر الظاهرة، فالحجاب للمرأة واللحية للرجل، ثم صلاة الجماعة وصلاة العيدين وصلاة الكسوف هذه شعائر، لأنني قد أذكر الله وقد لا أذكر، وقد أصلي في الليل، وقد لا أصلي. قد أقرأ القرآن وقد لا اقرأ فلا أحد يدري، لكن الشعائر الظاهرة هي التي تعطي الإنسان صفته، فإذا سافر أحدنا إلى بلد ووجد نساء ذلك البلد متحجبات، قال: والله وجدت بلداً مستقيمة، وأهلها طيبون مسلمون، أخالطتهم وكلمتهم؟ قال: لا نعرف لغتهم لكن نساءهم محجبات، كيف عرف؟ عرف بشعيرة ظاهرة. وإذا ذهبت إلى بلد أو بلدة أو مدرسة ووجدت المدرسين كلهم ملتحيين، إذا المدرسة طيبة، لماذا؟ لأنه وجد عليهم المظهر، هذه شعيرة ظاهرة يجب أن نظهرها، وهي علامة فارقة بين المتبعين لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المتبعين للمجوس واليهود والنصارى. آباؤنا وأجدادنا ما عرفوا حلق اللحية، هذا موجود فيهم ما عرفوه أبداً، وبعض العلماء يقول بحثنا فوجدنا أنه لم يعرف المسلمون حلق اللحية إلا منذ ثمانين سنة فقط، لا في مصر، ولا في الجزائر، ولا في المغرب، ولا في أي بلد من البلدان، لم يعرف المسلمون حلق اللحية إلا منذ حوالي ثمانين سنة فقط، عندما دخل الإنجليز والفرنسيون إلى بلادنا، وإلا فإن العاصي والفاجر والذي يصلي والذي لا يصلي لا يمكن أن يحلقها هذه الشعرات التي لا نأبه بها لو أن أحداً أتلف لحية أحد ولم تنبت بعد ذلك، ماذا فيها؟ اسألوا القضاة، عشر الدية أو ربعها؟ بل فيها دية كاملة ونحن نزيلها بلا مقابل هذه خسارة. إذاً نقول: هذا لا تشهيراً ولا تشفياً لبعض الإخوان المقصرين، الذين يقصرون لحاهم ويحلقونها، فنحن فينا ذنوب ربما أعظم مما فيهم، لكن هذه من الشعائر الظاهرة، هذه من علامات الخير وعلامة اتباع الأنبياء، علامة أننا على منهج رسول الله، مخالفين للمجوس، ويجب أن نتمسك بها. لا يقول الإنسان: كيف أتمسك؟ بعض الناس يقول: أنا عندي خير ولو كنت أحلق لحيتي. يا أخي! إعفاء اللحية وتقصير الثوب والله أسهل، ما رأيكم في الذي لا يستطيع أن يأتي بالأشياء السهلة، فهل يقدر أن يأتي بالأشياء الكبيرة؟ إعفاء اللحية ليس سوى تركها فلا تحلقها، وإسبال الثوب توفر على نفسك عند الخياط حاجة من الفلوس، وتوفر وتبعد الوسخ والقذر عن ثوبك فترفعه قليلاً، فلا يضر رفع الثوب إلى الكعبين.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q لقد سمعت من بعض الشيوخ أن من ترك الجمعة ثلاث مرات متتابعات فإن الله يختم على قلبه، ما هو مخرج من فعل ذلك، لأن السائل يقول: هو منهم؟ A نسأل الله العفو والعافية، نسأل الله أن يجنب قلوبنا وقلوبكم من هذه القسوة والغفلة والختم، فإذا كان كما قال الأخ هذا يختم ويطبع على قلبه إذا ترك الجمعة ثلاث مرات، ما الذي يجعل المسلم يترك صلاة الجمعة إلا مرض مستأصل قد قطَّع قلبه وغلَّفه، وهذا بعد ذلك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، هذا من أعظم الذنوب، لأن ترك الصلاة جماعة غير الجمعة ذنب عظيم توعد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يُحرق البيوت، بل لولا ما فيها من الذرية لأحرق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيوتهم، لكن فيها نساء وفيها أطفال لا تجب عليهم الجماعة، فكيف بالذين يتركون الجمعة؟ هذا أعظم من ترك فريضة الجماعة، وهذا عيد المسلمين الأسبوعي. ومما يؤسف له أن بعض الناس يستغلون يوم الجمعة في رحلات أو في أعمال لا تقرب من الله، بل ربما -أيضاً- يسهرون سهرات طويلة ليلة الجمعة على أفلام خبيثة ثم ينامون عن صلاة الفجر يوم الجمعة، وربما -أيضاً- عن صلاة الجمعة، وأسباب الشر كثيرة وهذه من أعظم الذنوب، لأن تركها كفر كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتركها يخرج من الملة، من ترك الصلاة عامداً متعمداً لم يؤدها فقد خرج من الملة حتى إذا صلى عاد إلى الملة -نسأل الله العفو والعافية- والأحاديث في ذلك كثيرة لا يتسع المجال لسردها. ما هو المخرج؟ المخرج من كل ذنب هو التوبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والاستعانة بأهل الخير ليعينوه وليذكروه بالله، ويحضر مجالس الذكر، ويوصي جيرانه وأقرباءه وأهله بأن يوقظوه إن كان نائماً عن صلاة الفجر أو غيرها، ويستعين على نفسه وعلى شيطانه بدعائه الله بالهداية؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الهداية بالمجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. لكن الذي لا يصلى ويقول: كيف المخرج؟ فالمخرج منك أنت، وفي أمور دنيانا لا نسأل عن مثل هذا المخرج لأن الواحد منا يكدح ويعمل ويجتهد في دنياه فلا يقصر أبداً، فلا يمكن للإنسان أن يقول ماذا أفعل وهو جالس لا يعمل؟ فهو لا يقولها لك في أمور الدنيا إلا بعد أن يقول: حاولت وتعبت ولم أجد وظيفة، إذاً ابحث لي عن شيء. فكذلك في هذا نجتهد أننا نطيع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] كلنا نحب النوم، والرحلة، ونحب الراحة، لكن يجب أن نُرغم أنفسنا على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم نرتاح ونرتحل في غير الأوقات التي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها بعبادته وطاعته.

النبي سليمان والجن

النبي سليمان والجن Q نبي الله سليمان تحدث أن الجن لا يعلمون الغيب؟ A نبي الله سليمان سخر الله له أكابر الجن، وكما قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [سبأ:14] فلا تأكل الأرض أجساد الأنبياء، وتوفي وقبضه الله وهو قائم عليه السلام وبيده العصا متكئ عليها، فكان الجن يأتون وينظرون إليه ويشتغلون؛ لأن الله سخَّرهم لسليمان {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] أي إذا مات سليمان عتق الجن من الخدمة، فكانوا ينتظرون موت سليمان حتى يعفو من الخدمة ويصبحوا أحراراً، فكانوا يأتون فينظرون فإذا بسليمان واقف، فيشتغلون ويعملون في العبودية، وما دلهم على موته إلا دابة الأرض، هذه الدابة التي تأكل الخشب أكلت العصا فسقطت العصا فسقط سليمان، يقول تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] لو كانوا يعلمون الغيب، فمجرد ما مات وعلموا أصحابهم عتقوا، لكن بقوا في العذاب المهين سنين وراء سنين، وهم يقولون: إن نبي الله سليمان حي. وكل ما كان عن علم وخبرة لا يدخل في هذا الباب، المهندسون أو الجيولوجيون الذين يقولون: إن الماء على بعد كذا، هذا غير ذلك، هذا الذي هو صاحب خبرة وحرفة وعلم ولا يجزم، وإنما يقول: بإذن الله وينظر إلى عروق الأرض وما أعطاهم الله من العلم فيها، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في ذلك ما سبق، أما إذا كان عنده حضرة يحتضر، وقالوا له الجن: في هذا المكان شيء وأخبر به، فهذا لا يخلوا إما أنه يدعي علم الغيب، وإما أنه يذبح للجن -والعياذ بالله- ويقرب لهم من القربات، مما يجعلهم يخبرونه. ولهذا يوم القيامة يقول: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} [الأنعام:128] أي: أضللتم كثيراً من الإنس وأخذتوهم وعبدوكم من دون الله (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يجاوبون {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] كيف كانوا؟ كنا نذبح لهم ويعلمونا، يأتونا وندعوهم ويعالجونا، إنما استفدنا واستفادوا، لكنه متاع قليل -نسأل الله العافية- متاع ووراؤه جهنم، والله ليس بمتاع ولا استمتاع، فيقع الاستمتاع من الطرفين، يقول: اذبح له في المكان الفلاني؛ لأنهم جن، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يطلعهم على ما لا يطلعنا عليه. أما العلم البحت فلاشيء فيه، فالعلم يرفع الله به الوضيع الحقير من الناس، يأتوه الملوك ويسلموا على يده ويستفتونه، بل يرفع الله الكلاب حتى الكلاب يرفعها بالعلم، فالكلب المعلم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] الكلب العادي إذا أكل من طعامك أو ولغ في الإناء، فيجب عليك أن تغسله سبعاً إحداها بالتراب، لكن الكلب المعلم إذا اصطاد شيئاً فإن ريقه طاهر، وتأكل هذا الشيء، وانظروا كيف يجعل العلم، الشيء طاهراً ولو كان نجساً؟! فكيف إذا تفقهنا في ديننا -نسأل الله أن يفقهنا وإياكم في الدين- فما كان نتيجة العلم والخبرة والتجربة فلا يدخل في باب الكهانة والشعوذة، وإنما الذي يدخل في الشرك هو الكهانة. أما دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل: يا محمد احفظنا أو يا جبريل أو يا ابن عباس أيضاً فهذا من الشرك، وقد تقدم ما يكفي أن دعاء غير الله شرك. الحلف بغير الله يعد من الشرك، (من شرك الألفاظ) {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر الصحيح: {من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت} فمن حلف بغير الله فهذا من شرك الألفاظ لا يخرج من الملة لكنه أكبر وأخطر من الذنوب الأخرى، لأن الشرك أخطر الذنوب، والشرك الأصغر أخطر من أكبر الذنوب التي ليست بشرك، وإن حلف بغير الله معتقداً تعظيم المحلوف به كتعظيم الله أو أكثر، كما يقال لبعضهم: يحلف بالله قال: لا أصدق حتى تحلف بالولي فلان أو بالسيد فلان، وعندنا هنا شيء آخر، يقولون: ما نصدق حتى تطلق، إذا حلف بشيء غير الله، ويعتقد أنه أعظم من الحلف بالله وأبلغ، فيكون حينئذٍ من الشرك الأكبر. إذا حلف بغير الله معتقداً تعظيمه كتعظيم الله أو أكثر أصبح من الشرك الأكبر، أما إذا حلف بغير الله فقط هكذا فهذا على خطر عظيم، وأما إن حلف بغير الله بلفظ يجري على لسانه من غير قصد فيجب عليه أن يستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحين، وأن يشهد أن لا إله إلا الله.

ميراث المرأة

ميراث المرأة Q يقع بعض الناس في قطيعة الرحم وذلك بسبب منع بعض الورثة من حقوقهم، وخاصة المرأة؟ A ما خالف قوم أمر الله إلا ندموا في الدنيا قبل الآخرة، وقد فصَّل والله تبارك وتعالى أحكام الميراث، ولم يدعها لنبي ولا لعالم ولا لمفتٍ، وإنما هو عز وجل فصلها في كتابه، الأصول والأسس للمواريث، ثم فرَّع العلماء على هذه الأصول ما فرعوا ونحن ضعينا هذه الأصول في هذه المناطق، ومنطقتنا هذه إلا من وفقه الله تعالى، ولهذا نندم في الدنيا قبل الآخرة. كيف نندم في الدنيا؟ الرجل يتعب على البلاد، فمثلاً إن جاءت ثمرة -إلا من رحم الله- فإنها تكون قليلة الثمار، لكن المشاكل في البلاد والدعاوى كثيرة والتعب كثير، فيحفر الآبار ويتعب ويبني ويعمل ويجتهد ويفعل كل شيء، وهو يتعب فيه، فإذا كبر أولاد البنت أو الأخت، وقالوا يا خال نريد حقنا، أنكرهم وجحدهم ثم تعب في المشاكل، وفي القضاء، وفي المحاكم، وشهد الشهود، وأخذوا حقهم جاهزاً، يتندم على ما خسر، وتعب، وكسب، وعلى ما حفظ من محارم، ومن مخازن، ومن كذا وكذا تحمَّلها كلها طول الدهر، وأخذها أبناء الأخت باردة مبردة وعمروا وأنشأوا فيها، فتكون القطيعة بينه وبينهم والعداوة الشديدة، لماذا؟ لو أنه مجرد أن مات الأب قسمت التركة وأخذت المرأة نصيبها وأخذت حقها لبقيت القلوب سليمة ونظيفة، هذا حق ليس فيه شيء، ولكانت صلة الرحم موجودة، ولكان الذي تعبت فيه لك، ما تعبت لأولاد الناس -كما يقولون- وما يدفع الناس أن يقطعوا أرحامهم من أخوات وقريبات إلا مثل هذه الأمور، أنه تعب وأفاد، وأنه وسع، وأنه ربما المساحة كانت صغيرة وزاد كبرها، ويشهد الشهود على الركيد كله ونصفه أو أكثر، ثم يأتي الحكم فيما بعد، بأن المساحة للمرأة، فيندم على ذلك. هكذا والله ما نخالف الله في شيء إلا نندم حتى في الدنيا فضلاً عن الآخرة، والعبر كثيرة لكن ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار. يجب علينا -أيها الإخوان- أن نتق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وألاَّ نفرق بين دين الله، ونؤمن ببعض ونكفر ببعض، الذي أمرني أن أخرج زكاة الفطر وأخرج زكاة مالي وأن أحج وأصلي، هو -أيضاً- الذي فرض حق الوريث والوارثات وإن كنَّ نساءً، فهو الذي فرض ذلك، لماذا أطيعه في شيء وأعصيه في شيء؟ وأتخير من الدين ما يناسبني فأعمل به، وأترك مالا يناسبني ولا يعجبني، ألنا الخيرة أم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ يجب أن نطيع الله ونعلم أننا عباد لسنا مخيرين في أمر الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] أبداً، وإنما الاتباع والسمع والطاعة لله في هذه الحقوق جميعاً.

الشرك والسحر

الشرك والسحر Q دعاء الجن والاعتقاد في الكهان أنهم يعلمون الغيب، ودعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مثل قولك: الله ومحمد- والحلف بغير الله، أرجو من فضيلتكم البيان هل هذه الأمور من الشرك المخرج من الملة أم لا؟ وما حكم من يخالف من يوجد عندهم هذا علماً أنه أنكر عليهم وأرشدهم وخاصة الأقارب؟ A أولاً: نسأل الله أن يرحمنا وأن يعافينا وإياكم من الشرك، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] هذا الخطاب لمن؟ لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول رب العزة والجلال لأفضل الخلق وخاتم الرسل، رسول العالمين ورحمته إليهم، يقول: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وهذا ليس فقط للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، بل لمن قبله من الأنبياء فنحذر الشرك {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72]. فعافانا الله وإياكم من الشرك، وكيف نشرك ونحن أمة التوحيد الذين نقول: نشهد أن لا إله إلا الله؟ نقولها ثم ننقضها، فمن نواقضها الشرك بالله بأي نوع من أنواع الشرك -عافنا الله وإياكم- فمثل هذه الأمور كلها نجتنبها وغيرها، فإذا ما اجتنبنا الشرك بالله وعرفنا أنه خطير، فلا نستنكر ممن يحُذرنا من الشرك؛ لأنه خطير حذَّر الله منه الأنبياء. ننظر إلى دعاء الجن إذا دعاهم الإنسان واعتقد أنهم يضرون وينفعون، وقال: يا فلان من الجن! افعل وافعل، يا جن! افعلوا به وافعلوا وخذوه، معتقداً دعائهم، كما يدعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهذا القصد، فهذا شرك أكبر، ودعاء غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن حقيقة الشرك هي هذه؛ لأن العبادة هي الدعاء كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {الدعاء هو العبادة} ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. إذا العبادة هي الدعاء والدعاء هو العبادة، فلا يدعو أحد أحداً إلا وقد عبده وهذا مما لا شك فيه، لكن إن كان قالها لأن اللسان قد اعتادها فقط ولا يقصدها ولا يعتقد حقيقتها؛ فيجب عليه أن يكفرها بشهادة أن لا إله إلا الله، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، كما كان الصحابة الكرام أول ما أسلموا وما زالت تجري على ألسنتهم بعض ألفاظ من الشرك، والحلف بغير الله. ويجب علينا أن ننصحهم جميعاً بغض النظر أننا نقول: خرجت من الملة، أو ما خرجت، نقول: دعاء غير الله شرك أكبر، ونقول: اتق الله ولا تشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. والاعتقاد في الكهان أنهم يعلمون الغيب هذا أيضاً من الكفر المخرج من الملة، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَعِنْدَهُ} [الأنعام:59] وتقديم الظرف هنا للاختصاص، أي: أن علم الغيب له وليس عنده أحد غيره {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] فإذا أتى شخص وقال: فلان يعلم الغيب، واعتقد ذلك كفر بهذه الآية وبأمثالها وكثير من الآيات والأحاديث. فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن أحداً يعلم الغيب؛ حتى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب إلا ما علَّمه الله وأظهره الله تبارك وتعالى عليه، ولهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- ونقرأ هذا في مناهجنا والحمد لله، ذكر من رءوس الطواغيت الخمسة من ادعى علم الغيب، الذي يدعي علم الغيب ليس مجرد مشرك، بل هو طاغوت، والطاغوت أعظم من المشركين، لأن المشركين إنما يشركون لتعلقهم بالطاغوت واتباعهم له، فالطاغوت مادة وأساس الشرك مثل هؤلاء. وحقاً والله! انظروا الكهان المنتشرين في بعض المناطق، يدعون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون الإنسان باسمه واسم زوجته وأمه وكذا وكذا فيما يزعمون وفيما يدعون، فكم من الناس من يعتقد في هؤلاء، فيشرك الناس بسببهم، فهؤلاء طواغيت ولا غرابة أنهم يخبرونا بأمور غيبية. ونقول: إنهم يطلعونا على أمور قد تكون غيباً بالنسبة لنا، وهي ليست بغيب بالنسبة لهم، وإنما يوحي بعضهم إلى بعض، هؤلاء لهم قرناء كل إنسان منا له قرين من الشياطين، والشياطين يوحي بعضها إلى بعض {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:221 - 223] كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما بين في الحديث يكذب مائة مرة ويصدق مرة واحدة، يفتن الله تعالى الناس بمرة واحدة يصدق فيها ذلك الكاهن، يلقي الشيطان الكلمة التي سمعها من الملأ الأعلى -من الملائكة- يلقيها قبل أن يدركه الشهاب -فتنة من الله- فيسمعها وليه من الإنس -الكاهن- فيخلط معها مائة كذبة، ويقول: فلان ستكون له كذا ويكون أمراً صحيحاً، وفلان وفلان، فيكذب معها مائة كذبة، فإذا اكتشف الناس أمره وقالوا: هذا كذاب، قال: ذاك اليوم كذا وبان كذبه، قال: هذا وإذا هو كذب، جاء الشيطان وأولياؤه وأعوانه، وقالوا: نسيتم تلك المرة عندما قال وبان صدقه! فيذكرون الناس بواحدة وينسون المائة الكذبة، لأن هؤلاء أعوانه من شياطين الجن والإنس يتعاونون. فليس هناك غيب، لا يعلم الغيب إلا الله، وإنما وحي يوحيه الشياطين بعضهم إلى بعض، قرينك من الشياطين يذهب إلى الكاهن ويقول: سيأتيك فلان بن فلان واسم أمه كذا، واسم زوجته كذا، وعندها مرض كذا وكذا، ويدخل عليه، فيقول له: أنا أعرف لماذا أتيت أنت فلان بن فلان، وزوجتك كذا وعندها مرض كذا، فيقول: هذا الكلام صحيح، فلو لم يكن عنده برهان ما كان ليقول هذا الكلام ليدلس به علينا، لكن الشيطان ينسينا كلام الله وسنة رسوله، ويخرجنا من الملة بهذه الحيل الشيطانية الخبيثة عافنا الله وإياكم منها.

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين Q بعض الشباب يصدر منهم العقوق لآبائهم، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟ A هؤلاء الشباب مهما كانت تقواهم، ومهما كانت طاعتهم إذا عقوا آباءهم وأمهاتهم فهم والله على خطر، لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أوصى في الأب المشرك؛ المجاهد لأبنائه من المؤمنين أن يكفروا، يقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] الأب حتى لو كان كافراً يجب على الابن أن يصاحبه بالمعروف، وأن يحسن إليه مكافأة منه، ومن ذا الذي يكافئ أباه إلا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إلا من وجده عبداً فاشتراه فأعتقه} ولكن من الذي يجازي والديه أو أباه بما قدم له من الخير ومن الفضل، مقابل ماله عليه من الحق. فلنتق الله نحن الأبناء والشباب في آباءنا وأمهاتنا، ومن جانب آخر: يجب على الآباء أن يتقوا الله في أبناءهم، ويجب على الآباء أن ينظروا هل تربيتنا لأبنائنا مما يوجب العقوق أو مما يوجب الإحسان، وإذا لم تحسن إلى ابنك ولم توجهه ولم ترشده ولم تقومه، فكيف ترجو منه أن يكون باراً بك، والأمثلة كثيرة من واقع حياتنا، ومن واقع من قبلنا لا يتسع المجال لها، لكن المسئولية مزدوجة من الآباء ومن الأبناء، أن يتقي الله كل واحد منهما في حق الآخر.

توجيه الآباء للأبناء

توجيه الآباء للأبناء Q بعض الآباء يحضرون إلى المسجد دائماً إلا أنهم لا يحضرون أبناءهم للصلاة، فإذا نصحته قال: لا أستطيع أن أحضره، فهل يعتبر الأب في هذا الحالة آثم؟ وما هو العلاج؟ A يجب على الإنسان كما أنه يتقي الله ويحرص على الخير لنفسه أن يدعو إليه أبناءه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] وكان إسماعيل كما وصفه الله أنه {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55]، هذه من صفات المرضيين عند الله تبارك وتعالى. نحن نشكو في هذه الأيام من ضعف السلطة الأبوية، ليست فقط مع الأبناء، بل مع الزوجات، يقول: لا استطيع، وإن تكلمنا عن الأبناء قال: لا أستطيع، وإن تحدثنا إلى المدرسين ومدراء المدارس عن الطلاب، قالوا: لا نقدر، فعندنا خلل في تربيتنا، وهو ضعف السلطة عن إيقاع التأديب أو التوجيه، لماذا؟ ما السبب؟ لعلنا نذكره فيستعين الآباء على شيء من تربية أبنائهم. السبب أن التوجيه ليس موحداً، كما كان في السابق، ففي السابق كان الطفل لا يتلقى التوجيه إلا من الأب، ولهذا على ما كان فينا من الجهل، كان الأبناء يقدرون آباءهم، أما الآن فالتوجيه متعدد، والمناهج متعددة الطرق، الأفلام توجه، وملاعب الكرة توجه، والبشكات والسهرات توجه، وجلساء السوء ينصحون ويوجهون، ويأتي الأب ينصح ويوجه فيضيع توجيهه مع هؤلاء، لأن المصادر تعددت. وخطيب الجمعة يخطب ويذكرنا بالله ويعظنا خطبة ربع ساعة أو نصف ماذا تعمل مع أفلام ومسلسلات وحلقات ومجلات وصحف وملاعب ومقاهٍ ومجالس سوء، ماذا تصنع هذه مع تلك؟ لا تؤثر، ولذلك أصبحت السلطة ضعيفة، سواء من الأب أو من المربي أو من الزوج؛ لأن هذا سبب من أسبابها، وهو تخلخل في التربية، وتخلخل في التوجيه الاجتماعي مما أدى بنا إلى هذا. فإذا أردنا أن نستعيد ذلك، فيجب أن نحرص -أولاً- على إعادة توحد السلطة التوجيهية، بمعنى: أن الأب يوجه للخير، والمدرس للخير، وخطيب الجمعة كلهم يوجهون للخير، والمجالس تكون مجالس خير، وأيضاً وسائل الإعلام يجب أن تكون على خير، وإلا فلا ينظر ولا يستمع إلى ما فيها من شر. فإذا كنا كذلك نجد أن الزوجة تطيع زوجها، والابن يطيع أباه، والأب يحترم أبناءه ويعرف قدرهم، وبهذا أصبحنا في مسار تربوي سليم بإذن الله.

مجالس الغيبة والنميمة

مجالس الغيبة والنميمة Q كثير من المجالس يحدث فيها الغيبة والنميمة، وكذلك الاستهزاء بالملتزمين، فما الحكم في ذلك؟ A هذه الغيبة والنميمة وهذه المجالس، كل إنسان منا يجب أن يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعلم كما قال عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. ويوم القيامة ماذا يقول المجرمون إذا رأوا الكتاب: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه، ولم يصلوا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان عليهم ترة يوم القيامة} كان نقيصة وحسرة وندامة عليهم يوم القيامة، لأنهم جلسوا ولم يذكروا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لو جلسوا وتحدثوا فقط في دنيا حلال وقاموا، لوجدوا أن هذا نقص يوم القيامة، فكيف إذا كان الحديث في الحرام، نسأل الله العفو والعافية. ما الذي يكب الناس على مناخرهم في النار، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ معاذ {ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم}. ألا ترى أن كلمة من الغيبة والنميمة قد تفسد ما بين زوج وزوجه، وما بين قبيلة وقبيلة، وما بين قريب وقريبه. إذاً من الذي قطع الأرحام؟ ومن الذي كان السبب في هذا الفساد العظيم؟ تلك الكلمة، الكلمة التي قالها النمام أو قالها المغتاب، وهذه الغيبة هي جزء مما يجب أن نذكر أنفسنا به -جميعاً- وهو حق المسلم على المسلم، ونحن في ما بين الله عز وجل وبيننا في تقصير شديد، ولكن هو أخف مما بيننا بعضنا مع بعض. ونحن بالذات في هذه المناطق وهذه القبائل نخشى أن نجاهر -والحمد لله- بكثير من المعاصي من فضل الله، لكن مع بعضنا بعضاً فلا نبالي أن نجاهر ولو برفع السلاح في وجه المسلم، وهذه هي الجاهلية بعينها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر}. انظروا هذه المصيبة، يقول في خطبته في يوم النحر أو في يوم عرفة: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} هذه أعمال الكفار، أعمال الجاهلية، ويجب أن تتقي الله من الغيبة والنميمة والفساد والمضاربات والمنازعات، وكل ما يخل في حق أخيك المسلم. إن المسلم عند الله هو كل من قال: لا إله إلا الله، لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي لنا بمفهوم آخر يصحح به نظرتنا: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} هذا هو المسلم، وإلا دعوى لا إله إلا الله كثير من يدعيها، مجرد الصلاة كثير يصلي لكن إذا لم يسلم المسلمون من أذاه فلم يحقق حقيقة الدين ولا حقيقة الإسلام. لماذا قدم اللسان على اليد؟ هذا -والله أعلم- لأن أصل كل شر هو من اللسان، حتى الاقتتال باليد يسبقه التخاصم والتلاعن -نسأل الله العفو والعافية- ثم يكون التماسك بالأيدي، فاللسان إذا حفظناه فهو حجاب لما بعده، هذه قاعدة -مثلاً- وعليها أمرنا الله أن نغض النظر عن النساء، فإذا غضضنا النظر عن النساء لم نقع في الزنا، وأمرنا الله أن نجتنب الشبهات، فإن كنت لا أعرف هذا أحلال أم حرام أجتنبه، فإذا اجتنبت الشبهات لم آكل من الحرام، فهذه قواعد شرعية عظيمة، حتى يكون كل إنسان يتوقى بترك الأخف حتى لا يقع في الأعظم، فنتوقى أن نؤذي المسلمين بألسنتنا، وبذلك نضمن -بإذن الله- أننا لن نؤذيهم بأيدينا، والله أعلم.

الاحتجاج بأن الإيمان في القلب

الاحتجاج بأن الإيمان في القلب Q إذا أردت أن أنصح إنساناً يقول: الإيمان في القلب، رغم أن سلوكه مخالف لذلك، فماذا أجيب مثل هذا وفقكم الله؟ A أولاً: نسأل الله أن يهدي مثل هذا الإنسان {وَكَانَ اْلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] إن كانت المسألة بالجدال؛ فإنه يقدر أن يقول: الإيمان في قلبي، ويقول: أنت ما اطلعت على قلبي، ويقول: وما أدراك أني كذا وكذا، كل هذا يقوله جدلاً. أما إن كانت محبة ونصيحة، يقول: جزاك الله خيراً وأحسن الله إليك، ويعمل بالنصيحة، هذا الذي يجب، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم إذا ذكّر بالله وإذا نصح، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يقول: {التقوى هاهنا، التقوى هاهنا} نعم، لماذا قالها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالها ليبين لنا معنى الحديث الآخر الصحيح {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}. لماذا؟ لأن بعض الناس يمكن أن يعمل الطيب، ويظهر بمظهر حسن، ويظهر مع المتقين في المظهر وقلبه خالٍ من الإيمان، فهذا نقول له: التقوى في القلب، اجعل قلبك يخشع لله، ويجب أن يعلم أن التقوى في القلب لا في المظهر. لكن إنسان يأتي ولا يوجد له مظهر فهذه حالة أخرى لا نعكس دين الله، لا نجعل هذا لهذا وهذا لهذا، فقد جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محل دواء لداء، ولو أعطيت دواء لداء آخر ما صلح، فدواء الذي يظن أن الدين مظهر وقلبه خاوٍ من الإيمان أن يعلم أن الله إنما ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فيتق الله في قلبه ويؤمن بالله في قلبه، ولا يظن أن المظهر يكفي، والعكس الذي لا مظهر له من مظاهر الخير ولا يحرص عليه ويدعي أن الإيمان في قلبه، نقول له: أين هذا الإيمان، أين ثمرته، أين نتيجته؟ ما نكذبك -إن شاء الله- عندك إيمان، ولكن أظهر ثمرة هذا الإيمان، يجب أن نراها، وإلا فإنها دعوى، وأي دعوى لا يصدقها البرهان أو الدليل لا تقبل، فنحن والله لا نخشى إلا على الذين يُحبون الخير ويحرصون عليه، ويؤدون الجماعة والجمعة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، نخشى عليهم أن تكون قلوبهم فيها ضعف إيمان أو خالية منه، عافانا الله وإياكم. أما ذاك الذي لا يأتي هذه الأفعال ولا يعمل من أعمال الخير شيئاً، ويدَّعي الإيمان هذا والله على خطر عظيم، نخاف على ذلك، فكيف خوفنا على هذا الذي لا يعمل شيئاً أبد. نسأل الله أن يهدي قلوبنا وأن يصلحها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القدوة في ذلك وهو أكثر الناس إيماناً، وكذلك أصحابه كانوا أكثر الناس امتثالاً وطاعة وعملاً، لأنهم كانوا أكثر إيماناً في قلوبهم.

شهادة الزور

شهادة الزور Q هناك أناس لا يتركون الصلاة في الجماعة وغيرها إلا أنه قد لا يتورع عن شهادة الزور ويكتم شهادة الحق إن طلبت منه؟ A مثل هذا السؤال يتكرر دائماً ونستشف منه أشياء: أولاً: كثرة الدعاوى في منطقتنا هذه، لماذا نحتاج إلى شهادة الزور أو نحتاج إلى شهادة الحق؟ كل هذا بسبب كثرة الدعاوى. ولو عرف كل إنسان حقه ووقف عند حده، ما احتجنا إلى شهادة الزور ولا إلى شهادة حق. لكن الدعاوى لكثرتها عندنا هنا، فيأتي الإنسان ويأتي ما نسميه القالة ويأخذ القالة، لا بد أن ينتصر بحق أو بباطل، لا حول ولا قوة إلا بالله. ويأتي القريب والصديق والرحيم، ولا بد أن يعينه وأن ينصره، سبحان الله! كان الناس في الجاهلية يقولون: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، هذه قاعدة من قواعد الجاهلية، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لأصحابه الكرام: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فتعجب الصحابة رضي الله عنهم- هذه قاعدة الجاهلية يقولها نبي الهدى والرحمة والعدالة- فقالوا: يا رسول الله عرفنا كيف ننصره إذا كان مظلوماً، فكيف ننصره إذا كان ظالماً؟ قال: تردعه وتحجزه عن الظلم فذلك نصره}. كم واحد منا يطبق هذا الشيء في منطقتنا؟ نرجو أن يكونوا كثيرين، ونرجو أيضاً أن يزداد الذين إذا رأوا الظالم أخاً أو قريباً أو رحيماً أو جاراً أو شريكاً، ينصرونه بأن يردعوه عن ظلمه، فلا يحتاج إلى شاهد ولا إلى مشهود. ومع ذلك فمن أدَّى صلاة الجماعة وشهد شهادة الزور، أو من حافظ على الصلاة والزكاة والصيام والحج وذكر الله وقراءة القرآن، لكنه يمشي بالنميمة ويفسد ما بين الناس، ويوقع ما بين الأقرباء والشركاء والجيران، ويرتكب الموبقات التي لا يلقي لها بالاً، هذا من هو؟ هذا هو المفلس كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} هذا مفلس، أي: أنه فقير ما عنده شيء، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يعدل موازيننا، دائماً موازيننا أن الظالم لا ينصر إلا أن يعاون، قال: {تنصره بأن تردعه} إذاً غيرنا الميزان. أيضاً هنا نغير الميزان، فالمفلس ما هو الذي هو هذا حاله، والذي فيه خير، ليس الذي عنده أموال كما نقول هنا في المنطقة، نقول: فلان فيه خير، أي: أن عنده أموال وعنده وظيفة. ليس هذا هو المعنى، فموازيننا يجب أن نعدلها، وأن نزنها بميزان الله، {المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة وعنده من الحسنات مثل جبال تهامة ولكن يأتي وقد شتم هذا، وظلم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيؤخذ من تلك الحسنات، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن كفت وإلا أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه فطرح في النار} نسأل الله العفو والعافية، فهذا المفلس. فيا إخوان! نسأل الله أن لا يكون فينا شقي ولا محروم ولا مفلس. فلا نشهد الزور، ويجب أن نعلم أن شهادة الزور يا إخوان لها معنيان في ديننا كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72]. شهادة الزور التي نعرفها جميعاً أن يشهد الإنسان بغير الحق. وشهادة الزور، أي: الحضور، حضور اللهو واللعب وحضور ما يشغل عن طاعة الله، هذه شهادة اللهو. شهد الزور: أي حضره. فمن شهد ما يلهي عن طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -أيضاً- فقد شهد الزور. فعلى كل حال من اتقى الله وصلى وصام لا يشهد الزور لا بهذا المعنى ولا بذاك المعنى إن شاء الله.

حكم استخدام الخادمات والعمال الكفار

حكم استخدام الخادمات والعمال الكفار Q ما حكم الخادمات في البيوت، وكذلك العمال في المؤسسات إذا كانوا كفاراً؟ A هذه المنطقة -مع الأسف- وأقولها بصراحة، آباؤنا يعلمون والكبار منا يعلمون، ويظنونا مثل الجاهل الذي لا يدري. كان آباؤنا يخدمون في المدن، يتمنى الواحد أن يخدم بالحجر والطين في البيت يسمونه (مجاود)، في أي مكان في تهامة أو في المدن، ليجد ما يقيتنا وما يعيشنا. وكان كثير من الآباء -كما نقلوا لنا- يسأل الله ويتمنى أنه لو جاء له أكل يأكله بما يكفي في ذلك اليوم أن يفرش السجادة، ويعبد الله ذاك اليوم، ولا يريد شيئاً من الدنيا أبداً. ولكن لما فتحت الدنيا، ثم فتحت، وإذا بنا نستقدم الناس يخدموننا من أطراف الأرض، من شعوب كنا نخدمها في الحج، والله إن من آبائنا من خدمهم في غير مقابل إلا أن يجد ما يأكل، لا يعطونه إلا ما يأكل من بقايا طعامهم، واسألوا آباءنا عن هذا. والآن نستقدمهم ليخدمونا، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] لنفرض أن الله أنعم علينا وأخذ نعمتهم، أو ليس الحال سينتقل والدول ستزول، وننتقل عافانا الله وإياكم. إذاًَ: يجب أن نشكر نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما يلي: أولاً: أننا أصبحنا نستورد الخدم والخادمات -اللهم لك الحمد- هذه والله نعم عظيمة. أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وهو من هذه البلاد الطيبة، يقول: أبو هريرة يمتخط في الكتان. ولما فتح الله عليه وصار عنده منديل -من القطن- من الكتان، فقال: أبو هريرة يمتخط بالكتان، استشعر هذه النعمة العظيمة لما أنعم الله بها عليه، ونحن الآن أبناء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقبيلته وكلنا في المنطقة جميعاً أصبحنا نستقدم أهل الدنيا، بعضهم تكون الخادمة متعلمة وتأتي لتخدم الأمية مسكينة لا تعرف شيئاً، وتلك متعلمة ومن بلاد متطورة قبلنا، -سبحان الله- هذه عجيبة، لكن يجب أن نأخذ منها العبرة وهي: أننا إن عصينا الله أزالنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فخدمنا الناس كما كنا نخدمهم، فهل نعصي الله بذلك؟ اللهم لا. والمرأة إذا استقدمت لا يجوز أن تستقدم إلا بمحرم، من كان مضطراً ولا بد أن يأتي، فيأتي بها مع محرم وليعزلها عن أهله وعن بيته، لا يجوز أن يراها ولا يجوز لمحرمها أن يرى أهله أبداً وهذا شيء لا بد منه. وإن كانت من غير محرم فلا يجوز أن تبقى في هذه البلاد، ولا يجوز أن تحج ولا أن تعتمر؛ لأنه لا محرم لها، ومن سيكون معها لو أردنا أن نسفرها؟! قالوا: تسافر مع صاحبها الذي استقدمها، لأنه هو الذي أتى بها، وهل هو محرم لها؟ والله ليس بمحرم. إذاً يكون البلاء وما أكثر ما يقع، واسألوا المحاكم والهيئات في المدن، وأيضاً ربما في القرى عن جراء ما يقع من ذلك. هذا إذا كانت مسلمة، أما إن كانت الخادمة كافرة أو العامل كافراً، فإنه يحرم ولا يجوز أن يُؤتى به إلى جزيرة العرب، بل وفي مكة، والرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى في مرض موته -ولا يوصي في ذلك الوقت إلا لأمر مهم مثل الصلاة وأمثالها- بألاَّ يجتمع في جزيرة العرب دينان، {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يجتمع فيها دينان}. وقد أفتى علماء اللجنة الدائمة للإفتاء جميعاً، والشيخ عبد العزيز -رحمه الله- وحده، وكذلك بقية العلماء؛ وبينوا بمقتضى هذا الحديث وغيره أنه لا يجوز ولا يحل أن يستقدم أحد العمال الأجانب الكفار، لأن الأجنبي هو الكافر، ولا يجوز أن يستقدم الكافر أياً كان، وإنما إذا جاز شيء من ذلك فللضرورة للحاكم ولولي الأمر في أمور حساسة لا يمكن أن يجيدها أو يعرفها المسلمون، أما نحن نستقدمهم لأتفه الأعمال، نسأل الله العفو والعافية. وإلا فـ الهند فيها (مائة مليون) مسلم، ومع ذلك يذهب بعض الناس ولا يسعه (المائة مليون) ويأتينا بعابد البقرة، هنا أنا رأيتهم وسألتهم: خياط، وعامل، وسواق كلهم عباد بقر، وعابد النار من اليابان ومن الفلبين ومن كوريا، لماذا يا إخوان؟ والله إن هذا نذير الهلاك إلا أن نرجع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونوالي من والى الله ونعادي من عادى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ما أحب أن أطيل لكثرة الأسئلة، ولكن لعل فيما مضى عبرة إن شاء الله.

الشيوعية بين السقوط وإعادة البناء

الشيوعية بين السقوط وإعادة البناء تحدث الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن حقيقة الشيوعية، وما هي المراحل التي مرت بها الشيوعية حتى باتت قوة مؤثرة على الصعيد الدولي، كما بين دور المعسكر الغربي في السعي إلى إضعاف المعسكر السوفييتي الذي يمثل مركز الشيوعية في العالم، ومن ثم القضاء عليه ليتسنى للمعسكر الغربي الانفراد بالسيطرة على ثروات الأمم، وقد استخدم الغربيون لهذه المهمة رجلاً من داخل المعسكر الشيوعي، والذي كان له دور فاعل في القضاء على هذه القوة المنافسة، وكان هذا الرجل هو الرئيس الروسي جورباتشوف. ثم تحدث الشيخ عن مستقبل العالم وأشار إلى أن المستقبل في آخر الزمان هو لهذا الدين، ودعم كلامه ببشارات من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

أهمية الحديث عن الشيوعية

أهمية الحديث عن الشيوعية الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمة للعالمين، القائل: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم} وعلى آله وأصحابه وسلفنا الصالح أجمعين. وبعد: فأشكر الله تبارك وتعالى على ما أنعم به علينا من نعمة الإيمان. أما الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه، ونريد أن نستمع جميعاً، ونحرص كل الحرص على كل ما له علاقة به وعلى كل تحليل له، وهو موضوع (الشيوعية بين السقوط وإعادة البناء) ومستقبل العالم الإسلامي في ضوء هذه التحولات العالمية الكبرى. هذا الموضوع موضوع مهم للغاية، ومتشعب جداً، ولا يستطيع الإنسان أن يحدد كيف يبدأ وكيف ينتهي، أو كيف يلم بأطرافه. أما أهميته فلا تخفى على أحد، فنحن جزء من هذا العالم المتغير المتماوج، والعالم تقارب بشكل لم يسبق له نظير مطلقاً، وأصداء التغييرات العالمية تدخل -لا نقول كل دولة أو كل مدينة- بل نقول: تدخل كل بيت يومياً، وقضايا مصيرية تتحدد بناء عليها مصائر الشعوب ومستقبل الأمم، ومثل هذه الأمور لا يجوز أن تمضي هكذا دون أن نستعمل انتباهنا بالتحليل والتدقيق. ونحن الأمة الإسلامية مع الأسف الشديد، تعودنا في الآونة الأخيرة، على ما يمكن أن نسميه (الأحلام أو الدغدغات العاطفية) أمام قضايا كبرى كان ينبغي لنا، بل يجب علينا أن نأخذها مأخذ الجد والعقل والدراسة، والتحليل العلمي المنطقي البعيد كل البعد عن الآثار العاطفية، على ما للعاطفة من دور. وهذا الحدث العظيم، نموذج لذلك، ونعني به ما يجري الآن في الاتحاد السوفيتي وقد شارف على إكمال السنة الخامسة من بداية عملية أو فكرة إعادة البناء، كما نادى بها الرئيس السوفيتي جورباتشوف، فماذا وراء هذه العملية؟ وماذا يريد بها جورباتشوف؟ وما هي أصداؤها في الغرب؟ وما هي آثارها في واقع الأمة الإسلامية؟ كلها قضايا مهمة. وإنني لأقول وأؤكد؛ أنني إن استطعت أن أثير الانتباه إلى أهمية القضية وتحليلها ودراستها، فإنني أكون -إن شاء الله- قد نجحت فيما أريد، بغض النظر عن أي تفصيل آخر، إذ الموضوع أخطر وأهم مما يخيل لنا، ومما كتب أو قيل في الأعم الغالب عن هذا الحدث العظيم، الذي وصف بحق بأنه أكبر حدث في تاريخ العالم المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية. أو ليس عجيباً أن ذلك الستار الحديدي ينهار! أو ليس عجيباً أن دولاً استبدادية دكتاتورية، تنهار في أسابيع متلاحقة! وكأنها أمور تجري على المسرح، وإنما هو مسرح الحياة الكبير، وبطل هذا المسرح، وبطل هذه اللعبة رجل داهية متميز له صفات سوف نعرض لبعضها -إن شاء الله- في الحديث عن خططه وأعماله، جعلته يكون -كما أجري في أكثر من إحصاء- رجل العالم للسنوات الحالية. أو ليس عجيباً! أن الاتحاد السوفيتي يتغير تغيراً مفاجئاً مذهلاً إلى حد الإعلان أن الحزب الشيوعي لن يحتكر السلطة، وأن البلاد تؤمن بالتعددية الحزبية، إنها لأمور لا بد أن تشد الانتباه، ولا بد أن يتصدى لها المؤمنون، والحريصون على مستقبل هذا الأمة بكل تحليل وتدقيق. ونحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بادئ ذي بدئ أننا نثق في المستقبل البعيد، بلا ريب ولا مرية، ولكن يجب علينا أن نحسب الحساب في مستقبلنا الحالي، في واقعنا المعاصر، ولمستقبلنا القريب، وكيف يمكن أن نكون على مستوى التحدي، وعلى مستوى المواجهة. إن الشيوعية التي كانت بعبع العالم وصنمه في الستينيات الميلادية (الثمانينات الهجرية) مذهب فكري معروف لدى العالم كله، ولكنه في الوقت نفسه مجهول، فمعروف أنه نظام جماعي استبدادي مطلق، وأنه نظام شمولي -كما يسمى- ونظام عقائدي يبني كل صغيرة وكبيرة على العقيدة والمبدأ، ويفسر التاريخ تفسيراً مبنياً ومشتقاً من العقيدة. يحلل جميع الأحداث تحليلاً مبنياً على العقيدة الماركسية، ولكن الحقائق الخفية، أو المجهول لا يظهر إلا بعد حين، ومما ينبغي أن يعلم -ونحن لا نستطيع بالطبع عرض الشيوعية كاملة- ولكن نعرض فقط ما يتعلق بالتفسير المادي للتأريخ لنصل منه إلى المرحلة المعاصرة التي هي محل النزاع ومحل النظر والتحليل.

المراحل التي مرت بها الإنسانية عند الشيوعية

المراحل التي مرت بها الإنسانية عند الشيوعية إن الشيوعية تقسم تاريخ الإنسانية إلى مراحل خمس، وهي بإيجاز:

مرحلة الشيوعية البدائية

مرحلة الشيوعية البدائية مرحلة الشيوعية البدائية -كما تصوروها- وهي أن العالم أول ما وجد كان شيوعياً بحتاً، ويسمونها الشيوعية الأولى أو البدائية، أي تماماً على ما نطلق عليه نحن، (بحق وحقيقة) كما نطق به وصرح به كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أن البشرية الأولى أول ما كانت على الإسلام: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال المفسرون: أي: على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عياض بن حمار - الصحيح-: {وإني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين} فهكذا عشرة قرون، كانوا على التوحيد حتى ظهر الشرك في قوم نوح. والمقصود أن هذه هي المرحلة الأولى كما يزعمون.

مرحلة الرق

مرحلة الرق يتبعها بعد ذلك، أو جاء بعدها مرحلة الرق، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، وسببه عامل مادي بحت. كيف انتقلت الإنسانية بزعمهم كما نظرها ماركس وفريدرك أنجلز وغيرهما إلى مرحلة الرق؟ قالوا: عندما اكتشفت الزراعة عن طريق المرأة -كما يقولون- ورأوا أن البذور التي تتساقط تنبت، فكان هذا العامل الاقتصادي عاملاً أساسيا واحداً للانتقال إلى المرحلة التي تليها وهي مرحلة الرق.

مرحلة الإقطاع

مرحلة الإقطاع بعد مرحلة الرق يقولون: انتقلت الإنسانية أو المجتمع البشري بعمومه إلى مرحلة الإقطاع، وكيف انتشر الإقطاع؟ أيضاً بعامل مادي، والمقصود أن المراحل المهمة هي الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية.

مرحلة الرأسمالية

مرحلة الرأسمالية وكان الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية نتيجة اكتشاف الآلة، كما يقولون في أوروبا الثورة أو الانقلاب الصناعي.

مرحلة الشيوعية

مرحلة الشيوعية ثم المرحلة الأخيرة بعد الشيوعية الأولى والرق والإقطاع والرأسمالية، تأتي المرحلة الأخيرة التي لا بد أن تقع حتماً وهي الشيوعية النهائية. المرحلة الأخيرة هي مرحلة سيادة الشيوعية وسيطرة الشيوعية على العالم كله، حيث تلغى الدول، فلا دولة، ولا أسرة، ولا ملكية خاصة، ولا قوانين، ولا مبادئ، ولا أخلاق، إلا مبادئ (البروليتاريا) أي الطبقة الكادحة التي سوف تحكم العالم أجمع، ويكون الفردوس الذي يحلم به الناس جميعاً، كل بحسب طاقته، ولكل بحسب كفايته. هكذا حَلُم الفكر الشيوعي وأسس هذا في التطبيق أو في مبدأ المنهج النظري وهو -كما هو معلوم- تحوير لمنهج الجدل، أو (الديلكتاليكي)، الذي وضعه هيجل الفيلسوف المثالي الذي هو أكبر فيلسوف ظهر في أوروبا في عصورها كلها، وعلى الأقل في العصر التاسع عشر، أو العصر الحديث، فحول عالم المثل الخيالية، إلى عالم الواقع، وحول التطور الذي نادى به داروين من نظرية علمية بيولوجية (أحيائية) إلى أن وضع أساساً للتغير الحتمي، عندما يصبح العالم حتماً وقهراً شيوعياً.

حقيقة الشيوعية ونبذة عنها في فترة حكامها

حقيقة الشيوعية ونبذة عنها في فترة حكامها نسوق هذه الحقيقة لنقول: إن الفكر الشيوعي يقول- وهذا من ضرورياته ولا ردة عن هذا المبدأ- إن العالم حتماً سيصل إلى مرحلة الشيوعية المطلقة، وحكومة أو مجتمع البروليتاريا (أي الطبقة الكادحة). والتراجع عن هذه الفكرة هو هدم لكل الأسس الخمسة، هدم للتفسير المادي للتاريخ بأكمله، وبالتالي فهو هدم للنظرية الماركسية، وللنظرية الشيوعية مطلقاً، هذا من جهة المنهج. أما من جهة التطبيق فـ الشيوعية أول ما وجدت كوجود حقيقي- بغض النظر عن حكومة الكوميو التي وجدت في باريس أو غيرها مما يسمى بالشيوعيات الساذجة- وجدت وجوداً فعلياً في ثورة عام (1917م)، في الاتحاد السوفيتي عندما ثار الشيوعيون، بل في الحقيقة ثار الشعب الروسي الذي ضغط على الحكومات القيصرية وعلى الاضطهاد والظلم والإقطاع، ثار بعد أن توالت الثورات -طبعاً كانت أول ثورة في أوروبا هي الثورة الفرنسية عام (1787م) - ثم توالت الثورات وآخر ثورة تقريباً هي الثورة الروسية (1917م). عندما قامت الثورة، كان أول من قام بها فئات لا يهمنا الآن الحديث عنها، وإنما يهمنا أن الشيوعيين تسلقوا وقطفوا ثمرة الثورة بعد أشهر من قيامها، وحولوها إلى ثورة شيوعية، وكان هذا أول انعطاف عن المراحل الخمس، التي وضعها ماركس، وذلك أن روسيا انتقلت من دولة زراعية إلى دولة شيوعية، وهنا نقطة مهمة بالنسبة للتأريخ. كان الحاكم الأول هو لينين وهو رجل يهودي معروف وهو أول من حكم ونَظَّر. اضطر لينين إلى تنظير جديد، يتناسب مع المرحلة الموجودة، فقد كان ماركس وفريدرك قد تنبأ بأن الدولة المهيأة لأن تكون شيوعية هي بريطانيا، والسبب هو أنها الدولة التي بلغت قمة الرأسمالية في ذلك الزمن، فبالتالي النقلة الطبيعية من رأسمالية إلى شيوعية سهلة عليها. أما النقلة من مجتمع زراعي إلى مجتمع شيوعي، فمعنى ذلك أنه لا بد من مرور بالمرحلة الحتمية الجبرية، التي هي المرحلة الخامسة، وهذه قضية فكرية، صاحبها في الواقع أن لينين عندما حكم البلاد، سلم الحكم -أو كما زعم- إلى مجالس السوفيت والبروليتاريا فعجزوا عن إدارة البلاد -وطبيعي أن يعجزوا عن ذلك- وهنا تدخل لينين ولخطط مقصودة أراد أن يحرف المسار عن التطبيق الحرفي للشيوعية. انقسمت الفئة أو الطغمة الشيوعية على نفسها في تلك الأثناء، وظهر المصطلح المعروف وهو البلشفيك والمشفيك، والبلشفيك معناها الأكثرية، والمشفيك معناها الأقلية. الأكثرية كانت تدعي أنها على منهج لينين، وكان منها جوزيف استالين الطاغية المعروف المشهور، والمشفيك الأقلية، كان لها نظرة في التطبيق تختلف، ولها تفسير للاشتراكية الحقيقة تختلف وكانت بزعامة تراوتسكي.

الحكم الشيوعي في عهد إستالين

الحكم الشيوعي في عهد إستالين وحصل الانشقاق الأول، ومن هنا ظهر الانتقاد، والقول بأن الشيوعية لم تطبق وأن الانحراف وقع عن مبادئ ماركس على يد لينين. توفي لينين وانتهى عام (1925م)، وورث الحكم الطاغية الرهيب المستبد استالين الذي دمر الشعوب، ولا سيما الأمم الإسلامية وقتل منها عشرات الملايين في مجزرة رهيبة بعد أن وضعت لهم الوعود المعسولة، بأن حكم القيصر وظلمه قد انتهى، وإننا نحن رسل الإنسانية والعدالة والحرية، وأن في إمكان المسلمين بل يجب عليهم أن يكونوا معنا يداً واحدة في هذا العصر الجديد الزاهي، لنحقق العدالة والأخوة والمحبة. وخُدع المسلمون بالطبع، أو طائفة كبيرة منهم -على الأقل- بهذه العهود المعسولة والأماني، ثم عقبها انقضاض استالين وبكل شراسة وعنف، على الإبادة الجماعية للمسلمين والتهجير الجماعي، حتى إن جمهوريات إسلامية كاملة، هُجِّر أهلها بالكامل، وأحل محلها مستوطنون من روسيا ومن النصارى، ونزح بهؤلاء المسلمين إلى سيبيريا والمصانع في مناطق أخرى. فترة استالين هذه سماها جورباتشوف نفسه في كتابه إعادة البناء: "مرحلة عبادة الفرد"، وهكذا كان بالفعل، ومع ذلك، حتى جورباتشوف نفسه يعتذر لـ استالين بأن ظروف الحرب والأوضاع الدولية أملت عليه بعض التصرفات وإن كان لا يرى أنها كافية للعذر. مرت مرحلة استالين، وكانت العلاقة مع العالم متأثرة فعلاً بظروف الحرب العالمية الثانية، وكان الغرب والشرق - أعني غرب أوروبا وشرقها- مضطراً للتعاون والاندماج في سبيل القضاء على النازية والفاشية على هتلر وموسليني دول المحور (محور الوسط). كان لا بد من شيء من هذا، فـ استالين جعل هذا غطاءٌ لحكم استبدادي مطلق، ولتعديلات جذرية في المنهج الشيوعي فكراً وتطبيقاً على أن الأمر أمر مرحلي! وأن المسألة لن تتجاوز استثناءات وقتية أملتها الظروف، وبعد هذه الإجراءات الاستثنائية، وبعد انتهاء الحرب يمكن أن تعود الأمور إلى مجاريها، ولكن طال الأمد جداً وحكم هذا الطاغوت حكماً طويلاً، وكانت العلاقة مع الغرب كما قلنا علاقة وئام بسبب الموقف الموحد من النازية والفاشية. أعقب ذلك - ونحن نوجز الأحقاب سريعاً حتى نصل إلى المرحلة الحالية- مرحلة خورتشوف. جاء خورتشوف وقال: 'إن استالين انحرف' وندد بسياسة استالين تنديداً فضيعاً، وقال لا بد من العودة إلى منهج لينين العظيم، وهناك ما يشبه النكتة وهي حقيقة وقعت، بعد أن تولى خورتشوف رئاسة الاتحاد السوفيتي، وعقد اجتماعاً موسعاً في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، أخذ يتحدث لهم عن مساوئ استالين، ومظالمه واستبداده ودكتاتوريته، فجاءته أوراق، ومن جملة الأوراق جاءت ورقة مكتوب فيها: أين كنت يوم كان استالين يصنع هذه الأمور؟ وهو سؤال وجيه. طبعاً كان موجوداً في الوزارة، مشتركاً في كل النشاطات، ومع ذلك كان ساكتاً، والآن يندد تنديداً رهيباً فضيعاً. وكان خورتشوف داهية خبيثاً كالباقين هؤلاء، طبعاً وهم يهود، فـ لينين يهودي، واستالين يهودي، وخورتشوف يهودي، وبرجنيف يهودي. فقال: من الذي كتب هذه الورقة لأتناقش معه؟ فلم يرفع أحد يده. قال له: كنت أنا في أيام استالين كما أنت الآن في أيامي. إذن من يستطيع التكلم، فالقضية واحدة! المهم أن اللاحق ينتقد السابق، وهكذا.

الحكم الشيوعي في عهد خورتشوف

الحكم الشيوعي في عهد خورتشوف خورتشوف مرحلته تميزت بما يسمى بالتعايش السلمي، وقد كان معاصراً لـ جون كنيدي الرئيس الأمريكي القوي، وهو الذي حدثت في أيامه أزمة صواريخ كوبا وغيرها، وانتشر السلاح النووي في العالم، وكادت أن تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. فاضطر الاتحاد السوفيتي أمام ضغوط كثيرة، إلى إعلان ما يسمى بالتعايش السلمي والتآلف بين الشعوب، وكانت مرحلة الحرب الباردة التي استمرت، ولكن اتفق الطرفان على أن لا يبدأ أحدهما الآخر بهجوم. وكان الهدف الشيوعي في هذه المرحلة يتلخص في: تنشيط الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، وفي العالم الإسلامي، وفي العالم الثالث- لتقوم الثورات تلقائياً من داخل هذه الشعوب. وتسيطر الأحزاب الشيوعية، وحينئذٍ تسيطر الشيوعية على العالم. وبذل الاتحاد السوفيتي لـ خورتشوف جهوداً كبرى مضنية، لنشر الشيوعية ومساعدات كبرى ضخمة للأحزاب الشيوعية التي لم يبق بلد في العالم إلا وأنشئت فيه، حتى الدول الغربية التي هي أشد حرباً للفكر الشيوعي (كـ أمريكا مثلاً). وجدت الأحزاب الشيوعية، واستطاعوا أن يقيموا حتى في العالم الإسلامي دولاً شيوعية ومن بعضها قامت ثورات شيوعية ولكنها فشلت، كما حدث في السودان، وكما حدث في إندونيسيا فتحكم عدة أيام ثم تنتهي، وأما الأحزاب كأحزاب فبقيت منتشرة وموجودة في الدول كلها، وعن طريق دول عدم الانحياز وغيرها استطاعوا إيجاد مجالات أوسع للتغلغل الفكري والثقافي لنشر الشيوعية في العالم. ولكن الذي حصل أنه عندما ذهب خورتشوف وجاء دور برجنيف وكان هو الرجل البارز في هذه المرحلة، رأى أن الأمر لم يؤد دوره المطلوب، وأن الوضع قد تفاقم داخلياً وخارجياً، وأن الشيوعية كادت بالفعل بل فشلت فشلاً ذريعاً بأن تسيطر على العالم، وبدا هذا لديهم في مرحلة برجنيف. وقد كان الأمل معلقاً في الحقيقة على الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، ومدى ما تصل إليه من نجاح، وعلى التغيير الداخلي، إذ الانهيار الذي حصل في الاتحاد السوفيتي كان فضيعاًَ جداً في المجال الزراعي، وفي المجال الصناعي تفوق الغرب تفوقاً بعيد المدى. استيقظ العالم في أكثر من منطقة وبدأ ينافس الشرق والغرب، ظهرت اليابان، وظهرت كوريا، ثم بدأت تظهر بعض الدول التي بدأت تنافس، فكان هناك خطر محدق بوجود الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية عظمى، وكان لا بد من إعادة الحساب مرة أخرى.

الحكم الشيوعي في عهد ميخائيل جورباتشوف

الحكم الشيوعي في عهد ميخائيل جورباتشوف هنا اصطنع بشكل ما ميخائيل جورباتشوف، وقد كان أعضاء الحزب الشيوعي الكبار كلهم من العجائز، الذين تعدوا السبعين أو الثمانين، وهذا الشاب الوحيد الذي رُبّي على أعين الحزب -بغض النظر عن الخلاف في هذه القضية على أية حال- لكن الأحداث الواضحة الجلية تدل على أن هذا الشاب ربي، وأنه يجمع بين الذكاء، والثقافة الواسعة في الفكر الشيوعي، والدهاء السياسي، والقدرة على إقناع الجماهير، وكل هذه الصفات جمعت في ميخائيل جورباتشوف، ورقي بسرعة إلى أن أصبح قابضاً على أعلى المناصب. وهنا طرف لا بد أن نعرض له: وهو أن الغرب تدخل إلى حد ما في إذكاء جماهيرية وشعبية جورباتشوف، وفي فتح مجالات جديدة أمامه, ووعود معسولة فيما لو قام بنوع التجديد الذي بيِّت له. نستطيع نحن المسلمين -أو أي محلل آخر- أن نقول: إن وراء ذلك اتفاقاً سرياً ما وسيكشف، لكن سنحصد الأحداث الظاهرية نوعاً ما، حتى نرى ما ستكون النتيجة. فجأة يبرز جورباتشوف ويبرز زعيماً أوحداً كما برز استالين، وكما كان خورتشوف وكما كان برجنيف في فترة ما يسيطر على أزمة الأمور.

الأحداث التي استغلها جورباتشوف لتحقيق أهدافه

الأحداث التي استغلها جورباتشوف لتحقيق أهدافه من القضايا البسيطة أنه عندما أريد لـ جورباتشوف وافتعل له أن يصبح مستبداً، رأى أن أقوى سلطة يمكن أن تقف أمامه الجيش، فالحزب فهو منظّر فكري ويستطيع أن يسيطر إلى حدٍ ما، لكن الجيش هو المشكلة. فكان لا بد أن يغير القيادات: قيادة الاستخبارات، وقيادة القوات الجوية والبحرية، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير -كما يقال- وهي تلك القصة الغريبة جداً التي ذهلنا جميعاً لها، ثم مرت كأي حدث من الأحداث العابرة دون أن تحلل التحليل السليم خاصة من المسلمين على الأقل، وهي قصة الطائرة الشراعية الصغيرة التي اختطفها أو دخل بها شاب وعشيقتة -جعلت معه عشيقة لتبدو القضية قضية مغامرة حب- واستطاع أن يطير من ألمانيا ويخترق الحدود السوفيتية، بطريقة الله أعلم بكيفيتها -ولابد من وجود تواطؤ طبعاً- وينزل في الساحة الحمراء، ويطل المسئولون في أقوى دولة كما تزعم، والتي تريد أن تنافس أمريكا في حرب النجوم، يطلون ويجدون أن طائرة غريبة، قد نزلت ووقعت في الساحة الحمراء، أين الدفاعات الجوية؟ أين الرادارات؟ أسئلة كثيرة. بناءً على ذلك قرر جورباتشوف أن هذا المجتمع يحتاج إلى تجديد، فأقال وزير الدفاع، وقائد القوات الجوية، وقائد كذا، وقائد كذا، دفعة واحدة، وينحى هؤلاء الذين أدوا إلى هذه الفضيحة كما قيل، وتخلص منهم وجاء بالعناصر التي يريد. بعد ذلك جاءت عدة حوادث كانت ذريعة إلى الاستمرار، وهي - كمثال - الزلازل التي حصلت في أرمينيا، فقد استطاع جورباتشوف بدهائه أن يوظفها توظيفاً رهيباً، والزلزال طبعاً حصل قضاءً من الله وهذا معلوم. أرسل الاتحاد السوفيتي بمعداته الثقيلة للإنقاذ، وإذا بها هزيلة لا تستطيع أن تفعل شيئاً، فاضطر جورباتشوف للاستنجاد بالغرب، فمد الغرب يده بسرعة، فهي قضية إنسانية، كعادة الغرب عندما تهبُّ نخوته الإنسانية في أي قضية غربية، وتختفي تماماً في أي قضية أو نكبة إسلامية، وإذا به يهبُّ لنجدة أرمينيا، وإذا بالناس يرون العجب العجاب. وقبل ذلك حدث -أيضاً- الإشعاع الذري الذي تسرب من معمل تشر نوبل، في الاتحاد السوفيتي، فوقف الاتحاد السوفيتي عاجزاً عن السيطرة أمام آثار الإشعاع، ويأتي الغرب بالتكنولوجيا، ويستطيع أن يحاصر التسرب. المقصود أن عدة أحداث حدثت وجورباتشوف يوظفها لمصلحة فكرة: أن هذا التخلف الفظيع الذي تعيشه الاتحاد السوفيتي كان بسبب التطبيق السيئ للاشتراكية، كان بسبب عبادة الفرد، كان بسبب التجاوزات التي ارتكبوها واستطاع الأعداء أن يتفوقوا عليهم إلى آخر ذلك، عندها أصدر جورباتشوف كتابه إعادة البناء وكان قد مضى على ما سماه بـ إعادة البناء أو البروستريكا سنتان ونصف. عندما طبع الكتاب، وكان هذا الكتاب شرحاً لوجهة نظر جورباتشوف نفسه في إعادة البناء، نوجزه في نقاط بسيطة: جورباتشوف يرى أن إعادة البناء ضرورية جداً، وأنه لا تنازل على الإطلاق عن الاشتراكية، وأنه لا يقبل أية مساومة على المبدأ، وأن مستقبل الإنسانية جمعاء مرهون بالتطبيق الحقيقي للمبادئ التي نادى بها ماركس ولينين، فهي قضية لا تقبل النقاش عنده -ولاحظوا هذا شيء مهم نضعه في الاعتبار- ثم يطرح وضعاً سياسياً جديداً، يقول: مع هذا كله نحن جزء من العالم، يجب أن نتعايش، تحدث عن العالم الثالث، تحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية تحدث عن أوروبا بعد حديثه الطويل عن الاتحاد السوفيتي طبعاً. تعرض لقضايا كانت أهم قضية فيه -وهي التي نريد أن نصل منها إلى ما يجب علينا نحن المسلمين في هذه المرحلة الخطيرة- وهي مسألة العلاقة مع أوروبا، والعلاقة مع أمريكا، وكيف تكون هذه العلاقة؟ وهذه مسألة مهمة جداً سنضطر أن نتجاوز عنها قليلاً لنتحدث عن أوروبا الغربية ماذا كانت تعمل قبل إعادة البناء وأثنائها! وكيف كان العالم الغربي يفكر؟!

موقف الغرب من الشيوعية

موقف الغرب من الشيوعية العالم الغربي سلاحه ووسيلته الكبرى للتنديد بـ الشيوعية والثلم والطعن في الاتحاد السوفيتي أنه مجتمع كبت وإرهاب، وفقر ومذلة، مجتمع اللاإنسانية، وهو كذلك، وفخر أوروبا الغربية ليس بأن لديها منهجاً، أو أن لديها رسالة تقدمها إلى العالم، الفخر الوحيد لها أن لديها الديمقراطية، وإعطاء الحرية للشعوب، أما غير ذلك لا توجد عقيدة محددة ينتهجها الغرب. إذاً: في ظل هذا بدأ الغرب يحس بالخطر المحدق به من الجهتين: 1 - من جهة خطورة الاتحاد السوفيتي كقوة عقائدية ضخمة، هذه ناحية مهمة. 2 - ومن جهة أخرى خطورة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي قوة اقتصادية ضخمة. أوروبا الغربية بالذات وجدت نفسها محاطة بالقوتين العظيمتين، وهي التي تدعي أنها أساس الحضارة الإسلامية. لا يوجد لدى أوروبا شيء، فقد تداعت أوروبا الغربية وقالت: لا بد من وحدة أوروبية، وبدأت -طبعاً- بالسوق الأوروبية كما هو معلوم، ثم انتقلت بعد ذلك إلى مرحلة الوحدة الأوروبية التي ستعلن بوحدة البرلمان الأوروبي، ووحدة المواقف ووحدة القضايا، واستمرت في عملية مدروسة مبرمجة، لتصل بعد سنتين تقريباً إلى إعلان الوحدة الكاملة بين دول أوروبا، هذا برنامج خطير ولم يكن ليفوت الرفاق في موسكو معرفة هذا البرنامج. أما الولايات المتحدة الأمريكية، فتنظر للموضوع بمنظار أن الغرب غرب كله، وتحاول توظيف الوحدة الأوروبية لتضرب الاتحاد السوفيتي في العمق، وروسيا في ظل هذا الوضع لديها مشكلة ألمانيا، كما هو معلوم. كما أن الجيوش المرابطة في أوروبا قرابة سبعمائة ألف، تكاليفها باهضة. أيضاً لديها تحدٍ عالمي في أمريكا الوسطى وفي الشرق وفي كل مكان، ولا بد أن تقف دولة مواجهة لـ أمريكا وهي لا تستطيع ذلك. فكان لابد لـ جورباتشوف -وهنا نقطة مهمة- أن يقطع الطريق ضد توحد الغرب الأوروبي ضده، وضد أوروبا الشرقية فقام بإعلان الديمقراطية، وهو بهذا يسلب الغرب الشعار الذي لوح به ويفخر به على العالم كله. ففتح أولاً- وهذه نقطه مهمة -لم يبدأ بـ روسيا وإنما بدأ بالدول الأخرى بولندا، لأن العمال فرضوا أنفسهم بالقوة من سنوات وهم ثائرون، ثم قليلاً قليلاً، وكانت مجزرة رومانيا الفظيعة.

جورباتشوف ينتقل إلى ديموقراطي

جورباتشوف ينتقل إلى ديموقراطي أخيراً كان التغيير الذي أعلن في الاتحاد السوفيتي نفسه وهو أن الحزب الشيوعي لا يحتكر السلطة، وإنما تكون حكومات ديمقراطية وهنا تضعضع العالم الغربي واهتز وشعر بالخطر فعلاً، وبدأت التحليلات الغربية تختلف، طائفة من الغربيين أبدوا الارتياح الكامل، لهذه الخطوات الديمقراطية، وتفاءلوا بمستقبل زاهٍ للإنسانية -كما نسمع الآن ويردد كثيراً- وأن الإنسانية والعالم الإنساني مقبل على مرحلة انفراج، وأن النظم الشمولية ستنتهي، وأن الديكتاتوريات ستسقط، وأن وأن وأن إلخ. وقالوا: إن هذا نتيجة ثورة الإنسانية، وتفاعل الحرية في قلوب العالم أجمع، هذه كانت تحليلات، وتحليلات أخرى تقول: لا! الاتحاد السوفيتي دائماً يلدغ والشيوعية لم يتنازل عنها، وإنما هذه حركة التفاف وعملية مخادعة وهكذا اختلفت التحليلات. والذي يتتبع العملية يقول: لا يمكن أن تكون هذه إلا عملية مقصودة إذ كيف يكون السقوط بهذه الدقة. ثم لماذا في كل دولة يسقط فيها الحزب الشيوعي يبرز في محله الشيوعيون الناقمون، أو الإصلاحيون كما يسمون، فكأن تراو تسكي الذي قتله استالين عام (1940م) قد أعيد من جديد، أو غيره كالدولية الثانية والثالثة والرابعة. مجموعة الأحزاب الشيوعية (خارج الاتحاد السوفيتي): يرون أيضاً الارتياح التي تقابل به الأحزاب الشيوعية في بلادها هذا الحدث، فيقول: لا بد أن هذا أمر دبر بليل، ووراؤه ما وراؤه من خطر على أوروبا. على أية حال وصلت بعض التحليلات إلى القول بأن جورباتشوف دسيسة أمريكية، ربي على عين أمريكا، ووضع ليهدم الشيوعية وليأتِ في مؤتمر مالطا ويقول لـ بوش: نحن لن نتقاسم العالم معكم. والبعض الآخر يقول بالعكس: إن جورباتشوف هو الذي سيحتوي العالم، ويريد أن يحتوي العالم عن طريق هذا الخداع، المهم أنها تحليلات مختلفة، لكن نقتصر نحن على الأمور الظاهرة، ثم لنا الحق جميعاً أن نستنتج منها ما نستنتجه. القضية الأساسية هي: أن الأحزاب الاشتراكية في أوروبا، والشيوعية تكاد أن تكون هي الحاكمة في كثير من دول أوروبا، في فرنسا، في إيطاليا، في البرتغال، في دول عدة. الشيوعيون أو الاشتراكيون على الأقل، إما حاكمون، وإما لهم أحياناً فوق (40%) من الأصوات كما في الانتخابات الحرة التي أجريت في دول أوروبا الغربية. إذاً هناك عمق شيوعي ثقافي فكري داخل أوروبا الغربية مؤيد لـ جورباتشوف، ثم إذا سحب جورباتشوف الأنظمة الديكتاتورية التي عفنت، وسخط عليها الناس واستبدلها بأوضاع قريبة، مما تطالب به الأحزاب الشيوعية تقريباً في أوروبا الغريبة، فإنه سيوفر على نفسه النفقات الباهضة للمنافسة النووية، ليدعم نشر الشيوعية بطريقة الفكر والثقافة. وقد صرح بأنا نريد أن ننشر الفكرة عن طريق اقتناع الناس بها، لا عن طريق إرغام الناس أن يكونوا شيوعيين، كما كان في الماضي، وواثق أن أوروبا الغربية ليست لديها عقيدة ولا مبادئ، وأن الشركات الأمريكية سوف تنظر للموضوع نظر ريبة. ثم إن جورباتشوف يرى -قد صرح بهذا في إعادة البناء - أنا نحن الأوروبيون، أوروبا بيتنا المشترك -هكذا بالنص- ونحن مثل ناس في شقق، فـ ألمانيا وبريطانيا وفرنسا شقق في هذا البيت حتى يقول: لماذا يقبل الغرب على الثقافة الأمريكية: ثقافة الجنس، ثقافة العنف، ثقافة الجريمة، ويترك الآداب الإنسانية الأوروبية، نحن يجمعنا أدب واحد، تجمعنا حضارة واحدة، يجمعنا دين واحد، حتى يقول: الدين وحَّدنا وهو الكاثوليكية، واختلفوا على مرور ألف سنة على دخول الكاثوليكية إلى الاتحاد السوفيتي. يقول: وأوروبا شيء واحد، عندما ننظر إلى ضرورة أن تعود ألمانيا دولة واحدة، وتسحب منها القوات الأجنبية، فـ روسيا جغرافياً موجودة في أوروبا، لكن أمريكا إذا سحبت قواتها تكون من وراء البحار، إذن هنا نقطة أساسية في العملية الاستراتيجية العسكرية ما بين الدولتين. طبعاً الإعلان الذي أعلن عن توحد أوروبا هو توحد دول يسكنها ثلاثمائة وخمسة وعشرون مليوناً، ومعنى ذلك أنها أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن الاتحاد السوفيتي التي يسكنهما تقريباً مائتان وسبعون مليوناً. إذاً: أوروبا ستكون أقوى سكانياً، وجورباتشوف يريد احتواء هذا بطريقة أن يضيف إلى الثلاثمائة وخمسة وعشرين مليوناً المائتين والسبعين مليوناً الذين في الاتحاد السوفيتي فتصبح أوربا قوية. ويقول: نحن لدينا خبرات، لدينا تقدم في إنتاج الفولاذ وغيره، ولدينا موارد هائلة، ولدينا امتداد جغرافي كبير، نستطيع توظيف الأموال الأوروبية فيه، وبذلك ينفصل الغرب عن الولايات المتحدة الأمريكية، فتكون النتيجة أن توجد أوروبا الموحدة، والتي إذا ضمت لها أوروبا الشرقية مع الاتحاد السوفيتي سيكون شيء لا يكاد يصدق، أكثر من سبعمائة مليون قوة بشرية وعلمية هائلة، وتجد أوروبا الغربية إما أن توافق وإما لا قيمة لها، شعاراتها مفقودة، وستجد على الأقل أن الأحزاب الشيوعية فيها والاشتراكية ستطالب وتقول: لم لا ينظم الاتحاد السوفيتي إلى أوروبا الغربية؟ فإذا قيل: إنها دولة استبدادية، سيقال لهم: لقد انتهت الاستبدادية، وانتهى الظلم وانتهت الاشتراكيات، والآن أصبحت أحزاب ديمقراطية، فلماذا لا تمدون لهم يد العون؟ والشيوعية متغلغلة حتى في غير الأحزاب الشيوعية، ومتغلغلة في أوروبا الغربية، والنتيجة المتوقعة أنه ستقتنع أوروبا، بشكل ما على الأقل، ويعجب المرء عندما يسمع طبعاً نداءات جورباتشوف المتكررة بتعجيل مؤتمر الأمن القومي الأوروبي، وإدخال الاتحاد السوفيتي ضمن هذا المؤتمر، وأن تُعلن أوروبا الموحدة ومن ضمنها الاتحاد السوفيتي. إذاً سوف تتوحد أوروبا بشكل ما؛ لتصبح سبعمائة مليون أو أكثر لتكون قوة واحدة في مواجهة العالم، وبطبيعة الحال الأموال الأوروبية بدأت تتدفق من ألمانيا الغربية غيرها، إلى دول أوروبا الشرقية، وهذا أقوى شيء يؤمن به الغرب، وهو الاقتصاد والوحدة الاقتصادية. يبقى هناك أمريكا هل ستستسلم أمريكا بهذه السهولة، وتعطي أوروبا شرقها وغربها لقمة سائغة لـ جورباتشوف؟ هذا غير معقول، فلا يمكن أن أمريكا التي أنست الناس كل أنواع الاستبداد والاستعمار القديم، باستعمارها الفظيع الحالي للعالم كله تقريباً جوه وبحره، وإنما أمريكا وجدت عدة وسائل لتضغط بها على الاتحاد السوفيتي.

علاقة إعادة البناء بالأمة المسلمة

علاقة إعادة البناء بالأمة المسلمة وهنا -وأرجو عدم المؤاخذة على الاختصار الذي نضطر إليه- ندخل في قضية ما يمس الأمة الإسلامية بالذات وبالنص: الولايات المتحدة الأمريكية يهمها أولاً استرضاء إسرائيل، لأن اللوبي اليهودي مسيطر عليها، كما على الطرفين طبعاً، فهو وسيلة ضغط على الاتحاد السوفيتي وعلى أوروبا الشرقية. أولاً: تغيير الموقف من إسرائيل، وجورباتشوف يقول: نحن من الدول التي أسست إسرائيل، يقول هذا في إعادة البناء، وليس لنا موقف معادٍ لإسرائيل، ونؤمن بحق إسرائيل في الوجود، لكن لا توجد علاقات أو مواقف سياسية معروفه معلنة في الأمم المتحدة، أو الفيتو. الآن أمريكا والغرب تضغط على الاتحاد السوفيتي، ودول أوروبا الشرقية لهجرة اليهود الروس، وهي هجرة فضيعة جداً، وعلى غفلة الأمة الإسلامية وعلى غفلة الأمة العربية استيقظت لما رأت هذا الخطر المحدق، وأصبحت على ألسنة جميع الناس تقريباً، والصحافة العربية والإسلامية، وهي مسألة الهجرة اليهودية، لأنه كما أعلنت منظمة التحرير وهي المصدر الرسمي على أية حال، ما تعرضت له الانتفاضة في فلسطين، أنه أكثر من عشرة أو اثني عشر ألف جرحى، يقارب العدد ستين ألفاً بين جريح وسجين وقتيل، وثلاثمائة ألف حالة إجهاض متعمدة من اليهود لإجهاض النساء المسلمات في فلسطين يقابل ذلك هذه الأيام بالمعدل الذي أعلن، معدل ثلاثمائة يهودي سوفيتي يصلون يومياً إلى فلسطين، ففي عامٍ وصل قرابة خمسة وسبعين ألف يهودي، وهم يزدادون عاماً بعد عام، لا شك أنه وجود بشري مكثف. قرأنا أن إسرائيل بنت مائتي ألف وحدة سكنية جاهزة لاستقبال اليهود من أوروبا الشرقية، أي إذا افترضنا تقديرياً أن الأسرة تتكون من خمسة أفراد فمعنى ذلك أن مليون يهودي سيصلون إلى الأرض المحتلة فلسطين الإسلامية، وسيسكنون في المناطق التي فيها وجود إسلامي، والتي يوجد فيها العرب. أما بالنسبة لـ أمريكا، فمن مصلحة أمريكا من الناحية الاقتصادية أيضاً التغلغل داخل الاتحاد السوفيتي وإمداده، وبناء وإنشاء المشاريع، والشركات الأمريكية تضغط -كما هو معروف- على الحكومة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي مفتوح كما تبين الآن لمشاريع رهيبة تربح وتجني منها الشركات الأمريكية أرباحاً خيالية كبرى.

العدو المشترك بين الشرق والغرب هو الإسلام

العدو المشترك بين الشرق والغرب هو الإسلام أهم من هذا كله: العدو المشترك للشرق والغرب الذي لا بد أن يتوحدوا ليقفوا أمامه. أرنلد توينبي أكبر مؤرخ غربي في العصر الحديث يقول: 'نستطيع أن نتحاور مع الشيوعية (وهذا في فترة الحرب الباردة)، نستطيع أن نتحاور مع كل دين إلا الإسلام، فإنه يضل العدو الأبدي لنا' هذه كلمة مفكر، أما الساسة فيعلمون ذلك وأكثر. وأذكر مثالين على ذلك: الأول: حدث في الجزائر أن خرجت ثلاثة آلاف امرأة شيوعية بمظاهرة، يطالبن بإلغاء دستور الأسرة؛ لأنه ينص على شيء من الشريعة، فقامت الرابطة الإسلامية، وهي امتداد لدعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمة الله عليه، وأخرجت قيل: خمسمائة ألف وقيل مليون امرأة مسلمة محجبة، ورفعن شعارات -وأنتم رأيتم جميعاً صورهن في الصحف- احكمونا بالإسلام، لا نريد إلا الإسلام، لا نريد إلا القرآن، ففزع الشيوعيون وغيرهم فزعاً رهيباً، ليس هذا هو الشاهد، بل الشاهد أن الرئيس أعلن أنه إن وصل الأصوليون إلى الحكم في الجزائر، فسأضطر للتدخل عسكرياً، كما تدخل بوش في بنما. الثاني: وهو ما حصل في اليمن الجنوبي، حدث قد ينظر إليه أنه بسيط ونشرته الصحف، أنه قامت فتيات المدارس الثانوية، بمظاهرات يردن الفصل عن الطلاب ويردن الحجاب، وكان استنفار شديد فضيع من السلطات الشيوعية لهذا الحدث. لأنه طولب بإلغاء مادة التربية الرياضية في المدارس، وطولب بالفصل بين الذكور والإناث، وطولب بالحجاب، لقد كان شيئاً فضيعاً جداً لا يمكن أن يتخيله العقل في دولة كانت ماركسية حرفياً، وآخر من استجاب لعملية إعادة البناء. وبالمناسبة خذوها عابرة وهي أن ما أراد جورباتشوف أن يطبقه في روسيا من التوحد مع الغرب تحت ستار إعادة البناء، بدأت الدول الشيوعية أو الدائرة في فلك جورباتشوف، تحاول أن تتوحد مع الجيران مهما اختلفوا معهم، وهنا تأخذون العبرة، واللبيب بالإشارة يفهم. هذان الحدثان يعطيان قناعة أن العالم الصليبي الأوروبي، يكن الحقد الشديد على الإسلام. بدأت العملية في أمريكا بطريقة غريبة، مع ما نشر وما ينشر من حقد على الإسلام لكنه كان محصوراً في المثقفين تقريباً، كيف استطاع الأمريكان أن يجعلوا هذا الحقد الدفين على الإسلام يتوقد بطريقة شعبية؟ قاموا بإنتاج أفلام خيالية بحتة على مدى ثلاث ساعات أو أربع ساعات تتحدث عن مستقبل أمريكا، منها: فيلم مشهور، كيف إذا هاجم الاتحاد السوفيتي أمريكا -مثلاً- وانتشر وبيع أكثر من مائة مليون، ومعه أفلام أخرى، نهاية أمريكا تكون على يد رجل راكب جمل معمم، من أتباع محمد، ويأتي ويحتل أوروبا، ثم يدخل إلى أمريكا ويدمر الحضارة الأمريكية، وهكذا يكون المضمون واحد، وهذا يؤدي إلى أن الشعب يظل في مخيلته هذه الفكرة وإن كانت قصصاً وحكايات ولكن باللاشعور يترسب أن هذا هو العدو، وأن هذا هو الخطر. وللعلم هذا - أيضاً - حدث في عام (1983م) أن الاستخبارات الأمريكية موَّلت أكثر من مائة وعشرين ندوة لدراسة الصحوة الإسلامية، أي: أكثر من معدل ندوة كل ثلاثة أيام، لدراسة الصحوة الإسلامية في معظم أنحاء العالم. فالغرب والشرق حذر من العدو الأساسي وهو العالم الإسلامي، فكيف نتوقع إذا توحد الشرق والغرب؟ أعني أن أمريكا أمام هذه الأمور ستتوحد مع الغرب نوعاً ما، أقول: لا نفرض صورة الاتحادات، ولكن سيصل الأمر إلى أن ألف مليون على الأقل من الصليبيين من أوروبا شرقها وغربها وأمريكا ستصبح وفق إرادة واحدة، وقرار واحداً بأي شكل اتخذ هذا القرار فليس مهماً، وذلك للوقوف في وجه هذا العدو الذي بدأ يستيقظ، وبدأ يهدد العالم الغربي كما يقولون.

مستقبل العالم الإسلامي في ظل التحزبات الكفرية

مستقبل العالم الإسلامي في ظل التحزبات الكفرية كيف يكون مستقبل العالم الإسلامي في ظل هذه العملية إن استمرت الأمور كما هي عليه الآن، مع غفلة الأمة الإسلامية، مع ما تعانيه من التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية، ومع ما تعانيه من الفرقة والانقسام، ليس على مستوى الشعوب، ولا على مستوى الحكومات؛ بل على مستوى الدعاة. لا توجد دعوة إسلامية على الأقل موحدة لتواجه هذا الخطر، كيف نتصور وضع العالم الإسلامي عندما يكون القرار الدولي واحداً، وقد كنا نعاني الأمرَّين وهو مختلف، فنوعاً ما يستطيع الناس في ظل الاختلاف الدولي أن يجدوا ثغرة أو منفذاً، أو على الأقل نشراً للأخبار إن انتهكت روسيا فتنشر أمريكا أحياناً، أو العكس، فأمور الخلخلة السياسية قد تعطي شيئاً من الانفتاح الذي قد يعطي بعض الاطمئنان. لكن كيف لو توحد هذا العالم وهو مقدم على ذلك؟ هنا سيكون المستقبل خطيراً جداً، وأنا أترك النتيجة والتحليل الأخير لكل إنسان، لأني قلت: المهم لدي هو أن تتضح الصورة، وأن يتضح هذا الخطر الداهم، ولكن هذا لا يمنعني من أن أطرح ما وصلت إليه من وجهة نظر؛ لعلها تكون لبنة على ما ستصلون إليه -إن شاء الله- في تحليلكم الأوسع أفقاً ونظراً مني. مستقبل الأمة الإسلامية قريب، الأحزاب الاشتراكية، والأنظمة الشيوعية، والأنظمة الاستبدادية الشمولية -كما تسمى- سوف تنتهي -فعلاً- وتختفي، وسوف يشهد العالم الإسلامي - على تحليلي الشخصي- انفتاحاً أيضاً قريباً من الانفتاح الذي في أوروبا الشرقية، ولكن لحساب من؟ هنا المشكلة. قد يسمح لبعض الجماعات والدعوات والحركات الإسلامية، التي لها وجود شعبي بأن تشارك جزئياً في الحكومات الديمقراطية، التي ستقوم على أنقاض الحكومات الشمولية الموجودة الآن في العالم الإسلامي. سوف تنفتح العلاقات بشكل أكبر، لأن الحرج ارتفع بالنسبة لـ روسيا، وهو مرتفع من قديم طبعاً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فسوف يكون الغزو الثقافي والاقتصادي والتبعية بشكل أكبر، وهنا سيجد العالم الإسلامي نفسه منقسماً إلى قسمين رئيسين تقريباً: قسم سيفرح بالوزارتين أو الثلاث الوزارات، أو بعض النقابات، وينسى القضية الأساسية ويندمج في هذا الواقع، ومع الزمان سوف يرى أنه في النهاية سيخسر قضيته كلها. القسم الآخر وهو الطبيعي ولا بد أن يوجد الطرف الذي يسميه الغربيون "الأصوليون، المتشددون، المتزمتون" إلى آخره، لن يرضى إلا بالإسلام الواضح الجلي الكامل النقي، وهذا القسم أمامه أحد احتمالين: إما أن يقضي عليه القسم الأول، لأنه لن يتدخل الغرب وقد أخذ الدرس الرهيب في أفغانستان وفي غيره، ولن يتدخل بشكل مباشر؛ بل حتى عقائدياً لا أتوقع أن يتدخل الغرب؛ لأنه لو جاء بـ الشيوعية أو الاشتراكية الوجودية، أو أي فكرة لتقاوم، فلا يمكن أن أي إنسان عرف منهج الكتاب والسنة أو كما يسمونه الأصولية أن يصدق أي فكرة غربية، فالحصانة تلقائية لا يمكن أن يفكر فيها الغرب، لكن ربما تنجح. نقول: إما أن يقضي عليه الغرب بواسطة الطرف المعتدل -كما يسمى- الذي يؤمن بالموديل إسلام، إسلام الموضة والإسلام المتطور. التوقع الثاني: أنه تسيطر هذه الدعوات السنية -التي تعتمد منهج الكتاب والسنة- ويكون لها قوة، وتملك زمام الأمور، فماذا؟ فالنتيجة إذا لم يستطع الغرب أن يقضي عليها عن طريق الحركات الداخلية فإنه لا بد أن يتدخل الغرب عسكرياً، كما أنذر وتوعد ميتران وغيره، لأن الغرب سيجد أنه لا مفر له من المواجهة. هل في إمكان الغرب أن يواجه بالغرور، والكبرياء، والتكنولوجيا المتفوقة، وحرب النجوم إلخ؟ كل ذلك يهيئ للغرب الاشتباك المباشر، والإنزال المباشر في الأرض الإسلامية. وستكون النتيجة إذا حصل الإنزال المباشر أن الأمة الإسلامية تهب هبة رجل واحد، وتتفانى وسيخسر الغرب في هذه المرحلة -لو حصلت طبعاً- الطرف الذي يسميه المعتدل، أو أكثر. وعلى أية حال سوف تستيقظ الشعوب، وسوف تكون هناك مواجهة عامة كما حدث في أفغانستان وهذا مثال بسيط وواضح، وقضية واضحة لكم والحمد لله. لو أن أيام الملكية بقيت لسيطرت أمريكا على الأوضاع في أفغانستان عن طرق الملك والحكومة الملكية الفاسدة الموجودة البعيدة عن شرع الله والاهتداء بهداه، وتحقق كل شيء لـ أمريكا من خلاله، لو أن ذلك حصل لم يكن لدى الشعب الأفغاني المسلم هذا الوعي الآن بالأحداث والخطر، ولن يكون هذا الجهاد طبعاً؛ لأن الذي حصل كان نتيجة العدوان المباشر بالإنزال المباشر، فهب الناس هبة رجل واحد، والحمد لله. إذاً سيستثار العالم الإسلامي، والغرب المتفوق تكنولوجياً ستدفعه هذه القوة والحقد الصليبي إلى القضاء المباشر، والإنزال المباشر لجيوش غربية. وليس سراً أن أكثر من مائتين وخمسين ألف جندي أمريكي يتدربون في صحراء وسط الولايات المتحدة الأمريكية، للتكيف مع المناخ الصحراوي، وهؤلاء معدون لأي إنزال سريع في أي وقت من الأوقات، وهذا شيء يعرفه العالم كله. والأساطيل تملأ جميع البحار والخلجان والمنافذ، والإنزال هذا بأبسط ما يمكن ستكون مواجهة حاسمة عليها. الوضع مخيف جداً ولا بد أن نأخذه مأخذ الجد. ولكن لا بد من قضية أذكرها وأختم بها: نحن لا نتمنى لقاء العدو كما أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن أنفع وأجدى للإسلام المواجهة المباشرة مع الغرب، من وجود أنظمة نفاق، وإسلام أمريكاني، أو إسلام مروض كما يقال. هذا أنفع للمسلمين وأسرع لليقظة، وآثار الحروب الصليبية أكبر دليل على ذلك، فإن الهجمة الصليبية أيقظت الأمة الإسلامية. وسأذكر أثراً واحداً: عندما قدمت الحملة الصليبية الأولى، كان في دمشق وهي أكبر مدينة إسلامية في بلاد الشام التي استهدفها الصليبيون مدرسة واحدة شرعية، كأنها كلية باعتبار ما نحن فيه الآن، لكن عندما قام صلاح الدين كان ما يقارب مائة مدرسة في دمشق؛ لأن العلم بين الشباب أهم شيء، فهو يؤدي إلى أن الأمة تعي وتعرف إلى أي شيء ترجع، إلى الدقة العلمية والتحليل العلمي والمواجهة العلمية. كان على ميمنة صلاح الدين ابن قدامة رحمه الله صاحب المغني. وكان من العلماء الأفذاذ الذين واجهوا التتار، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية والذي كان في وسط المعمعة، ويرفع الحماس. والمقصود أن الأمة استيقظت بعد القرن الخامس، قرن الهبوط، وقرن الموت، وقرن الضعف القرن الذي سيطرت فيه الرافضة على العالم الإسلامي، وسيطرت فيه الباطنية، ثم يعقبه بعد ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية فكانت تلك الحياة العجيبة. الآن الأمة الإسلامية على أي ثقافة تعيش؟ على أي علم تعيش؟ بعد علم السلف طبعاً بعد كتب الأصول والحديث القديمة، لكن انظروا لمن تقرأ؟ إنها تقرأ لـ ابن تيمية، ولـ ابن قدامة، ولـ ابن حجر، وللنووي، وللذهبي، وللمزني، ولـ ابن كثير، ولـ ابن رجب سبحان الله! متى ظهر هؤلاء الأفذاذ! لقد ظهروا بعد مرحلة الحروب الصليبية والتتار، أي: بعد أن استفزت واستنفرت الأمة الإسلامية وأظهرت قيادات. ظهر صلاح الدين وهو رجل جدد سيرة الخلفاء الراشدين، وظهر نور الدين محمود، وهو رجل أحيا سيرة الخلفاء الراشدين، وللأسف غفلت عنه الأمة وعن عماد الدين وغيرهم. فظهرت قيادات سياسية وعسكرية وعلمية، وعادت الأمة من جديد، وقاومت من جديد.

بشائر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المستقبل لهذا الدين

بشائر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المستقبل لهذا الدين نقول هذا إذا حدث، قد يكون وقد لا يكون، ولكن يهمنا أن نذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر بهذا كله في أحاديث كثيرة. بشر في آخر الزمان بسيطرة الأمة الإسلامية وتفوقها، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بـ الأعماق أو بدابق} والروم هم الغرب، ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2] وهي (الامبراطورية الرومانية) كانت أوروبا امبراطورية شرقية وامبراطورية غربية، وأوروبا كلها هي الروم، {تقوم الساعة والروم أكثر الناس}، أي: أقوى الناس، والأكثر في لغة العرب من معانيه: الأقوى والأظهر {لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق} وثم أحاديث كثيرة لا يمكن أن نستعرضها ولكن ليرجع إليها في صحيح مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة. من أهمها حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، ونافع بن عتبة، لما قال نافع رضي الله عنه قال: {قدم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أناس من جهة المغرب، يعني من غرب المدينة فانفرد بهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرجت إليه خشيه أن يغتالوه فإذا به يقول: تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تغزون فارس، فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الروم فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله لكم، قال نافع بن عتبة رضي الله عنه لـ جابر: قال يا جابر، أُرى أن الروم تفتح قبل الدجال}. ومع ذلك أيضاً نذكر الحديث الآخر الذي يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، أن المسلمين سينقسمون إلى ثلاث فرق -وهو حديث صحيح ومعروف- أثناء المواجهة مع الروم اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، ثلاث فرق تكون في المعركة مع الروم، فرقة يفرون لا يرضى الله عنهم أبداً -عياذاً بالله- وثلث يقتلون وهم من خير الشهداء عند الله، والثلث الثالث تكون الدائرة لهم بإذن الله. وفي الحديث الآخر يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: {سُئل رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي المدينتين تفتح أولاً قال: مدينة هرقل تفتح أولاً قبل روميا} فـ القسطنطينية تفتح أولاً، ثم تفتح روما، أو روميا مقر البابوية الكاثوليكية، وهي العاصمة الدينية لـ أوروبا. إذاً عندنا بشائر والحمد لله بأن المستقبل في الأخير للإسلام، مهما توحد الغرب، وأنه مهما حصل من معارك على يد الغرب فالنهاية للمسلمين بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكني أعود فأذكر وأوجز، أن الواقع الآن، والمستقبل القريب منذر بخطر عظيم يستدعي منا أن تتضافر الجهود جميعاً لبيان معنى لا إله إلا الله، لبيان الولاء للمؤمنين، والعداء للكافرين، ولبيان حقائق الإسلام، كما أنزلها الله تعالى، وكما بلغها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما طبقها السلف الصالح وأصلوها في كتبهم، وبإلغاء بل بمحاربة شديدة لكل دعوى تدَّعي أنها تبدل أو تغير أو تجدد في دين الله سبحانه ما ليس منه فتجعله مرناً أو عصرياً، إلى آخر الدعاوى التي يأتي بها هؤلاء الذين سينبتون على أعين الغزاة الروم الجدد.

حاجة الأمة الإسلامية إلى اليقظة العلمية

حاجة الأمة الإسلامية إلى اليقظة العلمية نحتاج إلى يقظة علمية، ولا تكفي هذه الصحوة العاطفية التي نشهدها، بل يجب أن تكون يقظة علمية، كما كان العلماء في الماضي، وأن تقاد الأمة بطريق العلماء. نحتاج إلى وعي مركز وقوي ونشط، ومعرفة بالواقع، ومعرفة الأعداء وغزوهم، وخططهم ومحاولاتهم. وأن نستبعد دائماً الانفعالات العاطفية، والتحليلات والتفسيرات السطحية أو الساذجة أو القريبة التي قد تكون أحياناً حقناً مخدرة للأمة دون أن نشعر، وأن نعلم أن الزمن يتقارب، والأمم تتقارب، وأن التقارب الذي حصل أو قد يحصل الآن في أوروبا لتوحدها، كان حقيقة مبنياً على تقاربٍ فعلي، وهو أن الرأسمالية تنازلت للعمال كثيراً، وأن الشيوعية أعطت أيضاً الناس ملكية خاصة فتقاربت الأنظمة، ثم تقاربت الأمم بطريق وسائل الاتصال، حتى أصبح العالم كما يسمى قرية إعلامية! ثم توحدت التوحد الصليبي القديم، وبدأت الآن كل أمة في العالم تنبش وتبحث عن ماضيها، وتفتخر برجالها الأولين، فـ الهند تريد أن تظهر، واليابان، وكوريا، وكوبا وغيرها كذلك، كل أمة تريد أن تظهر وتفتخر بماضيها، ونخشى أن تضيع الهوية الإسلامية إن لم يكن لدينا هذه الجدية. والزمن سريع جداً وما نستطيع أن نعمله اليوم، لا يجوز أن نؤخره إلى غد، ويجب أن تتركز الجهود نحو هذه المقاومة، مقاومة الأعداء الداخليين!! الذين يريدون إبعادنا عن منهج الكتاب والسنة بالبدع والضلالات في الوقت نفسه ولا انفصام بينهما، محاربة بالغزو الفكري بكل أشكاله وألوانه وصوره. فلابد أن نقاومهم مقاومة إيجابية حقيقية، حتى لو أدى الأمر إلى أن الإنسان المسلم يفكر في السلعة التي يشتريها بريال واحد من الغرباء، يفكر قبل أن يشتريها، لأننا لا بد أن نستغني عن هذا العدو، وما دمنا نعيش على استجدائه ثقافياً، واقتصادياً، وفكرياً، فلا بد أن سيطرته تظل مفروضة علينا، ولا بد أن يأتي يوم ندفع فيه ثمن هذا الترف الكاذب، الذي تعيشه الدول الغنية في العالم الإسلامي، ومرارة الحرمان المفروض على الدول الأخرى الفقيرة، سندفع ثمنه، لأنا أضعنا الفرصة في أن نحاول أن نواجه مواجهة شاملة وعامة، وعلى مستوى تكوّن العقيدة، وتكّون أحكام الله، ويكون منهج السلف الصالح هو الذي يوجهه في كل صغيرة وكبيرة. إلى هنا أختم حديثي، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكتب لي ولكم الأجر إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

مدى تأثير روسيا على الجمهوريات الإسلامية المجاورة

مدى تأثير روسيا على الجمهوريات الإسلامية المجاورة Q ما هو تأثير هذه التطورات على الجمهوريات الإسلامية في روسيا، وهل للشيعة تدخل في روسيا وما موقف روسيا منه؟ A طبعاً التأثير العام حاصل، فكما حصل انتعاش في دول أوروبا الشرقية، حصل أيضاً انتعاش للمسلمين، والأمل كبير في رفع هذا الكابوس الرهيب. وبدأنا نسمع عن إنشاء مساجد، وإرسال مصاحف، وأمور طيبة، وأتوقع أن يكون لها شيء من الحقيقة؛ لكن أقول: لا ننسى تجربة استالين ولينين أول ما أعطوا المسلمين المصحف - مصحف عثماني أي من أيام عثمان رضي الله عنه- الذي يقولون إن القيصر يحتفظ به، وأهدوه للمسلمين وأعلنوا الأخّوة والمحبة، وأعلنوا زيادة المساجد، وأعلنوا وأعلنوا أكثر من خمس سنوات، وكانت بعد ذلك الإبادة التي تحدثنا عنها. العدو اللدود لن ينسى أبداً أننا أعداؤه، حتى لو تناسينا نحن عداوته، فالآن الشعوب حتى الأفراد الذين غرقوا في الغرب إعجاباً به وانبهاراً بما عنده، ليس لهم قيمة عند الغربيين بل ويعتبرونهم أعداء. الآن الاتحاد السوفيتي لا يثق في الأحزاب الشيوعية العربية، ولا في الأحزاب الشيوعية الإسلامية، وهنا طرفة قالها السادات، قال: هو في الدنيا كلها يوجد قسم ديني في حزب شيوعي في مصر يوجد قسم ديني، ومحاضرات إسلامية، في ضمن الحزب. المقصود يا إخوان اللعبة لا ينبغي أن تتكرر، ولا ينبغي أن نخدع، الغرب ينظر إلينا ويعتبر أن هذا وإن كان شيوعياً ماركسياً فاسمه محمد وعبد الله وفلان، فإذن لن يعطيه الولاء كما يعطيه للإنسان الأوروبي. أذكر قصة ذكرها جورباتشوف في كتابه (إعادة البناء) يقول: 'عمل فلم مشترك بين الروس والأمريكان يبحرون خلال نهر الفولجا، يقول وكنت أقول للرئيس الأمريكي انظر، هل تستطيع أن تميز الأمريكيين من الروس؟ قال: لا، لا يمكن' ما معنى ذلك: معناه أنا شعب واحد، أمة واحدة، دين واحد، حضارة واحدة، لا يكاد يوجد بيننا أي فرق، العدو اللدود هو المسلم. حتى الآن لم يؤخذ رأي الأحزاب الشيوعية، إلا ما كان منها عميلاً صرفاً، فهو ينفذ المخطط في منطقته بطريقته -مثلاً- وليست الثقة الكاملة في أية حال، فكيف يوثق بالمسلمين أن يرجعوا إلى الإسلام. قلت -وقد أشرت إليه سابقاً-: سيسمح بلون من التدين -أو قد يسمى إسلاماً- ولكن ليس الإسلام الذي أنزله الله، ولا الإسلام الذي طبقه وآمن به السلف الصالح هذا يجب أن نؤمن به وأن نضعه في الاعتبار. أما بالنسبة لـ الشيعة لا نملك معلومات وافية، عما يحدث في أذربيجان باعتبارها مواليه لـ إيران وفيها شيعة، وإن كانت أذربيجان فتحت في عهد الخلفاء الراشدين وهي على سنّة، حتى إيران كانت على السُنّة إلى أيام الصفويين وهناك أبيدت السنة إبادة تامة أو شبه شاملة، في معظم مناطق إيران ما عدا المناطق التي كان يسيطر عليها العثمانيون الأتراك. أقول: لا نستطيع لأن المصادر غربية، وأنا أتحفظ كثيراً أن أتكلم عن أي شيء من خلال المصادر الغربية وحدها، ولذلك لما تكلمت عن جورباتشوف، اعتمدت على نفس كتابه وبالتحليل العام لا ندخل في تفاصيل أخرى، حتى نتمكن من معلومات أكثر.

موقف العالم الثالث من النقلة الشيوعية وما حقيقته

موقف العالم الثالث من النقلة الشيوعية وما حقيقته Q بما أن الشيخ تطرق للأحزاب الاشتراكية التابعة للحزب الشيوعي في روسيا، ما هو موقف دول العالم الثالث التي تتبع وتوالي النظام الشيوعي بعد التطور الجديد؟ سؤال ثان: في إحدى المؤتمرات الإسلامية قال أحد المفكرين: إن تلك النقلة التغييرية في فكر الشيوعية هي حيلة ووسيلة للدخول إلى أوروبا والغرب عن طريق تلك النقلة فما تعليقكم على ذلك؟ سؤال آخر: يقول أحد أعضاء الأحزاب الشيوعية العربية: إن انهيار الشيوعية في تلك البلاد، ناتج عن عدم التطبيق الصحيح لتلك المبادئ، أما الأحزاب العربية فلا زالت في مرحلة التطبيق فما رد فضيلتكم على ذلك؟ A بالنسبة للعالم الثالث، فإنه لم يكن له رأي، بل تقرر القرارات ثم تطبق، وأفضل حال للعالم الثالث، أن يتعامل مع أقل الظروف سوءً، أو يتصرف مع القرار الذي لا يملك له دفعاً. وبالنسبة للعالم الثالث، فإنه ينضم كله تقريباً ضمن ما يسمى بدول عدم الانحياز، وهي دول في الغالب الأغلب عليها الاتجاه الاشتراكي نفسه، ثم هذا العالم وأمام الديون المتراكمة، أمام الضغوط الكبرى عليه لا يستطيع إلا أن يستسلم للأمل الخادع، ولهذا نجد العالم الثالث صحافته متفائلة بالانفراج الدولي بالأوضاع الحالية، بالتحسن الذي سيطرأ على الحضارة الإنسانية، إلى آخره، وستظل الأحلام تدغدغه. على أية حال تهمنا قضية أساسية فيما يسمى بالعالم الثالث، فما كان منه صليبياً لم ينسه السخاء الغربي، وعلى الأقل من العمالة، بالمساعدات والقروض وغيرها، وما كان منه إسلامياً فسوف يتعرض لعقوبات أقسى، ولأوضاع أشد بلا ريب، إلا في حدود ما يمكن أن يسمح بإبقائه ليكون منطقة استهلاك للإنتاج الغربي هذا هو المتوقع في الجملة. بالنسبة للذي قال إنه وسيلة، أقول: نعم، هذه وجهة نظر وهي تطرح في الساحة وأستطيع أن أقول: إنها وجهة نظر جورباتشوف الحقيقية، التي يريدها ونستشفها من أعماله: التغلغل داخل المجتمعات الغربية عن طريق الأحزاب الشيوعية، وعن طريق نشر الفكر الشيوعي، وعن طريق تحديث الفكر العالمي كما يسمى. أما قول الشيوعي العربي: إن انهيار الشيوعية بسبب أنها لم تطبق تطبيقاً نهائياً، وأن الأحزاب العربية الشيوعية في مرحلة التطبيق، فنقول كما قال الشاعر: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود لم يؤخذ قول الأحزاب العربية، ولن يؤخذ إن حضروا وإن غابوا، لا أحد يهمه كلامهم، وكما عبر أحدهم يقول: أنا أخشى أن تستمر هذه الموجة من إعادة البناء، حتى تصل إلى حد أن ينتقد ماركس ولينين نفسه، أخاف أن يصل إلى حد الردة الكبرى. فالآن هذه القضايا عنده هي ارتكاب كبائر، وانحراف، وبدع، ويخاف أن يصل الأمر إلى الردة الكبرى، إنهم متخوفون على سمعة لينين أكثر من جورباتشوف نفسه. هؤلاء ما قيمتهم ما وزنهم، حتى يقولو: إنا نطبق أو لا نطبق؟ لقد فشلت الشيوعية، وانهارت كمبدأ وكفكرة، متى طبقت الشيوعية تطبيقاً صحيحاً، حتى نقول إنها تراجعت؟ فهي لم تطبق أصلاً تطبيقاً كاملاً؛ لأنها لا يمكن أن تطبق في الواقع تطبيقاً كاملاً، وكما أشرنا إلى تلكم التجارب الشيوعية تجربة لينينية، تجربة إستالينية، تجربة خوروتشوفيه، ثم تجربة برجنيف وجورباتشوف، فهذا الكلام هراء أو هو من الدغدغة العاطفية الذي تعيشها الأمة الإسلامية أحياناً، أو تحصل لدى الأحزاب الشيوعية.

أثر الجهاد الأفغاني على روسيا

أثر الجهاد الأفغاني على روسيا Q ما أثر الجهاد الأفغاني على روسيا؟ وهل انسحاب الروس الحاصل هو عن عجز أم خطة جديدة لـ روسيا؟ A أما أثر الجهاد الأفغاني على روسيا، فبالطبع كانت تجربة مُرة، لم يكن يتوقع الاتحاد السوفيتي، حتى أعداء إعادة البناء المحافظين أشد المحافظة، لم يكونوا يتوقعون تلك النتيجة التي حصلت ولله الحمد على يد هذا الشعب المسلم، ولذلك لجأوا إلى المناورات السياسية كما رأينا. الآن أعلن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية معاً الاتفاق على إعادة الملك، وأن يتولى الأمور في أفغانستان ولو لفترة وجيزة، بديلاً عن المجاهدين وعن نجيب الله معاً، وهذا من نتائج الوفاق الدولي الذي نقول في ظل الوفاق سنجد أنفسنا في مواقف صعبة للغاية. المقصود أن الجهاد الأفغاني كان له أثر كبير جداً، وجورباتشوف استطاع أن يوظف هذا لمصلحة إعادة البناء، ويعتبرها من الأخطاء، ويقول: لو أن إعادة البناء كانت مطبقة من قبل أو كان لها رأي أو دور بارز لما كان هذا التدخل. فقد قال في كتابه - ولا بد أن يتطرق هذا الكلام إلى الأذهان - نعم هذا البلد اضطررنا أن نتدخل فيه لمّا أن رأيناه يكاد أن يقع في قبضة الإمبريالية الأمريكية، وبيننا وبين أفغانستان اتفاقية دفاع مشترك، وقد طلبت منا أكثر من عشر مرات الحكومة الأفغانية التدخل لتخليصها من يد الإمبريالية. فاضطررنا حماية للإنسان الأفغاني -كالعادة في الشعارات - ويقول: كنا نأمل أن نصل إلى حل عاجل في القضية، ولكن تزويد أمريكا للثوار بصواريخ (ستنجر) وأمثالها مما يؤجل في عملية الحل والحسم في أفغانستان، وبالطبع في المنظور القريب إن لم يجمع الناس على عودة الملك -وطبعاً لن يجمعوا- سوف تقسم أفغانستان هذا هو المتوقع! ونسأل الله أن يعين إخواننا المجاهدين هناك على أية حال، ولكن هناك بوادر لتقسيم البلد إلى منطقة شيوعية وإلى منطقة أخرى للمجاهدين، أو شكل من الأشكال والله أعلم ماذا يكون بعد ذلك. أما الجواب عن الطرف الثاني من السؤال وهو: انسحاب الروس عن عجز أم فيه خطة. أقول: الاثنان معاً. أولاً: فيه خسائر فادحة. ثانياً: الخطة واضحة انسحب الروس، ولم ينسحبوا جميعاً بل بقي المستشارون والعقول المدبرة. ثالثاً: أرطال المساعدات تتدفق إلى أفغانستان إلى الحكومة الشيوعية. رابعاً: المليارات تتدفق أيضاً عليهم. خامساً: في المحافل الدولية ما زال الاتحاد السوفيتي مصراً على رأيه في أن أمريكا مع المجاهدين، فهو لا بد أن يكون مع الشيوعيين. فاللعبة ستطول، وكسب جورباتشوف من جهة نوعاً من حفظ ماء الوجه بالانسحاب، ومن جهة أخرى يريد أن يكسب الموقف في النهاية وهو فرض حكومة قريبة من الشيوعية أو شيوعية في منطقة ما -على الأقل- وإن تم التقسيم، لن يفرط هؤلاء المجرمون بسهولة، ولا نقول هذا تثبيطاً، فالمستقبل للإسلام، والأمل موجود، لكن يجب أن نضع الحقائق ونترك الأحلام العاطفية الهائجة.

مدى قدرة العالم الإسلامي على مواجهة الدول العظمى

مدى قدرة العالم الإسلامي على مواجهة الدول العظمى Q بعد الأحداث الأخيرة، ما هو توقعك لأثر اتحاد الألمانيتين على وجود قوتين عظميين في العالم، وما هو أثر ذلك على العالم الإسلامي؟ وسؤال أيضاً عن العالم الإسلامي وقدرته على مقابلة ما فعله جورباتشوف، وهل يستطيعون الدخول في مثل هذا المجال أم لا؟ A بالنسبة لتوحيد الألمانيتين أمر عادي جداً أن يتوحدا، وسيتوحدا في ظل اتفاقيات صارمة للسيطرة على ألمانيا لكيلا تعود إلى قوتها السابقة فتهدد المعسكرين، وسوف تتدفق رءوس الأموال. وطبعاً ألمانيا الغربية من أقوى دول العالم اقتصادياً، وسوف تتدفق ملياراتها وشركاتها على أوروبا الشرقية، ويرتاح الاتحاد السوفيتي من النفقات الباهضة التي ينفقها على قرابة سبعمائة ألف جندي في أوروبا الشرقية، وبطبيعة الحال سيحرج الولايات المتحدة الأمريكية التي إن أبقت سلاحها وقواتها فهي تظهر أمام العالم أنها تريد الاحتلال ولا ترغب في السلام، وإن سحبتها فسوف تتراجع إلى وراء البحار كما أشرنا، بينما الاتحاد السوفيتي وجوده حاضر، ووجوده الفعلي قريب، ولا سيما مع وجود عابرات القارات في حالة الاضطرار إلى ذلك. فقضية ألمانيا جزء من القضية الكبرى، وتأثيرها علينا نحن المسلمين لا يشكل أي أهمية بقدر ما يشكل على أوروبا الشرقية. وأثر ذلك على العالم الإسلامي أننا في ظل الخلاف بين الشرق والغرب، وضعنا هذا المتردي المحزن المؤلم الذي عبر عنه الشاعر: أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كيف تظنونه في ظل الوفاق، وفي ظل التكتل القوي الدولي الذي كما قال جورباتشوف نراعي مصالحنا المشتركة نحن، وننسق ونتفق ونتحاور، ثم الاتجاه إلى الآخرين "الأعداء" بموقف موحد وقوي.

البديل الديمقراطي للشيوعية

البديل الديمقراطي للشيوعية Q أغلب المحللين يتوقعون أن يكون الحل الغربي الديمقراطي بديلاً للشيوعية، فهل يمكن أن يكون ذلك؟ Aهذه طبعاً سذاجة من جهة. يجب أن نعلم أن الغرب مفخرته في التاريخ كله الديمقراطية، الغرب ماذا حقق للإنسانية؟ الإنسان الغربي يعيش أسوأ أنواع الاضطهاد إلى أن جاءت الثورة الفرنسية ثم ظهرت الديمقراطية. ليس للغرب أي ميزة فكرية، عدا هذه التي تسمى الديمقراطية أو حرية الإنسان، ولهذه الإعلانات المتكررة عن حقوق الإنسان وانتهاكاتها في دول العالم الثالث، وكذا وكذا، لإيهام الناس أكثر بأن الغرب والديمقراطية هي الحل. لكن هل الديمقراطية سوف تسيطر على العالم لتصبح عقيدة المستقبل -كما يقول الناعقون في الغرب وأتباعهم هنا- في الشرق؟ لا، الأحزاب الشيوعية نفسها تدعي أنها ديمقراطية، هل قام في العالم الإسلامي دولة اشتراكية ما سمت نفسها الديمقراطية؟ كل واحد يدعيها، ويرفع لواءها، ويُسمى بها، فالقضية ليست بهذه البساطة، فمبدأ مرن ومنهج مرن واسع، كل إنسان يمكن أن يدعيه. على النمط الغربي الكامل (100%). نقول: يكفي أن من إفرازاته أن الأحزاب الشيوعية والاشتراكية تحكم كثيراً من البلاد، فما بالكم بالدولة التي هي الشيوعية الأم. افرض أنه سمح لغير الحزب الشيوعي بالحكم كما قد يحدث في روسيا كما في تشيكوسلوفاكيا وغيرها فالحكام سيكونون شيوعيين أو اشتراكيين لكن ليسوا من الحزب الشيوعي. ما الفرق؟ لا شيء! هذه الخسارة المحدودة هنا يعوضها احتواء والتفاف حول العالم الأوروبي الغربي بأكمله ليوضع في حوزة أنظمة أو عقول مدبرة، تسعى إلى مستقبل أوسع للاشتراكية كما يقول جورباتشوف.

استغلال اليهود لحدث التطور الروسي

استغلال اليهود لحدث التطور الروسي Q هل استغل اليهود حدث التطور الروسي الجديد، وما هي علاقة الهجرة الروسية الجديدة بالتطور؟ A طبعاً من أول لحظة، وتعجبون كيف أنه عندما التقى بوش وجورباتشوف وأعلن عن الهجرة اشتراطاً وبدأت شركات الطيران تتطوع، أو حتى تنذر نفسها لحمل المهاجرين. إذاً هو اتفاق واضح. ما قيمة مائة ألف هاجروا إلى دولة ما؟ ما قيمة الهجرة بالنسبة لمسائل السباق النووي، حرب النجوم، التسلح، تراكم الديون، الشمال الغني والجنوب الفقير -كما يسمى- قضايا خطيرة جداً، ومع ذلك قضية اليهود في الصدارة وفي القمة في كل لقاء وعلى كل لسان، والآن اقرأ أي صحيفة تجد الأحاديث والأخبار عن هذه الهجرة بما يدل على عمق المسألة، والجدية في تطبيقها.

كتب سياسية عن أحداث إعادة البناء

كتب سياسية عن أحداث إعادة البناء Q يسأل عن كتب تفيد في مثل هذا الموضوع وتحليلات سياسية؟ A الكتب طبعاً لا أدري، لأننا نحن المسلمين لا نستيقظ إلا بعد فوات الأوان، ولهذا قلت: اعتبروا هذا الكلام من أخيكم نصيحة ولفت انتباه. وأن تبدءوا بالبحث والتحليل، فيجب على الأمة أن يكون لديها هؤلاء المفكرون. أما التحليلات التحليلات التي في الساحة الآن سطحية، وحقيقة أنا قرأت تحليلات لكنها سطحية للغاية، وأنا لا أدعي العمق، لكن أقول بالنسبة لما نراه في ظاهر الأمر أمامنا في الساحة الغربية، وفي الصحافة الغربية وفي كلام جوربا تشوف نفسه، ليس ما ذكر قريباً من الواقع أبداً، ولذلك نحتاج إلى جهدنا نحن المسلمين وإلى أن أقول هناك واجب يقع على الصحافة الإسلامية بالذات، أنها ترسل المراسلين، وتستكتب المحللين وتكتب بعمق وبتتبع دقيق وإن طال الزمن؛ لأنا لا نملك الأقلام ولا الأجهزة، لكن مهما طال الزمن يجب أن يكتب تحليل علمي موضوعي مجرد.

دور الصين الشيوعية

دور الصين الشيوعية Q عن الصين الشيوعية، وما دورها الحالي والمتوقع في نظركم مستقبلاً؟ A طبعاً أريد للصين الشيوعية أن تكون فيها إعادة بناء وعلى أيدي الطلبة، سحقت ثورة الطلبة بشكل رهيب جداً والأصابع الغربية واضحة، حتى إننا سمعنا وقرأنا: أن الولايات المتحدة أعطت حق اللجوء السياسي لأربعين ألف طالب صيني يدرسون في الولايات المتحدة دفعة واحدة، بينما لو ذهب داعية مسلم قد يضل سنة أو سنتين لا يحصل على إقامة في هذه الدول التي تدعي الحرية والإنسانية، فالغرب وراء الحدث، لكن الحكومة والسلطة العسكرية تواجهه بعنف، ولها وجهة نظر تختلف عن نظرة جورباتشوف، وفي نفس اليوم الذي أعلن فيه جورباتشوف أن الحزب الشيوعي لن يحتكر السلطة بعد اليوم أعلنت الصين رفض هذه الفكرة، وأن الحزب الشيوعي سيظل محتكراً للسلطة.

موجز عن جهاد فلسطين

موجز عن جهاد فلسطين Q هل بالإمكان أن تعطينا موجز عن جهاد فلسطين من نظرة إسلامية صافية والآمال المتعلقة على ذلك؟ A الجهاد الفلسطيني أول ما بدء قام على أيدي الدعاة الإسلاميين، وقبل أن تعلم به الجبهات العلمانية، فلم تسمع به إلا بعد شهرين تقريباً، وقام في قطاع غزة، وعلى يد دعاة معروفين، واتجاهه أيضاً اتجاه إسلامي معروف وواضح، وأذكر لكم أن أحد المصادر في هذا: بعثة أمريكية لتقصي الحقائق ذهبت ونشرت هذا في مجلة الجيل، وكتابها فلسطينيون وليست إسلامية؛ لكنها ذكرت ترجمة للتحليل، تقول البعثة: الذين يذهبون إلى الضفة الغربية لا يرون الأمور على حقيقتها؛ لأن الضفة الغربية منطبعة بطابع غربي واضح، أما الطابع المتدين الواضح فهو في قطاع غزة، حيث بدأت حركة الانتفاضة، وإلى الآن قطاع كبير والحمد لله من هذه الحركة بيد الشباب المسلم. -طبعاً- مؤامرات دولية وأشياء كثيرة ومستقبل مؤلم، لكنها موجودة كحقيقة. الغرب يركز على الأحداث، وعلى المظاهرات، وعلى الإضرابات التي تنظمها القيادات العلمانية، والفتيات عاريات الصدور والشعور، لكنه إلا ما غلبه أحياناً الصور، ولكنه يطمس ما يكون في المساجد وما يكون من تكبير، وما يقوم به الدعاة والعلماء المسلمون إلا ما غلبه أحياناً. وما يدور على مستوى الساحة العامة يدور بالنسبة لقضية فلسطين، إما الترويض وإظهار نوع من الإسلام المرن المطور، وإما المقاومة، وفي النهاية سنجد اليهود والمنظمات العلمانية جبهة واحدة لاستئصال الإسلاميين فيما لو كان لهم وجود فعلي. وهذه حقائق لا شك فيها، ولا نقولها اعتباطاً بل تجارب مريرة مرت بها حركات الجهاد الإسلامية في معظم البلاد التي كانت مستعمرة تقريباً.

الفرق بين بعض المصطلحات الشيوعية

الفرق بين بعض المصطلحات الشيوعية Q ما هو الفرق بين الاشتراكية واشتراكية الإسلام، والماركسية والشيوعية ويقول: وهل المصطلحات مترادفة وهل في الإسلام شيوعية؟ A بالنسبة للاشتراكية أو الشيوعية فالمصطلحان مترادفان تقريباً لكن لماذا أفرد كلمة الاشتراكية وبدأت تروج. الاشتركية تعبر عن وجهة نظر أو تصور اقتصادي تقريباً، ولذلك وجد غربيون قبل ماركس، مثل سانس سيمون الفرنسي - على سبيل المثال - نادى ب الاشتراكية وقامت حكومة تقريباً اشتراكية وهي حكومة الكوميون كما تسمى سنة سبعين في القرن التاسع عشر في فرنسا اشتراكية كأنها ترمز إلى مبدأ اقتصادي بينما الشيوعية معناها كأنه يعطي دلالة العقيدة الأشمل، هذا تقريباً الفرق، ولكن المصطلحان يكادان يكونان شيئاً واحداً وهو في الواقع كذلك. مصطلح الاشتركية الإسلامية، أو الشيوعية الإسلامية، أو ماركسي إسلامي، هذه نغمة غريبة، أو نشاز، ذكرت أو تعمد ذكرها منذ أيام خورتشوف. لما وجد أن الشيوعية لم تنجح، فأول حزبين شيوعيين في العالم الإسلامي هم الحزب الشيوعي الفلسطيني، والحزب الشيوعي المصري ومعها تقريباً الحزب الشيوعي العراقي، وفي روسيا يعلقون الآمال بمتى تثور الشيوعية في مصر؟ ومتى تثور في العراق؟ فلما جاء الروس أيام جمال عبد الناصر إلى مصر، وجدوا أن الشيوعية لا وجود لها ولا يمكن أن تنتشر. فاتخذوا مبدأ الاشتراكية الذي -كما قلنا- لا يضفي طابعاً عاماً بل كأنه مجرد اقتصاد، وأما فصل الدين عن الحياة، فالمسجد موجود وتطبيق الاشتراكية موجود. واتخذوا أيضاً مبدأ استكتاب بعض الناس من صنفين: الصنف الأول: شيوعيون مثل الشرقاوي وحسن حنفي ومحمد عمارة، وبدءوا يكتبون عن الإسلام، الإسلام الشيوعي، الإسلام الاشتراكي، اشتراكية أبي ذر إلى آخره. والصنف الآخر: وهو الذي عرضت له في المحاضرة الذي يوصف بأنه المعتدل والمرن، انخدع أو بحسن نية المهم أنهم كتبوا عن اشتراكية الإسلام، كما كتب الداعية الإسلامي المعروف مصطفى السباعي رحمة الله عليه، وكما كتب الشيخ محمد الغزالي وغيره، فوجدت الكلمة من الطرفين ولكن أولئك لهم هدف بعيد، وهؤلاء مجرد مخدوعون مع الأسف. والحمد لله أن كثيراً من الإسلاميين عدلوا رأيهم لكن الآن الإسلاميين مخدوعون بـ الديمقراطية، واقرءوا الصحف تجدون أنهم أكثر من يستكتبون -كما في الشرق الأوسط وغيرها- عن الديمقراطية وحرية المرأة، الحرية عموماً.

تأثير الأحداث الجديدة على الحداثة

تأثير الأحداث الجديدة على الحداثة Q ما تأثير الأحداث الجديدة على الحداثة وهل لها علاقة بـ الشيوعية، وما موقف روادها من التغيرات الجارية على الساحة؟ A الحداثة هي أحد وسائل التعمق الفكري لنشر الشيوعية لا عن طريق الثورة، ولكن عن طريق البروستريكا إعادة البناء، وهناك شيوعي فرنسي معروف وهو زعيم بارز من أكبر زعماء الشيوعية كان نظيراً لـ رجاء جارودي الذي قد يكون له دورٌ آخر، ولكن يهمنا الآن هنري لوفيفر، وهنري هذا شيوعي معروف بارز جداً في فرنسا كتب كتاباً اسمه الحداثة، يقول: إن الحداثة هي ظل الثورة الغائبة هنا، وغير المكتملة هناك، الحداثة هي ظل الثورة الشيوعية الغائبة في فرنسا، وغير المكتملة في موسكو. لأنه يريد أن تطبق الشيوعية وأن تعم العالم، وذكر أنه بواسطة الحداثة يمكن أن يعاد العالم المقلوب ليقف على قدميه وليعرف الحقائق، ويقول: نستفيد من الحداثة في هدم رموز الماضي: الأديان، والعادات، والتقاليد وكل شيء تمهيداً لإقامة الشيوعية النهائية الأخيرة، التي لا أخلاق فيها ولا قيم ولا مبادئ، ولذلك عندما تتعمد الحداثة ضرب اللغة وهدمها، يُقال: قضية أدبية، قضية لغوية لا علاقة لها بالدين. والحقيقة أن ضرب اللغة "ضرب النص" أكبر عملية ضرب يمكن أن توجه إلى أي دين، فلو أن أحداً أراد أن يهدم القرآن مثلاً، فهل تتوقع أنه يحرق نفس المصاحف؟ لو هدم النص القرآني وقال: النص القرآني ليست دلالته كذا، كما فعلت الباطنية، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قالوا: البقرة عائشة إلى آخر التأويلات الباطنية التي أفقدت القرآن معناه تماماً، وأفقدت الحديث معناه تماماً وجردته، فإذا جردت اللغة من مدلولاتها، فالنص الشرعي "القرآن والسنة" لم يعد لهما مدلول، إذن الأمة لم يعد لها قرآن، وإن كان موجوداً مكتوباً، فقد جرد من معناه ومن دلالته، وهذه أحد أهداف الحداثة. والعلاقة بين الواقعية الاشتراكية، أو كما تسمى "المذهب الواقعي الاشتراكي" وبين الشيوعية أنها نسخة طبق الأصل، واستالين هو الذي استطاع أن يأتي ويجعل جاكوسن المجرم الملحد وأمثاله يمثلون المدرسة الروسية الشكلية وهي أساس الحداثة، فالمدرسة الشكلية الروسية هي أساس فكرة الحداثة والبنائية في عالم الغرب ثم في العالم الذي صدرت إليه. عموماً: الاتجاه الواقعي في الحداثة هو نسخة عن الفكر الشيوعي. وإذا أردت مراجعة أية مقالة حداثية واقعية ستجدها تتكلم عن الحوارات الجدلية، الديليكتيك، الصراع، الطبقية إلى آخره، وتجده مليء بالمصطلحات الشيوعية، وبعد ذلك له ما بعده، لماذا؟! لأن الأحزاب الشيوعية أخفقت كتنظيم، فاستعيض عن ذلك بفكرة ثقافية تتغلغل في الصحافة، وفي الأندية الأدبية، وفي كل مكان دون أن يشعر أن وراءها هدف آخر، ومن الثقافة ينشأ التنظيم، هذه هي عملية إعادة البناء، يقول جورباتشوف: من الثقافة ينشأ التنظيم، فأول شيء ثقافة شيوعية ثم بعد ذلك ننظم الناس، لكن يبدءون ينظمون الناس في الشيوعية ثم يثقفون المجتمعات بها أو عن طريق الثورة فلا تنجح.

النظر إلى المناهج لا إلى الأشخاص

النظر إلى المناهج لا إلى الأشخاص Q يقول الشيخ رحمه الله إن محمد عمارة من الشيوعيين، وللتنبيه هو على طريق الحق الآن؟ A أنا ما كنت أريد التعرض للأسماء؛ لأن الأسماء تسبب إشكالاً، ولكن أقول: استكتبوا وهم شيوعيون في الأصل، هل الآن كتاباتهم من الكتابات الإسلامية، أسأل الله أن يكون رأيي خطأ، ولكن ستثبت الأيام على أية حال، ولا أستطيع أن أفصل الآن، ولو كان في وقت آخر للحديث المفصل عن هذه النوعية المستكتبة هذا وأمثاله لهم مدرسة فكرية معينة، ولهم اتجاه واضح، تتبناهم اتجاهات أو دول واضح ولاؤها. أقول: هذا الرجل وفهمي هويدي وكمال أبو المجد وحسن حنفي وعبد الرحمن الشرقاوي لهم اتجاه معروف. وأقول: ما كنت أريد أن أذكر الأسماء لما تثيره من حرج وحساسية، وأقول بصراحة: بهذه المناسبة نحن أمة لم نرتق إلى أن ننظر إلى المناهج بغض النظر عن الأشخاص، أمة لا تزال ترتبط أمورها بالأشخاص، أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي وقف في أشد اللحظات حرجاً في تأريخ الأمة الإسلامية على الإطلاق يقول: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت]] يقول في هذا الموقف وفي حق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لحكمة واضحة. نحن لدينا منهج، فعادة إذا ذكر الأشخاص بعض الناس لعاطفة ما، أو نظرة ما، أو حب لشخص ما ينعكس هذا الأثر على إخفاء المنهج، أو تشويه المنهج، أو الغض من قيمة المنهج مقابل الشخص، بينما المفروض أن كل الأشخاص هم يخدمون هذا المنهج، وكلنا يجب أن نسعى من أجل هذا المنهج، ومن أجل إقامة هذا الدين بغض النظر عن الأشخاص دون أن نظلمهم، ودون أن نتجنى على أحد، وقد نخطئ في حقهم طبعاً ونتراجع، ولكن يبقى أن المنهج فوق جميع الأشخاص، فأقول هذا كقضية عامة، وإن كان هذا الرجل في ذاته لا يستحق هذا الشيء. والحمد لله رب العالمين.

إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول

إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول إن من مقتضيات الإيمان المحبة لله ولرسوله، ولا يكون الحب صادقاً حتى يكون المحب مطيعاً في كل شيء، ومن ادعى المحبة وخالف من يحب فهو كاذب في دعواه. ولقد تجسدت المحبة الشرعية التي يجب أن تكون لله ولرسوله في واقع الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا يمثلون في ذلك منهجاً وسطاً لا إفراط ولا تفريط، ولعل أرقى منزلة يبلغها المحب هي التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة العبودية.

شرك المحبة

شرك المحبة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فنحن في زمان قست فيه القلوب، وانقطعت فيه أواصر المحبة، وقلبت فيه المفاهيم، ولبس الأعداء ثياب الأصدقاء، وتبارى المبغضون والمعادون ليتزيوا بزي المحبين والمخلصين، في هذا الزمان نحن أحوج ما نكون إلى الحديث عن المحبة، ولا نعني المحبة التي فقدها الناس فيما بينهم، وإنما: المحبة العظمى، التي لا سعادة ولا راحة ولا طمأنينة للقلوب البشرية إلا بها، وهي محبة الله تبارك وتعالى ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمحبة شأنها عظيم وأمرها جليل، فإنها من أعظم أعمال الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل كما هو عليه إجماع أهل السنة والجماعة، والمحبة هي أساس كل عمل من الأعمال، كما أن الصدق هو أساس كل قول من الأقوال، فأعظم أعمال القلوب هما: المحبة والصدق، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة} والنصيحة تتضمن الصدق والمحبة معاً، فإنك إذا نصحت لأحد أو نصحت أحداً فإنك تحبه وتصدق له، وهذان هما أعظم أعمال القلوب، والمحبة هي أساس جميع الأعمال سواء أعمال القلوب أم أعمال الجوارح. فلا دين ولا إيمان لمن لا محبة له، ونعني بذلك المحبة الشرعية أو المحبة الإرادية الاختيارية، لا المحبة الطبعية الفطرية، فهذه المحبة الشرعية الإرادية الاختيارية هي التي وقع فيها الضلال والانحراف، وبسببها عبد غير الله تبارك وتعالى، ووقعت الإنسانية في أعظم ذنب عُصي الله به وهو الشرك به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فلو تأملنا حقيقة العبادة التي خلقنا من أجلها، وخلق الله تبارك وتعالى الجن والإنس لها، لوجدنا أن العبادة إنما هي درجة من درجات المحبة، فمن عبد شيئاً فإنما عبده لأنه أحبه حباً عظيماً في قلبه اقتضى واستوجب ذلك الحب أن يعبده ويطيعه ويرجوه ويخافه ويصرف له جميع أنواع العبادات.

لوازم المحبة

لوازم المحبة محبة والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تبع لمحبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومحبة الله من لوازم الإيمان ولا يُحب الله ولا يدعي محبته أحد لا يتابع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قالت اليهود والنصارى كما حكى الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فالدعوى المجردة كلٌ يدعيها، حيث يدعي اليهود أنهم أحباب الله، ويدعي النصارى أنهم أحباب الله، ويدعي أصحاب الضلال أو أصحاب البدع أنهم أحباب الله وأحباب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ما الذي يميز ذلك ويصدقه أو يكذبه؟ أقول: هنا آية عظيمة قال عنها السلف: إنها آية الامتحان، التي يقضي الله بها على الدعاوى ويبين الحقيقة من الزيف: يقول الله تبارك وتعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] فسماها السلف آية الامتحان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] فهل الأمر متروك لكل من ادعى دعوى محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعباده الصالحين، وهل هذه دعاوى تقال أم أنها حقائق تصدقها الأقوال والأعمال- أعمال القلوب وأعمال الجوارح-؟ لا، فالأمر أعظم من ذلك: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وهذه الآية من تدبرها وجد فيها دلالة عظيمة على ما بلغه القرآن مما لا يبلغه كلام أي أحد، لأنه كلام الله عز وجل، الذي قال فيه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] فيها بيان وبلاغة عظيمة؛ لأن هذه الآية تضمنت شرطين في آية واحدة، شرطين اتصل بعضهما ببعض، الشرط الأول وهو: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران:31] فـ (إن) أداة الشرط، و (تحبون الله) الشرط، وجوابه {فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، ثم جعل جواب الشرط شرطاً وجعل له جواباً آخر قال: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. ولهذا إذا أردتم أن تعرفوا فقه السلف الصالح وفهمهم لكتاب الله، وكيف أحبوا الله ورسوله حق المحبة، وذلك عندما فهموا كلام الله وفهموا حقيقة الإيمان، فانظروا إلى قول القائل منهم: "ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب ' كيف هذا؟ اليهود قالوا: نحن نحب عزيراً، ونحب موسى، ونحب الله، والنصارى ألّهوا المسيح عليه السلام من دون الله، وقالوا هو ابن الله، فهم يحبونه ويدعون ذلك ويزعمونه، ويرون أنه من محبتهم لعيسى أن يقولوا: إنه ابن الله، وأنه إله، فليس الشأن بأن تُحبوا، لكن الشأن بأن تُحَبُّوا أنتم، أي: أن يحبكم الله عز وجل، ويحمد لكم هذه الأعمال التي تزعمونها والمحبة التي تدعونها، والله يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران:31] فيا من تدعون محبة الله، وما من مؤمن ولا مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا وهو يقول أنا أحب الله، ولو كان في قلبه مثقال ذرة مما يضاد ذلك لما كان مؤمناً، فيقولون: نحن نحب الله، إذاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فإذا اتبعناه ماذا يحصل، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فهذا هو الأساس والغرض وهو أن يحبنا الله عز وجل، فلا يحبنا الله إلا إذا كنا متبعين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً. أما ادعاؤنا بأننا نحب الله، أو نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يلزم منه ذلك، فقد ندعي ذلك ونكون غير محبوبين عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن إذا أحبنا الله فلن يحب الله عز وجل إلا من كان حقيقة محباً لله ومحباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكون ذلك إلا لمن كان متبعاً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يطابق قوله فعله، ولا يأتمر إلا بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما كان يفعل الصحابة الكرام.

عاقبة شرك المحبة

عاقبة شرك المحبة ومن هنا جاء الوعيد الشديد في حق هذه الأمة إن هي ركنت إلى أي صارفٍ أو مُغرٍ أو ملهٍ عن محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] فهذا فسق وعمل يستوجب الوعيد الشديد: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وهذا الأمر من أول بداياته أن يُذهب الله تبارك وتعالى النصر والعز والتمكين، ويورث تلك الأمة الذل والخسارة والضياع، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديث الذي يقارب معنى هذه الآية: {إذا تركتم الجهاد وتبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم}، وهذا هو الوهن الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حب الدنيا وكراهية الموت، لكن إذا كان الله ورسوله أحب إلينا من كل هذه المغريات والشهوات والملهيات فهذه هي حقيقة الإيمان، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً} ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الآخر: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} فهذه هي حقيقة أو ضرورة المحبة، أن يكون قلب الإنسان ممتلئاً بحب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحب ما أمر الله ورسوله به، ولا يكون في قلبه أدنى مثقال ذرة من كره الله، أو كره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كراهية شيء مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد وقع في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصة ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن في شأن المنافقين الذين خلت قلوبهم من محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عافنا الله وإياكم من النفاق- يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فهذه الآيات نزلت في المنافقين لما أظهروا بغض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرههم واستهزاءهم بهم، فهم لم يستهزئوا بالله عز وجل بعباراتهم التي قالوها، ولم يستهزئوا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يظهروا بغض الله عز وجل، أو بغض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما أظهروا بغض الصحابة على طريق الاستهزاء بهم، الاستهزاء الذي ينمُّ عما في القلب من بغضاء وعداوة وحقد يتنافى مع المحبة التي أمر الله تعالى بها له ولرسوله وللمؤمنين، فقالوا: {ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أوسع بطوناً ولا أجبن عند اللقاء}، فهم سخروا واستهزءوا بالصحابة الكرام من القراء، بأنهم يقبلون عند الطعام، ويتأخرون عند الفزع وعند مجيء العدو، وكأن حال المنافقين العكس، وهذا هو أبطل الباطل وأكذب الكذب فماذا كانت النتيجة، أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآيات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] وهذا الذي وقع، فعندما سألهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: إنما كنا نمزح ونلهو ونخوض ونلعب، ولم نكن نقصد الإساءة إلى الصحابة وإلى هؤلاء القراء، فبماذا رد الله تبارك وتعالى؟ أرشد الله رسوله وعلمه كيف الرد عليهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فهم لم يذكروا الله عز وجل في كلامهم ولم يذكروا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: لم يستهزئوا بهما، وإنما استهزءوا بالقراء، ولكن الرد أتى من عند الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] ثم يقول: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] فعملكم هذا لا يغفره عذر، ولا يطهره ما تقولون وما تزعمون، بل هذا مخرج لكم من دين الإسلام -والعياذ بالله-.

شرك المحبة في الجاهلية

شرك المحبة في الجاهلية ومن هنا نرى كيف أن المشركين مع أنهم لم يكونوا يشركون بالله تبارك وتعالى شيئاً في الخلق أو الرزق أو التدبير أو الإحياء أو الإماتة ونحو ذلك، إلا أنهم كانوا مشركين بالله تعالى شركاً أكبر وما ذلك إلا لأنهم كما قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} [البقرة:165] فبهذا ينحل الإشكال الذي لم يفقهه كثير من الناس في باب الإيمان بالله ومعرفة التوحيد والشرك، وهي أنهم لم يفهموا كيف أن الله تبارك وتعالى يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] فالمشركون كانوا يعدلون بربهم كما نطق بذلك القرآن، وفي الآية الأخرى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] فقد وقع من المشركين العدل بالله، فقد عدلوا به غيره وجعلوه مثله، ووقع منهم التسوية بين الله وبين غيره، فكيف نوفق بين هذا وبين إيمانهم بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر كما نطق القرآن في كثير من الآيات بأن الله تعالى متفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر؟ ومن هنا نقول ونعلم أن سبب ذلك هو المحبة، فإنهم لما عظموا وأحبوا هذه المعبودات، وأعطوها من الإجلال والتقدير والانقياد القلبي مثل ما هو لله عز وجل؛ كانوا بذلك مشركين، ولذلك أرسلت فيهم الرسل لتبين لهم أنه لا تُصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا لله وحده، فالحب إذاً لله وحده، وهذا هو الحب الشرعي الاختياري الإرادي.

أول شرك وقع في المحبة

أول شرك وقع في المحبة وأول أمة ارتكبت الظلم العظيم والشرك بالله هي أمة نوح عليه السلام، وقد قص الله تبارك وتعالى علينا أمرهم، وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فبداية ذلك الشرك كان بالضلال في المحبة، فقد ضلوا في محبة الصالحين: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] وهؤلاء كما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَْهِ وَسَلَّمَ أسماء رجال صالحين من قوم نوح، كان قوم نوح يحبونهم ويعظمونهم لله وفي ذات الله؛ لأنهم يعبدون الله، ولأنهم أولياء الله عز وجل؛ لأنهم يرونهم أقرب إلى الله منهم، فأحبوهم وعظموهم من أجل ذلك، فلما ماتوا قالوا: نخشى أن تموت ذكراهم بموتهم، فقالوا: لا بد أن نتذكرهم لنحبهم ولنحب الله ولنعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما كانوا يعبدونه، فصوروهم، ثم تناسخ العلم وعبدت تلك الصور وأصبحت أصناماً، وأصبحت الصور والأصنام آلهة معبودات من دون الله عز وجل حتى إنه لما بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لكل قبيلة من العرب صنمها المسمى بأسماء هؤلاء، كما بين ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الحديث نفسه. فإذاً معرفة حقيقة المحبة ضرورية جداً، والانحراف فيها قد يوقع في الشرك وفي الذنب العظيم الذي يحبط كل طاعة، ولذلك أيضاً نجد أنه لا بد أن يحب العبد ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يحب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن لم يكن في قلبه حب لله ولرسوله فهذا ليس بمؤمن وليس بمسلم، بل ذلك مقتضٍ لأن يحبط عمله وترد جميع أفعاله وأعماله، وإن كانت حسنة في ظاهرها، والله سبحانه قد بين ذلك من حال المنافقين الذين يزعمون الإيمان ولكنهم كانوا في حقيقة قلوبهم يكرهون ما أنزل الله ويكرهون أوامره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] فلما كرهوا ما أنزل الله أحبط أعمالهم، وفي الآية الأخرى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54]، فالإنفاق والعمل إذا لم يكن عن محبة للمتقرب إليه وهو الله تبارك وتعالى، وإذا لم يكن عن محبة لهذا العمل الذي شرعه الله وأمر به، فإن ذلك لا ينفع صاحبه شيئاً ولا يجدي ذلك العمل مهما كان.

المحبة الشرعية

المحبة الشرعية الصديق الأعظم أبو بكر رضي الله عنه، بلغ الدرجة العليا في الصديقية؛ لأن هواه وميوله طابقت ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول، فكان لا يبلغه عن النبي شيء إلا ويقول: [[إن كان قاله فقد صدق]]، قبل أن يسمعه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر إلا وهو ممتثل.

محبة أصحاب الرسول له

محبة أصحاب الرسول له ثم الصحابة في ذلك درجات في نفس ذلك الأمر، ولهذا لما قال عمر الفاروق رضي الله عنه وهو ثاني رجل في هذه الأمة في الإيمان وفي الدرجة العليا بعد الصديق الأكبر: ' يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ' وانظروا إلى صدق الصحابة رضي الله عنهم، حيث كان يقول ذلك وهو صادق، ومن الذي يزعم أنه يحب رسول الله أكثر من أصحابه، فمن قال ذلك فهو كاذب كائناً من كان. فهذا الفاروق الذي يلي الصديق في الدرجة يقول: ' لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -فهل أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآن يا عمر ' الآن أصبح عمر عمراً، وأصبح فاروقاً، وأصبح على الدرجة المطلوبة التي ينبغي أن يكون عليها عمر ومن يقتدي بـ عمر، وهو أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إليه من نفسه {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} هذا ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاتباعه وطاعته وتحكيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أمر، هي التي تستوجب ذلك وتقتضيه وهي التي تدل وتترجم هذه المحبة، لأنها -كما قلنا- ليست محبة عاطفية، وليست مجرد ميل قلبي، وإنما هي محبة شرعية إرادية اختيارية، وبلا شك أنها مع ميل القلب ومع إرادته، لكن لا نترك ميول القلب وإرادته تذهب ذات اليمين وذات الشمال وإلا لوقعنا في أمور إما أنها انتقاص لمنزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما أنها غلو فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو لم تكن محبة شرعية منضبطة بأمر الله ورسوله، فلا بد إذا خرجت عن ذلك أن تذهب تشطح إما يميناً وإما شمالاً، حتى محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الانحراف في المحبة

الانحراف في المحبة إذا نظرنا إلى واقع الناس، فإن أي إنسان يحب إنساناً مهما كان صادقاً في ذلك الحب وحتى لو كانت أماً تحب أبناءها، لكنها لا تعرف حقيقة هذا الابن، فإنها قد تمدحه بما يسخر منه الناس وتظن أنها تمدحه، والناس يعلمون أن هذا ذم في الواقع، وكذلك محبة أي شخص. وقد ورد في أثر إسرائيلي -وكما هو معلوم أننا لا نصدق ولا نكذب هذه الآثار، ولكن المقصود منا هو أخذ العبرة- ورد أن عابداً من عباد بني إسرائيل وكان عمله رعي الحمير، وله حمار يرعاه ولا يعرف هذا الراعي من أحوال الدنيا شيئاً، ولكنه كان مجتهداً في العبادة ومجتهداً في طاعة الله فيما يرى وبقدر ما يعلم، فبلغ في نظره من محبة الله عز وجل عنده أنه قال: يا ربي لو أن لك حماراً لرعيته مع حماري، وهذا من المحبة، وهل هو كاذب في هذا الكلام؟ لا، فهذه هي درجة تعظيم الله في قلبه، هذا هو ظنه وهذا غاية ما يعتقد، ولذلك نهينا عن طريق المغضوب عليهم وعن طريق الضالين، وأمرنا باتباع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فطريقنا طريق الاتباع لا طريق الضلال. وقد ورد أن الشاعر علي بن الجهم لما قيل له أنت شاعر من شعراء البوادي والصحاري، فلو ذهبت إلى الخليفة ومدحته لأعطاك الجوائز وأصبحت من المعظمين في الدنيا، فقال: أذهب، فذهب إلى الخليفة وأعد قصيدة في نظره أنها لا أمدح للخليفة منها، ولا أشد منها في نظره وفي حدود تعبيره ولغته، ففيها الثناء والتعظيم وفيها التقدير للخليفة، الذي يطمع الشاعر من ورائه بالعطاء الجزل والحياة المترفة في بغداد، فقال له: أنت كالكلب في الحفاظ على العهد وكالتيس في قراع الخطوب فضحك منه الناس، كيف تخاطب أمير المؤمنين وتقول أنت كالتيس وكالكلب؟! ففعل هذا الرجل هل كان يقصد به الضحك على نفسه؟ هل كان يقصد أن يسيء إلى الخليفة ويسيء إلى نفسه؟ لا، أبداً، لم يقصد ذلك، ولكن هذه غاية محبته وغاية ما يستطيع أن يعبر عنه، لذا قال هذه العبارات.

مظاهر الانحراف في المحبة

مظاهر الانحراف في المحبة والأمة الإسلامية قد وقعت في كلا طرفي الانحراف، فوجد منها من غلا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أخرجه عن العبودية فجعله إلهاً معبوداً من دون الله تبارك وتعالى، وهذا ماحصل من كثير من الطوائف وحصل حتى مع غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عباد الله من الصحابة، كما فعل مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، أو الحسين أو من التابعين أو من بعدهم من عباد الله الصالحين، أو من يدعي صلاحهم، فحصل الغلو وفتح هذا الباب الذي هو باب هلاك، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما هلك الذين من قبلكم بالغلو} لما غلو في الدين وغلو في أنبيائهم فغلت هذه الأمة تبعاً لهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذه بالقذه حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} فرفع هؤلاء أنبياءهم فوق حقيقتهم، ورفعت طوائف من هذه الأمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوق حقيقته التي هي معلومة بصريح القرآن وصريح السنة، وهذا ما وقع وعَمَّ به البلاء، وواجب على كل من يؤمن به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبه -جعلنا الله وإياكم منهم- أن يدافع عن التوحيد ويسد الذرائع المفضية إلى الشرك، بأن يبين للناس منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحقيقية، ويحذرهم من الوقوع في الشرك ومن الغلو فيه. والجانب الآخر: وقع فيه أكثر المسلمين من العامة، بل حتى من العلماء وغيرهم، وهو أنهم قصروا في متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدموا أحوال غيره على أحواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت مصيبة المسلمين في العشرة القرون الماضية أنهم يقدمون أقوال بعض العلماء على قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتعصبون لهم، وهذا بخلاف ما أمر به أولئك العلماء الأجلاء أنفسهم، وكان ذلك يُعدُّ -وهو كذلك- تقديماً بين يدي الله ورسوله، وإساءة للأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولما ناظر ابن القيم رحمه الله أحد هؤلاء ممن يأتيه الحديث الصحيح فيرده لأن فلاناً قال كذا، فقال له: أرأيت لو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيٌّ الآن يخاطبنا بأمرٍ وقال: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، أكنت تأتمر بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو تقول: أعرض هذا الأمر على قول فلان، أو هذا الأمر يخالف ما قاله فلان من الناس؟ قال: بل أمتثل وأبادر تواً وفوراً، قال: فما الفرق؟ فإذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد لحق بالرفيق الأعلى فسنته وأمره بعد وفاته كأمره في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد من التأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتأدب مع سنته كما كان التأدب مع شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، بألا يقدم أحد بين يدي الله ورسوله، ولا يرفع صوته فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكذلك يجب أن يتأدب معه بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بألا يرفع رأياً فوق سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذه كانت مصيبة الأمة الإسلامية التي حلت بها إلى أن جاءنا الغزو الفكري الحديث، وجاءنا الضلال الكبير الذي وقعت فيه الأمة في الأزمنة الأخيرة، وهي أنها قدمت القوانين الوضعية والأحكام البشرية على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعرضت عما جاء به من الكتاب والسنة والهدي، فحصل بذلك الضلال العظيم، وحصل الكفر المبين لكثير من الناس الذين شَرَّعوا هذه القوانين وسنوها وألزموا الناس بها -نسأل الله العفو والعافية-. فلم يعد للمسلمين في كثير من البلاد شيء يتمسكون به إلا أنهم يؤدون بعضاًَ من الشعائر التي تشابه ما يؤديه النصارى من الشعائر، أما حقيقة الإيمان والاتباع الكامل وحقيقة الإذعان الذي هو حقيقة الشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أشرك به غيره، وأصبح الاتباع لغيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمناهج التعليم، ومناهج الحياة، ومناهج الاقتصاد كل هذه تؤخذ من غير شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم مع ذلك يقولون: نحن نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ويوجد فيهم من يقول: إنه يحب الله ورسوله، فيأكل الربا أو يستحله ويزعم أنه يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ويوالي أعداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود والنصارى والمجوس والبوذيين ويزعم أنه يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! إذا ما نظرنا إلى واقعنا اليوم -مثلاً- التاجر الذي يستقدم العمال الكفرة، هل هذا في الحقيقة محققاً لمحبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لِمَ لا يأتي بالمسلمين؟ يأتي بمن لو سأله عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقال: دجال كذاب مفتري -والعياذ بالله- فيأتي به ويكرمه ويعطيه المبالغ العظيمة التي ربما كانت أكثر مما يعطي المسلم، ثم يقول: أنا أحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل هذا حق؟! وكيف تقرأ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبغض الزنا، والربا، والنفاق، ثم تأتي ويقع منك الزنا والربا والنفاق والغيبة والنميمة والإساءة إلى الجار والخيانة، كل ذلك مما يتنافى مع دعوى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لا يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو رأى ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغضب أشد الغضب، وتألم أشد الألم، ثم يفعله من يفعله ويقول: أنا أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! فهذا هو المعيار، وبهذا نعرف أين نحن من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا حكمنا غير شرعه وأطعنا غير أمره، وصدقنا غير خبره، وعبدنا الله بغير سنته، فماذا بقي لنا من محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!! والواقع كثير، وظلامه كثيف، والانحرافات كثيرة، ولكن هذا كله لا يعفينا من أن نقول الحقيقة، وأن ندعو إليها، وأن نبدأ بأنفسنا، وأن نعرف أين نحن من الشهادة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعبودية والرسالة التي أمرنا الله بها، وهل محبتنا وهوانا وقلوبنا وخيرتنا تبعاً لما يقضيه الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أم أنها تتبع الهوى وإن ضربنا بما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفحاً؟ فهذا هو المحك، وهذا هو المعيار. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ونكتفي بهذا المقدار، وفي أسئلتكم ما يذكرنا بما أنقصنا ولا بد أننا أنقصنا، فالحديث عن محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويل وعظيم، ونحن دون أن نوفيه حقه، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المحبين له حق المحبة، المطيعين له حق الطاعة، إنه سميع مجيب.

الغلو والتفريط في محبة الرسول

الغلو والتفريط في محبة الرسول وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} والشاهد فيه قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)، فهذه هي الشهادة التي استهان بها من ضل في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: كل الناس يقولون هو عبد الله ورسوله، ونحن نريد شيئاً جديداً وخيل إليهم أنهم بغير ذلك يعظمونه ويعزرونه ويوقرونه، وكأن هذا لا يكفي، مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما نص عليه، ولهذا قال العلماء في شرح هذا الحديث: إن هذا الحديث تضمن الرد على الطائفتين المنحرفتين في شأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الطائفة التي غلت فيه، والطائفة التي قصرت في حقه وفي محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذه فكلمة (عبده وسوله) عظيمة غير هينة، كيف ذلك؟ أقول: قوله (عبده): هذه الكلمة هي أعظم مدح يمدح به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أن يكون عبداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع تضمنها ألا يزاد عن قدره، لأنه مهما كان فهو عبد، فالعبودية هي أخص أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا قيل عبد الله ورسوله فهو ينصرف إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث الشفاعة، عندما قال عيسى عليه السلام عندما جاءه الناس يستشفعون به: {اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر}، ولما خير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين العبودية والرسالة وبين الملك والرسالة، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، فالعبودية أكبر من الملك وأكبر من كل شيء، قد وصفه الله بالعبودية في أعظم وأشرف أحواله، فقال جل شأنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] فلم ينل أحد من المخلوقين الدرجة التي نالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء، فهذه الحادثة العظيمة العجيبة التي لم يبلغها أحد، قال الله في وصفه وهو يخبر عن هذا الحدث العظيم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] أي: كامل العبودية الذي استحق هذه المنقبة وهذه المفخرة العظيمة التي لم ينلها أحد غيره. وهذا في مقام التعظيم. وفي مقام الدعوة قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] أي الذي لا عبد له سواه، والحقيقة أن المقصود منها أي: لا عبد كامل العبودية أو لا عبد وصل إلى كماله الذي وصله في كمال العبودية. فإذاً العبودية أمرها عظيم، فإذا وصفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه عبد الله ورسوله فقد وصفته بأخص أوصافه وأعظم أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك يُشعر هذا الوصف بأنك لا تتجاوز به حده، فهو عبد مهما ترقى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو يترقى في مقام العبودية، وما أكرمه الله تعالى به من شيء، أو أطلعه على شيء من الغيب، أو سخر له شيئاً مما في السماوات أو في الأرض، أو امتن عليه بأي أمر خارق عظيم، فهو بتحقيقه للعبودية ولبلوغه كمال العبودية. فمن دعاه أو استغاث به مع الله أو من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من قال أنه يتصرف في الكون كما يشاء، أو أنه يعلم الغيب كله، أو أن بيده مقاليد كل شيء، ويعلم متى تقوم الساعة، وغير ذلك مما قاله المفترون والمبطلون، فهذا معتقداً أن محمداً عبد الله، لأنه أعطاه وأصبغ عليه صفات الألوهية، فهذا ناقض لقوله (عبده) هذا طرف. والطرف الآخر: هم المفرطون المقصرون في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي اتباعه، فكلمة (ورسوله) توحي بأنه لا رسول له إلا هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الحقيقة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرسول الكامل الرسالة الذي بعث لجميع العالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] وبدين عام شامل لكل ما يحتاج إليه الإنسان مما يقربه إلى ربه، ومما يحقق له السعادة في معاشه وفي دنياه، فالرسول الكامل الرسالة هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن لم يحب هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو لم يشهد أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن اتبع شرعاً غير شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو لم يشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فمن قصر في متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قدّم قول أحد على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائناً من كان؛ فإنه لم يشهد حقيقة الشهادة بأن محمداً رسول الله، لأن مقتضى ذلك ومعناه أن يُحبَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر حتى من النفس، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] فيحب ويعطى الأولوية حتى على النفس؟ وكونه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقتضي أن يصدق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل خبر يخبر به، دون أن نعرض ذلك الخبر على رأي فلان أو فلان، أو أي مقياس من المقاييس، وأن نطيعه في كل أمر ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن نبتعد عن كل ما نهى عنه وزجر، وألا نعبد الله تبارك وتعالى إلا بما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو العبد الكامل العبودية، والرسول الذي بين الدين وأكمل الله به الرسالة وختمها، فنعبد ربنا كما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نبتدع في دين الله ولا نزيد ولا ننقص ولا نضل ولا ننحرف، فبذلك نكون قد حققنا الشهادة، وهي أن محمداً عبده ورسوله، وهذا هو أكمل وأخص أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الغلو في المحبة

الغلو في المحبة والمقصود أن الأمر ليس أمر عاطفة، كما يقول صاحب البردة: دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم فهو يقول: لا تقل ابن الله وقل أي شيء، فهذا ليس من محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من تعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من تعزيره وتوقيره الذي أمر الله به، فكل إنسان إذا أطلق سجيته فقد يشطح ذات اليمين وذات الشمال، ولهذا الغالبية من الناس انحرفوا في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخاصة في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، إلى أن أصبح الحال أنك إذا قرأت ما كتبوه عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقارنته بما تعلم وبما يعلمه المسلمون الذين يقرءون سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المصدر الأول للسيرة وهو القرآن الكريم، الذي فيه سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته وكثير من أعماله وأحواله وحدود بشريته وحدود مقامه في القرآن، وأيضاً في الأحاديث الصحيحة، فإذا قارنت ذلك مع ما تقرأه لهؤلاء المتأخرين عن وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطابقته بما تجده في القرآن والسنة تجد الفارق العجيب، تجد أن هؤلاء لا يتكلمون عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الإنسان المكرم الذي أوحى الله إليه، وأنزل إليه الروح الأمين، وهدى به العالمين، ونشر به وقوم به الملة المعوجة، وفتح به الآذان الصم، والقلوب الغلف، والأعين العمي و، مما هو معروف من صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل عن شخصية غريبة أسطورية لا تظن ولا تتوقع أنها وجدت على هذه الأرض أو توجد، فيصفونه بأنه خلق من نور الله، وأنه وجد قبل الكائنات، وأنه حي أبداً، وأنه يحضر كل مكان يقام له فيه محافل بدعية وما أشبه ذلك، وأنه يتكلم ويرى ويسمع ويخاطب، ويُرى في اليقظة، ويأمر وينهى ويشرِّع، ويخاطب الأولياء ويقول لهم أشياء وصفات غريبة، إذا قارنتها بما تعلم من صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علمت أن هذا ليس هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي نعرف صفته من القرآن ومن السنة الصحيحة، فبلغ بهم الغلو إلى هذا الحد -نسأل الله العفو والعافية-. ومع ذلك يزعمون ويدعون أن ذلك محبة واتباع وأن من خالفهم في ذلك فهو عدو للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مبغض له، وهذا هو المعيار الذي جعلوه، أما ما جعله الله في كتابه فهو قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فهذا هو الذي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وقال في سورة النور: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] وإن ادعوا الإيمان وإن ادعوا المحبة لا يمكن أن يكونوا مؤمنين ولا محبين إذا خالفوا ما أمر الله به وما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأعظم ما جاء به المرسلون صلوات الله عليهم هو التوحيد، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فهذا أعظم شيء جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد الناس فيه. وقد قال له ربه عز وجل وهو المجاهد في التوحيد وللتوحيد، والذي سد كل الذرائع إلى الشرك: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] والخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إمام الموحدين، المجاهد في ذات الله، وعمره كله في توحيد الله يقول له ربه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وكما قال من قبل لإبراهيم الخليل، وهو إمام الموحدين قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] فنهاه عن الشرك كما نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن من بعدهما تبعٌ لهما، فإذا كان هذا أعظم ما أمر الله تعالى به وأعظم ما جاء الأنبياء به وعلى رأسهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم يوم القيامة، الذي أظهر الله تبارك وتعالى به الدين القويم، ونشر الله به دينه وأظهره على الدين كله، حتى دانت له الأرض جميعاً إلا ما قل، وإذا كان التوحيد هو أعظم الأمور عند النبي صلى الله عليه سلم فأعدى عدو له هو من يأتي بالشرك، ومن يدعو إلى الشرك، كائناً من كان وزاعماً ما زعم من محبة الله أو محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقبل من أصحابه أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، مع ما كانوا يقدرونه ويوقرونه ويعزرونه وهم أعرف الناس بذلك، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: [[ما كان أحد أحب إلى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أبداً لا يمكن أن يكون أحد، وقال:- وما كانوا يقومون له لعلمهم أنه كان يكره ذلك]] مع هذه المحبة العظيمة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كانوا يتتبعون آثار وضوئه، ويأخذون شعره إذا حلق، ويتمنون أن يصافحوه أو أن يروه، فمجرد رؤيته كانت شيئاً عظيماً بالنسبة لهم، ومع محبتهم العظيمة له كان إذا دخل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرادوا أن يقوموا له -لأنهم يشعرون بالمحبة- ولكن لا يفعلون ذلك لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره ذلك، وقد نهاهم عنه، وقال: {إنما هذا فعل الأعاجم مع ملوكهم} فهذا ليس من دين الإسلام، وليس من اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا لا يفعلونه مع شدة محبتهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تلك المحبة التي كانوا يحتسبونها عند الله على أنها أعظم عمل من الأعمال كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: {قدم أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما أعددت لها؟ فقال: ما أعددت لها كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، غير أني أحب الله ورسوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء مع من أحب، يقول أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيءٍ يومئذٍ فرحنا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء مع من أحب فأنا والله أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أحشر معهم}. فهم كانوا يعرفون المحبة ويحتسبونها كأعظم عمل من الأعمال، ويرجون بها أن يبلغوا من المنزلة والدرجة ما لا تبلغه أعمالهم من المنزلة والدرجة، ولكن مع ذلك ورغم هذه المحبة وعمقها، هل كانوا يخالفون أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فيما يتعلق بتعظيمه؟ لا، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سد جميع الطرق والذرائع التي تؤدي إلى ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

كيفية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q لقد نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته عن اتخاذ القبور مساجد فكيف رضي السلف بأن يدخلوا قبره في مسجده، خصوصاً أن ذلك فتح باباً لم يسد إلى الآن؟ A إدخال القبر في المسجد حدث في زمن قرب المائة أو بعد الثمانين من الهجرة، وهو لم يدخل في الحقيقة وإنما أدخلت حجرات أمهات المؤمنين، وبقي القبر محاذياً، ثم مع الزمن توسع المسجد وصار من حوله فراغات، ومع الزمن وضعت عليه قبة، وهكذا تدرج الأمر كحال غيره من الانحرافات التي وقعت فيها الأمة، فهذا لم يقره السلف الصالح، وإذا أردتم تفصيل ذلك فأقرءوا كتاب الجواب الباهر لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فإنه تحدث في هذا الموضوع وأفاد وأجاد رحمه الله. وعلى أية حال فإن كل تغيير حادث يتنافى مع ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن محبتنا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيماننا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوجب علينا أن نغير ذلك وألا نقره، لكن الأمر حدث بتدرج وحصل بملابسات، وإن فتح باباً لأهل الأهواء لكن الأمر لا يقتضي وقوع ذلك، ولكنهم يتلمسون أن يدخلوا من أي باب، وكتاب الجواب الباهر فيه الغنية.

حكم تخصيص ليلة إسبوعية لدراسة السيرة

حكم تخصيص ليلة إسبوعية لدراسة السيرة Q هل هناك فرق بين تخصيص ليلة أسبوعية لقراءة ودراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين عمل مولد كل أسبوع أو شهر، دون تقيد بزمان يعتقد فيه فضل معين له؟ A عمل مولد، سواء جعلناه مرة في السنة أو مرة في الشهر أو مرة كل يوم، فهذه الكلمة في ذاتها تشعركم وتدلكم على أن الأمر بدعة، لأنه لم يأت هذا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الصحابة، لكن لو أردنا -مثلاً- درساً في الحديث أو درساً في السيرة، فهل الدروس وطلب العلم بدعة، أو تحديدها بيوم معين بدعة؟ هذا ليس فيه شيء، بل كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح البخاري يحدث كل خميس، وكان يقول: [[أكره أن أملكم فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتخولنا بالموعظة]] فهذا لا يدخل في البدع، فإذا أردنا أن نعلم الناس في المسجد ونقرأ عليهم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعرفهم بسننه وآدابه وشمائله الكريمة، فلا بأس سواء أكان يوماً أم يومين أو في أي وقت، بل كل ما استطعنا إلى ذلك، بل نقول: إن مما يجب على الأمة الإسلامية أن تجعل سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مادة إجبارية في جميع مراحل التعليم ولا نقيد ذلك ونقول: حسب الإمكانيات! ويجب على كل المسلمين أن يتعلموا ما استطاعوا من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته وآدابه. وبهذه المناسبة يوجد أناس يقولون: لا بد أن نعلم أولادنا محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقترحوا يوماً في السنة في المدارس الابتدائية لذكرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولتعلم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وظنوا أنهم جاءوا بجديد وأنهم عظموا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -نعوذ بالله من الانتكاس- إذا انتكس عقل الإنسان وانتكس إيمانه، فأصبحت محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنده وغاية طلبه أن يجعل يوماً في السنة لذلك، مع ما في ذلك من مضاهاة لأهل البدع في المولد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: {البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي} فبالله عليكم! أي بخل تصفون به من يقول نخصص للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً من السنة في المدارس؟ فهذا هو أبخل البخل، نحن نقول لو طالبت أو طالب أي إنسان أن تكون مادة السيرة يومياً لقلنا هذا موضوع قابل للدراسة، ونرجو من المدارس أن تحققه، ثم يجب أن نذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاتنا ونصلي عليه، ونذكره إذا سمعنا الأذان، ونذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخلنا المسجد، نذكره في أوقات كثيرة غير ما ورد من ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المطلق، بل يكون ذكره صلى الله عليه وسلم بالامتثال بسنته -فمثلاً- إذا رأيت شاباً مؤمناً يتمثل في مظهره سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنك تذكر في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رأيت القرآن تذكرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه هو الذي جاءنا بهذا القرآن، فمتى يغفل المؤمن عن ذكرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى نقول: يكون له يوم في السنة. فيجب علينا أن تكون محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تملك شغاف قلوبنا، وكل أمر من أمورنا نزنها بميزانه، ونطبقه على سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون تذكرنا له في الحقيقة في كل وقت، وفي كل عمل، فإذا نظرت في الشارع إلى امرأة فأتذكر أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني أن أغض بصري فأغضه، وإذا سمعت صوتها فأتذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن أن أسمع صوت النساء، وهكذا في كل أمر من الأمور أجد أنني ملزم باتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقتدياً به فيه. وحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون، وأسأل الله أن يكتب لنا الأجر، ولعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتيح لنا فرصة أخرى فنجيب على بعض الأسئلة أو نتحدث عن هذا الموضوع، فإننا لم نوف محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقها، مهما قلنا ومهما تحدثنا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شبهة القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور وأنه أول المخلوقات

شبهة القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور وأنه أول المخلوقات Q ما مدى صحة قول بعض الناس: إن نور الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلق قبل خلق الكون، أو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول المخلوقات وجزاكم الله خيراً؟ A هذا من الغلو، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله} وهذا الغلو نقله أولئك الناس عن الأديان الباطلة، ومن المعلوم لمن قرأ دين المجوس أنهم هم الذين يعتقدون في أحد أنبيائهم أنه مخلوق من النور، وأن نوره من نور الله، وأنه خلق قبل المخلوقات، فاتبعنا في ذلك من كان قبلنا -والعياذ بالله- أما رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما من عاقل من مسلم أو كافر إلا ويعلم أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إلى آخر النسب المعروف، وأن أمه فلانة، وأنه ولد في مكة، وإذا قلت له: أنه وجد قبل نوح، أو بين عيسى وموسى، يقول لك: لا إنما وجد بعد عيسى، فكيف يكون إذاً أول المخلوقات؟ فهذا كلام كل العقلاء في العالم، لكن من شروط أصحاب الخرافة والغلو والضلالة عندهم حتى تكون خرافياً أن تلغي عقلك أولاً، فلو استخدمت العقل فلن تخرف أبداً، فأي واحد يستخدم عقله لا يخرف، فإذا قلت له: لماذا يحتفل بالمولد، ومولد من هو؟ يقول لك: مولد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولماذا؟ لأنه ولد في هذا اليوم فنحن نحتفل بهذا اليوم، ومتى؟ قال في عام الفيل. فنقول له: أثناء كلامك في الموالد أنت تقول إنه خلق قبل الكائنات، وأنت تحتفل في ذكرى ميلاده أنه في عام الفيل، أليس في هذا تناقض؟! لو كانت هناك عقول تفكر. فالمسألة ليست داخلة تحت نطاق العقل، بل قد خرجت من نطاق العقل إلى نطاق الخرافة، والإنسان إذا ألغى عقله فإنه لا يحده حد من الاعتقادات الباطلة والخيالات الكاذبة.

الجواب على من يقول: ليس كل بدعة ضلالة

الجواب على من يقول: ليس كل بدعة ضلالة Q كيف نرد على الذين يقولون: ليس كل بدعة ضلالة؟ A الردود كثيرة وليست رداً واحداً، وحسبك في كل بدعة أن تعلم من أوجدها، ومتى أسست؛ لتعرف هل فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا، فأي دليل يريده هذا الذي يجادل ويخاصم والذين يكذبون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {كل بدعة ضلالة} فـ (كل) لفظ كلي، فمن قال: إن بعض البدع حسنة فقد أخطأ، فإذا أتينا إلى الفصل -مثلاً- وقلنا: كل الطلاب حاضرون، ثم قال بعض الإخوان: لا، بعض الطلاب لم يحضروا، أليس هذا نقضاً للكلام الأول؟ فإذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل بدعة ضلالة، ثم يأتي من يقول لا هناك بدعة حسنة، ويستدل بأدلة قياساً أو إما استحساناً، فيلتمس وينتحل من الأدلة التي لا دلالة فيها لقوله ليعارض بذلك وليكذب الدليل الصريح القطعي الذي كان يكرره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه، وهو: كل بدعة ضلالة، فهو يقر أن هذه عملت بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقرون لكنه يتحمل لها أدلة أخرى، وهذا هو حال أهل البدع، نسأل الله أن يعافينا وإياكم. واعلموا بأننا لم نكلف بأن يهتدي أهل البدع ولا أهل الشرك، ولا يقل أحدكم تعبت معهم فلم يهتدوا، وإنما أمرنا أن نقيم الحجة عليهم، وأن ندعو إلى الله وأن نبلغ الحق، وإلا فرسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أحد أبلغ منه ولا أحد أنقل للدعوة منه ولا أفضل من صفاته وأخلاقه، مع ذلك فقد كفر به من كفر، وكذبه من كذبه، حتى قاتلوه في بدر وفي الأحزاب وغير ذلك، فنحن ليس علينا إلا البلاغ، فإذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه البلاغ فقط، فنحن من باب أولى علينا ذلك، وليس علينا أن يقتنع أولئك، وشبهاتهم لن تنقضِ؛ لأن الدافع لهم ليس الدليل، وإنما مرض في القلب لن ينتهِ إلا إذا تابوا، فمرض القلب دائماً يبحث ويتنقل من دليل إلى دليل، ومن شبهة إلى شبهة حتى ولو لم يجد شيئاً، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.

إطلاق لفظة (عبقري) على النبي صلى الله عليه وسلم

إطلاق لفظة (عبقري) على النبي صلى الله عليه وسلم Q يقال إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبقري فهل هذا الكلام صحيح؟ أليس مقولتنا هذه تجعله مثل العباقرة الذين ظهروا في التاريخ؟ A النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسبه من الأوصاف والثناء ما أثنى به عليه ربه عز وجل، فإذا جاءنا أحد وقال هذا عبقري أو عبقرية محمد، أو كان محمد رجلاً محنكاً داهيةً سياسياً ذكياً، وصنع كذا، وحقيقة فإن هذا ما يكتب فيه المستشرقون، ويقع فيه بعض المؤرخين من المسلمين أو من يدعي الإسلام، فتجدون أن هذه الصفات تتجرد وتخلو عن وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة وبالنبوة في الأعم الأغلب، هذا يقول: عبقرية محمد، وهذا يقول: بطل الأبطال، وهذا يقول: الرجولة عند محمد، وكل ذلك يقتضي ولو بالتلميح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس السر فيما حقق وأنجز هو الوحي الذي أوحاه الله إليه، واختصه به، واصطفاه به دون العالمين، إنما هو عبقري والعباقرة كثير، فلو ترجع لكلامهم تجدهم يقولون: حمورابي عبقري، حتى فرعون عندهم عبقري، وأديسون عبقري، وهتلر عبقري، وماركس ولينين، إذاً العبقرية وصف إنساني، وهو وصف عام مشترك، فهذا لا يجوز. فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رسول الله، والله سبحانه قد وهبه كمال العقل ووهبه كمال الخلق، ولكن أعظم وصف له، وسبب كل ما ناله من الله تعالى وأظهره على يديه من الخير؛ هو أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصطفاه بذلك وأظهره على العالمين، وشريعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست نتاج عبقريته، فهو لم يشرع الحدود ويشرع كذا لأنه عبقري، لا، إنما هي وحي: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] فهذا حكم الله وهذا أمر الله، وانظروا إلى سورة النور وفيها الحدود العديدة: حد الزنا، وحد القذف، وما أشبه ذلك، ماذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] فالذي شرع هذه الحدود هو الله، وقال في الآية الأخرى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] فالأمر فيها لله، والذي حكم بها وقضى فيها هو الله، وليس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس ذلك هو نتاج عبقريته.

جهاد النفس في عمل الطاعات

جهاد النفس في عمل الطاعات Q أخ يقول: أنا أحب الله عز وجل وأحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من كل شيء، ومصدق لكل ما جاء به، ولكني في بعض الأحيان لا أعمل بفضائل الأعمال لكسل مني فهل هذا يجرح في محبتي هذه؟ A هنيئاً لهذا الأخ أنه يحب الله ويحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من كل شيء، ونسأل الله سبحانه أن يثبته على ذلك، وأن يجعلني وإياكم ننال هذه الدرجة. ونقول لهذا الأخ: جهاد النفس لا بد منه، فـ حنظلة وجد ذلك في نفسه، {فمر بـ أبي بكر وهو يبكي فقال مالك يا حنظلة قال نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا قال فوالله إنا لكذلك، فذهبا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}. فالنفوس مثل الترمومتر ترتفع وتنخفض، فإذا حصل لك نقص وشعرت بشيء من هذا فحاول أن تقوي إيمانك وأن تحافظ عليه في الدرجة العليا، فلو أن الإيمان إذا وصل إلى درجة عالية يبقى على ذلك لكنا في غاية السعادة؛ لأنه ما من مؤمن ولا عبد لله عز وجل إلا ويمر به حالات يحس فيها بطعم الإيمان وبلذة الإيمان، لكن لا تدوم لنا، هذه هي المشكلة أو هذه هي المصيبة أنها لا تدوم لنا، فتسمع كلام الله عز وجل فيرق قلبك وتدمع عينك، وتتذكر الآخرة، وتنظر إلى ملكوت الله عز وجل، فتشعر بأنك في درجة من اليقين تتمنى ألا تذهب عنك، لكن ما الذي يحصل لك بعد فترة؟ تسمع نفس الآيات ولا تشعر بذلك الشعور، وتنظر نفس النظر في الكون فلا تشعر بذلك الشعور، وتتأمل وتفكر وتجاهد نفسك وإذا بك تشعر أن إيمانك ليس بذلك، فهذا هو دور الجهاد، وهنا محل الجهاد ومحل السباق بين المؤمنين، فعلينا أيها الإخوة الكرام -أوصي نفسي بهذا أولاً وأوصي إخواني وأنصحهم لله عز وجل- أن نبذل جهدنا ما استطعنا بأن نرفع درجة إيماننا ومحبتنا لله ومحبتنا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله سبحانه يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فنرجو أن يحقق الله لنا ذلك بجهادنا له.

حكم لفظة (والنبي)

حكم لفظة (والنبي) Q ما رأيك في قول: والنبي، ليس بنية الحلف، وإنما معناها عند قائلها لو سمحت، كما تقول: والنبي أعطني القلم؟ A الحلف بغير الله عز وجل شرك، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} فالحلف بغير الله لو أتى على لسانك بغير قصد، نقول: كفرِّها كما كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكفرون، فعندما أسلم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا في جاهليتهم يحلفون باللات والعزى وكان يسبق أحياناً على لسان أحدهم أن يقول: واللات والعزى، لأنهم بشر وحديثو عهد بإسلام، والقلوب تحتاج إلى تنقية وجهاد، فعلمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعلوا ذلك أن يقولوا: {أشهد أن لا إله إلا الله}، فقل: لا إله إلا الله، ووحد الله لتتخلص من شائبة الشرك التي وقعت فيها حينما حلفت بغير الله، وأرغم نفسك وجاهدها على ألا تقع في الشرك، ولو كان ذلك في شرك الألفاظ، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاجتناب الشرك دقيقه وجليله.

حكم انتقاص أهل العلم

حكم انتقاص أهل العلم Q ما حكم من يسب أحد رجال العلم وأئمة الإسلام وشيوخه ويدعي أنهم كاذبون، وكيف يعامل مثله؟ A هؤلاء الذين يسبون علماء المسلمين المشهود لهم بالخير والفضل والمكانة، والذين لم ترتفع كلمتهم عند الأمة إلا لتعظيمهم لأمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألم تسمعوا ما ذكرناه من حال الذين أنزل الله تبارك وتعالى فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فهم استهزءوا بالقراء، فالذين يستهزئون بعلماء الإسلام الأجلاء المجمع على فضلهم ومكانتهم واتباعهم لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرصهم على ذلك، ويحتقرونهم، وينتقصونهم، إن كان ذلك منهم احتقاراً لما هم عليه من التوحيد ومناقضة البدعة، فهذا عين ما وقع فيه المنافقون، فيقال لهم ما قاله الله تعالى لأصحابهم -نسأل الله العفو والعافية-. وإن كان لصفة شخصية أو عيب في الخلقة، أي: لا لدينه ولا لعلمه ولا لدعوته إلى السنة، فإن هذا يعد كبيرة، لأن الاستهزاء بالمسلم كبيرة، أيُّ مسلم: {بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} فإذا كان أخاك المسلم: أخاك، أو جارك، أو زميلك تحقره فهذه كبيرة، فكيف إذا احتقرت علماء الإسلام واستهزأت بهم؟! وهذا يشعر الناس بأنه احتقار لما هم عليه من العلم والدين، فأمر هؤلاء الناس -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من حالهم- دائر بين النفاق القلبي المحض وبين الوقوع في كبيرة من الكبائر، ونرجو الله سبحانه أن يعافي قلوبنا وقلوبهم وقلوب المسلمين من ذلك، وأن يقدر الإنسان حق قدره ولا نظلمه كائناً من كان، فإننا أمرنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] وفي آية أخرى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] فلو كان رجل من أهل البدع وله حسنات، وله باع في العلم وله باع في الجهاد، وله باع في إنكار المنكرات الظاهرة، ولكن مع ذلك فيه بدع، لما جاز لنا نحن أهل السنة أن نغمط قدره، ونجحد علمه، ونجحد إنكاره المنكر وجهاده، فهذا لا يجوز، فنحن أمرنا بالعدل ونحن أمة العدل، فإذا لم تعدل الأمة الإسلامية فمن يعدل؟! لكن هناك أناس أكل الحقد قلوبهم فأعماهم وأصمهم عن العدل، فتجدهم يجحدون كل فضائل الإنسان، لأنه يقول: قال الله وقال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا قال ذلك وسمعه الناس ظنوا فيهم أنهم على بدعة وهم كذلك، فهذا لا يجوز منهم نسأل الله أن يهدينا وإياهم.

فعل الكبائر ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم

فعل الكبائر ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم Q هل يكون فعل المعاصي الكبائر كانت أو الصغائر، منافياً لمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} علماً بأن اقتضاء محبة الله طاعته في كل أمر ونهي؟ A نعم، مقتضى محبته وطاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا ترتكب الكبائر، فمن ارتكب هذه الكبائر الموبقات فإن ذلك دليل على أنه غير محبٍ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانتفاء ذلك كلياً إن استحلها، وإما ناقص المحبة إن لم يستحل ذلك، لكن يأتي الإشكال في قول بعض الناس: إن الرجل الذي كان يدعى حماراً والذي جلده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شرب الخمر وهو من الصحابة، {فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله} فإذا قال قائل هذا يحب الله ورسوله ومع ذلك شرب الخمر، فهل هذا ينافي ما تقولونه من أن محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستلزم وتقتضي ألا يعصى أمره وألا ترتكب الكبائر؟ نقول: لا منافاة، لأن هذا الرجل نطق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق وأخبرنا أنه يحب الله ورسوله، مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر لما جاء سعد بن مالك يزكي رجلاً قال: {يا رسول الله، إن علمناه لمؤمناً، فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً، فيكررها: إن علمناه لمؤمناً، فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً} فهو يزكيه والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقلل من ذلك ولا يجعله في درجة المؤمنين بل في درجة المسلمين وهي أقل، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلعه الله أن هذا ليس بمؤمن بل مسلم، وأطلعه على أن هذا وإن شرب الخمر فإنه يحب الله ورسوله. فنقف عندما أخبرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذه خصوصية له، ونحن لا نعلم القلوب ولا نعلم الغيوب، ولكن نحن نرى الظاهر، فظاهر من عصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل على أن قلبه خال من محبته الكاملة أو من محبته بالكلية -عافانا الله وإياكم من ذلك- هذا بالإضافة إلى ما قيل أن هذا الرجل كان بدرياً، وأصحاب بدر تعلمون حالهم وشأنهم، فإذاً القاعدة على عمومها، كل من عصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخالف أمره فلا بد أن ذلك نقصاً في محبته له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن ادعى من المحبة ما ادعى.

إطلاق لفظ سيدنا على الرسول صلى الله عليه وسلم

إطلاق لفظ سيدنا على الرسول صلى الله عليه وسلم Q ما رأيكم فيمن يقول: سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ A الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صح عنه في حديث الشفاعة أنه قال: {أنا سيد ولد آدم يوم القيامة} ولا شك عندنا في أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيد ولد آدم كما أخبر، وسيد الأولين والآخرين، وهو سيدنا نعم. لكن الخلاف بيننا وبين أهل البدع ليس في أننا لا نقول: سيدنا، وهم يقولون: سيدنا، لا الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين أهل الضلالة والشرك أن أهل السنة والجماعة يقولون: عبد الله ورسوله، ويثبتون له السيادة دون أن يدخلوها في الصلاة أو في الأذان ولكنها ثابتة له، وأما أولئك فإنهم يؤلهونه. فحقيقة الخلاف هي في: هل هو إله أم بشر؟ لا بكونه سيداً أو غير سيد، يريدوننا أن نقول إنه إله، لكن لا والله لا نقول: ذلك، وإن غضبوا مهما غضبوا، وإن اتهمونا بأننا نكرهه -والعياذ بالله-، لا والله لا نقول بأنه إله، وإنما أمرنا أن نعبد الله وحده فقط، وأمرنا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} هو بُعث لذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الذي دعا إليه ونحن ندعو إليه مع قوله: {وكتب الذل والصغار على من خالف أمري} فنحن نؤمن بذلك ونقول: كل من خالف أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو اتنقص قدره فهو الأذل، وهو الصاغر وهو الأبتر: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3] وكل من أبغض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نصيب له في الإسلام أبداً، ولكن لا نقول إنه إله، حاشا والله. فهذه الكلمة نقولها ونستخدمها، ولكن هل نقول في صلاتنا ونحن في التشهد: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، لا نقول ذلك، فإن قيل: لماذا تكرهون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -عياذاً بالله-؟ فنقول: إن هذا لم يرد، وما علّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه الصلاة عليه بهذه اللفظة، بل كان يعلمهم ذلك كما يعلمهم السورة من القرآن، فهل علمهم فيها (سيدنا)؟ لا، لم يعلمهم، إذاً فلا نقولها، فإذا كنت أنا أتكلم وأخطب في مكان وقلت: وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أو مثلاً: هذا ما قاله سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا شيء فيه، فهذا الكلام خارج مواضع القيد والمواضع التي يجب علينا أن نتعبد فيها. ثم نعود للقضية من جانب آخر، وإن كانت قد لا تستحق، لكن لأنها تدلكم على أصل الموضوع بين أهل السنة وبين أهل البدعة، وهي وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة، فهل فيه توقير وتعزير له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفع لشأنه أكثر من وصفه بالعبودية والرسالة؟ انظروا إلى حال العرب في الجاهلية، كيف كانت منزلة أبي جهل في قريش؟ تقول: كان سيد قريش، وكيف كانت منزلة فرعون في قومه؟ كان سيد قومه، وهتلر سيد النازية، وفلان سيد الشيوعية، فكلمة سيد بذاتها لا تقتضي مدحاً ولا ذماً، ولهذا نقول -مثلاً- إن سعد بن معاذ كان سيد قومه، وهو من أفضلهم ومن أبرهم ومن أتقاهم، ونقول: عيينة بن حصن سيد غطفان كان سيد قومه وهو شرهم قبل أن يسلم، فالمسألة أن السيادة في ذاتها لا تقتضي مزيد اختصاص ومدح، ولهذا الذين يقولون هذه اللفظة ويجادلون فيها يقولون: سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، وهذا لفظ يشترك معه فيه الصحابة وغيرهم، كما يقولون أيضاً سيدنا الشافعي، وسيدنا أبو حنيفة، فهم الآن جاءوا بألفاظ يشترك فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره معه، ونحن إذا قلنا: عبده ورسوله، جئنا بوصف لا يشاركه فيه أحد، إذاً أي الطائفتين أحق بمدحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبتوقيره وبإنزاله منزلته؟ بلا شك أن الجواب واضح.

حكم الطعام الذي يقدم في الموالد

حكم الطعام الذي يقدم في الموالد Q يزعم أصحاب البدع أن الطعام يكثر في الموالد مع أنه قليل الكمية وذلك ببركة الموالد وهذا الزعم يصدقه العامة؟ A على كل حال إذا صدق العامة بالبدعة من أساسها، فلا غرابة أن يصدقوا بلوازمها وتوابعها، فيقال: إن الطعام يكثر؛ لأنه أقيم في هذه البدعة، وهذا الطعام مما لا يجوز تناوله فكيف يبارك الله عز وجل في أمر مبتدع، ولا يجوز للمسلم أن يشارك فيه؛ لأنه ما عمل إلا من أجل هذه البدعة، فالعوام لا عبرة بما يفعلون.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم Q في يوم الجمعة والإمام يخطب وأنا أصلي، والإمام ذكر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل أصلي عليه أم عندما أنتهي من الصلاة؟ A الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجبة، وعلى القول الصحيح هي ركن من أركان الصلاة، وهذا يدل على أن المؤمن يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل صلاة من صلواته، غير ما يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذُكر، وغير السنن الواردة في المواضع التي يصلى فيها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما كان الإنسان أكثر التزاماً بالسنة وأكثر اتباعاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكثر صلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا نصلي عليه إلا بما ورد، وفي المواضع التي وردت -أي بالتقييد-، فمثلاً: إذا كان الإنسان يصلي فإنه لا يقطع قراءته في الصلاة ليصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما يصلي عليه في موضعها من صلاته، ثم يصلي عليه بعد سلامه، ويكثر من الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا من أعظم القربات ومن أعظم الأذكار، كما روى الإمام أحمد رضي الله عنه: {أنه ما جلس قوماً في مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا كان حسرة عليهم يوم القيامة} حسرةً وندامة لأنهم لم يذكروا الله ولم يصلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

حكم كتابة (ص) بدل صلى الله عليه وسلم

حكم كتابة (ص) بدل صلى الله عليه وسلم Q الاكتفاء بحرف الصاد في الكتابة عند الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ A الذي ينبغي أن نعمله وأن نبادر إليه هو أن نصلي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظاً كاملاً ونكتب ذلك كاملاً، ولكن لو أن أحداً لم يكتب ذلك أصلاً عندما كتب الكتاب واكتفى بالصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللفظ فإن ذلك جائز، ولذلك نجد بعض المخطوطات من كتب السلف، ليس فيها هذا الشيء مكتوباً، ولا نظن فيهم أنهم لم يقولوه لفظاً أبداً، فالواجب علينا ونحن نقرأ ذلك إذا قرأنا ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلفظنا به كما هو ظننا بـ السلف الصالح أنهم تلفظوا به، هذا والله أعلم.

حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q ما حكم زيارة المدينة؟ وكيف يكون السلام على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وما حكم اصطحاب النساء معنا في الزيارة؟ A النساء يسافرن السفر الواجب والمسنون مع الشروط الشرعية مع ذي محرم، فالمرأة التي تسافر للحج إذا كان واجباً عليها كحجة الإسلام، وكذلك إذا كان الحج أو العمرة تطوعاً فلها أن تسافر، وتشد الرحل لأنه في عمل طاعة، وكذلك زيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي من الطاعة ومن القربات، فللمرأة أن تسافر مع محرمها لزيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شيء في ذلك، بل لها الأجر كما لمحرمها أو وليها -إن شاء الله تعالى-. أما زيارة القبور إذا وصلت إلى المدينة، فليس لها أن تذهب إلى البقيع، وإلى قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتزاحم الرجال، وتذهب إلى قبور أخرى، وإذا كنا نحن الرجال يجوز لنا أن ننوي بالزيارة زيارة مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا زيارة قبره، فما بالك بالنساء اللاتي نهين عن زيارة القبور على أصح قولي العلماء. وأما الرجل فإنه يزور القبور كما أمر وشرع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى عند السلام على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى صاحبيه بأدب وبتوقير، كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعل: [[السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه]]، ويسلم على أهل البقيع بما ورد، ويسلم على شهداء أحد كما ورد، ويزور القبور كما نفعل نحن في مكة قبل أن نرحل ونسافر، ولا نتجاوز ما ورد في ذلك. وأما زيارة قبور النساء فقد ورد النهي فيها، ولهذا قلت: على أصح قولي العلماء، فلو أنها - مثلاً- في مكة، فعلى القول الراجح الصحيح لا تزور القبور في مكة، ولكن البعض يفهم أنه لا تشد الرحال لزيارة المدينة، فنقول: لا، إذا شددت الرحل لزيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يجوز، ولو أن أحداً من الرجال شد الرحل لزيارة قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكون مبتدعاً، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد} أي: لزيارة المسجد لا القبر، فالمرأة حكمها بذلك حكم الرجل، فهذا سفر سنة، وشد الرحل سنة وقربى من القربات، فتذهب معه إلى المدينة، وتزور معه المدينة وتزور مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتصلي فيه كالرجل، لكن لا تذهب إلى القبور، بل يذهب الرجل وحده وهي لا تذهب.

ثبوت أن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار

ثبوت أن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار Q قال بعض الناس في الحديث الذي يقول فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عندما جاء رجل يسأله عن أبيه، فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أبي وأبوك في النار}، فقال هذا الرجل: إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك وهو عضبان، ولكن نرجو أن يكون أبُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة؟ A هذا الكلام من التأويل الباطل الذي يفسد الحديث، لأن الله سبحانه قد برأ نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يقول الكذب، حتى وإن قلنا أنه قال قولاً وهو غضبان، لأن الله سبحانه يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] فمن يؤول ذلك ويقول أن حديث {أبي وأبوك في النار}، قال ذلك وهو غضبان فهذا كذب، ولو أن شخصاً قال لك -حتى وهو غضبان- سأعطيك كذا لو فعلت كذا وكذا، وتبين لك خلافه، فتعتقد أنه كذب عليك، وإن كان قالها وهو في حالة غضب، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق عن الهوى. ولهذا لما كان بعض الصحابة يكتب حديثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضهم الآخر: {تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم -فهل قال: اكتبوا عني في الرضا؟ ولا تكتبوا في الغضب؟ - قال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج مني إلا الحق} ثم إن الحديث ليس فيه غضب: {أبي وأبوك في النار} هذا الحديث ليس فيه غضب ولا ما يستدعي الغضب، فلا يرد كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواضح الصريح بأقاويل الناس كائناً من كان.

وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم Q يقول البعض إن محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقتضي اتباعه، لكنها أيضاً أمر عاطفي زائد على الاتباع، فما حكم الإسلام في هذا؟ A نقول: نعم، فهي ليست أمراً عاطفياً فحسب، فالمحبة عمل قلبي من أعمال القلوب؛ بل كما قال السلف أساس كل عمل من أعمال القلوب والجوارح المحبة، كما أن أساس كل قول من أقوال القلوب والجوارح هو الصدق، فالمحبة والصدق هما أساس أعمال القلوب، كما أوضحنا ذلك في المقدمة، فإذاً محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل من أعمال القلوب، ومقتضاه انقياد القلب وانقياد الجوارح، فهي بذلك أمر زائد على ذلك، هذا الذي رأيته وتأملت فيما جاء في الكتاب والسنة والله تعالى أعلم.

ابتداع المولد

ابتداع المولد Q يقول الأخ: من هو أول من ابتدع الاحتفال بذكرى المولد وقد سمعت شريطاً للشيخ القطان أنه أبو سعيد الكبري، أو قريب من هذا الاسم، وقال إنه من القرن السابع أو السادس، فما صحة هذا جزاكم الله خيراً؟ سؤال آخر: نريد جواباً حول المولد من أول من ابتدعه، وما حكم فعله؟ A نقول إذا بينا أنه مبتدع فقد اتضح لكم حكمه، ثم إن المحقق أن أول من ابتدأ الاحتفال بما يسمى المولد النبوي هم العبيديون الفاطميون، وهم -كما أسلفنا- عبيديون من يهود الفرس، فهم يهود ومجوس، أرادوا تدمير الإسلام وهدم الدين، وتعاونوا مع الصليبيين الذين جاءوا لاحتلال بلاد الإسلام، وسيرتهم معروفه، وما قاله فيهم علماء الإسلام الثقات معروف ومذكور، فكانوا زنادقة ملاحدة، كما قال فيهم الإمام الغزالي، وصدق هذه العبارة ابن تيمية: كان ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، أي ظاهراً هم رافضة شيعة، لكنهم واقعاً كانوا ملاحدة زنادقة، فهذا هو القول الصحيح في أول من ابتدع المولد، لكن لماذا فعلوا ذلك؟ هنا تختلف آراء وتحليلات المؤرخين. فبعضهم يقول: إنهم احتفلوا بالمولد ليصرفوا الناس عما يعلمونه فيهم من الإلحاد ومن البدع ومن الزندقة والضلال، فيخدعون العوام ويقولون لهم: إننا نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن نسبنا إليه حقيقي بدليل أننا نحتفل بمولده ونعظم ذكرى مولده، هذا قول أو موجز للقول الأول. القول الثاني: قال بعض المحللين: لا، هؤلاء القوم يهود، ويبغضون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبغضون دين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلمون أن جدتهم اليهودية قد وضعت السم في ذراع الشاة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكل منه، فقطع أبهره فكان ذلك سبب وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم يحتفلون بذكرى مولده في الثاني عشر من ربيع الأول، وهي ذكرى وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي ذكرى موت عدوهم اللدود الذي طردهم من المدينة وأجلاهم منها، وأذهب دينهم وملكهم ومجدهم، وانتقمت منه جدتهم اليهودية بهذا العمل فيخلدون ذكرى هذه الجدة اليهودية، ويريدون أن يحتفلوا بذكرى موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجعلونها عيداً يتفاخرون به. والواقع أننا إذا نظرنا إلى كلا التحليلين ونظرنا إلى واقع العبيديين فإننا نجد أنه لا تعارض بينهما، وأن القول الثاني أقرب، لأن العبيديين كانوا كما ثبت، والآن قد اتضحت كتبهم ونشرها أتباعهم الذين إلى اليوم يسمون بالفاطميين، وهم فرقتان الأغاخانية والبهرة، وكلا الفرقتين نشرت كتبهم، وما ثبت وصح عنهم عن الحاكم العبيدي وغيره: أنه كان لا يؤمن بالله ولا يؤمن باليوم الآخر ولا يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم كانوا أعدى أعداء المسلمين، فقد افتعلوا هذا الاحتفال لأنهم وجدوا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد لقي ربه ومات في هذا اليوم، فيحتفلون بذلك، هم في أنفسهم جعلوه عيداً لذكرى وفاة عدوهم الأعظم، وبالنسبة للأمة المخدوعة جعلوه ملهاة لهم، ويزعمون أنهم يحبون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم من ذريته، فيجتمع فيهم كلا الأمرين، وهذا هو أصل هذه البدعة. ثم فيما بعد انتشرت في البلاد، ثم وضع وأدخل فيها ما أدخل، حتى تحولت في كثير من الأحيان من مجرد بدعة إلى أن أصبح فيها الشرك الأكبر -والعياذ بالله- كأن يقال فيها أو في أناشيدها: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم وما أشبه ذلك من قراءة الموالد البدعية التي في بعضها إخراج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حد العبودية ومقامها، إلى درجة الألوهية.

محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم Q من معاني محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محبة أهل بيته حتى ولو كانوا على غير هداه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف تردون على هذا؟ A محبة أهل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي تبع لمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي مما يقره أهل السنة والجماعة ويؤمنون به، وإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما ضربه المعتصم وعذبه وآذاه في ذات الله عز وجل، حتى أنه ضُرب فانفتقت خاصرته وخرجت منها أمعاؤه، وكاد أن يقضى عليه، فجاءه بعض أصحابه وأصفيائه، وقالوا له: يا إمام! لم لا تدع الله على هذا الظالم؟ وكان الإمام أحمد معروفاً عنه في أصحابه وفي من عاشره أنه كان مجاب الدعوة لصلاحه ولفضله ولاقتدائه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يرون أنه لو دعاء على هذا الظالم لاستجاب الله تعالى دعوته، هكذا ظنهم في الإمام أحمد، لما يرون فيه من شدة التمسك بالسنة، فقالوا: ادع الله على هذا الظالم -أي المعتصم - فقال الإمام أحمد: 'لا أفعل ذلك، فإنني قد استغفرت له، ودعوت الله أن يغفر له لقرابته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ' فانظروا إلى محبة أهل السنة لآل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى وهو يفعل ذلك؛ فلقرابته من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلته يقول أنا أغفر للمعتصم ذلك، ولا أطالبه بشيءٍ ولا أدعو عليه؛ بل لا أطالبه أمام الله عز وجل لقرابته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكثر الناس حباً -المحبة الحقيقية الشرعية- لآل البيت هم أهل السنة والجماعة. وأما غيرهم فإنه: إما عظمهم وألههم، وإما كفرهم وفسقهم -والعياذ بالله- لكن من خرج من آل البيت عما شرعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لا ينفعه ذلك فهذا عمه أبو طالب الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها، لمّا لم يذعن لأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهادة، لم يكن من المؤمنين، فكل من خرج عن دين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينفعه ذلك، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فاطمة بنت محمد يا كذا يا كذا لا أغني عنك من الله شيئاً، فكل من خرج عن ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما كانت قرابته فإن ذلك النسب لا ينفعه أبداً، ولا ينفعه إلا أن يكون على ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأولى الناس بأن يقتدوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يدافعوا عن سنته وأن يمنعوا الابتداع في الدين هم آل بيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فنحن نعرف لهم حقهم وقدرهم، كما أوصانا بذلك نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونطيع وصيته فيهم، ولكن أيضاً نوصيهم وندعوهم ونأمرهم بما أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به من تقوى الله والتمسك بالسنة وعدم الخروج عليها، فهذا أيضاً من حق آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا، فإذا جيء بمن ألحد أو أشرك منهم فلا كرامة له حينئذٍ لأننا عرضناه على ميزان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدناه بريئاً منه تمام البراءة فإذاً نحن كذلك نتبرأ منه.

الانتساب إلى آل البيت

الانتساب إلى آل البيت Q هل بقي من آل البيت أحد؟ A لم ينقطع آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم موجودون، لكن لو كان السؤال: هل ادعى أحد أنه من أهل البيت وليس منهم؟ نقول: نعم، وأكبر مثال على ذلك أولئك المجوس الملاحدة العبيديون الذين يقولون نحن فاطميون، يدعون أنهم من ذريه فاطمة رضي الله عنها، وهم في الحقيقة يهود مجوس من الفرس، وثبت ذلك عند الأمة، والعلماء في ذلك محاضر ودونوا ذلك في الكتب، وأنهم ليسوا من ذرية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغيرهم يشابههم كثير، فهذا واقع، لكن ذلك لا يعني أنه لم يبقِ من آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد، فهم موجودون ومعروفون والنسب الصادق واضح، وهم معروفون سواء في هذه البلاد أو في غيرها.

كيف تنال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

كيف تنال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم Q هناك من يدعي أن محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستشفع به، فكيف تردون على هذا؟ A الذين يطمعون ويريدون ويرغبون في شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأملونها -ونحن منهم وأنتم منهم نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك- كثير ويريدون ذلك، والله سبحانه كريم فهل ضيق الله سبحانه هذا الأمر وهذا الطلب الذي يحبه عباده المؤمنون؟ فالله من كرمه ومنَّه وفضله على هذه الأمة أن جعل الوسيلة والثمن المقدم لشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمراً ميسوراً متكرراً يغفل عنه أكثر المسلمين، ثم يذهبون ويقعون في الشرك الذي يخرجهم من الدين، ويخرجهم من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويظنون أنهم بذلك ينالون الشفاعة، لا والله، فشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تنال بالشرك وإنما تنال بأمر هين ولكنه عظيم، هين لا مشقة للنفس والجسد إذا عملت به، وعظيم إذا أخذناه بقلب صادق وعملنا به بقلب صادق، والتزمنا بفعله، فبماذا ننال شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إذا أذن المؤذن وقلنا ما صح وما ورد مما تحفظونه جميعاً، فقد وعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قال ذلك بقوله: {كنت له شفيعاً يوم القيامة} سبحان الله! فلا يوجد مسوغ للذهاب إلى الشرك والبدع، فهذا الذكر هو مما يؤهلنا لنيل شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انظروا كيف يكون حال أهل البدع مشابهاً لحال اليهود الذين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ففي ديننا فسحة وسعة، حتى التوسل إلى الله سبحانه بأسمائه وصفاته ما أعظم ذلك وما أكثره، حجبونا عن ذلك كله على كثرة ما جاء في القرآن والسنة، وقالوا لا يوجد غير التوسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلوا الوسيلة التي أمر الله تعالى بها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] التي هي كل عمل صالح يقرب إلى الله حصروها هم فقط في الذوات، أن تتعلق بذوات المخلوقين من نبي أو ولي، فانظروا كيف يحجرون رحمة الله الواسعة، وكيف يخرجون الأمة من الطريق المستقيم السهل إلى الأساليب التي تخرجهم إما عن الصراط المستقيم وإما عن الدين بالكلية، عافنا الله وإياكم.

مدح النبي صلى الله عليه وسلم

مدح النبي صلى الله عليه وسلم Q إذا قيل أن من معاني محبة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التغني بشمائله وصفاته الخلقية وسماته الجمالية، إلى درجة العشق، فكيف تردون على هذا؟ A نعم هذا واقع، من الناس من لا يقرأ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا صفاته الخَلْقية، ويغفل عن صفاته الخُلقية وهي في الدرجة العليا، فالله اصطفاه واختاره حتى في خلقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن ليس معنى هذا أننا نشتغل بهذا الجانب ونتغنى به ونردد فيه الأشعار والقصائد ونترك الجانب الأعظم والأمر المهم. انظروا كيف كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهم الذين عرفوا محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن أعظم ما اهتموا به هو طاعته واتباع أمره، والاقتداء بسنته ولم يغفلوا أيضاً الجانب الآخر، لكن يجعلون لكل شيء قدره الشرعي الصحيح. ولننظر إلى شعب الإيمان، ولنقس على هذا لتقريب كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فشعب الإيمان أي: درجات منها ما هو أعلى ومنها ما هو أدنى، فإماطة الأذى عن الطريق لا نستهين بها ولا نحتقرها فهذا خطأ، وكذلك من الخطأ أن نجعلها في درجة الحياء، أو أن نجعلها في درجة شهادة لا إله إلا الله. وأضرب مثلاً لتقريب ما أقول: وذهبت إلى أمريكا لكي أدعو الأمريكان إلى الله، وقلت لهم إننا كنا أمة جاهلية في ضلال وفي كذا وكذا، كما كان العرب في الجاهلية، فبعث الله تعالى فينا رسولاً، أغر الثنايا، أكحل العينين، أجردٌ أزهرٍ وذكرت كل ما جاء في صفاته الخَلْقية، هل أنا في الحقيقة بهذا العمل أُعرِّف الإسلام حقيقةً، وأُعَرِّف دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا لا شك أنه مما جاء من صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن عندما وصفته لهم بهذا الشكل أكون مسيئاً؛ لأنني وضعت الشيء في غير موضعه، بل عليَّ أن أصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعظم أوصافه، فيما دعانا إليه من التوحيد، وبما أنقذنا به من الضلالة، وبما أخرجنا به من الظلمات إلى النور، وما أمرنا به، فإذا تعرضت له في ذاته ولأخلاقه أذكر كرمه وحلمه وصدقه وأمانته، ثم أتعرض بعد ذلك لصفاته الخلقية، فلابد أن نضع الشيء في موضعه الصحيح، كذلك عندما نعلم أبناءنا وأنفسنا ونقرأ سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهتم بها، فإن علينا أن نهتم بأعظم شيء وهو ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو توحيد الله ومحبه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووجوب التزام أمره، وكيف كان يعبد ربه عز وجل فنعبد ربنا كما عبده، ثم بعد ذلك نبين صفاته وشمائله، أما أن يأت قائل ويقول: القمل لا يؤذيه والذباب لا يقع عليه، وكان وكان حتى ينتحل هذه الأشياء، فالقوم أتوا بما لم يرد، ويظنون أنهم يعظمون بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم يعرضون له قدوة حسنة أمام الناس، وأن ذلك مما يجعل المسلمين يحبونه، ويجعل الكافرين يتبعونه ويؤمنون به، فهذا مثل ما تقدم عن عابد بني إسرائيل، ومثل ما قلنا عن علي بن الجهم عندما وصف الخليفة، فهؤلاء يتكلمون بالشيء الذي يظنون أنه غاية في المدح، وهو في الحقيقة إن لم يكن فيه ذنب -كما وجد من بعض من وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأقل ما فيه أنه ليس هو الذي يوصف به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحقيقة.

التوحيد والفرقة

التوحيد والفرقة Q هناك شبهة تقول إن الدعوة إلى التوحيد ونبذ البدع يؤدي إلى تشتيت الأمة وفرقتها رغم أنها بحاجة إلى الاتحاد والتعاون؟ فما رأيكم في ذلك؟ A الحقيقة أن الأمة الإسلامية اليوم مفرقة، لا يماري في ذلك أحد، فلا تكاد تجد رجلين على قلب واحد، فهي أمة مفرقة ممزقة، والذي يدعوها إلى الكتاب والسنة لا يفرقها -وهي في الواقع مفرقةٌ أصلاً- وإنما يدعوها إلى ما أمر الله سبحانه به حين قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فلم يقل واتحدوا، ولم يقل ولا تفرقوا -فقط- بل قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] أي تمسكوا بصراطه المستقيم ولا تفرقوا عنه، فليس الأمر مجرد اجتماع، فهل يرضى أي مسلم أن تجتمع الأمة على الشرك والبدع؟! إذاً: فلا بد أن نجتمع على الكتاب والسنة، وهل هذه الدعوة مسموعة مقبولة؟ لو دعوت الناس أنت للاجتماع على الكتاب والسنة، أو إذا دعوت أمة الإسلام إلى الاجتماع على الكتاب والسنة، هل دعوتك مسموعة؟ في الواقع لا، وإنما سيتبعك ويسمع منك ويتعاون معك البعض، وبعض منهم لن يقبل ذلك، لماذا؟ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقه، فأنت تطلب المحال إذا أردت أن تجعلها فرقة واحدة حقيقةً وواقعاً، لأنها ثلاث وسبعون، لكن أن تطمع في ذلك وترجوه بأن تدعوها إليه فنعم، فنحن أمرنا أن ندعو اليهود والنصارى إلى التوحيد مع علمنا بأن منهم من سيبقى على كفره ويموت عليه، فذلك مطلوب منا شرعاً، وإن كان لم يتحقق واقعاً، لكن المقصود هنا من العبرة أنه مادام أن ذلك غير متحقق واقعاً فلا نخرج عن الشرع بل ندعو إلى ما أمر الله تعالى أن ندعو إليه شرعاً.

القراءة في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي

القراءة في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي Q قرأت كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، فوقعت في مشكلة تتمثل في الجانب التصوفي أو الجانب الروحي الذي تحدث عنه الإمام، فهو يستدل بالكتاب والسنة فأين الحقيقة من ذلك؟ A الإمام الغزالي رحمه الله، يقول فيه بعض العلماء: أمرضه الشفاء -وهو الكتاب الذي ألفه ابن سينا - فكتب الإحياء، فجاء قوم يريدون الحياة لقلوبهم عن طريق الإحياء، فنخشى أن يميتهم الإحياء، لأن الأمر ليس كما ذكره الأخ وهو أنه يستدل بالكتاب والسنة فقط لا، فالإمام الغزالي رحمه الله -ونحن نتكلم عن الإحياء بالذات فيه من التخليط والغلط الشيء الكثير- مع أنه يستدل بالكتاب والسنة لكنه يأتي بالأحاديث الموضوعة والضعيفة وبأقوال أهل التصوف وبكلام لا أصل له في الكتاب ولا في السنة، على ما فيه من فوائد لا تنكر، وعلى ما فيه من استنباطات، وعلى ما فيه من عبر جعلت بعض العلماء يوجزه ويلخصه ويستخلص منه الفوائد المفيدة ويترك ما عدا ذلك، هذا في خصوص الإحياء، وأما الإمام الغزالي في ذاته، فإنه في آخر أمره مات وصحيح البخاري على صدره، وعرف في الأخير أن الطريق الوحيد للحق وللوصول إلى الله سبحانه هو اتباع الكتاب والسنة، ولهذا مات وهو يقرأ في صحيح البخاري وهو أصح كتاب بعد القرآن، ونرجو الله أن يجعل ذلك مغفرة له وأن يغفر لنا جميعاً، لكن الإحياء يجب ألا يقرأه الشاب المبتدئ الذي يريد أن ينمي جانب التقوى أو الجانب الروحي، فعندنا كتاب الله عز وجل فيه العبرة والعظة، وعندنا ما صح من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي كتاب الرقائق في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وفي غيرهما من الكتب فيها من العظة والعبرة ما يغني عن الإحياء وغير الإحياء.

حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره ورده السلام على الناس

حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره ورده السلام على الناس Q لقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون} وثبت عنه: {ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه} وثبت عنه: إن الله وكل ملكاً أعطاه سمع العباد فما من مسلم يصلي علي إلا وبلغني منه الصلاة} أو كما قال، فما نوع هذه الحياة التي امتاز الأنبياء عن غيرهم بها إن كنا نقول إنها حياة برزخية؟ ثم كيف نوفق بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وإذا ردت روحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه فهل يعني هذا أن روحه لا تزال مردودة في الليل والنهار، لكثرة من يسلم عليه في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل يسمع هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام عليه عند قبره؟ وإن كان الجواب بالنفي، فلماذا شرع لزوار القبور السلام على الموتى؟ A الجواب يحتاج إلى رسالة، ولكن نوجز مراعين الإفادة، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا شك عندنا في موته، وقبل أن نتحدث عن حياته بعد الموت نقرر أولاً: هل مات أم لا، فقد قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] فقد مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في صريح القرآن والسنة وإجماع الأمة، ومن زعم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت فهو كافر، إذاً فقد مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: مات الميتة التي كتبها الله على من عاش هذه الحياة الدنيا التي نحياها نحن اليوم، والتي سنموت كما مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كتب الله تعالى الموت على جميع النفوس، الصالح منها والطالح. ثم صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بعد موته يرد السلام على من يصلي ويسلم عليه، إذاً هناك شيء آخر، بل هنالك آية في كتاب الله عز وجل، تقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] إذاً الشهداء أحياء والأنبياء أحياء، فأي الحياتين تكون أكمل وأعظم؟ حياة الأنبياء بلا شك هي أعظم من حياة الشهداء، ونقول في الموت: ميتة الحياة الدنيوية، والحياة الأخرى لا نعلم كنهها ولا حقيقتها إلا لما يأتينا من نص فنؤمن به، ولا نتردد في ذلك، ولا نعارضه بعقولنا وآرائنا، فإذاً هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ولا تعارض بين الأحاديث ولله الحمد في ذلك. أما كونه يرد السلام على من يسلم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون معنى ذلك أن روحه ما تزال مترددة، نقول ما دمنا قررنا أنها حياة برزخية لا نعرف كنهها، فكيف نجادل فيما لا نعرف؟ فهل ترجع روحه وترد السلام، ثم تذهب ثم ترجع؟ نحن لا نعرف نوع الحياة أصلاً لكن الواجب علينا فيها هو أن نسلم ونؤمن بهذه الأحاديث ولا نبحث ولا نخوض فيما وراء ذلك، هذا هو مقتضى الإيمان به وبكل ما يخبر عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما سماعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن يسلم عليه عند قبره، أو غيره من الموتى، فهذا أيضاً لا يتعارض مع ذلك، فالمسلم إذا سلم وأسمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الموتى ذلك فهذا نفس الشيء، وهو أنه راجع إلى نوع الحياة البرزخية التي يحيونها، ولولا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرع لنا ذلك ما فعلناه، ولما زرنا القبور، ولما سلمنا على الموتى، فما دمنا نسير في حدود ما شرع، وما دمنا متبعين لما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلن نضل ولن نشقى. أما إذا قيل: إنه ما دام حياً إذاً ندعوه، ونستغيث به، ونتوسل به، فنقول: لا، هذا خطأ، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كانوا يتوسلون بدعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستسقوا بدعائه في حياته، ولما مات استسقوا بعمه العباس، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود ولكن لم يقولوا أنه حي، وعرفوا أن هذا العمل يكون من الأحياء وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموته لا تلحقه الأحكام التي كانت له في حياته ولكن في حدود ما ورد فقط، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح أمر عمر أن يطلب من أويس القرني وهو تابعي، أن يستغفر له، فلماذا يطللب منه وهو من التابعين ولا يطلب ذلك من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ نقول: هكذا شرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد وفاته لا نتقرب ولا نعمل أي عمل إلا بما ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، والكلام في هذا كثير، وحسبنا ذلك.

أهمية الوقت

أهمية الوقت تحدث الشيخ حفظه الله عن الوقت وأهميته بالنسبة للمؤمن، ثم ضرب لذلك أمثلة من حياة الأنبياء والعلماء، موضحاً كيف يستطيع المسلم مهما كان عمله أن يستفيد من وقته، ثم بين السر في تفوق المسلمين على عدوهم رغم قلة العدد والعتاد، مركزاً على طاقات المجتمع المعطلة وكيفية استغلالها.

قيمة الوقت عند المسلم

قيمة الوقت عند المسلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. وبعد: فإن مما تشهد له الآيات والأحاديث أن الوقت هو الحياة، وقد نبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عباده المؤمنين إلى ذلك بتنبيهات عظيمة، لا ينبغي لمسلم أن تفوته، بل يجب على كل مؤمن أن يتذكرها ليعرف قيمة العمر، وقيمة الوقت والحياة، ومن تلك التنبيهات العملية التي يعيشها المسلم كل يوم: هذه الصلوات الخمس التي شرعها الله تبارك وتعالى، وجعلها على المؤمنين كتاباً موقوتاً. وأكثر إنسانٍ في هذه الدنيا يعرف قيمة الوقت هو المؤمن، لأنه أول ما يستيقظ يعلم أن الوقت وقت صلاة الفجر، فإذا صلى الفجر يعلم أنه بعد ساعات سيأتي وقت صلاة الظهر، فإذا جاء الظهر، يَعدُّ ذلك فاصلاً بين وقتٍ ووقتٍ آخر، ثم يصلي العصر ويعد ذلك استقبالاً لوقت آخر غير الوقت الذي مضى، فإذا غربت الشمس وصلى المغرب علم أنه قد استقبل ليلة جديدة، ثم إذا صلى العشاء علم أن وقتاً قد انتهى، وأنه من الآن فصاعداً علي واجبات وأعمال أقضيها في الوقت الباقي. وهكذا بهذه الصورة المبسطة التي لا تخفى على أي عاقل، فالمسلم مهما كان عمله فإنه يرى أن وقته ما هو إلا هذه الأيام، وهو مجزأ بهذه الطريقة، وكذلك -أيضاً- العمر كله والسنة كلها، كيف يجدها الإنسان؟ تبدأ السنة -مثلاً- في محرم والإنسان يعمل بما شرعه الله -سبحانه- في هذا الشهر، ويبدأ يُعد لعام جديد، ثم يستقبل أيامه ويعلم أن هذه الشهور هي اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم، ثم يأتي أعظم الشهور وهو رمضان ويعقب رمضان شوال، ثم الحج، فينتهي العام بانتهاء الموسم، ويجد المؤمن أنه ما بين رمضان ورمضان كأنه ما بين لحظة ولحظة، وما بين الحج والحج كأنه ما بين لحظة ولحظة، ولكن بدورة هذه المواسم، وبدورة هذه الصلوات في اليوم، يشعر المسلم بقيمة الحياة وبقيمة الوقت، وأما الأمم التي لا تعرف هذه المواسم والعبادات فتوقيتها هو توقيت بأعياد مجونها وفسقها وخلاعتها، كعيد رأس السنة مثلاً. بل كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: 'الأمم الوثنية الهمجية في الهند والصين، وبعض أطراف البلاد التي ليس لها دين ولا كتاب كانت لا تعرف الأسابيع ' فلا تعرف الأسبوع ولا تعرف الأيام كما نعرفها نحن، فعندنا الوقت مجزأ، فيوجد يوم في الأسبوع هو يوم عيد، وهو يوم الجمعة، ولنا فيه واجبات تختلف، وعبادات تختلف عن الأيام الأخرى، فنشعر أن اليوم قد مضى، لأن الظهر صليناه والعصر صليناه، إذًا فقد أتى المغرب، إذاً فاليوم انتهى فنشعر بذلك، ونشعر بأن الأسبوع قد انقضى لأننا صلينا الجمعة، ونشعر بأن السنة تمر لأننا صمنا رمضان، وجاء الحج، والعبادات: وهي أركان الإسلام الثلاثة الصيام والحج والزكاة، مبنية على الحول أيضاً وهي التي تحسب الحول، كلها مما يذكر بأهمية الوقت وبأهمية العمر، فما الذي يصرف الإنسان وقته فيه.

فوائد من سورة العصر

فوائد من سورة العصر إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقسم بالعصر فقال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] قال بعض العلماء: في إقسامه -سبحانه- بالعصر تنبيه لعباده المؤمنين إلى المحافظة على الوقت، وأن نصيبك من هذه الحياة هو هذا الوقت وهذا الزمن فتشغله بهذه الأربع، وإلا كنت من الخاسرين، عافاني الله وإياكم وأعاذنا من الخسارة، فنشغل أوقاتنا بهذه الأربع التي من لم يكن كذلك فهو خاسر إما كلية أو جزئية وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله.

قادة الناس في الوقت

قادة الناس في الوقت إن قادة من عرفوا الوقت وقدروا قيمته هم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ولهذا نجد أن الأنبياء هم قادة الناس في هذه الأربع، في الإيمان والعلم، وفي العمل الصالح، والدعوة إلى الله، وفي الصبر على الأذى في الدعوة إلى الله، فهؤلاء هم الفائزون المفلحون الرابحون الربح الأكبر في الدنيا والآخرة، وأما غيرهم فبمقدار ما يضيع من طلب العلم ومعرفته -لأن الإيمان لا يكون إلا به- وبمقدار ما يضيع من العمل الصالح ويفرط في طاعة الله، وبمقدار ما يفرط في الدعوة إلى الله أو في الصبر عليها، يكون خسرانه ونقص عمله. ولو تدبر الإنسان لوجد أن العمر محدود جداً، وأعمار هذه الأمة كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يجوز ذلك} وستون سنة -في الحقيقة- لا تكاد تعد شيئاً مذكوراً لو تأمل العبد وتفطن، وإن كان الشباب يَغُر، وإن كان الشيطان يغر، وإن كانت زهرة الحياة الدنيا تخدع، لأن هذه الستين تمر منها ثلثها وهي عشرون سنة والإنسان في طفولة، ثم في شبه طفولة، وكل أب ابنه دون العشرين لا يزال يعتبره بحاجة إلى الرعاية والعناية والاهتمام! ثم الثلثان لمن مد الله -تعالى- في عمره، وهي أربعون سنة، كم يذهب منها للنوم؟ حسب بعض العلماء وبعض الحكماء ذلك فقالوا: وجدنا أن الإنسان العادي ينام ثلث عمره، إذاً فسوف ينام ثلث هذه الأربعين، ثم كم لطعامه، وكم لشرابه، ثم كم يأخذ الناس من وقته في الأمور المباحة، فإن بعض الناس يسلم عليك فيريد من وقتك نصف ساعة، وهذا شيء نشاهده نحن، طفل يمسك بك ويضيع عليك ساعة، وكثير من الناس لا يشعر بقيمة هذا الزمن ولا بأهميته وكأن أمراً ما كان! ولو دقق وحسب لوجد أن العمر ضيق وقصير بشكل يدعو إلى الغرابة.

مثال من علماء الأمة

مثال من علماء الأمة لولا أن الله -تبارك وتعالى- يبارك في أعمار المؤمنين لما استطاع دعاة الهدى وأئمة التقى وعلماء الصلاح والإصلاح أن يفعلوا شيئاً، ماذا نفعل لو أردت أنا وإياكم أن ننسخ كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية باليد؟ قد تنتهي الأربعين سنة ولم نكتبها أو شبه ذلك -سبحان الله- فكيف يكون الحال إذا كان هو يفكر ويجمع العلم، ثم متى يكتب، ومتى يفتي؟! وأين عبادته وقد كان من أعبد الناس؟! ولنمثل بالعلماء المتأخرين حتى لا يقال إن الأنبياء والصحابة شيء آخر، ولا شك أنهم كذلك، لكن نقول: القدوة موجودة حتى في المتأخرين، في عصور الظلمات وفي عصور الانحراف فلابد أن يوجد من يحافظ على العمر ويعرف أهميته، كـ النووي رحمه الله وابن الجوزي، كيف كتبوا هذه الكتب، شيء عجيب! أحصى بعض ما كتبه بعضهم في اليوم فوجد أنه كراسة، والكراسة عشرون ورقة، كراسة في يوم! فأين النوم، وأين الأكل، وأين حقوق الأهل، وأين العبادة، وأين، وأين؟! كل هذا بالبركة، لأنهم عرفوا قيمة هذه الحياة، فسخر الله -تبارك وتعالى- طاقاتهم وهممهم فتوجهوا إلى أمر واحد. والآن نجد كل من يُسمَّوُن بعلماء النفس والاجتماع، وكل المجربين حتى الآباء والأمهات، يقولون: إذا أردت أن تنجز أعمالك فحدد هدفاً واحداً واجتهد فيه، واعزم -بإذن الله- على أن تنجزه، لكن إذا حددت هدفين أو ثلاثة فقد تضيع الثلاثة ولا تحصل على شيء، وأما أولئك فقد جعلوا الهم هماً واحداً، كان أحدهم يصبح وهمه رضا الله والفوز بطاعته وجنته والدار الآخرة، وحدوا لذلك الهم، فإن عَبد فهو يرجو ما عند الله، وإن كَتب فهو يرجو ما عند الله , وإن خَطب فهو يرجو ما عند الله، وإن تزوج فهو يرجو ما عند الله، وإن جمع المال فهو يرجو ما عند الله، فالهم واحد ولكن الأعمال تختلف، ولهذا نجد أنهم كانوا جيلاً عظيمًا، وجيلاً واسعاً، ومع ذلك يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] كيف جمع الله وقال: (سبلنا) مع أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فهنا الصراط واحد، والسبل هي طرق الضلال والغواية التي على كل طريق منها داعٍ من دعاة جهنم -عياذاً بالله- لكن {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فالسبل هنا هي طرق الخير الداخلة في الصراط وهو صراط واحد، وطرق الخير فيه مختلفة، ومن هنا كان تفاوت الناس الصالحين في عمارة الأوقات، لأن إنساناً آتاه الله تبارك وتعالى العلم فوقته في العلم، وآخر آتاه الله القوة فوقته في الجهاد، وآخر آتاه الله تعالى القدرة على العبادة، فوقته في عبادة وذكر وهكذا، مع وجود الواجبات المشتركة العامة، لكن من فضل الله -سبحانه- وتيسيره أنه جعل لكل إنسان ما يعمر به وقته من الخير، ومع ذلك فإن هناك كنوزاً ثمينة وغنائم باردة لكل مسلم، ولكل متقٍ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

أمثلة في كثرة طرق الخير وتيسرها

أمثلة في كثرة طرق الخير وتيسرها

الخيرية في مهنة الزراعة

الخيرية في مهنة الزراعة لو أخذنا مثالاً على ذلك، مهنة الفلاحة، ومعلوم أن الفلاحة هي أشق مهنة، وأكثر الناس في العالم قديماً وحديثاً مهنتهم الفلاحة، حتى الدول الصناعية الكبرى في العالم تجد أن الفلاحة وتربية الحيوان أكثر موارد الثروة عندهم، وأكثر قطاع من الناس يشتغل بها تقريباً، فكيف يحافظ على وقته وهو فلاح يعمل في الأرض، ولو حفظ وقته فيها لرأيت العجب العجاب، وذلك بأمور: أولاً: أن يعلم أنه يزرع للآخرة، فهو في حياته الدنيا يزرع، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام} وكل إنسان هو حارث في الحقيقة، فأنا حارث باعتباري إنساناً، وأيضا عملي الخاص في الدنيا هو الفلاحة، فإذاً ماذا أفعل؟ انظر إلى هذه الشجرة التي أبذرها وكيف أرعاها، وكيف أنميها من جهة الدنيا، فأنا أنمي وأسقي وأريد أن تثمر وأن تكبر لأكسب بعد ذلك -بإذن الله- وأعف نفسي عن الناس، وهذا حق ومباح والله بارك فيها وقدر فيها أقواتها، وجعل الأرض بهذه المثابة من فضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. لكن أتفكر كيف أن الفلاَّح تحصل له هذه الكنوز العظيمة التي يحصل عليها العلماء ويحصل عليها طلبة العلم من أين أجني مثلها؟ فأنا عندي كنوز وأستطيع أن أزرع، في الجنة وأنا في الدنيا، لأن الجنة قيعان وغراسها ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فأنت تزرع الأرض إذا قلت سبحان الله والحمد لله، فهذه التسبيحة نخلة، والتحميدة نخلة، والتهليلة نخلة، ومن هنا نقول للفلاح: قارن بين الفلاحتين -الله أكبر! - كيف نقارن بين نخلة أزرعها في الدنيا تمضي عليها السنوات الطوال حتى أجني ثمرتها، ومع ذلك فلو أن شخصاً قال لك: هذا النوع ممتاز (سكري) وهو ممتاز جداً، وبعد خمس سنوات ستأكل -إن شاء الله- منها، وتجني منها عشرين أو ثلاثين كيلو، فإنك ستقول: أنا أشتريها منك بثلاثة أو بأربعة آلاف، وأزرع فيها وأنا مطمئن لأني بعد خمس سنوات سآكل من هذا التمر الشهي، ولا يوجد من يقول لك: إنك خسران في هذه البضاعة! وهذا الوقت الذي أمضيه في سقيها والاعتناء بها، وهذه ثمرتها وهذه في الدنيا، فأين الجنة، وأين غراس الجنة؟! الجنة تَغرس فيها بمجرد الذكر، ولا تسقي ولا تتعب، وأين الجنة من هذا التراب؟! من الذي يقارن بين هذه الدار وتلك الدار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -سبحان الله! - أين أنهارها من أنهارها؟! وأين ظِلالها من ظِلالها؟! وأين زوجاتها من زوجاتها؟! وأين ولدانها من ولدانها؟! وأين وأين، من المقارنات التي لا تنتهي! ليس هناك نسبة للمقارنة أبداً! ومع ذلك فأنا أستطيع أن أعمل هذه الأعمال في هذه الدنيا، ولا أخسر الآخرة، بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الخيرية في التجارة

الخيرية في التجارة وكذلك التاجر، الذي يريد أن يربح، كيف تربح لو أنك تشتري وتتصدق؟! هذا لا شك من الخير العظيم، لكن نفرض أنك تاجر، وهذه التجارة على قدر ما يقيم حياتك وما تنفق به على عيالك، فنقول: هناك التجارة العظمى، التي تنجي من عذاب عظيم، التجارة مع رب العالمين في الطاعات. تقول: كيف؟ نقول لك: أُعمر وقتك بالتجارة حتى وأنت في دكانك وفي محلك وفي أي مكان تكون فيه، وتاجر مع الله بهذه الغنيمة الباردة، هذه الكنوز التي يغفل عنها أكثر الناس إلا من رحم ربي، إذا قلت: [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] عشر مرات بعد صلاة الفجر في الصباح، كنت كمن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل وهي أغلى أنواع الرقاب، فلو أن صاحب مال قال: أنا من إيماني ومن إخلاصي لله تعالى سأشتري أغلى الرقاب التي هي العرب من ذرية إسماعيل، وأعتقها لوجه الله -سبحانه- فيعتق الله كل عضو مني بعضو منها من النار لكان تاجراً عظيماً، لكن هذا الإنسان التاجر الذي لا يجد هذه التجارة عنده وعند أي تاجر يكفيه أن يقول هذا الذكر، فانظروا كيف أننا نغفل عن التجارة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد يمر على أحدنا اليوم والشهر -والله المستعان- وما قال هذا الذكر العظيم وكم يمر على بعض الناس ولا يذكر هذا الذكر ولا يقوله.

المسلمون الأوائل والوقت

المسلمون الأوائل والوقت ولو تأملنا كيف اغتنم السلف الصالح أوقاتهم؟ لرأينا عجباً عجاباً وبحراً عباباً، لا نستطيع أن نفيه حقه. كان أبو سليمان الداراني يقول: ' أحب ما عندي في الدنيا الليل، ولولا الليل لما أسفت على شيء من الدنيا, وإن أهل الدنيا لم ينالوا شيئاً من لذة أهل الجنة، إلا ما يجده أهل العبادة في الليل ' وهذه هي التي عبر عنها شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عندما قال: 'إني لأكون في حالٍ أقول فيه لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير كبير' ليس كمن قال: ما قيمة الليل لولا العود والوتر لا بل: ما قيمة الليل لا تتلى به السور كان عبد الله بن قيس رضي الله عنه الذي كان يقال له: راهب هذه الأمة يقول عندما جاءه الموت: 'والله لا أبكي على ذهاب الدنيا -كما يبكي الناس عند الموت على الأموال وعلى الأهل- ولكني أبكي على ظمأ الهواجر في الصيف، وقيام الليلة الباردة في الشتاء' فهو يبكي على هذا الوقت، لأنهم كانوا يصومون في شدة الحر، ويقومون الليلة الباردة في الشتاء. ما أبعد حالنا عن حالهم! كانوا يعلمون أن هذا الوقت غنيمة وأنه فرصة يجب أن تستغل وأن تغتنم لعبادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولهذا ما كان يفوت أحدهم شيئاً من وقته أبداً، كان إما طاعة وإما عبادة، وكله عبادات وطاعات أو صلاة أو صيام أو فكر أو تذكر، فلا يخلو المؤمن من الفكر أو الشكر أو الذكر. والفكر: شيء عظيم يغفل عنه كثير من الناس، ألا ترون أننا في هذه الأيام فيما يسمى بالعطلة، والتي نعطل فيها كل شيء، حتى إن البعض قد يعطل الجمعة والجماعة وكل شيء، لأنها عطلة! كلا، بل الأصل أن الإنسان إذا أراد أن يذهب إلى بلد آخر، فأمامه فرصة عظيمة لاغتنام الوقت في التفكر في آيات الله، وفي مخلوقات الله، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهذا البحر أليس فيه ما يثير العجب العجاب عند المؤمن؟! وهذه الكواكب والنجوم، لو تفكر الإنسان التفكر الصحيح لكان فيه من صفات المتقين، بل لكان في الذروة وهم أولو الألباب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] سبحان الله! كيف هذه النجوم وهذه السماء وهذا الليل والنهار؟! فأنت تنظر وتقف مع الناس وكلهم ينظر إلى البحر وأنت تنظر معهم، ولكن شتان بين ناظر وناظر! ترى الحيوانات والمخلوقات، ولكن شتان بين ناظر وناظر، هذا ينظر في السمكة أنها سمينة تصلح للأكل، أما الآخر فينظر فيجد عجائب خلق الله، فيقول: سبحان الذي جعلها تعيش في الماء، وأنا أعيش في الهواء سبحان الله العظيم! ويعلم أنها تسبح الله، حتى الصغار التي لا نكاد نراها تسبح الله، والبر والبحر كله مليء بمن يسبح الله، {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ونحن غافلون لاهون لاعبون عابثون نضيع الأعمار والأوقات. ونقول: نتمتع ثم بعد ذلك نطيع الله ونتقيه، وهذا هو طول الأمل وهو أكثر ما خافه السلف الصالح، ولهذا كان يقول أحدهم: والله إني لأصلي الفريضة فلا أنتظر ما بعدها وإلا فلماذا خشعوا في صلاتهم؟! لأن الواحد منهم كان يصلي صلاة مودع، لا ينتظر ما يصلي بعدها، فهذه هي الأخيرة فيخشع، والثانية الأخيرة فيخشع، فكان العمر كله خشوعٌ وعبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس هناك طول أمل. وطول الأمل عجيب عند بعض الناس، وقد أخبرني أحدهم فقال: تعاقد أحد التجار مع شركة -وهي شركة كافرة- على بناء مصنع من المصانع، فقال لهم: كم يمكن أن يستمر المصنع إذا أخذناه على أصل الأنواع والآلات؟ قالوا: يمكن أن يعمل مائتي سنة، ونضمن لك أن المصنع ما يزال يعمل هذه المدة، قال وبعد هذا أقفله! فكم عمرك ستين أو ثمانين، وكم بقي لك من عمرك؛ ولكن قد أودع الله في الإنسان طبيعة حب التراث حباً جماً ولا شك كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8].

نصف الورع ونصف العلم

نصف الورع ونصف العلم لكن يا ابن آدم! ماذا يشبعك في هذه الحياة الدنيا، ما الذي يمتعك في هذه الدنيا، وما الذي يكفيك منها، ولهذا قال بعض السلف: إن نصف الورع ونصف العلم، في حديثين، قال: أما نصف العلم فهو في {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، وأما نصف الورع فهو في: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وأنا -حقيقة- عندما قرأت هذه العبارة تعجبت كيف أتى بها هنا! ولا شك أنهم أفقه منا وأسبق منا إلى كل خير لكن ماذا يريد بقوله: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} وكيف يكون نصف العلم؟ لو قال: المحافظة على الوقت لكان هذا ممكنًا، لكنه يتحدث عن الوقت وجاء بها في باب نصف العلم، فرجعت إلى نفسي فقلت: نعم، لا شك ولابد أن لهم حكمة، لأنك لو شغلت وقتك في العلم -وأفضل ما يُعمر به الوقت هو طلب العلم، فالوقت كله لو حصرته في العلم فهذا أفضل، وأعني العلم الذي يورث الخشية والعمل والتقوى، فيكون الإنسان عالماً بالله وبأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سفيان - لو فرغت وقتك وعمرك كله للعلم وحده فكم ستحصل من العلم؟ ليس ما تريد، بل أقل منه، فخذ هذه القاعدة معك {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، فإنك لو طبقتها فكم ستوفر من الأوقات! فكأن أكثر الناس في الحقيقة نصف عمره هو فيما لا يعنيه، وكل واحد منا ينظر في نفسه، فلو علمت هذا وطبقته وتمثلته في نفسك لكنت فعلاً حائزاً على نصف العلم والنصف الآخر لديك، لأن العلم له فضول، حتى بعض المسائل من واقعنا لها فضول. وأضرب لك مثالاً من واقعنا: عندما يأتينا العالم من العلماء الذين وقتهم ثمين جداً -لأنه لو لم يأتنا في هذا اليوم لنفع الله به في بلد آخر، ولأفتى فتوى تقيم الإسلام في بلد، كشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية لما أفتى في التتار هبوا للجهاد من أطراف الدنيا- فهل جاءونا نحن لكي نضيع عليهم أوقاتهم فيما لا يعنيهم، فالأسئلة التي نسأله مكررة ومعروف رأيه فيها من قبل أن يولد، وليس فيها جديد، وكلامه ليس فيه جديد، ونترك قضايا مهمة جداً فلا نعرضها عليه، فأضعنا أوقاتنا وأوقات العلماء، فلو كنا نعرف نصف العلم ونطلبه لكان الحال غير الحال، إذًا فنترك ما لا يعنينا. وأسئلة أكثر الناس، وحتى بعض طلبة العلم من باب الفضول، وفضول العلم وفضول المسائل يأتي من قبل الشيطان، ولهذا كان السلف الصالح لا يتكلمون إلا فيما وقع، ولما قيل لـ ابن عمر رضي الله عنه: أرأيت لو أن رجلاً فعل كذا، قال: [[دع أرأيت في اليمن]] فلا يوجد عندنا أرأيت فإذا وقع فاسأل، ولا تقل أرأيت لو كان كذا كيف أفعل، وإذا وقع كذا ماذا يكون، ولكن اشغل وقتك الثمين وهذا العقل والذهن وهذه الطاقة التي أعطاك الله إياها وهذا العمر الثمين فيما يعنيك، فإن الواجبات محدودة.

أهمية المحافظة على الأوقات

أهمية المحافظة على الأوقات وأحب أن أنتقل إلى قضية مهمة جداً نغفل عنها كأمة في مجموعنا، وهي مسألة أننا لو حافظنا على أوقاتنا لكنا نقود العالم كله، وهنا سِّر عظيم لا يدركه إلا المؤمن، كيف ذلك؟ لنفرض أن عشرة ملايين من المسلمين استقاموا على الحق، فإن هؤلاء العشرة ملايين يستطيعون أن يقودوا العالم، بل بأقل من هؤلاء. ففي عهد الصحابة رضوان الله عليهم كان العدد أقل، وسادوا العالم، وملكوا الدنيا، ونشروا الخير في شرق الدنيا وغربها، بهذا السبب لما عرفوا حق الوقت، فعبدوا الله بما يناسب هذا الوقت، فأعطوا كل وقت حقه، أعطوا الصلاة حقها وأعطوا الأهل حقهم، وأعطوا الجهاد حقه، وأعطوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقه، ففي هذا العمر المحدود فتحوها. نابليون دنش بيلير قال 'هؤلاء فتحوا نصف العالم في نصف قرن' كيف هذا؟! في أقل من خمسين سنة! والحقيقة أن القضية ترجع إلى سر رباني!

بين المحافظة والضياع

بين المحافظة والضياع هنا فرق بيننا وبين الكافرين، ولهذا نحن نغلب الكفار بأقل عدد وأقل عدة، إذا كنا مؤمنين بالله {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] والكفار كما يقال الآن يخدعوننا بهذا القول، يقولون: إن الكفار عندهم جد وعمل ونشاط وكذا وكذا، وهذا صحيح، ولا شك أنهم يعملون لكن هم يعملون ثمان ساعات ويجتهدون لدنيا هم، ولا شك أن تفوقهم في الدنيا مبني على سنة ربانية، لكن هذا الكافر كم يضيع من الطاقة التي وضعها الله تعالى فيه أو المواهب، فكم تأخذ الخمرة إذا سكر؟ وكم يأخذ الحشيش إذا كان من المعربدين المحششين؟ وإذا كان من المدخنين فكم يأخذ الدخان من طاقته الجسدية، وأيضاً من قواه العقلية؟! والزنا وما أدراك ما الزنا -نعوذ بالله- ماذا يفعل الزنا بالطاقة العقلية والقلبية -نسأل الله العفو والعافية- إذًا فهذا مبدد الطاقة. وفي إحدى الإحصائيات التي تتحدث عن هذه المسألة تقول: إن الفرد عندهم يعمل بربع طاقته فقط، وربما تكون اليابان أكثر عملاً من أمريكا، أي أن الفرد الواحد يعمل بربع طاقته، فالأمة تعمل بربع طاقتها، ولهذا تفوقوا وعملوا ونحن المسلمين لا تبدد الطاقة عندنا في زنا ولا خمر ولا حشيش ولا لهو ولا لعب ولا تدخين، فيكون الذهن أصفى وأنقى وأقوى، فلو أتينا باثنين أحدهما مسلم والآخر كافر ودرسناهم الإثنين في الفيزياء النووية أو في علم الفلك، ونفس المستوى والمعدل الذهني واحد، إلا أن هذا المسلم استيعاب محفوظه -بإذن الله سبحانه وتعالى- أقوى ومن المستحيل أن يتفوق هذا الكافر عليه، ولذلك تجد من الأمثلة المشاهدة الحية الآن الكثير، فتجد -والحمد لله- شباباً يذهب من بلاد العالم الإسلامي يدرس في أمريكا ويدرس في مجالات دقيقة جداً لا يدخلها إلا العباقرة الأفذاذ من أمريكا، وهذا الشاب يشغل وقته في عبادة الله -وهذا مفروغ منه- فلابد أن يصلي ويصوم ويعبد الله، ويقوم بحق زوجته فليس كأولئك، -وأيضاً- ضيافة وزيارة إخوانه في الله، وتراه يقوم بالدعوة إلى الله، ومرتبط بمركز إسلامي في دعوة ويترجم ويتكلم ويدعو، وفي آخر السنة يتفوق على الأمريكي في الدراسة، مع أنا لا نقول: تفوق على السكير العربيد، بل يتفوق على الأمريكي الذي وقته كله مجتهد في العلم لكن أصل الطاقة مبدد، مهما حاول أن يجمعها شتت الله شمله وفرق همه، لأنه لا يرجو الله ولا يرجو الدار الآخرة، وإنما يجمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الشمل ويجمع الهم لمن أصبح وهمه الآخرة كهؤلاء الشباب والحمد لله. ولذلك فإن أعدى عدو لهذه الأمة أو من يخدم أعداءها، وهو يشعر أو لا يشعر هو الذي يريد أن تبدد طاقات هذه الأمة، وأن يبدد أغلى ثروة عندها وهي أوقات الشباب تذهب وتضيع في الفراغ، وفراغ عجيب أدركه أولئك الكفار، فقد ذكرت البرازيل أنه يجب أن يوضع حد لموضوع كرة القدم، ونشر هذا في الجرائد الرياضية وغيرها، قالت البرازيل: إن ملايين العمال يتأثر عملهم بسبب المباريات، فيصيب المصنع أو المعمل شلل كلي، أو شلل جزئي فتشغل الأمة بأوقات المباريات، والكرة تتجدد، فما بين الحين إلى الآخر دورة وراء دورة؛ لكي لا يستقر العقل من كثرة ما يدور، فأمة عقلها في ليله ونهاره يجري ويلهث لابد من حل له، بل وجدوا أن ساعات العمل تضيع، وطاقات الأمة تضيع، وهم كفار لا يؤمنون بالآخرة، ويهمهم أن يقضي العامل وقته في إجازة وفي فراغ ولا يكون مجرمًا. وأكبر هدف الآن في الولايات المتحدة الأمريكية يتحقق في أن أوقات الفراغ لا تكثِّر الجرائم، هذا هدف عظيم أما أن يفعل الناس ما شاءوا فليفعلوا، ولهذا أصبحوا يبنون مجمعات كبيرة جداً للمنتزهات ومجمعات كبيرة فيها جميع أنواع الألاعيب والأهازيل، وأرانا بعض الإخوان إياه قال: هذه من أجل الأطفال في العطلة أو في المساء في غير وقت الدراسة، وفي جميع أوقات الفراغ حتى لا يتعاطى المخدرات، ومع ذلك يدخل الشاب يلعب ثم يعود مخدراً فلا فائدة؛ لأن الإيمان لا يوجد. فأصبح الوقت طاقة، فأكبر ما يسعون إليه أن لا تأتي بشيء عكسي، أما المؤمن فيعرف قيمة العمر وقيمة الحياة يروى أن بعض السلف الصالح مر بقوم وهم في ملهى أو في مقهى جالسون، فأخذ يتألم! فقيل له: مالك؟ قال: والله آسف، وأتمنى لو أن الأوقات تشترى كما تشترى البضاعة لاشترينا من هؤلاء أوقاتهم، تجده البعض يعود من العمل ثم يذهب يسهر في قهوة إلى قريب الفجر كل يوم، فيضيع عشر ساعات أو ثمان أو خمس كل يوم! أو يسهر على أنواع من اللعب إما لعباً فردياً أو لعباً جماعياً، فيا ليت الأوقات تشترى. إن من الناس من يبحث عن دقيقة أو ساعة أو يوم لكنها لا تباع! وليس بمقدوره أن يشتري! ومن الناس من يبحث عن قتل الوقت! نحن الأمة التي جعلها الله تعالى أمة حية بهذا القرآن: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] ويجب أن نحيي الأمم بهذا القرآن، إلا أننا أصبحنا نتكلم عن قتل الوقت، كيف نقتله والعياذ بالله، كأنه نوع من المضادة اللفظية -على الأقل- ولما أمر الله أن تحيا القلوب والأوقات، أصبحوا يسمون ما يلهى به أو يقتل من العمر إحياءً لليلة فيقولون: حفلة أو زواج في هذه الليلة يحييها المطرب الفلاني أعوذ بالله! ووالله إنه ليميتها ويبددها ويشلها ويعطلها، لكن هكذا مفهومنا للحياة، مفهومنا للعمر أصبح يتمشى مع المفاهيم الغربية، فهي ترجمات حرفية للكلمات الغربية، نسأل الله العفو والعافية، وأسأله تعالى أن ينفعنا بما نسمع وبما نقول.

سر رباني

سر رباني يمكن أن نستدل على هذا السر الرباني بالأدلة الواقعية من كلام الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولكن يؤمنون بالعمل وبالجد والاجتهاد وضرورة حفظ الوقت، وهذا فقط للمعرفة والمقارنة لا غير. أُجريت تحاليل -وهذه من الأشياء التي نستفيد منها جميعاً- في موضوع الطاقة الإنسانية، ما مقدار هذه الطاقة البشرية وما قوتها، وكل من يبحث في الإنسان وطاقاته المخزونة يقولون: شيء عجيب جداً! فإن الإنسان -أيَّ إنسان- يختزن من الطاقات ما لا يكاد يصدق! فلو أتينا إلى الإنسان العادي جداً، ومستواه من الذكاء عادي (متوسط)، فيمكن لهذا الإنسان لو فجر الطاقات التي فيه، أن يكون من أعظم العباقرة، وأكبر مما نتصور، ويمكن أن يكون من أعظم القادة في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المؤلفين في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المكتشفين في العالم، كيف؟ فيقولون إن الطاقة مختزنة وموجودة، لكنها تحتاج إلى ما يثيرها وإلى شيء يفجرها. فمثلاً: المتسابقون في الماراثون "السباق الطويل" وهو من عادات وبدع الجاهلية اليونانية ومن أديانهم، جعلوه شعيرة دينية يتسابقون عند جبال الألب جبال الآلهة ويقولون: هذه الجبال تسكنها الآلهة، وهذه عقائد دينية باطلة وانتشرت في العالم فيما بعد، فالمتسابق بعد عشرة أو عشرين كيلو إذا سقط وانتهى ولم تعد له قدرة على شيء يقول الأطباء عندما يفحصونه: ما زال هناك طاقة مخزونة حتى الآن، وهي طاقة عضوية لم تنتهي، وهذا شيء عجيب. فما الدليل على ذلك؟ قالوا: إذا سقط المتسابق وهو يكاد يغمى عليه، وإذا بأسد فاغر فاه يريد أن يأكله فإنه سوف يقفز ويجري -فسبحان الله- من أين جاءت هذه الطاقة؟ هل نزلت عليه من السماء، قالوا: هذا دليل على أن الطاقة مخزونة موجودة، وكان بإمكانه أن يستغلها في الوقت الباقي وقد يكسب السباق، إلا أن المثير للطاقة والمفجر للطاقة كان ضعيفًا ولو كان موجودًا فيمكن أن يصبح بشكل أكبر. لكن إذا ما أتينا لكي نطبق هذه القاعدة على واقع الجيل الأول وهم الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، ماذا كانوا؟ كانوا أعراباً من الناس، وكل العرب كانوا كذلك، فكان منهم قريش وهم أهل فضل كذلك بنو تميم واليمن كغيرهم من الناس، لكن لما آمنوا وأسلموا كيف تفجرت هذه الطاقات، وكيف تولدت هذه المواهب؟ خذوا مثالاً: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان يرعى الغنم في نواحي مكة، والرعاة في التاريخ آلاف بل ملايين، لكن إذا أسلم وآمن هذا الراعي -وغيره من الصحابة كذلك- فإنه يتحول إلى شيء عجيب. مدينة الكوفة في الدولة الإسلامية التي تبلغ شهرتها شرق الدنيا وغربها، كان من أبرز الأئمة الأعلام فيها والذي تضرب إليه أكباد الإبل عبد الله بن مسعود ذاك الراعي! فكيف تفجرت وكيف أثيرت فيه الطاقات؟ فالقضية هي الإثارة، فتأتي الإثارة عند الصحابة رضي الله عنهم -وأسأل الله أن تأتينا في قلوبنا- فلم يروا كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها. قال بعض السلف: إني أريد أن أنام فأتذكر الجنة أو النار فأهب كالمجنون، فلا يأتي نوم بعد ذلك فيقرأ القرآن ويصلي، سبحان الله يريد أن يجلس، فيتذكر أن واجباً عليه في الجهاد، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف تريد أن تجعل هذا الوقت وقت راحة، ويأتيه فيه مثير قوي؟! والحمد لله أن خلق المؤمن كذلك، فقد يأتيه الأمر من أمور إخوانه وربما كان على فراش النوم فيستيقظ وينشط لذلك العمل، وكأنه لم يرد أن ينام بل كأنه كان يبحث عن العمل، ولربما عمل بعمل أخيه الساعات الطوال، ومن هنا نعرف سر انتصار الصحابة رضي الله عنهم لأن طاقاتهم كلها فجرت، هنالك الجنة وأنت تريد أن تنام فتتذكر الجنة، وما فيها من الحور والولدان، كما قال ذلكم الصحابي: ليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل، فرمى التمرات واقتحم ساحة المعركة، لأن هذه جنة فهذا هو المثير الأقوى، أنك تذكر الجنة فتتقدم، أو تخاف من النار فتتأخر، ولذلك تمكن المؤمن من ترك أشد الشهوات عنفواناً وضغطاً وقوةً كما حصل ليوسف عليه السلام، بل كما جاء عن الرجل الذي كان في الغار، لما أتت ابنة عمه وجلس منها كما يجلس الرجل من أهله فقالت: {اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه} فجاءته تقوى الله وكل تلك الشهوة تتفجر فقام وتركها لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه يأتي ما هو أقوى من كل شهوة وأقوى من كل غريزة وأقوى من كل مثير، فينسى الإنسان كل شيء ويعود قوياً مستقيماً ويفجر هذه الطاقة وهذه الحواس في الخير، يقول أحد السلف رحمه الله وهو وقد وثب على كبر سنة وثبة عظيمة -أي قفز- فلما رآها بعض الناس تعجبوا وقالوا: رجل كبير ويقفز هذه القفزة الهائلة، قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر مما حرم الله، فحفظها الله لنا في الكبر فسبحان الله! لا تتبدد الطاقة فهي موجودة، فالنظر طاقة جعله الله -سبحانه- لنا، وركز نظرك وفكرك تجد العجب العجاب، ولكن هذه الطاقة هذه كالبترول لوأراقه صاحبه على الأرض فلن يستفيد منه أحد لكن لو وضعه في السيارة وشغلها لمشت السيارة بإذن الله.

الأسئلة

الأسئلة

ضياع الوقت من الموت

ضياع الوقت من الموت Q ما معنى قول ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد: ' ضياع الوقت أشد من الموت ' A لأن ضياع الوقت يقطع عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها، وإذا مات الإنسان وهو متقٍ مؤمن فإنه ينقطع عن الدنيا وأهلها، ويجاور الملأ الأعلى ويترك هذا الملأ، وهذا ليس بخسران بل هو فوز رابح، وكل الناس هالك وراحل، ولكنه هو رحل من هذا الملأ إلى الملأ الأعلى، ومن هذه الدار إلى دار القرار والنعيم والحمد لله، لكن المشكلة ضياع الوقت في غير طاعة، لأنه يقطعك عن الله وعن الدار الآخرة، ولهذا تجد الذين يضيعون أوقاتهم في اللهو واللعب ويضيعون الطاعات، تجد قلوبهم قاسية مختوم مطبوع عليها، وتجد أحدهم حماراً في النهار جيفة بالليل، ولربما أصبحت العكس الآن فهو حمار بالليل لأنه أكثر إقامته، فهو حمار في وقت إقامته، وجيفه في وقت نومه -والعياذ بالله- لأنه مقطوع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن ذكرته بالله، قلت له: اتق الله أو أي شيء مما يقربه من الله، لكنه مقطوع الصلة بينه وبين الله، ولهذا فهو ميت: ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء وميت الأحياء: حي بالشعور والإحساس ولكنه ميت القلب والإيمان نسأل الله العفو والعافية.

الانشغال بمشاكل الناس

الانشغال بمشاكل الناس Q أنا أحد الشباب الذين لهم دور في نشاط الحي والحمد لله، ولكن هذا يأخذ علي أغلب وقتي في حل المشاكل والاجتماعات وفي أشياء أخرى، علماً بأن هذه المشاكل قديمة جداً وقد ضيعت أوقات الشباب الذين سبقوني في الحي وأنا لا أرى أي تقدم في هذه المشاكل، فهي تختفي فترة ثم تعود، فأنا في حيرة من أمري، هل أبقى على هذه الحال علماً بأني لو بقيت لكنت شبه الشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، وقد أستطيع أحياناً أن لا أحترق لكن يذهب علي وقت قد استغله لنفسي مثل الرحلات والخرجات والجلسات، وقد فكرت في الانقطاع الكلي والاستفادة من وقتي لنفسي، لكن أنكر علي الكثير من الإخوان بحجة كتمان العلم وعدم خدمة الغير، وأنا في حيرة من أمري ولا يمكن أن أكون وسطاً فهذه بالنسبة لي لا أستطيع لظروف هذه المشاكل علماً أنها مكررة، وحلها شبه مستحيل؟ A هذا من قدر الله الذي ابتلانا به، ولابد أن نصبر، وأن نوفق ونسدد ونقارب فهذه مشكلتنا كلنا، فأحياناً نقول: نسحب التلفون حتى لا يدخل أحد علينا، فتأتيك أشياء أخر، فهذه مشكلة، وخاصة كما تفضل الأخ، فقد يكون في الحي إمام مسجد أو داعية، فماذا يفعل؟! هذا يريد أن يتوب، وهذا يريد أن يهتدي، وهذا عنده مشكلة يريد أن يحلها، فلابد أن نجتهد، فهذا الزمان تقارب الناس فيه، وتقاربت وسائل الاتصال فيه، وأصبح يمكن للشخص أن يشغلك من أمريكا وأنا بعض الليالي تأتني مكالمة حوالي نصف ساعة من أمريكا، فإن أغلقت الباب أتاك من يدق عليك من جهة أخرى، كان الناس يرحلون في السابق على الإبل وأما الآن فالتلفون قد قرّب الأماكن، وهذه ضرورة فماذا تفعل؟ والوسطية شيء جميل وليست بمستحيلة وهذا شيء لابد منه، وهذا قدرنا وهكذا أراد الله، فلابد أن نجتهد في ذلك، فلو أقفلنا الأبواب والوسائل جميعاً وبقينا على أنفسنا فقط، فإن ذلك لا ينفع ولا يليق بنا ولا ينبغي لنا، ولو فتحنا الباب على مصراعيه، فلن نستفيد أبداً، والناس كل منهم يأتيك ويظن أنه الوحيد، ويقول لك: عشر دقائق، وما علم أن هذه الكلمة يقولها كل أحد قبله، وأن الأعشار ضيعت الأعمال، فلابد من التوفيق ولهذا نقول للإخوة: يجب أن نتقِ الله في أوقات بعضنا، ونحفظ أوقات إخواننا، والشباب لابد لهم من مربين ولابد لهم من موجهين وهذا لا شك فيه، وهذه ضرورة لابد منها. لكن أن الأخ كما قال: يربي ويربي ويحل مشكلة ثم تعود فهذا خلل فينا نحن، فالذي يربينا ربانا واجتهد وتعب، ثم ننتكس ونعود وكأنه لم يفعل شيئاً، فلابد أن يكون التعاون منا ومنه، ولا بد أن يصبر الأخ هذا على ما يلاقي من إخوانه وعلى الإخوان أن يتوجهوا، وأن يحافظوا على وقت أخيهم أو موجههم مثلاً. وأيضاً ما يتعلق بالعامة، وإن كنا أحياناً نتعب معهم ونضيع الوقت معهم، بكلمة كيف الحال، وكيف الأخبار، وكيف الأمطار، وكيف الدراسة؟! لكن ينبغي أن لا نجرح شعورهم، فلابد أن نصبر لأنه هكذا أراد الله، ولعل دعوة مثل هؤلاء الناس هي التي تبارك لك في ربع ساعة تقرأ فيها، ولعل بركة هذا العلم والدعوة هي في مثل دعاء هؤلاء الناس، أو في الإحسان إليهم أو شيء من هذا والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أعظم الناس عبادة ودعوة ومحافظة على الوقت، استوقفته عجوز ووقف معها حتى قضى حاجتها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلابد أن نصبر، ومع ذلك ينبغي من الناس الإلحاف. ولما سأل رجلٌ رجلاً آخر وطلبه ولم يعطه قال: أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟! قال: ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافاً، فلابد من الطرفين، ولابد أن تؤثر ولو كان بك تعب أو ظروف ونسأل الله أن يعيننا على هذه الأعذار.

تأسيس قاعدة الدعوة إلى الله

تأسيس قاعدة الدعوة إلى الله Q أنا أتجول أحياناً فأجد كثيراً من الشباب على معصية الله -والعياذ بالله- فأفكر وأهم أن أذهب إليهم وأدعوهم، ثم أفكر وأقول لو فتح الله على قلوبهم واهتدوا كيف أتابعهم فيما بعد وأنا مشغول جداً فأخاف أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكأننا ننفخ في رماد إلا أن يكون هذا شبيهاً ببعض رجال الدعوة الذين يذهبون إلى الخارج فيسلم بعض الكفار على أيديهم ثم يتركونهم ويرجعون إلى بلادهم؟ A قضية كيف نحافظ على طاقة الأمة، لا شك أن هذه الأمور مما يجب أن ننبه إليها، ونرجو أن يستوعبها الإخوة وخاصة هذا الجمع فكلنا طلاب علم، فأقول: يجب علينا أن ندرك أن المجاهدين والعاملين في الأمة قليل وأن أثمن الأوقات هي أوقاتهم، ومن هنا فعلينا أن لا نبدد هذه الطاقة فهو حرام، وإن كان أحدهم يقول: أنا لم أبذل شيئاً، فأقول لك: لا يا أخي بدلاً من الذهاب إلى تجمعات الشباب هؤلاء في الكورنيش لتنصحهم، أو في البر لتتكلم معهم، فهذا في الحقيقة ليس عملك الدائم في حياتك، بل اجتهد وركز على مسجدك وعلى الشباب الذين يدرسون معك، ومع من حولك، فأنا أرى أن يركز أحدنا ولو على مدى معين، فلا تنتظر أن يأتيك المشايخ، ولو أنك كل أسبوع تدعو إلى الله في بلد فإنك لا تؤدي شيئاً، أنا أعترف بهذا ولا نغالط أنفسنا، نعم إنه قد يوجد الخير، لكن لا توجد ثمرة أكيدة، مثل أن تتابع بذرة معينة. فالتركيز لابد منه، ولكن أيضاً إن ذهبت إلى المكان النائي على الشاطئ، ولقيت أناساً على الطريق في وقت الصلاة فكلمهم وأنصحهم أما أن تقول: أذهب إلى السوق وأنهى عن المنكر فإنك تضيع عمرك كله، فالسوق كله منكرات، ولن تستفيد منه علماً ولا أي شيء آخر، لكن إذا ذهبت إلى السوق ثم رأيت المنكر فأنكره، ففرق بين الصورتين لكن نحن كدعاة لابد أن يكون للسوق مكان، وللشاطئ مكان في حساب الدعاة ككل، لكن فردياً لا، ولهذا نقول: إن الأمة في حاجة إلى تجميع الجهود، واستخلاصها بأفضل أسلوب، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينمي الطاقات ويربيها، ويضع هذا للقضاء، وهذا للعلم، وهذا للجهاد، أهَّلَهم فلما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا بهذا أقضى الناس، وهذا أعلم الناس، وهذا أشجع الناس، لما رُبيت الطاقات ورُكزت في أهداف محددة. بعض الإخوة ذهبوا إلى كوريا، ودخل عدد من الكوريين في الإسلام ولكن لم يتابعهم أحد، قالوا: المفروض أن نتابعهم، وجاءوا إلى هيئة الإغاثة وجاءوا إلى الرابطة وقالوا: تابعوهم، قالوا: نحن ضيعنا دولاً مسلمة، فكيف نتابع عشرين شخصاً أصلهم في كوريا فيجب أن نكون واقعيين وندرس الأمر بفعل الثمرة الحقيقية. إن البلد أو الأمة الإسلامية لابد لها من قاعدة تتأسس وتكون منطلقاً، ومن هنا كان حرص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الهجرة، ومن هنا كان الذين آمنوا ولم يهاجروا ليس على المسلمين من ولايتهم من شيء، لأنهم لم يهاجروا إلى بلد الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع على الهجرة حتى فتحت مكة حتى تكون قاعدة للإسلام وحتى تكون مرتكزًا للإسلام وهذا المرتكز يمد العالم، لكن إذا كان بلا قاعدة وبلا مرتكز فلا فائدة، وعندما نقول: بلدنا هذا، فهل يمكن أن يكون هناك مرتكزاً للإسلام بديلاً عنه، لا يوجد لسببين: أولاً: السبب التاريخي الموروث وهو: وجود الحرمين فيه وهو منبع الهداية والحمد لله. ثانياً: أنه الآن أكثر المجتمعات الإسلامية قرباً من المنبع وأكثرها محافظة، إذًا فهذا نجعله قاعدة، ولهذا أرى أن تركز أهم الجهود هنا ولا نترك الخارج، فإذا كنت مبتعثاً في مكان ما فلا يمنع أن أركز عليه، وهذا لا ينافي أن يكون اهتمامي الكلي منصب على القاعدة. وكما ترون الجهاد الأفغاني، والجهاد الفلبيني -مثلاً- هذه البلاد هي مصدر العلم والتصور الصحيح للجهاد عندهم، ولذلك فهم يأتون إلى هذه البلاد وكذلك هي مصدر المال. فلو أن هنا قاعدة مؤسسة تأسيساً كاملاً بحيث أن كل تجارنا يتبرعون، وكل شبابنا دعاة ومخلصون ومضحون، فكيف ستكون الأمة؟! كنا سنمدهم بأقوى المدد وينتصرون أعظم انتصار، والآن المضحون قليل، ومع ذلك فعلنا الأعاجيب ونفع الله بهم -والحمد لله- منفعة كبيرة، وهم قليل، ولو كان ما يصرف على اللهو واللعب يصرف على صميم الدعوة، وحفظ كتاب الله، وعلى حفظ أوقات الشباب، فكيف يكون الشباب؟! ونحن الآن على قلة الشباب فعلوا الأعاجيب، كما قلت لكم في أمريكا وغيرها، لو كان كل الشباب على مستوى هؤلاء الشباب لفتحنا العالم مرة ثانية، وما ذلك على الله بعزيز، ولا غرابة في ذلك أبداً، ولحققنا ما يسمى معجزات وهذا في وضع الضعف، فكيف لو كنا في حالة القوة وكانت الأمة كلها قاعدة للدعوة إلى الله. شباب في أمريكا يدفعون من راتبهم وهم يدرسون، من أجل أن يستأجروا قناة في التلفزيون يدعون إلى الله سبحانه، والأمة في مجموعها تستطيع أن تشتري في أمريكا خمسين قناة أو أكثر، لأن الأمة عندما تدفع فليست كفرد، فأنا الآن -مثلاً- لي قدرة أن أدفع عشرة ريال، لكن البلد يستطيع أن يدفع عشرة ملايين، فقد يهتدي العالم كله -بإذن الله- ولا يبقى إلا من حقت عليه الضلالة، ومن هنا كانت ضرورة التركيز وأن نهتم بهذا البلد أن لا تفتك به المخدرات والأفلام، ولا تفتك به المغريات والملهيات، ونؤسس قاعدة الإسلام الكبرى -إن شاء الله- ومنطلقه العظيم هذا البلد، وهذه قد بشر بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معتصم المسلمين في آخر الزمان يكون في بلاد الشام -إن شاء الله- وقلعة الإسلام ستكون هناك لكن هذا دليل على أن جزيرة العرب مضمونة، عندما نكون في بلاد الشام ونحارب الروم وغيرهم في بلاد الشام ويكون فسطاط المسلمين كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ الغوطة من دمشق، وهو مخيم القيادة، ومعنى ذلك أن الجزيرة العربية مضمونة. ومن هنا حتى لا تبدد الطاقات أرى أنه لو ركزت الدعوة في شبابنا وفي مدارسنا وفي حاراتنا فبهذا نكسب الأمرين معاً، نكسب الدعوة هنا في القاعدة، ونكسب الخارج لأن هذا المرتكز هو الفئة التي هي فئة كل مؤمن كما قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مؤمن. كان المسلمون إذا وجدوا أن أعداءهم أكثر من ضعفيهم وما يستطيعون القتال يفروا ولا يقولون: قد فررنا؛ لأن الله قد قال: {إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة} [الأنفال:16] فهم يعتزون بهذه القاعدة، وبفضل الله أن هذه البلاد عجيبة، فقد أودع الله فيها من الطاقات العقلية والطاقات المادية ما لم يودعه في غيرها، وتتهافت وتسعى إليها قلوب ألف مليون مسلم، وفي بعض البلاد إذا مشيت وأنت بالغترة يكادون أن يقطعونها ويقبلونها والحمد لله. الأمر الآخر: هذه الصحراء كانت سياجاً لنا في الماضي، فالروم والفرس لم تكن لهم قدرة على دخولها، حتى الإنجليز قالوا: لن ندخل هذه البلاد خمسون ألف جندي تذوب رءوسهم من شدة الشمس، في الصحراء ومن يستطيع أن يقاتل في الصحراء! ولنغض الطرف عن جزيرة العرب، فالآن جاءت التكنولوجيا المتطورة ولم تصبح مشكلة -أيضًا- فقد أعطانا الله في جوف هذه الصحراء قوة ما كنا نحلم بها، وهي قوة البترول والذهب والكنوز والطاقة الشمسية التي يقول العلماء عنها: إن كان البديل عن البترول فهو الطاقة الشمسية، ووجدوا أن أمريكا وأوروبا يغطيها السحاب طوال العام، وأكثر مخزون للطاقة الشمسية في الربع الخالي، فلا مشكلة لدينا لأن الأمر في أيدينا وستظل هي التي -بإذن الله- يمكن أن تكون قاعدة لفتح الدنيا كلها، فلهذا يجب تركيز الجهود، ولهذا نحن نتألم عندما نرى كثيراً من الإخوان يتكلم عن مشكلة الاختلاط ويتضاعف عندنا الألم إذا علمنا أنه يجب علينا بذل عمل أكثر، وهؤلاء هم شباب الأمة الذين يجب أن يكونوا مرتكزاً وقاعدة للدعوة إلى الله، فـ الشيوعية تأتي من كل جهة، والعلمانية، الإباحية، والرافضة، والقاديانية، كل منهم يطمع فينا، وتداعوا علينا كما تداعى الأكلة على قصعتها، ونحن الذين يجب أن نفتح الدنيا بالإيمان، وأنتم ترون الآن كيف تضيع الأوقات وكيف تبدد الطاقات؟! والله المستعان! ولهذا أقول: كل إنسان منا لابد أن يستشعر واجبه، ويضحي في سبيل هذا الواجب، ويستعين بالله على ذلك ونحاول أن نركز الجهود. والحمد لله رب العالمين.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q عندي أختان متزوجتان برجلين لا يصليان، وأكثر أقاربي لا يصلون، فكيف يكون موقفي؟ مع العلم بأني نصحت أزواج أخواتي، وجزاكم الله خيراً؟ A لم يذكر الأخ هل نصح الأختين أم لا، وهل تصليان أم لا، لأنه إن كانت الزوجة لا تصلي والزوج كذلك لا يصلي فالله المستعان! لكن إذا كان الزوج يصلي والزوجة لا تصلي أو العكس فهنا تكون المشكلة، إذ كيف تبقى مسلمة في عصمة كافر، أو كيف يرضى مسلم ببقاء عصمة كافره، فهنا الخلل، ولذلك نقول: على أية حال لابد من بذل النصح والاجتهاد معهم في الدعوة إلى الله، وإلى إقامة الصلاة ولا تقطعهما، واجتهد في النصيحة. وهذا معلوم فإن كثير من الخلق يرفض الدعوة وقليل منهم من يقبل، وإن قبل أحد فلنفسه، وإن لم يقبل أحد فما خسرنا شيئاً والحمد لله، وهذا عملنا فلا نيأس ولا نقنط ولا نتخلى عن هذا الواجب، ولا نهجر الناس لمجرد أنا لا نستطيع أن ندعوهم إلى الله إلا بعد أن نرى أننا استنفذنا كل ما نستطيع، والله سبحانه يتولى أمرنا وأمرهم، وكثير من الناس قد لا يسمعك الآن لكن قد يهديه الله بعد أيام أو بعد سنين، ولو على كبر فلا تحتقر أن تلقي إليه الخير الآن لعله يتذكره يوماً ما، ولو قبل الموت يتذكر ويتوب ويشهد أن لا إله إلا الله، ويتمنى لو عوفيت لعبدت الله ولصليت، فقد يموت على خير مما لو مات وهو مستحل لترك الصلاة مثلاً، نسأل الله العفو والعافية.

استغلال الوقت في الأمور المباحة

استغلال الوقت في الأمور المباحة Q هل تكون الألعاب المباحة مضيعة للوقت؟ A النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كل لهو يلهو به المرء باطل إلا ثلاث ملاعبة الرجل أهله وفرسه وسلاحه فإنهن من الحق} هذه من الحق وما عداها فباطل، والباطل قد يكون حراماً وقد يكون مكروهاً لما يشتمل عليه من عدم التفرغ إلى الحق، والمهم أنه ليس في ميزان المكسب، بل في ميزان الخسارة، فإن لم يكن هو خسارة وتجارة خاسرة في ذاتها، فأقل ما فيه أنه أضاع الوقت عن المتاجرة الرابحة، ومن هنا وتطبيقاً لذلك وإيماناً بأهمية الوقت والحياة كانت حياة السلف الصالح النموذج الواضح في المحافظة على الوقت من اللهو واللعب، ولكن كيف كانوا يفعلون كانوا كما قال معاذ لـ أبي موسى كما في الصحيح {أما أنا فأنام وأقوم فأصلي، وأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي}، يعني أن المؤمن لا يضيع أي شيء من وقته، لكن ما كان من وقتك ليس في صميم الجد فهو للترويح عن النفس ولتقوى على هذا الجهد، ولهذا قال بعض السلف في مثل هذا الموضع: إن النفس كالدابة، فإن أجهدت الدابة فسرت بها ثلاثة أيام ولم تطعمها ولم ترحها، هلكت وماتت ولم توصلك إلى المراد، وإن رفقت بها وخففت وأطعمتها وصلت بإذن الله، فلابد من شيء مما يستجم به المؤمن ويستعين به على الطاعة، لكن لا يكون في حرام ولا في لهو أو لعب، بل بعض من وفقه الله للخير، وفي سير السلف الصالح نماذج لذلك يقول: إذا أظلمت علي الأمور وكثرت علي الهموم أذهب إلى المقابر، وكان يحدثني شخص قبل أيام فقال: إذا كثرت علي الهموم جداً والمشاكل أذهب إلى المقابر، وأرى أحوالهم وأعتبر بها فيذهب الهم كله، سبحان الله! هذا موفق للخير، وآخر يتفكر في المخلوقات فينظر في ملكوت السماوات والأرض ويتعجب، في الليل والنهار التي جعلها الله تعالى خلفة كيف تسير؟! وكيف تسير هذه الكواكب؟! ويتفكر في الأحياء والأموات والطيور والأعشاب وكل شيء يفكر فيه، فيكون ارتاح من عمله من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم: أنه ذكر الله وعبده وقضى وقته بما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا المؤمن بإمكانه أن لا يخسر أي شيء من وقته.

ضياع الأوقات

ضياع الأوقات Q تواجهنا صعوبات في استغلال وقتنا عند الاجتماع بالأهل والإخوان وفي الحفلات والعزائم، ويكثر في ذلك الكلام غير المفيد فما هو الحل؟ A أولاً: لا أرى الحل في أن الإنسان دائمًا يأخذ معه كتاباً، ويقول ما دمنا نذهب إلى الوليمة وعند الأهل والأقارب فنأخذ معنا كتاباً! وهذا واقع فإننا نرى بعض الإخوان يسلم على أمه وأبيه، ثم تذهب أمه لتأتي بالشاي وهو يفتح الكتاب ويبدأ يكتب ويحلل، يا ولدي لماذا هذا؟ يقول: لكي أحافظ على وقتي! نقول: نعم أن الإنسان لا يضيع وقته لكن ليس من إضاعة الوقت أن تجلس مع أمك أو أبيك وتؤنسهما في الحديث، وتشرح لهما بعض الأمور حتى لو كلموك، وأنت قد ترى أنه كلام عادي لكن لابد أن تطيل النفس معهم وكذلك الأهل والأبناء وكذلك الجيران، بل احتسب أنت هذا الوقت وحاول أن توظف هذا الكلام ولو كان عادياً جداً لتأليفهم على الخير ولتحبيبه إليهم ولإفادتهم ولتستفيد أنت -أيضاً- فهذا مكسب لك وأجر إن شاء الله، ولا يجوز أن نفهم أن الجد في طلب العلم وفي الدعوة والعبادة معناه أن كل الوقت خشوع وقراءة وبكاء، بل نكون كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قام بأعظم فأعظم الواجبات وهو واجب الدعوة والنذارة للعالمين، ومع ذلك كيف كانت حياته وعشرته ومباسطته لأهله ولضيفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللوفود كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنموذجاً فريد جداً والحمد لله الذي حفظ لنا سيرته، وإلا كنا نتخبط ونجتهد، قد نقول: إنه ما كان ينام أو ما أشبه ذلك فلا داعي لهذه الافتراضات، فالسيرة الصحيحة موجودة نقرؤها ونعمل كما عمل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك في حفلات الزواج أنا لا أرى أنه كلما تجمع الناس تكلمت مدة طويلة ثلاث ساعات حتى يأتي العشاء! هذا غير صحيح، لكن لا بأس بأن يتكلم شخص كلمة خفيفة وذاك يأتي بشيء آخر وهكذا حتى تكون الجلسة متنوعة، فلا نجعلها على شكل واحد معين فنتْعب ونتعِب، ونمَل ونُمِل.

علاج النسيان وتفاوت القدرات

علاج النسيان وتفاوت القدرات Q أنا طالب في أحد المدارس الشرعية أشتكي من النسيان، فقد نسيت دروس الترم الأول مع بعض الأجزاء من القرآن، حيث إن ما أحفظه بالأمس أنساه اليوم، وجاءت الإجازة وعلي ست مواد شرعية أريد مراجعتها ولكني أؤجل إلى غد حتى هذا اليوم، وأنا لم أنته من كتاب، فما سبب النسيان للمواد الشرعية والقرآن، وبماذا تنصحني في استغلال وقتي؟ A إما أن يكون النسيان هذا لأسباب تتعلق بتفريط من الأخ، أو أنه من الله عز وجل وكل شيء من الله. لكن هناك سبب مباشر منه، وهو أن بعض الناس لا يذاكر ولا يهتم ولا يقرأ ويضيع وقته ويلعب، وإذا حفظ السورة من القرآن فلا يراجعها، ثم يقول نسيت! حتى لو درست وفهمت، فكل شيء له طريقته، وفرق بين الحافظة وبين الذاكرة، فأنت قد تحفظ الدرس أول ما يشرحه المدرس، لكن إذا لم تراجعه فلا تذكره، فأناس عندهم حافظة وليس عندهم ذاكرة، وأناس عندهم ذاكرة وما عندهم حافظة، يعني يحفظ ببطء شديد لكنه إذا حفظ رسخ الحفظ، لأن الذاكرة قوية، وهناك من لديه ذاكرة وحافظة، وأناس لا يوجد عنده شيء، لكن نقول: إن الله سبحانه جعل الناس مواهب، فإن كان لديك موهبة لكنك لا تذاكر ثم تقول: أنا فهمته لكن نسيته، فمرِّن الذاكرة بدوام الاستذكار، وحياة العلم مراجعته ومذاكرته، أما من يقول: أنا أقرأ وأراجع ولكن إذا ذهبت إلى البيت لا أفهم شيئاً، فنقول لك كما قال الأصمعي: 'أتى رجل إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقال: أريد أن أتعلم العروض، فلم يفهمه، ومر عليه أول يوم وثاني يوم ثم قال له الخليل: قطع هذا البيت: إذا لم تستطع شيئًا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ' فقطع الدرس ولم يعد، وعلم أنه لا يمكن أن يتعلم هذا العلم، فإذا لم يوفق الله العبد على طلب العلم فلا يتعب نفسه فيه ويذهب ليتعلم شيئاً آخر، فقد يكون عاملاً نشيطاً أو مهندساً أو ميكانيكياً أو أي شيء آخر من الأشياء التي لا يراد لها جهد وكدٌّ كبير، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، أما إرغام النفس على ما تأباه فهذا لا يكون ومما لا يؤدي إلى نتيجة.

محافظة الطالب على وقته

محافظة الطالب على وقته Q كيف يستطيع طالب المدرسة المحافظة على وقته، وأنت تعلم ما يتخلل الفترة الدراسية من الوقت الذي قد يقول قائل: لا أستطيع أن أستفيد من وقتي لأعمال الآخرة؟ A على كل حال هناك أمور نحن لا نريدها، لكن إذا فرضت علينا مثل النظام المطور، ونحن في الجامعة نشتكي ونصيح ومع ذلك يدرس، وإذا به يعمم على الثانويات، وقالوا: إنه من الممكن أن يطبق في ثانويات البنات، الشاهد فرضاً أنه وقع، كما في الثانويات المطورة، فالمؤمن يحاول أن يكون مرناً مع أي حادث، ومع أي ظرف فيوظفه ويسخره لما ينفعه، فخذ كتابك معك، أو خذ أي شيء من وسائل الفائدة معك، واجلس أنت وزملاءك في ساعات الفراغ هذه إن كانت موجودة لتستفيد من الوقت، وحاول أن تكيف واقعك لتستفيد من الوقت بقدر ما تستطيع، ما دام أنه أمر واقع لا مفر منه. لو استطعنا أن نغير وأن نقضي على هذا بأن تتبنى المدرسة شيئاً مفيداً كأن يكون هناك حلقات تحفيظ قرآن أو نشاط في الدعوة الإسلامية لكان هذا شيئاً جيداً، وهذا الواجب وهذا هو المفروض، لكن إذا لم يوجد أي شيء فلا تعذر بل لا بد أن تجتهد، فتسبح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتذكره وحدك، وتقرأ القرآن وحدك، أو تخاطب أحد الطلاب وتدعوه إلى الخير في هذا الوقت فهذا أيضاً فرصة، حتى لو أن الإنسان ينشط جسمه ويمرنه بأي شكل ويستفيد من وقته، هذا أيضاً شيء مفيد، والمهم أن لا تضيِّع هذا الوقت في خسارة.

تذكر الموت باعث للنشاط

تذكر الموت باعث للنشاط Q أنا شاب هداني الله بعد الضلال وأعاني من مشكلة وهي أنني أذكر الموت كثيراً، وعند ذكري له فإني أبقى في الفراش وأشعر بتكاسل وخوف شديد، ولا أستطيع عمل أي شيء وأخاف الانتكاس؟ A هذا عكس المفروض، فإن المفروض أن يعطيك ذلك قوة في الإثارة والطاقة، وهذا عجيب -يا أخي- هداني الله وإياك، هل من يذكر الموت يتكاسل؟! قد يكون الأخ عنده ظرف آخر، لكن أقول: الصحابة لما كانوا يتذكرون الموت كانوا يهبون ويعملون ويجتهدون لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إذا تذكرت الموت، فتذكر أن الله سيسألك عن الصلاة فقم إليها ولا تتكاسل عنها، وتذكر أنه يجب قبل أن يدركني الموت أن أستفيد من هذا الوقت في طاعة الله، فاجتهد في طاعة الله وفي طلب علم أو دعوة أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. إن تذكر الموت قوة إيجابية للمؤمن وهو كما أشرنا من أعظم ما يثير همة المؤمن ويجعل طاقته تزداد يوماً بعد يوم، فيتذكر أنه سيموت فيجتهد أن يلقى الله سبحانه بأوفر وأوفى نصيب من العمل الصالح.

ضبط الأوقات نابع من صدق القلب

ضبط الأوقات نابع من صدق القلب Q نرى الغرب الكافر يحرص على وقته ولا يفرط فيه، ونحن المسلمين نضيع أوقاتنا سدى، هل لليهود دور في ذلك؟ A الدور للقلوب الضعيفة، واليهود ما غصبونا ولا ضيعوا أوقاتنا، لكن اليهود يستغلون الأحداث ولا يصنعونها، لأن اليهود وجدوا أمة لاهية تحب اللهو، أما لو كانت أمة لا تقبل اللهو فكيف يلهيها اليهود؟! ولنفرض أنهم عملوا أفلامًا ومجلات ولم يشتريها أحد، وأحياناً يوزعونها مجاناً -وهذا يحصل- لكن لم يهتم بها أحد فإنها تموت، لكن لما كانت الأمة تحب اللهو واللعب والمباريات حدث كل هذا، ولهذا كتبوا في البروتوكولات؛ أنه لابد من تشجيع المباريات والفنون إلى آخره لأنها تلهي الأميين وتشغلهم، ويخطط اليهود في غفلة هؤلاء الأميين عما يراد بهم، فالمشكلة أننا نحن نضيع أوقاتنا والغرب الكافر لا يضبط أوقاته، وبعض الناس يظن أن الإنسان الغربي يضبط وقته ليؤدي العمل، وهو يضبط وقته ليذهب إلى الملهى أو المرقص أو الخمارة، فلابد من أوقات معينة يعربد فيها وأوقات أخرى لكي ينام، فالعبرة ليست بضبط الوقت، ولكن ما الدافع وراء ضبط الوقت. ولهذا هم استفادوا من هذا الجانب في دنياهم لأن المحافظة على الوقت تفيد في الدنيا ولا ريب، وخسروا أوقاتهم وخسروا آخرتهم بلا ريب، لكن في الدنيا خسروا الأمن والراحة والطمأنينة لأن هذا الضبط لغير الله ولغير الخير، أما نحن المسلمين فنضيع الأوقات ولا نضبطها، لكن مهما كان فالمسلم -وعلى الأقل المصلي- هو أضبط من الغربيين إن شاء الله، وأحرص منهم على الوقت. وأذكر مرة أنه زارنا ضيف في الجامعة الإسلامية -لكن أنسى اسمه الآن- وهو شاعر أمريكي من شعراء الهيبيز فجاء وأسلم وقابلناه في الجامعة الإسلامية فقلنا له: ما هو سبب إسلامك؟ فقال: ذهبت مع شركة إلى اليمن، واخترت اليمن لما بلغني أنه ليس فيها أي أثر للحضارة الغربية خاصة ذاك اليوم، في أوائل (1390 أو 1392هـ) الله أعلم، فقلت أعيش بعيدًا عن الحضارة، لأنهم يكرهون الحضارة، قال: ذهبت إلى هناك وتعبت مع العمال، وجربت معهم كل وسيلة من صياح وشجار ولكن لا فائدة فهم فوضويون في كل شيء، في أكلهم وشربهم ونومهم، وفي إحدى المرات كنت أراقبهم فإذا أذن المؤذن قام واحد منهم وتقدم للصلاة وهم يصفون خلفه، فإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا سلم سلموا، وهكذا في اليوم الثاني والثالث، فقلت للمترجم: قل لهم أنتم أمة غريبة جدًا! عملكم فوضى إلا هذه الحالة فما هو السر في هذا؟ فقال: إنها الصلاة وهذا هو دين الإسلام، فقلت: إن كان الإسلام يضبطكم وأنتم همج بهذا الشكل فأنا مسلم. فنحن أمة همج لم يضبطنا إلا الإسلام، حتى المعربدين منا تجده يعربد بهمجية مما يجعله محل انتقاد من المعربدين الآخرين، لأننا -فعلاً- قوم لم نتأدب إلا بالإسلام ولا ننضبط ولا نستقيم إلا به، ولا ننتصر إلا به، وما زلت أذكر أننا لو أقمنا الصلاة لحاربنا بها المخدرات وضياع الأوقات، ومن فضل الله علينا أننا كلنا متفقون عليها ولا يشك فيها أحد، فوالله لو أقمناها حق الإقامة لما احتجنا إلى ما نحارب به هذه الأمم ولما خسرنا هذه الخسارة، فلو أقمناها لضبطت أوقاتنا وأعمالنا وأعمارنا، فكل شيء يضبط بإذن الله لو أقمنا الصلاة حق الإقامة، لكن الله المستعان!

معارضة أوقات العمل لأوقات العبادة

معارضة أوقات العمل لأوقات العبادة Q لماذا لم يستغل الدارسون الواضعون لأنظمة العمال توقيت العبادات في توقيت أوقات العمل، -فمثلاً- لماذا لا تكون أوقات العمل والدراسة بين الفجر والظهر؟ A هذا هو المفروض، وأذكر عندما كنا في الجامعة الإسلامية وكان الشيخ ابن باز رحمه الله رئيساً للجامعة في رمضان قالوا: هل يعقل أن تكون مثل الدوائر الأخرى، نداوم من الساعة العاشرة إلى الثالثة؟! فقالوا: نبدأ الدوام بعد الفجر بنصف ساعة وما يأتي الظهر إلا وقد انتهى الدوام، وسبحان الله شيء عجيب من الهدوء! ومحافظة على الوقت. إن المشهود والمعروف في الدواوين الإسلامية والعمال المسلمين والقضاة والولاة قديماً كانت أعمالهم تبدأ من بعد صلاة الفجر فيبدءون الحياة إلى صلاة الظهر، وهو وقت طويل ومبارك، ويكفي لإنجاز معظم الأمور، لكن هذه الأيام وفي أثناء العمل تذهب ساعة بحجة الصلاة، والله أعلم من يصلي ومن لا يصلي، والمهم هو ضياع الوقت، أما الصلاة فهي حياة، وبعد هذا نرجع قريب العصر وخاصة في الأوقات التي يقصر فيها النهار، فيضطر كثير من الناس أن يتغدى وقت صلاة العصر ولا يصلي جماعة، وهذا أمر مشهود كما تلاحظون في نقصان الناس في صلاة العصر وكثرتهم في صلاة المغرب، ثم ينام إلى المغرب وربما لا يصلي المغرب، وإذا سألته؟ قال: الدوام! فهل أنت خلقت للعبادة أم للدوام؟! فمن المفروض أن يكون الدوام في أوقات مناسبة، لكن نحن يجب أن نعرف حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وطاعة الله ومراعاة الوقت في هذا، وعموماً- أنظمة العمل والعمال في الوطن الإسلامي مشتقة أو منقولة من النظام الذي وضعه مكتب العمل الدولي في جنيف التابع للأمم المتحدة، والذين وضعوه كفار لا يعرفون الآخرة ولا يعرفون صلاة ولا شيئاً، فلذلك نجد أن من وفقه الله -كما في بعض الدول وبعض الإدارات- يضع وقتاً للصلاة من عنده هو، وإلا فالنظام العالمي ليس فيه وقت صلاة، وإنما وقت يسمونه وقت غداء، لهذا في بعض الشركات -سبحان الله! - لا تستطيع أن تصلي إلا في وقت الغداء، فالصلاة ليست محسوبة نسأل الله العافية. فهذا جزء من التفكير العلماني: أناس يخططون ولا يضعون في حسابهم الآخرة أو الإسلام، وإن كانوا غربيين فهل نتبعهم ونقلدهم ونقتبس منهم بغير وعي؟!

العلمانية في طورها الجديد

العلمانية في طورها الجديد في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله عن العلمانية بوجهها الجديد، مبيناً الأسباب التي جعلت العلمانية فرضاً علينا، وموضحاً الفكرة التي خرج بها العلمانيون أخيراً، ثم ذكر الخطة التي اتفق عليها العلمانيون مع الشيوعية ضد الإسلام، والمذاهب الجديدة التي أتى بها العلمانيون باسم الإسلام، مستعرضاً أهداف العلمانية، ومحذراً من هجمتها الشرسة على مصادرنا الإسلامية وتمييعها لثوابت ومسلَّمات الأمة,

مفاسد العلمانية

مفاسد العلمانية الحمد لله القائل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا ً) [الفرقان:31] وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} وصلى الله وسلم وبارك على آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين وبعد: فلا شك -أيها الإخوة- في الله أن العلمانية بتلك المنزلة من الخطورة، وأنكم جميعاً -والحمد لله- على علم بها، فالعلمانية هي أكثر المذاهب الفكرية وضوحاً وجلاءًَ في الواقع المشاهد المحسوس، وإن كانت ربما تبدو غامضة في الذهن، فهي منهج واقعي ضخم، تعيش الأرض جميعاً -إلا ما رحم ربك- هذا المبدأ، وهذا المنهج القائم على الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أعظم وأكبر ذنب عصي الله عز وجل به، القائم على أن الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى والكتاب والحق الذي شرعه لا شأن له في حياة الناس، بل ذلك الشأن للأرباب والمتفرقين والمتألهين من العباد والأنظمة والمناهج، وليس لله عز وجل -في نظر أولئك المجرمين- من نصيب، إلا ما يُؤدَّى من شعائر تعبدية، أو ما يسمى بالصلة الروحية به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذه قضية معروفة عن هذا المنهج في كل مكان وجد فيه؛ ولا سيما حيث نبتت بذوره الخبيثة في أوروبا المجرمة الشاردة عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرقها وغربها، الشيوعي منها والرأسمالي. ولا يهمنا الآن أن نتحدث عن العلمانية، بقدر ما يهمنا الحديث عن الطور الجديد الذي تعيشه، فإن الأفكار تنمو كما تنمو الأمم، وتتطور كما يتطور الأفراد أو الكائنات الحية، وإنه لا يليق بالأمة الإسلامية أن تقف عند تصور محدد لمجابهة فكرة خطيرة، بينما تلك الفكرة قد انتقلت إلى مرحلة أعلى من المجابهة، وإلى درجة أكثر من التنظير، فيجب علينا أن نعيش كل مرحلة وأن نجتهد في مواجهة كل مستوى من مستويات الانحراف، بحسب مقتضى الأحوال.

أهداف العلمانية

أهداف العلمانية العلمانية - أيها الإخوة الكرام- فرضت على العالم الإسلامي -وهي غريبة عنه- لأسبابٍ كثيرة لا مجال لذكرها الآن، ولكننا نجملها في سببين. السبب الأول هو: أن الأمة الإسلامية قد تركت كتاب الله عز وجل وراء ظهورها، وتركت سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكَّمت آراء الرجال، واتبعت الفرق والطرق البدعية والضلالات التي عشعشت وفرخت في الأمة، وبذلك كانت أهلاً لأن تتقبل العبودية الفكرية لأية أمة قوية غازية، ثم جاءت هذه الأمة القوية ممثلة في أوروبا الصليبية التي كانت وما تزال أخطر عدو للإسلام والمسلمين، إذ يجتمع فيها اليهود والنصارى، وهما العدو اللدود لهذا الدين، منذ أن أظهر الله تبارك وتعالى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعثه، وهم يكيدون له ذلك الكيد العظيم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] هذا شأنهم دائماً وذاك ديدنهم. والسبب الآخر هو: أن هذه العلمانية فرضت في حالة تناسب حال الأمة، يومئذ تلك الأمة المنحرفة الضالة عن الكتاب والسنة، والبعيدة عن منهج الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعن العلم الشرعي الصحيح، وعن دعوة التوحيد الحقيقية وقد كانت الدعوة موجودة -والحمد لله- وقد دعا إليها المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، ولكن الأقطار الأخرى التي لم تشملها الدعوة ظهرت فيها العلمانية وطبقها المستعمر، ثم طبقها خلفاؤه من بعده، ولا يخفى عليكم الرموز، أو الأصنام الكبرى للعلمانية، ابتداء من أتاتورك وانتهاء بأبي رقيبة وأمثاله. فهذه مرحلة من مراحل العلمانية، العداء فيها سافراً، واضحاً والتحدي لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارخاً، ويكون الإنكار والمكابرة لحقائق هذا الدين، وتكون الشعارات والرايات المرفوعة: اشتراكية قومية، بعثية تحررية وحدوية، إلى آخر الشعارات الزائفة الباطلة. أما المسلم أياً كان اسمه، وأياً كان انتماءه وثناؤه فهو رجعي متأخر، يجب إبادته، وسوف تسحقه حتمية التاريخ، وسوف تسحقه الجماهير والشعوب -كما يقال- المتحررة من نيران التخلف والجمود. هذه مرحلة، ولكنها انتهت، وابتدأت صفحة جديدة، هي التي يجب أن نهتم بها الآن، وأن نعي خطرها، وما مقتضى هذا التغير؟

مقتضيات التغيير في العلمانية

مقتضيات التغيير في العلمانية لهذا التغيير المنشود في العلمانية مقتضيات عدة منها: أولاً: أن الهجوم المباشر على الإسلام لم يؤدِّ النتيجة المطلوبة. أن يقف الزعيم، أو الحزب، أو الصحفي، أو الكاتب، فيسب الله تعالى، ويسب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويسب الحجاب، ويسب تحريم الربا، أو ينكر ذلك، وأشباهه؛ هذه مرحلة عفا عليها الزمن، ولم تؤد الدور المطلوب، وقد فشلت وأخفقت إخفاقاً ذريعاً واضحاً للأسياد في الشرق والغرب. ثانياً: أنه قد ظهرت -والحمد لله- هذه الصحوة الطيبة المباركة في كل مكان، وهذه الدعوات التجديدية على تفاوت فيما بينها تطالب بالعودة إلى الكتاب والسنة. وهنا وجد الأعداء أنفسهم أمام أمرين: مواجهة بين صحوة ناشئة تطالب بالإسلام عقيدة ومنهجاً للحياة، وبين شعارات وأفكار مهترئة متلاشية، لا قيمة لها في واقع الحياة، ذاقت الأمة مراراتها، وتحاول التخلص منها، ولم يبق لها من سبب للوجود، إلا السيطرة والسلطان والقوة التي يفرضها الغرب من جهة، وأتباعه من عملائه وأوليائه من جهة أخرى، فكان لا بد من التغيير، ومن وضع خطط جديدة. وهذه الدلالة على التغيير كثيرة جداً، ونكتفي بسرد أمثلة محدودة من ذلك؛ لأن ما يهمنا هو أن ننبه بهذا الخطر الجديد الوافد، وهو: أنه في الولايات المتحدة الأمريكية -زعيمة الصليبية العالمية، وأعدى عدو للإسلام في هذا العصر، ولكنه عدوٌ ماكرٌ خبيث- دُرِسَ الموضوع، ومن التقارير التي ظهرت واشتهرت. التقرير الذي نُشِر في أيام الرئيس جونسون، ونشره الأستاذ سعد جمعة والشيخ محمد محمود الصواف في معركة الإسلام، وغيرهما، مِمن اطلع على التقرير ونشره. وكذلك تتابعت الدراسات فيها، وأنشئت أقسام في وزارة الخارجية، وفي وكالة الاستخبارات الأمريكية، كما أنشئت أقسام أكاديمية بحتة، وتوسع في الدراسات الاستشراقية، وعقد فيها عدة مؤتمرات للمستشرقين، وتبنت خطة جديدة، ومرحلة جديدة، كان قد نظر لها تقريباً المستشرق الإنجليزي جيف، هذا من جهة. ومن جهة أخرى نجد الشيوعية -التي نرى في هذه الأيام، أنها أصبحت حديث العالم في كل مكان- أنها قد خططت لذلك، في وثيقة مشابهة، بل نقول: إنها أفادت من التجربة الأمريكية أيضاً -وثائقياً- كما أفادت من تجاربها الخاصة، إذ كانت تطمع أن تكون هي العقيدة المسيطرة على العالم الإسلامي في الثمانينات الهجرية، والستينات الميلادية، ولا بأس أن نقرأ عليكم نتفاً من هذه الوثيقة الشيوعية، التي لا نزال نرى آثارها في واقع الحياة، والتي -كما قلت- تعطينا صورة عن الفكر الصليبي في جملته، ثم نشرع في الحديث عن تطبيق هذه الخطة سواء من الشرق أو الغرب لوضع مرحلة جديدة للعلمانية.

فضح بعض الخطط العلمانية

فضح بعض الخطط العلمانية بعد تبين إخفاق المرحلة الأولى، جاءت هذه الوثيقة، وقد نشرت من ضمن ما نشرت في كتاب الشيوعية والأديان للأستاذ طارق الحجي ونشرتها مجلة كلمة الحق أيضاً، ونتجاوز المقدمة على أهميتها: أولاً: 'مهادنة الإسلام لتتم الغلبة عليه، والمهادنة لأجل، حتى نضمن أيضاً السيطرة، ونجتنب الشعوب العربية بالاشتراكية ' ثانياً: تشويه سمعة رجال الدين -هم ليسوا رجال دين، وإنما علماء، ولكن على تعبيرهم النصراني الكنسي- والحكام المتدينين واتهامهم بالعمالة للاستعمار والصهيونية من الفقرة السادسة: 'الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد، مهما كان شأنها ضعيفاً، والعمل الدائم يقظة لمحو أي انبعاث ديني، والضرب بعنف لا رحمة فيه لكل من يدعو إلى الدين، ولو أدى إلى الموت وهذا بالذات داخل الاتحاد السوفيتي ' من الفقرة السابعة: ومع هذا لا يغيب عنا أن للدين دوره الخطير في بناء المجتمعات، ولهذا وجب أن نحاصره من كل الجهات وفي كل مكان وإلصاق التهم به، وتنفير الناس منه بالأسلوب -انظروا هذا الشرط- الذي لا ينم عن معاداة الإسلام. من الفقرة العاشرة: ' إن فصم روابط الدين ومحو الدين لا يتمان بهدم المساجد، لأن الدين يكمن في الضمير' استفادوا من تجربتهم أيام لينين واستالين، حينما هدموا المساجد، والكنائس أيضاً والمعابد عموماً فقالوا: إن القضاء على الدين لا يمكن أن يتم بهدم المساجد، لماذا ' لأن الدين يكمن في الضمير، والمطلوب هو هدم الضمير الديني' وإشغال الناس بكل ما يبعدهم عن الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ومن الفقرة الثانية عشر: ' خداع الجماهير ومن ذلك أن نقول عن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه إمام اشتراكي، فهو فقير وتبعه فقراء، وحارب الأغنياء المحتكرين، والإقطاعيين، والرأسماليين، والمرابين، وثار عليهم، وعلى هذا النحو يجب أن نصور الأنبياء والرسل، ونبعد القداسات الروحية والوحي والمعجزات عنهم بقدر الإمكان فهم عباقرة عظماء فقط؛ لنجعلهم بشراً عاديين حتى يسهل علينا القضاء على الهالة التي أوجدوها لأنفسهم، وأوجدها لهم أتباعهم المهوسون '. من الفقرة الثامنة عشرة: ' نشر الأفكار الإلحادية، بل نشر كل فكرة تضعف الشعور الديني، والعقيدة الدينية، وزعزعة الثقة في رجال الدين، في كل قطر إسلامي ' انتبهوا كم يكررون الفصل بين الشعوب، والعلماء، والطعن في العلماء، واتهام العلماء والدعاة. يقول في الفقرة التاسعة عشرة: ' لا بأس من استخدام الدين، لهدم الدين، ولا بأس من أداء الزعماء الاشتراكيين بعض الفرائض الدينية الجماعية كصلاة الجمعة وصلاة التراويح وأحياناً العيدين للتضليل والخداع، على أن لا يطول زمن ذلك ' ولا يستمر ولا ينظر إليه على أنه شيء أبدي لكن فقط لمخادعة الجماهير. ومن الفقرة العشرين: ' إلصاق كل عيوب الدراويش، وخطايا رجال الدين بالدين نفسه ' كل الدراويش كالصوفية ونحوهم كل خطيئة يرتكبونها، وفساد، ونهم وجشع للدنيا وانحراف سلوكي، أو أخلاقي، أو أي عمل يلصق بالدين، فيشوه بالدين من خلال المشوهين ممن ينتسبون إليه. من الفقرة الحادية والعشرين: ' تسمية الإسلام الذي تؤيده الاشتراكية لبلوغ مآربها، وتحقيق غايتها بالدين الصحيح -هذا هو الإسلام الصحيح- والدين الثوري، والدين المتطور، ودين المستقبل ' هذه الأوصاف كلها للإسلام الذي يضعونه، لا الإسلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ' حتى يتم تجريد الإسلام، الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خصائصه ومعالمه، والاحتفاظ منه بالاسم فقط، لأن العرب إلا القليل مسلمون بطبيعتهم، فليكونوا الآن مسلمين اسماً، اشتراكيين فعلاً، حتى يذوب الاسم كما ذاب معنى ' اشتركيين أو ديمقراطيين فأي تسمية لا تهم. من الفقرة الثالثة والعشرين: ' وإذا وجدنا من الضروري مهادنة الدين وتأييده، وجب أن تكون المهادنة لأجل ' لاحظوا كم كرروا هذا التنبيه (المهادنة لأجل) فيفتحون الأبواب لما يسمى الانفتاحات أو الحريات حتى تنخدع الشعوب الإسلامية الواقعة تحت سلطتهم، وتبدأ في إظهار أنفسها والدعوة، ثم يكون بعد ذلك الانقضاض والتخطيط. من الفقرة الخامسة والعشرين: ' الاهتمام بالإسلام مقصود منه: أولاً: استخدام الإسلام في تحطيم الإسلام ' وسنرى عند الحديث عن التطبيق إن شاء الله. ' وثانياً: استخدام الإسلام للدخول إلى شعوب العالم الإسلامي ' للتغلغل ونشر المبادئ الغربية، في شعوب العالم الإسلامي. السادس والعشرين: ' وباسم تصحيح المفاهيم الإسلامية ' انظروا شيوعيون، يصححون دين الإسلام وينقونه، سبحان الله! قال: ' وباسم تصحيح المفاهيم الإسلامية، وتنقيته من الشوائب، وتحت ستار الإسلام، يتم القضاء عليه بأن يستبدل به الاشتراكية ' أو أي منهج على أية حال. وهذا إشارة إلى الوثيقة الأمريكية، وقراءة موجزه لبعض ما جاء في الوثيقة السوفيتية، وهناك وثائق أخرى مهمة منها ما ينشر في مجلة المجتمع عن محاضر الكونجرس الأمريكي، وكذلك نشرت في مجلة الوطن العربي محاضر أخرى وجلسات تتعلق بالصحوة الإسلامية، وهناك أيضاً الكتب التي كتبها نيتشل -وأمثاله- عن الصحوة الإسلامية، وهذه منشورة وموجودة، كما نشرت مجلة المستقبل العربي، ونقلتها عنها بعض الكتب الإسلامية الأخرى، وفحواها أن المخابرات الأمريكية عقدت في عام 1983م -في تلك السنة فقط- 120 ندوة لدراسة الصحوة الإسلامية. ونحن نعلم مقدماً أن هذا لا يخيفنا -والحمد لله- مهما خططوا، لكن يجب علينا أن نعرف واجبنا ونعرف العدو، ونعرف كيف نقاومه، أما أن تخيفنا هذه الأرقام وهذه الخطط فلا تخيفنا إذا اتقينا وصبرنا، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما نذكر هذا ليحفزنا إلى مزيد من الصبر، ومزيد من التقوى ومعرفة حال هؤلاء وكيفية مقاومتهم.

التسميات التي أطلقها العلمانيون على الإسلام

التسميات التي أطلقها العلمانيون على الإسلام بعد ذلك ننتقل إلى التطبيق الذي حصل. فقد ظهرت في السنوات الأخيرة أسماء منها ما يسمى "اليسار الإسلامي"، ونحن نعرف أن الإسلام ليس به يسار ويمين {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] لا يسار إسلامي، ولا يمين إسلامي. كما ظهرت ما تسمى بالحركات التجديدية، وهي تجدد كل شيء ولا تقف، ولا تلتزم بالتجديد الذي أمرنا به، ويجب علينا جميعاً أن نجدده وهو: العودة بالناس للكتاب والسنة، ولكنها تجدد ما سنذكره. ظهرت باسم النقد الذاتي: مؤلفات أو اتجاهات باسم النقد الذاتي، وتقصد بذلك:- نقد الحركات الإسلامية والدعوات الإسلامية. أولاً: أكثر ما ينقدون وينتقدون أو يتغافلون ويتجاهلون، هو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- هذه لا قيمة لها عندهم، ولا تحسب على أنها دعوة تجديديه، وإنما ينظر إليها على أنها شكلية، قشور، تقليدية، إلى آخر ما يلصقونه بها من معايب ومن تهم، إن لم يتجاهلونها بالكلية، ولا ينظرون إليها، ولا إلى آثارها الضخمة -والحمد لله- التي لا تزال حية في الواقع على مستوى الأمة الإسلامية جميعاً. ثم ينقدون الدعوات الإسلامية الأخرى، من باب الدخول إلى الشباب في الحركات والدعوات والجماعات الإسلامية الذين رأوا انحرافات، وتململوا، وكاد اليأس أن يستولي على قلوبهم مما يرون من الأخطاء، فدخلوا إليهم عن طريق هدم الأصول التي من الممكن أن تحيي الأمل في نفوسهم، وجرفهم إلى ما يريدون باسم النقد الذاتي، وإلى نشر الأفكار التي يدعون إليها. يظهرون تارة باسم الإنسانية والدعوة إلى التعاون العالمي، ضمن مواثيق الأمم المتحدة، وهكذا تتعدد الأسماء، ولكن المقصود من ذلك واحد. بالطبع لن نستطيع أن نأتي بالنماذج من كلامهم، وحتى الأسماء أو المؤلفات، ولكن سأحاول -إن شاء الله- أن أوجز المجالات التي أوجدوا بالفعل فيها مبادئ محددة لهم، وقضايا رئيسية؛ ويندرج تحتها فرعيات كثيرة.

مستهدفات العلمانية

مستهدفات العلمانية أولاً: مسألة العقيدة: هؤلاء الذين يسمون تجديديين، أو مصلحين، أو عصريين، أو تطويريين أو يساريين إسلاميين، إلى آخر هذه الأسماء المختلفة، عندهم توحيد الأسماء والصفات لا يذكر ولا يهتمون به، ويعتبرون الحديث فيه من اللغو الباطل، الذي لا يجوز أن يدخل فيه. توحيد الألوهية عندهم، والحديث عن الشرك، وأشباهه لا يمثل عندهم شيئاً، فهم قوم يرون أن كل من انتسب إلى الإسلام فهو مسلم، حتى أصحاب الضلالات، كالماركسيين، فالذي اسمه محمد أو عبد الله أو إلى آخره من أسماء المسلمين، فهم يعتبرونه مسلماً، وكذلك الاشتراكيون البعثييون وغيرهم، يعتبرون هؤلاء مسلمين، فليس عندهم توحيد ألوهية، ولا توحيد في الأسماء والصفات مطلقاً، فالقاعدة عندهم أن كل من انتسب للإسلام وآمن بأن الله موجود فهو مسلم، ولا يفكرون في ما بعد ذلك. بل بعضهم جاهر وقال: إن البهائية والقاديانية والرافضة وأشباههم لا مانع أن يسموا مسلمين، ولا فرق بيننا وبينهم، وبعضهم يقول: لا، إن الاثنتين والسبعين فرقة، التي أخبر عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يخرج من ذلك إلا البهائية والقاديانية فقط، أما البقية كلهم من أهل السنة، فـ الخوارج والمعتزلة والشيعة كلها فرق إسلامية، ولا حرج. ثانياً: ما موقفهم من الشريعة، ومن تطبيق شريعة الله، ومن الأحكام، ومن إقامة الحدود. لهم موقف عجيب جداً، يقولون: أولاً: لا مانع من وجود أحزاب لا تطالب بإقامة شريعة الله، وصرح بعضهم -وربما قرأتم لبعض المغفلين الذين انساقوا وراءهم- أنه لا مانع من قيام أحزاب شيوعية في ظل الحكومة الإسلامية، أو في المجتمع الإسلامي، المهم أن تلتزم بالإسلام كحل - سبحان الله -كيف تلتزم؟! أما الديمقراطية فالكل يسعى إليها، وينعق بها، وأذكر لكم -مثالاً فقط- ما يدور في صفحات جريدة الشرق الأوسط، فهم بين الحين والحين يأتون بشيخ جديد ليبث أن الديمقراطية هي الإسلام، وأن الإسلام هو الديمقراطية، وعليه فلا يمكن إقامة شريعة الله، ولا إقامة حكم الله، ولا إقامة الحدود، إذاً على من يقام حد الردة! إذا كنا نسمح بوجود أحزاب شيوعية، فعلى من يقام حد الردة؟ إذا كنا نقول: إن حرية الرأي يجب أن تستمر، حتى يقول كل إنسان ما شاء؟! يظهر في هذا الأثر الواضح في حياة أولئك الناس في الغرب، ولتعمدهم السير في ركاب العلمانية الجديدة التي يقودها الاستعمار الغربي ويخطط لها، لإحلالها محل العلمانية الملفوظة المرفوضة التي بدأت -والحمد لله- الآن تنهار في العالم الإسلامي. طبعاً لديهم مصادر، والتاريخ مملوء بالاننحرافات، فقد رجعوا إلى مثل الطوفي الذي يقول: [[إن المصلحة تقدم على النص]] وأخذوا منه، وأخذوا من شذوذات داوود بن علي الظاهري وأخذوا من شذوذات ابن حزم وأخذوا من شذوذات بعض المؤلفين للقواعد الفقهية، واستنتجوا من ذلك أن الإسلام لا يمكن أن يطبق نصاً وحرفاً، الإسلام عندهم مباديء عامة، وليس أحكاماً تفصيلية مقررة، يضربون كتاب الله بعضه ببعض. يقولون مثلاً: قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] يضربون بها قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]. يقولون: الآن المجتمعات في هذا العصر، تعيش في حالة من الإنهاك الاقتصادي، ومن السيطرة الغربية، وكذا وكذا، فلا يمكن إقامة السرقة، وحد الزنا، لأنه أقيم في أول الإسلام لأمر مصلحي، والآن لا يمكن أن تقام الحدود، فيبقى الإسلام دعوة عامة للعدل، لكن يمكن أن يطبق العدل، عن طريق الأنظمة والقوانين الوضعية. فلا يرضون بأخذ أحكام شرعية من قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعتبرونها حرفية مرفوضة تماماً. يقولون: وجد منافقون في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان لهم رأس كما ورد في السيرة أن عبد الله بن أبي رأس النفاق، فيستدلون بهذا على جواز وجود أحزاب معارضة شيوعية أو يمينية أو يسارية كما قلنا. وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] يقولون: إذاً: كيف نقسم العالم إلى دار كفر، ودار إسلام، وكيف نجعل دية المسلم، غير دية الكافر، وكيف لا نقتص للكافر من المسلم إذا قتله، والله تعالى يقول هذه الآيات؟ وهكذا يضربون الأحكام الشرعية فيلغون الأحكام التفصيلية باستنباطات جديدة مباشرة من النصوص الشرعية، بمنهج انتقائي غريب.

مهاجمة العلمانية للمنابع الإسلامية

مهاجمة العلمانية للمنابع الإسلامية بعد ذلك يأتون إلى الأصول التي يجتمع عليها الناس ويفهمون منها، ويأخذون منها أحكامهم ودينهم، فيضربونها ضربة قاضية. فمثلاً: نحن عندنا علوم معيارية، وعلم أصول الفقه، وهذا يضبط كيف نستنبط الأحكام؟ وما هي مصادر الاستنباط؟ إلى آخر ذلك، فيضربون أصول الفقه ويقولون: لا بد من أصول فقه جديد، وكذلك القياس؛ يقولون: لا بد من القياس الواسع، بمعنى: قس أي شيء على أي شيء كما يحلو لك، وكذلك المصلحة الواسعة، ليست المصلحة الشرعية، بل المصلحة الواسعة التي يمكن أن تلغي النصوص، وكذلك الإجماع المقيد، يقولون: أنتم تقولون: إن الإجماع إجماع مجتهدي الأمة! وهذا غير ما عندنا من الإجماع المقيد قال بعضهم: إذا أجمع طلاب مدرسة ثانوية على شيء، فهذا إجماع، ولو أجمعت جمعية على شيء فهذا إجماع. فيقولون: لماذا نقيد الإجماع بإجماع المجتهدين؟ ولم هذه الشروط الصعبة؟ وهذا مؤداه هدم هذه الأصول؛ لأنها إذا هدمت يبقى القرآن، والسنة ألفاظاً عائمة لا تستفاد منها أحكام، وتقرأ للتبرك، أو في الصلاة، أما في الواقع، فلا يمكن لأحد أن يطبقها أو أن يقيمها. قالوا أيضاً فيما ما يتعلق بأصول الحديث: أصول الحديث هذه يجب إعادة النظر فيها، وقد تجرأ بعضهم -عياذاً بالله- فصرح وقال: من القواعد التي يجب إعادة النظر فيها أن علماء الجرح والتعديل قرروا أن الصحابة كلهم عدول. قال: وهذا ليس صحيحاً! فليس بمجرد أنه رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآمن به يكون عدلاً! فجاء باجتهاد لم يسبق إليه وقال: نضع شروطاً لقبول رواية الصحابي، نقول منها: أن لا يروي الصحابي حديثاً فيه مصلحة له أو لمن يواليه حتى نضمن أنه لم يبتدع من عنده. أي أنه يتهم الصحابة بالكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمصالح شخصية والعياذ بالله. ثم يأتي إلى الصحيحين ويقول: لا نسلم بأن كل ما في الصحيحين صحيح، بل لا بد أن نعرض ما فيهما على القرائن والنظر العقلي، والتاريخ، والتحليل النفسي، والتحليل الاجتماعي، ويهذون بعبارات إذا رآها الإنسان يقول: صحيح! إذن لا بد أن نعيد النظر، فيشككون الناس في قيمة السنة النبوية. أما الفقه فهجومهم عليه عجيب: فهم يدخلون من مدخل سلفي، فيقولون أول شيء: الحجة هو الكتاب والسنة، وآراء الرجال لا حجة فيها، فنقول: ما شاء الله، كلام طيب! لكن ماذا يريدون؟ يريدون فصل كلام السلف وفصل تطبيق السلف وكلامهم وتفسيرهم وفهمهم للكتاب والسنة فصلاً كاملاً، فيأخذون هم مباشرة من القرآن والسنة؛ وأنت تأخذ مباشرة، فيقلبون الآيات كما ذكرنا، ويضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويضربون الحديث بعضه ببعض كما يشاءون، ويصححون ويضعفون كما يشاءون، أما كلام الأئمة العلماء وفهمهم وعملهم وتطبيقهم ومؤلفاتهم فهذا كلام بشر، ويقولون: فرق بين الدين وبين فهم الدين وصورة التدين، ففهم الدين يختلف بحسب العصور، وصورة التدين تختلف بحسب العصور، أما الدين فهو النص فقط، ثم كل يفهمه كما يشاء. وهجموا هجوماً آخر فقالوا: كتب الفقه المطولات المعقدات تستطرد وتطيل النفس في أبواب الحيض والنفاس، والصلاة، والصيام والزكاة، ولكنها لا تتعرض لأبواب الإمامة والخلافة ونظام الحكم والشورى لماذا؟ قالوا: لأنها كتبت في أيام سيطرة الحكام الاستبداديين، والعلماء كانوا يسيرون في ركاب السلطة، فهو فقه مرحلي، مؤقت، فقه كان يتكلم باسم الطبقة المسيطرة، وباسم الحكام وأولياء الأمور في تلك المرحلة. طبعاً معروف أننا لم نجد في كتب الفقه، أو قد لا نجد على العموم ما يتعلق بالإمامة والخلافة؟ لأن باب الإمامة أرفع عندنا من أن يذكر في أبواب الفقه، فهو موجود في كتب العقيدة كما تعلمون، الإمامة من مسائل العقيدة. ونظراً لما جرى من الخوارج وغيرهم، فهم يأتون إلى هذا الشيء. يقولون: الفقه الإسلامي فقه عنصري! كيف هذا؟ قالوا: انظر كيف أن الفقهاء يقسمون الدور إلى دار حرب ودار إسلام، وهذه مرحلة نتيجة الحروب الصليبية التي كانت دائرة، ونتيجة أن الناس في العصور الوسطى كان النصراني يكفر المسلم، والمسلم يكفر النصراني، أما الآن فلا، العالم انفتح الآن، وصارت هناك حقوق للإنسان، ولا يصلح بعد الآن، أن نقول: فقه للمسلمين وفقه لغير المسلمين، دار إسلام ودار حرب، هذا كله كلام لا قيمة له الآن. بعد ذلك إذا جئنا للاقتصاد يأتونك بالعجب العجاب، البنوك لا بد منها، الفوائد الربوية ضرورية، ومن الذي يقول: إن الفوائد ليست حلالاً؟! ويدافعون عنها أشد الدفاع، المؤسسات الرأسمالية تقوم كما هو الحال في الدول الغربية، وكذلك الشركات تقوم على النمط الغربي، وهذا من الإسلام ومن الديمقراطية ومن حرية المال، أو من الاشتراكية، كما في الوثيقة الاشتراكية، واليسار الإسلامي يقول: الماء والنار والكلأ مباحة للجميع، ويقاس على ذلك كل وسائل الإنتاج، ويقاس على ذلك المصانع والتأمين إلخ. فتكون الأحكام كلها نسخة من الغرب، ولا تؤخذ من الفقه الإسلامي، ولا من كتاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبالذات في هذا الجانب.

المرأة والحجاب

المرأة والحجاب موضوع المرأة والحجاب، ماذا يقول فيه العلمانيون الجدد؟ الذين يلبسون ثوب الإسلام المزعوم، فضفاضاً واسعاً، ويقولون: المجتمع الإسلامي، ليس مجتمعاً منفصلاً، المرأة فيه لا تختلط بالرجال؛ بل هو مجتمع مختلط، ولكنه فقط محتشم لا منفصل، هذا شعارهم! وما هو تفصيل هذه الحشمة؟ تغطية الوجه ينكرونها تماماً، الحجاب الحقيقي الذي هو أن تكون المرأة في بيتها، فإن خرجت فهي مغطية لوجهها وسائر جسمها ينكرونه، ويقولون: يجب أن تخرج المرأة، والمرأة مظلومة، والفقه الأعوج، أو الفقه الميت إلى آخره، هو الذي يحبس المرأة في البيت، أو يأمرها بأن تغطي وجهها، وأننا نخجل ونستحيي أن يرانا الغربيون ونساؤنا يغطين وجوههن، والغربيات يحكمن الدول، جاء هذا على ألسنة كثيرين وليس رجلاً واحداً فقط، إنما هذا كاتجاه ومنهج لإفساد المرأة المسلمة. والفن ماذا يقولون؟ لهم رسائل في ذلك، ولهم كتب منها كتاب الدين والفن، منها كتاب آراء تقدمية في الفكر الإسلامي يقولون: يوجد في الفقه الإسلامي آراء تقدمية سبقت عصرها. إذن عندنا كنوز خفية ما نعلمها، انظروا إلى ابن حزم كيف أباح الغناء، هذا فكر تقدمي، والآن القرن العشرين بدأ الإنسان المعاصر يحس بأهمية الغناء وضرورته، لكن المتزمتين والمتشددين يقولون: البخاري روى وفلان قال، وابن القيم ذكر خمسين وجهاً في تحريمه، كله كلام لا قيمة له في نظرهم. ومن الآراء التقدمية أو التحررية والتجديدية قول بعضهم: الرقص إن كان المقصود منه إثارة الشهوات فلا ينبغي، وأما إن كان المقصود منه بعض الشعور، والإحساس بالجمال، وتنمية الشعور بالجمال، وتنبيه الناس إلى بديع خلق الله، فهو قد يخدم أغراضاً إسلامية، وكذلك الموسيقى، ولهذا فهم من أشد الناس تضجراً بتوبة المغنين والممثلين والمطربين، يتضجرون في الصحف علانية ولا يستحيون وهم يرفعون أسماء إسلامية ويدعون ذلك، ويرون أن المرأة يمكن أن تقوم بأي عمل حتى بالتوسع في مسألة الغناء والسينما. وكل منهم يجتهد، ويفصل كما شاء، حتى إن أحدهم دخل كلية وفيها جدار يفصل الطلبة عن الطالبات؛ قال: لو كان الأمر بيدي لهدمت هذا الجدار، وبعضهم ينادي ويجاهر بأنه يجب أن يتخلص الناس من مسألة تدريس البنات عن طريق الشبكة التلفزيونية، كما هو موجود مثلاً عندنا هنا في مكة والحمد لله. بل بعضهم يتندر حين سئل عن قيادة النساء للسيارات. فقال: إن كنتم في الدول التي تحرم ذلك - يسخر من مجتمعنا هنا - هذا لا يجوز، والعلماء سوف يفتونكم أنكم انحرفتم، أما إن كنتم تؤمنون أن المرأة بشر، وأنها إنسان مثل أي إنسان فما المانع أنها تقود السيارة، وأنها تعمل كل شيء؟ فيلجئون إلى أساليب شتى لنشر هذه الضلالات. ومما سبق يتبين أن هذه هجمة جديدة يهاجم بها هذا الدين، وعلمانية جديدة تلبس ثوباً فضفاضاً واسعاً، تحت شعاراتٍ ونداءات إسلامية مختلفة هي العدو الذي سيواجه الدعوة الإسلامية الآن، وفي المستقبل القريب، أما من ينادون علانية بإنكار وجود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو تكذيب كتاب الله -عز وجل- جهاراً نهاراً، أو الطعن في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهاراً نهاراً، فهؤلاء أصبحوا يتلاشون ويتساقطون. وهذه المرحلة الجديدة لها رموزها، ولها كتابها، ومعاهدها، ومؤسساتها، وصحافتها، وهذه لا أقولها إلا لأذكركم بها، وستعرفون الكثير منها -إن شاء الله- أينما وجدتم مثل هذه الأفكار، فستجدون وراء ذلك المكر الخبيث. فأنبهكم جميعاً إلى خطر هذه المرحلة، وأن نكون متيقظين لمقاومة هذه الهجمة الجديدة، التي تهدم الإسلام باسم الإسلام- كما سمعنا في وثائقهم هذه. هذا واسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل مني ومنكم، وأن أكون قد وفقت على هذا الإيجاز المخل لأنبه -إخوتي الكرام- إلى خطر هذه المرحلة الجديدة التي تعيشها الصحوة الإسلامية.

الأسئلة

الأسئلة

أهداف العلمانية في المرأة المسلمة

أهداف العلمانية في المرأة المسلمة Q فضيلة الشيخ ما هي أهداف العلمانية التي تحققت خاصة فيما يتعلق بالمرأة المسلمة؟ A العلمانية في المرحلة السابقة حققت إخراج المرأة المسلمة من بيتها، تحدياً لقول الله تبارك وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فأخرجتها من البيت وزجت بها في متاهات الانحراف والضلالات والفجور والفسق والعهر، المرأة المسلمة التي كانت قبل ثمانين سنة لا يرى منها شيء في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، أصبحت اليوم -إلاّ ما قلَّ- تبدو وتبدي مفاتنها للناس جميعاً وفي كل مكان، بحجة التحرر، وبحجة التطور والتنمية والإسهام في ترقية الوطن إلى آخر، ونجحوا في ذلك. والعلمانية الجديدة الخبيثة هذه التي أشرت إليها فعلت ما هو أنكى من ذلك، حتى أنه بلغني عن بعضهم ومعهم مراكز في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة -هناك يربون ويغذون- وصلوا إلى حد أن يعقدوا لرجل كافر على امرأة مسلمة -عياذاً بالله- وبعضهم جاهر وطالب بذلك، وبعضهم كتب أن اليهود والنصارى مسلمون مؤمنون مثلنا، ولا يجوز أن ننظر إليهم نظرة عنصرية -نسأل الله العفو والعافية- وبعضهم قال: إنما قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] هذه الآية في سورة الممتحنة هي في ظروف صلح الحديبية، وهي مرحلة وقتية وظروف وقتية، يعني: يريدون أن يهدموا أساسيات في مسألة العلاقة بين المسلمة وغيرها، ومن ذلك ما يتعلق بقضية الميراث، بعضهم يقول: كيف -وهم يدعون الإسلام- لا نعطي المرأة إلا نصف ميراث الرجل مع أنها الآن تخرج وتعمل وتتوظف وتنفق؟ يقول: المرأة إذا كانت موظفة وإذا كانت البنت موظفة وتأخذ راتباً، والولد ليس عنده راتب ومات الأب، وبالعكس، إذن: لا بد أن نراعي وظيفة أو حالة الأسرة ولا ننظر إلى مجرد أن (للذكر مثل حظ الأنثيين) إلى آخر ما يرددون -نسأل الله العفو والعافية- من هذا الكفر الصريح. ولكن المشكلة أن الذين يرددون هذه العبارات الآن أناس يصلون -أو يتظاهرون بذلك- ويتكلمون عن الإسلام، ويرفعون الرايات والشعارات الإسلامية، وهذا هو الخطر المحدق بالمرأة المسلمة في هذه المرحلة، لا يأتون ويقولون: اخرجي سافرة، بل يقولون: الحجاب ليس من الإسلام، والمرأة تكون محتشمة وتخرج وتفعل ما تشاء، وهم يضمنون -والأعداء من ورائهم ضامنون- أنها إذا خرجت فستكشف أول الأمر الوجه -كما يزعمون- ثم تكشف الساقين والنحر والشعر، ثم تقع بعد ذلك المصيبة.

نصيحة للشباب

نصيحة للشباب Q فضيلة الشيخ ما نصيحتكم لهؤلاء الشباب في هذه الصحوة الطاهرة المباركة، خصوصاً أننا نعيش بين فكي الشيوعية والعلمانية والمذاهب الأخرى؟ A أول شيء أوصي وأنصح به إخواني هو تقوى الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هذه وصية الله إلى الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]. وأن نخلص أعمالنا جميعاً لله؛ لأن العلمانية شرك، ونحن ندعو إلى التوحيد وإلى الإخلاص {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] هذه دعوتنا، وأن نصبر ونعلم أمتنا الصبر {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] لا بد من الصبر ولا بد من التقوى لندفع كيد الأعداء وأن نتعلم العلم الشرعي ونصبر على ذلك. إن مما يؤلمنا في هذه الصحوة هو أن الشباب يرضون بالثقافة السطحية أو العابرة، نحن لا نقلل -والحمد لله- من شأن المحاضرات ولا الندوات ولا أي شيء، ولكن نقول: هذه خطوط عامة، وهذه نقاط على الطريق فقط، ومعالم تعطيكم إنارات فكرية عامة، أما ما يجب عليكم فردياً فهو العلم والمركز والدروس العلمية المركزة المستديمة طويلة المدى، التي تعطيك معرفة تفصيلية بالأحكام الشرعية وبالعقيدة قبل ذلك، وتعطيك التفصيل لسبيل المجرمين أيضاً {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]. لتعرف سبيله بالتفصيل، وتدرس الفرق والمذاهب الفكرية بالتفصيل، وأما ما نراه الآن فهذه هي ظاهرة طيبة من جهة العامة، لكن من جهة الإخوة المثقفين وطلاب العلم لا، وهو الإقبال على ما سهل، والشباب مع الأسف إذا أعطيته كتاباً أربعين صفحة يقول: هذا طويل، يريد عشر صفحات فقط، وإذا أعطيته شريطاً ثلاث ساعات، يقول: يا ليته ساعة-مثلاً- فهو يريد أي شيء خفيف، هذه حقيقة، أمةٌ تواجه هذه العداوات الشرسة وهذه المؤامرات الحاقدة على طول التاريخ لا بد أن تكون على مستوى المواجهة، ولا بد من رجال يقودون هذه المواجهة، ولا بد من أناس لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولكن يقولون الحق بالحجة العلمية والبرهان الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويزنون الأمور بالميزان الحق الذي شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأنزله. هذا هو المفقود الآن؛ والناس كلهم يعرفون أن الزنا حرام، وكلهم يعرفون أن الاختلاط حرام، لكن لماذا لا تأثير لمعرفة الكثير من الناس؟ لأنه لا يأتون بهذا التأثير في مقام الحجة العلمية الشرعية المقنعة المؤثرة، ولهذا -والحمد لله- إذا رأينا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أو أمثاله من العلماء كتب فتوى عن التبرج أو عن السائقين أو عن الخدم، ما عليك إلا أن تصورها وتطبعها وتضعها على مسجد أو تعطيها أي واحد بيده، فتكون حجة كافية، لأنها صدرت من عالم. بينما الخطيب قد يخطب ويكتب أضعاف أضعاف ما في هذه الفتوى وهذا شيء معروف، لكن هل لها نفس قيمة فتوى الشيخ؟ لا، إذن: العلم ضروري، ولا بد أن نقيم حجة الله على العالمين، وعلى المسلمين، وعلى أنفسنا لنعبد الله، لا بد من علم، ولا بد من صبر على ذلك، هذه بعض الوصايا التي تشير إلى ما بعدها إن شاء الله.

التعريف ببعض رموز العلمانية الجديدة

التعريف ببعض رموز العلمانية الجديدة Q نرجو من فضيلتكم ذكر بعض زعماء العلمانية الموجودين في الوقت الحاضر؟ A ما كنت أحب ذكر الأسماء؛ لأن الأسماء يثار حولها الإشكالات؛ لكن لعلي أذكر على سبيل براءة الذمة بعض من تعرضنا لأفكارهم، ونادوا بشيء مما قلته أو بكله، وكتبهم موجودة ومقالاتهم الصحفية موجودة، منهم: الدكتور حسن الترابي، ومنهم فهمي هويدي ومنهم كمال أبو المجد ومنهم محمد عمارة ومنهم حسن حنفي، ومنهم بعض المنتمين إلى بعض الدعوات الإسلامية وهؤلاء معروفون ومشهورون ولا داعي للتنصيص على أسمائهم. ومنهم: خالص جلبي ومنهم أيضاً أسماء أخرى بعضها مشهورة وبعضها أقل شهرة.

حكم قراءة كتب الشيوعية والعلمانية

حكم قراءة كتب الشيوعية والعلمانية Q هل تنصحون طالب العلم أن يقرأ كتب الشيوعية والعلمانية للتعرف على مذاهبهم وأهدافها؟ A بالنسبة لأي طالب علم وأي كتاب عن الشيوعية لا، لكن يجب أن يكون في الأمة من يقرأ ومن يتصدر لهدم وتخريب هذه الأفكار، ومما يوجب ذلك ويجعلنا نوسع الدائرة في ذلك أن هذه الأفكار تطرح يومياً، الآن لم يعد غريباً، هذا السؤال لو سألناه قبل عشرين أو ثلاثين سنة -كما كنا نسأل علماءنا تلك الأيام أو يسألهم الناس- يقولون: لا حاجة لكم -مثلاً- لكن الآن أي جريدة ليس فيها ذكر للشيوعية؟ وأي جريدة ليس فيها دعوة علمانية؟ وأي مجلة وأي مسلسل وأي مقالة إلا ما كان إسلامياً صرفاً، ما دمنا نعيشها واقعاً فلا بد أن نعرفها، ولكن يتفاوت الأمر بحسب الحاجة، وبحسب المؤهل الذي أهل الله به الإنسان، وما أوتي من القدرة على الاستيعاب، وأقل ما يجب تحقيقه أن تبين وتفضح حقيقة هذين المذهبين للناس.

كيف نتعرف على العلماني

كيف نتعرف على العلماني Q فضيلة الشيخ: كيف نتعرف على شخصية العلماني، وكيف نحاربه ونرده إلى الله عز وجل؟ A يعرف بظاهر القول، ويعرف بلحن القول كما أخبر الله تعالى عن المنافقين، فمنهم من يجاهر ويظهر القول بأن الإسلام لا علاقة له بالحياة، وكما يقولون: كلما أردنا تطويراً أو ترفيهاً أو تقدماً صاحوا في وجوهنا، وقالوا: حرام! بعضهم يجاهر بذلك، وبعضهم يخفي، ويقول: الإسلام لا يتنافى مع التطور، والإسلام دين التقدم، والإسلام دين الحرية ودين الكرامة الإنسانية، هذا شيء طيب، لكن ماذا يقصد به؟ يقصدون بذلك تذويب الإسلام وتمييعه، وبهذه الكلمات الفضفاضة يدخلون ما يشاءون من الانحرافات والضلالات والبدع. وبحسب -أيضاً- نوع العلماني ودرجته في الانتماء إلى العلمانية، أو حسب المجال الذي يتحدث فيه إن كان أديباً، إن كان سياسياً، إن كان اقتصادياً، إن كان باحثاً إلخ، لابد أن يظهر ذلك، والمهم أن المسلم واضح، وهو من يحتكم في كل أمر من أموره إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينطلق في تصوراته جميعاً منهما {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] هذا هو المنهاج الإسلامي في العلم والبحث والنظرة إلى الحياة جميعاً.

أهم الكتب التي تتحدث عن الصوفية والعلمانية

أهم الكتب التي تتحدث عن الصوفية والعلمانية Q فضيلة الشيخ من هو أفضل من كتب عن الطرق الصوفية والعلمانية وما هي الكتب الجديدة في هذا الباب وجزاكم الله خيراً؟ A الصوفية الكلام عنها كثير جداً نظراً لتشعبها وتعدد ما كتب عنها، وكتب عنها شَيْخ الإِسْلامِ رحمة الله عليه، وكتب عنها ابن القيم ضمن ما كتب وتعرض له، وكتب عنها كثير من الباحثين في القديم والحديث، وهي أكثر مما تحصى، وكذلك العلمانية كتب عنها كتابات كثيرة إما في العموم وإما كتابات مختصة بجوانب منها مثل: القومية وعلاقتها بالعلمانية، مثل: الاشتراكية وأمثالها، وأتصور أن المراجع -إن شاء الله- موجودة ولا تخفى على أحد.

علاقة الفرق الإسلامية القديمة بالحديثة منها

علاقة الفرق الإسلامية القديمة بالحديثة منها Q فضيلة الشيخ هل هناك علاقة بين الفرق السابقة الضالة التي وجدت مثل المعتزلة والمرجئة وبين الماسونية والاشتراكية والعلمانية؟ A العلمانية الحديثة هذه التي تسمى العصرية والعقلانية وبعضهم يصرح: بأننا على منهج المعتزلة، وبعضهم يقول: نحن المعتزلة الجدد، ولماذا يحبون الرافضة ويميلون إليهم وعلاقتهم بهم قوية؟ لأن الروافض -كما تعلمون هؤلاء الشيعة - هم في الأسماء والصفات والقدر معتزلة، ويضيفون إلى ذلك ما يختص بهم مما يتعلق بالخلافة، والإمامة، وتحريف القرآن، وتكفير الصحابة إلى آخر العقائد الكفرية المعروفة، لكن هم في الحقيقة معتزلة، فمن هنا يتبنون مذاهب المعتزلة، وبعضهم يتبنى الباطنية، وبعضهم يعتبر أن الحركات الباطنية تجربة اشتراكية، وكل من انتسب إلى الإسلام عندهم مسلم، فيعتبرونها كلها تجارب وكلها صور مرحلية لتطبيق الإسلام، ونحن في هذا العصر نطبق صورة تلائم القرن العشرين أو الحادي والعشرين.

تسرب الوثائق الأمريكية والشيوعية

تسرب الوثائق الأمريكية والشيوعية Q كيف تسربت الوثائق الأمريكية والشيوعية إلى وسائل الإعلام، ألا ترى أنه يحتمل أن يكون ذلك أمراً مدبراً من هاتين الدولتين؟ A لا يستبعد، وعلى أية حال لا يهمنا كيف؟ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما جعل هؤلاء الناس -كما يظن بعض الإخوة- لا يمكن أن يخترقوا ولا يعرفوا، وأذكر لكم قصة وقعت وأثارت الرأي العام الأمريكي، حتى تعرفوا حكم الله: طالب تقدم إلى معهد أمريكي مشهور -معهد للتكنولوجيا التطبيقية مشهور عالمياً- يريد الالتحاق بالمعهد، ورُفض لأنه صغير السن ولأنه لم تتوافر الشروط فيه، فذهب واجتهد في البيت، واستخدم كمبيوتراً، واستطاع بأساليب معينة أن يدخل على كمبيوتر البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) وهي الأخطر في العالم، واستطاع أن يسحب أسرار ومعلومات، فشعرت الوزارة بأن الكمبيوتر مدخول عليه، وهناك شيء يجذب المعلومات، تعبوا، وفكروا، وتحروا، وعندهم وسائل رهيبة في التحري، واكتشفوا أن هذا الشاب جالس في غرفته، وكل معلومة هناك تدخل في الكمبيوتر يحصل عليها هذا الشاب الطفل، فذهلوا كيف لو أنه عميل للمخابرات الروسية -مثلاً-؟ واشتهرت القصة وفضحت، فنحن لا نستغرب، بل الحقيقة أنه من استهتارهم بنا، وقد قالها المجرم، قال: إن العرب لا يقرءون، أنا أقول بصراحة: ما الذي يمنعهم من أن ينشروا مخططات، ونحن -لو نشروها- هل سنقرأ، وإن قرأناها هل سنعمل؟ وإن عملنا كم العامل؟ وكم سيقف ضد هذه المخططات؟ لو قام واحد يفضح المخططات سيقف ألف عميل من المغفلين أو من المأجورين من المسلمين، قبل أن يحصل أي تحرك هناك من الغرب، ولا يحتاج أن يقف الغرب؛ لأن دعاة الضلالة الذين حذر منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجودون هنا، فلذلك لا يهمهم، وحتى لو تسربت بإرادتهم.

حكم دراسة علم الاجتماع

حكم دراسة علم الاجتماع Q بما أن تعلم علم الاجتماع كما ذكرت في كتابك العلمانية كان على أيدي الكفار وأعداء الدين، وأرادوا به هدم الدين والأخلاق، واعتبارها مرحلة من المراحل وليست أمراً فطرياً، فما حكم دراستها؟ A علم الاجتماع يمكن أن يكون على نوعين: علم اجتماع إسلامي، وعلم اجتماع لاديني أو علماني، وهذا الذي وجد في أوروبا، ولا يوجد ولا يمكن أن يوجد تصور أعظم ولا أبين من كتاب الله عز وجل في بيان كيف تقوم المجتمعات، وكيف تسقط؟ منهج واضح يحدثنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن أخبار القرون الأولى ويأمرنا بأن نعتبر {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] ويأمرنا أن نتعظ كيف قامت المجتمعات، وكيف سقطت؟ وما هو أثر الترف؟ وما هو أثر الأكابر إذا طغوا واستبدوا في الأرض -كفرعون وأمثاله-؟ وما أثر الجشع وحب الدنيا -كقارون وأمثاله-؟ وكيف تقوم المجتمعات على العدل وكيف تسقط بالبغي؟ كل ذلك موضح في كتاب الله كقواعد وأصول عظيمة، لا يمكن أن يوجد لها نظير، وفسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً في حديث من السنة فهي واضحة جداً. ويوجد هناك -والحمد لله- دراسات اجتماعية إسلامية متحررة تماماً من النظرة العلمانية، وهذه يجب أن تدرس سميناها علم الاجتماع أو لم نسمها، أما أن تدرس العلوم الاجتماعية بالمنظور الغربي، فالحكم عليها كشأنها وغيرها من العلوم التي يحرم قراءتها، أو تدريسها على المسلمين، وإنما يجب أحياناً الاطلاع عليها لبيان زيفها وضلالها وخطرها.

معنى لفظ العلمانية

معنى لفظ العلمانية Q ما معنى لفظ علمانية؟ A لفظة علمانية ترجمت على أساس أنها ترجمة لكلمة العلم، وكأن الدين مقابل العلم، لأنه في أوروبا وجد الصراع بين الدين والعلم، لكن في الحقيقة الكلمة في الأصل الأوروبي لا تعني العلم ولا علاقة لها بالعلم، وإنما تعني كلمتين هما: الدنيوية أو اللادينية، لكن ترجمت باسم العلم تمويهاً، فإذا قال أحد: أنا أقيم دولة لا دينية، فهذه قضية، لكن: دولة علمانية، هذه ليس فيها حرج، فإقامة دولة علمانية، أو إقامة مجتمع علماني، ليس فيه حرج؛ لأن الإسلام دين العلم، فيمهون علينا.

صورة العلمانية في الصحافة العربية

صورة العلمانية في الصحافة العربية Q ما هي صور العلمانية في الصحافة العربية؟ وهل العلمانية منتشرة في الخليج؟ A الحداثة هي جزء من العصرية والعقلانية، لكن تدعى أن علاقتها فقط بالشعر، أو بالقصة، أو باللغة، أو بالأدب، والواقع أنه لا يمكن أن تفصل جانباً من جوانب الحياة عن الآخر، هل نستطيع أن نفصل الجانب الاجتماعي عن الجانب الاقتصادي؟ لا يمكن، هل نستطيع أن نفصل الجانب السياسي عن الجانب التربوي التعليمي؟ لا يمكن، لأنه مجتمع واحد، والفرد واحد، فهم عندما يهدمون اللغة العربية والأدب العربي، يهدمون الإسلام قطعاً وسيضغطون على الصحافة الخبيثة الوافدة الحداثة تأخذ صوراً شتى: حداثة مدروسة أو حداثة ملتزمة بالمذهبية -كما تدعى- من حيث الأدب والرواية والقصة، وهناك أيضاً حداثة على مستوى الفن عموماً، تحديث للطرائق والأساليب الفنية، تحديث حتى في الأساليب الاقتصادية وفي أساليب الغزو الفكري وغيرها. والحداثة ككلمة عامة في أصلها الأوروبي تعني: الانقطاع والانبتات عن الماضي تماماً، يعني (مودرترم) وهذا المودرترم هو الذي يعبر عنه بالنسبة للإسلام المودرن أو الموضة، أو الإسلام الأمريكي، فالحداثة تريد أن تفصل الناس عن فهم الكتاب والسنة بإفقاد النص دلالته، كما قال أحد كبارهم مع الأسف: إن النص الواحد إذا قرأته تفهم منه شيء، وأنت أيضاً لو قرأته مرة أخرى تفهم منه شيئاً آخر، والمؤلف والكاتب لو قرأ النص يفهم منه شيئاً آخر، والمؤلف نفسه لو قرأ ما كتب يفهم منه شيئاً آخر. إذن كيف يفهم الناس القرآن؟ ألم تقل الباطنية: إن للقرآن ظاهراً وباطناً، والباطن له باطن، والباطن له باطن، إلى سبعمائة باطن! أليس هذا هو كلام الباطنية؟ فتختلف الصور وتختلف المظاهر ولكن الحقيقة واحدة، وهي الفصل بين الناس وبين كتاب الله وبين سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولهذا فالعلم الشرعي الصحيح هو الحل، وهو أهم شيء لمواجهة هذه الدعاوى، فالذي لا يعرف كتب الفقه ولا يعرف كتب الأصول، ولا يعرف أصول الحديث، تمشي عليه هذه الدعاوى، لكن الذي يعلم ويدرس -والحمد لله- العلم الشرعي، لا تقف هذه الدعاوى الذي ذكرناها ولا أضعافها ولا تساوي عنده مثقال ذرة، لأنه يعرف العلم الذي هو فيه. أما ضعيف العلم فينساق وراء هذه الترهات والأراجيف، ولهذا تجدون أتباع هذا المنهج والناعقين بهذه الأفكار، غالباً -بل ربما كانوا جميعاً- من الدارسين دراسة غير شرعية، وإنما تطفلوا على الدعوة وعلى الدراسات الشرعية. ولا نزكي الدارسين دراسات شرعية بإطلاق، ولا نقصد أن نغمط أي إنسان، فالحمد لله الدين مفتوح، ويوجد من الإخوة في مجالات أو دراسات غير شرعية من تخصص وأبدع، لكن هذا أخذ العلم من أصوله فأصبح كأنه دارسٌ له دراسة شرعية، أما أولئك فلا يأتون البيوت من أبوابها، ولا يأخذون العلم من أصوله وطرائقه.

فصل الدين عن الدولة

فصل الدين عن الدولة Q كثير من الناس أو بعضهم يسمعون بأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة فما معنى ذلك؟ A العلمانية هي: إقامة المجتمع أو الدولة على غير الدين، أي: أن الدين في المسجد -تصلي فقط- لكن أموالك في البنوك الربوية، زوجتك لا تتحجب، النساء يعملن مع الرجال في كل شيء، الصحافة تكتب ما تشاء، دور السينما تبث ما تشاء، التربية والتعليم المناهج فيها علمانية بحتة، لا دينية بحتة، الولاء والبراء يفقد تماماً في التعامل الدولي أو الفردي، ولا توالي الأمة لأنها مؤمنة، ولا تعادى لأنها كافرة، إنما الدين مسألة فردية روحية، تريد المسجد فهو مفتوح، تريد أن تصوم صم، لا أحد يرغمك على أن تفطر، وهذه مرحلة سيعقبها ما هو أشد من ذلك وهو محاربة الإسلام في هذه الأمور.

الفرق بين الماسونية والعلمانية

الفرق بين الماسونية والعلمانية Q هل هناك فرق بين الماسونية والعلمانية؟ وهل هنالك علاقة بين العلمانية والحداثيين؟ A الماسونية هي أفاعي الشر الخفية، التي تخطط لإعادة سيطرة اليهود وحكمهم للعالم، ومن المذاهب التي تروج لها الماسونية، الشيوعية والعلمانية عموماً، وهذه من جملة المذاهب، ومن المؤكد أن بعض من يدعون إلى هذه العلمانية الجديدة التي تسمى (العصرية أو العصرانية أو العقلانية أو الإنسانية كما ذكرنا أو التجديدية إلى آخر هذه الأسماء) من المؤكد أن بعضهم له علاقة وارتباط ما بالاستخبارات الدولية وبالماسونية دون أن نتهم أحداً بعينه، لكن نقول: هذا مؤكد، وهذا موجود، وسوف تثبته الأيام، وقد أثبتت الأيام عن السابقين ما أصبح واضحاً كالشمس في رابعة النهار.

حكم من جمع بين الإسلام والعلمانية

حكم من جمع بين الإسلام والعلمانية Q فضيلة الشيخ إني أحبك في الله، لقد سألت أحد الشيوعيين فوجدته يصلي فقلت له: أعرف أنك شيوعي فلماذا تصلي؟! فقال: أنا إنسان مسلم وعقيدتي صحيحة، ولكنني شيوعي اقتصادياً! فماذا تقولون مثل هذا؟ A هذا هو شاهد لما قلنا، فهم مأمورون -كما قرأنا في الوثيقة- أن يظهروا الصلاة والشعائر، فالزعماء مأمورون، فكيف الأذناب! لا بد أن يظهر الصلاة ويظهر الشعائر حتى يدخل إلى قلوب الناس لئلا ينفروا منه، لكن هذه مرحلة مؤقتة، إلى أن يأتي اليوم الذي يمحون الإسلام فيه محواً. أو يوجد نوع مما يسمونه " الإسلام يتعايش معهم" يعني: لو وجد نوع من الإسلام يرضى بوزارتين أو ثلاث وزارات، وقليل من الانتخابات، وبعض النقابات، ويسلِّم بوجود إسرائيل، ولا يعترض على الفساد من الانحلال الخلقي، والاجتماعي، ولا يعترض على وجود الربا، ولا على القوانين الوضعية، هذا لا يمنعون منه أن يبقى كطائفة أقلية، أو طائفة في المجتمع لا مانع منه، الإسلام الأمريكاني أو (المودرن إسلام) كما يسمونه الأمريكيون، وهم الذين يسعون إلى وجوده لكن الإسلام الحقيقي لا يرضون به. فهذه مرحلة مؤقتة -كما قرأنا في الوثيقة- بدأوا بأتاتورك وأمثاله، جاهروا بإلغاء الدين، وكذلك عبد الناصر فقد ملئوا السجون، وحاربوا الإسلام بمجاهرة، فكانت النتيجة عكسية، الآن قالوا: لا، ابدءوا بملاينة الإسلام وإظهاره، ثم تستأصلونه قليلاً قليلاً، لاحظتم كيف الخطة! اختلفت في التكتيك وفي الأسلوب، لكن النتيجة والغاية ما تزال واحدة.

منهج الأنبياء في الدعوة

منهج الأنبياء في الدعوة بدأ الشيخ حفظه الله ببيان أهمية الموضوع؛ ثم تكلم عن قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) [يوسف:108] من حيث اشتمالها على منهج الدعوة وغايتها، وبين أن وجهي القراءة في هذه الآية يؤديان إلى معنيين صحيحين، وبين أن كل أساليب الدعوة المشروعة تحقق هدفاً واحداً. موضحاً خطر التنازل عن الحق، وأعقب ذلك ببيان أساليب الدعوة التي اشتملت عليها آية سورة النحل، وأصناف الناس من حيث استخدام الأسلوب الأمثل معهم؛ مع بيان حقائق هذه الأساليب والفهم الخاطئ لها من قبل بعض الناس.

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى جميع الأنبياء الذين دعوا إلى الله، وجاهدوا في الله حق جهاده، وتحملوا في سبيل ذلك كل أذى، وصبروا على كل ابتلاء، حتى قتل منهم من قتل، وأوذي منهم من أوذي، فأقام الله تبارك وتعالى بهم الدين، وأقام الحجة على العالمين, ورضي الله -تبارك وتعالى- عن الصحابة الكرام، الذين اقتفوا نهج نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم ومن اتبعهم من السلف الصالح بإحسان، فكانوا خير دعاة إلى خير منهج، ونسأله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى أن يلحقنا بهم على طريق الدعوة الصحيح، وأن يجعلنا ممن يدعو إليه على بصيرة، فلا يدعو إلى غيره أبداً، ولا يدعو إليه على ضلالة أبداً. أما بعد: فموضوع منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ليس بالموضوع الهين، فإنه أمر جلل، والأمة الإسلامية اليوم، وهي تشهد صحوة وتوبة وأوبة إلى الله، وتشهد -في الوقت نفسه- مناهج وطرقاً مختلفة في الدعوة إلى الله هي أحوج ما تكون إلى معرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج الأنبياء الكرام في الدعوة إلى الله؛ فليس هناك منهج يقتدى به في الدعوة والعلم والعمل إلا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تبعه من الصحابة الكرام والسلف الصالح. ولا يصلح آخر هذا الأمة إلا بما صلح به أولها وبما أصلح أولها، فيجب أن نعي هذه الحقيقة وهذا البرهان الذي بينه الله في كتابه أجلى بيان، وليس في قدرة الإنسان أن يعرض عامة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله، فضلاً عن سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولكننا نأخذ من كتاب الله ما نص الله فيه نصاً على غاية الدعوة ومنهجها، وما طبقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان خلقه القرآن، والذي عمل بما أنزله الله عليه وبلغه غاية العمل والبلاغ. أولاً:- المنهج النبوي في الدعوة إلى الله:- إن الله تبارك وتعالى في الذكر الحكيم والقرآن المبين، الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله؛ ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، قد ذكر منهج الدعوة وحدده في آية واحدة موجزة من كتابه كاملاً غير منقوص، ولو تأملها كل الدعاة، ولو تدبرها كل من يقرأ كتاب الله؛ لما وُجِد هذا الاختلاف والافتراق في ساحة الدعوة إلى الله. ومن هنا نعرف قيمة القرآن، ونعرف قدر القرآن، ونعرف مدى تفريطنا في كتاب الله عز وجل. فإذا أردنا الهدى، والحق، والخير، فهو في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا نذهب ونتخبط في التجارب يميناً وشمالاً، والله في آية واحدة جامعة قد بيَّن لنا كيف ندعو إليه؛ وفي آية أخرى بيَّن لنا أساليب الدعوة وطرائقها. فكأن موضوع الدرس سيتركز على شرح هاتين الآيتين، وليتنا نستطيع أن نشرح هاتين الآيتين، فما بالكم ببقية الآيات والقصص، التي أنزلها الله وقصها علينا في الدعوة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! أما الآية الجامعة الأولى فهي قول الله في آخر سورة يوسف -عليه السلام-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فهذه الآية فيها منهج الدعوة كاملاً، وفيها غاية الدعوة، وفيها إشارة إلى الأسلوب الأمثل في الدعوة، على ما سنبينه إن شاء الله. وجوه قراءة الآية: وفي الآية وجهان، لا بد أن نبينهما قبل أن نشرع في بيان تفصيل الآية، لأن المعنى يترتب عليهما: الوجه الأول: أن تقرأ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] ثم تقول: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. والوجه الثاني في قراءتها تقرأها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] ففي كل وجه معنى يختلف عن المعنى الآخر على ما سنورده إن شاء الله تعالى. فالله يقول لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو إمام الدعاة، وهو الذي دعا إلى ربه خير دعوة، وبعث بأعم الرسالات وأكملها يقول له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: قل للناس جميعاً للمؤمنين والكافرين: {هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] والإشارة هنا للتعظيم وللفت الأنظار؛ أي هذه سبيلي وطريقتي ومنهجي، وهذا شأني، وهذا حالي، وهذا عملي، وهذا ديدني، وهذا شغلي الشاغل وهو أن أدعو إلى الله. ولو وقفنا عند كلمة أدعو، حيث كان شأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته كلها: الدعوة إلى الله، والجهاد من أجل الدعوة إلى الله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفسه: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له}. فالجهاد إنما هو من أجل الدعوة إلى الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} وليس هنالك من هدف آخر وكل هدف مشروع فهو تبع لهذا الهدف الأسمى (وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له). ففي أي بلد، وفي أي موضع، وفي أي وقت الجهاد إنما يكون لتحقيق هذا الهدف؛ قال سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] وهذه الآية بعد قوله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فجعل الله الإذن بالجهاد مرتبطاً بتلك الغاية، وهي: أن يقام الدين، وأن تقام الصلاة، وأن يؤمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر. فجهاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من أجل الدعوة، وحياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه وهو يعلمهم ما أنزل الله عليه من الكتاب والحكمة هي دعوة إلى الله؛ وما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقي المعلومات لتحفظ أو ليصبح الناس علماء، ولا كان الصحابة الكرام يتلقونها لمجرد أن يكونوا علماء أيضاً وإنما هي دعوة إلى الله، فما يأمرهم به من أمر كانوا يمتثلونه ويتقربون به إلى الله ويبلغونه إلى من خلفهم، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمرهم بأمر؛ فهو أتقاهم لله، وأول من يعمل به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكله من أجل الله ولذات الله. وكذلك حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع زوجاته الطيبات الطاهرات كانت دعوة إلى الله؛ لتتعلم الأمة كيف تعاشر أزواجها. ثانياً: حياته: وكذلك حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أعدائه، ومع جيرانه، ومع كل من عاشره كانت دعوة إلى الله؛ لنعرف كيف نحارب كما حارب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف نحب كما أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف نعامل المسلمين كما عاملهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فشأنه في كل حياته دعوة إلى الله، حتى وهو يمشي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فمشيته دعوة إلى الله، حتى كان الصحابة الكرام يعرفون أيهم أكثر شبهاً في هديه وسمته بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال عمرو بن ميمون الأودي: "إن ابن مسعود كان كذلك، ثم كان بعده حذيفة "، فكانوا يتشبهون به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هديه الظاهر، فما بالكم بهديه الباطن وإيمانه القلبي؟! هكذا كانت نظرتهم إليه، فقد بعثه الله لنا قدوة، وجعل لنا فيه أسوة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] وكل مؤمن من أتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو على حظ من ذلك، فليكثر أو يقل! فإذاً: حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها دعوة. {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والسلف الصالح؛ كانوا يدعون إلى الله وحده لا شريك له، ورحم الله الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب حين قال تعليقاً على هذه الآية، عندما أوردها في كتاب التوحيد، في باب الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله: وفي قوله: {إِلَى اللَّهِ}: ' التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً الناس لو دعا إلى الحق؛ فهو يدعو إلى نفسه ' -عافنا الله وإياكم- وهذا من أخطر الأمراض وأدقها، نسأل الله أن يعافينا وإياكم أجمعين من أمراض القلوب. فمرض القلب: أن يدعو الإنسان إلى غير الله، ويظن أن دعوته هي إلى الله، وإن كان لا يدعو إلا بالكتاب والسنة، ولكن مرض القلب هذا يأتي، فيوهن دعوته، ويوهن إيمانه؛ حتى تصبح كلماته مثل الهواء جوفاء لا معنى لها ولا قيمة؛ لأنها ليست إلى الله وليست خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وأما الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً ومنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ما دعوا إلا إلى الله؛ ولهذا نجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكلمه عمه، ويساومه قومه فقالوا له: {{إن كنت تريد الملك ملكناك، وإن كنت تريد الزوجة زوجناك، وإن كنت تريد المال أعطيناك}} فعرضوا عليه كل شيء؛ حتى عرضوا عليه أن يعبدوا إلهه سنة، ويعبد هوآلهتهم سنة، وكل ذلك ليصرفوه عن هدفه، وهو ل

من أسس منهج الدعوة إلى الله

من أسس منهج الدعوة إلى الله ومن لوازم ذلك ومما يبين ويدل على أن الدعوة إنما هي إلى الله: أولاً: أن تكون الموالاة والمعاداة في الله؛ فإذا إذا أحببت رجلاً؛ فلأنه أطاع الله، وعبد الله من أي بلد كان أو من أي لون كان أو على يد أي إنسان اهتدى؛ فإذا فعلت ذلك فأنت تدعو إلى الله بإذن الله. وأما إذا كنت تواليه لنفسك، أو تعاديه لنفسك، أو تحب أن تكون هدايته على يدك من أجل نفسك ومن أجل طائفتك، ومن أجل منهجك الذي ارتضيته أنت في الدعوة إلى الله، أو ما أشبه ذلك، مما يصرف الدعوة عن أن تكون إلى الله؛ فهذه الدعوة ليست لله. وعلامة ذلك: أن من يدعو إلى الله يذكر بالله، ويذكر بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ما تأتلف عليه القلوب وتجتمع عليه الأمة جميعاً، وأما من يدعو إلى غير الله؛ فإنه إنما يذكر بالرأي أو الإمام أو الشيخ أو المنهج الذي يرتضيه! فلهذا تجده دائماً يدعو إلى ذلك الشيء، ويثني عليه ويدندن حوله, ويتكلم به. فهذه علامة، وكل إنسان منا عليه أن يقيس قلبه وينظر إليه؛ فإن أول ما يجب لتصحيح مسار الدعوة إلى الله في العصر الحاضر، أن نتجرد جميعاً من كل غرض، وهوى، وهدف؛ إلى أن تكون دعوتنا إلى الله وحده لا شريك له. فالمحبة والموالاة والمعاداة لا تكون إلا في ذات الله ومن أجل الله. ثانياً ومن لوازم ذلك ونتائجه ألا يحرص الداعية على كثرة الأتباع. نحن نريد الهداية للناس جميعاً كما كان الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فكانوا يدعونهم إلى الحق الجلي الصحيح؛ فيقبله من يقبله، ويأباه من يأباه؛ وبهذا كانوا دعاةً إلى الله وحده. يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي ومعه الرهط أو الرهيط، ورأيت النبي وليس معه أحد} سبحان الله! أنبياء وليس معهم أحد! فهل الأنبياء لا يعرفون أسلوب الدعوة؟ لا. والعياذ بالله، بل هم أعلم الناس بأسلوب الدعوة إلى الله؛ ولكنهم دعوا إلى التوحيد؛ فرفضته القلوب الغافلة، ورفضته الأهواء؛ كما قال سبحانه عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وقال عنهم: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36]. فالأنبياء لم يساوموا قومهم ولم يداهنوهم ولم يتنازلوا لهم عن شيء؛ بل أعلنوها دعوة واضحة صريحة، كما أمر الله وكما يجب أن تكون. فَمَْن منَّ الله عليه بالإيمان كما أخبرنا الله عن بعض أتباع أنبيائه؛ فهؤلاء آمنوا ودخلوا في دين الله (في التوحيد)؛ فكانوا مؤمنين حقاً، ومنهم من أعرض فلا يبالي بهم الله وإن كثروا، ومن لم يتبعه أحد فلا شيء عليه ولا حرج عليه؛ المهم أن يلقى ربه يوم القيامة وقد بلغ رسالته وهذا هو ما قاله الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] أي: فإذا بلغت الحق كاملاً، وجاهدت في الله حق جهاده بالحكمة وبالموعظة الحسنة وبالمجادلة -على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله في آية سورة النحل- ولم يستجب لك أحد؛ فلا شيء عليك ولا حرج عليك، المهم ألا تتنازل وألا تتبع الأهواء من أجل أن يكثر الأتباع، وأن يتجمع الرعاع؛ فهذا ليس من منهج الدعوة إلى الله، ولا مما سلكه أنبياء الله. فإن رغبات الناس وشهواتهم وميولهم لا تتناهى ولا تحد. فبعض الناس -مثلاً- يقول: ادع إلى الله ونحن معك؛ لكن لا تتعرض لموضوع النساء والتبرج فهذا شيء لا نستطيع أن نلتزمه (نحن نتبعك ونصلي ونتعلم الخير ونتبرع ونبني المساجد، وفي كل شيء؛ لكن موضوع المرأة وألا نرى النساء ولا نجلس معهن؛ فهذا شيءٌ خاص؛ فنرجوك ألا تقترب من هذا الموضوع). والآخر يريد أن تدعو إلى الله وتتكلم عن الحجاب، وتنهى عن السفور والتبرج، وتحث على كل شيء؛ لكن لا تتعرض للربا؛ لأن الرجل صاحب بنك، فقل ما شئت إلا هذا الشيء. فإذا اتبعنا أهواء الناس ليكثر الأتباع ويتجمع الرعاع؛ فقد تركنا ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وللأسلوب تفاصيل ستأتي ولكن الأصل أن ندعو إلى دين الله كاملاً غير منقوص، وألا نبالي بنتيجة الدعوة، وألا نبالي بمن اتبع أو من لم يتبع. أما في الأسلوب فهذه وسيلة سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تبارك وتعالى. وتحقيقاً لكون دعوة الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- إلى الله، تجدون أنهم يصرحون لأقوامهم بذلك؛ فهذا نوح -عليه السلام- يقول لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:29]، ويقول هود عليه السلام: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [هود:51] ويقول الله للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ:47] وهكذا الأنبياء دائماً لا يبتغون مالاً، ولا أجراً، ولا يراعون مدحاً ولا ذماً؛ وإنما يريدون وجهه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يطاع الله ويتبع أمره. وعلى هذا المنهج سار الدعاة إلى الله بحق، فنشر الله دينه ونصره بأمثالهم ابتداءً من الصحابة الكرام، وانتهاءً بمن جدد الله به الدين من أئمة الدعوة المستقيمين؛ فليس هنالك غرض من أغراض الدنيا الفانية. أما بعض الدعاة -مع الأسف- لو عرض عليه منصب لترك الدعوة إلى الله، ولو عرض عليه مرتب ضخم لترك الدعوة إلى الله، ولو عرضت عليه قضية من قضايا الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ لسال لعابه وترك الدعوة إلى الله. فهذا لا يدعو إلى الله ولو كان يدعو إلى الله؛ لما رضي بدلاً عن دعوته بشيء من ذلك، وإنما هي دعوة إلى ما تحقق له، وهذا هو الذي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وفي أمثاله: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه}. وأول من يؤتى يوم القيامة -كما ثبت في الحديث الصحيح- بثلاثة: (القارئ المرائي- والمجاهد المرائي- والمنفق المرائي)، فيقال لكلٍ منهم: لم تعلمت؟ لم جاهدت؟ لم أنفقت؟ فيقول: من أجلك يا رب، فيقال له: كذبت؛ إنما فعلت ليقال: تعلمت، أو دعوت، أو قرأت، وليقال: داعية أو عالم؛ فلا يقبل منه ذلك، وكذلك المجاهد، وكذلك المنفق. فتحقيق الإخلاص: أن تكون الدعوة إلى الله، هو أعظم أمر يجب أن نعرفه جميعاً، فندعو إلى الله، لا إلى رأي ولا منهج ولا فكرة ولا طائفة ولا فرقة ولا مذهب ولا شيخ ولا إمام ولا أي مخلوق كائناً من كان، فالله لم يرض لنا أن ننتسب إلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ننتسب إلى غيره، فقال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78] فلو قال أحد: نحن محمديون، قلنا: لا! نحن مسلمون. فلا ننتسب حتى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ننتسب كما علمنا ربنا بقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] فنحن نسبتنا واسمنا وانتماؤنا إنما هي إلى الإسلام كما أنزله الله، وكما أمر الله؛ وهذا مما يحقق أن تكون الدعوة إلى الله. نعود إلى الآية فنقول: الوجه الأول: (أي: بالوقف) في قراءة الآية: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فيكون المعنى: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إلى الله، وأنه على بصيرة هو ومن اتبعه. والوجه الثاني من قراءة الآية: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] (بالوصل) فيكون المعنى: أن دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بصيرة هو ومن تبعه، وكلا المعنيين صحيح.

الدعوة إلى الله على بصيرة

الدعوة إلى الله على بصيرة قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي: ليست الدعوة إلى الله انفعالات ولا عواطف ولا صرخات ولا تأوهات؛ وإنما هي بصيرة؛ فيجب أن ندعو إلى الله على بصيرة. وقوله تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] أخرج الذين يدعون إلى غير الله؛ فبقي المخلصون الذين يدعون إلى الله، وهؤلاء حالهم بين من يدعو إلى الله على بصيرة، وبين من يدعو إلى الله على غير بصيرة (وكلاهما يدعو إلى الله). إذاً: لا بد أن نعرف هذا المعنى الثاني، الذي يخرج طائفة من طوائف الدعاة إلى الله، وهو (البصيرة في الدعوة) فما هي البصيرة؟

أولا: حقيقة البصيرة

أولا: حقيقة البصيرة أما البصيرة فهي كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن البصيرة هي أن يتعلم ويتفقه في الدين؛ حتى يصبح في قلبه من النور لرؤية الحق مثلما ترى العين المرئي". فالبصيرة أن يصبح قلبك يرى الحق مثلما ترى عينك الشيء المرئي، وهذه درجة عظيمة؛ فليس لكل إنسان أن يزعمها أو يدعيها؛ ولهذا فعند تفسير الحكمة، في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] يتبين لنا ذلك. فالبصيرة هذه لا تكون إلا بالعلم، وأساسها العلم، والبصيرة أيضاً تجمع صفات كثيرة، منها: الحكمة؛ فهي إن لم تكن مرادفة للحكمة؛ فهي تشمل معنى الحكمة؛ لأن الذي يدعو إلى الله إن دعا بالحكمة، أو بالموعظة، أو بالمجادلة، أو بالقتال؛ فكل ذلك -إذا كان على مثل ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا بد أن يكون على بصيرة؛ فتكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وإلى أي شيء تدعو. ألا ترون أن بعض الناس قد يدعون إلى فضائل الأعمال، وينسون الدعوة إلى التوحيد، فأين البصيرة؟! ألا ترون أن بعض الناس قد يدعو رجلاً قريباً من الخير فينفره فيبتعد عن الخير بالمرة، فأين البصيرة؟! ألا ترى أن إنساناً قد يدعو شخصاً إلى ترك منكر، فينتج عن دعوته حصول منكر أكبر، فأين البصيرة؟!

ثانيا: أهمية الدعوة إلى على بصيرة.

ثانياً: أهمية الدعوة إلى على بصيرة. فلو أن البصيرة موجودة، لحصلت النتائج الحسنة بإذن الله، أو قامت الحجة على من يريد الله أن يقيمها عليه من المعاندين والمستكبرين. لكن بعض الناس إن دعا إلى طلب العلم، فقد يدعو إليه على غير بصيرة، وإن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فقد يفعل ذلك على غير بصيرة، وقد يدعو إلى الجهاد في سبيل الله؛ ولكن على غير بصيرة، (إما إلى غير راية أو إلى راية عمِّية)، والمقصود: أنها على غير بصيرة. وحتى التوحيد فقد يدعو إلى توحيد الله، وإلى المنهج الصحيح الذي بعث الله به رسله، ولكن على غير بصيرة. إذاً: البصيرة أمرها عظيم، وأسأل الله أن يجعلنا وإخواننا المسلمين ممن آتاهم الله البصيرة والحكمة في الدعوة إليه، إنه على كل شيء قدير. فلابد إذاً من الأسلوب الحسن ومن العلم، ولابد من معرفة المصلحة من المفسدة؛ ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: "ليس الفقيه أو المتبحر الذي يقول هذا حلال وهذا حرام! -ومعرفة الحلال والحرام فقه عظيم ولا يستهان به- ولكن أفقه من ذلك والفقيه الكامل هو الذي يعرف أرجح المصلحتين وأقل المفسدتين. وكما نلاحظ في عصرنا الحاضر، فنحن اليوم في عصر غربة، انتشر فيه الفساد، وأهدرت المصالح. فلا بد من بصيرة في أي أمر من الأمور؛ لنعرف ما هو أرجح المصلحتين، وأقل المفسدتين، فإن كان أمامك مفسدتان، ولا بد أن تقع إحداهما، فتتجاوز الكبرى وترتكب الأخف، فهذه هي البصيرة، وهذا هو الفقه الذي نريد أن يكون عليه الدعاة إلى الله وطلاب العلم جميعاً. وهذا المنهج ليس خاصاً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قال الله في الآية: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أو معناها على الوجه الآخر: أنا ومن اتبعني ندعو إلى الله على بصيرة. فهذا أمر الله، ونحن أتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن ندعو إلى الله على بصيرة؛ فإذا دعا داعٍ إلى غير الله أو على غير بصيرة من الله، فهذا ليس متبعاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كلام الله: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فإن كنت من أتباعه، فلا بد أن تقتفي أثره في الدعوة إلى الله، بأن تكون دعوتنا على بصيرة، وأن نكون على بصيرة من أمرنا في تعلم كتاب ربنا وسنة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتفقه في الدين والصبر واليقين.

ثالثا: الصفات التي يجب أن تتحقق في أتباع الأنبياء حتى تكون لهم الإمامة في الدين

ثالثاً: الصفات التي يجب أن تتحقق في أتباع الأنبياء حتى تكون لهم الإمامة في الدين إن الله سبحانه جعل في أتباع الأنبياء الذين يدعون إلى الله صفتين؛ إذا تحققتا كان لهم الإمامة في الدين، يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فبالصبر واليقين؛ تتحقق الإمامة في الدين، ويتحقق اتباع المرسلين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين؛ فهم كانوا الغاية في الصبر، وكانوا الغاية في اليقين، وحسبكم أن تعلموا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفارقه الصبر واليقين في كل المواقف الصعبة التي مرت به (وهو طريد في الغار يطمئن صاحبه -وأثناء الهجرة يبشر سراقة بن مالك بسواري كسرى- وهو يحفر الخندق والخوف يحيط به من كل ناحية، فيضرب بالفأس ويقول: الله أكبر! الله أكبر! ويبشر أصحابه بملك كسرى وقيصر) فلم يفارقه اليقين والصبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبداً، وكان أصحابه مثلاً في الصبر واليقين، يقتدى بهم ويسترشد بطريقتهم، وكانوا خير حواريين لخير نبي. فباليقين وبالصبر وبالاتباع تتحق البصيرة، ونكون على المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

أهمية تنزيه الله في منهج الدعوة

أهمية تنزيه الله في منهج الدعوة ثم يقول الله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108] وكلنا نقول: سبحان الله؛ إما بعد الصلاة وإما نافلة؛ فهي من أفضل الذكر ومن الكلمات التي هي خير الكلمات وأفضلها بعد القرآن، نقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ولكن أين حقيقة هذه الكلمة من قلوبنا؟! وأين تحقيق كلمة سبحان الله في حياتنا؟! فليست هي كلمة تقال باللسان فقط، فالله لم يذكرها في آية الدعوة وفي منهج الدعوة لمجرد أنها قول باللسان؛ بل هي كلمة لها مدلولها العظيم والعميق، وخاصة عندما تأتي في منهج الدعوة إلى الله. فإن معنى الدعوة إلى الله، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حتى يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده لا شريك له}، فكل نبي جاء ليقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وكل الأنبياء جاءوا يدعون إلى التوحيد، والتوحيد هو تنزيه الله عن أن يكون له ند أو يعدل به أحد أو يسوى به أحد، في المحبة والإجلال والخوف والرغبة والرجاء والطاعة والإنابة والخشية وجميع أنواع العبادة. فسبحانه أن يكون له شريك، وسبحانه أن يكون له ولد، أو أن تكون له صاحبة، أو أن يكون له نظير، أو مثيل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذه هي غاية الدعوة إلى الله! أن ننزه الله سبحانه عن الشريك والنظير والند والمثيل. فمعنى سبحان الله أي: أنزه الله عما لا يليق به. فذكر التسبيح في مقام الدعوة وفي آية الدعوة أدل وأوقع ما يكون على أن الغرض من الدعوة هو أن ينزه الله عما لا يليق به. فلو عرفنا الله حق معرفته ما عصاه منا أحد أبداً؛ ولكن لما لم نقدر الله حق قدره، ولم نعرف الله حق معرفته؛ وقعت هذه المعاصي والذنوب وهذه المخالفات التي ضجَّت منها الأرض والسماوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. حقيقة التنزية: فأين تنزيه الله؟! كم من الناس من يشرك بالله ويدعو غير الله! وكم من الناس من ينبذ كتاب الله وراء ظهره، ويتحاكم إلى القوانين البشرية وإلى الطواغيت التي وضعها طواغيت البشر! وكم من الناس رفضوا سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبعوا آراء الرجال! وكم من الناس يعصون الله جهاراً نهاراً على علم ومعرفة بأن هذا حرام! فكل هؤلاء لم ينزهوا الله ولم يسبحوه، حتى لو كانوا ممن يقولون: (سبحان الله) ألف مرة في اليوم؛ لكنهم في الحقيقة لم ينزهوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وكذلك المعترضون على أقدار الله لم ينزهوا الله؛ إن وقع القدر وكان فيه خير لأحد من المسلمين؛ اعترض بعضهم على قدر الله لأنه لم يقع له، سبحان الله! فهذا الذي يعترض على قدر الله لا ينزه الله، فيقع الخلل في القدر كما وقع الخلل في التوحيد. وإن كان له الخير قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] أي: باجتهادي وجهدي -كما قال قارون وأمثاله- فأين تنزيه الله سبحانه؟! فهذا ملكه وهذا خلقه! وهذا المعترض ليس له من الأمر شيء، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] فليس لأحد الحق في أن يعترض على الله؛ ولهذا يقول الله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:159 - 160] فعباد الله المخلصون والمصطفون الأخيار، هم الذين ينزهون الله، فهم الذين يرتضون حكمه الشرعي ولا يخالفونه، ويرتضون حكمه القدري، ويصبرون عليه إن كان شراً، وإن كان خيراً حمدوا الله وأثنوا عليه، وردوا الأمر والفضل كله إلى الله، وأما ما يصفه به غيرهم فليس فيه تنزيه لله. فالدعوة التي لا يكون هدفها أن ينزه الله وأن يعرف الله وأن يقدر الله حق قدره ليست دعوة صحيحة سليمة، ولا خير فيها ولن تنتج مهما كثر الأتباع وتجمع الرعاع؛ فإن هذا ليس هو الأسلوب الصحيح ولا هو ما أمر الله به من المنهج الذي يرتضيه.

البراءة من المشركين أصل في منهج الدعوة

البراءة من المشركين أصل في منهج الدعوة وأما قوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فهنا أيضاً قاعدة عظيمة في هذه الآية يجب على كل مؤمن وبالأحرى على كل داعية أن يقف عندها: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فالمنهج الصحيح والمنهج النبوي في الدعوة إلى الله من ضرورياته وأصوله، البراءة من المشركين، فالمشركون لسنا منهم في شيء، حتى إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا تتراءى نارهما} فلا يرى المؤمن نار المشرك، ولا يرى المشرك نار المؤمن. فإذا كان هذا في جبل وهذا في جبل، ورأى أحدهما نار الآخر، فعلى المؤمن أن يذهب بناره بعيداً في جبل آخر؛ حتى لا يرى نار المشرك ولا يرى المشرك ناره، (فهذه المجانبة الحسية والمعنوية). {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] أي: في عبادتهم لغير الله، وفي تعظيمهم لغير الله، وفي اتباعهم لغير شرع الله، وفي استهزائهم بدين الله، وفي استهانتهم بأوامر الله. فلا أقول: إنني أدعو إلى الله؛ ثم أقف في صف أعداء الله! فهذا هو التناقض الذي ليس بعده تناقض؛ ولهذا فكل داعية يداهن المجرمين والملحدين والمشركين فقد أخرج نفسه من صفوف الدعاة الذين يدعون إلى الله على منهج أنبياء الله؛ وليسمِ نفسه بعد ذلك ما شاء. فالبراءة من المشركين حتى في أحوالهم الظاهرة، أو حتى في لباسهم المختص بهم، أو في مظهرهم المختص بهم، أو حتى في السفر إلى بلادهم، فلا يذهب المسلم إلى بلاد المشركين إلا لضرورة؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تتراءى نارهما} إلا لضرورة لا يمكن العدول عنها أبداً. فأهل التوحيد وأهل الشرك صنفان متمايزان وعدوان متحاربان، ولا يمكن أن يلتقيا. فالدعوة إلى التقريب بين الأديان وإلى الحوار بين الأديان، ليست من الدعوة إلى الله في شيء. فهؤلاء الذين يدعون إلى التقارب يريدون أن نتقارب مع من؟! مع عبدة الأبقار؟ أم مع عبدة العجل (اليهود)؟ أم مع عبدة عيسى وعبدة الصليب (النصارى)! مع من يكون التقارب؟! إن المنهج الرباني: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فهي البراءة الكاملة، التي لا التقاء معها. فالدعوة إلى الله لا تؤمن بهذه القضية أبداً، بل إن دعوتنا إلى التوحيد، وأعدى عدوٍ لنا هو: الشرك والمشركين. فالروافض وأصحاب الشرك وأصحاب الأضرحة والقبور من الصوفيين، وكل من خرج عن التوحيد وعبد غير الله، ودعا غير الله، وألحد وأشرك بالله؛ أنحن وإياهم نتقارب ونكون يداً واحدة ونتعاون؟! فعلى ماذا؟! ولماذا؟! وأين المنهج الرباني والنبوي: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]؟! فلا بد فيه من البراءة من الشرك وأهله كما فعل إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه وقومه؛ وإلا فلسنا دعاة إلى الله، ولا يتقارب ويواد المشركين إلا أحد رجلين، إما رجل لا يبالي بمنهج الدعوة إلى الله، سواء اتبع فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو اتبع شيخه أو قائده أو رأياً فكرياً. وإما: رجل جاهل لا يعرف أعداء الله، ويظن أنه إذا مد اليد لأعداء الله ووالاهم وتقارب معهم أنه لم يأتِ بشيء، ولم يخرج عن الملة القويمة، وينسى أن الله تعالى أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول حال الدعوة إليه: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فليتبرأ من الشرك كما تبرأ الخليل عليه السلام، وكما أمر الله نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] أي: فتبرأ من المشركين ولو لم يتبعك أحد. فلا مناصفة ولا التقاء في وسط الطريق بين المؤمن الموحد وبين المشرك المعاند، ولا يكون ذلك أبداً. فالله لما قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] قد بين (في هذه الآية) منهج الدعوة إلى الله، والأصول التي يجب أن تراعى، والأركان التي يجب أن تتحقق، لكي تكون الدعوة حقيقة، ولكي يكون المسلم من بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على منهجه في ذلك.

أساليب الدعوة إلى الله

أساليب الدعوة إلى الله وأما الآية الأخرى التي تبين منهج الدعوة؛ لكن فيما يتعلق بالأسلوب المتخذ في الدعوة، فهي قوله تبارك وتعالى في آخر سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فالله أمره هناك أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] وأن يبين للناس ما هي سبيله، وما هي طريقته، وما سبب خصومته مع أولئك البشر. وهنا يأمره الله أن يدعو إليه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [يوسف:108] نلاحظ أنه عند ذكر المنهج وذكر الأسلوب لا يتغير الهدف وهو الإخلاص، وأن يكون الأمر لله، ولكن لأن الكلام هنا عن الأسلوب فجاء السبيل أو الطريقة التي يسلكها الداعية، الذي نعبر عنه بكلمة الأسلوب، فنقول: أسلوب الدعوة، فأمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة. والناس بالنسبة إلى الحق وإلى اتباعه على ثلاثة أصناف:

الدعوة إلى الله بالحكمة

الدعوة إلى الله بالحكمة الصنف الأول: صنف مؤمن راغب في الحق، يريده ويحبه ويضحي من أجله ويجاهد في سبيله؛ فهؤلاء الذين أمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصبر نفسه معهم، فقال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] وهؤلاء هم الذين كان منهم الصحابة الكرام، وكان منهم أيضاً من كان في زمن نوح عليه السلام وهم من آمن به، فجاءه قومه، وقالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] وأصروا عليه أن يطردهم، فقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود:29]. فهؤلاء أمر الله وأرشد إلى أن نتخذ معهم في الدعوة (الحكمة) فهذا الإنسان هو في يدك تربيه وتدعوه وهو مستسلم مذعن للحق؛ فالحكمة تكون في تربيته ليأخذ الحق، كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- وغيره من السلف في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، قال: [[الرباني هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره]] فأي شخص تراه مقبلاً على الخير ومحباً له وراغباً فيه؛ فهذا لا بد أن تدعوه بالحكمة، وتكون بالرفق، والقوة معاً، والترغيب والترهيب. وكلمة الحكمة أعظم وأشمل من أن تحصى؛ ولهذا كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: الحكمة لم توصف بأنها حسنة؛ لأنها لا تكون إلا حسنة، فلو لم تكن حسنة ما سميت حكمة، حتى في كلام العرب إذا قيل هذا الشيء محكم أي: لا عيب فيه، وأحكمت الشيء: أي وضعته في الوضع الصحيح بلا عيب كما قال الله في حق القرآن العظيم: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] وحتى أن العرب تسمي الشيء الذي تجعله في اللجام لتضبط به الدابة بالحَكَمَة. فالأتباع الراغبون في الخير، المحبون للحق، تكون دعوتنا لهم بالحكمة، أي: بصغار العلم قبل كباره، وبالقدوة التي يرونها، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقد سئلت أم المؤمنين عن خلقه فقالت: {كان خلقه القرآن}. فأتباعه وأحبابه المؤمنون به يرون القرآن متمثلاً في خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيحبونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزكيهم ويربيهم ويسوسهم بأفضل وأرقى أنواع التعليم والتربية والتزكية والسياسة حتى يستقيموا على أمر الله وعلى دين الله. فلا تقل هذا راغب وهذا محب للحق؛ فتأمره وتنهاه وتشدد عليه بدون أي اهتمام ومراعاةٍ لأساليب التربية النبوية؛ فهذا قد يسبب له تخبطاً وإرباكاً؛ فهذا الأسلوب ليس من الحكمة. وإن كان راغباً، وإن كان محباً، وإن كان طالباً للحق، فلا بد معه من الحكمة.

الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة

الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة ثم الصنف الثاني: وهو من وقع في الغفلة؛ إما غفلة أصلية لازمة كغفلة المنافقين، فيكون غافلاً عن ذكر الله لا يريد الله ولا رسوله ولا الدار الآخرة؛ وإما غفلة تعرض للمؤمنين بسبب الشهوات، ونتيجة لحب الدنيا، ونتيجة لإغواء الشيطان. فعلاج هذا النوع الذي تعتريه الغفلة هو: الموعظة الحسنة، قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، فمثلاً رجل فاتح دكانه والصلاة تقام؛ فتقول له: يا أخي جزاك الله خيراً الصلاة! فهو يسمع جزاك الله خيراً ويتذكر، كما قال تعالى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فهو إنسان يحب الخير ويحب الحق ويرغب فيه؛ لكنه في غفلة عنه؛ فليس هو جاهلاً لكنه غافل. ونلاحظ أن الموعظة قيدت بالحسنة، أما الحكمة فلم تقيد؛ لأنه إذا كان التصرف غير سليم فليس من الحكمة أصلاً. لكن المواعظ نوعان: موعظة حسنة، وموعظة غير حسنة؛ فقد تقف وتقول: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولكن هذا الكلام في غير موضعه الصحيح، فتكون موعظة ولكنها ليست حسنة، وليست هي المنهج أو الأسلوب الذي أمر الله تبارك وتعالى به. إذاً: لا بد من الحكمة مع من يستحق الحكمة، ولا بد للغافل من الموعظة، حتى أن الله قال في حق المنافقين: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] وهذا من الموعظة التي يكون لها وقع وتأثير في النفوس، حتى تنزجر، لأنها نفوس مريضة أو ضعيفة الإيمان، وكما هو معلوم كان المنافقون منهم من هو صريح في الكفر المحض، ومنهم من كان مريضاً يتردد بين الكفر والإيمان، ومنهم من كان غافلاً أو ضعيف الإيمان؛ فهؤلاء تجدي وتنفع معهم الموعظة الحسنة والأسلوب الحسن، وهنا لا بد أن نقف عند قضية الحكمة والموعظة الحسنة. فكثيراً ما يساء فهم معنى الحكمة في الدعوة إلى الله؛ ولهذا تخبط الناس فأخذ بعض الناس بشق، وأخذ آخرون بشق آخر، فتفرقوا وفرقوا أمر الدعوة، وكانوا شيعاً. فالحكمة لا بد فيها من تحقق المصلحة وانتفاء المفسدة، والمصلحة قد تتحقق بالرفق واللين، فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غايةً في الرفق والرحمة واللين؛ حتى إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكان يأمر أصحابه بذلك ويقول: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا}. ولكن هنالك في الجانب الآخر مصلحة لا تتحقق إلا بالحزم والقوة والشدة، ومن أجل ذلك جعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أساليب الدعوة إلى الله الضرب، فقال: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر}. وبعض الناس يقول: (يا أخي الدعوة بالحكمة، والحكمة ألَّا تضربه). فإلى متى اللين؟ لا يمكن أن تُرَّبيه ثلاث سنوات بالدعوة وجانب اللين، ثم لا يصلي!! فهذا يكون ممن يستحق الضرب، ثلاث سنوات وهو لا يسمع الكلام، ثم لا يستحق الضرب بعدها! وخاصة أنها سن التوجيه لدى الطفل؛ فإذا لم يتوجه في ثلاث سنوات، إذاً فنفسه عاتية، ولا بد أن تزجر وأن يستأصل دافع الشر منها. ولا ينسى الإنسان جانب اللين والرفق والموعظة نهائياً، حتى يكبر الابن، ثم يأتي يضربه مباشرةً؛ فهنا يكون الخطأ، وليس الخطأ أنه استخدم الضرب، فالضرب أسلوب أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر به؛ ولكن الخطأ أنه استخدم جانباً فقط من جوانب الأسلوب الحسن، ومن جوانب الحكمة، فبعض الناس إذا ضُرب يصلي، وبعض الناس إذا أُمر وذُكِّر صلَّى؛ لأن بعض الناس يكفيه جانب من الحق؛ ولكن ليس كل الناس هكذا؛ فبعض الناس لا بد له من الأمرين معاً (الموعظة والتوجيه)، فإذا لم ينزجر (فالضرب). فإنسان تقول له: الصلاة! فقد أذن المؤذن، فتعال إلى الصلاة، فيستجيب لك، فهذا ينبغي أن تكون معه رفيقاً رقيقاً. أما الذي تكون المرة الثانية، والثالثة، والعاشرة، وأنت تدعوه وتنصحه، والرجل لا يبالي لا بأذان ولا بإقامة، ولا بصلاة حينئذٍ: إذا اتخذت معه الشدة، فمن الخطأ أن يقال عنك: هذا ليس عنده حكمة. فكل إنسان يعرف أن الصلاة واجبة، وهذا الرجل يسمع المؤذن يؤذن، والمسجد يمتلئ، وجيرانه يغلقون محلاتهم، فإذا جاء أحدٌ لينصحه قيل له: أين الرفق؟ وأين أسلوب الدعوة الصحيح؟. لا. هذا خطأ، فالدعوة الصحيحة والحكمة أن هذا لا بد أن يردع، وليس فقط مجرد التعهد، هذا أضعف مما شرعه الله فليس هناك (بعد التوحيد) أعظم من الصلاة؛ فإذا استهين بها بهذا الشكل المجاهر؛ فأسلوب الدعوة والحكمة في الدعوة هو أن يردع ردعاً زاجراً يرتدع به كل من سمع ذلك. فكل إنسان مثل هذا، إذا أراد أن تشرح له وتبين له، فالعشرات من الناس سيكونون هكذا. فلو أن كل واحد يفتح محله يريدك أن تلقي له محاضرة عن أهمية الصلاة؛ فليس هذا من الحكمة. وكذلك الزوجة، قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] فإن هذا من الحكمة وهو مما أنزل الله. إذاً لابد أن نعرف أن الحكمة هي تحقيق المصلحة والتزكية والتربية بغاية القوة مع غاية الرحمة. وهذه هي ميزتنا، فالجهاد في سبيل الله في غاية القوة، وقوة الأمة في الجهاد، وأشجع من حارب هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ لكنهم كانوا أرحم الناس. فكان يعلمهم ويقول: {لا تقتلوا المرأة، ولا الرجل الكبير، ولا الصغير، ولا أصحاب الصوامع ولا تحرقوا نخلاً، ولا تمثلوا} فكانوا في غاية القوة مع غاية الرحمة، إذاً فليست الدعوة مجرد جانب واحد؛ بل لا بد من الجانبين، وإن أنتجت الدعوة نتيجة استخدام جانب واحد؛ فهو لأنه جانب من الحق، وليس لأنه الحق كله، فبعضهم يقول: أنا جرَّبت فوجدت أن أسلوب اللين ممتاز؛ فقد استجاب لي عدد كبير فنقول له: هذا لأنك على جانب من الحق. والثاني يقول: لا أريد إلا القوة، فإذا قلت لأحدهم: هذا حرام وهذا شرك، خاف واتبع الحق فنقول له أيضاً: لأن هذا جانب من الحق، فأصبت أنت في هذا الجانب، وذاك في ذاك الجانب، لكن لو جمعتما الجانبين، لكانت النتائج أكبر وأعظم. ولهذا إذا نظرت إلى من خالفك، وإلى من نفر بسبب أسلوبك، أو نظرت إلى من لم يأت ويتبعك، لأنك لم تنتهج المنهج الذي أمر الله به، والذي كان عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فسترى أن الفارق كبير بين استخدام جانب واحد من الحكمة، وبين استخدام الجانبين.

الدعوة إلى الله بالمجادلة

الدعوة إلى الله بالمجادلة ثم الفقرة الثالثة من موضوعات الدعوة، ومن طرق الدعوة، وهي قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. فقد تقدم أن الأصناف ثلاثة. الأول: المقبل المؤمن الراغب المقتنع بالحق. والثاني: الغافل الذي يذكر بالحق. والثالث: وهو المعاند المحاجج المعرض، فالأسلوب الأمثل مع مثل هذا في الدعوة هو قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. فلم يقل بالجدل الحسن ولا بالمجادلة الحسنة؛ بل قال: (بالتي هي أحسن)، فالحكمة جاءت مجردة من أي وصف، وأما الموعظة فقد جاءت موصوفة بأنها حسنه، والجدال جاء موصوفاً بالتي هي أحسن. إذاً: هناك عبر ودقائق في كلام الله؛ فلا بد أن نتدبر كلام الله، وأن نتفطن له؛ فليس منه لفظة ولا كلمة إلا ولها مدلول. فقوله: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] لأن الجدال: الأصل فيه أنه لا يؤدي إلى ثمرة في الدعوة، لأنه لا يكون إلا بين متخاصمين متنافرين لا يقبل أحدهما من الآخر؛ ولهذا يكون بالتي هي أحسن، (ليس بالحسنة)؛ بل بالتي هي أحسن، أي: اختر أيسر الطرق وأفضل الطرق في البداية، وليس الطريق الحسن، وليس الطريق الصواب فقط، بل ما هو أفضل أنواع الصواب، وأفضل أنواع الحق. إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] والتي هي أحسن: درجة أعلى من مجرد أن تكون حسنة، وهي إشارة إلى الجدال الأمثل؛ فعندما نكون في حالة جدال، يكون الاحتياط أكثر، والتدقيق في العبارات وفي المواقف وفي كل شيء يكون أكثر وأشد؛ لأنك مع خصم، ومع معارض ومخالف؛ فإن جئت بلفظة أو كلمة أو تصرف قد لا تكون قصدته ولا أردته فإنه يحسبه عليك ويعرض، ويكون في ذلك فتنة وصدُّ عن سبيل الله دون أن تشعر؛ وهذا يقع كثيراً. فلا بد في منهج الدعوة من أن يكون الجدال بالتي هي أحسن، وهكذا فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هكذا فعل كل الدعاة إلى الله. والقرآن كله في الحقيقة من أوله إلى آخره، عندما يقص شأن المشركين ودعوتهم ويرد شبهاتهم؛ فهو من المجادلة بالتي هي أحسن. فتجد أنه يجادلهم ويبين لهم حقارة آلهتهم، وأنها لا تنفع ولا تضر ولا تغني، وأنها لا تقربهم إلى الله، وأنهم إن فعلوا ذلك فإن مصيرهم إلى النار؛ يذكرهم بما جرى للأمم قبلهم لما كفرت ولما عصت الله وما سلط الله تبارك وتعالى عليها من العذاب، ويذكرهم بنصره لعباده ولأنبيائه ولأوليائه الماضين؛ ليعتبر هؤلاء المخاطبون، فكل ذلك من نوع المجادلة بالتي هي أحسن وكما قال حبر الأمة عبد الله بن عباس: [[ما من شبهة يأتي بها مبتدع أو داعية أو ذو شبهة -إلى أن تقوم الساعة- إلا وجوابها في القرآن، علمه من علمه، وجهله من جهله]] ولهذا فأفضل أنواع المجادلة: هو أن تستخدم الأسلوب القرآني في الدعوة إلى الله. والجدال في أصله ليس المقصود به أن تجذب الناس إلى الحق وإلى الخير؛ بل هو لإقامة الحجة على المعاند؛ ولهذا صاحب المرحلة الثالثة، لو كان ممن نريد أن نجذبه إلى الحق والخير لكان حالنا معه هو الوعظ، أي: الموعظة الحسنة، لكن هذا المعارض المخالف المصر الجاحد، حالنا معه أن نقيم عليه الحجة، ولا نيأس من أن الله قد يهديه فيستجيب؛ ولهذا يكون بالتي هي أحسن طمعاً لعل الله أن يهديه؛ ولكن مع ذلك لا يجوز أن يغلب علينا الطمع، فنجعله منهجاً للدعوة. فإذا قابلت إنساناً وجادلته وحاججته؛ فاعرف أنك قد هدمت ما بينك وبينه من جسور، وغاية ما في الأمر -إن كنت موفقاً في الدعوة- أنك أقمت عليه الحجة فقط، وإن حصل غير ذلك فاحمد الله؛ لأن هذا من فضل الله، فهو بخلاف الأصل، وإلا فالرجل كان ممن يستحق الموعظة، وأنت أخطأت وجئته بالجدال ولكن الله فتح عليه، فاهتدى ورجع. أما لو كان فعلاً وحقاً لا ينفع معه الوعظ؛ ففي هذه الحالة لا يكون الجدال إلا إقامةً للحجة؛ ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبعث أصحابه الدعاة إلى ملوك الأرض ليجادلوهم، وهذه قاعدة كثير من الناس يخالفها، فتجدهم يقرءون في الكتب، ويتفقهون في بعض الأمور، وينتهجون مناهج في الدعوة؛ فإذا قلت لأحدهم: لماذا؟ قال لك: حتى نجادل أولئك الناس، وحتى نجادل الملحدين واليهود، النصارى. وهذا ليس هو المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله. فالمنهج الصحيح في الدعوة: أن نعرض الحق؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى ملوك الأرض بآيات بينات، وأرسل رسله مبلغين عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الله قد بعث رسولاً يدعو إلى الله وحده لا شريك له، فكان يبعث بالرسالة إلى أحد الملوك، فإن قرأها وآمن فالحمد لله، كما كتب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ هرقل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] فهذه آية كتبها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: فإن أردت الإسلام فأسلم، وإن لم ترد الإسلام فاشهد بأنا مسلمون، والأمر بيننا وبينك هو ما شرعه الله من الجهاد أو الجزية، فليست مناظرات أو مجادلات قلتم وقلنا فهذا ليس من منهج الدعوة، وإنما يكون ذلك إذا احتجنا إلى إقامة الحجة. حتى مع المشركين، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يطْمئن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الأمر ليس نقصاً في البينات، ولا خللاً في الدعوة، ولا قصوراً في الحجة؛ وإنما الأمر عناد واستكبار، فقال سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: فلا يقولوا: هذا عذاب جاء من عند الله، وقال سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا} [الأنعام:25]. فالمسألة ليست قضية آيات ولا حجج كما بين سبحانه في قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]. فلو أرسل الله لهم رسولاً وأيدَّه بجميع المعجزات، لقالوا كما في الآية: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15]. إذاً: فالذي ليس عنده استعداد لأن يؤمن؛ لن يؤمن مهما عرضت عليه من الحجة إلا أن يشاء الله؛ لأن مشيئة الله فوق كل شيء؛ لكن منهج الدعوة في هذه الحالة هو إقامة الحجة كما أقامها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مشركي قريش والعرب، وكما أقام نبي الله موسى الحجة على فرعون، فجادله ثم أراه الآيات التي أعطاه الله إياها آية بعد آيه، وهو يؤمن إذا اشتد عليه الوباء من الجراد والضفادع، والطوفان ثم إذا ذهب ذلك رجع وقومه إلى ما كانوا عليه من الكفر. فإذاً: يجب علينا أن نعرف أن المنهج الذي أمر به الله، والذي انتهجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسل الله صلوات الله وسلامه عليهم هو ما بيناه في الآيتين، سواءٌ ما تعلق بالأسلوب أو الغاية. فيجب علينا أن تكون حياتنا كلها دعوة، وأن تكون دعوتنا إلى الله وحده لا شريك له، وأن تكون على بصيرة وعلم وفقه وحكمة وتحقيق للمصلحة، وأن ننزه الله؛ فنجعل هدف الدعوة هو تنزيهه عن الند والنظير والشريك والمثيل، وأن نتبرأ من المشركين فلا نوادّهم أبداً. وأما في الأسلوب: فيجب أن ندعو بالحكمة مع ذلك الذي يحب الحق ويرغبه؛ لنربيه ونزكيه عليه؛ ومع الغافل ندعوه إلى الله بالموعظة الحسنة؛ فنذكره بربه فيعود ويؤوب إليه، ومع المعاند بالمجادلة بالتي هي أحسن؛ حتى تقام الحجة عليه؛ فنكون شهداء عليه بما أنزل الله، ويكون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيداً على هذه الأمة؛ لأنه قد بلَّغها. وبهذا نكون بإذن الله -تبارك وتعالى- قد دعونا إلى الله، وقد سلكنا المنهج الأمثل في الدعوة. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم ذلك، وأن يجعلنا من المقتدين بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمقتفين لنهجه ونهج أصحابه الكرام في دعوتنا وأمرنا ونهينا وعلمنا وجميع شئوننا، وأن يوفق الله -تبارك وتعالى- دعاة الإسلام جميعاً إلى أن يتوحدوا على كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويذروا التفرق والابتداع؛ وأخذ بعض الدين أو جانب منه وترك الجانب الآخر، إنه سميع مجيب الدعاء. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

أساليب الدعوة بين الاجتهاد والتوقيف

أساليب الدعوة بين الاجتهاد والتوقيف Q هل الدعوة إلى الله مقتصرة على هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه والسلف الصالح، أم كل أسلوب محبب إلى الناس ندعو عن طريقه إلى الله؟ A لا بد أن يكون كل أسلوب في الدعوة إلى الله موافقاً لما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان عليه السلف الصالح، أو ما أرشد إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أقره ولا تعارض بين أن يكون هنالك أساليب جديدة أو محببة ندعو بها إلى الله وبين أن يكون على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن اتباع منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله ليس مجرد أن نقول نفس الألفاظ التي قالها، أو نتصرف نفس التصرفات التي فعلها؛ وإنما نقتفي منهجه. فمن أمور الدعوة ما هو موسع فيه؛ فنحن أُمرنا بالبصيرة، وأُمرنا بالحكمة، وأُمرنا بالمجادلة، وهذه أمور موسعة؛ لأن الوقائع لا تنتهي، والزمان يتغير، والأحوال تختلف؛ ولكن في حدود ذلك المنهج المرسوم، فلا نتعداه ولا نخرج عنه؛ فنجدد ولكن في حدوده، ونغير ولكن في إطاره، ولا نخرج عن ذلك أبداً. فإذا جاء إنسان بمنهج فيه بدعة، قلنا له: هذا المنهج مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما فيه من البدعة، لا لأن فيه أسلوباً ما دعا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأن يكون هناك وسائل إعلام تختلف عما كانت عليه في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من صحافة أو إذاعة مثلاً، أو كأن يكون هناك نوع من تجمع الناس يختلف عما كان في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذه الأمور التي هي تبع للأزمان ولاختلافها تدور مع المصالح؛ ولهذا يسميها العلماء المصالح المرسلة؛ أما الصميم والهدف، حتى في الأسلوب أي: في الأساسيات، فلا خروج عما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحال من الأحوال، وليس تحبيب الناس هو الهدف؛ ولكن الهدف هو أن يقبلوا على الحق؛ سواء كان هذا بطريق يحبها الناس أم فيها بعض المشقة. فما دمنا منتهجين منهج الحكمة؛ فهذا -إن شاء الله- سيؤدي إلى ما نريد؛ أما منهج التحبيب أو التحبب؛ فكلمة عامة؛ فقد يتحبب بعض الناس إلى الناس بالتساهل بأمرٍ من الأمور، أو بالتظاهر بأنه لا يتمسك بالسنة كاملة ولا يطبقها؛ حتى يقول هؤلاء الناس: هذا يألف ويؤلف، وأمثال ذلك مما قد يكون فيه شيء من التنازل عن الحق.

ارتباط الجهاد بالدعوة

ارتباط الجهاد بالدعوة Q هل الجهاد في سبيل الله مرتبط بالدعوة إلى الله؟ أم أن هذين العملين الصالحين منفصلان؟ A إن الجهاد إنما يكون لأجل الدعوة، وهو أحد وسائل الدعوة، فإذا تجرد الجهاد عن ذلك، كأن كان الجهاد من أجل الأرض -عياذاً بالله- أو من أجل التسلط والحكم والتحكم، أو من أجل أي غرض آخر؛ فإنه يخرج عن صفة الجهاد الشرعية بمقدار ما يخرج عن المنهج الصحيح؛ وهو أن يكون لإعلاء كلمة الله، ولا يكون فيه غرض لذوات المجاهدين؛ فإذا كان الغرض لذات المجاهد، كأن يجاهد ليحكم -مثلاً- أو ليصبح زعيماً أو يجاهد ليحوز مالاً؛ فهذا الذي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه المجاهد المرائي، الذي يؤتى به يوم القيامة فيقال له: لم جاهدت؟ فيقول: فيك يا رب، فيقال: كذبت؛ إنما فعلت ليقال كذا وقد قيل، ويؤمر به فيسحب إلى النار. وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث القدسي عن ربه عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه} فحتى الجهاد -مع أنه تضحية بالنفس وتقديم لها- لا بد أن يكون خالصاً لوجه الله، ومن أجل توحيد الله، وإقامة دين الله ولا حظ للنفس فيه؛ وإلا فإن الشيوعيين والملحدين والقوميين وكل أنواع المجرمين في الأرض، يقاتلون ويقتلون من أجل المبادئ التي يدعون إليها، وكل أنواع المحتلين يقاتلون ليرفعوا الاحتلال عن بلادهم فإذاً: لا بد من الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وهدف الجهاد هو هدف الدعوة، فهو كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} فهو يدعو إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويجاهد من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له، ولهذا لا يرتبط الجهاد الذي هو جهاد الطلب وجهاد الدعوة، بأرض معينة، ويجب أن نفرق بين جهاد الدعوة والطلب، وجهاد الدفع. أما جهاد الطلب والدعوة فهو كما قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] فالمؤمن يجاهد في سبيل الله كما جاهد الصحابة الكرام في أي مكان؛ لإقامة دين الله ومن أجل الدعوة إلى الله. فلما ضاقت الحيلة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في مكة، هاجروا إلى المدينة؛ ففي أي بلد يمكن أن تقيم فيه دين الله، فلتكن دعوتك وليكن جهادك، ولا يرتبط بجهة معينة. أما جهاد الدفع: فهو إذا احتل الكفار بلداً من بلاد المسلمين وسيطروا عليه؛ فإنه يجب على أهل ذلك البلد أن ينفروا لدفعهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذا جهاد آخر غير جهاد الدعوة والطلب.

اختلاف أسلوب الدعوة بسبب اختلاف الأحوال

اختلاف أسلوب الدعوة بسبب اختلاف الأحوال Q كيف يدعو الإنسان في بيته، وبين والديه، وبين أقربائه، وفي مدرسته؟ A الدعوة لا تختلف في مكان عن مكان إلا بحسب اختلاف البيئة؛ فالهدف لا يختلف، والأسلوب لا يختلف؛ لكن من شخص إلى شخص ومن مكان إلى مكان تختلف الدعوة بحسب ذلك الإنسان؛ فدعوتك مع الوالدين، تختلف عن دعوتك مع غيرهما؛ لأن الوالدين لهما حق علينا؛ كما بين سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فلا يجوز الإعراض الكامل عنهما. فلو أن شاباً من الشباب أبوه من أهل الشرك والضلال والدعوة إلى البدع والشر والإجرام؛ فعلى هذا الشاب أن يدعوه وأن ينصحه، لكن مع ذلك لا بد أن يعاشره بالمعروف، كما قال سبحانه: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فلا جفوة كاملة؛ بل يظل يتودد ويتقرب إليه ويحسن عشرته ويعامله بالحسنى، ويدعو الله له، ويبذل كل وسيلة، حتى يهديه الله كما حرص إبراهيم الخليل -إمام الموحدين- على أن يهدي الله أباه، وكيف كان يدعو له كما بين القرآن الكريم. والزميل أو الجار يختلف عن أي إنسان عادي تقابله في مكان ما؛ فهذا الجار أو الزميل لا بد أن يكون هنالك من الحكمة ومن المداراة ومن سياسة الدعوة معه ما يختلف عن ذلك الذي التقيت به لقاءً عابراً قد يكفي فيه أن تبين له الحق بالهدوء والأسلوب الطيب، ثم تدعه يذهب كما يشاء. فالتفرقة في الدعوة لا تكون إلا بحسب الأحوال.

توجيه في أسلوب دعوة أهل البدع والضلال

توجيه في أسلوب دعوة أهل البدع والضلال Q لدي قريب يتعامل مع المشعوذين، فنصحته ولكن دون جدوى، فتركته ولم أزره ولم أدخل بيته. فما رأيك في ذلك؟ A إن التعامل مع الدجالين والمشعوذين من الظواهر السيئة، ومع الأسف فقد بدأت تنتشر؛ وليس ذلك إلا نتيجة لغياب الدعوة إلى العقيدة الصحيحة من وسائل الإعلام والمنابر الخاصة والعامة. فإذا قصرنا نحن الدعاة في دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة وبيان التوحيد وبيان الشرك وخطر الخرافات والبدع؛ فلا نستغرب أن يقع في الناس ما يقع. ولهذا كَثُرَ الذهاب إلى المشعوذين والدجالين مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسم هذا الأمر، فقال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد} لأن مما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] فلا يعلم الغيب إلا الله، أو من أطلعه الله -من رسله- على شيء من الغيب. فأمَّا الذي يذهب لا بقصد أنه يصدق الكاهن؛ لكن كما يفعل بعض الناس، يذهب إلى بلد من البلدان للسياحة؛ فيجد أُناساً يقرؤون الفنجان أويجد سحرة؛ ومن جملة السياحة في تلك البلاد، أنه يذهب إليهم، ويعرض لهم مشكلته، ويعطيهم مبلغاً من المال على سبيل الاستهزاء ولا يبالي بأي جواب يقولونه فهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} فأعظم الأعمال وأزكاها عند الله -إذا حسنت وصلحت- هي الصلة بين العبد وبين الله، تنقطع أربعين يوماً إذا ذهبت إلى أي كاهن وما صدقته ولا اعتقدت صدقه، إنما من أجل الفرجة أو السياحة أو لتنظر ماذا يقول؛ فيأتي إلى الكاهن إنسانٌ جاهل ويصدقه؛ فإذا قلت له: لماذا ذهبت إلى الكاهن وصدقته؟ قال لك: رأيت فلاناً يذهب إليه. فنيتك أنت لا يدري بها الناس وهكذا؛ فتكون أنت ممن كَثَّرَ سواد أهل الشر. وأقول لصاحب السؤال: لا تهجره، وزره وانصحه ونوّع في النصيحة؛ وإن رأيت أنها لا تجدي معه نصيحتك؛ فأرسل إليه من ينفعه الله بنصيحته كأي إنسان مستقيم أو صاحب خير، كقريبٍ لك يعرفه ويثق فيه. المهم أن تبذل الوسيلة؛ فإن بذلت وعجزت فإن ابن نوح عليه السلام كفر، وامرأة لوط عليه السلام كفرت، وأبا إبراهيم عليه السلام كفر، وعم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر؛ وقال تعالى: {ِإنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. فتجتهد في الدعوة وتصبر، والعاقبة للمتقين، والهداية من الله رب العالمين.

علاقة الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

علاقة الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q هل الدعوة والتبليغ هي نفسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى "هل هما أمران متلازمان لا يفترقان" أم أن هناك فرق بينهما؟ A هما متلازمان، أو نقول: بينهما عموم وخصوص، فالدعوة إلى الله، كما قال الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فكل عمل عمله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة إلى الله، فإن أمر بالمعروف فقد دعا إلى الله، وإن نهى عن المنكر فقد دعا إلى الله، وإن جاهد فقد دعا إلى الله، وإن علم الناس العلم فقد دعا إلى الله، وهكذا كل ذلك دعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم عظيمٌ من سهام الإسلام، وهو شعار هذه الأمة كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فأية دعوة لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، فقد أخرجت نفسها عن الخيرية التي جعلها الله في هذه الأمة واختصها بها، ولهذا قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] فلما لم يتناهوا عن المنكر لعنوا، وهذا الأمة لما كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كانت خير أمة أخرجت للناس. فلا بد في الدعوة إلى الله من ذلك، فالمنكر الأكبر هو الشرك، والأنبياء جميعاً إنما جاءوا يدعون إلى التوحيد، ونبذ الشرك، فالمعروف الأكبر هو: التوحيد، والمنكر الأكبر هو: الشرك؛ فالذي يدعو إلى الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ ثم بعد ذلك تأتى الكبائر من زنا وربا وتبرج وفواحش، ما ظهر منها وما بطن، والفواحش الباطنة مثل: الغفلة والقسوة وعدم الإيمان الصادق بالله والغش للمسلمين والحقد عليهم والأعمال القلبية الباطنية التي هي من الكبائر كالحسد والشح، فكل هذه الأعمال القلبية من الكبائر وإن كانت قلبية؛ ولكن لا بد أن يظهر أثرها على صاحبها عافنا الله وإياكم منها.

المعيار الذي تقاس به الجماعات الإسلامية

المعيار الذي تقاس به الجماعات الإسلامية Q بعض الجماعات في الدعوة، هل هي على منهج الأنبياء أم على غير ذلك؟ A نحن لا نريد أن نقول فلان وفلان؛ بل نبين منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، والمخالفون لا يتناهى عددهم في كل زمان ومكان، ولكن الحق واحد؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] فالسبل كثيرة لا نهاية لها، لكن الحق واحد وواضح؛ فاحرص على أن تعرف الحق، فإذا عرفته فاجعله معياراً تقيس به جميع الناس وجميع الأحوال.

حكم الرغبة في كثرة المستجيبين للدعوة

حكم الرغبة في كثرة المستجيبين للدعوة Q إذا كان الأخ له جماعة في المسجد، أو في البيت يذكرهم بالله، ويتذاكرون في كتاب الله والدعوة إلى الله ويحب أن يكثروا، فهل هذا يدخل في قولكم لا يحرص الداعي على كثرة الأتباع؟ A حتى لا يُفهم الكلام خطأً، أقول: إننا نحب أن كل المسلمين يأتون إلى الصلاة في المسجد، وإذا قام واعظ يعظ فإنه يحب أن كل الناس يجلسون ويستمعون إليه. إذاً فالداعية إلى الله سواءٌ كان مدرساً في مدرسته، أو إماماً في مسجد، أو داعية في جماعته أو في قبيلته، كل من يدعو إلى الله على بصيرة وبالأسلوب الأمثل؛ هذا لا شك أنه يحرص على أن يستجيب له أكبر عدد، وهذا يحمد عليه؛ ولكن الذي تحدثنا عنه بأنه مذموم هو أنه من أجل الكثرة يراعي جانب الناس وجانب الاستكثار منهم؛ فيتهاون ويداهن ويجامل في شيء مما شرعه الله. فالمذموم هو المداهنة والمجاملة في أمر من أمور الدين؛ أما أن الإنسان يريد الخير لكل الناس، فنحن نطمع ونرجو ونتمنى أن يدخل اليهود في الإسلام، وأن يدخل عُبَّاد الأبقار في الإسلام، بل ونحرص على ذلك، ويجب أن نبذل الجهود لذلك، لكن لا نتنازل عن ديننا، ولا نلتقي معهم في منتصف الطريق، فنقرهم على كفرهم وعلى إلحادهم وعلى ضلالهم؛ فهذه مسألة، وتلك مسألة أخرى.

حكم التحذير من كتب أهل البدع

حكم التحذير من كتب أهل البدع Q بعض الناس يقولون لا تحذروا الناس من المبتدعين ومن كتب المبتدعة، وأن هذا ليس بأسلوب دعوة، فما قولكم في ذلك؟ A أما أسلوب الدعوة فقد جعل الله من أساسياته: تنزيه الله والبراءة من المشركين وكل الأنبياء ما أتوا إلى أممهم إلا ليقولوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. فالتحذير من كتب البدع والضلالة هو أوجب من التحذير من الزنا والربا وشرب الخمر والمخدرات وأمثالها من الجرائم؛ لأن المعاصي درجات، وأعظم المعاصي وأعلاها وأشدها هو الشرك والكفر بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ثم يلي ذلك الابتداع في الدين؛ ثم يلي ذلك الكبائر. ولهذا فأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتلوا الخوارج؛ بل هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أمر بقتالهم وأخبر عن ذلك؛ ففرح الصحابة -رضي الله عنهم- لما كان ذلك على أيديهم لما سمعوا من بشرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قال: {خير قتيل من قتلوه} وحين قال عنهم: {هم شر قتلى تحت أديم السماء} وغير ذلك مما وردت فيه أخبار الخوارج، وهي ثابتة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة الكرام، ولم يقل الصحابة شيئاً من ذلك إلا عن علم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه من أمر الغيب. فالصحابة الكرام قاتلوا الخوارج لأنهم ابتدعوا في الدين، فكيف نتهاون مع أهل البدع ومع كتب البدع؟! والصحابة -رضي الله عنهم- توعدوا القدرية الذين ابتدعوا في القدر فقط، وهو جانب واحد من جوانب العقيدة، وليس هو جانب الشرك، بل إن البدعة في القدر قصد أصحابها هو المحافظة على التوحيد. فأنكروا القدر حتى لا يحتج العصاة به، فيقولون: قدر الله، ويفعلون المعاصي. فكان قصدهم زيادة تمسك الناس بالأمر والنهي، ومع ذلك يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: [[لو أمكنني الله من أحدهم لدققت عنقه]] وكان قد كبر سنه وعمي، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنه- لما بلّغة بعض التابعين عن القدرية الذين ظهروا في البصرة، قال: [[أبلغوهم أنني منهم براء وأنهم مني براء]] فتبرأ منهم رحمه الله، ثم بيَّن أنه لا يقبل لهم عمل؛ ولو أنَّ أحدهم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً لم يُقبل منه حتى يُؤمن بالقدر، ثم ذكر لهم حديث جبريل الذي رواه عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فانظروا كيف وقف الصحابة الكرام من أهل البدع ومن أهل الضلال! وانظروا إلى تهاوننا معهم الذي أدَّى إلى أن تُباع كتب الدجالين وتوزع والله المستعان، وهذا من أسباب تفرق المسلمين، ومن أسباب تقهقرهم!! لأن المؤمنين وخاصة من الشباب المقبلين على الدين؛ لو لم يروا إلا طريقاً واحداً لاتبعوه. فعندما يترك أحدهم المخدرات والخمر والزنا، ويحافظ على الصلاة؛ ويريد الهداية، فيجد طرقاً كثيرة؛ فإنه يحتار أيها يتبع؛ فقد يقع في أحد سبل الضلال، فيخرج إلى الشر؛ بل قد يكون قد خرج من كبائر وجرائم وفواحش، فيقع في البدع ثم في الشرك عياذاً بالله؛ فيكون حاله قبل أن يعرف هؤلاء القوم ويقرأ كتبهم أهون وأخف من حاله بعد ذلك. نسأل الله أن يعافي هذه الأمة وأن يقيها شر هؤلاء المبتدعة.

حكم مخالطة أهل المعاصي

حكم مخالطة أهل المعاصي Q إذا جلست عند جماعة ودعوتهم إلى صلاة الجماعة، ولكنهم رفضوا الذهاب إلى المسجد؛ لأنهم مشغولون بلهو كالنظر في مباراة كرة القدم في تلفاز أو ورقة لعب، ثم صلوا جماعة في مجلسهم؛ فهل يجوز أن أرجع إليهم وأجالسهم وأتحدث معهم، أم أعتزلهم نهائياً؟ A كِلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلا تكون الجفوة النهائية ولا ينبغي هذا، وخاصة إذا كانوا زملاء أو أقرباء، والاحتكاك بينك وبينهم وارد، ولا ينبغي أيضاً أن ترجع إليهم -وكأنهم لم يفعلوا أي شيء- فتجلس معهم؛ بل لا بد أن تنكر عليهم وأن تحثهم على الذهاب إلى المسجد؛ ثم تعيد لهم الكَّرة بعد رجوعك إليهم؛ ثم تبين لهم الخسارة التي لحقت بهم؛ لأنهم صلوا هنا ولم يصلوا في المسجد، وتبين لهم حكم صلاة الجماعة، وتذكر لهم أحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي توعد فيها المتخلفين عن صلاة الجماعة. فصلاة الجماعة أمرها خطير لا كما يقول بعض الناس: صلاة الجماعة سنة، أو فرض كفاية، وأضرب لكم مثالاً من الواقع؛ حتى تعرفوا أهمية صلاة الجماعة: في بعض الدول التي ينتشر فيها مذهب من المذاهب التي تقول: إن صلاة الجماعة سنة، تهاون الناس بالأذان وصلاة الجماعة، وحتى المساجد لم يعد لها ذلك الوقع والاهتمام -كما حصل في تركستان والأندلس وغيرها- فجاء أعداء الله إلى هذا البلد، فهدموا المساجد، ومزقو المصاحف، -وأكثر الناس لا يعلم ذلك فانقطع الأذان في المسجد، وأكثر الناس لا يهتم لذلك؛ لأن الأصل عندهم أن صلاة الجماعة سنة. لكن الأمة التي تعرف أهمية صلاة الجماعة وأهمية المسجد، لو جاءت في يوم من الأيام والمؤذن قد أضاع المفتاح؛ تجدها تتعجب لماذا المسجد مغلق؟! ولماذا لم نُصلِّ اليوم؟! فهذه أحست أن هناك شيئاً فُقد، وهو أنهم لم يصلوا في المسجد. فتجد أنهم يبذلون كل جهدهم ليبنوا مسجداً أو ليوسعوا مسجداً، ويهتمون به وبنظافته وبإمامته وبكل شيء؛ وذلك لأنهم يقدرون أهمية المسجد وأهمية صلاة الجماعة؛ ولهذا اقتطعت أطراف بلاد الإسلام التي تهاونت بصلاة الجماعة وبسهولة؛ لأن الناس لا يجمعهم جامع ولا تربطهم رابطة؛ ولأن شعائر الإسلام الظاهرة محيت رويداً رويداً حتى اضمحلت نسأل الله العفو والعافية.

من أسباب ضعف الإيمان وعلاجه

من أسباب ضعف الإيمان وعلاجه Q عندما أكون في حلقة ذكر أو خطبة، أحس بعلو الإيمان، وبالحماس للدعوة، وعندما أخرج من مكان الذكر، أحس بنقص كبير وكسل. فما الدواء؟ A هذا ما شكاه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم لبعض، ثم شكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فنحن نحتاج دائماً إلى التذكير والمناصحة، فالقلوب لا تثبت على حال ولو أنها تثبت على حال واحد؛ لاجتهد الإنسان يوماً من الدهر أو أسبوعاً أو شهراً وعبأ هذا القلب إيماناً ويقيناً؛ ثم انطلق وهو آمن مطمئن. ولكن الحقيقة أنك ما بين لحظة ولحظة، ويوم ويوم، وفريضة وفريضة؛ ترى التغير وتحس النقص في قلبك؛ ولهذا لا بد من التعاهد، ولا نيأس ولا نقنط إذا حصل لنا هذا -كما أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه ألا ييأسوا ولا يقنطوا- فهذا أمر نسبي؛ لكن لا بد من التذاكر والتناصح، واتخاذ كل الوسائل لتقوية الإيمان من ذكرٍ لله وقراءةٍ للقرآن وزيارةٍ للمقابر وتذكر لأحوال الناس الذين مضوا إلى ربهم عز وجل، وكل ما من شأنه أن يجعل هذا القلب ليناً مطمئناً بذكر الله نسأل الله أن يجعل قلوبنا جميعاً كذلك!

حكم الإنكار على أهل البدع

حكم الإنكار على أهل البدع Q أليس من الدعوة أن ننكر على أهل البدع بدعهم، إذا كانت الاستطاعة موجودة؟ وهذه البدع منها الاجتماع على قراءة القرآن في بيت الجنازة، وكذلك ما يقومون به قبل الدفن من السير به خطوات معدودة وهم يحملون الجنازة على أكتافهم، ويزعمون أن السير بها هكذا وعلى ثلاث منازل فيها أجر عظيم، وأيضاً وضع ورق شجر سدر تحت العيون أثناء إجراء الكفن، ووضع أشجار حشيش أو برسيم عند وضعه في القبر، فما حكم الشرع في كل ذلك؟ A بلى! هذا من الدعوة وهذا مما يجب علينا، ولا يجوز أن نسكت على ذلك، إنما نحاول بما نستطيع وبالأسلوب الأمثل أن ننكر. فما يقع عند الموت من هذه التختيمات وبدع الجنائز، مثله مثل كثير من البدع، وهو مما لا يجوز أن يقرَّ في المجتمع، وإن لم يمكن إلا الأخذ على أيديهم بالقوة، فلا بد أن تبلغ الجهات المختصة بذلك، ثم تتخذ منهم الموقف الصحيح بالقوة أيضاً، وإذا كان الإنسان له ولاية على شيء من هذه الأمور؛ فلا بد أن يغيرها باليد، كما لو كانت الجنازة لابنه أو لزوجته أو لمن يستطيع أن ينكر عليهم، أو كان الاجتماع في بيت أحد ممن يستطيع أن ينكر عليهم ويغير باليد، فلا يجوز له أن ينتقل إلى التغيير باللسان، إلا بعد أن يبذل جهده للإنكار والتغيير باليد.

كيفية دعوة أصحاب المناصب والعوام

كيفية دعوة أصحاب المناصب والعوام Q كيف ندعو أصحاب المناصب، أو المتكبرين إلى الله؟ وكيف ندعو العوام إلى الله؟ A لا يوجد فرق من حيث أهداف الدعوة؛ وإنما الفرق أن صاحب الموكب الكبير أو صاحب الشأن أو صاحب المال، ينبغي أن يُدعى بما لا يشعر أن فيه احتقاراً له؛ لأن غرور الدنيا والمنصب والمال، وكثرة النفاق والمنافقين يجعله دائماً يشعر أنه فوق الناس. فإذا جاءه داعية ودعاه إلى الله وخاطبه بأي خطاب؛ فإنه ينفر؛ فالإنسان المؤمن المسلم الذي فيه معاصي وفيه تقصير، ينبغي أن يخاطب بالحسنى وبما يليق بمثله، ويذكر بالله، ويؤتى له من الباب الذي يقتنع به؛ فإن كان صاحب منصب فيذكر بنعمة الله عليه بهذا المنصب، وأنه إذا اتقى الله فسيهتدي من تحت إدارته أو سلطته؛ وإن كان صاحب مال يذكر بنعمة الله عليه بهذا المال، وأنه لو أنفقه في سبيل الله فسوف يحصل له الخير، وهكذا أما العوام فلهم أسلوبهم وهو: الرفق بهم، وأن نأخذهم بالأسلوب الحسن؛ لأنهم أشبه بالقطيع من الدواب -وأكثر الناس هذا حاله- ولهذا فأهل البدع يحتوشونهم ويجتالونهم بمثل هذا الأسلوب. فلا بد أن نخاطب كل واحد منهم بما يناسبه مع أننا في الحالين نخاطبهم من منطلق أصول الدعوة وأساسياتها، والأهم فالأهم، فلا نتساهل ولا نتهاون ولا نقدم غير الأهم على الأهم.

حيلة شيطانية لصرف الدعاة عن الدعوة إلى الله

حيلة شيطانية لصرف الدعاة عن الدعوة إلى الله Q أريد أن أكون داعية إلى الله، وأن أكون خطيباً وواعظاً في المساجد، ولكن يوسوس الشيطان لي، وأحس ضعفاً من ناحية الإخلاص، فما الحل؟ A توكل على الله، فالشيطان يقول: لو دعوت إلى الله فربما لا تخلص؛ فهذا مثلما لو جاءك الشيطان وقال: إن صليت فقد ترائي في الصلاة، إذاً: لا تصلِّ فهل تطيعه؟ قطعاً لن تطيعه، وهذه هي نفس تلك، والشيطان له أساليب. فهذا الخبيث والعدو اللدود -من عهد آدم إلى اليوم- عنده هذه الخبرة الطويلة، وعنده هذا التمكين الذي أعطاه الله إياه؛ فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويوسوس له، وكل هذا التمكين يسخره من أجل الإغواء. فيأتي إلى أحدنا فيقول له: أنت افعل الفواحش والموبقات، ولا تُصلِّ ولا تصم، ويطمئن إلى جانبه، ويأتي إلى الآخر ويقول له: اجتهد في الإخلاص وفي ترك الرياء، واجتهد في كذا؛ لأنك مراءٍ، فلا تحبط عملك؛ فإذا أقره واستيقن بذلك، قال لك: لا تقم وتدعو إلى الله؛ لأنك لو دعوت فسيكون ذلك من الرياء، ولا تظهر طاعة من الطاعات أمام الناس -وهي من الطاعات التي أمر الله أن تظهر- لأن هذا قد يكون فيه الرياء! فيمنعه من الدعوة إلى الله؛ بل ويخرجه عن الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. فإياك وهذا العدو، وتوكل على الله، وجاهد نفسك على الدعوة، وجاهدها أيضاً على الإخلاص في الدعوة، فحياتنا كلها جهاد.

حكم الدعوة إلى الله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة

حكم الدعوة إلى الله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة Q هل الذين يدعون إلى الله سبحانه بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، موافقون لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ A كيف يكونون موافقين، وقد قال الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]؟! فليس من البصيرة الدعوة إلى الله بالجهل، أو بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}، وفي رواية: {من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار} وقال: {ومن حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَين أو الكاذبِين}. فلا يجوز أن تدعو إلى الله بأحاديث لا تعرف صحتها، أو قصص وحكايات مما هب ودب؛ ففي كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العبر والمواعظ والقصص ما يغنينا. فالصحابة الكرام اتعظوا موعظة كبرى -كما في الحديث الصحيح- لما أنزل الله عليهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8] وما أعظمها من موعظة؛ فنحن نسمعها ونقرأها؛ ولكن أين هذه القلوب من تلك القلوب؟ وكم في القرآن والأحاديث الصحيحة من مواعظ عظيمة! أفنترك هذا ونأتي بأحاديث مختلفة أو واهية وقصص وحكايات لا أصل لها؟! فهذا لا يجوز، وليس من منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله.

العلاقة بين صحة المقصد وصحة الأسلوب

العلاقة بين صحة المقصد وصحة الأسلوب Q كيف تكون الدعوة إلى التوحيد -في بعض الأحيان- على غير بصيرة؟ A هذا قد يكون؛ لأن صحة المقصد لا تعني صحة الأسلوب. فقد يكون هناك إنسان يدعو إلى توحيد الألوهية والعبادة، وإلى توحيد الأسماء والصفات؛ لكنه على غير بصيرة، ولا يدري ما الفرق -مثلاً- بين ما يخرج من الملة وما لا يخرج من الملة، ولا يدري ما هو الأسلوب الأمثل في الدعوة إلى الله، وأين يضع الحكمة، وأين يضع الموعظة الحسنة، وأين يضع المجادلة بالتي هي أحسن، وقد يكون جاهلاً بحال المدعو، فيكلمه عن التوحيد من أحد جوانبه، وهذا المدعو واقع في شرك آخر؛ فحتى الدعوة إلى التوحيد لا بد أن تكون على بصيرة، والله تبارك وتعالى قال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] وهذا هو توحيد الله، وقال أيضاً: {عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] مع أنها إلى الله، فلا بد أن تكون على بصيرة.

كيفية تجديد العزيمة والإيمان

كيفية تجديد العزيمة والإيمان Q في بداية الهداية كنت أدعو إلى الله بقوة، ولا أخاف أحداً، وبعد سنة أو أقل قل عزمي؛ حتى أني لم أعد أقوم لصلاة الفجر في بعض الأحيان، فماذا أفعل حتى أستعيد القوة في ديني؟ A هذا الحال كحالنا جميعاً، تعترينا القوة ويعترينا الضعف والمرض، ولا بد أن نقوي إيماننا. فعليك بتلاوة كتاب الله عز وجل، وأن تجلس مع أهل الخير الذين يقربونك من الله، وأن تحرص على أن يوجهوك، وأن يدعوك، وأن يوقظوك، واحرص على مجاورتهم، أو السكن معهم؛ لأن هؤلاء هم خير عون لك على هذا الشأن، ولا تيأس أيضاً، فقد يكون في بعض التراخي خير من جهة أن الإنسان يجدد العزم والهمة مرة ثانية، ويراجع تلك الهمة وتلك العزيمة وتلك القوة؛ فربما أنها لم تكن على بصيرة؛ لأن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فبعض الناس في بداية الدعوة، وأول ما يهتدي يندفع اندفاعاً شديداً، وبعد ذلك تكون له فترة، وهنا يكون الافتراق، إما أن تكون الفترة إلى السنة، فيرجع من الاندفاع إلى الاقتصار والاعتدال كما هي السنة؛ وإما أن يرجع إلى المروق -والعياذ بالله- أو إلى بدعة من البدع؛ وهذا يخرج عن الطريق المستقيم، وهذا ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المقام.

حكم قول المدعو: التقوى هاهنا

حكم قول المدعو: التقوى هاهنا Q كيف أفعل إذا أردت أن أدعو؟ فبعض الناس يقول: التقوى في القلب، التقوى هاهنا؟ A صحيح أن التقوى في القلب، وهذا ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الحديث الصحيح: {وأشار إلى صدره ثلاثاً} ولكن ما معنى ذلك؟ كثيراً ما انعكست المفاهيم في حياة الأمة؛ حتى أصبحوا يضعون الشيء في غير موضعه. ففي الحديث ينبهنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عدم الاكتفاء بالموافقة الظاهرة، وأنه لا بد من الخشوع الباطن، ولا بد من الانقياد الباطن؛ فأصل كل انقياد وإذعان وإنابة وإخبات ويقين وتوكل وصبر هو القلب؛ لأنه الذي يرشدنا إلى ذلك، وأما نحن فنعكس ذلك ونجعل ظاهرنا فاسداً؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول التقوى في القلب، وهذا عكس ما أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من التلاعب ومن التحريف. وقد يدخل فيما أخبر عن اليهود بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه؛ بل أمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلح ظاهرنا وباطننا، وأن نهتم بالباطن؛ فقد يقف الإنسان في الصلاة وقفة الخاشع المنيب والقلب لا خشوع فيه؛ فيقال له: إنما الخشوع خشوع القلب. لكن كإنسان معرض لا يريد أن يصلي أو أن يعبد الله، ويقول: التقوى هاهنا ويذهب فنقول له: أين أثرها؟ وأين حقيقتها؟ نعم! التقوى هاهنا! ولهذا نقول لك: أنر قلبك بذكر الله، ولو اتقيت الله في قلبك ولان وخشع لذكر الله؛ لجعل الجوارح تنقاد، وتأتي بك إلى بيت الله، وتأتي بك إلى حيث أمر الله، وتبعدك عن كل ما نهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه هي الحقيقة التي لا بد أن نعرفها.

حكم الدعوة إلى عدم نشر العقيدة الصحيحة

حكم الدعوة إلى عدم نشر العقيدة الصحيحة Q كثيراً من الناس بل من الدعاة، يدَّعون أن الحكمة هي ترك الأمور المختلف فيها، ويعنون بذلك الأمور العقدية سواءً في توحيد الألوهية، أو ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فما رأيكم في ذلك؟ A إذا أخذنا بهذه القاعدة -كما ذكرها السائل- فإنه لن يبقى من ديننا شيء؛ لأن بعض الناس يقول: ادع إلى كل شيء لكن لا تتعرض للشرك، وآخر يقول: ادع إلى كل شيء ولكن لا تتعرض للبدعة، والآخر يقول: ادع إلى كل شيء إلا الربا والرابع يقول: إلا الزنا، وآخر يقول: يا أخي! نحن وإياك نتفق على أن ندعو هذا الإنسان إلى الصلاة ونترك عقيدته أياً كانت؛ فدعوناه فجاء يصلي، وجاء واحد من أهل البدع فأدخله في صلاة بدعية، ثم صلوات بدعية، لا أول لها ولا آخر، وقال: نلين قلبه -فقط- لله، فإذا لان قلبه لله؛ فليفعل ما يشاء. فلان قلبه للدين والإيمان والآخرة، وإذا به لا يتورع عن أي بدعة، إما عن جهل، وإما عن تبعية لأصحاب الضلال، فما الفائدة؟! فإذا كان الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد أقام الخلاف بين أهل التوحيد والإيمان -كما في الآية: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]- وجعله أساساً من أساسيات الدعوة، وهو البراءة من المشركين؛ أفنأتي نحن ونقول: نريد دعوة من غير خلاف؟! والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112]، وفي الآية الأخرى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]؟! فالدعوة لا بد لها من عدو. هل قرأتم أن نبياً دعا إلى الله ولم يعارضه أحد؟ وهل سمعتم أن رجلاً دعا إلى السنة ولم يخالفه أهل البدع؟! فلو تركنا الناس وأهواءهم لما استقامت لنا دعوة ولا دين. وأما بعض الأمور الخلافية الفرعية التي اختلف فيها الصحابة الكرام؛ فإنها لا تفرق عن الصراط المستقيم، ولا ينبغي أن نتفرق فيها وأن نختلف عليها؛ وهذا حق. أما التوحيد فهو الأساس، فإذا ضيعناه وقبلنا الخلاف فيه؛ فلا خير في دعوتنا على الإطلاق! وإلام سوف ندعو الناس إذا تركوا توحيد الله وأقررناهم عليه؟! فهذا غاية الجهل بحقيقة الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. والحمد لله رب العالمين.

غاية الدعوة

غاية الدعوة تحدث الشيخ حفظه الله عن الغاية من مشروعية الدعوة وأمر الله بها، لتوحيد الله عز وجل، وهو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ثم تحدث عن الشرك، وكيف حذر الله عز وجل خير خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم منه وكيف حذر منه إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام. وقد بين أن الشرك هو أعظم خطر على أعمال القلوب التي هي مناط صلاح الأعمال، ثم ختم حديثه بالكلام عن التوحيد وكيفية تحقيقه تحقيقاً كاملاً في واقع حياتنا.

أهمية موضوع غاية الدعوة

أهمية موضوع غاية الدعوة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن أمر الدعوة إلى الله، ومنهجها أمر مهم, والحاجة إليه ملحة، لأن المسلمين اليوم بعد أن انتبهوا وأفاقوا ووجدوا حالهم بعيداً عما شرع الله, وعما كان عليه الجيل الأول المبارك, ووجدوا أن الكفار سيطروا عليهم وغزوهم ودخلوا عليهم من كل منفذ, فعندما أفاقت هذه الأمة وجدت أنه لا حياة لها ولا قيام ولا خير فيها إلا بإحياء الدعوة إلى الله. ولكن كيف تكون الدعوة إليه تبارك وتعالى؟ وما السبيل القويم الذي تتحقق به الدعوة التي يرضاها الله, ويرضى عنها, ويقبلها ويبارك فيها, وتعيد لهذه الأمة مكانتها في العالمين, واستخلافها في الأرض؟ إن المسلمين قد دب بينهم داء الأمم التي من قبلنا, بل هي أدواء وعلل, منها: أنهم ابتعدوا عن المنهج الصحيح في عبادة الله تعالى, ومِنْ ثم انحرفوا في منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى, إلا من وفقه الله في الدعوة إليه عز وجل, كما أمر تبارك وتعالى نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. فهذه الآية العظيمة الجامعة, فيها منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى كاملاً لمن تدبره وفطن إليه.

دعوة التوحيد

دعوة التوحيد نحب أن نوضح أول قضية من قضايا الدعوة, بل من قضايا الإيمان جميعاً التي لا يمكن ولا يصح أن نتجاوزها أبداً, وهي التي ذكرها الله تبارك وتعالى في هذه الآية في قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108]. فهذه الكلمة ليست كلمة عابرة، وليست جملة عادية، كما نتحدث ونقول في بعض العبارات والجمل التي لا مكان لها، بل إنها هي الأساس, وهي: نقطة البداية في هذا الأمر العظيم, وهي أن تكون الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهاهنا مفترق الطرق بين من يدعو إلى الله, وبين من يدعو إلى غير الله, وإن ظن أو زعم أنه يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. والدعوة إلى الله معناها: الدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى الذي أرسل الله عز وجل به جميع الرسل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وإذا قرأنا في كتاب الله نجد أن كل نبي بعث إلى قومه، قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فهذه هي القضية التي تتكرر دائماً, وبعدها تأتي كل قضية أخرى، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] هذه هي القضية الأساس. فإذاً أول ما ندعو إليه, وأول ما نعبد الله تعالى به: هو توحيد الله عز وجل. والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذاً إلى اليمن , ماذا قال له؟ قال: {إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله}، وفي رواية {عبادة الله} وفي رواية: {إلى أن يوحدوا الله} وكلها روايات صحيحة, ومعناها حق وصحيح, فعبادة الله هي: شهادة أن لا إله إلا الله, وهي توحيد الله.

حقيقة التوحيد

حقيقة التوحيد أول ما يبدأ به الداعية هو توحيد الله تبارك وتعالى, ولا يقل قائل: إن التوحيد متحقق وموجود, لأن الذي يقول ذلك, لا يفهم من توحيد الله وعبادته، إلا أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله, ولو أن الله تبارك وتعالى بعث الرسل ليقولوا للناس: قولوا: لا إله إلا الله, مجرد قول باللسان بلا حقيقة ولا معنى, ولا شروط, ولا اجتناب نواقض, لقالتها الأمم, وما كانت هذه المعارك مستمرة التي ترتب عليها -كما تقرءون في كتاب الله- الهلاك والدمار لكل من خالف ذلك, والفوز والنجاة لمن وحِّد الله, وأطاع الرسل واتبعهم. فهذه قضية عظيمة, ولو أن الأمر أمر نطق فقط لما كان هذا الجهد العظيم, ولما كانت هذه التضحيات الكبيرة, النهايات العظيمة المفزعة المروعة، ولكنه لتحقيق أن يوحدوا الله, وأن يعبدوا الله, وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله. ومعنى ذلك: أن يُطيعوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وأن يقفوا عند حدوده, ويتبعوا أوامره, ويجتنبوا نواهيه, ويتقربوا له عز وجل بكل عمل من أعمال القلوب, بالصدق والإنابة والرغبة والرهبة والرجاء والاستعانة والاستعاذة, ولا يتبعون غير نبيه، ولا يتحاكمون إلى غير شرعه, ولا يتبعون عادات ولا تقاليد, ولا ما كان عليه الآباء والأجداد, ولا قوانين, ولا بدع, ولا مناهج, إلا ما شرع الله, وما أنزله الله تبارك وتعالى. ففي كل أمر مما يقربهم من الله يسألون: ماذا قال الله فيه؟ وما أنزل الله فيه من الوحي قرآناً أو سنة.

التوحيد هو أول الأمر وآخره

التوحيد هو أول الأمر وآخره أول شيءٍ في الدعوة إلى الله وفي عبادة الله, هو توحيد الله تبارك وتعالى، فبالنسبة لك يا أخي المسلم الشهادة هي أول شيء وآخره، فالمحتضر -مثلاً- الذي جاءته الوفاة, وهو على فراش الموت نلقنه شهادة أن لا إله إلا الله, فهل المقصود فيها اللفظ فقط؟ لا, المقصود أن يموت وهو موحد لله تبارك وتعالى, فأول ما يدخل العبد به الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله, وآخر ما يقوله وما يلقنونه هو: شهادة أن لا إله إلا الله. إذاً أعظم شيء هو التوحيد, وهو أول شيء وآخره.

الجهاد لأجل التوحيد

الجهاد لأجل التوحيد لماذا نجاهد؟ نجاهد من أجل التوحيد: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] , إذاً الغرض من الجهاد ألَّا يكون هناك فتنة, وما هي الفتنة؟ الفتنة كما ذكرت في الحديث الصحيح: (الفتنة الشرك) فنقاتل الكفار حتى لا يكون هناك شرك, وحتى يكون الدين كله لله, فلا يعبد إلا الله, ولا يتبع إلا شرع الله, ولا يطاع إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من أمر الله تعالى بطاعته تبعاً لطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالأنبياء وولاة الأمر من علماء وأمراء, الذين يُعلمون الناس ويحكمون بينهم بما أنزل الله. ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصف حاله ووضعه ونفسه بناءً على ما ذكر ربه عز وجل, عندما قال له ربه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يترجم ذلك الأمر فيقول: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة} فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بالسيف وبالجهاد, ولا يقوم ديننا هذا إلا على الجهاد, ولا يمكن أبداً أن يقوم إلا على الجهاد بجميع أنواع ودرجات الجهاد. فالمؤمن في جهاد مع نفسه وهواه, ومع شيطانه ومع أعدائه, وجاءت لفظة [السيف] في الحديث ليدل على المرتبة العليا للجهاد, التي لا يقوم ولا يتحقق الدين إلا بها. ولكن الجهاد والسيف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله من أجل ماذا؟ يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} فهذا هو الغرض الوحيد، وهو أن يُعبد الله وحده لا شريك له {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} فكل الأنبياء لهم مكاسب يكسبون منها, فمنهم من كان نجاراً, ومنهم من كان حداداً, ومنهم من رعى الغنم وكلهم رعوا الغنم, وكل نبي له مهنة. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من فضله وحكمته البالغة بعث هؤلاء الأنبياء من البشر: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الإسراء:95] لكن نحن بشر, فبعث منا بشراً يعمل ويكدح, ويحتاج أن يأكل ويشرب وينام, ويمشي في الأسواق كما نفعل, والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أين يأتي بدخله؟ يأتي بدخله من خلال أشرف وأعظم وأعلى أنواع المكاسب, وهو: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي}، فلو أن الأمة الإسلامية آمنت بالله ووحدت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده, لأكلت من تحت ظل رمحها. فالكفار يبنون الحضارة ثم تكون للمسلمين, والفرس والروم بنوا حضارتهم في ألفين سنة، وأجروا فيها الأنهار, وسقوا الأشجار, وبنوا القصور, وفتحوا القنوات العظيمة, وبنوا الطرق الرومانية التي تمتد من شمال أوروبا إلى مصر وجزيرة العرب , كل ذلك فعلوه, فكان ماذا؟ كان غنيمة للمسلمين, غنيمة لمن وحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فخرجوا من هذه الجزيرة حفاة عراة جائعين, إلا ما كان منهم ميسور الحال وما أقلهم, فأورثهم الله تبارك وتعالى تلك الحضارات, وتلك القصور، وتلك المباني. ونحن الآن -مثلاً- نقول: العالم الغربي لديهم الحضارة والعلم والتطور والتقدم والتكنولوجيا, ولو وحدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده, وذهبنا في سبيله، ودعونا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان هذا هو همنا, وكان ذلك شغلنا الشاغل، كما قال في الآية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: هذا هو فعلي, وهذه هي طريقتي, وهذا هو عملي, أدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولو فعلنا ذلك لكنا بفقرنا هذا وعلى تأخرنا هذا -ونحن لا نريد التأخر في التكنولوجيا أو التقنية, ولا نريد الفقر, ولا نريد الجوع- لكنا منتصرين عليهم ولأورثنا الله تبارك وتعالى هذه الحضارات جميعها, فمنهم من يؤمن, فيسلم هو وما لديه من حضارة, ومنهم من نجاهده فيعطينا الله ملكه وحضارته غنيمة للمسلمين, بماذا؟ بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فلو وحَّدناه سبحانه لغزوناهم في عقر دارهم, ولما كانت لهم أي فرصة ليغزونا في دارنا, كما هو حال بلاد المسلمين اليوم إلا ما رحم الله. إذاً: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري} وهذا هو حال المسلمين اليوم، إلا من كان في عز الطاعة وفي عز الدعوة إلى الله, أما البقية فهم في ذل, وإن جمعوا من المال ما جمعوا, وإن حازوا من المناصب ما حازوا, فهم بالنسبة للكفار في ذل, لماذا؟ لأنهم خالفوا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله, فإذا تمسكنا بهذا الدين, وأخذنا بأسباب الدنيا وهي من الدين ومطلوبة، فإن الله تعالى يوفقنا وينصرنا على كل عدو. أما إذا تركنا ديننا وأردنا العزة والقوة في آلات نشتريها, ومعدات نستوردها, وصناعات نظن أنها تحقق لنا ما نريد, فلن يكون ذلك أبداً , إلا بدين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. {ومن تشبه بقوم فهو منهم} فمن تشبه بالكرام وبالمقربين: من أنبياء أبرار ودعاة ومجاهدين وصالحين, كان منهم, وإن تشبه بالكفار كان منهم, وإن تشبه بالمنافقين أو المبتدعين أو الضالين أو الفاجرين كان كذلك منهم: {من تشبه بقوم فهو منهم} وكأننا نلمس داخل الحديث أملاً, وهو أنكم إن كنتم تريدون العزة, وإن كنتم تريدون النجاح فهو في دعوتكم وفي جهادكم وفي عملكم أيها المسلمون: {من تشبه بقوم فهو منهم} فتشبهوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بأن تكونوا مجاهدين داعين إلى أن يُعبد الله وحده لا شريك له, وليكن رزقكم تحت ظل رماحكم, فتكونوا مثله, وتنالوا ما نال الصحابة الكرام من الفوز والغنيمة في الدنيا والآخرة. فإذاً الجهاد والأمر بالمعروف من أجل ماذا؟ من أجل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

التوحيد في سورة الفاتحة

التوحيد في سورة الفاتحة الصلاة على أهميتها التي تعلمونها جميعاً, إنما هي من أجل توحيد الله تبارك وتعالى فهي كلها توحيد: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]؛ فمن أجل توحيد الله نقف بين يدي ربنا عز وجل, ونقول: الله أكبر، وهذا من توحيد الله, ونقرأ أم الكتاب ركناً في كل ركعة من صلاتنا, وهي في توحيد الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] نوحد الله توحيد الربوبية. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وهذا توحيد الأسماء والصفات. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وهذا من الأسماء والصفات ولكنه يتعلق بأمر عظيم, ولا يمكن أن يُوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا به, وهو الإيمان باليوم الآخر وبالوقوف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة:5] فهذه الآية هي معنى لا إله إلا الله, ففي الشهادة: الحصر، جاء بـ (لا وإلا) , وهنا جاء الحصر بالضمير المفعول المتقدم, أي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] وكأنك قلت: وحدك لا غيرك يا رب نعبدك. إذاً: هذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله, فهو الغاية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وهو المقصود والمعبود وحده. ومن يعيننا على ذلك؟ وما الوسيلة التي نحقق بها ذلك؟ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة:5] فأيضاً نستعين به وحده على تحقيق توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده لا شريك له، فله العبادة ومنه العون. إن أمرنا نأمر بما يرضي الله, ونستعين على ذلك به, وإن دعونا ندعو إلى الله, ونستعين على ذلك به, وإن جاهدنا نجاهد من أجل إعلاء كلمة الله, ومن أجل توحيد الله, ونستعين على ذلك بالله. إذاً لا بد منهما: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وأيضاً و {َإِيَّاكَ نَسْتَعِين} وهذا هو توحيد الألوهية. ثم ندعو الله تبارك وتعالى في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] فعندما ندعو الله بذلك, فنحن نأتي بنوع آخر من أنواع التوحيد -وإن كان هو جزءً من توحيد الألوهية- وهو أننا نوحد ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باتباع شرعه, وباتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من الدين, فلا نعبد الله إلا كما عبد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ولا ندعو إلا الله إلا كما دعى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أقسام الناس في العبادة

أقسام الناس في العبادة وديننا الإسلامي مبناه على أصلين عظيمين: الأول: ألَّا يُعبد إلا الله. والآخر: أن يعبد الله بما شرع ولا يعبد بالأهواء والبدع. ولا يكون حالنا في دعوتنا أو عبادتنا أحد الحالين اللتين خرج بهما أصحابهما عن الصراط المستقيم: الحالة الأولى: حالة من علم الحق وعرفه, ولكنه أعرض عنه واجتنبه، وهؤلاء هم اليهود المغضوب عليهم, وكل من سلك طريقهم, كما ورد عن ابن عباس وعن سفيان بن عيينة رضي الله عنهما: [[من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود]] ولا نعني بالعالم -فقط- ذلك الذي هو عضو في هيئة كبار العلماء بل المغضوب عليه في هذه الحالة هو: كل من علم شيئاً من دين الله ولم يعمل به ففيه شبه من اليهود, يعلم أن الزنا حرام فيزني, أو أن الخمر حرام فيشربها, أو أن النظر إلى المرأة الأجنبية حرام وكل ليلة ينظر إليها, أو أن الربا حرام ويرابي ويتعامل مع المرابين كل يوم, هذا هو المتعرض لكونه من المغضوب عليهم، سأل الله العفو والعافية. إذاً ما فائدة العلم إذا لم نعمل به؟ الحالة الثانية: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] والضالون هم الطرف الآخر: وهم الذين عبدوا الله على ضلالة, وعبدوا الله على بدعة وعلى هوى وجهل, فلم يعبدوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على علم وعلى بصيرة, وانظروا ماذا في الآية نفسها -آية الدعوة-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]. إذاً: أول شيء الدعوة إلى الله، لا إلى غيره أبداً, لا إلى النفس, ولا إلى الشيخ, أو الإمام أو من أحب أو من كره! لا أدعو إلا إلى الله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على بصيرة, فلا ندعو على ضلالة, ولا ندعو على بدعة, ولا ندعو على رأي يخالف ما أنزل الله, بل على بصيرة وعلى علم من الله, وعلى برهان وحجة ونور وكتاب أو سنة. {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: ليس هذا الأمر خاصاً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل أنا ومن اتبعني, فهذا هو شأن كل أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أنهم يدعون أولاً وقبل كل شيء إلى توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلى أن يُعبد الله وحده لا شريك له, فلا يشرك به أبداً بأي شيء, وهذا هو شأنهم.

غرض الدعوة إلى الله

غرض الدعوة إلى الله وغرض الدعوة وهدفها هو تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكثير من الناس لا يفقه غرض الدعوة إلى الله، ألا ترون المشركين والمنحرفين عن الدعوة الصحيحة؟ لو تدبرت أحوالهم لوجدت أنهم لا يسبحون الله, ولا نقصد أنهم لا يقولون: سبحان الله؟ لا, بل هذه يقولها أكثر الناس وأكثر المصلين من أهل البدع والضلالة والشرك, بل نقصد أنهم لا ينزهون الله عما لا يليق به, وهي لا تعني كلمة أو لفظاً باللسان, بل تنزيه الله عما لا يليق به. والنصارى عندما قالوا: إن لله تعالى ولداً, هل هم مسبحون لله؟ لا أبداً: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) [المؤمنون:91] عباد الله المخلصين فقط، أما غيرهم فإنهم لا يسبحون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل ينسبون له الولد والصاحبة، ويزعمون أن معه شريكاً. والذين يقولون: إن الشريعة أو الدين لا يصلح للتطبيق في القرن العشرين, قرن الحضارة والعلم والتكنولوجيا, هؤلاء لا يسبحون الله ولا ينزهون الله عما لا يليق به, بل هم ينسبون إليه ما لا يليق به, وهو أنه -تعالى عن ذلك- جاهل لا يدري أن الحضارة ستأتي, أو هو يعلم أن القرن العشرين سيأتي بحضارته, لكنه لا يستطيع أن يجعل له من الشرع ما يلائمه وما يناسبه, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. إذاً لا يسبحون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وكل من دعا إلى اشتراكية أو ديمقراطية أو بعثية أو أي اسم مهما كان: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً* لَعَنَهُ اللَّه) [النساء:117]. فكل من دعى إلى غير الله فنهايته أن يصل إلى الشيطان، لأن هؤلاء لم يسبحوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مثل الذي يقول: الإسلام كله يعجبني بل وأدعو إليه, وأرجو وأحب أن تدعوني إليه -أيها الدعاة- إلا مسألة المرأة, فلا بد أن تعمل ولا بد أن تخرج وأن تتبرج وأن تشارك في وسائل الإعلام وفي كل مجال, فهل نزّه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا؟! لا، لم ينزه الله أبداً، لأنه اعترض على حكم من أحكام الله, ورأى أن رأيه أفضل منه. إذاً ندعوه إلى أن يؤمن بالله, وأن يسبح الله, ويوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فغرض الدعوة هو تسبيح الله وأن ينزّه الله, فتنزيه الله ركن أساس في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد ضربنا الأمثلة على ذلك.

التحذير من الشرك

التحذير من الشرك {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79] بعد أن ذكرنا جانب الإيمان, نأتي الآن إلى الاحتراز, فنحترز من أعظم ذنب عُصِيَ الله به، الذنب الذي لا يغفره الله أبداً إلا لمن تاب, الذنب الذي حرم الله تبارك وتعالى على فاعله أو صاحبه الجنة أبداً إلا أن يتوب, ومن لقي الله وهو مذنب بهذا الذنب فإن مصيره الخلود في النار, فما هو هذا الذنب العظيم؟ إنه الشرك: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79].

تحذير الأنبياء من الشرك

تحذير الأنبياء من الشرك إبراهيم عليه السلام لما دعا الله {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] , قال ابن تيمية رحمه الله: 'ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم'. الله أكبر! إمام الموحدين الذي حطَّم الأصنام يدعو بهذا الدعاء, والذي جاهد لكي لا يعبد إلا الله, والذي ذبح ابنه امتثالاً لأمر الله, وإن لم يقع الذبح لكن قد فعله وصدق الرؤيا, وامتثل أمر الله, من أجل توحيده لله، وامتثاله لأمر الله, المر الذي هو فامتثله رؤيا رآها فتله للجبين. وهذا إبراهيم عليه السلام الذي هاجر في الله، وفي ذات الله، ودعا إلى الله, وجعله الله إماماً للناس, وأوحى إلى داعية التوحيد العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] هذا نفسه يدعو الله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] يدعو الله أن يجنبه الشرك, سبحان الله! إذاً الشرك خطير, يقول ابن تيمية رحمه الله: 'ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم' من يأمن؟ لا تقل: إن الكلام قد كثر كل يوم عن الشرك, والناس موحدون والحمد لله وهم مسلمون, سبحان الله! هل أنت أكثر توحيداً من إبراهيم الخليل؟! لا، والله, لما أمره الله تعالى أن يبني هذا البيت العظيم, الذي هو قبلة الموحدين في جميع أنحاء العالم إلى يوم الدين, ماذا قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] يا إبراهيم! ابن البيت، ولا تشرك بي شيئاً, فهذا أول أمر يؤمر به إمام الموحدين: ألَّا يشرك بالله, فلم يقل: يا رب! أنا إمام الموحدين, أنا الذي وحدتك تنهاني عن الشرك؟ وإذا نهيت أحداً أو تكلمت أو حذَّرت من الشرك, قيل: ليس عند هؤلاء الناس إلا الشرك؟ ولا يتكلمون بغير الشرك؟ سبحان الله! وماذا قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو إمام الدعاة إلى الله، الذي يجب على كل داعية أن يقتدي به إذا كان من أتباعه: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]. فمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له ربه: قد أوحي إليك يا رسول الله, وإلى الذين من قبلك من الرسل -ومنهم إبراهيم إمام الموحدين- لئن وقع منك ذلك الشرك ليحبطن عملك. سبحان الله! العمل كله؟ نعم, الجهاد, والدعوة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والهجرة, والصلاة, والزكاة, كل ذلك يحبط منك يا رسول الله ومن قبلك لو أشركتم بالله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] فهو خاسر, مع أنه يأتي بتجارة كبيرة جداً ولكنه خاسر في الحقيقة. فبعض الناس كالنصارى -مثلاً- ترك الزواج، وترك الدنيا، ولكنه يذكر الله ليل نهار، انقطع عن كل شيء إلا عن العبادة -كما يزعمون- لكن يوم القيامة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104]. يقول: يا أخي! أنا أحمد الله، وأنا دائماً أذكر الله, وأصلي, وكل يوم أقرأ القرآن, ودائماً في جهاد, ودائماً آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر, فيقول: ما الذي تريده منا؟ نقول: هذه الثروة العظيمة من الحسنات لا تقبل ولا تتحقق إلا بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, اجتنب الشرك, ولا تأنف ولا تستكبر عمن يقول لك: لا تشرك بالله, لأنه قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فتذهب كل هذه الأعمال: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] الذين يرون هذه الأعمال العظيمة تذهب هباءً منثوراً, ولا يستفيدون منها بشيء: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} وهنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]. هنا قدّم الضمير، وهناك قدم الاسم العلم: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66] هكذا أمرنا ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فأول الأمر وآخره هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الشرك في أعمال القلوب

الشرك في أعمال القلوب توحيد الله يقوم بتحقيق أعمال القلوب, أن تكون خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أهم أعمال القلوب: الإخلاص {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] وبعد ذلك: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الصدق مع الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقد قالها بعد أن ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصناف الناس السابقين من الأولين، ثم ذكر الذين مردوا على النفاق , ثم ذكر الذين هم مريدون لأمر الله, ثم ذكر الثلاثة الذين خلفوا, ثم ذكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: مع الأولين والسابقين، مع الأولين لا مع المنافقين الذين ذكر الله شأنهم في هذه السورة -التوبة- وفي غيرها, فلا بد أن تصدق مع الله، ويجب على كل إنسان أن يكون صادقاً مع ربه بإيمانه به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وليس نطقاً بقوله. ومن أعمال القلوب التي تحقق لنا التوحيد: الخوف من الله وحده لا شريك له, ولو فطن الدعاة إلى هذا لرأيت العجب العجاب في الدعوة إلى الله, ولو أن كل مؤمن لم يخف إلا الله, ولم يخف أحداً من البشر كائناً من كان في أمر يغضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لرأيت العجب العجاب من التمكين والعز والنصر. لكن الإنسان يقول: لو اتقيت الله, ولو اتبعت ما أمر الله، لفعل بي فلان الذي هو أعلى مني في الوظيفة كذا! فهو يخاف من فلان لأنه أقوى منه, ويخاف من كذا، فأخافنا الشيطان: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175]. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل ذلك الخوف منه وحده, ولو خفنا من أعداء الله ولم نخف من الله فلن ينصرنا الله تبارك وتعالى عليهم أبداً, بل جعل الله تعالى طريق النصر كما بين: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فالأعداء يكيدون لنا، ولا توجد وسيلة مما في علمنا أو عقولنا أو خيالنا إلا وقد حاربونا بها, وهذا حق كما ترون الآن في هذا الزمن, وفي كل لحظة، وفي كل دقيقة, فنحن مستهدفون ومحاربون, بالذات في هذا البلد الآمن المطمئن, القائم على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ففي كل لحظة تجد الحرب الشرسة علينا، لكن إذا خفنا منهم إذاً أشركنا, فما الطريق؟ وما الحل لمواجهتهم؟ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران:120]. إذا صبرنا واتقينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] لا يضرك كيدهم أبداً. أقول: الأعداء يُخططون لنا ولكل المسلمين، وكثير من المسلمين لا يعرفون ذلك، انظروا إلى ما في التلفاز، وإلى ما فيه من المسلسلات، وإلى الفيديو، فإن هذا من تخطيط الأعداء لإفساد الأخلاق, وكثير من الناس يقولون: لا أستطيع أن أصبر على مشاهدة هذه الأشياء, ثم يسأل: لماذا الأعداء ينتصرون علينا؟ أنا أقول: إذا كنت لا تستطيع أن تصبر على هذا، فكيف ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن بغير تقوى؟! نحن المسلمين لم ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا، فكيف ينصرنا الله على الكافرين؟! نحن المسلمين إذا تمكن بعضنا من بعض, تجد أن تقوى الله لا تمنعه ولا تردعه من أن ينتقم منه أو أن يظلمه إلا من رحمه الله, لكن هذا هو العموم، فكيف يولي الله الظالمين؟ كيف يورث الله الأرض للظالمين؟ وانظروا كم في المحاكم، والشرط، والإمارات، والإدارات من شكاوى لا بد فيها من ظالم ومظلوم, فنحن نظلم بعضناً بعضاً بهذه الكمية الهائلة, ونريد أن يورثنا الله الأرض, ونقول: لماذا لا يُمكِّن الله لنا نحن المسلمين في الأرض؟ وكل جمعة ندعو: اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ومجد ووحد واجمع! دعاء لا عمل معه, فكيف يولي الله الظالمين؟ لو جمع كلمتنا ونحن بغير تقوى ولا صبر لدمرنا الدين -والعياذ بالله- لكن تفرقنا في هذه الحالة أفضل وأحسن, فهذه حكمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إذاً لا ينفع إلا أن نصبر وأن نتقي الله, والشاهد أن الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, هو أحد أهم أعمال القلب التي يجب أن يوحد الله بها. والصبر من أعمال القلب أيضاً, التي يجب أن تُفرد وأن تتحقق، فإذا كنا ندعو إلى توحيد الله وإلى العقيدة الصحيحة, فمعنى هذا أن ندعو أيضاً إلى الصبر؟ حيث نصبر على طاعة الله, ونصبر عن معصية الله, ونصبر على أحكام الله الشرعية, ونصبر على أحكام الله القدرية, وعلى المصائب التي تقع ويكون موقفنا منها الصبر, لأن الله تعالى هو الذي قدَّر ذلك وكتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وأيضاً: الرغبة, والإنابة, وكثير مما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم من أعمال القلوب يجب أن نحققها وأن نوحد الله فيها.

لكي نحقق التوحيد

لكي نحقق التوحيد وإذا أردتم أن نوجز ذلك كله، فنقول: كلٌ منا يقرأ كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن هذا هو مصدرنا الأول في عقيدتنا وشريعتنا، وكل ما ينبغي علينا هو أن نقرأ هذا القرآن، وانظروا ماذا يريد منكم منزله وقائله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -مثلاً-: أنا أقرأ وأنظر ماذا يريد مني ربي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إذا ذكر لي العبر عن الأمم الماضية, ماذا يريد؟ وإذا ذكر لي طريق الجنة وطريق النار, ماذا يريد؟ فإذاً أكون كما يريد الله, وأدعو إلى هذا الذي يريده الله مني, وأمتثله بنفسي وأدعو إليه, وإذا قرأنا ذلك فإن علينا بعد ذلك أن ننظر كيف يدعو الناس؟ كيف تدعو المناهج البدعية إلى الله؟ فنعرف أنها تبتعد عن منهج الدعوة الصحيح بمقدار بعدها عن هذه الحقيقة التي نقرؤها في سورة الفاتحة, وفي الإخلاص، وفي الكافرون، وفي العصر، وفي التكاثر، وفي الفجر، وفي عمّ, ففي أي سورة هناك قضايا محددة مهمة, يتنوع الحديث عنها, ولكنها قضية واحدة, هي توحيد الله, وطاعة الله, وامتثال أمر الله, والعمل من أجل الجنة والفوز برضى الله, وترك كل ما يُؤدي إلى غضب الله وإلى عقوبته, وإلى الدخول في النار التي أعدها الله للكافرين, عافانا الله وإياكم منها. فأعظم شيء في منهج الدعوة إلى الله, هو أن تكون الدعوة إلى الله على توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فإن قيل: هذا يحتاج إلى عمل طويل, وجهد كثير؟ نقول: نعم, هذا حق, لكن لا طريق غيره, فإن كنت تريد طريقاً آخر فلن يوصلك إلى ما تريد, واذهب إلى ما شئت من الطرق التي تراها معبدة أو سهلة, لكن لن تصل إلى الهدف, فالطريق إلى تحقيق توحيد الله والدعوة إلى الله حقاً هي هكذا, وهذا هو حالها وشأنها, ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمر عشر سنوات في مكة وهو يربي الناس على معنى (لا إله إلا الله) ثم نزلت الصلاة فزادت معنى (لا إله إلا الله) رسوخاً وثباتاً، ثم ذهب إلى المدينة وشرع الجهاد من أجل (لا إله إلا الله) ثم جاءت الزكاة من أجل إقامة دين الله, ومن أجل الإنفاق على المجاهدين في سبيل الله, ولإعلاء كلمة الله, ثم جاء الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} لماذا؟ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فهذه الشريعة من أجل تحقيق التقوى التي جاءت بها (لا إله إلا الله) ثم شرع الحج وهو إلى البيت الذي بناه إبراهيم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] فتحج وأنت تقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, كل مرة وأنت تكرر معنى شهادة أن لا إله إلا الله. إذاًَ: أعظم شيءٍ يجب أن نحققه هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تكون كل عباداتنا خالصة لوجه الله, موافقة لشرع الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأعظم مادة يجب أن نهتم بها في المدارس هي مادة التوحيد, وهي القرآن؛ لأن القرآن هو مصدر العقيدة الأول، والحديث -وهو المصدر الثاني للدين وللعقيدة، فلا نعطي هذه المواد إلا للمدرس الكفء، الذي يستطيع أن يُبين للطلبة هذا الدين، ويحبب إليهم هذا الدينز ويجب أن نعلم أن علوم الطبيعة والأحياء وكل ما يتعلق بالعلوم المسماة اليوم: المواد العلمية, كلها تخدم التوحيد -والحمد لله- لأنها من النظر في ملكوت السماوات والأرض, ومن التفكر في آيات الله, ومن السير في الأرض: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت:20]. وعلم التاريخ -أيضاً- مما يخدم العقيدة ويجليها ويوضحها, إذا كان المنهج والمدرس صالحين، لأن الله قص علينا في القرآن الكثير منه, وانظروا إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:6 - 13] فكيف ندرس هذا الكلام في حصة القرآن, ثم إذا جئنا بمادة التاريخ، يقول: الفراعنة كانوا وبنوا وعملوا وشيدوا, ومع الزمن ومع الغزوات وكذا ذهبت حضارتهم, هذا غير ما قرأنا في الآيات قبل قليل، يجب أن تربط الآيات مع التاريخ. والحمد لله أننا ما زلنا على مستوى جيد -والحق يقال- ولو وجد المدرس الذي يحسن ويزيد شرحها وعرضها لكان الخير بإذن الله. والمقصود: أن كل المواد تخدم العقيدة الصحيحة, وكل ما يمكن للإنسان أن يستغله للخير يجب أن يُسخره من أجل هذه العقيدة، ومن أجل التوحيد، ومن أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له، جعلنا الله وإياكم من الموحدين المؤمنين, إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

الدعوة في أبناء المنطقة

الدعوة في أبناء المنطقة Q نيريد من فضيلة الشيخ توجيه نصيحة للطلاب الذين يدرسون في المدن، وفي الجامعات، ولكن عندما يتخرجون لا يرغبون في الرجوع إلى المنطقة, علماً أن المدارس وغيرها بحاجة إليهم؟ A إن الدعوة إلى الله كما في هذه الآية -التي كانت موضوع المحاضرة-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] , فيجب على أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعوا إلى الله, ومن درس وطلب العلم الشرعي الذي ينفع ويفيد, فأولى به وأحرى أن ينذر عشيرته الأقربين, والطفيل بن عمرو الدوسي عندما عرف توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جاء إلى قومه وهدى الله تعالى به دوساً, كما دعا لها نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذلك كان حال الصحابة الكرام رضوان الله تبارك وتعالى عليهم, ونحن لا نقول إن الإنسان لا يدعو إلى الله إلا في بلده, بل يدعو إلى الله في المدن وفي القرى وفي الأرياف, ولكن من أتيح له أن يأتي إلى بلده وإلى قبيلته وإلى عشيرته وأن يدعو إلى الله فيها, فأنا أرى أن ذلك في الحقيقة أولى. ويعرف بعض الإخوان أن في الجامعة عندنا, أننا نقول له: اذهب إلى المنطقة, وتعين فيها, وننصحهم بذلك لما رأينا من الحاجة هنا, لأننا كنا نظن أن الدعوة إلى الله في المدن أحوج، نظراً لما تتميز به هذه المناطق الريفية -والحمد لله- من التمسك بالفضائل والأخلاق الطيبة, والعادات الحسنة, لكن لما رأينا أنها قد ابتليت كما ابتلي فيها غيرها, وأن الأمر والحاجة عامة هنا وهناك. فإذاً ينبغي أن يتوجه أهل هذه المنطقة إليها، وكذلك كل من بقي هناك ورأى أن من المصلحة والخير للدعوة أن يبقى هناك, فالواجب هو الدعوة إلى الله على الجميع وفي كل مكان.

أسباب التقاعس عن الدعوة

أسباب التقاعس عن الدعوة Q بعض الدعاة نراهم في فترة من الفترات أصحاب نشاط دائم في الدعوة إلى الله, ثم فجأة يصيبهم تقاعس عن الدعوة, والركون إلى كسب المنفعة, فما هي الأسباب بارك الله فيكم؟ A الأسباب كثيرة, ونحن قلنا: إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, والإنسان إذا دعا إلى الله فإنما يعبد الله, والعبادة جميعاً هي كذلك. وكما تلاحظ أنك أحياناً تصلي لله صلاة خاشعة وتقرأ القرآن في خشوع, وأحياناً لا تجد ذلك الخشوع في صلاتك ولا قراءتك, والدعوة هي جزء من العبادة, والشيطان الذي يأتيك في قراءتك وصلاتك, يأتيك -أيضاً- في دعوتك, لكن ربما كان المثبط في الدعوة والداعي إلى الكسل فيها أقوى، لأن فيها ما نسميه: الاحتكاك بالناس, فالأرحام حزنوا، والأقارب تأثروا, والأبناء رفضوا, والجماعة وفلان , وهذا لا بد فيه هكذا, وتجده يقول لنفسه: إذا اهتديت أنا في نفسي واستقمت وتركت الدعوة, فربما هذا أفضل من هذه المشاكل كلها. وفي الحقيقة أنه لا يهتدي إلا من دعا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وهذا من تزيين الشيطان ليضلك، وأنت تظن أن الإنسان إذا بدأ يضعف عن دعوة الغير إلى الله ويتنازل، فإنه يضعف عن التمسك بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا شيء مشاهد. فيا إخوان! الحث الحث! والعزيمة العزيمة! وهذا ديننا دين العزيمة, ودين أخذ الإيمان بقوة, ولا نعني الغلو في الدين, ولكن نقول: يؤخذ الدين بصدق وبإخلاص, حتى ما كان فيه من الرخص, تؤخذ أيضاً عن الإيمان, وعن الصدق, وهي رخصة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فبذلك نكون صادقين مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ولا مجال للداعية إلى الله أن يتثاقل أبداً, وكل إنسان يعمل في أي مجال يمكن أن يقول: قد بلغت الغاية, إلا من كان على سبيل طلب العلم الشرعي, أو على سبيل الدعوة إلى الله, فإنه مهما دعا إلى الله فهو ما زال مقصراً, ومهما تعلم من العلم الشرعي يجد أنه في حاجة إلى أن يتعلم، لأن هذا الطريق لم يتفاوت الناس إلا فيه, ولماذا الدرجات العلى في الجنة؛ وبين الدرجة والدرجة مثل ما بين السماء والأرض؟ لأن هذا التفاوت هو ما بين العزيمة وبين الكسل, وما بين الإقدام وبين التواني والتراخي. ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم جميعاً العزيمة على الرشد، والإقدام على الخير, وأن نأخذ ديننا بقوة في كل ما أمر به الله.

من وسائل الدعوة إلى الله

من وسائل الدعوة إلى الله Q البعض من غيرته على دينه يرى المنكر فيذهب إلى صاحبه ليغيره, وقد لا يوفق بأسلوب صحيح للتفاهم مع ذلك الإنسان, فتكون المشاكل بينه وبين صاحب المنكر، بعدها يحمل ذلك الداعية في قلبه شيئاً عليه, وقد يكون ذلك من باب الانتصار للنفس, فما نصيحتكم لمثل أولئك؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله, أنا قلت: إنه لم يتح لنا أن نتحدث عن الجانب الآخر, وهو كيفية الدعوة أو وسيلتها, ولعل بعض الناس يحتاج شيئاً من ذلك, فإن الدعوة إلى الله لا بد فيها من الحكمة ثم الموعظة الحسنة, ثم المجادلة بالتي هي أحسن, وأخيراً بعد ذلك كله المجالدة والجهاد بالقوة, ولابد للإنسان الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من ذلك كله, لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الدعوة, والدعوة هي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر, ولكن أكبر ما نحذر منه هو الشرك, وأعظم ما ندعو إليه هو التوحيد, وكل ديننا قائم على ذلك. وحظ النفس إذا دخل في أي شيء هلك صاحبه وحبط عمله -والعياذ بالله- إلا أن يتوب ويستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فلا بد من الأسلوب الحسن، وإنكار المنكر، ولا يعني الأسلوب المباشر, أو الطريقة المباشرة في الإنكار, بأن تقول لمن يفعل شيئاً: لم تفعل كذا؟ لا. يا أخي! التغيير والإنكار لا بد له من أسلوب, ولذلك عندما ننظر إلى الأمة في مجموعها, نقول: لا بد من دعاة إلى الله يدعون إلى توحيد الله وإلى عبادة الله, هذا من أجل أن تتحول إلى ما يرضي الله, وإلى طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن طريق هؤلاء. أيضاً: البصيرة والعلم والحكمة والأسلوب المناسب أمور لا بد منها في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يعني ذلك أن الإنسان يقول: إذاً لا أدعو إلى الله, وبعض الناس يرى المنكر أمامه، فتقول له: لماذا لا تنكر؟ يقول: لا بد من الحكمة, والحكمة لا تعني عدم العمل, ولكن المقصود بها العمل بالأسلوب الأمثل والأسلوب الصحيح. فالمنكر الذي في بيته يغيره باليد إن كان في ولايته, أو كان يستطيع أن يغيره بيده, فإن كان المنكر لا يدخل في نطاق ولايته الشرعية ولكن يتعلق بالآخرين, فلا بد أن أواجه الناس بالنصيحة وبالموعظة وبالأسلوب الأمثل, ثم بعد ذلك أدعو من له ولاية شرعية لتغيير هذا المنكر, وأنصحه وأعظه إن كان راضياً بالمنكر أن لا يرضى به, وإن كان لا يرضى به, فأبين له أن ينكره وهكذا. فالكلام في هذا يطول, ونقول: لا بد في الدعوة إلى الله وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الحكمة والأسلوب الحسن, وترك حظ النفس دائماً بعيداً، عافانا الله وإياكم من النفس وشهواتها وحظها.

نصيحة للآباء والأبناء

نصيحة للآباء والأبناء Q فضيلة الشيخ: نرجو منكم توجيه الأباء ونصحهم، لأن البعض منهم قد يمنع ابنه من مخالطة الصالحين، بحجة أن ابنه قد يتشدد بالدين أو يخالفهم في ما هم فيه من عادات سيئة؟ A الحمد لله، الحقيقة أنه يجب أن تكون النصيحة للطرفين للآباء وللأبناء: أما الآباء كما هو موضوع السؤال، فلأنك أيها الأب أعظم وأحب من لديك في هذه الدنيا هم أبناؤك، تفتديهم بمالك بل وبنفسك، ولا شيء عندك أغلى من أبنائك، ولا شيء عندك أحب ولا أفضل مما يسعدهم ومما يبلغهم الفوز أو النجاح أو المستقبل الباهر، وأي فوز ونجاح ومستقبل أعظم من تقوى الله، ومن عبادة الله، ومن اتباع أمر الله ودينه، والفوز بالجنة! لا شيء أبداً. فكيف تمنع ابنك من التزود بالإيمان، وتمنعه من التقوى والتقرب إلى الله والاجتهاد في الطريق الذي يُؤدي به إلى الجنة ويبعده عن النار، وهو حضور حلقات الذكر والعلم ومجالسة الأخيار، وإن كانت العادات، أو التقاليد، وإن كان ما كان. لما فتحت علينا الدنيا في السنوات الأخيرة، تركنا عاداتنا كلها من أجل أن نحقق شيئاً من هذه الدنيا، بعض الحرف كنا ننظر لها على أنها غير طيبة، ثم وجدنا فيها الأرباح والمكاسب فتنافسنا فيها، بعض الأشياء التي كانت في الحفلات، وفي الولائم وفي أمورنا الخاصة، فلما وجدنا أن المادة تتحقق بخلاف العادات رمينا بالعادات جانباً من أجل أن نحقق الربح المادي، فكيف لا نرمي بالعادات جانباً في مقابل تحقيق الربح الأكبر؟! {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} [آل عمران:185] فالفوز الأكبر أن يكون الإنسان مطيعاً لله ومتقياً له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأي قرة عين لك إذا كنت تدعو الله كما أمر عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] فأي قرة عين لك خير من أن يكون لك ابنٌ نشأ في طاعة الله، ونشأ في عبادة الله فيكون ممن يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة؟! فربما شفع لك وأنت على ذنوب عظيمة، وربما ألحقك الله في درجته في الجنة وأنت على تقصير عظيم، لأن هذا الابن الصالح البار إنما هو منك. فإذاً يجب على الآباء والمقصرين منهم -وكلنا مقصرون- أن نحمد الله بأن رزقنا أبناء صالحين يجبرون ما فينا من تقصير، ولعلهم ينفعوننا عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأننا نحتسب تربيتهم ونحتسب تقويمهم وتوجيههم على الحق عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وأما النصيحة التي ينبغي أن تكون مزدوجة فهي إلى الشباب وإلى الأبناء، فلا ينبغي أيها الشباب المؤمنون الطاهرون أبداً أن يكون حالك مع أبيك قبل الهداية أفضل من حالك معه بعد أن اهتديت، كيف تكون هذه الهداية؟ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فإذا كان هذا الحال معهم وهما يجاهدانك على الشرك والحمد لله ليس في آبائنا من يجاهدنا على الشرك، لكن بعضهم يجاهدنا على البدع أو المعاصي أو العادات الجماعية وهي أقل من الشرك فلا تطعهما، لكن: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] اتبع سبيلهم، واحضر حلقاتهم ودروسهم، واستفد منهم وشاركهم، لكن مع ذلك صاحب هذين الأبوين في الدنيا معروفاً، وكن باراً بهما وإن كانا كافرين، فلا بد من مصاحبتهم بالمعروف وإن كانا كافرين مجاهدين لك على الكفر. فحقهما عظيم، ولهذا قرنه الله بحقه -كما تعلمون- ولا يخفى على أحد منكم حق الوالدين، لكن لا يأتيكم الشيطان من باب أنني اهتديت، وأبي يكرهني لأنني اهتديت، فما يأمرني أبي به فهو خطأ! لا يا أخي، قد لا يكون الكره لأنك اهتديت، لكن قد يكون الكره لأنك أخطأت في أمر من أمور الدنيا، فقد يكون لأنك لم تتوظف كما أراد، أو لم تبن كما أراد، أو خالفت بعض العادات وهو يرغب أن تتمسك بها، وهكذا لا نجعل الشيطان يأتي ويقول: كل هذه المعاملة لأنك اهتديت، فإذاً اجعل هدايتك سبباً لعقوق الوالدين. لا، فإن من الهداية بر الوالدين، ولو أننا أحسنا إلى والدينا، وإلى جيراننا، وإلى أرحامنا، وإلى زملائنا وعاملناهم بالخلق الحسن الفاضل، لكان هذا أكبر مكسب في الدعوة. وأنا أقول: أحب دائماً أن أسمع الآباء إذا مدحوا أبناءهم أن لا يأتوا بكلمة: لكنه، فتجده يقول: ولدي مستقيم وطيب والحمد لله يحفظ القرآن، ثم إذا سكت حمدت الله، ثم يقول: لكن فيه وفيه فأتألم والله، حتى ولو كان الأب على غير الصواب، لكن يجب أن يكون لديك حكمة لكي تقضي على (لكن هذه) وعلى ما بعدها، وأن تجعل محبة أبيك لك محبة حقيقية كاملة من جميع الوجوه، فإذا لم تكن حكمتي أنا كداعية تنفعني مع أبي وأمي وزوجتي وأبنائي، فأين أستخدمها، وأين يظهر أثر هذه الحكمة؟! فالحقيقة أن الموضوع مهم لأنه يتعلق بالعلاقات الأسرية، وفي كتاب الله عز وجل إذا كان الموضوع يتعلق بالعلاقات الأسرية تجدون أن الله يفصله تفصيلاً، ويربطه بالتقوى، ويكثر فيه الوعد أو الوعيد، وهذا شيء عجيب لماذا؟ لأن هذا عمل يومي، فمهما كان سبب نجاحك في الدعوة، ولو كان بيتك يضايقك فإنك لا تستطيع أن تدعو إلى الله، ولا أن تعبد الله أبداً؛ لأنه سوف يشوش عليك في صلاتك، وفي قراءتك، وفي عملك؛ وفي كل شيء. فهذه من حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا نهضم هذا الجانب، ولعل النصيحة تكون ثلاثية لا ثنائية. فأنصح المدرسين والموجهين أن يكملوا مهمة الآباء في البيوت ويبينوا للأبناء ضرورة بر الوالدين والإحسان إليهما مع عدم المجاملة في الحق أو المداهنة فيه، أو أن يعصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إرضاءً لهما. فالواجب هو على الأبناء وعلى الأباء وعلى المربين والموجهين وعلى المدرسين وعلينا أجمعين.

حقيقة الفن التشكيلي وحكمه

حقيقة الفن التشكيلي وحكمه Q ما المقصود بالفن التشكيلي وإلى أي شيء يهدف؟ A الكلام في هذا يطول، ونحن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} والفن إذا كان المقصود به ما يراد أو ما نظنه الآن نحن من الفن وهو: إظهار صور معينة من خلق الله، أو مما يعتلج في نفس الفنان أو الشاعر كأن يقول قصيدة جميلة، أو يرسم منظراً جميلاً لا حرج في كل ذلك، وهذا إن لم يكن فيه تأثير على جوانب الدين وصميم التوحيد فهي مما تباح. والحمد لله أن في ديننا فسحة وهو الحنيفية السمحة، لكن إذا ارتبط أدبنا وفننا وشعرنا ونثرنا بمناهج مستوردة لا ندري ما حقيقتها، فأنا أنظر إلى لوحة وأقول هذه تشكيلة، لكن إذا سألت الفنان عنها قال: أنا سريالي، والآخر يقول: أنا واقعي، والآخر رومانتيكي. والآخر يقول: تكعيبي، والخامس يقول: أنا مستقبلي، فما هي هذه التكعيبية والمستقبلية والرومانتيكية، سبحان الله!! هذه ليست مناظر بل هذه عقائد وأديان، فهي تعبير عن أديان واعتقادات معينة نشأت في بيئة لا تؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والغرب يربطون نهضتهم في القرن الثالث عشر والرابع عشر بنشأة الأدب والفن، فأول ما بدأت وانطلقت النهضة الأوروبية والحضارة الغربية، من إحياء الآداب الإغريقية، وهذا شيء معروف لا ينكره أي إنسان مُطلِّع على الفكر الغربي والحضارة الغربية. فبدأت الحضارة الغربية تشق طريقها بعيداً عن الدين، وعن عصر الظلمات المرتبط عندهم بالدين بشعر دانتي وبـ مايكل أنجلو وبيكاسوا وأمثالهم من الرسامين ومن الشعراء والأدباء. ثم بعد ذلك ظهرت العلوم التجريبية، وأول ما ظهرت في القرن السابع عشر تقريباً، وأول ما بدأت بالآداب، وهذه آداب جاهلية وثنية ثم تطورت على شكل مدارس واتجاهات لا داعي لذكرها، وقد لا تفهم إذا أطلنا في ذكرها، حتى وصلنا إلى ما يُسمى في هذا الزمان بهذه الفنون، أو المدارس في الفن، وهي في الحقيقة عقائد. مثلاً: إذا نظرنا إلى المدرسة الرومانسية أو الرومانتيكية نجد أنها تقوم على الطبيعة في الأساس وعلى المناظر الطبيعية ومناجاة الطبيعة إلى غير ذلك. والسريالية تقوم على الأحلام، لأن سريالي معناها: فوق الواقع، وما فوق الواقع لا يرسم لك شجرة أو نهر، فهذا يعتبر فن كلاسيكي وتقليدي لا يرضى به، لكن يرسم لك منظراً، عبارة عن ألوان متداخلة متشابكة لا تستطيع أن تفهم منها ما يريد الفنان، وإذا سألته يقول: يمكن أي شخص منا أن يرى اللوحة ويفهم منها أي شيء. وأنا أنقل لكم قصتين واقعيتين، والقصص تروح على النفوس أحياناً. القصة الأولى: كان معرض الفن التشكيلي في باريس قبل سنوات، فجاء الزوار من جميع أنحاء العالم، وعرضت اللوحات، وقبل الافتتاح عملوا مسحاً عاماً وقاموا بتنظيف المعرض، فأحد عمال النظافة -عمال أُميين ونحن أيضاً أميين بالنسبة للفن لا ندري كيف شكل اللوحة ولا نعلم ما فيها- نظف إحدى اللوحات ثم قلبها ونكسها -وهذا الكلام موجود في المجلات، وربما منكم من قرأه- وجاء الناس وتزاحموا عند هذه اللوحة، وأخذوا يتعجبون منها، كيف هذا المنظر؟ وماذا يريد الشاعر؟ وكيف هذه الألوان؟ وكيف وكيف؟ فبلغ الأمر إلى صاحب المعرض أن هناك أناس متجمعين، وصاحب المعرض ليس فناناً، إنما هو أمي لا يدري، وقال: لا تؤاخذونا، فإن اللوحة منكوسة، ثم أعاد اللوحة كما هي، ولم يعلم أن الإعجاب إنما أتى من كونها منكوسة. والقصة الثانية: وهي واقعية: إذا قرأتم عن حياة الرسام الرومانسي المشهور بيكاسوا يقولون في حياته: إنه أراد أن يأتي بلوحة لم يسبقه إليها أحد، فماذا فعل؟ أخذ إناءً كبيراً وجعل فيه ألواناً وخلطها مع بعضها، ووضع لوحةً عند ذيل حمار، وأخذ الحمار يصبغ الألوان بذيله، فأصبحت بزعمهم لوحة، ثم بيعت بآلاف الدولارات، وحدَّث بهذا تلاميذه ونشروا ذلك عند الحديث عن حياته. قد يتعجب أحد ويقول: هؤلاء ضد الفن، فنقول: نحن لسنا ضد الفن، ولا ضد الأصالة، ولا ضد أي شيء جميل أبداً، فديننا دين الجمال، ودين الفسحة، وديننا دين النظافة، وديننا دين التفكر، لكن نحن ضد التبعية العمياء، أناس مرضى، لا يدري أحدهم لماذا جاء لهذه الحياة؟ وهو يعاني من الألم النفسي ومن التمزق الداخلي، وأكثرهم ينتحر لأنه لا يعرف لهذه الحياة قيمة ولا معنى، لكن وجد الناس يشهرون به ويمدحونه لأنه سريالي، أو فرويدي، وهو إنما يأتي بهذه الأحلام من الفراغ. فنقول: إن كان هذا الفن عن الأصالة، وتعبير عن أمور حقيقية أو جيدة أو يخدم هدفاً أدبياً فنياً سامياً فمرحباً به، وأنا ما رأيته، ولكن أقول: إن كان كذلك فالحمد لله، وإن كان كما نقرأ عادةً، فيقولون: فنان سعودي سريالي، وفنان سعودي رومانسي وهكذا إلى آخره فلا يا أخي. الفنان المسلم يجب أن يكون مسلماً حقاً لا ينتمي إلى أي مدرسة من هذه المدارس، وعليه أن يتقيد في رسمه بالأصالة، وبما جاء عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويرسم الشيء الذي فيه العظة، وما أكثر وما أوسع المجال في ذلك والحمد لله.

الموازنة بين الأعمال

الموازنة بين الأعمال Q أحب العمل في المراكز الصيفية وأسعى جاهداً لذلك، وقد يكون أكثر وقتي فيه ومن أجله، لكني أرى نفسي مقصراً في قراءة القرآن مثلاً، وفي المحافظة على الأوراد التي كنت أحافظ عليها، وأحس كذلك ببعض الضعف في إيماني، لأني حريصٌ على هداية الآخرين ومقصرٌ في نفسي، فما نصيحتكم؟ A أنصح نفسي وإخواني بالتوازن في أمورنا جميعا، ً وليس هناك تعارض بين العلم وبين الدعوة، ولا تعارض بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج البيت، وداخل البيت، ولا بين العمل بأمر الله في النفس وبين دعوة الناس إلى العمل به، والحقيقة من أين يأتي التعارض، ومن أين يأتي الخلل؟ يأتي الخلل مني أنا، من تصرف الداعية نفسه، فلو أنني غلبت جانباً على آخر ولم أكن متوازناً في هذه الأمور فإنه سوف يحدث هذا الذي ذكر. وانظروا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أعبد الناس لربه عز وجل، وأكثر الناس جهاداً، وأكثرهم أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر خارج البيت، وأعظم الناس قياماً بحق الزوجة هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعظم الناس قياماً في حق أمر المسلمين والرعية التي كان يرعاها هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجب أن نسعى إلى التوازن وإن كان التوازن صعباً، لكن علينا أن نسعى إليه، وأن نجاهد أنفسنا فيه، لعل الله أن يحقق لنا ذلك. ونقول: إن الإنسان يجب أن يقدم الأفضل على الفاضل، والفاضل على المفضول، لأن الإنسان قد يقرأ القرآن لوحده، لكن إذا ذهب إلى حلقة في المركز فيها تجويد وتفسير، فأيهما أفضل: قرآتي وحدي -وقد أغفل- بغير تجويد وبغير تفسير أم تلك التي في الحلقة؟ لا، تلك التي في المركز أفضل وهكذا. وأيهما أفضل: أن أجلس وأسبح الله وأذكر الله -وهذا شيء عظيم ولا شك فيه- أم أن أنكر منكراً أمامي؟ في الحقيقة إنكار المنكر أفضل لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيراً لك من حمر النعم} أي: من أعظم ما في هذه الدنيا من المتاع. أحياناً يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أفضل عمل، وأفضل حتى من الذكر وهكذا، فيجب أن يكون عندك من الفقه ما توازن به بين هذه الأمور وتقدم الأفضل ثم الفاضل ثم المفضول.

التشبه بالكفار

التشبه بالكفار Q تقليد الغرب أصبح من الأمور التي نشاهدها في عصرنا هذا، وخاصة بين الشباب الذين لا يعرفون طريق الحق، فمنهم من يقلدهم في أخلاقهم، ومنهم من يقلدهم في ملابسهم، ولذلك فإنني حين أرى هذا المنظر أحزن عليهم، وحينما أريد أن أدعوهم إلى الحق فإنهم يعرضون عن ذلك، فهل نحن مؤاخذون في ذلك، وما هي الطريقة المثلى في دعوتهم؟ A تقليد الغرب هو عرض وليس هو أصل المرض، ولكن هو عرض من أعراض المرض، وأصل المرض هو أننا لم نعبد الله ولم نؤمن به ونوحده كما أمر، ولهذا تحقق ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} وكما في الرواية الأخرى: {لو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتم} حتى عندما صنعوا أفلاماً جنسية صنع المسلمون أفلاماً جنسية -نسأل الله العفو والعافية- وهذه مصيبة عظيمة إذا وقعت في المسلمين، ولذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي أشرنا إليه من قبل: {من تشبه بقوم فهو منهم} فمن تشبه بالكفار بعقائدهم وأحوالهم أصبح منهم، ومن تشبه بالأخيار فهو أيضاً منهم، فهذه المصيبة الكبرى التي هي عرض من أعراض المرض الأساسي. أما بالنسبة لقول الأخ: هل نحن مؤاخذون؟ نعم؛ نحن مؤاخذون إن لم ندعُ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الغزو الفكري وهذا الانبهار بحضارة الغرب وعاداته لا يمكن أن يقاوم إلا بعمل وبجهد إيماني قوي ومتواصل، وعلى جميع الجبهات، وعلى جميع المستويات، لأنه مُكثف ومُركَّز، ويستخدم كل الوسائل والطرق، ولا يمكن أن يقاوم بجهود محدودة أو معدودة أبداً، بل المدرسة تنظر إلى الطلاب وإلى حالهم، ونحارب هذا التقليد في البيت، وكذلك الدعاة أئمة المساجد، وكل إنسان كما قال الأخ: يحزن عندما يرى هذا، وهذا الحزن يجب أن يتحول إلى دعوة، بل إلى دعاء أيضاً. ومن الدعوة: الدعاء وهو أن ندعو الله أن يهديهم، وهذه قضية قد ننساها. أقول: قد دعوت ونصحت وما استجاب لي، لكن هل دعوت الله بيني وبين ربي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الإنسان لا يعلم، اللهم اهدي فلاناً، لماذا لا ندعو الله؟ وخاصة بعض الناس لو هداهم الله لاهتدى على أيديهم كثير، ولسد باب من أبواب الشر على الدعوة، وعلى الإيمان، فندعو الله أن يهديهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونبذل الجهود لهدايتهم، وهذا التقليد وغيره هو مما يجب أن نعالجه، وهذا هو شأننا، وهذا هو طريقنا وسبيلنا كما أمر الله، أن ندعو إليه على بصيرة، وأن نحارب هذه الظواهر السيئة الشاذة بجميع أنواعها.

الموقف من الذين يطعنون في الصحوة

الموقف من الذين يطعنون في الصحوة Q يلاحظ في هذه الأيام صحوة إسلامية مما يُبشر بالخير -والحمد لله- ولكن بعض الناس الذين نجتمع معهم يحاولون الاستهزاء، ويعلقون على الشباب الملتزمين، ويقولون: كل شيء برحمة الله وليس بأعمالنا ولا دخل لأعمالنا في دخول الجنة، ولكن برحمته، فما هو واجبنا حيال هؤلاء الشباب؟ A أولاً: الصحوة الإسلامية ليست نشازاً ولا شذوذاً، بل الصحوة الإسلامية هي توبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أمة كانت ضالة شاردة بعيدة عن أمر الله، ثم اهتدت إلى طريق الله وإلى كتابه وإلى سنة رسوله، فما الشذوذ وما الغرابة من هذه الصحوة؟ والصحوة الإسلامية في بلادنا هذه بالذات، لماذا هي أكبر صحوة، ولماذا شبابها -والحمد لله- أكثر الشباب استقامة؟ لأن الصحوة عواملها عندنا ذاتية والحمد لله؛ فمناهجنا مستقيمة. انظر إلى التوحيد والفقه والحديث في الابتدائي والمتوسط والثانوي، وهناك ثقافة إسلامية في الجامعة، أيضاً توجد الكليات الشرعية، فهذه المناهج -والحمد لله- سليمة، ونقول: إن هذا الكلام هو بحكم الغالب، ولا نعني أنه ليس فيه ملاحظات، لكن المقصود أنها إذا كانت مناهجنا من كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا نستغرب أن يكون الطلاب على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولكن نستغرب من الشاب الذي يقرأ التوحيد والحديث والفقه بجميع مراحله الدراسية، ثم يكون منحرفاً فاسقاً في المقاهي ودور المخدرات، فمن أين جاء الشذوذ؟! جاء الشذوذ ممن شذ عن المنهج الذي درسه، وأيضاً شذ عن تعليم الآباء والأجداد، كل الأباء يدعون الله أن يصلح أبناءهم. إذاً لماذا عندما صلح ابنك تقول: فيه وفيه، فأنت فيما مضى دعوت الله أن يصلحه، وقد أصلحه الله، فهل يصلحه على ما في خاطرك أنت، أنه يصلي فقط ويعمر الدنيا للدنيا؟ لا يا أخي! أصلحه الله كما يريده الله، وتوجيهاتك ونصائحك ودعاءك له من أسباب صلاحه، فأين الشذوذ في صلاحه واهتدائه؟ لا شذوذ أبداً، وعلماؤنا -والحمد لله- هم الذين يقودون الصحوة الإسلامية ويرشدونها، وترون دائماً أن الناس أحب شيء إليهم لو جاء الشيخ عبد العزيز بن باز وأعظم فرحة تزف إليهم لو قيل: إن الشيخ عبد العزيز بن باز سيأتي يوم كذا ليحاضر في مكان كذا، فيأتي الناس من كل المناطق، لماذا؟ لأن الصحوة الإسلامية يقودها ويوجهها العلماء، فهل علماؤنا فيهم شذوذ، لا شذوذ -والحمد لله- بل هم على الكتاب والسنة. إذاً من أين يأتي الشذوذ؟ من الذين يتهمون الشباب، ويتهمون الصحوة الإسلامية. فنحن توحدنا على توحيد الله، وما قامت هذه البلاد ولا تأسست هذه المملكة إلا نتيجة ثمرة من ثمرات التوحيد للإمام المجدد الداعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- فدولة قامت على التوحيد، ودعوة قامت على التوحيد، وبلاد توحدت على التوحيد وعلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أين الشذوذ فيها؟! بل الشاذ هو في من يخالف سبيل الصحوة الإسلامية، في من يقلد الغرب أو الشرق، أو يستورد ملاهيهم، وما يبعدنا عن ديننا وعن توحيد ربنا عز وجل، هذا هو الشاذ وإن كثر، وذاك هو الأصل وإن قل. إذاً لماذا الاستنكار والاستغراب على هذه الصحوة؟ أما قولهم: إنه لا أحد يدخل الجنة بعمله بل برحمته سبحانه؟ فنعم؛ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته} وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ويقول: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، وفي الحديث: {لن يدخل أحد بعمله} والجاهل قد يتصور أن هناك تعارضاً، لكن من يعرف كلام الله ولغة العرب فلا تعارض لديه، فقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] الباء هنا سببية، فبسبب العمل الصالح تدخل الجنة أو قد تدخل النار -عافنا الله وإياكم من النار- وبسبب العمل الصالح وبتوحيدهم وبإيمانهم، أي: بسبب إيمانهم وبتوحيدهم أدخلوا الجنة، وما يقوله بعض الناس حق إن كانت الباء هنا للعوض، أي: لا يدخل الجنة أحد بعمله، أي: عوضاً عن عمله وهذا صحيح، فلن يدخل أحد الجنة عوضاً عن عمله، لأن ما أنعم الله به علينا من النعم لا يوازي ما نعبد الله تعالى به من العبادة، ولا يوازي نعمة بسيطة من الله، فهو الذي أعطانا العلم، وأعطانا الهداية، وأعطانا الجسم، وأعطانا القوة، وأعطانا الغذاء والعافية، فنعبده بأمر بسيط مما أعطانا، ونريد عوضاً عن ذلك الجنة، لا يا أخي! هو الذي أعطاك أصلاً، وهو الذي هداك، فإذا قلنا: إن الباء للعوض لا، لا أحد يدخل الجنة بعمله، أي: عوضاً عن عمله، ولكن رحمة من الله أنه جعل العمل سبباً لدخول الجنة. إذاً هناك فرق بين هذه الباء وتلك الباء، والعوام لا يفهمون الفرق بين باء العوض وباء السببية، لكن نحاول نحن أن نفهمهم ونوضحها لهم بطريقتنا إن شاء الله، وكل واحد منا يعلمها لهم بأسلوبه الذي يمكن أن يفهموا به المقصود.

المناهج التعليمية

المناهج التعليمية Q تحدثتم عن أهمية المربين والمدرسين والمناهج التعليمية، ولكن نلاحظ أن بعض مدراء المدارس يضعون المواد الدينية في آخر الجدول الدراسي، وتكون هذه المواد في آخر اليوم حيث يكون الطالب مرهقاً، وكذلك نلاحظ وضعها في نهاية جداول الاختبارات سواء في الفصل أم في نهايته، فما توجيهكم للأولئك؟ A الحقيقة أن الواجب على الجميع أن يهتموا بديننا، ونحن -والحمد لله- من الناحية الرسمية أهم شيء عندنا هي مواد التربية الإسلامية، فهي أول ما يكتب في الشهادة وأول ما يذكر، وهي المواد التي تُسمى مواد أساسية، بحيث إن الرسوب فيها والنجاح لا بد أن يتجاوز الـ (50%) أو أكثر، فمن الناحية الرسمية الأمر لا اعتراض عليه، لكن من الناحية التطبيقية بعض الإخوة مديري المدارس قد يخطئ فننصحهم، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرشدنا وإياهم إلى أن يلتزموا أولاً بأمر الله في تعظيم ما عظم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وهو أمر هذا الدين. ثم أيضاً: الالتزام بالمنهج العام للتعليم لبلادنا في جميع مستوياته، وهو أن الأساس والاهتمام والتركيز هو لمواد التربية الإسلامية، ثم ما يكملها ويعين عليها وهو اللغة العربية، ثم تأتي بعد ذلك جميع المواد، فيجب علينا أن نعرف هذا وليس هذا نظرياً على ورق بل حقيقةً وتطبيقاً وعملاً، ويجب على المسئولين أن يتابعوهم بذلك، وأن ينبهوهم إليه؛ لأن هذا من باب: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

حكم تفضيل الكفار على المسلمين

حكم تفضيل الكفار على المسلمين Q فضيلة الشيخ يقول بعض المسلمين: إن الكفار أفضل من بعض المسلمين، ويقصد أن الكفار لا يغشون ولا يخدعون، أفيدونا في مثل هذه المقولات، وجزاكم الله خيراً؟ A ذكر العلماء -رحمهم الله- في أنواع وألفاظ الكفر -وهذا في القديم قبل عصر الحضارة الغربية- أن يقول رجل: اليهود أفضل من المسلمين؛ لأنهم يعطون أجرة المعلمين قبل المسلمين، حيث كانت رواتب المدرسين ليست مثلما الآن من الوزارات، فكانوا في حلقات مجانية، واليهود دائماً تجار وكانوا يحرصون على تعليم أبنائهم، لأنهم أقلية والمسلمين أكثرية، والأقلية دائماً تحرص وتجتهد أنها تنافس الأكثرية، واليهود يدفعون قبل المسلمين، وكان المسلمون كما هم الآن لا يهمهم تعليم أبنائهم، فكان يقول بعض المعلمين وبعض المؤدبين: اليهود أفضل من المسلمين، ويبين سبب الأفضلية؛ لأنهم يدفعون أجرتهم قبل المسلمين، وقد ذكر العلماء ذلك في كتب الفقه، وأن هذا من الكلمات المكفرة، عافنا الله وإياكم. فمن أجل دينار أو درهم تجعل اليهود أفضل من المسلمين! إذاً العقيدة عندك بعد الدينار والدرهم، وأهم شيء عندك الدينار والدرهم، وبعد ذلك الدين أو العقيدة أو الإيمان، وكذلك اليوم إذا قلنا عبارة مشابهة: الكفار أفضل من المسلمين، لماذا؟ قال: لأنهم لا يغشون ولا يكذبون. أولاً: الكفار يكذبون ويغشون ويسرقون وينهبون لكن على غير طريقتنا، فالكافر لا يأكل مثلنا مائة ألف أو عشرة آلف رشوة، لكن الكافر يأخذ المشروع الذي يمكن تنفيذه بمليون ريال وينفذه بمائة مليون أو بخمسين مليون، فهذا ليس غشاً في ظاهر الحال، فهو عقد وقَّعناه معه، لكنه في الحقيقة غش مدروس، غش الأذكياء والمتحضرين لا غش المتأخرين والرجعيين، فمن قال: إن الكفار لا يغشون فقد أخطأ. وأضرب لكم مثلاً: المياه الإقليمية، جميع دول العالم اثني عشرة كيلو متر والولايات المتحدة مائتين كيلو متر لماذا؟ أليس في هذا غش؟ إذا سقطت طائرة فيها خمسمائة راكب، قالوا: أنقذوا منهم الأمريكيين وإن اختطفوهم وسلموا أجروا المقابلة مع الأمريكي فقط، وهذه الشعوب أليست بشراً؟ فهم يغشون بل أكبر غش، وعندهم أكبر عنصرية في كل أمورهم. وقد تقع مشكلة في أبعد بلدان العالم، وتكون فتنة داخلية قامت، وإذا بالكفار يتدخلون فيها ويعطون هذا السلاح، وهذا يدعمونه لهدم هذا البلد، ولتأجيج الفتنة ولينفذوا مخطاطتهم. فالكفار لا يأكلون فرداً ولكن يأكلون شعباً بأكمله، فالكفار يتسببون في أن شعباً من الشعوب ينكب نكبة عظيمة في كل موارده وخيراته، فإذا نكب أرسلت عندهم الجمعيات الخيرية لجنة للإغاثة والإنقاذ، لكن من الذي نكبه في الأصل؟ هم، فيأتي ويقول: يا أخي، هم يبعثون فرق إغاثة وإسعاف مجانية، وهؤلاء الكفار أمرهم عجيب، هذا إذا لم تستخدم هذه الفرق في التبشير وإخراج أولئك عن دينهم. فنحن نغفل عن أشياء كبيرة، الواحد منا الآن إذا كان في صندوق فإنه يحسب نفسه محبوساً، لكن إذا كبرنا الصندوق -مثلاً- أصبح مائة متر مربع فإنه يرى نفسه لم يحبس، فالكفار عرفوا كيف يمددون صندوقهم فيستوعب العالم كله في أيديهم، والعالم يقول: إنه حر، وأنه يتنفس كما يشاء، وهو لا يخرج أبداً عما يخططون ويريدون. إذاً: لا يجوز أبداً تزكية الكفار، لأن الواقع يكذب ذلك، ولأن ما أخبر الله به عنهم هو كذلك، إلا كأفراد إن وجد منهم فرد لم يغشك، فتقول: هذا الكافر تعاملت معه ولم يغشنِ في كذا، لكن أن تقول: إنه أفضل من المسلمين فلا يجوز هذا، وتفضيل الكافر على المسلم هو من ألفاظ الكفر -والعياذ بالله- ولو أنك قلت لمسلم: أنت مسلم والغش لا يجوز، وكيف تغشني وهذا الكافر لم يغشني؟ تريد أن تزجره وتبين له لكان أفضل، ولكان كلامك صحيحاً؛ لأنك تقول: أنت يا مسلم! كيف تغشني، والكافر الذي لا خير فيه لم يغشني؟ أما أن تقول: إنه خير من المسلم فلا، فإنه لا خير فيهم أبداً، فإن الكفار يريدون ألَّا يبقى لنا مال ولا جاه ولا أخلاق ولا حتى صحة، ولا شيء إلا نهبوه، لكن بطرقهم وبأساليبهم. فيجب علينا أن نجعل ولاءنا لله ولرسوله وللمؤمنين، ونخلص في عداوتنا ونمحضها للكافرين أياً كان دينهم.

ضرورة الحرص على صلاة الجماعة

ضرورة الحرص على صلاة الجماعة السؤال يقول: أنا رجل أصلي في المسجد -ولله الحمد- ولكن لا يوجد من يوقظني لصلاة الفجر؟ ماذا أفعل؟ A الحمد لله أنك تصلي في المسجد، وحريص على الصلاة في المسجد، لكن يجب عليك أن تستكمل الإيمان، ولا صعوبة في الاستيقاظ لصلاة الفجر عن طريق الساعة المنبهة، وهي موجودة في كل مكان. وأضرب لكم مثالاً: إذا كان شخص منا على موعد مهم في دنياه أقل ما فيه إذا كانت الرحلة -مثلاً- ستقلع الساعة أربع ونصف ليلاً تجدنا نسهر طول الليل ولا ننام، وإذا قلت له: يا أخي! لماذا لا تنام وأنا أوقظك؟ قال: لا أطمئن، وأخاف أن تفوت الرحلة. وهذه صلاتك أعظم من كل رحلة، هذه الصلاة غالية، اذهب إلى أي شاب مسلم مستقيم، ولا أقول الكبار لأنهم أحرص على الدنيا لكن الصغار، وقل له: لا تصلي الظهر اليوم وأعطيك عشرة ملايين؟ أو عشرين مليون واترك صلاة الظهر، فماذا سيكون الرد؟ والله لا يقبل أحد منكم هذا. إذاً الصلاة غالية جداً، لكن إذا اجتهدت ونمت مبكراً وأخذت بالأسباب ولم تستيقظ فإن الله يعفو عنك، وهذه نعمة من الله ورحمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يؤاخذنا إلا بما فرطنا، والتفريط يكون إذا لم نأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى أداء حق الله وعبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وأوصي نفسي وإخواني جميعاً بأن نجتهد في هذا الأمر الذي يبدو أنه قد يكون عسيراً وعظيماً، ولكنه يسير على من يسره الله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].

التفريط في صلاة الجماعة

التفريط في صلاة الجماعة Q بعض الناس يصلون -ولله الحمد- وعندهم نزعة طيبة، لكن لا يهتمون بالصلاة، وينصحون بهذا، لكن لا يكترثون في هذا، مع العلم أنهم يصلون، لكن نود منكم بارك الله فيكم أن توجهوا أولئك، والسامع يبلغ الغائب؟ A الحقيقة أن صلاة الجماعة من أعظم شعائر الإسلام التي إذا تركناها تركنا سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، ولم يعهد ولم يعرف في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد ترك صلاة الجماعة إلا المنافقين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق]] ولهذا جاء في الحديث الشريف الوعيد الشديد، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لولا ما في البيوت من الذرية لهممت بأن آمر بالصلاة فتقام، وآمر رجلاً فيؤم الناس، فأخالف إلى أقوام فأحرق عليهم بيوتهم}. وهل تظنون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرق البيت ويحرق من فيه، ويستحق من فيه الحرق، وإتلاف أو تعريض منزله للإتلاف على أمر هين؟ لا، وليس هو إلا على أمر عظيم، ويظن بعض الناس -مع الأسف الشديد- أن العلماء كما يقولون: إن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبعة وعشرين درجة، يظن أن العلماء كلامهم متعلق بالتفضيل، فإذا كان لا يريد إلا درجة فإنه يصلي الفرض في البيت، وهذا غير صحيح، ولا بد أن نعلم أن العلماء -رحمهم الله- اختلفوا هل تصح الصلاة في البيت؟ أي: هل تصح الصلاة في البيت مع إمكان أن تصلى جماعة أو لا تصح، لماذا؟ لأنه لم يرد ولم يثبت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً أن مؤمناً غير معذور صلى في بيته، بل لا يصلي غير معذور في بيته إلا المنافق الذي حبط عمله -والعياذ بالله- فبعض العلماء يرى أنها لا تصح، وأن الجماعة شرط في صحتها، والبعض يرى أن الجماعة سنة مؤكدة، وأنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، إذاً الأمر عظيم. ونجيب على القول الآخر الذي يقول: إنها سنة مؤكدة بأنه هل أحد من الناس في دنيانا الحقيرة التافهة يرضى أن يعمل عند شخص بريال، وهو يستطيع أن يعمل عند جاره بسبعة وعشرين ريالاً؟ ولو كانت ستة وعشرين، ولو كانت خمسة وعشرين، أو أربعة وعشرين، فإنه يقول: أنا مظلوم، وإذا قال له صاحب المحل: علاوتك ناقصة عشرة ريال، فإنه يقول: لماذا وأنا أستحقها؟ وكيف تنقص علي حتى ريالاً أو ريالين؟ فنجعل هذا ميزاناً للتفاضل، فلماذا في دنيانا نضبط المعايير والمقاييس والموازين ونتفحص؟ وكما يقول بعض الإخوة: إنك لا تعطي صاحب دكان خسمائة ريال إلا ويضعها على السراج ويفركها، ويتأكد منها قبل أن يصرفها لك، فهو يتأكد من الدنيا، ولا يقبل الغش فيها، لكن ديننا أعظم وأهم، فكيف لا نهتم بالغش الذي في قلوبنا. فعلينا أن ننصح هذه القلوب لله ولطاعة الله ولعبادته، ولا بد أن تنصح للمسلمين فتحبهم وتحب لهم الخير كائناً من كانوا، وتنصح لنفسك أولاً بأن تنجوا من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتكون نفسك صادقة في إيمانها ناصحة فيه. فأذكر نفسي وإخواني جميعاً بأهمية هذه الشعيرة العظمى، وتعلمون أن الاجتماع أمر عظيم من أمور هذا الدين، وتعلمون أن صلاة الجمعة يجب أن تقام في جميع بلاد المسلمين، في مسجد واحد من مدينة المسلمين، وكان هذا هو الحال مهما كبرت المدينة إلى قرب نهاية القرن الثالث، وبغداد على كبرها وقد كانت أكبر مدن العالم وفيها ملايين السكان، ومع ذلك تقام جمعة واحدة، ومكة جمعة واحدة، والقاهرة جمعة واحدة، وهذا هو الأصل أن يكون لأهل البلد جمعة واحدة لا جمعتين؛ لأن ديننا يقوم على الاجتماع وعلى تكثير المسلمين، وعلى إرهاب عدوهم وعلى إغاظته والفاجر والمنافق إذا رأى الأمة كلها ملئت هذا البر كله وكلهم يصلون الجمعة، وهو متخلف فإنه يأتيه الوازع من نفسه وقد يدفعه ذلك إلأى أن يهتدي -بإذن الله- فالاجتماع وتكثير المسلمين في أمور الخير وفي شعائر الله يجب أن نحرص عليه في أنفسنا، وأن ندعو أيضاً المسلمين إليه.

حكم استقدام الخادمات والعمال غير المسلمين

حكم استقدام الخادمات والعمال غير المسلمين Q الملاحظ كثرة العمال غير المسلمين من بلاد الهند وغيرها وكذلك استقدام الخادمات غير المسلمات، فما توجيهكم في هذه الأمور؟ A مما أوصى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرض موته، ولا شك أن هذا دليل على أهميته، أنه قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يجتمع فيها دينان} فهذه الجزيرة - جزيرة العرب - لا يجتمع فيها دينان، وقد صدرت الفتاوى والتوجيهات، وتتوالى من اللجنة الدائمة للإفتاء ومن علمائنا -والحمد لله- مما يوجب تطبيق هذا الحديث، وتنفيذه على الجميع، وهو أنه لا يجوز للمسلم أن يستقدم العمال الكفرة من أي بلد، وأن لا يوليهم، ولا يأمنهم، وكيف نؤمنهم وقد خونهم الله؟! وكيف نعزهم وقد أذلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! وكيف نأتي بالكافر ونعطيه من الأموال، وربما كان سائقاً أو خادماً أو خادمة فيطلع على الأعراض، وأخذ الأموال، وربما نهب العرض، وقتل النفس؟ وكم فُعل ذلك، لكن لا نعتبر من تلك الأحداث، بل نعصِ الله تعالى، ولا أحد يعصي الله إلا ويذوق جزاء معصيته لله تعالى. فإن كانوا كفاراً لا يجوز أن يُستقدموا، بل يجب أن يرحلوا فوراً إلا في الأمور الاختصاصية الدقيقة، ولاسيما ما كان من الشئون العامة من أمر يتعلق بالحكومة، أو بولي الأمر ويرون أن هذا اختصاص لا بد منه، أما مشاريعنا وأعمالنا العادية فما الاختصاص الذي لا يجيده إلا كافر؟ ليس عندنا أبداً شيء من هذا. ثم إن الخادمات والسائقين لهم مصيبة أخرى: وهي ما يحدث من الاختلاط، وما يحدث من انتهاك الأعراض، ومن الدمار الخلقي والاجتماعي وما أكثر ما وقع من ذلك، ولكن من الذي يعتبر، وأقل ما فيه أن الخلوة موجودة، حتى لو كانت مسلمة كبيرة في السن ومتمسكة بالدين، لكن الخلوة موجودة ولا محرم لها، ولا نعني أننا نأتي لهما بمحرم ونفرد لهما مكاناً مستقلاً، لكن نقول للذي يستقدم خادمة أو سائقاً -ولو كان كبيراً-: الخلوة حرام. يقول سعيد بن المسيب رحمة الله عليه إمام التابعين وهو من الإيمان والتقوى يقول: [[لو استأمنت على خزائن الدنيا جميعاً لأمنت نفسي عليها، ولا آمنها على جارية أو على عجوز شوهاء بنت ثمانين سنة]] لا أستأمن نفسي على المرأة، لأن هذه رغبة جنسية، وهذا الدافع لا يمكن للإنسان -أحياناً- أن يحول وأن يقف دونه أبداً، فقد يأمن الإنسان نفسه أن لا يغش ولا يكذب ولا يخون أو كذا، لكن لا أحد يأمن نفسه أن يقع في الزنا، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما خلا رجل بامرأة -رجل مطلق، لأن (رجل) نكرة- إلا كان الشيطان ثالثهما} ولا يقول أحد: أنا قلبي نظيف، فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك في صيغة العموم، وقال للصحابة: {على رسلكما إنها صفية قالا: سبحان الله! أفيك نشك يا رسول الله؟! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} وأمور كثيرة جداً، واسألوا الواقع عن هؤلاء الخدم والسائقين. والحمد لله، نحن لا نحتاج إلى الخادمات، حتى لو أن الأسرة تساعدت فيما بينها فلا يوجد حرج، فعندما يكون الناس في الدوام أو في المدارس، تنفع أهلك ثم تذهب. وأيضاً: أين البنات وأين القريبات؟ فإذا قال شخص: إن زوجته أو أمه مريضة أو عنده ولادة، فهل لا بد من خادمة؟ ونحن نجد أنه إذا ولدت امرأة فإنهم يأتون لها من أطراف القرية، وهذا معروف، فهذه تأتي بالثيران والبقر، وهذه تأتي بالأكل، وهذه تطبخ، وهذه تكنس البيت. سبحان الله!! كل يوم يمرون عليها ويتعاونون فيما بينهم، وهذه عادات طيبة وصلة رحم، أما الآن فإنها تريد أن تجلس أمام التلفاز ولا تعلم شيئاً عن عمتها أو خالتها، ويقولون: احضر خادمة، سبحان الله!! تركنا صلة الرحم وتركنا العادات الطيبة ونريد أن نعصي الله.

بعض المحاذير الشرعية في العزاء

بعض المحاذير الشرعية في العزاء Q العزاء عند أهل الميت وإعداد الولائم من القادرين وغير القادرين على ذلك لمدة ثلاثة أيام، فما هو حكم الإسلام في ذلك أثابكم الله؟ A هذه بدعة منكرة ولا يجوز أن تقر من أهل العلم والدعوة والصلاح، فحسبنا أن نعلم أن: {كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار} وأن: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ويترتب على ذلك من محظورات شرعية منها: 1 - تكليف أهل الميت مالا يطيقون مع أنه يجب أن نواسيهم وأن نعزيهم. 2 - ومنها أن ينفق على هذه الولائم من تركة الميت وهذا حرام، وقد نهانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن ذلك: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} [البقرة:188]، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه} فهذا المال من التركة هو من حق الورثة، وقد يكونون أيتاماً أو عجائز ضعفاء، والبعض يأخذ من التركة وينفق على الذين يأتون من أطراف الدنيا، لا يجوز ذلك، بل يكتفى -كما كان الحال أولاً- بشيء من القهوة أو الشاي من الأمور العادية التي لا مشقة فيها بالنسبة للمستقبلين، بل ينبغي أن يعلم أن السنة أن يصنع طعام لأهل الميت كما في الحديث: {اصنعوا لآل جعفر طعاماً} فنأتي ونعطيهم نوعاً من الطعام، ولا نأتي بالغنم معنا، ونقول: اصنعوا طعاماً؟ لا ليس هذا، بل نذهب إليهم بما يكفيهم للغداء أو العشاء، ولا نأتي بالذبائح ونجلس نأكل معهم، ونقول: نطبق السنة، لا إذا كنا لا نطبق سنة إلا ببدعة كبيرة فنترك السنة هذه، فهذا ليس من السنة، فالسنة أن تأتي إليه ومعك شيء من الطعام وتعطيه أهل الميت، أو شيء من الفاكهة أو الطعام المطبوخ -مثلاً- وتعطيهم إياه، هذه هي السنة إن شاء الله.

الاحتجاج بالقدر على المعصية

الاحتجاج بالقدر على المعصية Q البعض يحتج بالقدر حينما ينصح بالهداية إذا كان غير مهتدٍ، ويقول: هذا من قدر الله، فما هو تعليقكم على ذلك؟ A نعم؛ كل شيء بقدر الله، فإن أصيب العبد بمصيبة، وقال: هذا بقدر الله، أي: يجب عليّ أن أصبر وأن أحتسب وألَّا أقنط فهذا حق، وهذا الذي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به عباده الصالحين حتى يؤمنوا بالله، وهو أن يؤمنوا بالقدر خيره وشره من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] لأن كل ذلك في كتاب عند الله. أما إذا كان الإنسان يفعل المعصية ويُصر عليها، ويقول: كل هذا بقدر الله، فهذا لا يقولها من باب الإيمان بالقدر، بل يقولها من باب الاحتجاج بالقدر، وهناك فرق بين الإيمان بالقدر وبين الاحتجاج بالقدر، فهذا لا يقول: آمنا بالله بل كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] وهذا صحيح، فلو شاء الله ما أشركوا، والله قال في نفس الآيات بعد ذلك: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107] لكن: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] لماذا؟ لأن كل شيء بمشيئة الله، لكن ما قالها الكفار بناءً على حزن وعلى ندم، فلو أن أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه عندما تأخر عن الإسلام، قال: لو شاء الله لآمنت أول ما يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، فإننا نقول: هذا صحيح، لماذا؟ لأنه يعزي نفسه على تأخر إسلامه رضي الله عنه. أما من يقول: لو شاء الله أسلمت، وهو مشرك ومصر على الشرك، ويحتج بالقدر ويعبد الصنم، ويقول: لو شاء الله ما أشركت، فهذا كإبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] الإنسان المسلم لا يقول: ما دام الله أغواني فسوف أستمر، وما دام الله لم يرد أن أصلي فسوف أستمر ولا أصلي! فإنه يكون بهذا من القدرية الإبليسية أو القدرية المشركية الذين يحتجون بالقدر، إما على الاستمرار في المعصية، كما فعل إبليس وكما قال قائلهم: ما دام أن الله لم يهدني فسوف أستمر في ترك الصلاة، وهذه هي القدرية الإبليسية. وأما القدرية المشركية فهم الذين يحتجون بقدر الله على أمر الله، ويعارضون قدر الله بأمره، ولهذا قال عز وجل بعد هذه الآيتين في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]. إذاً من هدى الله هداه توفيقاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن ضل وحقت عليه الضلالة فهذا جزاء كفره، ولو أنه تعالى يُقر الشرك ما بعث في كل أمة رسولاً يدعوهم إلى التوحيد، ولو أنه يقر ترك الصلاة ما أمرنا وشرع لنا أن نصلي وهكذا. فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعايب والذنوب، وإنما يحتج بالقدر على النكبات والمصائب: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]. فإذا قيل لشخص: لماذا مات ولدك؟ قال: الحمد لله، هذا قدر الله، وهذا أمر الله، فإن هذا حق، أما إذا قيل لشخص: لماذا لا تصلي؟ قال: هذا قدر الله، وهذا أمر الله، نقول: كذبت، إن الله تعالى أمرك أن تصلي، وصحيح أن هذا بقدر، لكن لو صليت لكان هذا -أيضاً- بقدر الله. فنسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين بالله وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

شبهات وشهوات

شبهات وشهوات تكلم الشيخ حفظه الله عن العمر وأهمية المحافظة عليه باستغلال الأوقات، موضحاً فوائد اللقاء مع الإخوة في الله، ثم تكلم عن مرحلة طلب العلم وأهميتها في حياة الشباب، ووضح حاجة الأمة إلى الدعوة، وإمكانية الدعوة من خلال المساجد، مبيناً أهمية تصحيح المفاهيم والمعايير المتعلقة بذلك على ما جاء في الكتاب والسنة.

قيمة العمر

قيمة العمر الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن من نعمة الله علينا أن يجد الإنسان إخوة في الله يسكنون متجاورين متعاونين على تقوى الله وطاعته، يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، ويُذكِّر بعضهم بعضاً، فالعمر محدود، والرحيل قريب، والراحلون إلى الدار الآخرة يزيدون المؤمن إيماناً بضرورة الجد والعمل وقصر الأمل، ويذكرون الغافل عن الله وآياته، والمضيع للعمر في اللهو واللعب وما لا يجدي بحتمية هذا المصير. فإذا وُجِدَ الإنسان إخوة في الله يدرس ويسكن معهم، فإنهم يعينونه على تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما يقرب إليه، ويذكِّرونه بأمر الله، فهي نعمة كبرى خاصة في هذا الزمن، الذي تكالبت فيه الفتن واشرأبت بأعناقها من كل مكان، وحوصر الشباب المسلم في نفسه وما حوله من كل جهة لكي ينجرف وينحرف وراء الشهوات والضلالات والبدع، فجديرٌ بنا في هذا العصر أن نتآخى في الله، وأن نتعاون في ذاته، وأن نضحي لكي ينقذ كل منا نفسه وأخاه. والمتأمل في عمر الإنسان يجده معدوداً محدوداً قصيراً؛ إذ أن سنوات الطالب الجامعي أربع سنوات، وهي قليلة جداً في حساب الزمن، فإذا نظرنا إلى العمر وأنه قليل، فإنها تكون قليلة من ذلك القليل. فعلى الإنسان أن يتقي الله في هذا العمر، وأن يجعل هذه السنين مناسبة عظيمة، وفرصة كبرى، وغنيمة يغتنمها؛ لكي يتعلم ما ينفعه، ويقربه إلى الله، ولكي يستعد للدعوة إلى الله على منهاج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالآن تستطيع أن تسأل وأن تتردد على حِلَقِ الذكر، وتذهب إلى من تريد لتستفيد منه علماً وخيراً، وتستطيع أن تدعو إلى الله، وإن أخطأت أو تجاوزت فإن ذلك يكون في هذه الفترة مقبولاً منك؛ لأنك في مرحلة الطلب. وأنت أيضاً -غالباً- متفرغ للدراسة، فلا مشاغل عائلية، ولا أعباء ولا مشكلات، ولكن حالك إذا تخَّرجت وعدت إلى بلدك سيتغير، فستخرج إلى الحياة العامة، وستنشغل بالأهل وأعباء الحياة، وستكثر عليك المسئوليات، وعندئذٍ ستندم على ساعات أو ليالي أو أيام مضت في السكن لم تستفد منها، فالعاجز يندم على تفريطه، والمجد يندم على عدم اجتهاده أكثر، وهي تجربة يشعر بها كل من مر بها، ويندم ويتأسف على تلك الأيام أن لو اغتنمناها أكثر فأكثر، حيث ثورة الشباب والفراغ، وحيث الإخوة في الله، وإمكانية التقويم والتصحيح، وحيث إمكانية السؤال.

شباب الجامعة وواجبات الدعوة

شباب الجامعة وواجبات الدعوة ونحن أبناء جامعة أم القرى يجب علينا أن نتقي الله في أنفسنا، وأن نكون صادقين، وصرحاء مع حقوق الله علينا، فلابد لنا من التأثير في مجتمعنا وما حول جامعتنا، بل لا بد أن نعد العدة لأن نقوم بها خارج هذه البلدة أيضاً. فكل شاب مسلم في أي بلد في العالم يلام إن قصَّر في الدعوة إلى الله، ولكن طالب جامعة أم القرى إن قصر كان اللوم في حقه أعظم، وإن عمل كل أحد فالواجب عليه أكبر وأكثر. تضم هذه الجامعة حسب الإحصائيات الأخيرة ما يقارب (15000) طالب وطالبة. فيا سبحان الله! لو فرضنا أن منهم (1500) فقط دعاة، فهل يكون حالنا كهذا الحال؟! أقول: دائماً يجب أن نكون صرحاء، ولا سيما إذا لم يكن فينا غريب، وليس غير الإخوة في الله، فلنكن صادقين في انتهاز الفرص، وأن نتحدث نحن منتسبي هذه الجامعة وهذه الكليات الشرعية، ونحن وحدنا عن الشباب الضائع، فالشباب الضائع اللاهي الذي يعبث حول الجامعة لابد من نصيحته ودعوته إلى الله، فالمساكن القريبة والمقاهي والملاهي لابد من بذل الجهد في نصيحتها، فإقامة الدعوة في السكن شيء طيب لكن لا نكتفي به.

أهمية الدعوة

أهمية الدعوة إن نسبة معينة فقط من الشباب هي التي تشارك وتفيد وتستفيد، أما البقية فإنها لا تفعل ذلك، مع أنه لا بد لطالب العلم -الذي يتعلم ليدعو إلى الله- من أن يكون له برنامج للدعوة خاصة في هذا الزمن. هذه جامعة أم القرى، وهذا هو الطالب الذي لو سألته: أتطلب العلم لوجه الله؟ هل تطلب العلم لتدعو إلى الله؟ فسوف يجيب: نعم! ولا شك، وأنا أقول بصراحة: لو سألنا هذا السؤال في أحد الاختبارات فمن سيجيب بلا؟ لا أحد، وفي الواقع الذي يطبق قلة: فكأننا نكذب على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ماذا عملنا في هذا البلد الحرام؟ وكيف هو حال ما حول مكة؟ أتعلمون أنه يعرض كثيراً، ومما عرض أخيراً على سماحة والدنا الكريم، وشيخنا الفاضل: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وأطال عمره، ونفعنا بعلمه، عرض عليه تقريرات، أو تقارير عن مناطق تبعد عن مكة ما بين (30 - 40) كيلومتر فقط؛ وبعضهم يأتي إلى مكة، وهم لا يحسنون قراءة الفاتحة، ولا يعرفون الأصول الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ حتى أن فضيلة الشيخ عبد الله الفنتوخ مدير عام الدعوة هو بنفسه قال: أنا سألت واحداً منهم: من ربك؟ فقال: محمد! وهذا في الأماكن القريبة، فأقول: لابد أن نجلس وحدنا، لنكون صادقين وصرحاء مع أنفسنا، ولا نكذب، قد نخدع أي أحد -ونعوذ بالله أن يكون فينا أحد مخادع- لكن لا يخادع الإنسان نفسه، ولا ينبغي أن يخدع نفسه، لأن هذا مصيرك، وهذه مسئوليتك بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أين دعوتك؟ وأين تبليغك لدين الله؟ وما العذر في ذلك؟ يذهب الشاب منا إلى أهله، أو إلى بلده، أو قبيلته في العطل، في مدة تطول أو تقصر كم منا الذين يدعون إلى الله ويصبرون، ويبلغون قومهم إذا رجعوا إليهم؟ أليس هذا هو واجبنا جميعاً؟ وإلا فلم التحصيل؟ ولم الاستكثار من حجة الله علينا؟! لما سئل أحد السلف عن طلب الزيادة في العلم، فقال: هل عملت بما قد علمت؟ قال: لا. قال: فلم تستكثر إذن من حجة الله عليك؟! وأقول: لم نكمل الجامعة إلا وكلٌ منا يريد أن يواصل الدراسة، لنستكثر من الحجة، ماجستير ثم دكتوراة، وماذا بعد ذلك؟ قد يموت الإنسان ولم يكمل شيئاً من هذه المراحل، وأكثر من يموت هم الشباب، قال بعض السلف الصالح: ' أكثر من يموت الشباب، ومن أراد أن يعرف صدق ذلك فلينظر إلى قلة الشيوخ '، فكم عجوزاً ترى في هذا البلد؟ وكم ترى إنساناً مسناً محدودب الظهر؟ إنهم قليل جداً؛ لأن الناس يموتون، وهم ما يزالون أقوياء، وفي سن الشباب، وما حوله، إذن فماذا ننتظر؟! سبحان الله العظيم!

من فوائد صلاة الجماعة

من فوائد صلاة الجماعة الأمة تجتمع عندنا خمس مرات في اليوم، دع الذي لا يصلي، وانظر إلى الذين يجتمعون عندك في اليوم خمس مرات ماذا قدمت لهم؟ هل دعوتهم إلى الله ليكون لك مثل أجورهم دون أن ينقص ذلك من أجرك شيئاً؟ ولا أزال أتذكر كلمة ذلك المجرم الأثيم لينين، الزعيم الشيوعي المعروف، عندما اقتحمت جحافل الثورة الشيوعية المدن والدول الإسلامية التي تزيد مساحتها على مساحة الدول العربية مجتمعة، تركستان، وبلاد ما وراء النهر، اجتاحها أولئك الشيوعيين، واجتاحوا الدول التي تدين بـ النصرانية، فأذعنت وسلمت، ودول تدين بأديان أخرى من المشركين فأذعنت وسلمت. لكن المسلمين قاموا وجاهدوا أكثر من ثلاثين سنة، لا أحد يدري عنهم، فكثير من مشاكل المسلمين لا يدرى عنها؛ لأن الأمة في لهوها ولعبها وغفلتها، فقال لينين: لم هذه المقاومة؟ وما السر؟ قالوا: إن المسلمين يجتمعون، قال: فرقوهم، فشحن أعداداً هائلة إلى سيبيريا، وإلى المصانع في الشمال، فما نفع ذلك، فسائل المجرم عن السر في ذلك؟ فقالوا له: هؤلاء يجتمعون في اليوم الواحد خمس مرات، وفي كل حي يجتمعون في الأسبوع مرة، ولا يكاد يغيب منهم أحد، وهذا من دينهم، فعجب هذا المجرم والطاغوت، وقال: لو اجتمع الناس عندي خمس مرات في اليوم لجعلت العالم كله شيوعياً! خمس مرات يأتيك الناس، أنا لا أطلب منك أن تلقي خمسة مواعظ بعد كل صلاة! لكن تسلم على هذا، وتكلم هذا، وتنصح هذا، تعظهم جميعاً، وأحياناً تكلمهم جميعاً، وتنشئ علاقات صداقة ومحبة معهم، لتقربهم إلى الخير، لترى ما عندهم، هذه هي التي من أجلها بنيت المساجد، وشرعت الجماعة، وعبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأداء الصلاة أمر عظيم، لكن لا نفوت الحكم والمصالح، فكلها متداخلة متشابكة، فنجد منافع عظيمة في الصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، كلها فيها المنافع، وهي لا تنفصل، وهي لمصلحتنا، وإلا فالله تعالى غني عنا، فمن الخير لنا أن نسجد لربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لتطمئن قلوبنا بذكره، ولننسى هذه القسوة والغفلة التي يكابدها الناس الذين شغلوا بالحياة الدنيا، ثم يذكر بعضنا بعضاً ليكسب الأجر. إذا قام في ذهن الشاب المسلم هذا الإحساس بضرورة الاستفادة من العمر، واستغلال الوقت للأجر، ولما يقربه من الله، ولزيادة الحسنات، تجده شعلة من الحركة، والدعوة إلى الله. كان بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إذا أثقلته العبادة، أو القراءة، أو الجلوس مع أهله وزوجاته، يخرج إلى السوق، ليجد شيئاً يكسب به الأجر، فيخرج يسلم على الناس، فإذا رأى منكراً أنكره، وإن لم ير المنكر، فيلقي عليهم السلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والآخر يرد عليه، فيكون كسب: ثلاثين حسنة، ومن غيره ثلاثين وهكذا، فلا يرجع إلى البيت إلا وقد كسب هذه الحسنات العظيمة، وكان فيها نوع من الصلة لإخوانه المسلمين، والتعرف على أحوالهم، وكان فيها نوع من إنكار المنكر، فلو لم يكلم الناس فإنهم إذا رأوا مثل هذا الإنسان، يستحيون أن يظهروا المنكر أمامه. أمَّا نحن فقد غفلنا عن مدارسنا، وأسواقنا، وغفلنا عن مقاهينا، وغفلنا عن قبائلنا، وربما عن أسرنا، وربما يكون فينا من يغفل حتى عن نفسه. إذن ما فائدتنا؟ وما قيمتنا في هذه الحياة؟ هل للشباب وللجامعات من قيمة إلا بقيمة العلم والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!

دعوة إلى تصحيح المعايير والمفاهيم

دعوة إلى تصحيح المعايير والمفاهيم هل يصح أن تكون معاييرنا هي معايير ذلك الإنسان الذي لا يعرف الله واليوم الآخر، أو من العامة الذين لم يتعلموا ما تعلمنا؟ انظروا إلى المعايير التي علَّمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، وعلَّمها القرآن للمؤمنين! وانظروا إلى معايير الناس، وانظروا هل معاييرنا نحن كما عليه الناس، أم كما عليه الوحي والدليل؟ فالفائز في أذهان كثير من الناس هو الذي ربح في تجارته، والذي ربح في اللهو واللعب، والذي غنم أي شيء من متاع الدنيا الفانية، فهذا الذي يُسَّمى الفائز، لكن الفائز عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والفائز في معايير القرآن والسنة هو كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] هذا هو الفائز، والمفلس عند الناس الذي لا درهم عنده ولا متاع، وليس عنده مال، وهذا مفهومهم، لكن عند طلبة العلم في منهج الوحي، المفلس هو الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعلمون الحديث. من العالم؟ العالم عند الناس من حفظ وحوى، وتحَّدث وتفلسف، هذا هو العالم عندهم، لكن في ميزان الشرع العالم هو العالم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبحق الله، وإن كان غيره أحفظ منه، لكنه يحفظ ويقرأ، ويعلم ويعرف ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم ما خلقه الله لأجله ويقتدي به الناس بدعوته إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أما من أوتي علماً، فطلب به الدنيا، وتكسب به، وطلب العاجلة، وأخلد إلى الأرض، فلا خير فيه ولا في علمه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:176]. وقد استشهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعلماء وجعلهم شهداء على ألوهيته، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، ولم يستشهد من أهل الدنيا أحداً إلا هؤلاء، أهل العلم. وقال في الآية الأخرى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:197]، وقال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10] فالعلماء يشهدون في الأمور العظيمة، وهؤلاء الذين يستشهدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا هو العالم الحقيقي، لكن عند الناس غير ذلك، وكذلك السعيد عند الناس هو الذي جمع المال والأولاد، والذي حاز زهرة، وفتنة الحياة الدنيا، مع أنه قد يُعذب بهذه الأموال والأولاد، فإنما هي فتنة في الدنيا، لكن عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ميزان الوحي، من السعيد؟ ومن المطمئن؟ وهكذا. يجب أن نصحح معاييرنا، ومفاهيمنا ونتوجه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقلوبٍ صادقة وعزيمة ثابتة، وبإقبال على الآخرة وانصراف عن ملهيات الدنيا، ولا نكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولا نكون كالشباب الخاسر، وكل إنسان خاسر كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، فكل الجنس الإنساني بهذا القسم في خسارة ماحقة: الملوك، والأغنياء، والأثرياء، والوزراء من أهل الدنيا، وكل ما ترى أمامك، كلهم خاسرون، إلا من استثنى الله، وقد ذكر صفاتهم، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3]، فأول صفتهم الإيمان. وثانيها: العمل الصالح {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3]. وثالثها: التواصي بالحق، فهم لا يجهلون الحق، يعرفونه كلهم، ويتواصون به أيضاً؛ لأني قد أعرف الحق وأضعف عنه، وقد أعرفه وأجبن عنه، قد أعرفه وأنساه وأغفل عنه، فتوصيني وتذكرني وأنا أذكرك، لا نقول: هذا يفهم ويعرف كل شيء، كما أن كل مسلم يعلم أن الصلاة حكمها كذا، وحكم تاركها كذا، لكن أكثر الناس لا يصلون، يعلمون لكن يفعلون، فلذلك قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3]، فيذكر بعضهم بعضاً، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]. ورابعاً: التواصي بالصبر، فلا يقول له: إذا رأيت أن الموضوع صعب فاتركه: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، اصبر واستمر وادع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فيجب أن ينصح بعضنا بعضاً، وأن ننتهز كل فرصة نجد أنفسنا فيها معاً لنتذاكر بواجبنا في هذه الجامعة، ومسئوليتنا أمام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سواء ونحن ندرس، أو بعد التخرج نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

المنهج الصحيح في التعامل مع المبتدعة

المنهج الصحيح في التعامل مع المبتدعة Q ما هو المنهج الصحيح في التعامل مع مبتدع يحاول نشر بدعته من خلال مؤلفاته، نرجو توضيح ذلك من خلال مواقف السلف الصالح مع المبتدعة، وجزاكم الله خيراً؟ A التعامل مع المبتدعة ليس له صورة، ولا حالة واحدة، بل إن كل أمور التعامل والمعاملة هكذا دائماً تختلف صورها؛ لأن البيئات، والأحوال تختلف؛ فالمبتدع الذي ينشأ أو يأتي ببدعة في بيئة مؤمنة عارفة بالحق، ويريد أن يضلها، ويصد عن سبيل الله، ويشذ بذلك عن جمهور الأمة، يختلف حكمه عن مبتدع نشأ في بيئة مليئة بالبدع، ليس للحق فيها صولة، وليس لـ أهل السنة فيها كلمة، ولكن هم قلة. أي: إن كان أهل السنة في قوة، وكان أمرهم ظاهراً، وكان بيدهم أن يردعوا صاحب البدعة، فإذا استطاعوا باليد فلا يؤجلوا ولا ينزلوا إلى درجة اللسان، وإذا استطاعوا باللسان فلا ينبغي لهم التراجع إلى الإنكار عليه بالقلب. أما إذا كان أهل السنة قلةً، وكانت البيئة مليئة بالبدع كما هو حال بعض الدول في هذا الزمان، وكان أهل السنة لا يستطيعون أن يظهروا سنتهم ودينهم وقولهم الحق، فإن الحكم حينئذٍ يختلف، والتعامل يختلف، فأي كتاب من كتب العقيدة تقرءون فيه تجدون قضية هجر أهل البدع واضحة جداً، بل إن سيرة الكثير من السلف الصالح رضوان الله عليهم تنبئنا عن معاملتهم لأهل البدع وأنهم هجروهم، فلا كلام لهم يسمع، ولا كتب لهم تنشر أو تقرأ، وكان بعضهم يقسم بالله ألَّا يظله هو والمبتدع سقف واحد، كما فعل ميمون بن مهران رضي الله تعالى عنه، وكان أيوب السختياني لا يسمح لأحد من المبتدعة أن يتكلم عنده أبداً، وغيرهم كثير، خاصة في عصر التابعين، حيث ظهرت أول البدع: الخوارج، والمرجئة، والقدرية، وتعلمون ماذا قال ابن عمر رضي الله تعالى عنه كما في حديث جبريل عليه السلام، وماذا قال ابن عباس -أيضاً- في أهل القدر. وبالجملة فهي مواقف كثيرة جداً تمتلئ بها كتب العقيدة وكتب السير في مثل هذه الحالة. لكن إذا كان الحال والأمر، كحال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، مع أهل الفتنة في زمنه عندما يكبل أهل السنة بالأغلال، ويرتفع شأن البدعة، فإنه لا ينفع الهجر، فإنما يهجر الإنسان لكي يرتدع، أما إذا كانت الأكثرية ضده، وإذا كان من يهجره قليل الشأن، ضعيف العدد، فإنه لا يأبه له، فالمجتمع حوله كثير، يعيش فيه، ويعبث كما يشاء، فما فائدة الهجر؟ وقد نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في أكثر من رسالة له وفي أكثر من موضع: أن الهجر يتبع المصلحة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون في أول الإسلام- في بدر وأحد لم يعاقب ولم يهجر من تخلف عن الغزو؛ لأن الأمة في أول أمرها، لكن بعد غزوة تبوك تعلمون حالة الثلاثة الذين خلفوا، وكيف كان مصيرهم، وكيف عوقبوا تلك العقوبة، فالهجر له أحكام، سواء في حق المبتدع أو العاصي. ولكن في جميع العصور، والأوقات، وبحسب الطاقة والإمكان، يجب أن يكون هناك لله قائم بالحجة، وهذا أمر تكَّفل الله تعالى به، ولا بد أن يكون بإذن الله، لكن يجب أن يجتهد أهل السنة، وكل إنسان ليكون من أولئك، وليكون ذلك الرجل الذي يقوم لله تعالى بالحجة؛ لأنه كما قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه: 'إذا سكت العالم تقية، وسكت الجاهل لجهله، فمتى يظهر الحق؟! '. فلا بد أن يتحمل أناس من أهل السنة حتى يظهروا كلمة الحق ويصدعوا بها، وأن يقفوا موقف الأنبياء مهما كلفهم ذلك، لكي يكونوا مرتكزاً لمن يرغب في الحق، وليكونوا مناراً لأهل الحق، وحجة قائمة على أهل البدعة والضلال. فيجب أن يقام ذلك بحسب الطاقة، والإمكان، وهو على الأمة فرض كفاية، لكن كل إنسان بذاته، يُعادى ويوالى أو يُهجر بحسب المصلحة، وأيضاً يختلف الحال بين من له ولاية، ومن ليس له ولاية، فالسلطان كما كان المأمون مع الإمام أحمد، أو الأب مع ابنه، لا يعامل كما يعامل أي مبتدع آخر في الشارع، لأن له عليك حقاً، أو له عليك ولاية، فيجب أن تراعي هذا الحق، وهذه الولاية، وأن يكون إنكارك عليه وعلى بدعته بأفضل وأحسن الطرق، وبما يختلف عن معاملة أي إنسان آخر.

أسلوب الدعوة

أسلوب الدعوة Q نحن شباب ملتزم، ونريد أن ننصح بعض الإخوان لدينا في السكن، فما هو الأسلوب الذي ننتهجه؟ وهناك في السكن من لا يصلي، فكيف نتعامل مع مثل هؤلاء الشباب حتى يَصِلُوا إلى طريق الهداية والنور والفلاح؟ A الحمد لله على وجود هذا الشعور الدعوي، وهكذا يجب أن يكون كل متبع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فمن كانوا من أتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا بد أن يدعوا إلى الله، ولا سيما الإخوة في السكن، وتعلمون أن الدين النصيحة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبايعون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النصح لكل مسلم، فمن يرضى أن يكون أحد من إخوانه المسلمين من أهل النار؟! بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم وصلت به الحساسية إلى حد أن يقول: 'وددت أن جسمي قد قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل'. فهؤلاء الذين تأخذهم الغيرة على محارم الله، والغيرة أن يُعصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي خلق هذا الإنسان الضعيف، العاجز، المسكين، هذا الذي لو دخلت في رجله شوكة لصرخ، ولدعا الله، ولاستغاث بالله، هذا المسكين لا يؤدي حق الله، ولا يصلي وهو طالب علم، وفي جامعة أم القرى، فتلك مصيبة عظمى! فينبغي أن تشفق عليه أكثر، ويجب ألاَّ تدَّخر وسعاً في إيصال الحق إليه، بالصبر الطويل، والصبر الجميل، والصفح الجميل، بأي أسلوب حتى لو وصل الأمر إلى القوة، فإن القوة من الحكمة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، فالقوة من الحكمة، والحزم، والزجر كله من الحكمة. المهم أن يكون في موضعه؛ لأن الحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، فكل ما كان في موضعه فهو حكمة، وإن كان قوة، أو حزماً، وردعاً، وإن كان تأديباً، أعني من المسئولين القائمين على الإسكان أو الكلية، أو ما أشبه ذلك، لكن لا نبدأ بذلك، وهذا شيء آخر. والمقصود أن نستفرغ طاقتنا وجهدنا في نصيحة هؤلاء الإخوة، وفي تذكيرهم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي بيان أننا لا نريد لهم إلا الخير، ولا نريد منهم شيئاً، كما أمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام:90]، وكما يقول عن نوح: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} [هود:29]، {ومَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47]. سبحان الله! لأنه إذا علم أنك لا تريد له إلا الخير، وبالأسلوب الحسن، ولا تريد منه أي مطمع، فإنه حينئذٍ إما أن يستجيب، وإما ألا يكون لديه عذر، بخلاف ما لو رأى فيك رغبة في التشفي، أو شدة، أو غلظة، أو عنفاً، أو تكون النصحية كأنها نوع من حظ النفس والاستعلاء والتسلط عليه، فإن هذا يكون حائلاً بينه وبين الحق. فيجب أن نبذل جهداً، وأن نأخذهم بأرق الأساليب أولاً، ثم نُنوع تارةً موعظةً، وتارةً تخويفاً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتارةً ترغيباً فيما عند الله، وتارةً بزيارة، وتارةً بهدية، وتارة بحديث طيب وهكذا. وهذه أمور تعامل واحتكاك مستمر، فكلما كنت أكثر مقدرة على الصبر، وعلى تنويع الأسلوب، واستيعاب تنوع النفوس وأحوال المدعوين المخاطبين، كنت أكثر نجاحاً في الدعوة، على أن الإنسان قد يضيق صدره كما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضاق صدره، وعلى أن الإنسان قد يألم، ولا بد أن يألم الداعية، وقد يتعرض لما لا يطيق، ولكن نرجو إذا اجتهدنا وصبرنا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يضيع جهودنا، ولن يخيب آمالنا.

الجدال أضراره وعلاجه

الجدال أضراره وعلاجه Q نحن شباب في هذا السكن، ونواجه من بعض الشباب كثرة الجدال، وتضيع كثير من الفوائد التي نحب أن نستفيد منها، نرجو منكم -أيها الشيخ- توضيح ذلك؟ A الجدل من الأمراض التي يُصاب به الناس إذا انحرفوا، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل}، والعياذ بالله. فالضلال علامته الاختلاف والجدل والتفرق ولا بد، وهما مقترنان، لأن المختلفين لا بد أن يتجادلا، ونقصد به: الجدل المذموم، وهذا لا يحدث إلا إذا مرضت القلوب، فيضيع الوقت في أمور لا خير فيها ولا فائدة. وأقول: إن مما يدَّخره الشيطان ويعده للقضاء على هذه النبتات الطيبة، وعلى هذا الشباب الغض الناشئ في عبادة الله عز وجل أن يلقي بينهم الخلاف والجدل حتى في الأمور العلمية، فقد يظن المتنازعان أنها مما شرع الله، وأن الغرض الوصول فيها إلى الحق، ويكون هناك هوىً خفي لم يشعروا به. ثم إن هناك هدىً سنهُ لنا صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكم من المسائل اختلفوا فيها! وانظروا إلى نسبة الاختلاف في المسائل، وقد وقع بينهم خلاف، لكن كلما جاءت العصور، اتسعت شقة الخلاف وتوسعت، حتى وصلت الآن إلى ما ترى الحال عليه بين المسلمين، حالٌ يرثى لها، أمَّا هم فكانوا أقل الناس تكلفاً، وجدالاً؛ لأنهم قوم شُغِلُوا أولاً بأنفسهم، وشغلوا بالعمل عن الجدال، أما طلب الحق ومعرفته، وبيانه للناس، والتفاهم مع الإخوة في الله للوصول إلى الحق فلا بأس في ذلك، لكن إذا وصل للمراء وللجدال الذي هو إضاعة للوقت، وإن خُيِّل إلينا أنه حق، فلا! حتى في المسائل العلمية. مثلاً: مسألتان فيها قولان للعلماء منذ الصحابة إلى الآن، فلم الجدال فيها؟! أنت تأخذ طرفاً، وهذا يأخذ طرفاً آخر. وأقول: هناك مسائل قد علم فيها الخلاف وهو قديم، ولا جديد فيها، لن تأتي أنت بجديد، ولن يأتي الآخر بجديد فيها، فيكون موقفنا في مثل هذه المسائل أن كُلاَّ منا يتقي الله، ويأخذ بما يرى أنه الحق، ولا يجادل الآخر في ذلك، وإذا شُغلنا بدعوة الناس، ودعوة أنفسنا، وإلزامها بطاعة الله وبالحق الواضح الصريح الذي لا جدال فيه ولا خلاف، فوالله لن نجد وقتاً لمثل هذه الأمور أبداً. فالجدال هو من الدعوة إلى الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، والمجادلة بالتي هي أحسن هي من أساليب الدعوة إلى الله، لكنه كدفع الصائل، فإذا صال عليك تقاتله، ولا تجعله أسلوب الدعوة الأول، فما بالك بالجدال الذي هو مراء مذموم لا خير فيه؟ إن هذا المراء الذي لا خير فيه، من تركه وهو محق، فهو مُبشر ببيت في الجنة، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليؤدبنا وليعلمنا ألَّا نجادل، وأن نترك المراء وإن كنا محقين، فما بالك إذا كانت شبهات وأمور مشتبهة بين متجادلين؟! ونحن -مع الأسف- في مناهجنا العلمية نؤتى العلم، ونؤتى القرآن قبل الإيمان، وهذه من أسباب هذه المشكلات، فيأتي الطالب من الثانوية -وكلنا كذلك نأتي بشهادات ثانوية- فيدخل الجامعة، فيقرأ في التفسير خلافات، ويقرأ في الفقه والحديث خلافات، وهو لم يفقه الحق بعد، ولم يعرف الأمور المجمع عليها، ولم يعرف الأساسيات واليقينيات التي ترسخ في قلبه، ويبدأ بالجدل، فلا بد أن يُؤثر ذلك على حياته. ولهذا انظروا كيف يكون تأثير الجدال، أو الخلاف على العامة، حتى في أمور علمية هي حق! لو قلت للعامة في أيام الحج: اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في التمتع، وفي كذا، فإنه يتعجب من اختلاف الصحابة أولاً، ومن اختلافهم في الحج ثانياً، ولأنه يرى أن ذلك لا يتناسب مع مقامهم ولا مع ركنية الحج مع أن كلامك حق وواقع، لكن نحن طلبة العلم لم نعد نبالي، فلو قرأنا أن في مسألة من المسائل عشرة أقوال أو خمسة أقوال، فلن نستغرب، لأننا قد تعودنا الجدال، والخلاف، فلم يعد هذا الامر غريباً علينا. وهذه مشكلة في الحقيقة، مشكلة من حيث تربيتنا، لأنه حتى العلماء الذين اختلفوا في المسائل، لا نتصور كما يتصور بعض العامة: أن الأئمة الأربعة كانوا جالسين مع بعض، وهذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، وهذا يناقش الثاني؛ فهذا جهل، وليس الأمر كذلك، فأحدهم اجتهد وقال رأياً، ولم يلزم الناس به، والآخر في خراسان أو في مصر اجتهد وقال رأياً، فجاء من بعدهم وجمع الأقوال، وقال: قال الشافعي وقال مالك وقال ابن حزم فيجد نفسه في متاهة من الخلافات سبحان الله! ما هكذا كان يطرح العلم! أقول: الذي يريد أن يتعمق في العلم -ولا بد أن يتعمق وأن يجتهد ويعرف الأدلة- يجعل ذلك بعد أن يفقه الضروريات، ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]: [[الرباني هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره]]، فلا تشغل الناس بالفروع قبل أن يعرفوا الأصول الثلاثة، فتعرض عليهم خلافات شرعية، لكن خذ الناس بالأساس أولاً، فاشرح لهم معنى لا إله إلا الله، وبين لهم أحكام الصلاة الأساسية، ولا تناقش في جلسة الاستراحة وأن فيها خلافاً، فأنت ترى كيف علَّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسيء صلاته، والذي أساء صلاته أمام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكثر المسلمين اليوم كذلك إلا ما رحم ربك. اعرض عليه ما يقيم صلاته من الأركان والواجبات وهكذا، ثم بعد ذلك إذا تفقه وتعلم، أو جاء الوقت المناسب فأعطه الشيء الضروري بقوة وبإصرار وبوضوح، والشيء الواجب بأقل من ذلك، والشيء الذي هو من النوافل أعطه إياه بما يناسب أنه نافلة؛ لأننا إذا تجادلنا في المندوبات فلا شك أننا سننسى الأصول والأركان والضروريات. وهذه مشكلة الشباب المتعلم الآن وهي من المشاكل التربوية، والمنهجية المهمة، ونحن نشكر للطلاب توجههم إلى طلب العلم، لكن منهج طلب العلم ليس بهذه الطريقة، وكذلك إثارة الخلافات التي تقع بين العلماء، فأحدهم يقول: ما رأيك في كلام الشيخ فلان؟ والآخر يقول: أنا مع فلان، ولست مع فلان! فمن أنا؟! ومن أنت؟! ففلان لا يزداد بكوني معه، وفلان لا ينقص بكوني لست معه، فلنتأدب مع علمائنا المعاصرين أيضاً، ولينظر الإنسان في الأدلة، وليتق الله، وليتبع ما يرى أنه الحق، ولا يجادل، ولا يلزم الآخرين إلا بأمر هو يعلم أنه سنة، وأن الآخر على بدعة، أو هو على حق، والآخر على باطل، أو من باب النصح يرى أن هذا هو الأفضل، فيبين له على سبيل النصح لا على سبيل المجادلة، وأرجو ألاَّ يُفهم هذا الكلام خطأً، فكثير من هذه الأمور المنهجية قد تفهم خطأً.

الخروج من أماكن المنكر

الخروج من أماكن المنكر Q هل يجب أن نخرج من المكان الذي يوجد فيه منكر حتى نكون ممن أنكر بقلبه؟ A الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب، والأحوال تختلف، فالكلام في إنكار المنكر قريب مما يُقال في التعامل مع أهل البدع؛ لأن البدع من المنكر، فالأحوال تختلف، فلم تخرج؟ إن قلت: أخرج لأنني لا أستطيع أن أنكر باليد ولا باللسان، وقد رأيت هذا المنكر، وغاية ما أستطيع أن أنكر به أن أخرج، فعليك أن تسأل نفسك أولاً: هل هناك مفسدة أو لا؟ أما إن كنت تخرج، وأنت تستطيع أن تتكلم، أو تنكر باليد فلا تخرج، أنكر ثم اخرج إن رأيت المصلحة في ذلك، وكذلك بالعكس، والإنسان الذي يخرج وفي خروجه مفسدة أكبر من ذلك المنكر، أو قد يحدث منكر أكبر من ذلك المنكر، إما من الجالسين، وإما من غيرهم، فيجب عليه ألاَّ يفعل، ونحن نعيش في واقع، فلا نكون بعيدين عن هذا الواقع، وهذا له أمثلة كثيرة، لكن أضرب لكم مثالاً: أكثر الناس مبتلون بالتدخين، فإذا جلست أنت معهم وهم يدخنون وهم من أقربائك، أو من زملائك، وتعلم أنهم يُدخنون، أو رأيت أحدهم يدخن، وتعلم أنك لو خرجت لارتكبوا محرمات أكثر، كإضاعة الصلاة أو اللهو أو اللعب أكثر من ذلك، فعليك أن تتحمل هذا في سبيل تحقيق مصلحة أخرى، إذا جزمت أو علمت أنك لو خرجت ارتكبوا منكراً أعظم، ولا شك أن ترك الصلاة أعظم من شرب الدخان. فإذن يجب أن تُفكر والصور كثيرة جداً في الواقع. وبالعكس لو تصورت أن خروجك سيجعلهم يألمون ويأسفون ويعتذرون، ويكفون عن المنكر، فحينئذٍ تخرج، فهذه الأمور دائماً مرتبطة بالمصلحة، وهذا مرجعه إلى حكمتك وخبرتك أنت في مجال الدعوة، واستعن بالله -عز وجل- فإن أخطأت فلك أجر، وإن أصبت فلك أجران.

إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب

إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب Q في شهر رجب تزدحم مكة بالزوار والمعتمرين، وعندما سألنا بعضهم عن سبب مجيئهم، أجاب بقوله: لقد أتينا لنحيي الليلة الرجبية، وهي ليلة السابع والعشرين، ونحن نأتي لأداء العمرة فيها، حيث إن لهذه الليلة فضيلة عظيمة، فنرجو منكم التوضيح، هل قيام هذه الليلة وأداء العمرة فيها ورد فيه دليل؟ A هذا الدين قام على أصلين عظيمين: الأصل الأول: ألاَّ يُعبد إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. والأصل الثاني: أن يعبد الله تعالى بما شرع ولا يُعبد بالبدع. والناس إن حققوا الأول فكثيراً ما ينسون الثاني، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} والجار والمجرور هنا متعلق باسم فاعل، بمعنى حاكم: {ليس عليه أمرنا} أي: ليس أمرنا حاكماً عليه وضابطاً له ومهيمناً عليه، {فهو رد} أي: مردود على صاحبه، وإن ظن أنه يحسن صنعاً بذلك، فإن الرهبان من البوذيين والنصارى وغيرهم الذين حبسوا أنفسهم عن ملذات الدنيا ومتاعها، لا نشك في أنهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم يعبدون الله بزعمهم، ولكنَّ عملهم خاسر، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104]، وحين ننظر هل ورد في كتاب الله أو في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على فضل هذه الليلة أو على تفضيل شيء من العبادة فيها، فلا نجد، وهكذا كَتَبَ وقرَّر علماء الحديث وعلماء أهل السنة، بل علماء البدع -إن صح أنهم علماء وفيهم من هو عالم ولكن أضله الله على علم- لا يجدون دليلاً على ذلك، وإذا أردت أن تعرف أهل البدع، أو أردت أن تعرف أن ما يعملونه بدعة، فانظر إلى أدلة أهل البدع، لترى العجب العجاب فإن أدلتهم تتنوع إلى ما يلي: الدليل الأول: عمومات بعيدة ليست في موضع النزاع، وليست فيما اختلف فيه، لكنهم يدخلون ما يشاءون ضمن هذا التعميم الأول. والدليل الثاني: الحديث الموضوع. والدليل الثالث: فعل المشايخ. والدليل الرابع: إجماع الأمة في العصور المتأخرة عليها. فتقرأ أدلة كثيرة كلها لو دققت فيها فهي لا شيء، وليس منها دليل في الحقيقة، وهذه من علامات أهل البدع، في هذه البدعة وفي غيرها، وهذا منهجهم، وهذه طريقتهم. أما الرجل من أهل السنة فإنه يقول: فعلت كذا لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله، وقلت كذا لأن الله تعالى قال كذا، فالحق واضح مثل الشمس، فهؤلاء ليس عندهم أي دليل على اختصاص هذا الشهر بعبادة معينة، لا دليل على الإطلاق، بل القرآن الكريم الذي يقرؤه كل أحد، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] فما الذي نفعله فيها قال: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] أي: أن الأشهر الحرم لها فضل زماني عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد شرع الله لنا أموراً لها فضل زماني، كما شرع أموراً لها فضل مكاني، فـ مكة -مثلاً- لها فضل مكاني ولها حرمة، والزمن له حرمة، فما الذي شرع في هذا المكان، أو ما الذي شرع في هذا الزمان؟ قال تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، أي: إذا كان الإنسان لا يُؤدِّي الصلاة جماعة، نقول له: حتى في الشهر الحرام لا تؤديها جماعة، فالذي لا يُؤدي الصلاة جماعة آثم في جميع السنة، وهو في الشهر الحرام وفي البلد الحرام أكثر إثماً، والذي لا يغض نظره، فكلما رأى امرأة شاردة أو ورادة ينظر إليها فنقول له: يا أخي! اتق الله، أنت في البلد الحرام. وكذلك يا أخي! اتق الله، فأنت في شهر حرام، فهذا هو المقصود من قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]. فإذا كنت حريصاً على طاعة الله، فليكن حرصك على طاعة الله في الشهر الحرام، أو في البلد الحرام أكثر، فلا يوجد خصوصية معينة إلا ما شرعه الله -مثلاً- في البلد الحرام، كالطواف، والحج، والعبادات المشروعة فيه، وهذه خاصة به، لكن غير ذلك، فالظهر في البلد الحرام أربع ركعات، وفي غيرها أربع ركعات، فلا أزيد على ذلك، وألتزم بالصلاة على وقتها في البلد الحرام أكثر، وأكون حذراً من تفويتها فيها أعظم مما أكون في غيره، وكذلك في الشهر الحرام. والناس يغفلون عن مسألة الحرمة للزمان أو المكان، ويأتون بما لم يشرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيدَّعون لـ مكة، أو لـ منى من الحرمات ما لا حقيقة له، وفي الجانب الآخر -أيضاً- يدَّعون لبعض الأشهر أو بعض الأيام المفضلة أو المحرمة ما لا حقيقة له، والمقصود أن هذه الليلة لم يثبت في فضلها أو خصوصيتها شيء.

دراسة التربية الفنية

دراسة التربية الفنية Q أنا طالب في الجامعة، وتخصصي التربية الفنية، وهذه هي السنة الثانية لي، وقد نصحني بعض الأصدقاء بالتحويل إلى كلية الشريعة، وأنا متأكد من حبهم لي وجزاهم الله خيراً، ولي رغبة أنا أيضاً في الشريعة، فما رأي فضيلتكم، وأنا أحب أن أدعو إلى الله، فهل يمكنني أن أدعو عن طريق التربية الفنية؟ A ننظر إلى هذا الأمر من جانبين: الجانب الأول: هذه القضية في عمومها. والجانب الآخر: هذا الأخ في ذاته بخصوصه. أما مسألة وجود التربية الفنية، فنقول: لو استطعنا ألَّا يكون في مدارسنا تربية فنية أصلاً، أو في المجالات العامة على الأقل، لكان ذلك خيراً، ونحن الآن لا نستطيع أن نلغي قسم التربية الفنية من الجامعة عملياً. إذاً: يجب أن نخفف ما أمكن، ويجب علينا أن نجتهد لإصلاح المناهج بهذا القسم، ويجب علينا أن نلتزم في هذا القسم، وفي هذه المادة، بألا نخرج عن المباح، وفي المباح سعة والحمد لله، وقد يكون مجالاً للدعوة لو استغل، لأن أي مجال هو في أصله حلال، وليست الحرمة فيه من أصله، يمكن أن يستغل في الدعوة إلى الله، كالكيمياء أو الفيزياء أو أي مجال حتى التجارة. أي شيء ما لم يكن من أصله حراماً يمكن أن يُستغل ويستفاد منه في الدعوة إلى الله، فيمكن وببساطة أن توضع مناهج في قسم التربية الفنية لا منكر فيها، ويمكن إن كان ولا بد من تقرير مادة التربية الفنية أن تقرر بما لا منكر فيه، فالتربية الفنية منها الخط، ومنها ما لا روح فيه، ومنها الحديث عن المشاعر الإنسانية تجاه هذه الأمور. إذا كان الحديث عنها بما يتفق مع ما في كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كالاتعاظ بما يشاهده الإنسان في الكون من آيات الله، وأمثال ذلك، فهذه أمور قد تكون مجالاً خيِّراً للدعوة. لكن أن تصوَّر ذوات الأرواح، وخاصة إذا كانت باليد والنحت والتماثيل فهذا لا يجوز، وهذا منكر، فإذا كنت في هذا القسم لا تستطيع أن تتخلص من هذا المنكر، فحينئذٍ يجب عليك أن تتركه، وإذا كنت تستطيع أن تتجنبه أو أن تكون مجاهداً لتجنبه، ولمن بعدك أن يتجنبه، فأقول: نكون جميعاً يداًً واحدة من أجل إنكار هذا المنكر، ثم بعد التخرج إن كانت الوزارة لا يلزم منهجها بمحرم، فالحمد لله هذه نعمة، واجتهد وادع إلى الله، وإن كانت فيها ما يرتكب به الحرام فلنتعاون على أن نزيله، فإن عجزنا ولم يبق إلا أن نفعل المحرم فلا نفعله، فلا يجوز من أول الأمر أن نترك هذه الجوانب لغيرنا، من الفجار والفساق، يرسمون المناظر الخليعة، ويَعلمون الشباب ويفسدون عقولهم، يأتي أستاذ الفنية بعد أستاذ التوحيد -مثلاً- فينسخ ما قاله أستاذ التوحيد أو التفسير بصورة خليعة أو بمنظر قبيح أو بكلمة خبيثة. ويجب أن نتفطن إلى أمر آخر عظيم أكبر من مسألة التصوير، وهو أن المذاهب الفنية الآن عقائد إلحادية، وهي جزء مما يُسمى الحداثة، والحداثة كلمة جديدة لكن هي معنى كلمة: اللامعقول، أو الضياع، فإتجاهات الضياع والفلسفات الضائعة في العالم، منذ أكثر من مائة سنة في أوروبا، وصلتنا هنا -مع الأسف- فتجد الإنسان يرسم لك لوحة ويقول: أنا سريالي، والآخر يقول: أن واقعي، وهذا انطباعي، سبحان الله وأنت لا تدري ما القصة؟ نحن درسنا -مثلاً- في الابتدائي التربية الفنية، كنا نرسم منظراً، أو نرسم شجرة أو جبلاً مثل الجبل الذي خلقه الله، ونأخذ درجة وننجح. لكن الآن يأتي الإنسان بألوان عجيبة وخطوط متعرجة، ثم يقول لك: هذا حلم! ولا أفهم كيف رسمه حلماً، لكنه يقول لك: ذلك وإذا كنت سريالي، ومعنى السريالية ما فوق الواقعية، يقول لك: ليس الفن محاكاة الطبيعة، فحاكي الطبيعة يرسم مثل الطبيعة، لكن ارسم حلماً! ارسم الأمل حينما ينبعث من القلب! ولا أعرف كيف أرسمه في لوحة، وكل إنسان يمكن أن يقرأها أو يفهمها أو يفسرها على مزاجه، وكلما كانت أغمق وأعمق كانت أكثر إبداعاً في نظرهم، وهناك مذاهب كثيرة. فأصبح الطلاب في الثانوية يتعلم الإنسان منهم أن يكون سريالياً أو واقعياً، وبعض هذه الأفكار يسارية، وبعضها ثورية، وبعضها إلحادية، وكلها جاءتنا من بيئات كافرة وكلها غير إسلامية، وإن اختلفت في التسميات، فأقول: إذا كان هذا، فلا يجوز أن يترك هذا الجانب بالكلية، بل أحياناً قد يرتكب المنكر الأخف في مقابل دفع المنكر الأعظم، وأرجو أن تفهموها على عمومها في هذا المجال أو غيره، إذا كان ارتكابنا للمنكر الأخف يُؤدي إلى دفع المنكر الأعظم؛ فلا بأس بذلك إن شاء الله، وهكذا الحياة، وهكذا الدعوة إلى الله، لا بد فيها من تحمل أشياء، لا سيما في زمن الانحراف، فنحن قد لا نستطيع أن نفعل شيئاً من الحق إلا بارتكاب بعض الشيء مما يكون فيه بعض الخطأ أو بعض المنكر أحياناً. وأقول: إن الأمر كذلك، لأن الزمان قد فسد، ولا بد أن نختلط بالناس -مثلاً- ونحن نكره ذلك، وفيه ما فيه، لكن لا يمكن أن ندعوهم إلا إذا اختلطنا بهم، ولا بد أن نُشارك في بعض الأعمال، وإن كان فيها ما فيها، وأن ندخل بعض المجالات وإن كان فيها ما فيها، لكن ما دام لدينا هدف أعظم وأسمى، فلنصبر ولنتحمل ولنسلك هذه المجالات بعد ذلك على هذا الأخ في ذاته أن يستشير ويفكر، ونسأل الله أن يختار لنا وله الخير، إنه سميع مجيب.

حكم شرب الدخان وحلق اللحية ولعب البيلوت

حكم شرب الدخان وحلق اللحية ولعب البيلوت Q ما هو حكم شرب الدخان؟ وأيضاً حلق اللحية؟ ثم حكم لعب البلوت؟ A أما التدخين فقد سّقَيْتُم بدعوة غيركم مع الأسف، فالأمة الإسلامية أمة خُلقت لتكون قائدة، وإذا بها مقودة، خلقت لتكون رائدة وإذا بها آخر الركب، كان همَّ السلف الصالح رضوان الله عليهم أن يقودوا العالم إلى الخير، فكانوا أئمة يهدون بأمر الله، صابرين، موقنين، فجئنا في آخر الزمان فجعلنا همنا أن نلتحق بركب الحضارة، وأن نتعلق بالذيل حتى في كل شيء، وقد جعلنا هذا هو همنا وهدفنا. ولهذا حرمت أمريكا التدخين، وحرمته بريطانيا، وحرمته اليابان، ومنعوا التدخين وحاربوه وكافحوه، فبدأ بعض الناس عندنا يُحارب التدخين ويمنع التدخين، لكن قبل سنوات كان التدخين من علامات الرجولة، فالذي بدأ يدخن يقال: إنه صار رجلاً، إذا جلس المجلس وأخرج السيجارة وبدأ يدخن، أو يشرب الشيشة فكأنها كانت علامات للالتحاق بركب الحضارة الأوروبية الفاجرة. فأقول: هل نعرض في تحريم التدخين الأدلة الشرعية؟ ونطبق قواعد الأصول عليه: أنه خبيث، وأنه ضار، وأنه يكلف الأمة كذا، سبحان الله! اسأل كل مدخن عن التدخين، ماذا يقول لك؟ هل فيهم من يقول: إنه لذيذ وصحي ومنعش؟! لا يمكن أبداً، وإن كانت الدعايات تزينه باسم المتعة والنكهة والحياة، وهذا كذب، وهو يعرف أنه كذب، ويقول: هذا شر، بل من الناس من يدفعه حياؤه من التدخين ألاَّ يُدخن إلا في دورة المياه -أعزكم الله- ولو كان شيئاً مما يحبه الله ويرضاه؛ لأخرجه أمام الناس، لكن إذا جاءه شخص مثله مدخن انبسط إليه لأنه مثله، وإذا جاء من يستحيي منه ذهب إلى حيث الشياطين، إلى بيت الخلاء! ونقول: ليست القضية قضية التدخين ومعرفة حكم التدخين، بل القضية هل القلوب حية أم ميتة ومريضة؟ هذه هي القضية، وعلامات القلب المريض كثيرة، ومن أوضحها: أنه أمامك يقول: هذا ضار، وهذا فيه. ثم يقول: لكنه مكروه، فتراه يُجادل في الدين، ويتكلم بما لا يعلم، فيزيد على ارتكاب المحرم أن ينصب نفسه مفتياً، ليقول: مكروه، فيجعل لنفسه عذراً أن يرتكبه، وهذا هو حال الذين يخادعون أنفسهم، ومريض القلب لا تأمن عليه أن يفتري على الله، وأن يقول الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يقول: هذا الدين كذا، والحق كذا، وهؤلاء المتشددون كذا، ويطيل في كلام يعلم أنه باطل، لكن أصل القلب مريض، والأمة مريضة. اليابان منعت وبحزم وقوة التدخين في القطارات، ولو كانت الرحلة من جنوب اليابان إلى شماله، ونحن أمة القرآن والإسلام، مع علمنا بأن التدخين مضر ويجب أن يمنع في كل الأوقات والأماكن، لكننا نجد بعض الناس يعترض على منعه لمدة ساعة وربع إذا كانت الرحلة داخلية وكأنهم يمنعون التدخين من أجل غيرنا لا من أجلنا نحن. ديننا يحرم علينا الخبائث ومع ذلك لم يمتنع الناس من التدخين، وهؤلاء ليس لهم دين، وتجد مع ذلك أن اليابان حرمتها في كل مكان، وأمريكا وبريطانيا نسبة انخفاض التدخين فيها (15%) سنوياً، والإحصائيات التي عرضها الدكتور محمد علي البار من مصادر عالمية أن في الدول الأوروبية ينخفض التدخين بنسبة (15%) سنوياً، لأن ضحايا التدخين في أمريكا مثلاً (300. 000) سنوياً، وأمريكا لم تخض حرباً خسرت فيها سنوياً (300. 000) ولا (3000)! لكن التدخين يقتل (300. 000) سنوياً فهي تحاربه أشد المحاربة، بينما نحن -مع الأسف- ترتفع احصائيات نسبة التدخين في سنوات في المملكة بنسبة (850%) بسبب العمالة الوافدة والشباب المتأثر بالعادات السيئة نعم! هناك إجراءات للحد من التدخين لكنها غير شاملة ولا كافية، بل دون المتوسطة، فالصحافة الداخلية منعت من الدعاية للتدخين، لكن المجلات والصحف التي تأتي من الخارج فيها أضعاف أضعاف ما في الصحافة الداخلية. اللحية فيها حكم شرعي، وبعض الناس يقول: (أنا لا أهتم بالشكليات، وهذه أمور ظاهرية، ونحن يهمنا أن ندعو إلى الله، وأن نهتم باللب ونترك القشور!). وهذا فهم قاصر لأنه ليس في ديننا قشور ترمى! بل ديننا كله لب وخير نعم! فيه أهم ومهم، وركن وواجب ومندوب، لكن لا يقال: قشور!! ثم إن عادة الناس أن الشيء الشكلي يكون أسهل وأبسط من الأساسي، فمثلاً: لو كانت الجندية أن ألبس بدلة عسكرية فحسب لكان الأمر هيناً، أما أن أتمرن وأتدرب وأجري وأركض فهذا شيء صعب، فالشكل سهل لكن الحقيقة صعبة، فإذا لم يعمل الإنسان بالشيء السهل والهين فلا شك أنه على الواجب والأمر الشاق أضعف وأجبن. تقصير الثوب أرضى لربك وأطهر لثوبك، وهو لا يكلفك شيئاً إلا أن تأتي الخياط ليقصره قليلاً من ستين سنتمتر إلى ثمانية وخمسين سنتمتر، فتكون قد أبعدت نفسك عن الوعيد وعن مشابهة العصاة، وتأسيت بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، وإذا لم تفعل -وهو أمر سهل وشكلي وبسيط- فأنت عن فعل الواجب أضعف، ولتركه أحرى وأجدر. الإيمان بالله سهل وهين لكنه تكاليف وفيه الخير كما قال الله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء:39]، ماذا على الإنسان إذا آمن بالله وهو سهل التكاليف؟! بل إن أعباء الإيمان أسهل من أعباء الكفر والشرك والإلحاد! لأنك إذا لم تحارب في صف المؤمنين حاربت في صف الكافرين، وإن لم تتبع الرسول اتبعت أبا لهب وأبا جهل وفرعون، فهذه مشقة وتلك مشقة، لكن شتان بين هذه وتلك! ماذا يضيرك أن تعفي لحيتك كما كانت سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ والله لا يضيرك شيئا، ً بل هذه فطرة ورجولة فوق أنها سنة، بل الناس عندما كانوا على الفطرة لم يكن فيهم من يحلق لحيته، انظروا صور عظماء وأبطال العالم الغربي في القرن (19 و18م) فالزعماء والسياسيون والعلماء والمخترعون كلهم ملتحون، ولم يعرف حلق اللحية -حتى في الغرب- إلا منذ زمن قريب، ولم يعرف في البلاد الإسلامية إلا مع مجيء الإنجليز والفرنسيين، وكان أمراً لا يفعله أحد، وفي بلادنا أعجب وأعجب، فكل الناس -الذي يصلي والذي لا يصلي والذي يعرف الدين والذي لا يعرف الدين عندهم اللحية علامة الرجولة- فإذا عزمك وضع يده على لحيته، وإذا وعدك أمسك لحيته، إذا قالوا: كم قتلنا من بني فلان؟ قالوا: عشرين لحية، يعنون عشرين رجلاً لأن اللحية رمز الرجولة. هذا للتذكير بالفطرة، والفطرة في كل شيء وليس في شأن اللحية فقط، فكل من يُحب شخصاً فإنه يقتدي ويتشبه به وإن لم يأمره بذلك، والإنسان الذي يُحب اللاهين واللاعبين والمطربين والمجرمين يعجب بصورتهم وبأشكالهم وبكلامهم وبلباسهم، فيقتدي بهم وهو لم يأمره ولم يجبره على ذلك، وما أمر المجرم المطرب اليهودي الماسوني مايكل جاكسون وأمثاله ببعيد، إذ قيل له: إن العرب يسمعون أغانيك فقال: لو أعلم أن العرب يسمعون غنائي لاعتزلت الغناء! حقداً وبغضاً في العرب؛ لأنه يقول: أنا من شهود يهوه -منظمة يهودية معروفة- فصرح بأنه من هذه المنظمة اليهودية، ومع ذلك أعجبوا به! فبالله عليكم من يُحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وأين الثرى من الثريا- ويريد أن يكون من أهل الجنة، ومن أهل الخير والفضيلة ومن الأئمة، وليس تبعاً ولا ذيلاً ألاَّ يقتدي ويتشبه به، وإن لم يأمره؟ فكيف وقد أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وأضف إلى ذلك أنه لم يأمره فقط، بل أخبره أن هذه شعيرة أعدائه، فقال: {خالفوا المجوس}، وهم أشد كفراً من أهل الكتاب، ومع ذلك نفعله طواعية. وأما لعب البليوت فأين نحن من السلف الصالح؟! إذ كان أحدهم -أظنه طلحة بن مصرف رضي الله عنه- جالساً فدخلت عليه ابنته، وكان معه بعض العلماء من السلف من أصحابه يتحدثون ويذكرون الله، فدخلت ابنة له صغيرة، فقالت: يا أبتاه! أريد أن ألعب! فأعرض عنها، ثم قالت: يا أبتاه أريد أن ألعب! فأعرض عنها واشتغل، فأطالت الكلام لأن الطفل يلح ويلح، فقال له أحد أصحابه: قل لها: العبي حتى نستمر في الحديث وتذهب الطفلة، قال: 'لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً' وهو من المباح! لأن بعض السلف يرى أن كل ما يقوله الإنسان يكتب، وبعضهم يرى أنه لا يكتب إلا ما يتعلق بالحلال والحرام، فلا يريد أن يجد في صحيفته كلمة (العبي) فضلاً أن يلعب هو، بل لو قالها لقالها لطفلة صغيرة لا مؤاخذة عليها، ونحن أمة لاعبة لاهية في كل شيء حتى في حق الله. ومن هذا العبث أني مرة قرأت لأحد الوزراء -وكان وزيراً وشاعراً- يقول مستحسراً: لو كان الشاعر من الشعبية مثل لاعب الكرة! أي: كان هذا هو الذي ينبغي وهذا عجيب. سبحان الله! فأمة لاعبة لا يمكن أن تنتصر، ولا أن تحقق ما أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا ما تريد هي لنفسها أبداً. بل تفكر في عمرك -وأكثر الأمة لا يجاوز عمرها الستين ونحوها- كم للنوم وللأكل والشراب؟ ما يقارب النصف، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه}، وهذا مما يسأل عنه، فإذا أبليت الساعات الطوال - البلوت لا بد من الطول فيه، بل أشواطه أطول من أشواط الكرة- وأفنيتها في اللعب واللهو فإنك لن تجد الحسنات يوم القيامة. والشاب الجاد لا يجد من الوقت ما يفعل به بعض الواجبات؛ فكيف باللعب؟ ولهذا قال بعض الصالحين لما مر على أناس وجدهم في ملهى -مثل المقهى الآن- تحسَّرِ، وقال لمن كان معه: (لو أن الوقت يُشترى لاشتريت من هؤلاء أوقاتهم). فهو يريد أن يكمل القرآن والتفسير، أو الحفظ، أو أن يقرأ من السنة، أو يعلِّم، أو يدعو إلى الله، أو يعمل أعباء

الغزو الفكري

الغزو الفكري Q فضيلة الشيخ: إننا نحبك في الله ماهو الغزو الفكري؟ وما خطره على الإسلام؟ وما رأيكم في كتاب سلمان رشدي مصائد شيطانية الذي أحدث ضجة في العالم؟ والذي يدور حوله هذا الكتاب؟ A الغزو الفكري شرحه يُذكرني بكتاب هارون الرشيد إلى نقفور لما كتب إليه كتاباً فردَّ هارون الرشيد عليه بقوله: [[الجواب ما ترى لا ما تسمع!]]. فالغزو الفكري هو واقع الأمة الذي نراه ونلمسه، أمة مغزوة في كل جانب، ما ترك أعداء الله وسيلة إلا واستهدفونا بها خاصة في هذه البلاد، لأننا نحن قلب العالم الإسلامي، ونملك من مقومات القيادة ما يجعل أعداء الإسلام يحقدون علينا وينقمون منا ويخططون لنا أضعاف ما يخططون لغيرنا؛ لأنه كلما كان العدو أقوى كان حرصك على تدميره أكثر، ونحن نمتلك من مقومات البقاء ما منَّ الله به علينا -ونسأل الله أن يديمه وأن يزيده قوة- ولهذا فهم يهدفون إلى تحطيمنا وتدميرنا بالشهوات والشبهات أكثر بكثير من غيرنا. انظر إلى ما حولك! واذهب إلى المكتبات ستجد الكثير من الكتب والمجلات تسهل الغزو الفكري، اذهب إلى المناهج ستجد الغزو الفكري دخل وتغلل فيها، اذهب إلى أمورنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لترى آثار الغزو الفكري في كل مكان، في المرأة المسلمة، والتاجر، حتى الطفل جعلوا له مجلات خاصة، وبعضها يتكلم عن وحدة الوجود وعن ابن عربي والمعراج الروحي سبحان الله! حتى الصوفية الكافرة الحلولية الوجودية تذكر في مجلات الأطفال! وغير ذلك كثير. الأفلام ووسائل الإعلام العامة، حتى تفكير الناس واهتماماتهم تغيرت، كانوا قبل سنوات يهتمون بأمر الآخرة، أما الآن فقد شغلتهم الأعمال والمؤسسات والتجارات، ويا ليتهم يبنون لهذه البلاد ولهذا الدين! وإنما يفتخر هذا بأنه يبيع لليابان، ويفتخر هذا بأنه يبيع بضائع أمريكية! والمستفيد أعداء الله يأخذون أموالنا ويعطونها لأولئك وتكون لهم نسبة، وهكذا أصبحت حياتنا مغزوة من كل جانب، حتى المساجد لو استطاعوا أن يجعلوا فيها الصلبان لجعلوه فيها، ولو استطاعوا أن يعبثوا أكثر لعبثوا، ونحن في غفلة! فهم يخططون وبإحكام رويداً رويداً، ويأتون بقضية من القضايا ليروا رد الفعل، فإن أنكرها الناس سكتوا وأخروها، وإن سكت الناس، وقالوا: بسيطة وصغيرة أتوا بما هو أكبر وأكبر، فإذا استحكم الأمر نظر أهل الحق بعضهم إلى بعض، ووجدوا أنفسهم قلة فرادى حيارى لا حول لهم ولا قوة، وهكذا في كل أمر من الأمور. ترى أقلاماً صغيرة فيها صور خبيثة، وعلبة كبريت فيها صورة خبيثة، وعلبة الصابون كذلك، فكل شيء تراه في حياتك اليومية لا تجد فيه شيئاً يذكرك بالله، وإنما يذكرك بالشهوة، وبإضاعة العمر، وبكل ما يبعدك عن الله وعن اليوم الآخر، فقد دخل الغزو الفكري في كل المجالات. ولكن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفق الدعاة والقائمين على أمر هذه الأمة من العلماء وكل من يهمهم أمرها إلى القضاء عليه ومحاربته ومكافحته، فنحن ما ترك سبيل إلا واستُهدِفنا به، وأذكر مثالاً واحداً وهو المخدرات، ففي أمريكا تباع بالملايين، ويقبض على العصابة بأشد الطرق تطوراً، وإذا قبض على كيلو أو كيلوين من الحشيش في أحد المطارات ثارت ضجة إعلامية حولها. لكننا نحن نستهدف بكميات كبيرة جداً وشبه مجانية؛ لأن وراء هذه المخدرات مجتمعات تعادي هذه البلاد وتعادي الإسلام، وتريد أن ينتشر هذا الداء ولو دفعوا من أجله، بل حتى أفلام الفيديو في أمريكا أغلى من هنا، وبعض المواد التي تحتوي على شحوم خنزير هناك غالية، وتأتي إلى بلاد المسلمين فتجدها رخيصة، وأشياء كثيرة لا يمكن أن تفسرها إلا أن هناك غزواً وتخطيطاً حتى في النواحي المادية، وهم يعبدون المادة يعبدون الدرهم والدينار والدولار، لكنهم يضحون بها من أجل أن يفسدوا شباب الإسلام في كل مكان. أما موضوع سلمان رشدي والقصائد الشيطانية والضجة التي أحدثها، فأنا أعجب من الضجة ولا أعجب من الكتاب ولا من المؤلف، فهو كاتب معادٍ للإسلام أو مرتد، سواء كان الاسم حقيقياً أو وهمياً، ومن أي بلد كان، ولم يأت بجديد، لأن الإسلام يستهدف ويكتب عنه في كل زمان ومكان. والذي أتعجب منه أن الرافضة يعلنون استنكارهم منه وردته وقتله، وتتأزم العلاقات مع بريطانيا من أجل ذلك، مع أن ما قاله سلمان رشدي أقل بكثير مما قالته الرافضة في كتابهم الكافي، بل فيه أضعاف أضعاف ما قاله سلمان رشدي من الاستهزاء والسخرية، وقذف أمهات المؤمنين وقذف الأنبياء والتطاول على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. نحن المسلمون كما مثَّل مالك بن نبي عندما قال: إنه يمارس على المسلمين مثل ما يحدث في مصارعة الثيران: خرقة حمراء يلوح بها المصارع، والثور بقوته وعضلاته ينطح الخرقة، ويكرر ويكرر، ثم يطعنه المصارع من الخلف حتى يموت! كلما رأونا اتجهنا اتجاهاً صحيحاً رفعوا لنا خرقة حمراء فشغلونا بها، إما أن شغلونا بـ سلمان رشدي، أو بطفل الأنابيب، أو بأي أمر آخر، إنهم يريدون أن يشغلونا عن خططهم التي تفتك بنا في بلادنا. بل إنهم نجحوا في بلاد قريبة عربية في منع أي كتاب لـ ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب بل ربما القرآن! وقد تتهم بذلك وتدخل السجن! هذا في بلاد فتحها الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- بل بعض هذه البلاد لا مصدر لها لمعرفة الدين والحق إلا برنامج (نور على الدرب!) وهناك أمم بأكملها بهذا المثابة لا تذكر، فإذا جاء مجنون في آخر الدنيا صحنا وشجبنا واستنكرنا. نعم! ينكر على من يقول في الله وفي رسوله مالا ينبغي وندين هذا الشيء، لكن لا نغفل عما هو أكبر وأشد وأعظم وأقرب أو نتناساه، بل لا بد أن يكون موضوع بحثنا دائماً عن هذا الخطر الداهم الساحق، وهو استئصال الإسلام في بلاد الإسلام الذي فتحها الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ثم بعد ذلك أحوال المسلمين عامة كـ أفغانستان مثلاً وهي تمر بأخطر مرحلة في هذه الأيام. وأشير إلى معنى الدعاية -كاستطراد- فهي قد تطلق كلمة ويرادبها الحق، وقد تطلق ويراد بها الباطل، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما كتب إلى هرقل وقال له: أدعوك بدعاية الإسلام. أي: دعاية الحق.

حكم التورية

حكم التورية Q ما حكم التورية؟ وهل ورد ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ A التورية والمعاريض وردت في مواضع منها ما ذكر السؤال في السيرة ومنها غير ذلك، والضابط لها هو ألاَّ تكون كذباً صريحاً، بأن يفهم السائل أو المخاطب فهماً من النص، ولكن المتكلم يريد غير ذلك، ولكن ما فهمه صحيح من حيث اللفظ، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال للرجل: {نحن من ماء}، وهذه حقيقة فنحن خلقنا الله من ماء، لكن من ماء مهين، والأعرابي ظن من موضع فيه ماء، وكما قال الخليل عليه السلام: هذه أختي، ففهم المخاطب أنه يعني أخته شقيقته، وهو أراد أخته في الدين. فهذه اللفظة صحيحة من زاوية المتكلم ويقصد بها معنى آخر، ويظن بها المستمع معنى صحيحاً، وأمثال ذلك كثير، ونحن قد نحتاج إلى المعاريض، ولكن ليس أسلوب المؤمن هو المخادعة، ولا أسلوب السياسة الحديثة -الغاية تبرر الوسيلة- بل المؤمن إنسان صادق، لكن تأتي مواقف يضطر فيها إلى أن يقول بالمعاريض أو التورية؛ لأن المؤمن لا يكذب، ومع ذلك يُراعى ألاَّ يكثر من المعاريض؛ لأن الإكثار من أي شيء قد يخرج الإنسان عن الحد الشرعي له، وربما تجاوزه إلى المذموم.

المسلم والدين

المسلم والدين Q كان أخي في شركة مازدة أقام في الشركة الصلاة ولم تكن تقام فيها، وعندما جاء مسئول نصراني كان أول عمل عمله أنه طرده من الشركة؛ لأنه يزعجه بالأذان والإقامة؛ فكيف يحارب الإنسان في بلده؟ ولم جعلت السلطة في يد الكافر؟ A الحقيقة أن هذا المسلم ضعيف؛ لأن السلطة ما جعلت للكافر على المسلم، لكن هناك أناساً باعوا دينهم بدنياهم من أصحاب الشركات والمؤسسات من الذين يهمهم الربح فقط، سواء كان العامل كافراً، أو رافضياً، أو صوفياً ملحداً لا يهمه، المهم تاجر يمشي بضاعته وتجارته، فلا يمكن في بلد الإسلام أن يطرد الإنسان لأنه يؤذن ويصلي إلا إذا كان هذا الإنسان ضعيف، أو أن تكون الهيئة في تلك البلد ضعيفة، أو لا يوجد أحد من أهل الخير ذو شخصية قوية، وعلى الأخ أن يتأكد مما قال، وأنا -إن شاء الله- سأبذل ما أستطيع، فلا يمكن أن يكون هذا الكلام صحيحاً بالإطلاق.

خطر الاختلاف

خطر الاختلاف Q نرجو من فضيلتكم كلمة تنصح بها بعض الشباب الذين نزغ الشيطان بينهما حتى تباغضوا وتحاسدوا، وحتى أصبحوا يتنازعون على الجزئيات فتعطلوا بسبب ذلك عن الدعوة في سبيل الله، جزاكم الله خيراً؟ A أذكركم بأن هذه هي التي سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحالقة، فقال: {لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين} فالتفرق والبغضاء والشحناء نهى عنها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، فالتفرق يكون في الدين بالبدع، ويكون بالشحناء التي كانت غالباً ما تؤدي بأصحابها إلى البدع، حتى قال بعض السلف لما سئل ما الذي دفع أهل الأهواء من القدرية والمرجئة والرافضة إلى البدع؟ قال: الخصومات! فقد كانت البدعة فكرة يمكن أن يقولها الشخص ويمكن ألاَّ يقولها، لكن لما خاصمه فيها آخر اشتدت واشتدَّ، وأخذ يبحث عن أدلة وعن مؤيدين، فاشتد الآخر وأخذ يبحث عن أدلة ومؤيدين، فأصبح هذا على فرقة وهذا على فرقة، والأصل أنها كانت فكرة، أو كلمة عابرة كان يمكن أن توأد وتذهب، فاحذروا الخصومات، واحذروا الاختلاف. وأقول لكم: لو أن شباب أهل السنة الذين يؤمنون بالكتاب والسنة، ولا يدعون إلا إلى الله وحده، ولا يهمهم إلا اتباع الحق وهدي السلف الصالح لو يتركون كل الخلافات والجزئيات وما أشبه ذلك، ويجتمعون كلهم من جميع أنحاء العالم وقاوموا البدع لربما لم يستطيعوا أن يقضوا على بدعة واحدة! فما بالكم إذا تفرقنا واختلفنا وتجادلنا وأضعنا الأوقات؟! فالله المستعان! نسأل الله أن يبصرنا جميعاً في الدين ويجنبنا الفرقة والاختلاف.

طريقة طلب العلم

طريقة طلب العلم Q هذا سؤال من شقين: الشق الأول يقول فيه: ما هي طريقة طلب العلم؟ هل هي بالقراءة أم أخذاً برءوس أقلام الفتوى وكفى أم ماذا؟ ثم في الشق الآخر: هناك بعض الشباب من يرى أن إصلاح المجتمع يكون بأن نتعلم ونجلس في غرفنا على الكتب، وعدم الحركة ثم بعد ذلك ندعو، والفريق الآخر يرى أن إصلاح المجتمع في التربية والاحتكاك ومناقشة المعارض، فأي الطريقين خير؟ A طريقة طلب العلم ليس كما قال الأخ رءوس أقلام! فطلب العلم من الجهاد، والإنسان يطلب المزيد من العلم، وهذا الذي أمر الله تعالى به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أعلم الناس بربه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]، فالإنسان يحرص على طلب العلم، وهذا هو ميراث النبوة، وليس هناك أعظم من هذا الميراث، ويجب علينا أن نجتهد -حسب الطاقة والإمكان- في تحصيل العلم النافع الذي يُقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا نكتفي بالقراءة عن السؤال، ولا بالسؤال عن التمحيص والتدقيق والفهم والاجتهاد، ونشتغل بالعلم، وليكن ذلك هو طلبنا، وسير السلف الصالح عجيبة في هذا الشأن، فقد كانوا يتذاكرون ويقرءون ويتبادلون ويتساءلون، ويكتب بعضهم إلى بعض وغير ذلك، كما كتب الخطيب البغدادي وغيره في هذا الشأن. أما بالنسبة لاختلاف نظرة الشباب في إصلاح المجتمع، فواحد يقول: أتعلم أولاً ثم أدعو ثانياً، والآخر يقول: ندعو الآن، وبعضهم يقول: لا نحتاج للعلم، لأن العلم قد يُؤدي إلى الكبر والغرور، أو إضاعة الوقت، فندعو ولو على جهل! والمسلم وكل مسلم داعية بحسبه، حتى العامي داعية، مثلاً: إذا كان يمشي في الشارع ورأى شخصاً لا يُصلي، والناس يذهبون إلى المسجد، فهنا لا بد عليه أن يقول له: (يا أخي! قم صلِّ) فهو داعية في هذا الامر؛ لأن كل واحد يعلم أن الصلاة واجبة، والأذان قد أذن، والناس يدخلون المسجد، وهذا جالس! فالعامة يجب أن يأمر بعضهم بعضاً بالصلاة وما علم من الدين بالضرورة، أما إذا كنت تقصد بالعلم الإنكار على أهل البدع، والتصدي للغزو الفكري وما أشبه ذلك، فنعم؛ عليك أن تتبحر وتتوسع في العلم الشرعي لتقاوم به هذه الضلالات، ولكن لا تنس أن تقول للناس الأمور البدهية والمعروفة وتذكرهم وتعظهم ولو بما يعرفون، تذكرهم بالجنة وبالنار، ومعنى شهادة لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، وبأركان الإسلام، وبالحث على الصلوات، وبر الوالدين، وأمثال ذلك من الأمور الواضحة. فكل مسلم هو داعية إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما علم، فإذا علمت آية واحدة فبلغها؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {بلغوا عني ولو آية} فإذا علمت حكماً واحداً، فادع إلى الله، وبين للناس هذا الحكم، فإن سألوك عما لا تعلم فقل: لا أعلم، لأنه لا يشترط إذا قلت للإنسان: (يا أخي! هداك الله، أذن المؤذن قم إلى الصلاة) أن أكون حافظاً لجميع أحكام الصلاة! فندعو إلى الله بما نعلم؛ كل بحسبه، وكل في موقعه، أما المسائل العميقة، والفتوى في الأمور الدقيقة، والنوازل العصرية، والفرق الضالة فلا بد من علم قوي، ولا بد أن يكون في الأمة من هو كذلك، لكن لو أن طاقاتي لا تؤهلني إلى ذلك، فإنني أدعو بما أعلم وبما أستطيع، وأحيل على العالم ما لا أستطيع وهكذا، فنكون جميعاً يداً واحدة متعاونة على الخير والعلم النافع إن شاء الله.

الكتب التي يبدأ بها طالب العلم

الكتب التي يبدأ بها طالب العلم Q امتداداً لما سبق يقول هنا الأخ: ما هي الكتب التي تدلنا عليها في طلب العلم والمختصرات؟ A أول كتاب هو كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي اتخذه الناس مهجوراً، واتخذوه ظهيراً إلا من رحم الله، ثم إجمالاً أنصح الشاب المبتدئ ألاَّ يبدأ بالمطولات؛ لأن بعضهم يبدأ في الفقه بـ المغني، ويبدأ في الحديث بـ فتح الباري، ثم بـ فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ، ولا شك أنه يضيع بهذه الطريقة. ورحم الله علماء السلف الصالح ومشايخنا وأساتذتنا الذين كانوا في الحرمين وكيف كانوا يعلمون الناس جميع العلوم، ويبدءون بالمتون الميسرة السهلة، ففي الفقه مثلاً يبدأون بـ العمدة وهكذا. فالمقصود أن نبدأ باليسير السهل في اللغة والتفسير، أو في الحديث والمصطلح وغيرها، نبدأ بالمنظومات السهلة والمتون، ثم بعد ذلك نأخذ الشروح المتوسطة السعة، ثم بعد ذلك نأخذ كتب الحواشي الطويلة ونتعمق فيها بما يفتح الله علينا. وهذه هي الطريقة الصحيحة والطريقة المعتمدة، حفظ الأساسيات ثم فهم الشروح، وعندما لم نتبع هذه الطريقة وجد فينا الخلل، فتجد الإنسان -ما شاء الله- متقناً مثلاً في حفظ القرآن أو في جانب السنة لكنه مضيع في جوانب أخرى، فجيلنا كله جيل مخضرم في كل شيء، لكن نرجو من الله أن يجعل الجيل -الذي هو الآن ما يزال في الثانويات وفي الجامعات- أفضل حالاً؛ لأنه -والحمد لله- يأخذ المنهج أخذاً متكاملاً واضحاً، الأخذَ السليمَ الصحيح، ولهذا أرجو أن يكونوا أفضل حالاً منا إن شاء الله تعالى.

العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي

العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن مخططات الغرب في مواجهة الصحوة الإسلامية، وبين الوفاق الذي تم بين المعسكرين الشرقي والغربي، منبهاً إلى ضرورة تآزر الجهود وتوحد المسلمين لمواجهة مثل هذه المخططات، ومبيناً أن المصالح المشتركة بين دول العالم الإسلامي أهم وأعمق من تلك المصالح المادية التي تربط بين غيرهم من التكتلات.

أهمية دراسة مستقبل العالم الإسلامي

أهمية دراسة مستقبل العالم الإسلامي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد أما بعد: فالواقع أن الثورة التقنية التي يعيشها العالم -والتي تسمى بحقٍ ثورة- لم يشهد العالم لها نظيراً من قبل، هي أحد الأسباب التي تجعل مستقبل العالمي الإسلامي في ظل الوفاق الدولي أمراً بالغ الأهمية، دراسةً وبحثاً واستمراراً لما هو موجود من الجهود، من أجل درء الأخطار عن هذه الأمة، ومن أجل تلمس طريق النور في هذا المستقبل المظلم الحالك. والوفاق الدولي لا يخفى على كثير حاله، حيث كانت هذه الدنيا تحت ظل عصبة الأمم التي كانت هيئة أقرب ما تكون إلى الشكلية، ثم كانت الحرب العالمية الثانية التي قضت عليها، ونتيجة لها خرج المعسكران الكبيران: المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، الأول: شيوعي ديكتاتوري، والثاني: ديمقراطي ليبرالي. وكانت مرحلة الأمم المتحدة ومؤسساتها المتنوعة، وكذلك رفع شعارات الإنسانية، وحقوق الإنسان إلى آخر تلك الشعارات التي ظهر زيفها -كما سنستعرض إن شاء الله- والمقصود أن هذين العملاقين -كما يسميان- أو هاتين الكتلتين اقتسمتا العالم، أو اتفقتا على ذلك، على أن هذا الوفاق -الذي يسمى- لم يكن دائماً وفاق محبة وسلام، بل كان الصراع، وكانت الأزمات التي نذكر منها على سبيل المثال أزمة كوبا، بين الرئيسين جون كيندي المقتول وخرتشوف ثم ما حصل بعد ذلك من مرحلة ما يسمى بالحرب الباردة، -الحرب الإعلامية بين الطرفين- حيث كانت المعسكرات الغربية، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية تطلق على الاتحاد السوفيتي: امبراطورية الشر، وامبراطورية الشيطان، وامبراطورية الاستبداد والاستعمار. وكانت المعسكرات الشرقية ومن لف لفها ينبذون أمريكا؛ لأنها زعيمة الإمبريالية العالمية، والتسلط العالمي، وانتهاك حقوق الإنسان، وحرياته، وثمرات شعوبه، ومقدراتها.

اتفاق طرفي الصراع في العالم

اتفاق طرفي الصراع في العالم ولكن العجب الذي حصل في الفترة الأخيرة: هو ما جرى أولاً في روسيافيك ثم في مالطا من اتفاق هاتين القوتين، فإن العالم كله ذهل ودهش له ولنتائجه، ولا شك أن ما جرى في أوروبا الشرقية وبالسرعة المذهلة التي روعت العالم يدل على أن الأمر جد، وأن الأمر خطير، وأن ذلك الاتفاق له ما بعده. لقد أعلن كلٌ من الطرفين أنه لن يعادي الآخر، وأشد من ذلك ما أصبح ظاهراً في لهجة زعيم الشيوعية العالمية -التي كانت تندد ليل نهار بخطر الاستعمار الأمريكي- عندما يقول: نحن وهم، فقيل له -أي: جورباتشوف -: من نحن ومن هم؟ قال: نحن الاتحاد السوفيتي وأوروبا وأمريكا وهم: الصين واليابان والعالم الإسلامي. الوحدة الأوروبية وهي من أعظم ثمرات هذا الاتفاق إن لم تكن من محركاته في الأصل، لأن أوروبا تعرف أنها فقدت سيطرتها التي امتدت قروناً، وكما تعلمون أنه بعد حوالي سنتين سوف تكون أوروبا موحدة، كالدولة الواحدة. وسوف يدخل في هذا الاتحاد -وقد بدأت المفاوضات في ذلك- الكتلة الشرقية أيضاً، فتصبح أوروبا شرقها وغربها قوة واحدة، ولا يهمنا أن تكون قوةً اقتصاديةًَ سياسيةً اجتماعيةً أياً كان الشكل، المهم أن تأثير هذه القوة سيكون رهيباً، وأن الأحداث سوف تؤكد ذلك بما لا ريب فيه. ووحدة أوروبا ومع الاتحاد السوفيتي مع أمريكا التي تحدثنا عنها في محاضرات سابقة، عندما تصبح حقيقة واقعة، فإن الذي سيدفع الثمن بالدرجة الأولى هو العالم الإسلامي؛ لأنه -كما سنستعرض- هو العدو المستهدف بالدرجة الأولى لكلا القوتين، بل نستطيع من الآن أن نقول: إنهم أصبحوا قوة واحدة صليبية يهودية كما أخبرنا الله تعالى آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فهم الآن بعضهم أولياء بعض، ويشكلون قوة دولية واحدة، ولذلك نتائجهم خطيرة كما أشرنا على هذا العالم من أي زاوية نظرت، وفي أي مجال اتجهت، أعني: على العالم الإسلامي بالدرجة الأولى.

حقيقة زعيمي الوفاق الدولي

حقيقة زعيمي الوفاق الدولي إنه ليس سراً أن نقول: إن زعيمي هذا الوفاق كل منهما كان رئيساً للاستخبارات في بلده، ومعلوم حال الاستخبارات سواء في الاتحاد السوفيتي أو في الولايات المتحدة الأمريكية، تدبير المؤامرات، والانقلابات، وعدم التورع عن أي جريمة مهما كانت، وارتكاب أي فظيعة من الفظائع، والإقدام على أي عمل مهما كان شنيعاً وبأي معيار ديني أو خلقي، هذه صفة ووظيفة المخابرات في هذا العالم الطاغي الصليبي الحاقد، وكل من الرجلين كان رئيساً للاستخبارات في بلده أمداً طويلاً، ومن هنا فالقرارات المتخذة لا بد أن تنطبع بالصفات الشخصية لكلا الزعيمين. وإذا وضعنا في الاعتبار من يسيَّر هذين، لعلمنا أنها هي القوى اليهودية الخفية المتسترة لعلمنا إلى أي جحيم يمكن أن تلقى به الإنسانية، ولا سيما العالم الإسلامي في ظل تحكم هذه القوة الصليبية المتحدة. والكل يخاف من العالم الإسلامي، ويُحذِّر من الصحوة الإسلامية، وينادي بالويل والثبور إذا تمكن المسلمون من تحقيق أدنى شيء وأدنى قدر من الحرية أو من الدعوة إلى دينهم الذي يدينون به، وهذه حقائق وأدلتها كثيرة جداً. ونستطيع أن نستعرض ونذكر ما صرح به الرئيس ميتران عندما تكلم عن الجهاد الإسلامي في فلسطين، يقول بالحرف الواحد: 'إن الذي يحدث في المناطق المحتلة يهدد بانتشار وباء التطرف الإسلامي في كل المنطقة' فهو يسمي عودة المسلمين إلى دينهم تطرفاً إسلامياً، ويعتبره وباءً، كما يسمى الطاعون أو الكوليرا أو الإيدز وباءً، هذا هو الوباء الذي يمكن أن ينتشر.

دراسات أمريكية للصحوة الإسلامية

دراسات أمريكية للصحوة الإسلامية وأما أمريكا فالعجب العجاب! أنها تخطط منذ أمدٍ بعيد على المستوى الحكومي وعلى مستوى المؤسسات، وأذكر مثالاً واحداً: مؤسسة فورد: حيث إنها تمول دراسات كثيرة، وتصدر كتباً كثيرة منذ أكثر من ثلاثين سنة، تتعلق بدراسة أوضاع العالم الإسلامي، ومستقبل العالم الإسلامي، ودور الحركة أو الدعوة الإسلامية أو الصحوة الإسلامية في هذا العالم، حتى على مستوى القطاع الخاص فإن أمريكا تخطط وتفكر. ومن العجيب أن معهداً للدراسات الاستراتيجية مشهور في أمريكا، وهو معهد بوفر؛ تحدث عن السياسة العالمية ابتداءً من نهاية القرن العشرين، ونشر ذلك قبل أكثر من عشر سنوات، وذكر فيه أن العالم سيرى قبل نهاية هذا القرن انهياراً للأنظمة الحاكمة -ونحن رأيناه الآن قبل نهاية عقد الثمانينات- وقال ضمن التقرير: 'سوف تنهار الأنظمة الموجودة في العالم: الماركسية، والشيوعية، والديموقراطية، والنقابية والنازية ' ذكر هذه الخمسة مع أن الموجود منها في الواقع هو: الماركسية والشيوعية وهما شيء واحد، والديموقراطية، لكن هكذا قال. ثم تنبأ بأنه في نهاية هذا القرن سوف يشهد العالم كله عودة إلى الدين، سواء الكاثوليكية في أوروبا، أو العالم الإسلامي، وحذر أشد التحذير من الصحوة الإسلامية، وهذا الكلام كان قبل أكثر من عشر سنوات، وذكر على سبيل المثال، كما قال تقرير المعهد: ' أن المسلم الأسود يهدد مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن المسلمين في الاتحاد السوفيتي يشكلون خطراً كبيراً على مستقبله؛ لأنه من المتوقع أن يصل عددهم إلى (40%) من سكان الاتحاد السوفيتي جميعاً قبل نهاية هذا القرن' هكذا حذر، وهذا مقتطفات من التقرير نشرها الدكتور مصطفى محمد حلمي في كتابه: الصحوة الإسلامية عودة إلى الذات (ص:167).

وثائق تدل على طبيعة الوفاق الدولي

وثائق تدل على طبيعة الوفاق الدولي وإذا أردنا أن نستعرض بعض الوثائق التي تدل على طبيعة الوفاق الدولي، وما حدث في أوروبا الشرقية، فنذكر وثيقة وهي عبارة عن تقرير نشرته صحيفة اللوموند الفرنسية وقد كتب هذا المقال في أثناء تساقط الأنظمة في أوروبا الشرقية. يقول: ' تشهد إسرائيل هذه الأيام كل ما يجري في دول أوروبا الشرقية باهتمام كبير؛ نظراً لأنها تجد في ذلك فرصة مواتية لإعادة علاقاتها الدبلوماسية مع كلاً من هذه الدول، والواقع أن هذا ليس فقط موضع اهتمام إسرائيل وإنما هناك أهداف أخرى تسعى لتحقيقها، إذ ترى بأن علاقاتها مع تلك الدول منذ حرب 1967م قد حرمها من روابط أهم بكثير من مجرد النواحي الدبلوماسية' فالقضية ليست هي قضية إعادة علاقات، وقد أعيدت كما تعلمون، يقول: لا، هناك روابط أخص من روابط دبلوماسية، يريدها اليهود المحتلون من أوروبا الشرقية ما هي؟ يقول: 'إذ يرى بعض الإسرائيليين أن عودة العلاقات بين إسرائيل ودول أوروبا الشرقية هو بمثابة العودة إلى قطاع من العالم ترتبط به إسرائيل منذ وقت طويل بروابط عاطفية وثقافية، بل وروحية قوية ومتعددة' فما معنى روابط عاطفية وروحية إلى آخره هو الدين؛ لأن معظم اليهود المقيمين في الأرض المحتلة الآن، في دولة إسرائيل -كما تسمى- معظمهم من أوروبا الشرقية. يقول: 'ويرى البروفيسور شلومو مكلوري أنها إذا كانت لإسرائيل علاقة عميقة دائماً مع أوروبا -يعني: ككل- فإن أوروبا هذه هي التي تضرب في أعماقها جذور الشعب اليهودي " أي: أوروبا الشرقية {{أي: فيوراتو، وفيينا وبرار، وأديسا، وبيتاريا، ولتوانيا وليس في باريس أو لندن أو بروكسل، كما يرى شلومو بأنه كلما استعادت دول شرق أوروبا هويتها، وامتلاك ناصية أمورها فمن الممكن لعدد كبير من الإسرائيليين أن يعيدوا علاقاتهم وارتباطهم بثقافة أوروبية كانوا بمثابة عضو مشترك فيها بشكل كامل، وذلك من خلال لغات وآداب مارسوها في أقاليم ومدن سكنها يهود أوروبا منذ القرن الخامس عشر}} لماذا من القرن الخامس عشر؟ أي منذ أن طُرد المسلمون من الأندلس، واحتلت الأندلس الحكومة الصليبية بزعامة فريدناند وإيزابلا فطُرد المسلمون وطُرد اليهود كذلك، فالمسلمون خرجوا وقتلوا وأبيدوا في محاكم التفتيش، وأيضاً طرد اليهود لأن الصليبيين فريدناند وإيزابلا طردا اليهود، فهاجروا إلى أوروبا الشرقية، حيث كان كثير من هذه الدول تحت حكم الدولة العثمانية. إذاً يقول: إن الرابطة الأساس هي الرابطة الدينية، وإن إسرائيل تسعى إلى تحرر أوروبا الشرقية من الستار الحديدي، رغم أن الشيوعية فكرة يهودية، ورغم أن القائمين عليها يؤدون أعظم الخدمة لليهود، وعلى سبيل المثال: زعيم رومانيا خدماته لليهود واسعة، وهو مهندس كثير من مشاريع اللقاءات بين الزعماء العرب وبين بعض زعماء اليهود، ومع ذلك فإنهم يريدون أن تتخلى هذه الزعامات ليأتي مستقبل آخر، لتكون العلاقات فيه أقوى وليكون الارتباط الروحي -كما يقولون- بين اليهود المقيمين في الأرض المحتلة وبين اليهود في أوروبا الشرقية.

أحوال الاتحاد السوفيتي في ظل الوفاق الدولي

أحوال الاتحاد السوفيتي في ظل الوفاق الدولي وإذا انتقلنا إلى الاتحاد السوفيتي، ونحن الآن نركز على الكتلة الشرقية، أقول: أركز عليها؛ لأن علاقة اليهود بـ أمريكا والعالم الصليبي أشهر من أن تذكر، وأصبحت العجوز في بلادنا أو في أي مكان تعلم -فضلاً عن المثقف- أن أي قرار تصوت عليه أمريكا في مجلس الأمن مثلاً فإنه سيكون لخدمة إسرائيل، وأن أي مطلب تريده إسرائيل فإنه سينفذ، فالقضية أصبحت لا تحتاج إلى أدلة. ولكن نريد أن نركز على الاتحاد السوفيتي الذي يتشدق في هذه الأيام عنه بأنه انفتح على الحرية، والسلام، والديمقراطية، والمحبة، وهذا الفخ الذي يراد أن يوقع فيه العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي، على أننا سنعرج على أمريكا عند الحديث عن تضخيم الصحوة الإسلامية، والتحذير من مخاطرها -إن شاء الله- في صحيفة الحياة التي تصدر في لندن وهي كانت صحيفة لبنانية من قبل- يقول الكاتب: ' موسكو حذرت مجموعة من الكتاب الروس البارزين القيادة السوفيتية من تصاعد النشاطات الصهيونية -كتاب مثقفون وزعماء في الأدب حذروا من تصاعد النشاطات الصهيونية في الاتحاد السوفيتي - مما يهدد بتحويل الحوار الروسي اليهودي إلى مواجهة حتى الموت' بين اليهود الذين تمكنوا الآن نتيجة إعادة البناء (البروستريكا) وبين القوميين الروس الذين لا يريدون أن يسيطر على بلادهم إلا هم لا أولئك الغرباء. ثم يقول: 'وفي رسالة نشرتها صحيفة تصدر من روسيا الناطقة باسم: اتحاد الأدباء في روسيا الاتحادية، اتهم الكتاب الروس الصحافة السوفيتية بشن حملة دعائية شعواء ضد الحركة القومية الداعية إلى انبعاث روسيا، وأكدوا أن هذه الحملة تنظم للتستر على الفاشية الجديدة التي تجسدت في اتحاد الصهاينة السوفييت {{فهم يسمون اتحاد المجالس العليا السوفيتية اتحاد الصهاينة السوفيتية، كأنه لا يعمل فيه إلا الصهاينة فقط. وحذروا أن بعض الصحف المركزية التي تؤجج الهستريا بشأن منظمة الذكرى}} وهي منظمة قومية روسية لعلنا نستعرض بعض ما يتعلق بها أيضاً، فهي منظمة تعلن العداء لليهود، وأن اليهود سيطروا على بلادهم. ثم يقول الكتاب: إن مقاومة هذه المنظمة، أو الذي يجري بينها وبين اليهود نخشى أن يتحول إلى اتجاه عكسي أي: إلى تجميد الصهيونية مخفية عن الرأي العام السوفيتي. {{وأشارت إلى تورط منظمة فيتار بالمذابح ضد اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، والمئات من الجرائم البشعة الأخرى التي اهتز لها العالم مراراً}} وهذه من الأسرار التي لأول مرة تنشر عن صبرا وشاتيلا ويكون لليهود السوفييت مشاركة فيها. ثم يقول: {{وأعرب الكتاب الروس عن استيائهم من عقد مؤتمر لمنظمات يهودية سوفيتية في موسكو نهاية العام الماضي (1989م) وأضافوا أنه: اجتاحت الاتحاد السوفيتي بعد هذا المؤتمر حملات دعائية تميزت بالعنصرية المتطرفة، واتهموا الصهاينة السوفييت بافتعال خرافة عن الفاشية الروسية، إلى أن يقول: وأدان المثقفون الروس ما وصفوه برد الاعتبار للعقيدة الصهيونية، وقيام وسائل الإعلام السوفيتية بتمجيد الشخصيات الاجتماعية والثقافية من أصل يهودي}} أي: أن الأدباء والمثقفين والكتاب والشعراء الذين من أصل يهودي، هم الذين يحفون بالدعاية الضخمة بـ الاتحاد السوفيتي وفي غيره. ثم يقول: {{حتى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي يعمل على تغيير صفحة الصهيونية المجرمة}} إلى آخر الكلام، ولا نريد الإطالة فيه، وإنما ننتقل إلى الحديث -كما قلنا- عن هذه المنظمة: بانيات، أي: منظمة الذكرى؛ وهي منظمة قومية روسية، هالها أن اليهود بدءوا يتمكنون بشكل علني واضح في الاتحاد السوفيتي منذ قيام جورباتشوف وعملية إعادة البناء -كما تسمى- فأخذت تدافع عن الماضي القومي لـ روسيا القيصرية، وتريد إحياء الصليبية القيصرية، ولاحظوا بين فكين: فك الصهيونية اليهودية وفك الصليبية القيصرية أيضاً؛ وكلاهما نحن سندفع الثمن إن انتصرا أو تفوقا. وهذه مقتطفات قصيرة: {{النائب الأول لوزير الخارجية السوفيتية ذكر أن الإشاعات قد تكون وراءها عناصر قريبة لإسرائيل}} والإشاعات هي عن المجازر والمذابح التي قد يؤدي إليها هذا الصراع. {{وأصبحت منظمة بانيات تنظيماً قوياً له مئات الآلاف من المناصرين، ويعد أعضاؤه بعشرات الآلاف وهم يرتدون في اجتماعاتهم قمصاناً سوداً، رسم عليها ناقوس -لاحظوا الصليبية كيف تعود- يرمز إلى أن الوقت حان لاستيقاظ روسيا من سباتها، وتتخذ المنظمة شعاراً لها رسماً للقديس وهو يطعن التنين}} ويذكر أن الإشاعات عن المذابح ضد اليهود تحدد الخامس من آيار مايو المقبل موعداً لها، وفي هذا اليوم من كل عام يحتفل المسيحيون الروس الأرثوذكس بعيد لتقديس جورج، يعني: وعدت هذه المنظمة بأنه في آيار مايو -لعلنا نرى ماذا يجري عندها- يوم الاحتفال بذكرى هذا القديس وهو من القديسين الكبار الأرثوذكس في الاتحاد السوفيتي، في يوم عيده سوف تقوم هذه المنظمة بعمليات مجازر أو عمليات دامية ضد اليهود في روسيا. المهم انظروا كيف أن هذه الحقائق التي أراد الله تعالى أن تكشف على يد هذه المنظمة وأمثالها. يقول: {{سألت الحياة فاسولين -زعيم المنظمة- عن مغزى اختيار منظمته لهذا القديس شعاراً لها، أي: لماذا اخترتم هذا القديس النصراني شعاراً لكم؟ -فقال: إن أوروبا - أي: أوروبا الغربية- التي خبرت الفكر اليهودي الماسوني عبر الثورة الفرنسية رحلت هذا الفكر إلى روسيا بعد أن ألبسته رداءً ماركسياً، وأوروبا التي تنتهل اليوم كرامتنا القومية هي سبب مصائبنا على رغم أن روسيا كانت الحصن المنيع الذي وقاها من الجحافل الآسيوية}} وهذا تصريح واضح بأن الماسونية هي وراء الثورة الفرنسية، وأنها هي وراء الحركة الشيوعية ووراء ما جرى في الثورة -كما سيأتي من كلامه- إذاً يقول: {{إن أوروبا التي خبرت الفكر اليهودي الماسوني -وهذه حقيقة- عبر الثورة الفرنسية رحلت هذا الفكر إلى روسيا}}. ثم يقول: {{إن روسيا هي التي حمت أوروبا من الجحافل الآسيوية}} ما المقصود بالجحافل الآسيوية التي وقفت روسيا صداً منيعاً دون دخول هؤلاء أوروبا؟ الدولة العثمانية قرون طويلة وهي تكاد أن تجتاح أوروبا، وأكبر عدو كان يقف في وجهها هو روسيا القيصرية، وهذه حقيقة فعلاً، فهم يجعلون هذه جحافل آسيوية وأوروبا التي تعتبر العالم في الحقيقة هو أوروبا وما عداه فهم همج لا قيمة لهم، ولا سيما العالم الإسلامي. يقول فاسولين: {{وما حصل عام (1917م) وهو عام قيام الثورة الشيوعية كان انقلاباً منافياً للقانون، وكان للصهاينة دورهم فيه، وإثر ذلك أحيطت بلادنا بأسلاك شائكة وقطعت جذور الأمة، وأبيد عقلها وضميرها، وحورب الدين الذي يعتنقه شعبها، والقديس جورج الذي يطعن التنين، يرمز إلى انتفاض شعبنا ضد العدو}} فهي انتفاضة صليبية ضد السيطرة الصهيونية -كما يقول- {{ويرى فاسولين أن البروستريكا خلقت وضعاً استطاع معه أدعياء اليسار أن يحتكروا الديمقراطية ويفرضوا رأياً بروسترياً واحداً، لقد سيطروا على وسائل الإعلام وهم يكممون على الأفواه المعارضة، ولسان منظمتنا -كما يقول- خير شاهد على ذلك. ويصدر اليهود صحفاً ومطبوعات -لاحظوا كلامه- بفضل الرسالي- يعني: رءوس الأموال المتدفقة من الخارج، بينما الشعب الروسي عاجز عن التبشير بآرائه, لأن الأموال حكر على الحزب والسلطة}} ثم ذكر كلاماً كثيراً ويكفينا منه هذا وهو: أن هذه الحركة الصليبية الروسية تقول: إن عملية إعادة البناء وزعامة جورباتشوف قد أدت إلى أن يُحكم اليهود قبضتهم وسيطرتهم على الاتحاد السوفيتي، وأنهم يهود صهاينة، ومعروف كلمة صهاينة عند الغرب والشرق؛ أي: الذين يؤيدون إسرائيل، وحريصون على إقامتها. وليس غريباً بعد ذلك أن نرى الهجرة اليهودية إلى الأرض المحتلة، وليس غريباً أن تتطوع شركات الطيران في أوروبا الشرقية وغيرها لنقل أولئك اليهود، وأن تتبرع الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء وبناء الوحدات السكنية لهؤلاء اليهود، وأن يصرخ الشرق والغرب من هؤلاء الأطفال الذين يقذفون بالحجارة فقط هؤلاء المحتلين، فتعاون الشرق والغرب من أجل القضاء على هذا الجهاد -جهاد الحجارة البسيط- لا لأجله، ولا لأجل أرض فلسطين فقط، بل ليُحكموا قبضتهم وسيطرتهم على الأمة الإسلامية عامة.

تهويل الصحوة الإسلامية

تهويل الصحوة الإسلامية كما تعلمون الصحوة الإسلامية حقيقة قائمة، والعودة إلى هذا الدين واقع؛ وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمة، ولا غرابة فيه، فليس غريباً أن التائب يعود إلى الله فرداً أو أمة أو جماعة، لكن الغريب هو أن من عرف الله لا يرجع إليه وإن أسرف على نفسه بالمعاصي، لكن تضخيم هذه الصحوة وتهويلها ودراستها هذا هو الذي يدعو إلى أن ينظر ماذا يراد منها. ولقد نشر كاتب أمريكي من أصل لبناني اسمه مايكل سابا مقالة ترجمتها صحيفة الحياة أيضاً، بعنوان (إعلام أمريكا وخطر المسلمين). هذه المقالة عن ندوة عقدها مستشار الرئيس الأمريكي كارتر لشئون الأمن القومي؛ وبالمناسبة الرئيس الأمريكي كارتر الآن يتحرك بنشاط عجيب وكذلك كيسنجر فـ كارتر هذا ومعاونوه الأولون بدءوا يتحركون من أجل خبرتهم السابقة ومعرفتهم بحال المنطقة، ونجد أن كارتر يهتم بالجهاد الأفغاني ويذهب إلى هنالك، من أجل دعم التنصير بين المسلمين، واستغلال الجوع والفقر والحاجة الشديدة التي يعاني منها المجاهدون والمهاجرون من أجل التنصير وفرض الحل الغربي على الجهاد الأفغاني، كما نجده يذهب إلى أفريقيا ويقيم ويتنقل بين دولها: كـ الحبشة وجنوب السودان مع جون قرنق وبكل وضوح يمده بالعالم الغربي، ومع الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا كما تسمى بكل قوتهم، ومع التنصير في كينيا وفي الصومال، ويؤلمنا أن نقول: إنهم يشترون أبناء وبنات المسلمين بأبخس الأثمان، منظمات خطيرة وكثيرة تشتري أبناء المسلمين في الصومال وكينيا والحبشة وغيرها، ويخسرون الآلاف بوسائل النقل إلى أوروبا، هذه الحقائق كثيرة وتقرءونها كثيراً. فنقول: هذه الندوة هي ندوة لأولئك الزعماء السابقين، وكان موضوعها عن الأرمن وأحداث أرمينيا، ولكن الحقد يأبى إلا أن يظهر، وقد حولوا الموضوع إلى مسألة عودة إسلامية، وخطر إسلامي، أين الخطر الإسلامي؟ انظروا -قبل أن نقرأ هذا الكلام- الفرق بين جورباتشوف في الحالين وكأنه رجلان مختلفان، ففي الحالة الأولى هو رجل ديمقراطي هادئ متزن يزور بنفسه دول في بحر البلطيق التي تؤيد الانفصال، ويجلس مع أعضاء برلمانها، ويناقش الكتاب، بل ظهر في التلفزيون وفي الشارع يتحدث مع الناس ويكلمهم ويقول: نريد الديمقراطية ونريد أن تنحل القضية فيما بيننا وبينكم بالوسائل الموازية وبالطرق الحكيمة وبكل هدوء. أما إذا نظرنا إليه كيف يتعامل مع المناطق الإسلامية التي تحت حكمه، فإن ذلك الحمل الوديع الديمقراطي الهادئ ينقلب إلى وحش أو دب متلطخ بالدماء، فالدبابات تنزل تدك المدن، والجيش الأحمر يهدم كل شيء، والاعتقالات بالآلاف، والمقابر الجماعية، لأنه هنا يتعامل مع مسلمين، لكن هناك كان يتعامل مع أبناء دينه، وهذا شيء واضح وجلي، والأخبار العالمية تؤكده بوضوح وليس محتاجاً إلى تأكيد. والشاهد حول الموضوع من أرمينيا إلى العالم الإسلامي، ويقول: {{في الغرب لا يمكن لأحد أن يشهد مساعي تقوم بها جهات غير مسلمة سواء كانت مسيحية أو يهودية أو حتى هندوسية للقتال من أجل الحرية بالحد الذي يرقى إلى درجة الحرب المقدسة، فهذا النمط محصور بالنسبة إلى الغربيين في تعريف المسلمين بالذات}}. فالهندوس والنصارى واليهود في أي بلد في العالم يطالبون ويثورون ولا غبار عليهم، كما يقول الكاتب وهو نصراني أمريكي، لكن إذا قامت أي حركة إسلامية مهما كان شأنها قيل: هذه حرب مقدسة خطرها يمتد إلى العالم كله، فخصوا هذا الشعار للمسلمين.

عناوين الصحف والتهويل من الصحوة الإسلامية

عناوين الصحف والتهويل من الصحوة الإسلامية وهناك بعض العناوين التي كانت الصحافة الأمريكية تتحدث عنها عند أحداث أرمينيا ومن هذه العناوين يقول: نيران هوجاء في الجمهوريات الإسلامية، وهذا عنوان مفجع! عنوان آخر: المدى البعيد لظلال المآذن، لماذا؟ لأن إعادة البناء سمحت للمسلمين بأن يأذنوا. الصحافة الأمريكية تجعل عناوين ضخمة "ظلال المآذن"، وبعد هذا الأذان تهويل، حتى يكبت هذا الدين، فهم لا يريدون أن يسمعوا كلمة (الله أكبر) ولا أن ترتفع كلمة (الله أكبر) في أي بلد، أما الكنيسة الكاثوليكية فتحتفل ويفتخر جورباتشوف في كتابه إعادة البناء، لأنها احتفلت واحتفلت معها روسيا كلها بمناسبة مرور ألف سنة على إنشائها، ويذهب هو إلى -ما يسمى- قداسة البابا ويحصل على التبريكات منه، لكن الأذان لا يراد أن يرفع في الاتحاد السوفيتي، ولا في أي مكان في العالم. عنوان آخر: عش الدبابير في جنوب السوفييت. عنوان آخر: السكان المسلمون يحشدون التحدي ضد السوفييت، أي تحدي؟ كما تعلمون علماؤهم المفتون لا يكادون يعرفون بعض حقائق الإسلام البسيطة، لأنهم تربوا تربية في ظل الحديد والنار والتسلط، وفحصوا ومحصوا حتى أصبح لا يمكن أن يتزعم المسلمون أو يقوم بأمرهم إلا من لا يعرف من الإسلام إلا رسوم معينة يمدح ويثني على الحكومة السوفيتية في كل كلمة أكثر مما يتحدث عن الإسلام والله المستعان. يقول: {{وتدفع هذه العناوين -جميعاً- القارئ للاعتقاد بأن المسلمين في شكل ما ليسوا تهديداً للسوفيت وحدهم بل إنهم حسب ما تصورهم الصحافة الأمريكية تهديداً للبشرية جمعاء}} هذا هو الخطأ.

الأفلام الأمريكية ودورها في التهويل

الأفلام الأمريكية ودورها في التهويل كما عملوا بعض الأفلام الأمريكية، ويمكن أنكم سمعتم عنها، والأفلام تترسب في اللاشعور لكنها تأثر على الشعور وعلى الوعي، وهذه أفلام على مدار ثلاث ساعات بعضها يتحدث عن غزو العرب، كيف إذا دخل العرب أمريكا وجاءوا وهم راكبون الجمال، وفيهم قذارة ووساخة -ومعروف كيف يصورون العرب- وكيف يهجمون على نيويورك فينهبونها وينهبوا واشنطن إلى أن يصلوا إلى كاليفورنيا وكيف يفعلون ويفعلون، فتتشوه صورة الإنسان المسلم عند الملايين من الناس، وإن كان بعضهم يراها نوع من السذاجة أو النكتة فلا يتصور وقوعها. لكن هذه الأشياء إذا ترسبت في اللاشعور تتحول إلى حقائق واعية فيما بعد. إن من عجائب ما ذكر في الصحافة الأمريكية ما نشر في صحيفة النيويورك تايمز يقول: {{إن المتطرف يأتي إلى الصحراء}} ومعلوم أنهم قد تحدثوا عن الأرمن والمسلمين والنصارى، وذكروا أن المسلمين في الاتحاد السوفيتي يسكنون في الصحراء، وأما النصارى فيسكنون في الغابات، واستنتجوا من هذا قاعدة، تقول صحيفة النيويورك تايمز: ' إن المتطرف يأتي من الصحراء، والمبدع يأتي من الغابات، وربما كان هذا هو الفارق الأكبر بين الشرق والغرب' الفرق بين الشرق الغرب أن الشرقي يأتي من الصحراء فيكون متطرفاً أصولياً، أما الغربي فيأتي من الغابات فيكون مبدعاً ومتحضراً. ومن الغرائب أيضاً التي تحدثت عنها الصحافة الأمريكية، تقول: {{أوردت الصحف الغربية أواخر كانون الثاني يناير وأوائل الشهر الماضي شباط أن من وصفتهم بمتطرفين سياسيين في أذربيجان -متطرف أو أصولي معروف ماذا يراد بهذا- يقول: قد يستولون على أسلحة ذرية في مواقع خارج عاصمة جمهورية باكو وهذه إحدى المناطق التي تزيد على العشر، وفيها مواقع لمخزونات للأسلحة الذرية في أراضي الاتحاد السوفيتي إلى أن يقول: وهذا تلميح واضح إلى أن احتمال وقوع هذه الأسلحة الذرية في أيدي متطرفون مسلمين يعتبر تهديداً خاصاً للبشرية}} ولاحظوا: أن المسلمين لو تحركوا في الاتحاد السوفيتي وإلى الآن ليس لهم حركة ذات شأن، يمكن أن يسيطروا على مناطق ذرية؛ فإذا سيطروا عليها فإن هذا يشكل تهديداً للبشرية، سبحان الله! الآن ما يقارب ثلاثين دولة في العالم تملك أسلحة ذرية نووية، لكن الخطر فقط على الإنسانية من أين؟ من أن لو امتلك ذلك السلاح المسلمون، وتذكرون ماذا قيل عندما عملت باكستان مفاعلاً نووياً، وما قيل عن ضياء الحق، وأن هذه كما قال هنري كيسنجر: هذه قنبلة إسلامية، وأعلن الحرب الصليبية عليها، إلى آخر تلك الأوصاف، وظلت الأحداث تجري حتى قتلوه وجاءوا بهذه الموالية الرافضية التي تاريخها وحياتها معروف لديهم هناك في أمريكا. ويقول: مايكل سابا: وهذا أيضاً أسلوبٌ لترسيخ رواية القنبلة الإسلامية وخطرها على العالم المتمدن، وهي الرواية التي دأب على سردها مراراً وتكراراً الخبراء الاستراتيجيون العاملون لصالح إسرائيل، فحقيقة الأمر أن إسرائيل تشكل بالفعل تهديداً نووياً لبقية دول العالم. يقول: الحقيقة أن التهديد النووي تشكله دولة إسرائيل، لكن المتهم المظلوم هو هذا العالم الإسلامي المسكين. ويقول: ويحتمل أن تتردد القصة الجديدة عن الخطر الإسلامي على العالم المتمدن أكثر فأكثر للمستقبل. ثم قال: وقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن دبلوماسيين في أثينا قولهم: {{إن هناك قلاقل متزايدة في اليونان وبلغاريا حيال الاضطرابات بين الأقليات المسلمة هناك}}. وبهذه المناسبة فإن دولة ألبانيا، الدولة الاشتراكية أو الشيوعية الوحيدة التي أكثرية سكانها مسلمون في أوروبا، إلى الآن هذه الدولة ما رأينا فيها بروستريكا، ولا حصل فيها أي شيء؛ لأن الأكثرية مسلمة، على ضعف إسلامهم وفهمهم له، لكن لا يراد لها أن تحصل على شيء حصلت عليه الجمهوريات في جميع أوروبا الشرقية؛ وهي دويلة صغيرة لا وزن لها في العالم، ومع ذلك حرمت من هذا الحق، ومما أعطيت جميع الدول. والآن تشكو اليونان وبلغاريا من الاضطرابات التي قد تجعلها دول مواجهة في أوروبا ضد انتشار التطرف الإسلامي! سبحان الله، فأمروا المسلم أن يغير اسمه وجوباً، ويعقد عقد زواجه في الكنيسة، ومن الصلاة، يمنع من الحصول على أي كتاب إسلامي، ويمنع من آداء الحج أو العمرة، ويمنع من أي شيء من دينه، ومع ذلك يقول المسئولون في تلك الدول: إننا الآن دول مواجهه بالنسبة لـ أوروبا لأننا نحن على الجبهة الشرقية في مواجهة التطرف الإسلامي الذي يهدد أوروبا.

مستقبل العالم الإسلامي في ضوء الوفاق الدولي

مستقبل العالم الإسلامي في ضوء الوفاق الدولي لعلنا نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بكلامهم عن احتمالات المستقبل، وخطرهم، وما ينددون به، وسنستعرض ذلك بشيء مبسط جداً. فنقول: كيف يمكن أن يكون مستقبل العالم الإسلامي بعدما سمعنا، وعلى أثر هذه المقتطفات القليلة؟

المستقبل من الناحية السياسية والاقتصادية

المستقبل من الناحية السياسية والاقتصادية المستقبل من الناحية السياسية والاقتصادية، ماذا تتوقعون أن يكون المستقبل إذا أصبحت أوروبا دولة واحدة، وأصبح الشرق والغرب تكتلاً واحداً وقوةً واحدة، وبعد سنتين سيتم ذلك تقريباً -كما أشرنا- وسوف يواجه العالم الإسلامي انتكاسةً اقتصاديةً كبرى. الآن لا يخفى عليكم، أن بعض دول العالم الإسلامي قبل عشر سنوات أو خمسة عشر سنة كان الريال السعودي يعادل وحدة من وحدات عملات بعض الدول، وفي هذه الأيام تشتري بالريال ما يعادل أربعمائة وحدة، دول كثيرة ما نستطيع أن نذكرها، دول كثيرة الآن بالريال تشتري أربعمائة وحدة من عملات هذه الدول، ماذا سيكون المستقبل؟! هذه نتيجة تعويم الدولار، ونتيجة الخطة الاقتصادية الأمريكية الخبيثة، ولكن ماذا تتوقعون في المستقبل؟! مشاكل كثيرة جداً: أولاً: أن رءوس الأموال الغربية سوف تتدفق إلى أوروبا الشرقية ومن ذلك ألمانيا؛ سوف تكون محط الأنظار، لماذا؟ لأن الثروات والمواد الخام ومنها البترول موجودة فيها بشكل كبير، وأيضاً الضعف والنقص الشديد للتكنولوجيا موجود، حيث إن اليد العاملة رخيصة جداً، جاءوا بصورهم وألمانيا الغربية تعطي الألمان الشرقيين، كل واحد تعطيه مبلغ معين من الماركات وينهال على المأكولات والأكشاك العادية في شوارع برلين، ينهالون بشكل عجيب؛ فيأكلون من هذه الحلوى، وهذه الأشياء، لأن هذه الأشياء ما رأوها في حياتهم، مع أن ألمانيا الشرقية من أكثر دول أوروبا الشرقية تقدماً، لهذا سيجدون فيها العمالة الرخيصة جداً، والمواد الخام، والتقنية المتخلفة. إذاًَ سوف تتحول الاستثمارات إلى أوروبا الشرقية. وفي اجتماع عقد منذ شهر تقريباً في الولايات المتحدة الأمريكية، في الغرفة التجارية العربية الأمريكية عقد هذا الاجتماع، وتحدث رئيس الغرفة وهو رجل أمريكي، وقال: إن مستقبل العالم الإسلامي -أي مستقبل العالم العربي هو يقول بتعبيره- الاقتصادي سيكون سيئاً للغاية في الفترة القريبة جداً هذه، وذلك لأن رءوس الأموال الأمريكية سوف تنساق إلى أوروبا الشرقية، وذكر على سبيل المثال إحدى دول الخليج المهمة كثيرة التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، كيف أنه في السنة الماضية انخفض حجم التبادل بينها وبين أمريكا إلى (50%) ومن المتوقع في المستقبل أن يزداد ذلك، وأن يكون هذا التناقص عاماً للمنطقة كلها. وهذا الاجتماع جاء عقب اجتماع الرئيس بوش برجال الأعمال الأمريكيين، وأوصاهم ووجههم، قائلاً: يجب أن تتجه اهتماماتكم إلى أوروبا الشرقية وأن تنسوا ما عدا ذلك، فهنا ستكون كارثة اقتصادية للعالم الإسلامي، لأن الدول الفقيرة المدينة ستزداد ديوناً وفقراً مبقعاً وتتراكم ديونها الربوية للغرب بشكل مذهل، والدول الغنية سوف تفتقر وتصبح دولاً مدينة. هذا الذي يبدو الآن كما ذكر بأرقام ذكرها رئيس الغرفة التجارية العربية الأمريكية. وهذا من الأمثلة عليه، أذكر مثالاً واحداً فقط: بعض دول الخليج -والحمد لله- أنتجت من المواد البتروكيماوية منتجات عالية الجودة والامتياز، وعلى المواصفات العالمية، ثم ذهبت في البواخر وجالت شواطئ الدول الأوروبية فلم تستقبلها أي دولة، ولم يستقبلها أي ميناء رغم مواصفاتها العالية، بل وضع في وجهها الضرائب الجمركية الباهضة والحواجز التي جعلتها تعود أدراجها وتبيع حمولتها في بعض الدول الآسيوية الشاطئية، فهذا أحد الأمثلة وكلكم تعرفونه. وقيسوا على ذلك في المستقبل، إذا اتحدت أوروبا أكثر جمركياً وإدارياً واقتصادياً فسوف تواجهنا، حتى لو تفوقنا عليهم، وحتى لو أنتجنا أفضل الصنع لن يشتروا منا؛ لأنها صليبية حاقدة واضحة، ومع ذلك فإننا بالعكس أكثر ما ينتجه العالم الإسلامي ما هو إلا مواد خام يستهلكها العالم الغربي في صناعته، هذا أكثر شيء عند العالم الإسلامي.

خطر المؤسسات الربوية على الاقتصاد

خطر المؤسسات الربوية على الاقتصاد وأسوء من هذا -ولنخرج عن موضوعنا قليلاً وهو له علاقة بالموضوع- أن الدول الغنية في العالم الإسلامي أو في الأفراد الأغنياء أو المجتمعات الغنية؛ تستهلك كل ثروتها وتهدر ثروتها للغرب في أمور تافهة، وفي كماليات وأشياء كثيرة يمكن أن تستغني عنها، وتحتفظ بأموالها وتوظفها للإنتاج، بل أنكى منه أن المؤسسات الربوية في العالم الإسلامي هي التي تدعم وتقفل الأبواب في وجوه المؤسسات الاقتصادية الإسلامية، مع أن المؤسسات الربوية جميعاً ترتبط بالمؤسسات الربوية الغربية، ولا يخفى عليكم الأمثلة: العطور، والأزياء، وأدوات التجميل وهذه تنتج بأقل تكلفة ولكنها تباع بأسعار خيالية. خذ أية جريدة من جرائدنا بدون استثناء، وانظر إلى هذه الصور الفاضحة والدعاية الخليعة للعطورات والأزياء وما يتعلق بهما، ومعلوم أن المرأة إن كانت تعمل، فالراتب كله أو نصفه لهذه الأشياء، والرجل أيضاً استرضاءً للمرأة يفعل ذلك، وهناك أمور غريبة جداً تحصل من الترف. أيضاً: ما معنى أن تصبح هذه الحمامات، ونوادي تخفيف الوزن كما تسمى أو التخسيس ضمن المستشفيات، فالآن يوجد في المستشفيات حمامات للسباحة وللتخسيس!! إننا نعيش في ترف كاذب والعالم يهددنا بكوارث اقتصادية خطيرة. الآن المرأة المسلمة لا تبالي أن تشتري فستاناً بـ (5000) ريال، أو بـ (10000) ريال، وأحياناً بأضعاف ذلك، لا تبالي أبداً، وإخواننا المسلمون يموتون جوعاً، المجاهدون وغير المجاهدين، ومع ذلك أيضاً نحن يتهددنا مستقبل أسود -والعياذ بالله- إن بقينا على هذه الحالة، ترف كاذب وأموال تهدر يومياً، وملايين في أسواقنا تدفع يومياً إلى جيوب المؤسسات اليهودية للأزياء والموضات والتجميل وما أشبه ذلك. وهذا غير الترف في الأشياء الأخرى: كالكماليات، والأثاث، والموبيليات، وأمور أخرى كثيرة. والمفروض ونحن نرى هذا العالم الغربي الصليبي الحاقد يتكاتف ضدنا ويعلن حرباً صليبية علينا ألا نعطيه قرشاً واحداً، أما ما كان ضرورياً أن نستورده فلنستورده من دول أخرى غير هذه الدول، وإن كانت كافرة هي الأخرى، لكن هذا عدو لدود، عدونا منذ أن ظهرت دعوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التوحيد وحتى قيام الساعة، والحرب بيننا وبينهم دائرة لم تتوقف لحظة واحدة، والأحاديث الصحيحة تؤيد ذلك وتؤكده، وأخطر المعارك ستدور بين المسلمين وبين الغرب -الدول الصليبية- في أرض الشام وفي القسطنطينية إلى أن يظهر الدجال والمعارك قائمة، وقد ذكرنا ذلك في محاضرات سابقة تتعلق بهذا الموضوع، والمقصود أن المستقبل الاقتصادي والسياسي في العالم الإسلامي سيكون مظلماً في ظل هذا الوفاق الدولي الخبيث.

المستقبل الثقافي والاجتماعي للعالم الإسلامي

المستقبل الثقافي والاجتماعي للعالم الإسلامي كما قلت: من الموافقات الطيبة أن تكون هذه المحاضرة في الاتصالات فإن ثورة الاتصالات العالمية هذه ستهدد العالم الإسلامي في ثقافته ودينه ولغته وأحواله الاجتماعية بما لا يكاد يخطر لنا على البال، والبث التلفزيوني المباشر أصبح وشيكاً، بل بُث وكما تعلمون أن بعض الدول بدأت تلتقطه، ويعملون على أنه في خلال فترة يسيرة جداً يستكمل تغطية العالم كله، وخطر ذلك على العقيدة كالشمس لا يخفى على أحد، لا سيما إذا علمنا أن النصرانية في الفاتيكان بدأت تستعيد قوتها، وأنها أطلقت ثلاثة أقمار صناعية، لتغطي العالم كله لأن كل قمر يغطي ثلث الكرة الأرضية، وكلها تبث التنصير على المسلمين، وتريد أن تنصر العالم ولا سيما العالم الإسلامي، وهذا غير الإباحية وغير الانحلال ووالله الذي لا إله غيره -ونحن في هذا الشهر المفضل- إن ما في إعلامنا من البلايا ليكفي خزياً وعاراً أن تربى الأمة عليه، والحمد لله أنها تتربى على مصادر أخرى، وإلا لو تربت على ما يعرض فقط في التلفزيون لرأينا العجب العجاب من الإباحية، فكيف إذا استقبلنا خلاعات الشرق والغرب بهذه الوسائل المتقدمة المتطورة؟! وهذا قريب، ولن يمضي أكثر من سنتين تقريباً إلا ويصبح هذا أمراً واقعاً. أمور أخرى أخطر، وهي غير البث التلفزيوني المباشر، ونحن عندنا الآن جمارك في المطار ورقابة المطبوعات، والمطبوعة التي لا تناسب الأخلاق والقيم، أو ما يسمى كذلك، فهي لا تدخل، وفي المستقبل القريب عن طريق الكمبيوتر، وعن طريق الاشتراك في تلكسات متطورة لن يستطيع أحد أن يراقب أية مطبوعة، لأنك تأخذ الجهاز وتشتريه، وترسل الشيك لكي تشترك في أي فرع من أي بنك وفي أي مكان من مراكز الإنتاج الثقافية -كما تسمى- أو السينمائية، فتأتيك المطبوعة ملونة جاهزة في بيتك. ويقال: أنه بعد سنوات قليلة لن يحتاج الناس أن يشتروا صحيفة أو يشتركوا فيها، أو -يأتي عبر البريد، لأنها سوف تنتقل عن طريق الأقمار الصناعية وعن طريق هذه الأجهزة، فـ جريدة الشرق الأوسط -مثلاً- تطبع في لندن وجدة وفي الظهران، والأهرام وغيرها تطبع في أي مكان في العالم، وهذا الذي يُعمل الآن بشكل كبير سيصبح فردياً، وسوف يصبح الفرد الواحد في بيته وبجهاز ثمنه ضئيل جداً أن يشترك في أية مطبوعة في العالم وتظهر أمامه كاملة أمامه، إن كانت دعاية سياسية مغرضة فهي موجودة، أو دعاية ضد الإسلام وتحطيم للعقيدة فهي موجودة أمامه، أو كانت خلاعة ودعارة وانحطاط فهي موجودة، وتعلمون لو فتح هذا المجال، فإن الذين سيشتركون في بنوك المعلومات الثقافية، وبنوك المعلومات السياسية التي تعطيك أخبار العالم، يمكن أن يكونوا (10%) أو (1%)، أما أكثر الناس فسيحرص على الاشتراك في المجلات الخليعة والأفلام الخليعة ويفرح بذلك؛ لأنه لا جمارك تراقب ولا مراقب إعلامي عليها فالجهاز عنده والمطبوعة تصله. ومن المشكلات العظيمة في ظل هذا الوفاق التي سوف تكون: ازدياد النشاط السياحي -كما يسمى- والإباحي بالمعنى الصحيح، ولا سيما مع القفزة المتوقعة في عالم الطيران فالعالم يتحرك بسرعة مذهلة، ونحن متخلفون جداً بل حتى في تفكيرنا، واعذروني لأن هذه الموضوعات يجب أن نكون فيها صرحاء، ويجب أن نقول كلمة الحق، وهذا هو الميثاق الذي أخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، وإلا فلا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير في من يهمه الأمر إن لم يسمعها، العالم يعيش في تحرك مذهل وبسرعة مذهلة، ونحن -وأخص طلبة العلم- جامدين بالمعنى الكامل، واسمحوا لي لو استطردت قليلاً، دروس الحرم -ونحن مقبلون عليها- دروس علمية، اسمع ما سجل عام 1405 أو 6 أو 7 أو 8 أو 9 أو 10، الموضوع والكلام فيها واحد. أنا وأنتم معي نرى نفس المجلس عند العلماء يسأل: ما رأيك يا شيخ في عدد ركعات التراويح؟ فيعيد الكلام الذي قاله قبل 10 سنين أو 20 سنة هي نفس القضية وسؤال آخر: ما رأيك يا شيخ في تحريك الإصبع؟ وما رأيك يا شيخ في كذا؟ ما رأيك يا شيخ في الجماعة الفلانية؟ كلام مكرر، فأضعنا أوقات العلماء، وأضعنا أوقاتنا في قضايا مكررة، بل ربما نتشاجر ونختلف ونتضارب عليها، والعالم يتغير كما قلت أحياناً بالدقيقة، وهناك أشياء تحصل قد تهدد أصل عقيدتنا وأصل ديننا، فنحن المستهدفون من تحرك هذا العالم كله ولا سيما بلدنا هذه؛ لأنها هي منبع النور والخير والأصالة، وهي المؤهلة لأن تقود العالم الإسلامي، وكل المؤهلات موجودة فيها، ونضيع أوقاتنا وأوقات علمائنا في غفلة عن هذا الواقع الذي يتلاحق من حولنا بأحداث رهيبة جداً. فنقول: الثورة في عالم الطيران هي سباق محموم بين شركات الطيران، كما هو بين شركة الإرباص الفرنسية وشركة البوينج الأمريكية على هذه المرحلة القادمة، سباق قد تختصر فيه المسافات إلى النصف خلال السنوات القليلة القادمة، حيث قد تقطع المسافة بين جدة ونيويورك في 5 ساعات تقريباً، وقد تقطع إذا استمرت أو نجحت الدراسات إلى مدينة الدعارة بانكوك قد تكون مثلاً ثلاث ساعات ونصف أو حول ذلك، بمعنى أننا في ظل هذه الشهوات المحمومة عند شبابنا مع الأسف، وهذه الرغبات التي لا تشبع من الانهماك في الملذات، والجواز مفتوح إلى دول العالم ما عدا إسرائيل أو غيرها، والفلوس موجودة، سوف يكون لهذا نتائجه الخطيرة، وسوف نسمع من يقول -وقد قيل-: الحل عندنا أن نجعل جدة العروس، وكأنها العروس، أي: لا بد أن تكون متبرجة لكل أحد، قالوا: نجعل جدة مدينة سياحية -وقد قرأنا ذلك- فنستقطب أبناءنا فيها، وجدة أفضل من بانكوك كما نُشر، جدة أفضل ألف مرة من بانكوك! وبعد هذا الحل لدرء الفساد الخارجي أن نستقدم الفساد ونستورده! وننشئ مدناً ساحلية أو غير ساحلية ويكون فيها ما ترون من ألوان الفساد والاختلاط، وما سيأتي في المستقبل سيكون أدهى، ولا سيما مع ضعف الدعوة، وانشغالنا نحن طلبة العلم بأشياء بعيدة عن هذا الواقع، ومع ضعف -إن لم نقل حرب- هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومع غيرها من الأمور.

تجنب أخطار الوفاق الدولي

تجنب أخطار الوفاق الدولي كيف سيكون مستقبل الإسلام في ظل هذه الأوضاع! وكيف يقاوم هذا الخطر؟! وما الحل؟! الحل سهل وهو بأيدينا نحن، فنحن ورثة الكتاب الهادي بأيدينا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] ومعنا الرسول الهادي صلوات الله وسلامه عليه، نقرأ كلامه كأنه قاله اليوم، وكأن جبريل ما نزل بهذا القرآن إلا البارحة، فكله بين أيدينا نحن أمة الهداية والخير وأمة النصر، مهما كثر أعداؤنا فالحل بأيدينا، وهو في أن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] إذا اتقينا الله حفظنا الله تعالى من كل سوء، لكن إذا لم نتقِ الله وسايرنا الشرق والغرب في شهواتهم، سلطهم الله تبارك وتعالى علينا، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] مهما كادوا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] وبالتقوى ننتصر على أكثر وأكبر الأعداد -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويذلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويرفعنا الله عز وجل درجات عالية، فننظر إلى هذا العالم مهما اجتمعت قواه وكأنه حشرات، إذا اتقينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعظمناه، وعرفنا قوته، هانت قوة الشرق أو الغرب مهما بلغت ومهما تعاونوا علينا، وقد تعاونوا علينا في كل مرحلة من مراحل التاريخ. ومن الحل أن يكون المسلمون أمة واحدة كما في الآيات: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. وبهذه المناسبة أقول: سمعت كثيراً من الدعاة وخاصة من يأتي من خارج المملكة، يقولون: الحل الخلافة الإسلامية، وهذا شيء جميل ولا شك، فالحل أن تقوم الخلافة، ولكن أوروبا والشرق والغرب يخطون خطوات عملية، فهذه السنة تنظم الجمارك، والسنة الآتية السوق المشتركة تكون أكثر، والسنة التي بعدها يتحد البرلمان، حتى يتوحدوا، ونحن نعيش في الخيالات، ونردد الحل إعادة الخلافة! وهل سينزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خليفة من السماء؟! لن ينزل من السماء إلا عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، ولن ننتظر حتى ينزل بل سنجتهد فإن نزل فينا فالحمد لله. يجب أن نجتهد نحن، لكن لن يأتي خليفة، وإذا جاء فأين سيعيش هذا المسكين؟ وفي أي بلد سيعيش؟ بل إنه في أكثر دول العالم العربي والإسلامي سيعدم لو علم أنه هذا خليفة المسلمين، فهي خيالات لا ندعها تذهب بنا بعيداً، وبعضهم حدثني في هذا، فقلت: تتمنون الخلافة والخليفة ولا شك أن هذا حلم، ولا شك أنه إذا تحقق سنفتح العالم لكن أولاً ضعوا لنا حلولاً واقعية تؤدي إلى ذلك. إن واقع الأمة الآن هو مثل إنسان مراهق مشلول مكسر، يهجم عليه اللصوص والمجرمون من كل جهة، يسأل: ما الحل؟ فيقول: أن يكون عندي ولد يحميني، وهو مفتول العضلات قوي الذراعين، ويدعو الله أن يرزقه ولداً، وهو غير متزوج وليس عنده قوة على ذلك، ونقول دائماً: ادعوا الله أن يرزق المسلمين بخليفة، فكما أنه لن يأتي الولد إلا بزوجة وبقوة وبنشاط وبتربية، فكذلك الخليفة يمكن أن يوجد لكن بعد أن توجد الأمة.

إزالة أسباب الفرقة

إزالة أسباب الفرقة أقول: إذا كان الحل هو في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] فهل توحدنا نحن الدعاة الآن حتى يأتي خليفة يلم ألف مليون من الغثاء؟ أليس داعي الوحدة موجوداً بيننا وهو كتاب الله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)؟! حبل الله: كتابه ودينه وصراطه المستقيم، فلمَ لا تتوحد جهود الدعاة في كل مكان على الكتاب والسنة؟! يجب علينا أن نزيل كل أسباب الفرقة، ومنهج الكتاب والسنة أوضح وأجلى وأوسع المناهج، فهو يحتمل تعدد الاجتهادات وتعدد الأحوال والبيئات، ففي بلد تكون الدعوة جهاداً بالسيف، وفي بلد تكون جهاداً بالدعوة، وفي بلد يكون أفراداً، يسع هذا المنهج كل شيء، ولا يسعه منهج آخر، ولن يجمعنا زعيم أو متبوع غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولن يجمعنا تاريخ غير تاريخنا الإسلامي وتاريخ خلفائنا الراشدين، فلنتوحد نحن الدعاة. أما ما دام فينا دعاة للـ عصرانية والعقلانية، ودعاة للمقاعد النيابية والحريات السياسية، ودعاة للبدعة، ودعاة للتصوف، ودعاة للتقارب مع الرافضة، والكل يقولون: دعاة، والكل يقولون: يجب أن تقوم الدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية، فلن نتوحد ولن نعمل شيئاً.

توحيد قلوب الشباب

توحيد قلوب الشباب ومن الحلول -ويجب أن تكون عملية وسريعة وتدخل في برنامج كل داعية منا- توحيد قلوب هؤلاء الشباب، وإزالة كل ما يثير الفرقة والخلاف أو ما يجعل الفرقة والخلاف تدب بينهم، وأن يجتمعوا على الأصول والأهداف العليا والمواجهة، وكل بحسبه، وفي موقعة، وكل بما يتناسب مع بيئته، ومع ما أعطاه الله تبارك وتعالى من المواهب، وبذلك نستطيع -إن شاء الله- أن نقاوم ونغير صورة هذا المستقبل الذي يهددنا إن ظللنا نعيش في حالتنا هذه.

التقوى والضراعة إلى الله

التقوى والضراعة إلى الله وأكرر وأقول: إنه لا بد لهذا الشباب من زيادة التقوى وتقوية الصلة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، ويقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43]. وليس لدينا الآن حل إلا قوة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة} وهذه الشرور المقبلة لا بد لنا فيها من قول ذلك في كل مكان، وفي الدنيا والآخرة، وفي كل أزمة ومواجهة. تقول زينب بنت جحش رضي الله عنها كما روى ذلك الإمام أحمد والبخاري ومسلم رحمهم الله: {قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم من نومه وهو محمر الوجه، فقال: لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بيده}. هذه الأخطار القادمة يستكشفها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أوحى الله إليه ويحذر الأمة منها، ونحن نرى الشر الآن وكأنه قد وقع في ظل القوى العالمية المتكتلة ضدنا، فكيف نقاومه؟! في كل عداوة وفي كل موقف يجب أن يكون لدينا تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والضراعة إليه، وإذا كان فينا عباد صالحون فدعوة من أحدهم في جوف الليل تهدم صواريخ أمريكا وروسيا بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا نقول ذلك متخلين عن الجانب المادي أبداً، بل نقول: لدينا جانب لا يوجد لديهم، أما الجانب المادي فقد قال ربنا تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] فنبذل ما استطعنا، لكن الجانب الذي نملكه ولا يملكونه هو تقوى الله، وهو الدعاء والتضرع إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

إشراك جميع الناس في المعركة

إشراك جميع الناس في المعركة هذه المعركة معركة كل فرد مسلم، وليست معركة الدعاة فقط، فهل استفدنا نحن من إخواننا أو آبائنا أو من الذين نسميهم العامة؟! هل أحسسناهم بهذه المعركة؟! هل أشعرناهم بخطرها وطلبنا من كل منهم أن يُمَّد الدعوة بأي شيء ولو بالدعاء؟! الذي لا يملك شيئاً فليدعو الله للدعاة، وللمجاهدين، وللعلماء العاملين، فهذا من الأسلحة الغائبة عن الشرق والغرب، ونحن كما يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم} سبحان الله! بضعفائنا ننتصر؟! ولكننا لا نحسب لهم حساباً، ونظن أن الاتفاقيات الدولية، أو أن الانحياز إلى أحد المعسكرات يجعلنا نبقى في سلامة من هذا الاجتياح الخطير. نقول: لا! المواجهة في المرحلة القادمة هي تيار كاسح مدمر يأكل الأخضر واليابس، وكما قيل: ليست معركتنا في هذه المرحلة معركة منتصر أو منهزم، ولكن المعركة معركة وجود أو عدم وجود! لو تسلط علينا هذا الاستعمار ببثه المباشر وبغزوه الثقافي وبسيطرته الثقافية لمدة عقدين أو ثلاثة عقود، فربما امتسخنا مسخاً كاملاً، حتى لا يبقى لنا أي وجود أصلاً، ونعوذ بالله من ذلك! لكن إن قمنا وواجهنا ذلك معتصمين بحبل الله، ومنتهجين منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة والجهاد والعمل، فسوف يكون إنقاذ الإنسانية على أيدينا -بإذن الله- وليس فقط إنقاذ أنفسنا وها هي المناطق الساخنة كما تسمى الآن أفغانستان ولبنان وفلسطين وأرتيريا والفلبين، وكل المناطق التي فيها جهاد أو نشاط إسلامي إلى حد ما، هذه المناطق دليل على ذلك، ورعب الشرق والغرب مما يقع ويدور في هذه البلاد دليل على أن المستقبل مفتاحه بأيدينا، وأنه قريب جداً من هذه المناطق، ونحن نقول: -حسبما يدور هذه الأيام- لا نستبعد أن تقوم دولة إسرائيل بأي عمل عسكري في المنطقة، وقد يكون عملها مفتاح الخير في المنطقة؛ لأننا نعيش في غفلة، ولا بد أن نؤدب حتى نستيقظ، وهذه الأمة لا تستيقظ إلا بضربة، فما انتشرت الدعوة الإسلامية ولا قامت إلا بعد هزيمة (1387هـ - 1967م) ولعل فيما يحدث إيقاظاً لنا. الخلاصة: نقول: الخطر أكثر وأكبر من أن نستوعبه في محاضرة أو محاضرات، وهذه حقيقة يجب أن تعلموها، والحل بأيدينا نحن ألا نتواكل، وألا نقول: الدعاة! العلماء! المفكرون! إن القضية قضية كل فرد منا، وهذه القضية تهدد كل بيت وكل فرد في هذه المرحلة التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يصرف عن المسلمين شرها بعودة صادقة إلى الله. كما أن العودة الصادقة إلى الله تتضمن في أول ما تتضمن: التزود من التقوى والصبر والاستعانة بالصبر والصلاة، لا سيما الدعاة الصادقون المؤمنون الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، والذين تجتمع حولهم هذه الأمة بإذن الله، فيكون بذلك النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. وهذا بفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الأسئلة

الأسئلة

تنبؤات بالمستقبل وحقيقة البروستيريكا

تنبؤات بالمستقبل وحقيقة البروستيريكا Q هذا سؤال يقول: اسمحوا لي أن أسأل هذا السؤال: هل لديكم أي تنبؤ تحليلي للمستقبل خلال سنواته القادمة؟ وما هو موقف الإسلام؟ وماذا لنا أن نعمل ونحن نجابه بتخطيط قوي يهودي مسيحي إزاء الإسلام؟ وأيضاً يقول: كلمة البروستريكا إعادة البناء، والشخص الذي يقودها أشك كثيراً أن من خلفه اليهود يساندونه بقوة، أرجو إجلاء الأمرين؟ A الحقيقة ورد في الكلام السابق ما يجيب على هذا، لكن أقول: أولاً: المستقبل في السنوات القادمة: ستكون الحالة فيه كالحالات التي تعتري الأمم عندما يحاط بها، أو تعتري الفريسة عندما تهاجمها السباع الضارية، وسيكون العالم الإسلامي في حالة اهتزاز. ونقول: نتوقع -إن شاء الله- أن هذا الاهتزاز سيوقظ همماً كثيرة، ونحن -في الحقيقة وبكل صراحة- لا نعلق الأمل في مستقبلنا القريب هذا على التكتلات الشكلية في العالم الإسلامي، أي: المنظمات والمؤتمرات الشكلية الرسمية، هذه قد تعين أحياناً في التنبيه إلى بعض القضايا أو تعطي الأمة شعوراً بأن الوحدة ممكنة أو شيء من هذا، لكن لا يعلق عليها الأمل في الحل، وإنما سوف تشهد السنوات القليلة القادمة نوعاً -والله تعالى أعلم- من الهزة العميقة التي توقظ شعور كثير من الشباب المسلم على اختلاف مستوياتهم الفكرية وباختلاف مواقعهم في المسئولية -إن شاء الله- سوف تهز حتى بعض المسئولين وحتى بعض القادة، وهكذا مما قد يتيح للأمة أن تعيد النظر في مواقفها، ويكون ذلك بداية للحل والمخرج -بإذن الله تعالى- وأرجو أن يوفقني الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لإصدار درس عن الحروب الصليبية وكيف استيقظت الأمة؟ وكيف قاومتها؟ لأن هذا يرتبط بنفس الموضوع. وكيف أنها بعد النوم الطويل بدأت اليقظة هنا وهناك، ثم تطورت حتى نجحت -بإذن الله- وليس كما يقولون: التاريخ يعيد نفسه، لا. بل نقول: سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً. فمن خلال استعراضنا للحرب الصليبية، وكيف انتصر المسلمون؟ وكيف قاوموا؟ سنجد بعض الحلول العملية الواقعية التي سوف نسلكها -إن شاء الله- فننتصر في الحرب الصليبية الساحقة الماحقة التي نعيشها هذه الأيام. أما بالنسبة للبروستريكا وكون اليهود وراءها فهذا صحيح، وهو كما سبق من أن اليهود أكبر من استفاد من عملية إعادة البناء، وعندما نقول اليهود لا نعني بهم اليهود في الاتحاد السوفيتي فقط، بل هم استفادوا الفائدة الكبرى، واليهود في الأرض المحتلة استفادوا فائدة كبرى -أيضاً- وكذلك اليهود في أمريكا وفي أوروبا كل أولئك استفادوا، كيف استفادوا؟ اليهود في أمريكا الذين يملكون البنوك والمؤسسات الضخمة، وفي أوروبا الغربية أول من استفاد بنقل استثماراتهم في دول أوروبا الشرقية، فمن أي زاوية نظرت تجد أن اليهود أكبر المستفيدين من هذه العملية -عملية إعادة البناء كما تسمى- ولا غرابة فإن برجنيف نفسه كان يهودياً ومن قبله ماركس كان يهودياً، وكل زعماء الشيوعية مثل تراوتسكي الذي كان عدواً لهم وانشق عنهم، والآن يعودون إلى بعض نظرياته، أيضاً هو يهودي معروف، ويعلم الروس كلهم أن هؤلاء يهود. فاليهود وراء كثير من الأحداث، وهم الذين يخططون وراءها بل إنهم أحياناً يتعمدون أن يأتوا بأشياء عجيبة، كما حصل منهم بعد مؤتمر مالطا. شيء آخر بعض الإخوة الذين اطلعوا ورصدوا هذه القضايا، وجدوا أن أكثر الزعماء في أوروبا الشرقية بعد البروستريكا هذه من اليهود، وكذلك وزراء الخارجيات ورؤساء الوزارات وبعض رؤساء الحكومات يهود في ظل الأوضاع الجديدة، ولا شك أن هذا يؤيد ما أشار إليه السائل أثابه الله.

علاقة الجهاد الأفغاني بسقوط الشيوعية

علاقة الجهاد الأفغاني بسقوط الشيوعية Q اعترف كثير من الشرقيين والغربيين بالعلاقة بين انهيار الشيوعية الحاقدة والجهاد الأفغاني؟ A لا شك أن هذا أحد الأسباب، وقد قلت في كلمة سابقة: إن هذا مما عجل بالعملية، وإلا فإن العملية الحقيقية مبيتة، ولكن هذا السبب جاء من أحد الأسباب التي جعلت العملية تأخذ دورها وحجمها، وهو مثال لما نذكره في المرحلة القادمة، فهم سحبوا الجيوش ولكن المساعدات تتدفق والمؤامرات تحاك، ولم يتغير موقفها من القضية، وإنما الذي تغير هو التحرك أو الاستراتيجية بما يناسب المرحلة، أما العداوة والحقد والتخطيط فلم يتغير منه شيء.

حتمية المواجهة والمستقبل في أفغانستان

حتمية المواجهة والمستقبل في أفغانستان Q ما رأيكم في أن البث المباشر القادم وسيلة مساعدة للوفاق الأوروبي مع الكتل الشرقية؟ وهل الوفاق الدولي من جهة والصحوة الإسلامية من جهة تتوقع منها الحرب العسكرية بين المسلمين والكفار؟ وهل قيام دولة إسلامية في أفغانستان سوف يكون بداية تلك الحرب؟ A أما أن يكون البث المباشر فكذلك فنعم، وأما أن الصحوة ستكون منها حرب بين المسلمين والكفار، أي: سوف تكون هناك مواجهة، نعم بلا شك، لأنه لن يحل الموقف إلا مواجهة دامية بين الصحوة الإسلامية وبين الكفار، فلا بد من ذلك مهما حاولنا لابد منه ولكن بعد كم؟ الله أعلم، هل سيكون ذلك بعد قرن أو قرنين أو عشرين سنة؟ المهم لابد من الدم، وهذا ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتال اليهود والروم، فلا بد من ذلك في المستقبل القريب، كما تشهد الأحداث أيضاً وفي المستقبل البعيد كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة. أما قيام دولة إسلامية في أفغانستان هل يكون بداية لتلك الحرب؟ نرجو من الله أن تقوم الدولة الإسلامية في أفغانستان، ونرجو من الله إن قامت أن تكون إسلامية حقة، لأنه في ظل هذا الواقع لن يسمح الشرق والغرب بقيام دولة إسلامية، وإن قامت فستكون خليطاً من أدعياء الإسلام والمنافقين مع المجاهدين الحقيقيين الصادقين، وهذه مرحلة أصعب من مرحلة المواجهة. الآن عندما قام وزير الدفاع بالانقلاب وادعى أنه مع المجاهدين فإن الغرب والشرق، قالوا: إنه انضم إلى المجاهدين، وبعض المجاهدين أعلن ذلك، وحصل شيء من التضارب، وكأن العملية أصبحت أن شيوعياً ينشق فيأتي فيشارك المجاهدين فتقوم دولة، فيكون هذا الشيوعي -مثلاً- وزيراً فيها، بالإضافة إلى العلمانيين والصوفيين الموجودين الذين لا يهمهم إلا الولاء لـ أمريكا والغرب، فهذه كلها تجعل المستقبل في أفغانستان وفي غيره حالكاً، إلا إذا تمسكنا بالحل، كما ذكرنا وأشرنا إليه، فسوف ننتصر -بإذن الله- في أفغانستان وفي كل مكان، والعداوة في كل مكان لا تقل عن أفغانستان. لكن هذا لأنه الجرح الدامي، والجرح النازف اليوم أمامنا، وإلا ففي كل بلد المواجهة قائمة، والتخطيط لإفساد المسلمين ولإبعادهم عن دينهم ولمنعهم من الاحتكام لشريعة ربهم قائم في كل مكان. لكن أقول بصراحة: إنني أتوقع أن المرحلة القادمة في أفغانستان -ولا بد أن نقول الحقيقة- أتوقع انشقاقات وانقسامات، أي لن تكون أرض أفغانستان موحدة، لن تتوحد، ولا يمكن أن يسمحوا بأن تتوحد في ظل حكومة للمجاهدين، نحن ندعو الله أن يحقق ذلك للمجاهدين، وهو قدير سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن في ظل أوضاعهم وضعفهم وتخاذلنا نحن على المستوى العام -ولا نعني أفراداً قلائل- فإن ذلك لا يؤثر شيئاً. أقول: سوف يجعلون منها مناطق نفوذ موزعة، والله أعلم إلى متى تستمر هذه الحالة؟! وهي جزء من الأمة الإسلامية الموبوءة المريضة، وإن كانت فيها عوامل يقظة أكثر من غيرها لأسباب هيأها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

طريق القوة

طريق القوة Q يقول الأخ: ذكرتم أنه إذا اتحدت أوروبا الغربية والشرقية والدولتان الكبيرتان روسيا وأمريكا فسوف يصبحون أقوى منا فقط بالقوة العسكرية، أرجو الإيضاح بماذا سنصبح أقوى منهم، هل بفرقتنا أم بانقسامنا إلى فرق ومذاهب، أم بأدبنا المحدث، أم بسياستنا سياسة الوفاق؟ A هذا جواب وليس سؤالاً. وطبعاً لن نكون بأي شيء من هذه أقوياء.

دور العلماء في المواجهة

دور العلماء في المواجهة Q الأخ يقول: نسأل الله أن يثبتنا وإياكم! بعد أن أدركنا خطر الوفاق الدولي على شعوبنا الإسلامية من جميع النواحي، فما هو دور المسلمين والعلماء منهم كأفراد، خاصة وأن معظم الأنظمة تسير بشعوبها نحو المجزرة وما يريده أعداؤها؟ A الله المستعان! هذه الأمة مضاعة، وخاسرة البضاعة بين حكام استخفوها وعلماء أضلوها إلا ما رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن حقيقة الأمر أن أكثر من ينفذ خطط هؤلاء الأعداء والمجرمين هم عملاؤها وأذنابهم الذين يحاربون الإسلام في ديار المسلمين، أكثر مما لو كان الخواجات يباشرون ذلك بأنفسهم إلا ما رحم الله، والعلماء أيضاً أو الدعاة أو ما يسمون العلماء الرسميين -إلا من رحم الله- هم من أسباب التخدير الذي تعيشه الشعوب الإسلامية؛ لأنهم مستعدون في ركاب الأوضاع القائمة لدنياهم ولمطامعهم ولمآربهم أن يؤيدوا أي وضع، وأي شيء يرتضيه القائمون على هذه الأوضاع. ونحن نتكلم الآن عن رقعة عريضة، مليار من الغثاء، ولذلك يجب على من فقه دين الله، وعرف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيضاح الحق للناس بما يستطيع، قل كلمة الحق ولا تخشَ في الله لومة لائم؛ لأن أخطر من هذا الوفاق ومن هذا الغزو أن تظل الأمة في غفلة عنه، مهما تعللنا بأي شيء نبقيها في غفلة عنه، ونحن نعلم خطره، وهذه جريمة سوف يسألنا الله تعالى يوم القيامة عنها، ولهذا قلت: هذا واجب كل فرد وكل إنسان منا في بيته، وإدارته، وفي كل مكان، أن يسعى إلى تحريك وإيقاظ الأمة لدينها وإيمانها بأن يوضح لهم خطر هذه المرحلة التي سوف نعيشها في ظل الوفاق الدولي.

حال الدعوة في الاتحاد السوفيتي

حال الدعوة في الاتحاد السوفيتي Q الأخ يقول: صرح مفتي مصر قبل أيام في الصحف أن سياسة إعادة البناء قد استفاد منها مسلمو الاتحاد السوفيتي، فإلى أي مدى تؤيدون هذا الرأي؟ A أولاً: المفتون يتكلمون بصفتهم الرسمية السياسية، ولو تكلم بغير ذلك لأقيل من منصبه، وقد نعذره بأن هذا أقصى ما يستطيع أن يقوم به. ثانياً: نحن لا ننكر أننا يمكن أن نستفيد من أي وضع، حتى في أمريكا، حتى داخل الأرض المحتلة، يمكن أن نستفيد من أي وضع جديد أو قديم. لكن هل نحن أهل لأن نستفيد؟ هل المسلمون في الاتحاد السوفيتي في حالة تأهلهم للإفادة؟ أم أن الإسلام الذي يفرحون به هو أنهم أذنوا واجتمعوا لصلاة الجمعة؟ وقد تكون الخطبة نسخة مكتوبة للجميع، وقد تحيا بعض الطرق الصوفية، وقد تكون بعض الاحتفالات عيد المولد وعيد النصف من شعبان كما سمعنا، فهذا فهمهم. ونحن نقول: المسلمون خارج الاتحاد السوفيتي أما الذين هم مضطهدون كما في بعض الدول، فهذا لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً حتى ينفعهم، لكن في الدول التي يمكن أن تنفع -فهل خططنا لذلك؟ هل تهيأنا؟ هل استعددنا لذلك؟ الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، هي الجهة الوحيدة التي لا يحوم حولها شك ولا غبار في القيام بواجب الدعوة إلى الله في الخارج، كم عندها من الدعاة؟ كم تتوقعوا؟ هل هم آلاف؟ لا أبداً، يمكن (400) أو (500) أو اجعلوهم (2. 000) فهل سيغيرون أمريكا وأوروبا وروسيا وغيرها؟! ماذا يمكن أن نعمل، نحن على مستوى بلدنا هذا، بلد الإسلام والخير والدعوة -والحمد لله- والعلم وكل شيء، بعض الأحياء وبعض المدن لا تجد فيها داعية، فكيف تتوقع أن يكون حال غيرها من بلاد الفساد. أقول: كيف إذاًَ، وبأي شيء سنمد المسلمين في الاتحاد السوفيتي وغيرها؟ فإلى الله المشتكى، والله المستعان.

التعليق على قرار أن القدس عاصمة لليهود

التعليق على قرار أن القدس عاصمة لليهود Q يقول الأخ: كلنا استمع قبل أيام إلى ما أعلنه مجلس الشيوخ الأمريكي عن إعلان القدس عاصمة يهودية، ما هو تعليقكم على هذا؟ سؤال من مسلم حائر؟ A لا تقل: حائر، لا يوجد حيرة، وإن كانت الظلمات تحير! إن فلسطين بلد احتلوه وأخذوه بالقوة، وإنني أحياناً والله أضحك عندما أسمع في الأخبار الاعتراض على ضم القدس إلى إسرائيل، وأنا لا أفهم ما معنى هذا الشيء. نحن لو أخذنا شيئاً بالقوة هل سوف يعترض علينا أحد ويقول: لماذا تضمونها؟ إذاً لماذا قاتلنا؟ ولماذا جاهدنا؟ نحن لا نريد أن نرجع إلى شعار الزعماء الذين باعوا الأرض، ويقولون: ما يؤخذ بالقوة فلن يسترد إلا بالقوة، لكن الكلمة هي كلمة حق، وإن قالها الخونة، فعلاً ما أخذ بالقوة فلن يرجع إلا بالقوة، وإذا هجم عليك عدوك وأخذ منك أي شيء فلا تقل: كيف تعتبرها من أملاكك؟! وهل يعتبرها من أملاكك أنت؟! سبحان الله! هذا هو الشيء البديهي والطبيعي.

هجرة اليهود

هجرة اليهود Q يقول الأخ: نحن نعرف أن اليهود في الاتحاد السوفيتي (6. 000. 000) ستة ملايين، وأن الآن الهجرة مستمرة إلى تل أبيب وأكثرهم علماء؟ A طبعاً علماء ومهندسون وأطباء، حتى العجائز فهن عجائز من نوع آخر، فها هي جولدا مائير تلك العجوز الروسية كيف فتكت بزعماء الثوريين العسكريين، كلهم قاومتهم هذه العجوز.

حلم إسرائيل في السيطرة من النيل إلى الفرات

حلم إسرائيل في السيطرة من النيل إلى الفرات Q هل ستحقق الصهيونية حلم إسرائيل الكبرى الموجود عندهم في التوراة من النيل إلى الفرات؟ A بهذه المناسبة أقول: إن المشكلة الآن ليست مشكلة أرض، وهذه قضية مهمة جداً، شعار إسرائيل من الفرات إلى النيل الآن لم يعد له معنى بالمعنى الحرفي، فهي لا تريد أرضاً تحكمها، بل هي الآن مستعدة أن تتنازل حتى عن أجزاء من الضفة الغربية، فالقضية ليست قضية أرض، لأنه كما أشرنا في ظل الاتصالات العالمية القوية والتشابك الإعلامي الدولي، القضية ليست قضية أرض، بل القضية قضية من يملك المال والإعلام والتأثير. إسرائيل تملك القنبلة الذرية والأقمار الصناعية، وهي تنازلت لـ مصر عن القناة وما حولها مقابل أن تدخل مصر معها ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، فطوت مصر كلها تحت لوائها مقابل هذه الرقعة البسيطة من الأرض، فليست الأرض مشكلة عندها، فهي مستعدة لو اطمأنت أن تترك حتى الضفة الغربية، وتعمل فيها دويلة فلسطينية علمانية مقابل أن تسيطر على المنطقة ثقافياً وتجارياً واجتماعياً بكل أشكال التأثير، والآن العالم كله لا يفكر في مسألة الأرض بقدر ما يفكر في مسألة القوة والانتشار والنفوذ، فهذا هو الذي تسعى إليه إسرائيل وسيتحقق بالهجرة الروسية وبغيرها. فهي ضربت تونس والمفاعل في بغداد، وهددت بضرب المفاعل النووي في باكستان، ماذا تريد أكبر من هذا؟ مهما صغرت أرضها فإنها تضرب في أي مكان على مسافة (5000) ميل شرقاً أو غرباً، ولا يهمها الأرض بل يكفيها ذلك، والقضية الآن أن العالم كله يفكر كيف يسيطر إعلامياً وثقافياً واقتصادياً.

توجيه الصحوة

توجيه الصحوة Q يقول الأخ: نجد أن هناك صحوة إسلامية، فما هو العمل لتوجيه هذه الصحوة؟ A أهم شيء هو العلم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانتهاج منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والتعاون الواعي بالواقع ودراسته دراسة عقلية دون العواطف، انهزمت الشيوعية، وأمريكا سوف تنهار، وليس على الله بعزيز أن تنهار في (24) ساعة، لكننا نخادع أنفسنا عندما نقول: إن أمريكا سوف تنهار بالإيدز أو بالجريمة، نعم هي عوامل مدمرة، لكن فيها من عوامل البقاء ما يجعل حربنا معها حرباً ضروساً. فلا نخادع أنفسنا بل ندرس الواقع دراسة عقلية بعيدة عن العواطف.

أثر الوحدة اليمنية على جنوب اليمن

أثر الوحدة اليمنية على جنوب اليمن Q ما هو أثر الوحدة اليمنية على الشيوعية في جنوب اليمن؟ A هذه الوحدة لعبة من لعب الشيوعية، فـ الشيوعية مدت يدها للوحدة مع أوروبا الغربية، فكيف نستغرب أن أذناب الماركسيين في أي مكان يمدون أيديهم للوحدة مع أي دولة، فهذه لعبة ماركسية شيوعية يريدون بها بالذات في العالم الإسلامي القضاء على التوجهات الإسلامية التي بدأت تثمر في كل مكان. واليمن وهو ذخر وكنز للإسلام -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما جاء في الحديث، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله أوحى إلي أن أستقبل الشام وأستدبر اليمن} وقال: {قد جعلت لك ما أمامك غنيمة وما وراءك ذخراً} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فالغنيمة هي بلاد الشام، بلاد المعارك، وستظل المعارك فيها مع الروم، والمنطقة التي تمد الإسلام بالرجال وبالعلم -إن شاء الله- هي هذه المنطقة وهي اليمن عموماً، ولا نعني بذلك اليمن السياسي بل اليمن الجغرافي، فالكثافة السكانية فيها موجودة، والفطرة أيضاً موجودة، فأكبر تجمع بشري في جزيرة العرب هو في هذه المنطقة، فهي -بإذن الله- كما أمدت المسلمين في الحروب مع الفرس والروم سوف تمدهم -أيضاً- في أي وقت، وقد انتشرت فيها الدعوة الإسلامية السُنية، لكن لأن ميزته أنه شعب قبلي أصيل انتشرت فيه بشكل أكثر -والحمد لله- ومن هنا يأتي الماركسيون وأذنابهم ليقضوا على هذه العودة، وعلى هذا التوجه، والله من ورائهم محيط، ونسأل الله أن ينصر إخواننا المسلمين هناك وفي كل مكان.

الحداثة وتفجير اللغة

الحداثة وتفجير اللغة Q أخ يسأل عن تفجير اللغة الذي يدور في النوادي الأدبية؟ A هذه الأسماء أسماء براقة لتفجير الإسلام والقيم والمعايير الثابتة، واللغة هي وعاء الرسالة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] ونحن لا نعرف القرآن والسنة إلا باللغة، والقرآن ما هو إلا كلام رب العالمين، والسنة ما هي إلا كلام رسول رب العالمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فجروا اللغة تفجر كل شيء، ولم يعد لنا شيء، لكنهم عرفوا كيف يحتالون علينا، لما سموها حداثة تنكر لهم الناس بعد أن عرفوا خطر الحداثة فبدءوا يغيرون العناوين، فقالوا: تجديد وتفجير وتجريد وتطوير أي اسم، وكلما فقهنا اسماً غيروه، واللعبة على ما هي عليه، والاسم فقط يتغير.

هجرة المسلمين إلى فلسطين

هجرة المسلمين إلى فلسطين Q يقول الأخ: ماذا فعلنا نحن المسلمين ضد الهجرة اليهودية، ولماذا لا يكون لنا نحن المسلمين هجرة إلى فلسطين، وإلى متى ونحن صامتون، أم نحن نقول كلاماً؟ A كيف نهاجر إلى فلسطين؟! ومن الذي سيعطينا جوازات للسفر؟! لكن نقول: نحن يجب أن نهاجر إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن المشكلة أننا حاربنا الله، وأننا قطعنا العلاقة والصلة معه، فقطع الله عنا حبل نصره، وأوكلنا إلى هؤلاء المجرمين، فلنهاجر إلى الله كما قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] ولو فررنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهاجرنا إليه، وهجرنا معاصيه، وكل دواعي الشر والفساد والشهوات، وتجردنا له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لحقق الله لنا كل خير. وبهذه المناسبة بعض الصحف مثل جريدة المحرر ذكرت نكتة عدة مرات، تقول: العرب عندهم هجرة، لكنها ليست كالتي إلى إسرائيل، فإسرائيل تهاجر إليها العقول والطاقات من الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، والمسلمون تهاجر إليهم البوذيات والنصرانيات، أي الخادمات والطباخات والمربيات والماشطات إلى آخره، وفي بعض الإحصائيات وقد لا تصدقون -أظن ذلك في عام (1403هـ) إن لم تخني الذاكرة- كان عدد الخادمات اللاتي استقدمنَ للمملكة (300. 000) خادمة، معنى ذلك أنهم الآن يقاربون الـ (1. 000. 000) وفي بعض البيوت فيها خمس أو ست، هذه خادمة، والأخرى خياطة، وتلك طباخة إلى آخره، فماذا سيربون؟!

الجهاد المنظم في فلسطين

الجهاد المنظم في فلسطين Q ألا يوجد أمل لجهاد منظم كالجهاد الأفغاني لاسترداد القدس الإسلامية من اليهود؟ A يجب أن نعلم أن كل شيء يسبقه خطوات، أي أن الجهاد المنظم قبله أشياء، ومع ذلك فإن الجهاد المنظم موجود الآن في فلسطين، فالموجود في فلسطين الآن نوعان من الجهاد: الجهاد الذي يستخدم الرصاص والمقاومة، وقد تفجر أول ما تفجر في غزة، بل من الجامعة الإسلامية ومن دعاة على منهج السنة، أو من المنتمين إلى جماعة الجهاد في مصر، والمقصود أن أول ما تفجر هناك، وهذا هو القائم هناك. والنوع الآخر: هو جهاد الحجارة وهو الأكثر وجوداً في الضفة الغربية، وهم الذين لا يستخدمون الرصاص، وإنما يستخدمون الحجارة فقط. فهذا وهذا كلٌ له دوره، فنحن نقول: الجهاد موجود، من يمده؟ ومن يساعده؟ هذه مشكلة مليار مسلم! وما استطعنا أن نوجد قناة لإيصال المال، ونحن مطمئنون إلى إخواننا المجاهدين هناك، وأنا سألت: كيف نوصل لهم؟ بعض الناس أحرجونا يقول: عندي (1000) أو (2000) ريال على قدر الحال، فقلت: اسأل، فسألت فقالوا: إن دخل شيء أو وصل شيء فإنه يحول عن طريق أمريكا أو دول أوروبية، ألف مليون لا يوجد عندنا وسيلة لنعطيهم شيئاً، وكل يوم عندهم إضرابات واضطرابات وتدمير، من أين يأتيهم المال؟ ومن أين يأكلون؟ ومن أين يشربون؟ فضلاً عن أن نقول: من أين يجاهدون؟ فهم تفتك بهم الأمراض، فمن يعالجهم؟ والله المستعان، فقبل هذه الخطوة نحتاج إلى خطوات.

الإعلام الإسلامي

الإعلام الإسلامي Q ما هو دور الإعلام الإسلامي تجاه هذا الغزو السوفيتي اليهودي؟ A أقول: أين الإعلام الإسلامي؟ ثم بعد ذلك نقول: ما دورهم؟

عداوة منظمة الذكرى لليهود الروس

عداوة منظمة الذكرى لليهود الروس Q لماذا تعادي منظمة الذكرى اليهود الروس، هل هو من أجل السيطرة على الحكم، أم أنه حرب بين يهود ونصارى؟ A الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر أنهم مختلفون، والخلاف بين اليهود والنصارى قديم، وما جمعهم علينا إلا فرقتنا نحن وتفرقنا وذلنا، والعداوة قائمة بينهم فإن هؤلاء القوميين الروس لما فتح لهم المجال قليلاً بـ الديمقراطية يريدون إعادة بلدهم، وأخذتهم الغيرة على أمتهم وعلى بلادهم أن يسيطر عليها اليهود الذين أكثرهم من أوروبا، بينما الروس كثير منهم وكثير من متكلميهم من الجزء الأسيوي، أي: من الاتحاد السوفيتي -كما يسمى- فلا غرابة أن تكون هناك دعوة كما في أمريكا، فإن فيها يهوداً يعدون بالملايين يمكن (3. 000. 000) تقريباً، يقفون ضد الأكثرية اليهودية الموالية لإسرائيل، لكن ليس هناك من يستثمر هذا الخلاف أصلاً، ولهذا هم متفقون علينا مهما اختلفوا، لأنه ليس هناك من يستثمر هذا الخلاف.

مذهب المجاهدين في روسيا

مذهب المجاهدين في روسيا Q يقول الأخ: قرأت في بعض المجلات أن المسلمين الثوار في الاتحاد السوفيتي من الشيعة، هل هذا صحيح؟ A في بعض المناطق يوجد شيعة، وذلك في المناطق القريبة من إيران كـ أذربيجان، وإن كانت في الأصل سنة، فـ أذربيجان فتحت في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، ولكن في أيام الصفويين -الحكومة الشيعية التي كانت في إيران - أبيدوا إبادة تامة تقريباً، وأصبحت منطقة شيعية أو شبه شيعية، أما تركستان والمناطق الإسلامية الكبرى فكلهم -والحمد لله- من السنة.

اللجوء إلى المنظمات الدولية

اللجوء إلى المنظمات الدولية Q الأخ ينتقد لماذا الأمة الإسلامية يركضون وراء الشرق والغرب، ويذهبون إلى الأمم المتحدة من أجل السلام؟ A هذا جزء من واقعنا الذي نسأل الله أن يغيره إلى خير منه، وإذا أوجدنا الأسرة المسلمة فهي النواة للمجتمع المسلم ثم للدولة المسلمة -بإذن الله- أما إذا فتحنا سيل الشهوات والشبهات، وظللنا نتلهف ونتحسر، والشباب يغرق في هذه الرذائل، ووسائل الإعلام تدفعه إليها، والإباحية الإعلامية تدفعه إليها، فلن نتقدم خطوة واحدة، ففي الحقيقة أن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة.

سياسة الوفاق الدولي

سياسة الوفاق الدولي Q بعض الزعماء العرب حذروا من سياسة الوفاق؟ A نعم! لمعرفتهم بخطرها، ولكن لعل هذا من حسنات هذا التغيير على ما فيه من مساوئ. فالوضع الدولي يقتضي تغيير بعض الواجهات في العالم الإسلامي، ولا أتوقع أن التغيير يكون إلى الأفضل، لكن مما ذاقت الأمة الإسلامية من بعض المجرمين الذين تسلطوا عليها بباطنيتهم وشيوعيتهم وإلحادهم أكثر من عشرين سنة، لعل في الخلاص منهم فرجاً -إن شاء الله- ولعله يكون قريباً، ولعل ذهابهم فرصة ألا تجتمع الأمة بعد ذلك على ضلالة -بإذن الله- بل سيكون فيها من يدعو إلى الخير ومن ينصره الله، ويكون فيها من سيتلاءم مع الوضع الجديد الذي يريده الوفاق الدولي. لكن فيما يبدو لي -والعلم عند الله- أن الوفاق الدولي غير راضٍ على بقاء هذه الأوضاع كما هي، ولا سيما بعض القيادات التي استهلكت واستنفدت كل الشعارات، وكان المؤمل أن تتراجع هي كما تراجعت أوروبا الشرقية، ولكنهم لا يريدون أن يتراجعوا عن شيء، بل ما يزالون يسكرون أحلام الناس بالإنجازات الثورية الضخمة الهائلة، وهي إنجازات معروفة للجميع لا تخفى على أحد! هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل أعمالنا جميعاً خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفعنا جميعاً بما نسمع ونقول. وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين.

مقومات المجتمع المسلم

مقومات المجتمع المسلم المجتمع المسلم له مقومات يقوم عليها لأداء رسالته، وهذه المقومات قد بينها الشيخ في هذه المادة، فذكر من هذه المقومات التوحيد وما يتضمنه من التحاكم إلى شرع الله مستدلاً بالكتاب والسنة، ثم ذكر المقوم الثاني وهو اتباع السنة وترك البدعة، وبين أن الإسلام حث على اتباع السنة وترك البدعة، مدعماً ذلك بذكر ما ألحقه الله بأهل البدع من العقوبة، ثم ذكر المقوم الثالث وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين أنه من خصائص هذه الأمة موضحاً أهميته ومكانته في الدين، وما هو الواجب نحو هذه الشعيرة، وأما المقوم الرابع فهو العدل، الذي تجسد في معاملة المسلمين، وذكر كيف كانت معاملتهم فيما بينهم ولمن كان تحت أيديهم من غيرهم إبّان قوة دولة الإسلام، ثم ذكر المقوم الخامس وهو حسن الخلق بين المسلمين، وضرب بعض الأمثلة التي تبين أثر وأبعاد حسن الخلق في المجتمع المسلم.

المقوم الأول: تقديم أمر الله

المقوم الأول: تقديم أمر الله الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:- رأى بعض الإخوة الكرام -أثابهم الله- أن نحدثهم عن موضوع مهم وعظيم، وهو مقومات المجتمع المسلم، وليس بإمكاننا أن نحيط بهذه القضية ولا بهذا العنوان من جميع جوانبه، ولكن نظراً لما تعيشه هذه الأمة اليوم من فقدانٍ لمقومات اجتماعها وذهابٍ لشخصيتها وذاتيتها التي تميزها بين الأمم، فنحن في حاجة بلا ريب إلى أن نعرف مقومات مجتمعنا -ولو على سبيل الإجمال- التي يفترق بها عن غيره من مجتمعات الكفر والضلالة، فإن الدنيا اليوم قد تقاربت، تقارب الزمان والمكان، نتيجة وسائل الإعلام ووسائل الاتصال والنقل، حتى أصبحت -كما يسمونها- قرية إعلامية، فأصبحت الأمة الإسلامية أحوج من ذي قبل إلى معرفة مقومات اجتماعها، مع ما اعتراها من ضعفٍ وتراخٍ وتحللٍ وافتراقٍ وغير ذلك؛ من دواعي ضرورة معرفة مقومات هذا المجتمع المؤمن الذي ميزنا الله -تبارك وتعالى- وشرفنا به. إن مقومات المجتمع المسلم هي القضية الأولى التي لا يمكن أن نتجاوزها في الحديث أبداً. إننا عندما نتحدث عن المقومات، فإننا نتحدث عن أول الواجبات، وعن أول ما فرض الله -تبارك وتعالى-، مما جاءت به رسل الله الكرام، وإن مما يجب علينا أن نصرف همنا في الدعوة إليه هو توحيد الله وحده لا شريك له، فهذه أعظم ميزة وأعظم مقوم، وأول منازل الطريق التي لا يجوز ولا ينبغي بحالٍ من الأحوال أن نتجاوزها أبداً. إن الإسلام إنما أُخِذَ من الاستسلام لله تبارك وتعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك، وأهله، وهذه دعوة الله تبارك وتعالى بعث بها أنبياءه جميعاً، فما من نبي بعثه الله تبارك وتعالى إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23] كما قص الله -تبارك وتعالى- علينا من كلام أنبيائه فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2]، وغير ذلك من الآيات، وكذلك لما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسوله معاذ بن جبل الصحابي الجليل والداعية العظيم إلى اليمن قال له: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} وفي رواية: {إلى عبادة الله} وفي رواية {إلى توحيد الله} وكلها روايات صحيحة تدل على أن المعنى واحد كما سمعنا في الآيات. إن أساس القضايا وأولها جميعاً هو الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، أي: إلى توحيد الله، وأن لا يعبد إلا الله -تبارك وتعالى- والتي عليها جاهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليها أُسِسَ هذا البيت الذي شرفت به هذه المدينة، بل شرفت به الدنيا كلها، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] فالأساس هو ترك الشرك، والبراءة منه ومن أهله. وهذه البلدة الطاهرة -والحمد لله- قامت على ذلك وستظل كذلك بإذن الله، فلقد انتشر نور الإيمان والتوحيد حتى عم ما شاء الله تبارك وتعالى أن يعم مما زوى الله تبارك وتعالى من الأرض لنبيه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأراه كيف سيبلغ ملك أمته، وأين تبلغ دعوته، كما بشَّر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا الدين هو التوحيد.

التحاكم إلى شرع الله

التحاكم إلى شرع الله إن هذا المقوم هو جزء من التوحيد، وهو مقوم مهم من مقومات المجتمع المسلم الذي يحفظ له انتماءه وتحقيقه لإسلامه وانتسابه إليه، ألا وهو التحاكم إلى شرع الله تعالى، وإن من أعجب العجب أن المسلمين في العصور المتأخرة يدّعون الإسلام اسماً، ولكنهم أتوا بعقائد ونحل ومبادئ وضعية سواءً أكانت شرقية أم غربية، ثم جعلوا هذه العقائد هي التي يستمدون منها المناهج والقيم والمعايير في الاقتصاد والسياسة والإعلام وسائر جوانب الحياة، وحصروا دين الله والعبادة والتوحيد، وضيقوا عليها في شعائر معينة، فتوهم العامة أن في إمكان الإنسان أن يكون موحداً أو عابداً؛ ومع ذلك يعتقد بعض هذه العقائد، كأن يكون اشتراكياً أو ديمقراطياً أو بعثياً أو ما أشبه ذلك من الضلالات والكفريات، عياذاً بالله تبارك وتعالى. إن التحاكم إلى ما أنزل الله، ونبذ كل شرعةٍ تخالف شريعة الله، هو جزءٌ من توحيد الله -تبارك وتعالى- ومن عبادته وحده، ففي سورة الأنعام ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه القضايا وفَّصل فيها، فجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اتخاذ الولي والحَكَم من دونه، كل ذلك لا يجوز ولا يليق، وإنما الولي والرب والإله والحَكَم هو الله وحده لا شريك له، فقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وفي الآية الأخرى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي الثالثة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن من أهم مقومات المجتمع المسلم وتحقيقه لتوحيد الله أن يكون الحكم لله تبارك وتعالى بالرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

عدم تقديم أمر بين شرع الله ورسوله

عدم تقديم أمر بين شرع الله ورسوله إن ذلك يشمل أيضاً ترك التعصب المذموم المقيت لآراء الرجال، والتأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع سنته، وألا يقدم بين يدي الله ورسوله كلام أحدٍ كائناً من كان، وإن كان صحابياً جليلاً أو إماماً متبوعاً أو عالماً مجتهداً، فالتقديم والاعتماد والاستدلال إنما يكون أولاً من كلام الله ثم كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ما وافقهما، وإذا كانت المسألة موضع اجتهاد وتنازع فقد أُمِرْنَا أن نرد النزاع إلى الله وإلى الرسول فيما وقع فيه التنازع، ثم يجتهد كلٌ منا في تحقيق ما أمر الله، وما حكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك لا مانع من أن تختلف الاجتهادات. إذا اتفقنا على منهج الاستدلال، ومنهج الاستمداد والتلقي من الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم نقدم عليه قول أحد كائناً من كان، لا شيخ طريقة كما يفعل الضلال من الصوفية وأمثالهم، ولا رأي متكلم كما يفعل أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية وأشباههم، ولا كلام الأئمة المزعومون أنهم معصومون -كما يفعل الروافض والباطنية وأشباههم-، ولا المذاهب الوضعية الباطلة التي انتسب إليها كثير من المسلمين في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إن المجتمع المسلم هو المجتمع الذي يحكمه شرع الله، ودين الله، وتقام فيه حدود الله، كما شرع الله، ولن يقوم هذا المجتمع أبداً إذا لم تقم فيه حدود الله -كما شرع الله- على الشريف والضعيف وعلى الرفيع والوضيع، وأن تقام لوجه الله تبارك وتعالى لا من أجل رياءٍ ولا سمعة، ولا لمجرد الحفاظ على الأمن والحياة -وإن كانت مطلوبة- ولكن الأساس من ذلك هو عبادة الله تبارك وتعالى ولا يصح إيمان المجتمع إلا بتحقيق هذه العبادة، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. ولو نظرنا إلى مجتمعاتنا التي انحرفت عن شرع الله وأتت بالقوانين الوضعية، كيف حالها؟ وكيف مآلها من التفسخ والتفكك؟! حتى أصبحت كلمة الإسلام إذا أطلقت غريبة عندهم، ومن يدعو إلى الإسلام أصبح غريباً في بعض المجتمعات التي تدَّعي أنها إسلامية والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فالواجب على جميع المسلمين أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله -تبارك وتعالى- وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ترك التحاكم إلى الشرع من أسباب هلاك الأمم فقال: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق - وهذا ينطبق على غير السرقة - فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد} فإذا كانت إقامة الحدود على بعض الناس دون بعض، والمحاباة فيها والمجاملة فيها سبباً للهلاك، فما بالكم إذا نُحيِّ شرع الله تبارك وتعالى بالكلية، واحتكم إلى الدساتير الوضعية التي يضعها البشر، كما عبَّر عنها سماحة الإمام الشيخ الداعية محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى عليه المتوفى عام (1389م) -مفتي هذه الديار قبل سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله والذي سمى هذه القوانين: 'زبالة الأذهان، وحثالة الأفكار' فهم يضعون ويغيرون ويبدلون كما يشاءون، ويأمرون الناس أن يحتكموا إليها، ويطلبون منهم ذلك، ويلزمونهم بها إلزاماً، ولذلك فإنه -رحمه الله- جعل فتح المحاكم الوضعية وتهيئتها للناس، وأن يكون لها سجلات ومراجع ومستمدات كما للمحاكم الشرعية، نوعاً من أنواع الكفر الأكبر، ذكر ذلك في رسالته القيمة على صغر حجمها رسالة تحكيم القوانين.

المقوم الثاني: اتباع السنة وترك البدعة

المقوم الثاني: اتباع السنة وترك البدعة إن أعظم وصية أوصى الله -تبارك وتعالى- بها، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد توحيد الله، هو اتباع السنة وترك البدعة.

الحث على اتباع السنة وترك البدعة

الحث على اتباع السنة وترك البدعة وتأتي البدعة البدعة في المرتبة الثانية بالنسبة إلى أعظم المحرمات، فاتباع البدع هو في الدرجة الثانية بعد الكفر وقبل الكبائر العملية، والكبائر الاعتقادية العلمية هي أشد وأعظم جرماً من الكبائر العملية، كالزنى أو السرقة أو شرب الخمر، ولهذا نهانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن اتباع الهوى، وأمرنا كما قال تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. والعبد المؤمن يقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فبعد أن وحدنا الله -تبارك وتعالى- وأفردناه بالربوبية والألوهية وآمنا به وحده {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] نطلبه وندعوه أن يثبتنا على الصراط المستقيم، وهو السنة، وما ورد فيه من أقوالٍ أخرى فهي لا تخرج عن ذلك، فالقرآن، أو السنة، أو طريق الشيخين، أو طريق الصحابة؛ المقصود بها كلها كلمة السنة بمعناها العام، التي تعني هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل شأن وفي كل أمر ابتداءً من التوحيد، وانتهاءً بأقل درجات المندوبات بل المباحات. فالاتباع يكون لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة} ولهذا أوصى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بها، وأوصى بها رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. وهذه وإن كانت تشمل كل أنواع التفرق، إلا أن أعظم وأشد أنواع التفرق جرماً هو التفرق في الدين، وهذا ما حذَّرنا الله -تبارك وتعالى- منه حتى لا نشابه المشركين الذين قال عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} [الأنعام:159] فالأمم قبلنا جميعاً، من اليهود والنصارى وغيرهم قد وقعوا في الشرك جميعاً، وفرقوا دينهم، وكانوا شيعاً، أما نحن فأمرنا باتباع سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي أوصى ووعظ بها صلوات الله وسلامه عليه، ونهى عن البدع والمحدثات، وقال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار}.

عقوبة أهل البدع

عقوبة أهل البدع كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ينكرون أشد الإنكار على ما ظهر من بدع في أيامهم كما أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه على بدعٍ في التسبيح فعلها بعض القراء، ثم لما ظهرت الفرق المبتدعة وتميز أهل السنة، رأينا كيف كانت عقوبتها، فإن علياً رضي الله تعالى عنه -وهو إمام زمانه وخليفة عصره- لما خرجت الرافضة -التي تنتسب إليه إلى اليوم- لم تكن عقوبتهم عنده إلا الحرق، وهذا ما أنكره عليه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، ولكن المقصود أنهم اتفقوا على القتل وإن اختلفوا في كيفيته، ولهذا قال: لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا وقال شاعرهم: لترميني بنا المصائب حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين وهي الحفر التي أوقدها من النار لما قالوا: أنت هو! قال: ومن هو؟ قالوا: الله، تعالى الله عما يشركون. والطائفة الأخرى التي خرجت في زمن الخلفاء الراشدين هي: الخوارج، وهؤلاء أيضاً قاتلهم علي ٌ رضي الله تعالى عنه، وفرح وسر هو والصحابة الكرام بقتالهم، وابتهجوا بذلك، وجعلوا ذلك من آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدالة على صدق رسالة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في حديث ذي الثدية، وجعلوه دليلاً على صحة إمامة علي رضي الله تعالى عنه وأن ذلك من كراماته؛ لأنه وُفقَ إلى قتل هؤلاء الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد} فكانت معركة النهروان وغيرها ممن قتل فيها هؤلاء. فعقوبة أهل البدع -وإن لم يدعوا إلى الشرك الصريح- كعقوبة الخوارج، أما إذا دعو إلى الشرك كما دعا إليه الروافض الأولون والمتأخرون، وكما يدعوا إليه المتصوفون في هذا الزمان، وفي كل الأزمان، الذين اتبعوا الطرق والسبل التي نهى الله -تبارك وتعالى- عن اتباعها وأصبحوا ينعقون بالشرك الأكبر، ويزعمون أن مع الله إلهاً آخر، فهؤلاء خرجوا عن حد الابتداع ودخلوا في حد الشرك، حيث يقولون: إن هناك من يعلم الغيب غير الله، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأول والآخر والظاهر والباطن، تعالى الله عما يشركون، فأعطوه خصائص الألوهية، وأسماء الله تعالى وصفاته وغير ذلك. فلو كان المُشرَك به مع الله -تبارك وتعالى- أفضل خلقه وأحبهم إليه وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أفضل الملائكة وهو جبريل عليه السلام، فإن الله تبارك وتعالى لا يرضى ذلك أبداً، فكيف بعبادة من دونهم من الأولياء أو الصالحين، فكيف بضلالات وبدع وشركيات وخرافات عند من ليس لهم حظٌ من الولاية، وإنما هم مفترون، وإن كثيراً من الأضرحة التي تزار وتعبد في أنحاء العالم الإسلامي اليوم ليس فيها أحد أصلاً، بل ربما يوجد فيها من ليس له في الإسلام حظ من الولاية، فإذا كنا ننكر على من يأتِ بالشرك عند قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قبر أحد من الصحابة، أو أي أحد من الأنبياء، فكيف بمن يفعله عند من لا حظ له من الولاية أصلاً، فكله شركٌ وباطل نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحمي هذه الأمة منه إنه سميع مجيب.

المقوم الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المقوم الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن من مقومات المجتمع المسلم والأمة المسلمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذه الأمة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذه الأمة ولا شيء يتقدم على الإيمان بالله أبداً، لكن هذه الآية تتحدث عن خصائص هذه الأمة التي تفرقها عن غيرها، فقدم ما يخصها عما تشترك فيه مع غيرها، ولقد وجد في الأمم قبلنا من يؤمن بالله، لكن خاصية هذه الأمة أنها أُخرجت للناس، وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولذلك هذا المقام في الدنيا يحق لها به المقام الآخر في اليوم الآخر، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فهذا مقوم عظيم من مقومات المجتمع، ومقومات الأمة والدولة، كما ذكر الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] فلا تصلح حياة الأمة الإسلامية ولا تقوم أبداً إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن هذه الشعيرة العظمى يراد طمسها، وإذا طمست فلن يبق بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات الكافرة أي فرق؛ بل تنتشر الضلالات والبدع والشركيات ويتحول المجتمع المسلم إلى مجتمعٍ مشرك، أو متسم باسم الإسلام ظاهراً فقط، ولا فرق بينه وبين غيره، يعلن صاحب الإلحاد بإلحاده، وصاحب البدعة ببدعته، ويتنصر من تنصر، ويتهود من تهود، ويعبد الأصنام من يعبدها، فلا أحد ينكر على أحد، فلو تركت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان هذا هو المآل في النهاية عياذاً بالله. وانظروا إلى حال المجتمعات المسلمة التي تركت هذه الشعيرة، ألم يصل بهم الأمر إلى هذه الحالة، لقد أصبح الرجل يدَّعي أي مذهب، وينتحل ما شاء من النحل، وجاهر اليهود والنصارى بمذاهبهم، وأصبحت لهم المناصب الكبيرة في الدولة، وجاهر أهل البدع ببدعهم، وكل من لديه نحلة ضالة أعلن بها وجاهر لفقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولهذا يسعى أعداء الله والمجرمون إلى أن يطمسوه بالكلية، وخاصةً في هذه البلاد، ولكنها والحمد لله لم تترك ذلك أبداً. إن الناس -والحمد لله- لا يمكن أن يتخلوا عن دينهم في هذه البلاد خاصة ً، بل والحمد لله قد عادت الصحوة وعمت كل مكان، فلا يمكن للمسلمين أن يتخلوا عن دينهم، ويتخلوا عن هذه الشعيرة العظيمة.

الواجب تجاه هذه الشعيرة

الواجب تجاه هذه الشعيرة إن من أوجب ما يجب على طلاب العلم إحياء هذه الشعيرة، بأن تحيا في البيت والشارع، والمدرسة، وفي كل مكان، بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى أينما كنا، لا ينبغي أن نتحرج أن نقول لمن في بيتنا، أو لقريبنا، أو لجارنا، أو لمن في الشارع، أو الدكان؛ بالأسلوب الحكيم الحسن: صلِّ، أو اتق الله، أو هذا حرام، أو هذا منكر، أو خذ هذا الكتاب، أو هذا الشريط النافع، أو هذا إعلان لمحاضرة، أو أي عمل من أعمال الخير؛ بل يجب أن تحيا النصيحة في المجتمع، وفي الإدارات الحكومية، وفي كل مكان، بحيث يشعر أصحاب المنكر بأنهم يرتكبون المنكر، وأن الأمة تحتقرهم، وأن الأمة ترذلهم لا لكبرٍ عنهم؛ أو لأنهم أصحاب مالٍ أو ثراءٍ أو منصب؛ ولكن لأنهم يعصون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فإذا تركوا المنكر فهم إخوة وأحبة لنا، إذا رأى الناس ذلك عظموا أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وأحبوا الله -عز وجل- وتمسكوا بدينه. وتجد بعض الناس يرتكب المنكر وهو لا يزال في بدايته في أول الطريق، ولو وجد من يقول له: لِمَ تفعل كذا؟ لرجع، وبعضهم قد بدأ قليلاً، ولو وجد من قال: لِمَ، وزاد عليها: كيف تفعل كذا وكذا لرجع، وبعضهم أيضاً لو وجد كتاباً أو شريطاً أو حديثاً حسناً لرجع، وبعضهم قد غاص في البدع والضلالات أو في المنكر والفسق فهذا أمرٌ آخر، لكن كثيراً من الناس قريبون من الخير أو هم على حافة الخير، فإذا حركتهم ولو قليلاً يبتعدون عن الشر بإذن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فهذه من أعظم مقومات المجتمع المسلم التي يحفظه الله تبارك وتعالى بها.

المقوم الرابع: العدل

المقوم الرابع: العدل ومن أعظم وأهم مقومات المجتمع المسلم العدل؛ لأن السماوات والأرض إنما قامت بالعدل، وأمر الله تعالى به في القول، وأمر به في العمل، وأمر به في كل شيء، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وقال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9]، وغير ذلك كثير، فهذه الأمة أمة العدل. ولذلك كان من سنة الخلفاء الراشدين ما أمر به عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه حين جعل مكان بعض العبارات التي لا تليق في خطب الجمعة هذه الآية الكريمة العظيمة الجامعة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]. فالعدل مطلوب من هذه الأمة بالذات، بل من كل أحد، وهو محببٌ إلى النفوس جميعاً، وتطلبه كل الفطر والعقول في المجتمعات كافة، الكافر منها والمؤمن، فكلها تريد العدل، وكلها تدَّعيه، وتحبه وتنشده، ولكن الأمة التي تعرف الحق وهديت إلى الحق وبه يعدلون هي هذه الأمة والحمد لله، التي أعطاها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العدل لا مبادئ عامة -كما يزعمون- ولكن حقائق وأحكاماً تفصيلية، مفصل لك كيف تعدل في بيتك وكيف تعدل في عملك وكيف تعدل في ولايتك إذا كنت قاضياً أو أميراً؟ فالحكم واضح أمامك. كل الأحكام فصَّلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تفصيلاً في كتابه أو في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، فهي الأمة التي تستطيع وحدها أن تقوم بالعدل في هذا العالم الظالم المظلم الذي أحدقت به الظلمات والمظالم من كل مكان. وأي أمة في الدنيا الآن تملك العدل أو تستطيع أن تعدل بين أفرادها فضلاً عن العدل بين الناس؟! إن أفضل ما لدى الغرب: هو ما يزعمونه من الديمقراطيات، وأي عدلٍ في الديمقراطيات؟! إننا نأسف أسفاً شديداً أن تصبح هذه الديمقراطيات هي الهدف الذي يتطلع إليه بعض المسلمين! الذين أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل هذا العلم والحقائق، وأنزل إليهم الكتاب مفصلاً، فكيف تطلبونها؟! إن الرجل الذي لا يملك المال، لا يملك النفقة الانتخابية، وبالتالي لا يمكن أن يرشح، وبالتالي لن يصل إلى شيء في هذا العالم، فبقدر رأس مال الإنسان في الدول الديمقراطية الغربية، تكون مكانته وقيمته، فأين العدل إذاً؟ إن الضعفاء من العمال ومن طبقة صغار الموظفين مسحوقون مظلومون لا يؤبه لهم بشيء، نعم هناك مبادئ وضعوها وأجمعوا عليها ويحاولون أن يصلوا إلى شيء من العدل وأنَّى لهم ذلك. إن هذا العدل يجب أن نحييه في هذه الأمة في بيوتنا لنكون من المقسطين كما قال صلى الله عليه وسلم: {إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين وهم الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا} هكذا يجب أن نكون، وهذا عدلٌُ تغنَّى به الناس قديماً وحديثاً. إن ما يعيشه العالم اليوم فهو جاهلية، وإن شئت فقل هذه مثل تلك سواء، من لم يعرف الله أو من جهل الله -عز وجل- فهو في جاهلية في أي عصرٍ كان وفي أي مصرٍ عاش. كان العرب في الجاهلية يتغنون في أشعارهم بعدل كسرى الذي لم يشملهم يوماً واحداً من حياتهم بعدله، مثلما نجد اليوم العالم الإسلامي والدول العربية تتغنى بعدل الديمقراطية وتفرح بها مع أنه لم يشملها شيء من خيرها إن كان فيها خير، ويقولون لما قتل: همُ قتلوه كي يكونوا مكانه كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه إلى آخر ما تغنوا به، حتى جاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهذا الدين، فعرف الناس حقيقة العدل، ورحم الله من قال: أتى عمر فأنسى عدل كسرى كذلك كان عهد الراشدين نسي الناس عدل كسرى، فما هو عدله بالنسبة إلى عدل عمر رضي الله تعالى عنه وإلى عدل من بعده؟ والقضية ليست قضية عمر، إنها قضية الدين والإسلام الذي حول أولئك الجاهليين من جفاة غلاظ الأكباد إلى أمة رحيمة مشفقة عادلة. وجاء حفيده عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وحدث ما حدث من فتح بعض المدن التي هي اليوم ضمن ما يسمونه الاتحاد السوفيتي، ودخل الجيش المسلم بقيادة قتيبة بن مسلم، واقتحم المدينة بعد أن صالح أهلها لكثرة ما غدروا به، فعلم أهلها أن المسلمين أمة العدل وأنهم لا يقرون الظلم، فأتوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وقالوا: بلغنا عنكم العدل، وقد صالحنا قائدكم ثم غدر بنا وفتحها، فلما تبين عمر رضي الله تعالى عنه ذلك؛ أمر الجيش المسلم أن يخرج من المدينة بعد أن فتحها، وقد غدروا به ولم يقل هذا جزاء غدرتكم، فلما خرجوا ورأى أهل المدينة ذلك عياناً، عجبوا لهذا العدل، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ودخلوا في الإسلام وما زالت بلاد إسلام، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يفك أسرها. كان الناس يرون عدل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما رأت الدنيا كلها هذا العدل الذي هو أحوج ما تكون إليه الأمة اليوم، وظل العدل -ولله الحمد- شيمة هذه الأمة وإن قل عمَّا كان في الصدر الأول. ولا يزال تاريخ الصليبيين الأوائل عندما اجتمعت أوروبا الصليبية أول مرة -ولا زالت تجتمع في كل مرة- ينطق بعدل صلاح الدين ,ونور الدين وقد عجبوا من هذه الأمة كيف تعيش هذه الحياة الكريمة؟ وكيف تعدل هذا العدل الذي هو من شيم الأنبياء لا من شيم ملوك الدنيا كما عبَّروا هم بذلك، وكثيرٌ منهم بقي في بلاد العالم الإسلامي، وأسلم لما رأى تلك الحياة الكريمة، وتلك العدالة التي تنشدها النفوس ولم تجدها إلا في ظل هذا الدين.

المقوم الخامس: حسن الخلق

المقوم الخامس: حسن الخلق هناك مقوم آخر مهم من مقومات المجتمع المسلم وهو حسن الخلق بين المسلمين، ونحن طلبة العلم أحوج ما نكون إلى حسن الخلق، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما وصفته أم المؤمنين عائشة: {كان خلقه القرآن}، وكما قال صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك فضلاً: {إن الرجل ليبلغ درجة الصائم القائم بحسن خلقه} فبحسن الخلق مع الأخ، والزوجة، والابن، ومع الصديق، والعدو يبلغون تلك الدرجة العظيمة، حتى كان كثير من الناس من العصاة والفجار والفساق يرون من حسن خلق الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم ومن بَعَدهُم ما يجعل قلوبهم ترق وتلين ويتركون ما كانوا عليه من الفسق والفجور، وهذا كثيرٌ جداً في عهد الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ومنها قصة صلة بن أشيم رضي الله تعالى عنه -وهو من التابعين-، لما كان يذهب إلى الصحراء في الليل ويمر بشباب يلهون ويعبثون -مثل ما نرى الشباب هذه الأيام في الكازينوهات والملاعب- في الليل، فقال: [[إن قوماً -يضرب لهم مثلاً وهو يمشي- كانوا مسافرين قضوا الليل في اللعب وغفلوا في النهار فأنى يدركون الطريق أو فأنى يصلون]] يضرب لهم المثل أول الليل ويمشي، وفي اليوم الثاني قال أحدهم: والله إنه ليريدنا ويعنينا، ويقول لنا: نحن أمامنا طريق، وأمامنا سفر وهو الانتقال إلى الدار الآخرة، ومع ذلك نضيع هذه الأوقات، فأفاقوا من غفلتهم، وكانوا قرابة العشرين شاباً فأصبحوا من خيار شباب الإسلام. لقد استيقظوا بحسن الخلق في الدعوة، وبحسن التعامل وبالرفق، وبعض المحدثين كما يُذكر عن شعبة رضي الله تعالى عنه، وهو الإمام المحدث المشهور الثقة، الذي قال عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: 'كان أمةً وحده في هذا العلم'، كان ماراً في طريق مجتازاً يحيط به طلاب العلم من كل جهة ويحتفون به، فخرج رجلٌ من شرار الناس، من الفساق -كما هم في كل زمان ومكان- فقال: من هذا؟ احتقاراً له، قالوا: هذا شعبة المحدث، قال: محدث! قالوا: نعم، فأمسك بتلابيبه، وقال: حدثني استهزاءً وسخريةً. فأراد طلابه أن يبطشوا به؛ وكان موقفاً حرجاً، رجل عليه أمارات الفسق وليس به من سمات الخير شيء، وبكل هذه الوقاحة ويعرض له في الطريق ويقبض عليه، حدثني حدثني، فأراد أن ينفلت منه، فقال: لست من أهل هذا العلم، فقال: لا إلا أن تحدثني، فقال: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} فوقع في قلب الرجل موقعاً عظيماً، وعرف أنها موعظة له، وليس مجرد تحديث. فعاد إلى بيته وبدأ يغير حاله، فقال: والله لا بد أن أغير حالي، والله لقد حدثني حديثاً عظيماً، والله لأستحين من الله، ثم عقد العزم وتاب واستغفر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأناب ورحل إلى مالك رضي الله تعالى عنه، وأصبح من كبار المحدثين، ثم كان يقول ما رويت عن شعبة إلا هذا الحديث، وبقيت روايته عن مالك وأصحابه رضي الله تعالى عنهم. أقول: إن هناك نماذج لحسن الخلق في الدعوة والصبر، والتحمل، ونجد -والحمد لله- حسن الخلق بين الشباب المسلم، وإن كان بحاجة إلى أن نحث عليه، لكن قد نفتقده مع غيرهم، فأحسنوا وارفقوا حتى بأهل الفسق والفجور، واصبروا وتحملوا، وأبشروا بالعاقبة بإذن الله -تبارك وتعالى-، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، ولهذا قال عباد الله المرسلون لأممهم {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم:12] توعدوهم بالأذى فوعدوهم بالصبر. فحسن الخلق -أيها الإخوة- من أعظم المقومات كما قال الشاعر: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا ومن أعظم ذلك حسن الخلق مع المدعوين، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، ومقابلة أذاهم بالصبر والتحمل كما أوصى العبد الحكيم ابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17]. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

الاختلاط وأثره السيئ

الاختلاط وأثره السيئ Q هل عدمت المستشفيات من الطبيبات حتى يدخل الطبيب على المرأة في الولادة ويدخل عامل النظافة إلى قسم النساء بدون رقيب؟ نريد حلاً لهذه القضية المؤلمة التي بدأت تكثر في هذه الأوقات، ولماذا لا يتعاقد مع جهاز طبي نسائي كامل يخصص للنساء؟ A الأمم بإرادتها، وتلك سنة من سنن الله تبارك وتعالى، حيث جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الإنسان -فضلاً عن الأمة- من الطاقات ما لا نظير له في أي مخلوق، فمن الممكن أن يحقق الفرد أو الأمة أشياء عجيبة جداً لا تخطر على البال، ولهذا يوجد من الأفراد من هو أمة بذاته مما يحقق من الأعمال، وأصل ذلك كله الإرادة التي تعني: العزيمة الصادقة ولا سيما على الرشد وعلى أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إن أمة لديها إرادة أن تعبد الله وحده لا شريك له، ولديها إرادة أن تكون أمة متميزة مستغنية عن غيرها، وتكون أمة قائمة على أمر الله كما شرع الله تستطيع ذلك بإذن الله، ولا نقول: لا يوجد كوادر، فمهما قلنا ذلك إذا وجدت الإرادة وجد كل شيء، ليس في هذه المسألة فحسب؛ بل إن صدقنا مع الله وإن أردنا حقاً أن نقضي على الربا، والله لنقضين عليه قضاءً مبرماً، ونعيش بعد ذلك عيشةً سعيدةً هنيئةً فيها البركة والنماء لا المحق والخسارة. إن أردنا الحجاب والعفاف والصون والله نستطيع ذلك، وما الذي يمنعنا؟ ماذا علينا لو آمنا بالله واليوم الآخر حق الإيمان، ماذا علينا لو تمسكنا بما كان عليه السلف الصالح؟ والله ليس علينا شيء. لكننا لا نريد! وهنا المشكلة يعتذرون بقلة الطاقات، أو ليست المستشفيات مختلطة؟ افصلوا هذا عن هذا، ويعتذرون أحياناً بالمال، أوَلسنا نسخِّر المال في لهوٍ ولعب؟ فخير وأوجب وأولى ما يسخر فيه المال في حفظ العرض وصون الشرف، والعفاف والفضيلة والطهارة، حتى لو كانت نساء ذميات كتابيات في ظل الدولة الإسلامية وجب أن ينفق المسلمون من بيت المال ما يحفظون به عفافهن، وحرمتهن، حتى لا ينتشر الفساد في الأرض، فكيف بالمؤمنات الحرائر العفيفات الطاهرات، اللواتي يكتبن رسائل تدمي القلب. إحداهن تقول: والله إنني لا أذهب إلى السوق أو إلى أي مكان -إذا اضطررت أن أخرج من البيت- إلّا متغطية متحجبة حجاباً كاملاً لا يرى مني ظفر، فإذا جاءت الولادة فإنه يأتي الطبيب الأجنبي -وقد يكون كافراً أو ملحداً- فيرى مني كل شيء حتى عورتي، أين غيرتكم يا دعاة ويا علماء ويا طلبة علم؟! إلى هذا الحد حتى عامل النظافة يدخل، سبحان الله العظيم! لماذا لا نعين من يقوم بهذا العمل؟ فكل من يفتح مستوصفاً أو مستشفىً نسائياً متخصصاً نعينه، ونمده بالمال والطاقات وبكل جهد، فإن هذا من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أوجب الواجبات، والحمد لله فليس هذا بغريبٍ علينا، وانظروا تعليم البنات عندما قام ووضعت له ضوابط، كان فيه خير كثير والحمد لله، رغم ما دخله من خلل، لكن فيه خير كثير، فلِمَ لا يكون الحال في المستشفيات كذلك؟ عجيبٌ جداً أنه إذا قبض على الرجل والمرأة مختليين، -وكان هذا الرجل مدرساً -مثلاً- وهي مدرسة- فإنه ينكر عليهما لأنهما اختليا، أما إذا كانا طبيباً وطبيبة، أو طبيباً وممرضة، فنحن الذين نهيئ لهم الغرفة والخلوة، ونهيئ لهم كيف يختليان، فكيف يقع هذا التناقض؟ من الذي حرَّم هذا وأحلَّ هذا؟ أليست الخلوة حراماً على كل أحد وكيفما كان؟! المدِّرسة لا تأتي إلا بمحرم، والممرضة تأتي بغير محرم هذا أمر عجيب، قانونان ونظامان في بلد واحد، وفي أمة واحدة، لماذا هذا؟ أليست هذه الممرضات أقرب إلى الفسق من المدِّرسات؟ وخاصة أن كثيراً من معاهد المعلمات وكليات البنات منفصلة حتى في خارج المملكة، فسبحان الله! هذه بحجاب وصون وأوامر مشددة، وتلك منفلتة لا يماثلها إلا ما يسمونه بالمضيفات خادمات الطائرات. يجب علينا أن نتق الله، فلا عذر لنا في معصية الله ونحن أمة تملك أعظم الموارد المالية، وتملك أكبر الطاقات البشرية، والله لو أردنا أن نشتري أكبر العقول في الغرب -ليس في الشرق فقط- التي تصنع القنابل النووية لاشتريناها؛ وجاءتنا راغمة. فالمال موجود، والغيرة موجودة -إن شاء الله- لكن علينا أن نغير بقدر الاستطاعة، فهذا يطالب وهذا يخاطب، وهذا يخطب الجمعة، وهذا يكتب في الجريدة، وسيأتي الخير بإذن الله، وما ضاع حق وراءه مطالب، وهذه قضية حافظ عليها العرب في جاهليتهم، وحافظ عليها أجدادنا قبل أن تبلغهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقبل أن يروا نور التوحيد، إنهم كانوا يسمون المرأة وإلى اليوم بالعار، وكلمة العار تطلق على المرأة وهذا من المجاز في اللغة؛ لأن أي شيء يمسها فهو العار. والآن أصبحنا نتهاون بهذه القضية، بعض الأزواج أو المحارم -أياً كان- يرمي بها عند باب المستشفى ويذهب ولا يعلم ماذا يُصنَع بها، عجيب! إلى هذا الحد، فإذا رخصت عندك امرأتك أو عرضك إلى هذا الحد، فما الذي تعظم؟ وما هو أغلى شيء عندك؟ وأعني بعد إيمانك؛ لكن نتكلم عن هذا الأمر الظاهر الذي تغار له القلوب، فالمسلم لا يرضى بذلك، وإن المؤمن لا يرضى لكافرٍ أن يرى عورة كافرة لا تحل له، وليست من محارمه، فكيف نرضى أن ترى عورة المرأة المسلمة من فجار أو فساق أياً ما كانت العلل في ذلك، ما عدا الضرورات القصوى التي يجب أن يوضع لها ضوابط، ولا تنفلت هكذا، والله أعلم.

حكم عمل الكفار في جزيرة العرب

حكم عمل الكفار في جزيرة العرب Q رجل يعمل في مستشفى حراء، ومستشفى حراء خارج مكة -خارج الحرم- وكأن كل شيء خارج الحرم فهو حلال؟ A من قال هذا؟ ما حرم الله فهو الحرام، في خارج الحرم وفي جدة، وفي جزيرة العرب بالذات ثم في كل مكان، ومن ذلك استقدام الكفار، فلا يجتمع في جزيرة العرب دينان أبداً، هذه وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد انعقد عليها إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، فأصبحت إجماعاً لا يجوز أن يخرق، وعليها والحمد لله فتاوى علمائنا. وقد قرأتم الفتوى الطويلة لسماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله له في فتاواه المنشورة مؤخراً عن استقدام العمال الكفرة في الجزيرة كلها وهي من نهر الفرات ونهر العاصي، وأطراف الشام إلى قعر عدن، ومن الخليج أو بحر البصرة -كما يسمى قديماً- إلى البحر الأحمر، هذه جزيرة العرب فلا يجوز أن يدخلها نصراني ولا يجتمع فيها دينان. فكيف يكون كما قال السائل: ممرض ورئيسة قسم التمريض في المستشفى كله -وليس في القسم فقط- امرأة فلبينية نصرانية صليبية متعصبة جداً -هذا كلامه- ويكفي أنها كافرة حتى لو لم تكن متعصبة، المهم أنها نجس ورجس وتعمل رئيسة للتمريض، فكيف نتوقع أن يكون التمريض؟ المسلم الفاسق لا يجوز أن يتولى إمامة الصلاة مع وجود الأخيار إلا إذا كانوا كلهم فساقاً فيؤم أمثلهم، ولا يولى الأب على ابنه إذا كان فاسقاً، وتنتقل الحضانة إلى الخيِّر الصالح، فكيف بالكافرة تُولى على التمريض كله في مستشفى في بلد الله الحرام؟ الله المستعان، هذا من المنكرات. ويقول السائل: إنها ترأسني وتتحكم فيّ. أقول: ما دام أنها رئيسة فلا بد أن تتحكم، وهذه من المنكرات التي يجب أن نتعاون على إنكارها، وأنا إن شاء الله سأحتفظ بهذه الورقة وأتأكد من الموضوع، ونحاول ما نستطيع في إنكار هذا المنكر.

واجبنا نحو انتشار المنكرات

واجبنا نحو انتشار المنكرات Q ما واجب العلماء والشباب نحو انتشار المنكرات في مكة، خاصةً محلات الأزياء والبنوك، ومحلات تسجيل الأغاني والفيديو وغيرها؟ A يجب علينا جميعاً أن ننكر المنكرات، ولا نقول: العلماء، أو الدعاة، أو الجهة الفلانية! لا، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، ربما يأتي أمر شديد اللهجة من وزارة الداخلية بعدم التبرج، وإقفال الملاهي الساعة الحادية عشرة ليلاً أو الكازينوهات، ولا يعمل به في بعض المناطق أو بعض المدن، وربما تذهب أنت الشاب طالب العلم في مقتبل العمر، وتعظ وتنصح صاحب الكازينو ومن فيه، فيفتح الله على يديك فيقبل وربما يهتدي ويقفله بالكلية، فلا نجعل الأمور كلها دائماً من فوق وبأوامر وبعلماء وبوسائل ضغط، لِمَ لا نبذل نحن وسيلة الدعوة؟ بالزيارات، والمناصحة، والكتابة، والشريط، والهاتف. وكثير من المنكرات تغير بالهاتف، ماذا عليك لو اتصلت بصاحب محل، وقلت له: لماذا كذا وكذا؟ يا أخي! اتق الله أنا أخوك في الله مسلم أنصحك فقط، فإن صاح أو كشر، فضع السماعة ولم يضرك شيء، ولا يستطيع أن يضربك، فأنت بعيد عنه، وإن سمع منك فالحمد لله، فعلينا بتقوى الله، فالله تعالى يقول لنا يوم القيامة: ما منعك أن تنكر ذلك المنكر؟ فتقول: يا رب! خوف الناس -أعوذ بالله- ماذا يقول لك الله عز وجل تخاف الناس ولا تخافني، إلى هذا الحد، ابذلوا جهدكم بما تستطيعون، فكم من صاحب منكر سمع وقبل النصيحة بالدعوة إلى الله. ثم -أيضاً- يكتب العلماء إلى كل من له سلطة وتقام عليه الحجة في إنكار هذه المنكرات ولا سيما في هذا البلد الحرام الذي جعل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له من المنزلة والمكانة حيث قال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].

طرق الوصول إلى مقومات المجتمع المسلم

طرق الوصول إلى مقومات المجتمع المسلم Q بعد ما عرفنا مقومات المجتمع المسلم ولله الحمد، ما هي أفضل الطرق لسلوك هذه المقومات؟ A هو طريق طلب العلم والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد اشتملت على هذه المقومات وعلى ما هو أعم منها.

التمسك بالقديم ليس من أسباب التخلف الاجتماعي

التمسك بالقديم ليس من أسباب التخلف الاجتماعي Q ندرس في مدارسنا في المرحلة الثانوية مادة الاجتماع، وفي هذه المادة موضوع بعنوان (أسباب التخلف الاجتماعي) ومن ضمن هذه الأسباب سببٌ يقول: إن التمسك بالقديم من أسباب هذا التخلف، ولذلك يجب تركه ونبذه؟ A أحب من الأخ الفاضل أن يصور الورقة أو الصفحة التي فيها هذا الكلام ويصور غلاف الكتاب ويأتيني به إن شاء الله حتى تكون العبارة أكثر دقة، وأنا لا أستبعد أنها موجودة، ولا أتهم الأخ، لكن حتى إذا تكلمنا -إن شاء الله- نتكلم عن بينة، وإلا فحقاً هناك دعوى عريضة قائمة في الدنيا اليوم أن التمسك بالقديم من أسباب التخلف، والقديم يعنون به (القرآن والسنة) وعمل الصحابة، وحتى التقاليد والعادات الطيبة المأثورة عن الآباء والأمهات والأجداد؛ كل ذلك يجعلونه قديماً، لكن ما دام أنه في منهج، فيجب أن ينكر عليه بلجنة إدارة التطوير التربوي في الوزارة، فعلى الأخ أن يصور الغلاف ويطبع هذه الصفحة، ويأتيني بها، وإن شاء الله نكتب عليها بإذن الله أو نتخذ ما نراه إن شاء الله تعالى.

منكرات النساء في الأفراح

منكرات النساء في الأفراح Q كما تعلمون أنه في وقت الإجازة تكثر الزواجات، وعند النساء منكرات كثيرة مثل: الغناء، ولبس القصير، والغيبة، والنميمة، فما حكم الذهاب إلى الأفراح والزواجات نأمل توجيه نصيحة وجزاكم الله خير؟ A يكفي أن أنقل هذه النصيحة للرجال أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإن الله سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، وقد استرعاكم على هؤلاء النساء، وأمركم بحفظهن وصونهن.

المشجع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المشجع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q نرجو من فضيلتكم بيان المقومات المساعدة لتقوية الشجاعة في قلب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ A إذا أردت أن تكون شجاعاً في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعليك بشيء واحد فقط هين ولكنه عظيم، اعرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتذكر الله، وعظمته، وتذكر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يملك الضر والنفع وإليه المنتهى، وبيده خزائن كل شيء، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه عليك، واقدر ربك حق قدره. ثم تفكر في نعمته عليك، وأن هذه النعم لو أعطاك أحد من الناس عشر معشارها؛ وطلب منك أن تضرب أحداً، أو تأمر أحداً، أو تتكلم عمن تكلم فيه؛ لفعلت ذلك إكراماً لعطيته، والله تعالى قد أعطاك هذه النعم جميعاً، وأمرك أن تقول كلمة الحق من كتابه ومن سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم انظر إلى المدعوين أنهم مثلك بشر، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، كلهم مفتقرٌ إلى الله، وكلهم بحاجة إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في كل أمر من الأمور، ولا يملك أن يضرك أحد بشيء. فأنكر عليهم بالأسلوب الحسن والحكمة كما أمر الله، والحكمة وضع الشيء في موضعه، فالقوة تكون في موضع القوة، والقول في موضع القول، والصمت في موضع الصمت، والشدة في موضع الشدة، وهكذا فإذا عرفت ربك وقدَّرته حق قدره، وعرفت نعمته عليك، وعرفت ضعف المخلوقين وافتقارهم إليه وأنهم كلهم عبيده، وأن أمرهم ونواصيهم بيده، فما يمنعك أن تنكر عليهم، والله لا يمنعك حينئذٍ شيء بإذن الله، وهذا يحتاج إلى ممارسة وإلى تمرين، نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يعيننا عليه لنبلغه.

الواسطة والتوكل على الله

الواسطة والتوكل على الله Q من مقومات المجتمع المسلم العدل، والعدل والواسطة، بشكلها الحالي ضدان لا يتفقان، سؤالي هو: ما موقف الشباب المسلم من استخدام الواسطة التي عمت وطمت حتى إننا لا نستطيع الحصول على أي حق من حقوقنا كبر أو صغر في أي جهة أو مؤسسة إلا عن طريق من يعرف ذلك الشخص المسئول مما أفقدنا لذة ومعنى التوكل على الله، فهل هي منافية لهذا التوكل، وما موقفنا منها؟ A الشفاعة نوعان: شفاعة حسنة ومن يشفعها يكن له نصيب منها، وشفاعة سيئة ومن يشفعها يكن عليه كفلٌ منها، والإنسان قد يحتاج للإنسان، والكل يحتاجون إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن المشكلة أنه خرج الأمر من طور طلب المساعدة أو الحاجة إلى طور الواسطة -كما تسمى- التي تسقط الحقوق أو تجلب ما ليس للإنسان من الحقوق، وتفشت هذه الظاهرة، فكانت في أول الأمر نادرة، وبالذات عند المسئولين، ثم أصبح الأمر عادياً جداً، فكل من يأتي لمعاملة فأول ما يسلِّم على المدير يعطيه الورقة، ثم بعد ذلك يحدثه عن الموضوع، وربما بعض الأمور تخبر بالتلفون وهي تحتاج إلى ملفات وأوراق -من أجل الواسطة- ويتعطل من لا شفيع له، وإن كان مستوفياً أو مستكملاً لكل الإجراءات النظامية. هذه إحدى العلل التي ابتلي بها المسلمون عندما فقدوا التمسك بالإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والعدل والإنصاف، وهذا داء يجب أن يعالج من الجميع. أما منافاته للتوكل، فنعم قد ينافي التوكل؛ لأن منافاة التوكل قد تكون مما ينافي أصله، فهذا شرك، كمن يتوكل على غير الله -تبارك وتعالى- أو يدعوه أو يستغيث به، وقد ينافي كمال التوكل، وأقل ما في هذا أنه ينافي كمال التوكل وربما ينافي الكمال الواجب لا الكمال المستحب، فيقع الإنسان في كبيرة، نسأل الله العفو والعافية.

حصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض المنكرات

حصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض المنكرات Q إن من المقومات الأساسية للمجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكننا نجد من يحصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد أو بغير قصد في بعض المنكرات كترك صلاة الجماعة وغير ذلك، ونحن نرى المنكرات تبث عبر وسائل الإعلام بشتى أنواعها وفي الكتب والمناهج، ثم ينكَر على من ينكِر ذلك، فهل من كلمة حتى نحافظ على تماسك المجتمع وجزاكم الله خيراً؟ A نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحفظ لأمتنا ومجتمعنا تماسكه، وإيمانه، ووحدته في ظل كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك أن ترك صلاة الجماعة من أعظم المنكرات، لكن الاقتصار عليه وحده واعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص فقط بالصلاة، هذا نتيجة انحراف منا، وخلل في التطبيق، انحصرت دعوتنا وإنكارنا قليلاً قليلاً حتى أصبح هذا حالنا. أول ما كانت الهيئات قبل حوالي عشرين سنة، كانت تفتش المطارات، والجمارك وكانت تقوم بما تقوم به البلديات اليوم، من الكشف في الأسواق عن الغش والتحايل والتلاعب -وهذا من عمل المحتسب الذي ورد في أعمال المحتسب التي نص عليها الفقهاء-، وكانت تقوم بأعمال الشُرط وأعمال المحاكم وغيرها، من الأعمال التي كانت أقرب إلى ديوان الاحتساب المعروف في التاريخ الإسلامي. ثم تقلص العمل شيئاً فشيئاً، فبعد ذلك تقلص المبدأ، وأصبح المبدأ هو أن الإنكار فقط على ترك الصلاة، وإن كان ترك صلاة الجماعة لا شك أنه منكر، لكن كل منكر يجب أن ينكر، المنكر ما أنكره الله وأعظمه الشرك، والمعروف هو ما جعله الله -تبارك وتعالى- معروفاً وأعظمه توحيد الله عز وجل.

تفكك الاتحاد السوفيتي

تفكك الاتحاد السوفيتي Q نسمع هذه الأيام ما يدور في الاتحاد السوفيتي من سقوط بعض أحزاب الشيوعية، ولا نسمع شيئاً عن الجمهوريات الإسلامية؟ A المسلمون كما قال الشاعر: ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهود ما دخل المسلمين في الموضوع؟ المسلمون فرحوا وهللوا بعودة جورباتشوف والحمد لله وأيدنا. هذه القضية، وفرحنا أن دول البلطيق ستستقل إن شاء الله، ولكن ماذا عندنا؟ هذا الذي يهمنا، أما مائة مليون مسلم، وبلاد إسلامية مساحتها أكثر من مساحة الدول العربية، اثنا عشر مليون كيلو متر مربع، احتلها هؤلاء المجرمون؛ ولا يستطيعون أن يقيموا من شعائر دينهم شيئاً، اضطهاد، وعذاب، وفتنة، ودمار، دمروا اللغة العربية، والحرف العربي، يدرسوهم الإلحاد مكان الدين. فلما جاء جورباتشوف والبروستريكا ماذا غير؟ حول أو أراد التحول -إلى الآن ما تحول تحولاً كاملاً- من الشيوعية إلى الصليبية، فهو صليبي ينادي ويصرخ بصرخات صليبية، منها الصرخة التي أطلقها مع بداية البروستريكا وهي أنه يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تضع يدها في يد الاتحاد السوفيتي لضرب الحركة الأصولية في العالم الإسلامي، وضرب الدعوة. هذا جورباتشوف الذي بعث الكاثوليكية وذهب يتذلل إلى البابا ليكسب ولاءه، ماذا فعل مع المسلمين؟ سحقت الدبابات المناطق الإسلامية في أذربيجان وفي غيرها، أما لتوانيا وأخواتها فالتذليل والتبشير ووعد الاستقلال، وكل ما تريدون. حتى المساعدات التي تقدم للاتحاد السوفيتي والهبات والعطايا من الغرب أو من غيره، إنما تنفق بالدرجة الأولى على الشعوب الأوروبية، أما الشعوب الآسيوية وإن كانت غير مسلمة، فهي على درجة ثانية، أما المسلمين فإن كان لهم شيء فهو أتفه نصيب، ولكن نحن أمة أصبحنا، كأننا ليس لنا ذات مستقلة، ولا شخصية، وإنما لما رأينا هذه الدولة تسقط وتتفكك، هرعنا وهلعنا، ولماذا يتفكك؟ سبحان الله العظيم! ما كأننا سقطت منا أمم، ذهبت الأندلس ونسيناها، ثم ذهبت الهند بأكملها، وقد كانت تحت حكمنا، بل موسكو دفعت الجزية للمسلمين أكثر من قرنين، وكانت تحت حكم المسلمين، وضيعنا إفريقيا ووضيعنا دولاً كثيرة يحكمها الصليبيون، ثم نقول: كيف يتفكك الاتحاد السوفيتي؟ ثم تسدي جرائدنا النصيحة الفاضلة القيمة لـ جورباتشوف يجب عليك أن تعمل كذا، وانتبه من كذا، نصح عجيب جداً لهم، فبعض الجرائد ثمان صفحات تكتب عن جورباتشوف، وما كتبوا عن القضية الأفغانية ربما ولا سطر أو سطرين. وبالمناسبة فإننا نطلب منكم التبرع لإخوانكم المجاهدين الذين تكالبت عليهم قوى الكفر فلو أننا أمة تعرف الله وتعرف دينه، وتعرف من توالي ومن تعادي، لكان موقفنا من هذه الأحداث غير هذا الموقف تماماً.

النظام الدولي الجديد وحربه ضد الإسلام

النظام الدولي الجديد وحربه ضد الإسلام Q صراحة وحقيقة في ظل الوفاق الدولي الجديد الجهاد الأفغاني اليوم هو بالدرجة الأولى قضية أمريكية وليس قضية سوفيتية ولهذا لم تكن تتغير الصورة كثيراً؟ A بعد عودة جورباتشوف لم يتغير شيء، لكن لو لم يعد، لربما كان هناك شيء من التغير، نقول: ربما لكسبت بعض الشعوب المضطهدة أو المستضعفة، لكن ما كان ذلك، وقدر الله ولعل في ذلك خير على أية حال، فالقضية هي قضية أمريكية باسم النظام العالمي الجديد، والقوى الصليبية كلها اليوم تقف ضد المسلمين في أفغانستان والفلبين، والحبشة وأرتيريا والصومال وفي كل مكان. وقد توعدوا -ونسأل الله أن يخلف وعدهم وظنهم- بأن المرحلة القادمة بعد إحلال السلام فيما يسمى في بالشرق الأوسط، وإخضاع المنطقة لهم سينقلون الميدان إلى القارة الهندية وإلى إندونيسيا؛ ليقضوا على القوة البشرية للمسلمين في هذه المناطق والقوة العلمية، العالم الصليبي اليوم هو الذي يتحكم في العالم الإسلامي بهذا التحكم، فـ الاتحاد السوفيتي جزء الآن مما يسمى بالنظام الدولي الجديد؛ والخطة بالأساس تضعها أمريكا، ثم تتبعها المجموعة الأوروبية، ثم بالدرجة الثالثة الاتحاد السوفيتي.

سورة الحجرات ومقومات المجتمع المسلم

سورة الحجرات ومقومات المجتمع المسلم Q سورة الحجرات تضمنت بعض المبادئ التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم فنرجوا توضيحها؟ A أشرنا إلى بعضها، وأنبهكم إلى قراءتها وإلى قراءة تفسيرها، وهناك من كتب فيها موضوعاً مستقلاً. وفي الأخير أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن ينفعنا بما نسمع وما نقول، إنه سميعٌ مجيب. والحمد لله رب العالمين.

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن الديانة النصرانية، وذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لمعتنقيها، ثم ذكر نبذة عن تحريف العقيدة النصرانية، وانتشارها في أوروبا. متطرقاً لصلب الموضوع وهو الحديث عن كتاب (الجواب الصحيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبين أهمية الكتاب، وتكلم عن بعض مباحثه، ثم استعرض نشرة خاصة عن التنصير والمنصرين في العالم، موضحاً جهود النصارى ومحاولاتهم -قديماً وحديثاً- لتنصير المسلمين ولا سيما في جزيرة العرب, مستعرضاً وسائلهم في ذلك, وأماكن تواجدهم. ثم تحدث الشيخ عن فكرة تنفيذ مشروع ترجمة كتاب شيخ الإسلام (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) إلى لغات العالم, ومن ثم يكون نواة لأعمال أخرى لمقاومة التنصير ومحاربته.

نبذة عن النصرانية

نبذة عن النصرانية الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار} وبعد: فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً على ما أفاء به علينا من النعم، ومن أعظمها نعمة الإسلام فهي أعظمها جميعاً، ونعمة اتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الاجتماع واللقاء الحافل الحاشد الذي حصل كان اجتماعاً عظيماً مباركاً، كما عبر عنه فضيلة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فقال: 'لا أعلم في تاريخ المنطقة حفلاً مثله' وهذه شهادة من هذا العلامة الثقة على كبر سنه وغزارة علمه، نعم إنه حفل لا نقول: إن المنطقة لم تشهد مثله قط، بل نقول: إنه لم تشهد مثله منطقة أخرى، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك جهود القائمين عليه، وأن يوفق جميع العاملين لإحياء سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يحقق لهم نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] وإنني لأعجز كل العجز مهما كانت العبارات عن شكركم وعن تقديري لحفاوتكم، وإكرامكم البالغ الذي لا أستحق جزءاً يسيراً منه، ولكنه طبعكم الكريم، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجازيكم عن هذا خير الجزاء، وأن يجعلنا جميعاً خداماً وجنوداً لدينه، ولدعوته. ولقد كان من توفيق الله تبارك وتعالى لهذه الفكرة التي نريد في هذا الدرس أن نعرضها على هذه الوجوه الخيرة الطيبة، أن يأتي هذا اللقاء بعد ذاك اللقاء الحاشد، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى. وحفظ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما تعلمون يكون على نوعين: أما النوع الأول: حفظها في ذاتها واتقانها. والنوع الثاني: هو حفظها بالذب عنها، والدفاع عن حوضها، ودفع شبهات المبطلين الذين يكيدون لها، وهذا هو الجانب الذي أرجو أن يكون ما أعرضه في هذا الدرس كافياً في حدود طاقتنا البشرية، لكي نسد هذا العجز والخلل بإذن الله تبارك وتعالى، فإن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه وشرعه لها علينا حق عظيم، فهي الأمانة التي حُملنا إياها نحن معاشر طلبة العلم، وهي الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى، وهي الميراث الذي أورثنا إياه رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فإنه من الواجب علينا أن نجتهد في حفظها كل الاجتهاد ولا نألوا في حفظها. وحفظ السنة والشريعة والدين بدفع الصائل عليها، وإقامة الحجة عليه، وجهاده بالقرآن جهاداً كبيراً، هذا يستدعي جهوداً عظيمة نعجز عنها، ولا سيما من كان في هذا الزمان والله المستعان، ولكن الله بفضله وجوده ومنَّه وكرمه منَّ علينا بوسائل عظيمة، ومنَّ علينا بعلماء أفذاذ في الماضي قاموا بهذا الواجب قياماً عظيماً، ولو أننا قمنا بإحياء ما كتبوه ونشره وشرحه وإيضاحه لكان ذلك عملاً عظيماً، ثم نسد ما بقي مما استجد من ضلالات وشبهات وغيرها مما يقتضي الحال أن نبينه، وأن نكون قائمين لله تبارك وتعالى بالحجة في عصرنا الذي نحن فيه. والأعداء الذين يكيدون لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم كثيرون جداً، وعلى رأسهم أهل الكتاب الذين ذكر الله تبارك وتعالى عداوتهم وحسدهم ومكرهم وغيظهم لنا -لأن الله تعالى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرب الأميين- في غير ما موضع من كتابه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100] فهذا شأنهم، وهذا دأبهم في جميع العصور منذ أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام عليهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجة، ولا سيما النصارى الذين هم موضوع هذا الدرس. فقد أقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم الحجة عندما أتاه وفد نجران، وقرأ عليهم ما أنزل الله تبارك وتعالى عليه من الحجج العظيمة في صدر سورة آل عمران، وكذلك كتابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هرقل والمقوقس وغيرهما من ملوك النصارى، وجهاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنصارى معروف كما حدث في غزوة تبوك، وأمثال ذلك مما يظهر به عداوة هؤلاء، ويظهر به أيضاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام بأمر الله وبمجاهدتهم وإقامة الحجة عليهم؛ فإنهم كانوا أول كافر به، وبالذات اليهود، ثم إنهم عادوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك حذر أمته من عداوتهم، وأخبر عن ذلك بأنهم في آخر الزمان سيجتمعون وينزلون بـ الأعماق أو بـ دابق لمقاتلة المسلمين، والأحاديث في الفتن والملاحم كثيرة، ولن تنتهي هذه المعركة مع أهل الكتاب إلا بنزول المسيح عليه السلام عبد الله ورسوله، الذي ألهوه وعبدوه من دون الله، فإذا نزل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَم وكسر الصليب، وقتل الخنزير، ورفع الجزية، وقتل المشركين هؤلاء، حينئذٍ يظهر الحق، وتتطهر الأرض من شرك هؤلاء المنتسبين إليه زوراً وظلماً وعدواناً. إن الكلام في هذا الموضوع -أيها الإخوة- طويل، وحقيقة الأمر أن موضوعنا في هذا الدرس إنما هو غرفة من بحر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وهو كذلك عمل بطريقة أو بطرق -لأنها قد تكون أكثر من طريقة- مما اقترحه فضيلة أخونا الشيخ سلمان بن فهد العودة -حفظه الله- في مقاومة التنصير، ومن هنا كان لا بد أن نتعرض بشيء من العجلة للبداية التاريخية لهذه العداوة ولهذا التنصير، ثم للكتاب الذي هو الموضوع الرئيس في عملنا، ثم نوجز لكم شيئاً مما نريد أن نعمله إن شاء الله.

تحريف العقيدة النصرانية

تحريف العقيدة النصرانية العقيدة النصرانية حُرِّفت وبُدِّلت وغُيِّرت كما أخبر الله تبارك وتعالى وكما يشهد بذلك الواقع، فكثرت الأناجيل بعد رفع المسيح عليه السلام كثرة عجيبة، حتى إنه في نهاية المائة الثانية الميلادية أقرت المجامع الكنسية الأناجيل الأربعة الموجودة والمعروفة الآن، وهي أربعة من ضمن ما يزيد على سبعين إنجيلاً متفاوتة مختلفة، وهي في ذاتها متناقضة ومختلفة في كثير من الأمور بل في أعظم الأمور، كدعوى الألوهية للمسيح ودعوى البنوة وصلبه {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] غير أن من أعظم ما وقع فيها من تحريف وهو الذي يهمنا بسبب الحديث عن التنصير أن بولس الذي يدعون أنه بولس الرسول أو شاؤل اليهودي كما كان يسمى، قد بدل دين المسيح وحوله من دين محدود في بني إسرائيل فقط إلى دين عالمي، والله تبارك وتعالى بيَّن في كتابه أن عيسى إنما هو رسول إلى بني إسرائيل {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيل} [آل عمران:49] ولم يبعث الله تعالى قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً إلى العالمين كافة، بل هذا من خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ثبت ذلك في أكثر من حديث وآية، والمقصود أن المسيحية كما تسمى وهي النصرانية أو ما جاء به المسيح عليه السلام من الحق والدين والدعوة إنما كانت محصورة في بني إسرائيل، وبذلك تنطق الأناجيل الموجودة إلى الآن بين أيديهم، فإنها تذكر أن المسيح عليه السلام جاءت إليه امرأة فينيقية أو سورية، وتختلف الأناجيل في قصتها، ولكن المقصود أنها جاءت إليه عليه السلام فرَّدها، وقال: إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة، أي أنه لم يبعث إلا إلى بني إسرائيل، ومع ذلك فإن بولس قد ذهب إلى عدة بلاد وأرسل الوعاظ في أماكن كثيرة من العالم لنشر هذا الدين، وأهم جزء نُشر فيه هذا الدين وانتشرت فيه عقيدته هو أوروبا، العدو اللدود للإسلام والمسلمين منذ ذلك الحين وإلى قيام الساعة، وهي التي كانت تعرف بالدولة الرومية، أو الامبراطورية الرومانية البيزنطية، كما يعرفونها.

نشر الديانة النصرانية في أوروبا

نشر الديانة النصرانية في أوروبا هنالك في مجمع نيقيه في سنة 325 م عُقِدَ المجمع وقُرِّرَتْ العقيدة الباطلة، واعتنق قسطنطين ملك الروم دينهم، وعُمِّدَ وانتشر هذا الدين، ثم اجتاحت أوروبا بعد ذلك موجات من الغزو البربري الذي يسمونه الغزو الهمجي من قبل شعوب الشمال النورمانديين وأمثالهم، اجتاح هؤلاء الامبراطورية الرومانية، ودمروا روما حوالي سنة 410م، ومن 410م إلى 1210م وهي قرابة ثمانمائة عام لم تعرف أوروبا علماً ولا هدى، ولم يؤلف فيها كتاب واحد على الإطلاق، والكتاب الوحيد المعروف والمقروء فيها خلال الثمانية قرون هو الكتاب المقدس -التوراة والأناجيل فقط- وفي هذا الظلام الدامس نشأت الأفكار، ونشأت الضلالات، ونشأت البدع، ونشأت الفرق، إلا أن أمراً واحداً لم يتغير وأجمعت عليه كل الفرق والطوائف وهو عداوة الإسلام والمسلمين، ومن ثم كانت الحملات الصليبية التي تعلمون وقائعها، ولا داعي للتفصيل فيها، عندما قامت تلك الحملات ولأول مرة في تاريخ أوروبا، تنفتح أعين الأوروبيون على النور، وعلى الحق، وعلى الخير، وعلى الإنسانية، فإنها لم تكن تعرف للإنسان أنه إنسان حتى جاء أولئك إلى العالم الإسلامي المتمدن المتحضر، حينئذٍ بدأ ما يمكن أن نسميه الغزو الفكري أو الغزو التنصيري في العالم الإسلامي.

مباحث من كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)

مباحث من كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) ومن أعظم من ألف في بيان تحريفات النصارى، وتنافضاتهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

سبب تأليف الكتاب

سبب تأليف الكتاب وسبب تأليف شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله لكتابه: هو أن أحد بطارقتهم وعلماء دينهم اجتاز بعض أنحاء العالم الإسلامي في تركيا وغيرها، وعاد إليهم وأخذ يخطب ويقول: 'إن المسلمين على دين باطل محرف، وإني قد قابلت علماءهم وناظرتهم، فأفحمتهم وأبطلت دينهم، وحطمت شبهاتهم' إلى آخر ما افترى وكذب به هذا المفتري، فلما بلغ ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله أخذته الغيرة الإيمانية، فجرد سيف الحق على هذا الباطل، وسيف الحجة الإيمانية على تلك الشبهات المفتراة الداحضة، ففندها واحدة واحدة، وأبطل كلامهم، وجاءنا بهذا الكتاب الفذ الذي لم يكتب قبله مثله ولا بعده. ورحم الله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية هذا العلم العلامة الجهبذ الفهامة، كم من طواغيت قد حطمها! طاغوت المنطق فنده ودمره قبل أن تعرف ذلك أوروبا بأكثر من خمسة قرون، لأن هيجل المعروف في التاريخ الأوروبي بأنه دمر أو قضى على منطق أرسطو لم يكتب شيئاً مما يقارب عشرة أو عشرين في المائة مما كتبه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ونقول: هذا والحمد لله عن علم واطلاع، والغربيون يسمون هيجل إله العلم أو إله الفكر، تعالى الله عما يقولون! ولو اطلعوا على كلام شَيْخ الإِسْلامِ ونظروا بعين الإنصاف والتجرد لكانوا يؤمنون بالله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا فقط في المنطق، وأيضاً رد على المتكلمين، وتعلمون كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل، وكتابه الآخر نقض التأسيس وغير ذلك ورد على الأشعرية، ورد على المؤولة، ورد على الرافضة بكتابه العظيم المشهور منهاج السنة، وهنا رد على اليهود والنصارى في هذا الكتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وهكذا رحمه الله. فالكتاب لا نظير له في بابه لأنه من تأليف هذا العلامة رحمه الله رحمة واسعة، وإن كان شَيْخ الإِسْلامِ في الحقيقة لا يحتاج هو ولا كتبه إلى تعريف، ولكني رأيت أن أعرض لشيء مما في هذا الكتاب لسبب أراه مهماً، وهو أن بعض طلاب العلم إن لم أقل الكثير ممن عرفته وسألته وناقشته عند بداية فكرتنا هذه ومشروعنا هذا يقولون: إنهم لم يقرءوه، ووقع لي أن سبب ذلك أن كثيراً من الإخوة طلاب العلم أو العلماء بارك الله فيهم جميعاً يقولون: إن الكتاب يتحدث عن الأقانيم وعن الصلب وعن فرق النصارى وغير ذلك من أمور قد لا يكون من الضروري أن يطلع عليها إلا من يريد التجرد للرد على هؤلاء، وربما لا يكون كثير من هؤلاء لديه هذا الاهتمام بهذا القدر. لذلك أحببت أن أطلعكم على بعض ما أرى من نقول، وأرجو ألا أطيل فيها عليكم -إن شاء الله- لكنها تبين لكم غزارة ما في هذا الكتاب من علم، وتنوع موضوعاته، فالكتاب في الحقيقة ليس فقط فيما يتعلق بالنصارى، بل هو يقرر تقريراً عجيباً عظيماً حقائق قد لا توجد ولا أظنها توجد في أي كتاب آخر غيره، إنها علوم جمة يحتويها هذا الكتاب، فهو دائرة معارف أو معلمة في علم مقارنة الأديان.

مباحث في علم العقيدة

مباحث في علم العقيدة وهو يحوي من ضمن ما يحوي: علم العقيدة وهو أشرف العلوم وأفضلها، توحيد الأسماء والصفات، وفيه قواعد عظيمة ذكرها رحمه الله تعالى. من ذلك القاعدة العامة في توحيد الأسماء والصفات المعروفة، إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى آخره مع شرحها، ومن ذلك بيان حقيقة ما يضاف إلى الله تبارك وتعالى، والتفريق بين ما يضاف إليه عز وجل من ذوات قائمة بنفسها، وبين ما يضاف إليه تعالى من المعاني التي لا تقوم إلا بغيرها، لأن النصارى يحتجون بكون المسيح كلمة الله أو روح الله، فقرر هذه القاعدة رحمه الله وبين أن الذوات القائمة بنفسها، كما في قول الله تبارك وتعالى: {نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] أو في قولنا بيت الله أو ما أشبه ذلك، فهذه لا تكون صفاتاً لله، وأما ما لا يقوم بنفسه من المعاني فإنها تكون صفاتاً لله، وفصل القول في هذا رحمه الله. ثم تعرض لتوحيد الألوهية، وبين فيه حقائق عظيمة فيما وقعت فيه الصوفية وأشباههم، والنصارى من تعظيم الموتى والغلو فيهم إلى حد عبادتهم، وما أحدثوه من البدع عند القبور والتصوير وغير ذلك في مواضع كثيرة، وكيف وقع فيها النصارى ومن تبعهم من المسلمين، وهذا أيضاً جانب عظيم، ولا يخفى على أمثالكم أنه لو كتب للمسلمين اليوم أو ترجم أو حقق لهم كتاب، عن الغلو في الموتى وحكم الاستغاثة بهم ودعائهم، لربما رفضه الكثير وقالوا: هؤلاء وهابية أو هؤلاء لا يؤمنون بكرامات الصالحين أو ينكرون حق الأولياء أو ما أشبه ذلك، لكن إذا قدم إليهم هذا ضمن الرد على النصارى. تقبلوه لشدة حاجة المسلمين اليوم كما تعلمون إلى الرد على النصارى، فإذا قرأه المسلم، فإنه يقرؤه من باب معرفة باطل هؤلاء النصارى والرد عليهم، فيستفيد أنه يصحح عقيدته هو أيضاً، فتكون الفائدة مزدوجة، وسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز رحمه الله لما عرضت عليه الفكرة، سُرَّ بها جداً، وقال: هذا عمل عظيم (عصفوران بحجر واحد) وهذا مما سيحققه هذا الكتاب إذا ترجم بإذن الله كما سنبين.

النبوات

النبوات وهناك علوم عظيمة من أعظمها ما يتعلق بالنبوة وإثباتها وحقيقتها والمعجزات، فقد ذكر رحمه الله في هذا الكتاب أن معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الآيات الدالة على صدقه تزيد على الألف، وذكر منها منها نماذج عظيمة لا توجد مجموعة بهذا الإيضاح وهذا الأسلوب وهذه القوة وهذه الحجة في أي كتاب آخر؛ فهو من أعظم الكتب في دلائل النبوة وإثبات نبوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

التفسير

التفسير وفي الكتاب -أيضاً- مباحث وموضوعات عظيمة: في علم التفسير، كما في الآيات التي تتعلق بأهل الكتاب وأحكامهم، وكما هو مثلاً في موضوع الصلب أو رفع المسيح، أو كون ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته وما أشبه ذلك من آيات قد تشكل وتتعلق بأنبياء قبله، كما في ذكره رحمه الله لقصة موسى عليه السلام وذهابه إلى مدين، وهل كان صهره هو شعيب النبي أم غيره؟ وأمثال ذلك من مواضع، وتعلمون شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله إذا حقق المسألة كيف يبدع، وكيف يغوص في الأعماق.

علوم أخرى

علوم أخرى كما أنه تعرض فيه كثيراً لعلوم كثيرة: كعلم الحديث، وعلم المصطلح، ومسائل فقهية عظيمة النفع جداً، وربما لا تجد التحقيق هذا في آي كتاب آخر من كتب الفقه، وكذلك تعرض لعلم النفس ولعلم الاجتماع ولعلم الحكم ولعلم السياسة، وقارن أحوال المسلمين في ذلك بأحوال الروم؛ بل إنه تعرض لعلم المنطق ونقده، ونقد الفلاسفة وفند شبهاتهم في معرض رده على النصارى، وما احتجوا به من شبهات فلسفية، وأيضاً تعرض -رحمه الله- لعلم الطبيعة، وله في هذا كلام قد نورد بعضه، وكذلك تعرض لعلم اللغة ولعلم الترجمة عندما تعرض للإنجيل والتوراة وأشباهها. ثم إن الكتاب يتضمن فوائد علمية من نواحي أخرى، مثلاً: يتضمن الرجوع إلى مصادر مفقودة، أو ربما تكون نادرة أو مخطوطة في هذا الزمن، مما يكشف اطلاع شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله اطلاعاً عظيماً ودقيقاً واسعاً على واقع عصره وعلى أحواله، وعلى الفرق التي هي فيه من أمور ثبتت صحتها الآن، عندما يسر الله تبارك وتعالى وجمعت العلوم، واستطعنا أن نعرف الكتب في أي مكتبة في العالم مما كتب عن الإسلام أو ضده.

نماذج من الردود والحجج

نماذج من الردود والحجج وذكر كثيراً من الردود والحجج فمن ذلك مثلاً أنه رحمه الله تعرض للرد على النصارى، وإبطال دينهم وإثبات أنهم على باطل بحجج عظيمة أذكر شيئاً منها إجمالاً:

إبطاله لدين النصارى

إبطاله لدين النصارى عندما بين أن دين النصارى باطل سواءٌ صدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم كذبوه، إن آمنوا به أو لم يؤمنوا فدينهم باطل، وإن قالوا: إنه مبعوث إلى العرب خاصة -كما هو قول بعضهم- أو أنه ليس بنبي مطلقاً، فعلى أي التقديرين فدينهم باطل، ثم بين ذلك؛ لأنه إن كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينه حقاً -وهو كذلك- فهو قد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغ عن ربه أن دينهم باطل، فيلزمهم اعتقاد أن دينهم باطل، هذا موجز وإلا فالكلام نفيس جداً، وإن كانوا يقولون: إن دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل كما هو قولهم الآن فإنه يلزم من ذلك لأي عاقل منهم أن يكون دينهم باطلاً؛ لماذا؟ لأنه ما من طريقة وما من وسيلة تثبتون بها صحة دينكم إلا وقد ثبتت في حق دين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم وأكبر وأقوى، فإذا بطلت هذه فقد بطل الأضعف والأقل والأدنى، فعليه يكون دينكم باطلاً، وهي حجج عظيمة في هذه الصفحات، ويضرب أمثلة تدل على علم وعلى اطلاع، فيقول: 'من قال: إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء، وموسى لم يكن نبياً، فهذا من هذا القبيل؛ لأن نبوة موسى عليه السلام أعظم، أو من قال: إن داود وسليمان ويوشع ويحيى كانوا أنبياء، والمسيح لم يكن نبياً، فهو أيضاً باطل؛ لأن دلائل نبوة المسيح أظهر فكذلك من قال: إن هؤلاء جميعاً أنبياء ولكن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن نبياً، فحجته داحضة؛ لأن دلائل ظهور ذلك أعظم وأظهر'. ثم أخذ يضرب أمثلة لطيفة جداً، فيقول: 'لو قال قائل: إن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وكل واحد منهم ينتمي إلى مذهب من المذاهب الأربعة وإن أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء، أو قال: إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة، والخليل، وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة فهذا مستحيل، ولا يوافقه أحد من أهل هذا الفن، وأيضاً لو قال أحد: إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء، ولكن بقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء، فقوله مردود عند الأطباء وأصحاب كل فن يعرفون المتقدم في هذا الفن، ولا يمكن أن يقروا بصحة علم الأدنى، ويتركوا الأفضل أو الأعلى' ثم قال: 'ولو قال: إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة -الجغرافيا- وبطليموس ونحوه لم يكن لهم علم بالهيئة -الجغرافيا الفلكية- لكان قوله في غاية البطلان' ثم تكلم بكلام نفيس لولا الإطالة لأكملته، ولكن حسبكم أن تراجعوا الكتاب.

الاستدلال على ثبوت الإسلام بالتواتر

الاستدلال على ثبوت الإسلام بالتواتر ويستدل -أيضاً- على بطلان دينهم بدليل عقلي لا يستطيع أي عاقل مهما كان دينه أن يرده، وهو الاستدلال بعدم التواتر فيما من حقه أن يثبت متواتراً في عرف الناس والعقلاء أجمعين، فمثلاً يقول: لو ادعى مدع أنه يوم الجمعة أو يوم العيد قُتِلَ الخطيب ولم يصلِّ الناس الجمعة أو العيد، فإنه لا يصدق قوله؛ لأن الأصل فيه أن ينقل متواتراً وأن يشتهر عند الناس ويستفيض، أو ادعى أن بعض الملوك قتل علانية، وهو في موكبه مثلاً فهذا لا يمكن أن ينقله واحد فقط؛ لأنه يستفيض ويشتهر، أو ادعى أحد أنه بعث نبي بين المسيح ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو جاء بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب مثل القرآن، أو ادعى أحد أن قريشاً أو غيرهم عارضوا القرآن وجاءوا بكتاب يماثل القرآن، أو ادعى أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بحج بيت غير البيت العتيق، أو أوجب صوم شهر غير شهر رمضان، أو أوجب صلاة سادسة وقت الضحى وهكذا فكل هذه لا يمكن أن تسلم للمدعي، لأنها لو حدثت فعلاً لاستفاض نقلها واشتهر أمرها. وفي معرض الرد على النصارى، يرد على طوائف الضلال جميعاً وهذا شأنه رحمه الله، فإنك تذهب لتريد فائدة معينة، وإذا بك تخرج بفوائد عظيمة مركبة. ثم يبين أن أهل العلم بأحوال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطعون بكذب الأحاديث التي فيها الوصية لأحد بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانية بين الناس من دون اشتهار ذلك وتواتره بناء على هذه القواعد العقلية المقررة، والتي هم أهلها وأخبر الناس بها، فمثلاً يقطع من يعلم مغازي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يقاتل في غزوة تبوك وأنه لم يغز العراق ولا اليمن بنفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع، وهكذا؛ فلو أن أحداً أخطأ وروى حديثاً بهذا الشأن فإن العلماء يعلمون قطعاً أن هذا الحديث باطل، ويستدلون به على أحد أمرين: إما أنه أخطأ، وإما أنه تعمد الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهكذا. ثم ذكر أمثلة منها: الحديث المشهور في الوضع {لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل} لما زاد عليه بعضهم (أو جناح) عُلمَ أن هذه اللفظة موضوعة وهكذا، ثم يستطرد في ذكر علوم كثيرة فلا تريد وأنت تقرأ أن تفارق هذا الكتاب أبداً. ثم يستطرد فيصل إلى القضية المهمة -قضية النبوة- فيقول: 'لو قيل: إن مسيلمة الكذاب لم يُقَاتل، لأن النصارى يدعون ذلك ليستشهدوا على أن النبوة قد ظهر من يدعيها، أو الرافضة تقول: إنما قوتل مسيلمة؛ لأنه لم يؤد الزكاة، وهذا رد عليه رحمه الله في منهاج السنة، فهو هنا يرد رداً مجملاً فإنهم لما قالوا: إن الخليفة أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم تجمع الأمة على خلافته، بدليل أن بني حنيفة لم يبايعوه، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: هؤلاء اتبعوا مسيلمة الكذاب الذي ليس من الإسلام في شيء لا هو ولا من آمن معه ولا من اتبعه، فلا يكون قولهم هذا حجة' ثم يستطرد في الكلام عنه وعن الأسود العنسي إلى آخر كلامه في هذا الباب.

دلائل الاستدلال بالخبر

دلائل الاستدلال بالخبر ثم يأتي إلى موضع آخر، وهو يعطينا أيضاً قوة حجته وقواعد عظيمة في فنون كثيرة لا تجدها بهذا الجمع والاتقان والإجمال -كما في هذا الكتاب-، إلا في غيره من كتبه رحمه الله، وهي: معرفة صدق الخبر ولو كان خبراً واحد، وكيف نعرف صدق الخبر وكيف لا نعرفه؛ ليبين أن النصارى يقعون في ضلال كبير بسبب هذا، فيصدقون الكاذب أو يكذبون الصدوق، فيبين أن من يخبر بالخبر قد يكون كاذباً وقد يكون صادقاً، ولا يجزم بأن أحداً صادق مطلقاً ولا أن أحداً كاذب مطلقاً إلا بالقرائن التي تحف به وبخبره وبإفادته له، فيقول: 'الناس يعلمون أن خبر الواحد قد يقوم دليل على صدقه فيعلم أنه صدق وإن كان خبرا واحدا، وقد يقوم الدليل على كذبه، فيعلم أنه كذب وإن كان قد أخبر به ألوف -فالقضية ليست قضية عدد فقط، إنما هي قرائن وموازين عقلية سليمة لا بد منها، ثم يقول: وتلك القرائن والدلائل قد تكون صفاتاً في المخبر من جهة علمه ودينه وتحريه الصدق، بحيث يعلم قطعاً أنه لا يتعمد الكذب -ثم يستطرد ويمثل بعلماء الحديث رضي الله عنهم وأرضاهم، فيقول:- كما يعلم علماء أهل الحديث علماً يقينياً قطعياً أن ابن عمر وعائشة وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأمثالهم، لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضلاً عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلى آخره، بل يعلمون علماً يقينياً بأن الثوري ومالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل والبخاري وأبا زرعة وأبا داود وأمثالهم لا يتعمدون الكذب في الحديث' هذا جانب. والجانب الآخر أنه قد تكون الدلائل هي صفات في المخبَر به أي: في الحقائق التي يخبر بها المخْبِر، التي يُعلم بها أن ذلك المخبر لا يكذب في مثل ذلك الخبر، ويضرب لذلك أمثلة عقلية فيقول: ' كحاجب الأمير إذا قال بحضرته لعسكره: إن الأمير قد أذن لكم بالانصراف، أو أمركم أن تركبوا غداً أو قال: قد أمرَّ عليكم فلاناً ونحو ذلك، فإنهم يعلمون أنه لم يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته، فكيف إذا كان بحضرته؟! وإن كانوا قد يكذبونه في غير هذا، مع أن هذا الحاجب قد يكون كذاباً لكن إذا قال هذا بحضرة الأمير أو الملك أو الخليفة عُلم صدقه كل هذه الدلائل العقلية يركب عليها رحمه الله فيما بعد صدق رسالة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ '.

رده عليهم في احتجاجهم بالمتشابه

رده عليهم في احتجاجهم بالمتشابه ثم يأتي في ضمن إبطاله لحججهم مثلاً: عندما ينقلون نقولاً متشابهة -وهذا ما يسمى الاستدلال بالمتشابه وترك المحكم- واليهود والنصارى والكفار والملحدون وأهل البدع قديماً وحديثاً مشكلتهم الرئيسة هي هذا، لأن كلامهم لو تجرد من الدليل ما قبله أحد، لكنهم يستدلون بمتشابه وبشبهات ويتركون المحكم، فمثلاً ما يقوله النصارى في مواضع: إن الله في المسيح، أو إن الله في قلب فلان مثلاً، يقول شَيْخ الإِسْلامِ: 'هذه لا تقتضي الحلول كما تزعمون -ثم يأتي بتقسيم عقلي عجيب، يقول:- إن وجود الأشياء على أنواع، فالشيء له وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان' أو وجود عيني، ووجود علمي، ووجود رسمي، ووجود لفظي وهذا كلام عجيب ولا بد من شرحه. فالموجود في الأعيان: هو الشيء الخارج، أي الأجسام الخارجة. والموجود في الأذهان: هو تصور هذا الشيء في الذهن. والموجود في اللسان: هو نطقك به، كما تقول لم يرد البخاري فهذا هو الوجود اللفظي، فإذا قلت: البخاري هنا، فأنت تعني أن البخاري مكتوب هنا، فهذا الوجود الرسمي، فيقول: من أي نوع من أنواع الوجود عندما نقول: إن الله في قلب فلان؟ ثم يوضح فيقول: 'ليس وجوداً ذاتياً يقتضي الحلول بل وقع في هذا الحلول النصارى ووقع فيه الصوفية، ويستطرد ويذكر الذين قالوا من الصوفية بكلمات تعني عقيدة الحلول كمثل: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو ما أشبه ذلك من الكفريات الشطحية ' ويقول: 'إنه إذا قيل: إن الله في قلب فلان أو ما في قلب فلان إلا الله قالها بحسن النية، فالمقصود بذلك محبته والإخلاص له والتقرب إليه، وهذا لا يقتضي الوجود الذاتي' وهكذا.

تناقض كتب النصارى وحيل رهبانهم

تناقض كتب النصارى وحيل رهبانهم ومن التحقيقات البديعة التي تجدونها في هذا الكتاب وشهد لها المؤلفون المعاصرون، أنه رحمه الله يقول لبيان تحريف النصارى: 'إن أصح ما عندكم بإجماع أهل الكتاب جميعاً هي التوراة، التي هي الأسفار الخمسة -ثم ما بني عليها على اختلاف كبير فيما بينهم في هذا، يقول:- هذا هو أصح الكتب عند أهل الكتاب نسخة السامرة غير النسخة الموجودة الأخرى، حتى في الكلمات العشر أو الوصايا العشر' وفعلاً الآن توجد كتب محققة عن التوراة السامرية يظهر مخالفتها للتوراة اليهودية المعروفة، وهذا من بديع التحقيق والاطلاع لديه رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ثم يقول: 'وكذلك رأينا في الزبور نسخاً متعددة يخالف بعضها بعضاً مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيراً منها كذب على زبور داود عليه السلام، وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم من الاضطراب في التوراة' ثم يأتي بعد ذلك إلى إكمال الموضوع. أيضاً مما يدل على معرفته للواقع من جهة، واطلاعه على المؤلفات من جهة أخرى، قوله رحمه الله مثلاً: 'وقد صنف بعض الناس مصنفاً في حيل الرهبان، وقد ذكر عجائب منها. أن يجعلوا في الماء زيتاً على المنارة ثم يوقد فيظنون أن الماء انقلب زيتاً'، والحيلة أنهم يجعلون الزيت في الأعلى لأنه يطفو فوق الماء ويصبون الماء، فإذا ظهر في المنارة وقدح فيه أصبح زيتاً، وقالوا: هذا من كرامات العذراء ومن كرامات الراهب، وهذا من الحيل. وذكر من الحيل أيضاً: النخلة التي يقال إنها تصعد إلى الراهب وقد بين أن هذه النخلة مغروسة في سفينة، وأن هناك سداً، فإذا أريد -كما يزعمون- أن تُرى هذه المعجزة: فتح الماء فتعلو السفينة فترتفع النخلة إلى محاذاة الراهب، فإذا أجري الماء نزلت، فيقال: إنها ارتفعت إليه وأكل من جناها ثم هبطت!! وغيرها من أنواع الحيل والمخاريق. ولم يكتف بالحيل عند النصارى، بل يأتي أيضاً بما عند المسلمين، وهذا من عدله رحمه الله، فيذكر أن هذا الشطح وهذا الدجل أيضاً موجود عند الصوفية وأمثالهم، وأن هذه الأحوال الشيطانية والمخاريق البهتانية، يوجد عند أهل الإلحاد المبدلين لدين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها. ثم يتعرض في أثناء كلامه إلى تكلم الجني على لسان المصروع، وأنه يتكلم بكلام لا يعرفه ذلك المصروع ولا يدري عنه؛ لأن المتكلم هو الجني أو الشيطان المتلبس به، وقد يخبر بعض الحاضرين بما في قلبه، ويكون ذلك من الشيطان، فإذا فارق الشيطان ذلك الشخص لم يدر ما قال، وهذا هو الواقع كما ذكر رحمه الله.

سبقه إلى العلوم ونقده لعلم المنطق

سبقه إلى العلوم ونقده لعلم المنطق ثم يأتي إلى تقسيم العلوم، وكيف أن اليونانيين قسموها إلى علوم طبيعية، وعلوم رياضية، وعلوم إلهية أو ما بعد الطبيعة، ثم يقسم العلوم وأحوال الناس فيها فيبين أن العلوم هناك علوم تجريبية، وعلوم عقلية، وعلوم حسية إلى آخر الأنواع التي لم يُسبق رحمه الله إلى تفصيل القول فيها، ولا عرفه الأوروبيون ولا الغربيون إلا في العصر الحديث فقط. وشَيْخ الإِسْلامِ يبين ذلك ويريد منه أن يبطل قولهم في التثليث. أيضاً نقد المنطق، وإن كنت لا أريد الإطالة فيه، لأن كثيراً من الإخوان ربما لا يهمهم ذلك؛ لأنه لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد، لكن في علم المنطق موضوع مهم جداً وهو في التعريفات، ونحتاجه في جميع العلوم، وهو أنهم يفرقون في التعريف بين الذاتي الذي هو جزء الماهية، وبين العرضي اللازم للماهية، فيأتي شَيْخ الإِسْلامِ هنا ويبطل هذا الكلام بحجج عجيبة، ويقول: لا فرق بين هذا وهذا، يقول: 'إن ما يسمى تمام الماهية، والداخل في الماهية، والخارج عنها واللازم لها، يعود عند التحقيق إلى ما يدل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام'. الدلالات الثلاث المعروفة عندنا، فيقول: كل ما يقولونه يرجع إلى هذه الثلاثة، فليست المسألة تمام الماهية أو داخله في الماهية، أو عرض لازم للماهية، ويطيل في هذا وفيه كلام طويل ينقد به المنطق نقداً بديعاً عجيباً؛ ليصل به إلى نقد قولهم في الجوهر، وأن الأقانيم مركبة، وأن الجوهر ذاتي، وكلام في طبيعة المسيح إلى غير ذلك.

رده على من قال بنسخ الجهاد

رده على من قال بنسخ الجهاد ثم يأتي رحمه الله بعد ذلك يناقش قضية مهمة، وهي قول بعض العلماء: إن آيات جدال أهل الكتاب منسوخة بآيات الجهاد، ونحن في هذا الزمن مع هذا الإفك الذي يسمونه الحوار الإسلامي المسيحي الآن يقولون بالعكس، يقولون: لا قتال ولا جهاد، وإنما القضية فقط هي الحوار، أطراف متساوية تتعاون لتحقيق خير البشرية -كما يقولون-، يُقتِّلُون المسلمين في كل مكان، ويريدون أن يخرجوهم من دينهم في كل مكان، ويستغلون جوعهم وفقرهم ومرضهم، وهو أسوأ وأبشع أنواع الاستغلال الإنساني، لإخراجهم من الحق إلى الباطل ومن النور إلى الظلمات، ثم يقولون: حوار بين الأديان من أجل مصلحة الإنسانية. يرد شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله على هذا كالعادة، ولا يكتفي بالقول بأن المجادلة لا تعترض مع المجاهدة، وله في ذلك عدة ردود، بل يستطرد ليبين ما حقيقة النصر، ويعطينا مواضع مفيدة جداً وعظيمة ترد على من ينكر النسخ مطلقاً. كما تعلمون أن بعض الأصوليين ينكر النسخ مطلقاً، والبعض يكثر منه جداً، فهو يأتيك بمواضع محددة هي الأدلة الصحيحة للنسخ وما عداها فهو يحتمل مثلاً.

قاعدة في المناظرة

قاعدة في المناظرة أيضاً في علم المناظرة والمجادلة والبحث وهو من العلوم العظيمة النافعة، ولا سيما والشيخ رحمه الله تعالى يجادلهم، ويقرر قواعد وأصولاً عظيمة نافعة، فمثلاً القاعدة المعروفة عند كثير من الناس، كما ذكر رحمه الله أن النافي لا دليل عليه، يقول الشيخ: لا؛ بل إن النافي للشيء يجب عليه الدليل على ما ينفيه، كما أن المثبت للشيء يجب عليه الدليل على يثبته، وأما ما يحكم بأن النافي ليس عليه دليل، أو التفريق بين العقليات والشرعيات وإيجاب ذلك في العقليات دون الشرعيات، فيقول: هذا خطأ، وهؤلاء اشتبه عليهم النافي بالمانع المطالب. وهناك فرق بين النافي وبين المانع المطالب، فإن من أثبت شيئاً فقال له آخر: أنا لا أعلمه ولا أوافقك عليه ولا أسلم لك حتى تأتي بالدليل، كان هذا مصيباً، ولم يكن على هذا المانع المطالب بالدليل دليل، وإنما الدليل على المثبت بخلاف من نفى ما أثبته غيره فإن عليه بالدليل؛ إلى آخر ما قاله وهو كلام نفيس جداً لا يمكننا الإطالة فيه.

قاعدة تاريخية

قاعدة تاريخية من بديع التحقيق، وهو يدل من ناحية أخرى على تبحره واطلاعه -رحمه الله-: الاطلاع على علم التاريخ والاستدلال به، فعندما يثبت النصارى -وإلى الآن كما تعلمون- ويسمون البابا: الرسول، ويسمون مندوبه: القاصد، ويدَّعون أن أحبارهم رسل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بين حال هؤلاء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34]، وهذا حال أكثرهم كما رأى ذلك سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه في بعضهم، والمقصود أنهم يقولون: إن الرسل المذكورين في سورة يس، هم من رسل المسيح، وأرسلهم المسيح فيقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'لا؛ بل الرسل هؤلاء مرسلون من عند الله ويستدل استدلالاً علميا واضحا بالتاريخ فيقول:- إن الله ذكر بعد ذلك أنه عذبهم وأنه أهلكهم، حتى قال: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:29]، ومعلوم عند الناس أن أهل أنطاكية لم يصبهم ذلك بعد مبعث المسيح لأنهم قد آمنوا به' أي بعد الميلاد لم تدمر أنطاكية. ثم يعقب بعد ذلك بذكر قاعدة عظيمة جداً في التاريخ قل من يتفطن لها من المؤرخين إلا من كان يربط التاريخ بالعلم والإرث النبوي، يقول: 'ومما يبين ذلك أن المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراةلم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب سماوي يعمهم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار' فهذه من قواعد التاريخ التي يجب أن تعلم: أن الله منذ أن أنزل التوراة لم يهلك أمة من الأمم المكذبة برمتها، وإنما فرض الجهاد على أهل هذه الكتب التوراة أو الإنجيل أو القرآن، فهم الذين يجاهدون وليس العذاب من عند الله، وهذا مما يدل عليه قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص:43] فبين الله تعالى أنه أهلك القرون الأولى، ثم أنزل الكتاب، وبعد ذلك لم يهلك قرناً أو أمة بعامة.

الكلام على البينات وعلم اليقين

الكلام على البينات وعلم اليقين وفي موضع آخر يأتي رحمه الله بكلام نفيس قل أن يوجد له نظير، أو أظن أنه لا نظير له في كتب الفقه وهو ما يتعلق بالقضاء والبينات، ومتى تكون البينة على المدعي، ومتى تكون على المدعى عليه، وما الحكم إذا نكل هذا أو حلف هذا، كلام نفيس جداً لكنني لا أريد الإطالة فيه. وفي علم النفس يتعرض رحمه الله إلى الحديث بأن غاية علم الفلاسفة أو ما يسمونه الحكمة العملية هو: أن النفس فيها شهوة وغضب من حيث القوة العملية، ولها نظر من جهة القوة العلمية، ثم يقررون أن كمال الشهوة في العفة وكمال الغضب في الحلم والشجاعة، وكمال القوة النظرية في العلم، وهكذا يكون كلامهم كله في حدود ما يفكرون وما تقترحه عقولهم، فيأتي رحمه الله فيقول: وما ذكروه من العمل متعلق بالندب، لكنهم لم يثبتوا خاصية النفس، ما هي؟ وما هو الذي به تكون حقيقتها وتزكوا وتطهر وتكمل؟ يقول: هو محبة الله وتوحيده؛ فإن كل علم النفس المتجرد عن ربط هذه النفس بخالقها تبارك وتعالى وتوحيده وكمال الذل والخضوع والمحبة له، هو باطل، وهو لغو، وهو إنما يتعرض لأمور خارجية عرضية شكلية مما يمكن أن يعمله الناس. ثم يقول: 'إن محبة الله تبارك وتعالى وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح للنفس وهي عبادة الله وحده لاشريك له، فلا صلاح للنفس ولا كمال لها إلا في ذلك، وبدون ذلك تكون فاسدة لا صلاح لها' ثم يطيل في بسط ذلك رحمه الله.

كلامه رحمه الله في علم الطيران

كلامه رحمه الله في علم الطيران ولعل من طريف ما نختتم به من الأمثلة أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تكلم حتى في علم الطيران، وقد يقول قائل: ما المناسبة بين علم الطيران وكتاب الجواب الصحيح؟ فأقول: إن موضوع رفع المسيح عليه السلام ينكره الفلاسفة، ويقولون: إن الجسم الثقيل لا يمكن أن يرتفع أو يصعد في الفضاء، فيرد عليهم شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله ويقول: 'إن هذا القول ضعيف في غاية الضعف، فإن صعود الأجسام الثقيلة إلى الهواء مما تواترت به الأخبار في أمور متعددة، مثل عرش بلقيس الذي حمل من اليمن إلى الشام في لحظة، عندما قال سليمان: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38] ومثل حمل الريح لسليمان عليه السلام، ومثل حمل قرى قوم لوط ثم إلقاؤها في الهواء، ومثل المسرى إلى بيت المقدس ' وهذا من حكمته -رحمه الله- أنه بدأ بالأمثلة التي يعرفونها؛ لأنه يخاطب كفاراً، وهي في كتبهم، وفي الأخير ذكر مسرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعراجه، وأيضاً لا بد أن يستطرد وأن يصحح العقيدة، فيقول: 'ورجال كثيرون في زماننا وغير زماننا يُحملون من مكان إلى مكان في الهواء -وهو ما تفعله الشياطين مع الصوفية وأشباههم ثم يقول: ومعلوم أن النار والهواء الخفيف تحركه حركة قسرية فيهبط' يذكر قانوناً من قوانين الفيزياء. 'والتراب والماء ثقيلان يحركان حركة قسرية فيصعد، وهذا مما جرت به العادة' ولعل فيما تقدم كفاية من حيث أهمية الكتاب، واشتماله على علوم جمة وموضوعات غزيرة متفرقة، وأصول وقواعد عظيمة في علوم شتى، ولننتقل الآن إلى ما نريد أن نعمله تجاه هذا الكتاب القيم العظيم.

طرح مشروع ترجمة الكتاب وإيضاح خطر التنصير

طرح مشروع ترجمة الكتاب وإيضاح خطر التنصير والفكرة المبدئية هي: أننا نريد أن نترجم هذا الكتاب إلى كل اللغات الحية في العالم، وما ذلك -بإذن الله تعالى- بعزيز ولا صعب المنال إذا خلصت النية -نسأل الله لنا ولكم ذلك- وصحت العزيمة وكان التعاون من إخواننا المسلمين على هذا العمل، ولا نريد الاكتفاء بالترجمة فقط، بل لا بد من الشرح والتعليق والإيضاح؛ لأن كثيراً مما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ يحتاج إلى إيضاح وإلى بسط بلغة العصر، ثم نحتاج إلى ما لا بد منه، وهو الفِرَق التي ظهرت بعد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله من النصارى، فلا بد أن نوضحها ونبين حالها، ونرد على شبهاتها التي ربما لم ترد في هذا الكتاب، وكل ذلك يجب أن ينشر في العالم كله لأسباب لا تخفى على مثلكم. لكن لعلي أن أوجز لكم بعض البواعث التي حركت هذا المشروع الذي أساسه هذا الكتاب: أولاً: أننا ننظر إلى أننا نعيش في مرحلة كتلك المرحلة التي كانت الأمة الإسلامية تعيشها في أيام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، فعندما كتب ذلك الراهب أو الأسقف، وافترى ما افترى نحن الآن نجد الكذب العظيم الذي تتناقله وسائل الإعلام في كل مكان وفي كل آن بمثل هذا القول المفترى الباطل الداحض، والأمة الإسلامية -ولله الحمد- هي الآن في حالة صحوة ويقظة ونهضة كما نهضت في عهد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وكان لها ما كان من مقاومة الصليبيين والتتار بالجهاد بنوعيه: الجهاد بالقرآن، والجهاد في الميدان، فالحال كالحال، وما أشبه الليلة بالبارحة! وما أحوجنا الآن؛ بل الحاجة أعظم وأعظم إلى أن ينشر هذا الكتاب، كما كانت كتبه رحمه الله في تلك الحقبة التاريخية المهمة من حياة وتاريخ الأمة الإسلامية. نحن الآن نعيش هذا التحدي الصليبي المعاصر الذي يريد أن يدمر وجودنا، وأن يسحق كياننا، وألا يبقي لهذه الأمة وجوداً على الإطلاق، يريدون أن يملكوها عقيدة وسياسة واقتصاداً وإعلاماً ومناهجاً وفي كل منحىً من مناحي الحياة، وأن تصبح جزءاً من ممتلكاتهم العريضة، وتصبح تابعاً ذليلاً لهم لا تملك مجرد مقوم من مقومات الذات أو الشعور بالذات، وإنما أجزاء ممزعة ممزقة تابعة للغرب في ظل ما يسمونه بالنظام الدولي الجديد، وهذا التحدي جعلهم يتطاولون على ديننا وعلى رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى هذه البلاد التي يعتبرونها مقر الإسلام الأول، وأنها لا بد أن تدمر ويقام فيها دينهم، فتدمر العقيدة الصحيحة فيها لينتشر فيها دينهم الباطل، ولذلك كانت لهم جهود خاصة لنشر دينهم في هذه البلاد. ومن أشهر ما يجب أن يُذكر أن صومئيل زويمر الخبيث المبشر والمنصر المعروف، والذي كان رئيساً لمؤتمر القدس عام 1906 ثم استقر في البحرين كما تعلمون، وكان يريد في الأصل أن يستقر في جدة، وخطط لإنشاء معهد تنصيري فيها، وذلك لينفذ منه إلى مكة وإلى المدينة، ووضع الخطة لذلك إلا أن الدولة العثمانية وهذا مما يحسب لها من حسناتها لم تكن تسمح بدخول النصارى واليهود جزيرة العرب على الإطلاق، وكل المستشرقين الذين دخلوها، وكتبوا عن الإسلام والمسلمين فيها إنما دخلوا متنكرين كأنهم مسلمون وكأنهم حجاج وهم أفراد قلة، ولم يظفروا في هذه الجزيرة بموضع قدم ولا بإقامة على الإطلاق مدة حكم الدولة العثمانية، ولذلك ذهب إلى البحرين لأنها كانت مستعمرة بريطانية، وأنشأ المركز الذي لا يزال إلى الآن منطلقاً لنشر النصرانية في هذه البلاد الطاهرة. وأحدثكم عن تجربتي أنا، فقد جاءتني باسمي الشخصي وعلى عنواني رسائل تنصيرية، واحدة منها اسمها البذور، تتكلم عن الأناجيل، ويريدون مني أن أدخل في دينهم الحق كما يزعمون، نعم هذا أنا ولا أقوله عن غيري، وجاءت مئات من الرسائل، وجاءت رسالة أخرى ليست بهذا الشكل، ولكنها رسالة للحوار، كتبها أحد الذين درسوا الأديان، وذكر اسمه وولايته وعنوانه وأنه يريد نوعاً من المحاورة والمناظرة، وأثبت أنه يكفر بكثير مما في الأناجيل، وأن لديه شك فيما يعتقده المسلمون في بعض الأمور، ويريد أن نقدم له الرأي -رأي الإسلام كما يقول- في مثل هذه الأمور وهكذا. ولا يخفى عليكم كم تأتي في البريد مما قد يتلف كثير منه فلا يدخل، لكن الذي يصل إلى الإخوة مما يتجاوز الرقابة البريدية، كمٌ من الأناجيل. وكتاب عاصفة الصحراء الذي كتب بعد الحرب الأخيرة بين الغرب والعراق، يريدون بالعاصفة جانباً آخر وهو نشر دينهم، والذي رد عليه الشيخ أحمد ديدات بنفس العنوان. فذكروا بما لا يتسع المقام الآن لشرحه أنهم يطمعون في تنصير أبناء هذه البلاد. ثانياً: الحقيقة التي يجب أن أضيفها هنا وهي أيضاً من البواعث على الترجمة، أنني دعوت الإخوة منذ أكثر من سنتين إلى أن كلاً منا يبدي رأيه في كيفية محاربة التنصير. والحمد لله جمعت لدي رسائل كثيرة، واقتراحات عظيمة ونافعة، ثم جاء أخونا الشيخ سلمان حفظه الله (ولا عطر بعد عروس) فتعرض لهذا الموضوع وقلت له: كنت أريد أن ألقي محاضرة عن صانعي الخيام في نفس الأسابيع وأنا أتحدث عن هذا المشروع، فلما ظهرت أشرطته اكتفيت بذلك، وذلك دون أن ينسق بعضنا مع بعض، أو يكلم بعضنا بعضاً؛ لأن الإحساس بالخطر واحد، ولأن ما يأتي إليه يأتي إليَّ مثله، لأن المسلمين الآن يضجون في هذه البلاد -ولا أقول في غيرها- من هذا الخطر التنصيري الدامي، فجاء الشعور واحداً مشتركاً، فجاءتني عدة اقتراحات وحلول، وكان منها أن نقوم بعمل علمي، إذ نحن لا نستطيع أن نجاهدهم بالسيف، ولا نستطيع أن ننشئ جمعيات ذات الأموال العريضة كما يفعلون، فما الحل إلا أن نجاهدهم بالعلم والبيان، فكان أن اخترت وعزمت -بفضل الله وتوفيقه- على أن نترجم هذا الكتاب.

نشرة أبحاث عن التنصير والمنصرين

نشرة أبحاث عن التنصير والمنصرين هذه النشرة إحدى النشرات التي وزعت وربما رأيتموها، وهي بعنوان: هل تعلم وسأقرؤها عليكم على عجل، وهي من إصدار الندوة العالمية للشباب. عدد النصارى في العالم: مليار وسبعمائة وواحد وعشرين مليوناً. - عدد المنظمات التنصيرية في العالم: أربعة وعشرون ألفاً وخمسمائة وثمانين منظمة هذا قبل ثلاث سنوات وهذه المنظمات بعضها يمتلك مئات الملايين من الدولارات. - عدد المنظمات التنصيرية العاملة في مجال الخدمات: عشرون ألفاً وسبعمائة منظمة تعمل في مجال الخدمات العامة، والطب، والإغاثة، وما أشبه ذلك. - عدد المنظمات التنصيرية التي ترسل منصرين: (يتخرجون من معاهد لاهوتية عليا، ويذهبون للتنصير) ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانين منظمة. - عدد المعاهد التنصيرية التي تخرج القساوسة والدعاة: ثمانية وتسعون ألفاً وسبعمائة وعشرين معهداً!! نحن نفرح والحمد لله أن يوجد مركز في العالم الإسلامي، أو مقر لتحفيظ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو مقر لتحفيظ القرآن أو ما أشبه ذلك، لكن المعاهد عند هؤلاء تقارب مائة ألف معهد، وإذا توقعنا أن يفتحوا في خلال الثلاث السنوات معاهد أخرى، فالمائة ألف تكون رقماً واقعياً، مائة ألف معهد يخرج القساوسة لنشر هذا الدين. سبحان الله العظيم! والله الذي لا إله غيره لولا أن هذا الدين حق لما بقي له قائمة، ولولا أن دينهم باطل لما بقي على ظهر الدنيا إلا نصراني، جهود عظيمة: مائة ألف معهد! وهذه هي المعاهد الثابتة، وأما الدورات الطارئة فإنها لا تحسب! ولهم دورات ولهم جولات وأمور أخرى، لكن هذه فقط هي المعاهد الثابتة. - عدد المنصرين في البلدان الخارجية غير الأصوليين الإنجيليين في أمريكا وأمثالها: مائتان وثلاثة وسبعون ألفاً وسبعمائة وسبعين منصراً، وهؤلاء أيضاً المتفرغون للتنصير!! ونحن نفرح عندما تقوم مؤسسة بكفالة عشرة دعاة! والحمد لله بدأت مؤسسات تقوم هنا في المملكة تكفل عشرة دعاة، أو عشرين داعية يدعون إلى الله، فمثلاً: الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد عندها ثلاثمائة داعية، والرابطة يمكن أن يكون فيها مائتين أو ثلاثمائة، والحمد لله على ذلك. لكن هؤلاء وهم على الباطل عندهم هذه الآلاف، وهذا في الخارج غير الداخل، وهذا في حالة التفرغ الكلي، أما في الإجازات -وهذا شيء يعرفه الإخوة المسلمون- فإنه في أمريكا يمكن أن يسمحوا لأي موظف أمريكي أن يتبرع بسنة أو سنتين أو أكثر للعمل التنصيري الخيري، فيرسل إلى تلك البلاد، وتسهل له كافة الإمكانات، ويظل راتبه وخدمته تمشي في قطاع العمل الذي يعمل فيه كما كان يعمل، ثم يرجع بعد ذلك إلى عمله، بعد أن يقوم بالخدمة التي أراد، وهذا أمر معلوم. وإذا أراد أحد أن يتبرع، فما يتبرع به فإنه يقتطع من الضرائب التي تستحق عليه، وتأخذها الحكومة منه، فسواءً أُعطيت الحكومة ضرائب أو أُعطيت للكنيسة فلا فرق عندهم نظامياً، ولهذا يلجأ الناس إلى أن يدفعوا إلى الكنائس، وسوف نذكر لكم كم يدفعون لها:- - عدد الكتب المؤلفة لأغراض التنصير: اثنان وعشرون ألفاً ومائة كتاب، وهذا بجميع اللغات؛ بل بجميع اللهجات، وقد وزع ورأيته في جدة، فقرأت من الأناجيل بجميع اللهجات، باللهجة المصرية واللبنانية والجزائرية، وغيرها، ومن كثرة تعمقهم ترجم الإنجيل إلى ألف ومائتان لغة، ولم ينتهِ الأمر إلى هذا الحد، بل أخذوا يترجمون إلى اللهجات. المجلات والدوريات والنشرات: ألفان ومائتان وسبعون نشرة ومجلة، وبجميع اللغات، والبعض منها يطبع ملايين النسخ، ولا نقول عشرات الألوف، بل ملايين النسخ إما شهرياً وإما أسبوعياً. - محطات الإذاعة والتلفاز العاملة لأغراض التنصير: ألف وتسعمائة محطة، وبعض هذه المحطات ينشر عبر الأقمار الصناعية إلى مائة بلد أو أكثر. - الوسائل: الكمبيوتر، الأقمار الصناعية، الطائرات!! رأيت فلماً عن التنصير -عجيباً- بالطائرات، يطير مجموعة من الدعاة المنصرين بطائرة خاصة، حتى يقعوا على مكان في الغابة أو في أعلى الجبل فيه أناس من الهنود الحمر مثلاً أو غيرهم، فيأتون إليهم وهم في قذارتهم وعريهم، فيغسلونهم بأيديهم، يغسلونهم بالشامبو والصابون وينظفونهم ويلبسونهم، ويعالجون أمراضهم، ثم يدعونهم إلى النصرانية، فكل الوسائل مهيأة لهم بشكل قد لا نصدقه نحن، مطارات، ومستشفيات، ومطاعم، وأمور عجيبة؛ ومع هذا فإنهم قد يبقون في البلد الواحد عشر سنوات ولا ينصرون شخصاً، تضحيات وجهود مبذولة، مع أن النتائج غريبة في الضآلة، ونحن والحمد لله إذا نشر كلمة أو شريط يسلم أناس كثيرون والحمد لله، ففي الدرس الماضي، عدد الذين أشهروا إسلامهم: أربعة عشر، من عرض بسيط للإخوة قاموا به لهذا الدين، وقد افتتح في المدينة الصناعية في جدة مركز خاص لهؤلاء، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياهم لما يحب ويرضى. - مجموع التبرعات الكنسية لأغراض التنصير: مائة وواحد وخمسون ألف مليون دولار. وإذا قدرنا ميزانية المملكة العربية السعودية بما يعادل خمسة عشر ألف مليون دولار، فمعنى ذلك أنه في عام واحد وفي سنة واحدة فقط يتبرعون للتنصير بما يعادل ميزانية المملكة عشرة أضعاف وأكثر! ونحن إذا فكرنا في إنشاء مشروع، وقلنا هذا المشروع يكلف عشرة ملايين، وضع الناس أيديهم على رءوسهم: من أين لنا ذلك، نعم من أين؟! لكن أقول: هذا المشروع سنعرضه على الأمة ونطرحه عليها، وهي وغيرتها وشيمتها وإيمانها، إنما الذي علينا نحن أن نتقن الترجمة ونقدمها، ثم لا بد أن نطبعها بإذن الله وأن ننشرها، لكن العجيب فعلاً أن تكون مثل هذه المليارات للكفر والباطل ونحن لا نقدم شيئاً لديننا، فيا سبحان الله!!

إنشاء مركز للبحث والترجمة

إنشاء مركز للبحث والترجمة بناء على ما تقدم: قررنا فكرة إنشاء مركز للبحث والترجمة، ويبدأ أول ما يبدأ بتحقيق وترجمة كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ويكون مقره في مدينة جدة، وأهدافه كما رسمت: أولاً: ترجمة ونشر الكتاب إلى اللغات الحية في العالم. ثانياً: تأسيس معلمة أو دائرة معارف فكرية في الأديان والفرق والمذاهب الفكرية المعاصرة، بجميع اللغات أيضاً إن شاء الله. ثالثاً: الرد على الشبهات والافتراءات التي يثيرها المستشرقون والمنصرون التي نستقبلها من جميع أنحاء العالم وبجميع اللغات على المدى البعيد. رابعاً: الدعوة إلى الإسلام وتقديم الخدمات العلمية المتنوعة للداخلين فيه حديثاً. خامساً: متابعة ورصد النشاط التبشيري أو التنصيري في العالم الإسلامي وغيره من الحركات الهدامة. سادساً: إنشاء مركز بالوثائق والمعلومات التي تخدم الدعوة والدعاة. سابعاً: تشجيع البحوث والدراسات، ولا سيما الدراسات العقدية المقارنة. ثامناً: تقديم الاستشارات العلمية في مجال الأديان والفرق والمذاهب الفكرية المعاصرة. وهذا النشاط يشمل ترجمة، ويشمل نشراً وتوزيعاً وإهداء، وأضرب لكم مثلاً: الجامعات الأمريكية والمعاهد تقدر بعشرة آلاف، ونريد بإذن الله تعالى أن نهدي لكل جامعة في أمريكا وأوروبا وغيرها، ما لا يقل عن نسختين إهداء، فضلاً عما قد يكون بسعر التكلفة، لكن لا بد من إهداء وبتجليد فاخر معين، وهذا يقتضي كماً كبيراً من الآلاف، وهذا رقم لا شك تدركون ضخامته، وأيضاً نصدر رسائل تؤخذ من الكتاب أو من غيره ترد على الشبهات وتناقشها، وتنشر أيضاً بجميع اللغات، وتنسيق الاتصال بين المراكز المختلفة التي تُعنى بهذا الشأن، وتوفير المراجع والوثائق للدعاة في كل مكان. وأما البداية وسنة التأسيس فتحتاج الانطلاقة فقط إلى مليون ريال بعد الضغط الشديد والاقتصاد، وإذا أردتم أن أضرب لكم -مثلاً- كم يحتاج طباعة الكتاب باللغة الإنجليزية، ونحن قد بدأنا في هذا والحمد لله، والمترجم أخ أمريكي مسلم، درس اللاهوت في بلاده، ثم هداه الله للإسلام وتعمق فيه والحمد لله، وأصبح يفهم كلام شَيْخ الإِسْلامِ فهماً جيداً، وقد كدت أن آتي به لكن كان الحجز والوقت غير مناسب، والآن بدأنا به باللغة الإنجليزية لنجعلها أصلاً، ثم بعد ذلك يستعين بها من يترجم إلى غيرها مما هو قريب منها من اللغات اللاتينية. إذا أردنا أن نطبع خمسمائة ألف نسخة، وعدد المجلدات ستة مجلدات تقريباً، وتكلفة المجلد الواحد يساوي تقريباً عشرة ريالات، فمعنى ذلك أن ترجمته إلى الإنجليزية فقط، يكلف ثلاثين مليون ريال، وإذا أردنا الإنجليزية والفرنسية فتكون ستين مليون ريال، وقس على ذلك بقية اللغات، وقد عرضنا الموضوع على مشايخنا الكرام، فأيدونا كل التأييد وهذا تأييد سماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله، ومما قاله فيه عن الكتاب: 'والعمل عظيم، ونافع للمسلمين وغيرهم -كما تقدم- والكتاب عظيم ونفعه كبير، والمؤلف معروف لدى العلماء وغيرهم، بإمامته وعلمه الغزير، وقيامه بالرد على طوائف المشركين والمبتدعة -رحمه الله رحمة واسعة- وأسأل الله أن يضاعف لكم المثوبة إنه جواد كريم'. وأيضاً شيخنا: الشيخ محمد العثيمين زكى المشروع وقال: 'قرأت كتابكم المتضمن ترجمة كتاب شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله الجواب الصحيح، ولا شك أن نشر مثل هذا الكتاب فيه فائدتان: إحداهما: دفع الشبهات التي قد يظن بها من يظن من المسلمين، والثانية: بيان الحق لمن أراد الله تعالى هدايته من النصارى إذا قاموا صادقين ونظروا بعين العدل والإنصاف، وهم إذا اهتدوا إلى الإسلام وكانوا من أهله فيرجى أن يؤتوا أجرهم مرتين -ثم يقول:- وأنا أؤيد مشروعكم هذا لما فيه من الخير الكثير والنفع العميم، وفقنا الله وإياكم لما فيه رضاه ونفع عباده' وشكر الله لفضيلته. والحقيقة أن الشيخ محمد هو أول من تبرع نقدياً لهذا المشروع جزاه الله خيراً، وأما سماحة الشيخ عبد العزيز فتعلمون ولا يخفى عليكم أيضاً كرمه، فإنه كتب لبعض التجار ويريد أن يجمع مبالغ تودع لذلك يقدمها لنا، فكتب باسمه رحمه الله إلى عدد من التجار والأعيان والمسؤولين وكل من يرى أن يكتب له؛ ليجمع المبلغ لما رأى أنه بهذه الضخامة، ولا شك أن المشروع يحتاج إلى الجهد العلمي وإلى الجهد المادي، وإلى التعاون من جميع جوانبه من الإخوة الكرام المسلمين في كل مكان.

جهود التنصير في الجزيرة العربية

جهود التنصير في الجزيرة العربية الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم تكن له صاحبة، ولم يكن له شريكٌ في الملك، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجا، وأمره بأن يقول للذين جعلوا لله ولدا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون} [آل عمران:64]. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وحطم الأصنام وقضى على الطواغيت ورفع راية التوحيد, وأعز الله تبارك وتعالى به ملة إبراهيم ودين إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط الذين كانوا جميعاً لا يعبدون إلا الله، ولا يؤمنون إلا بالله وحده لا يجعلون له صاحبة ولا ولدا. ثم أما بعد: فإن الموضوع الذي نريد الحديث عنه في هذا الدرس -نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا في ذلك، وأن يتقبل منا ومنكم- هو تكملة لحلقة تقدمت عن هذا الكتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وما منكم إلا ويعلم أن هذا هو عنوان الكتاب العظيم الذي ألفه وكتبه الشيخ الإمام العلامة المجاهد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية , رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه وجزاه خير الجزاء على ما قدم لهذه الأمة من جهود في كل ميدان من ميادين العلم، وما رفع الله تبارك وتعالى به من رايات الحق، وما نكَّس بكتاباته وبعلمه من رايات الباطل، وهذه هي الحلقة الأخيرة في هذا الموضوع. وإن الموضوع أو المشروع الذي نتحدث عنه في هذا الدرس هو منكم وإليكم, وتعلمون جميعاً أننا قد ذكرنا أكثر من مرة أن كل أخ لديه أي اقتراح أو فكرة لمقاومة التنصير ومجابهته فليتقدم بها, وقد جمعت بالفعل, وقد أفدت منها فائدة عظمى, وأشكر كل أخ بذل جهده وكتب لنا شيئا من ذلك، وأشكركم جميعاً على تعاونكم وعلى غيرتكم في هذا الشأن، وانبثاقاً وانطلاقاً من واقع نعلمه ونشهده هنا من أعمال التنصير وجهوده ومما اقترحتم وكتبتم -وفقكم الله جميعاً- كان هذا المشروع وبرز, وسوف نحدثكم عنه إن شاء الله في آخر المحاضرة.

تحريف الدين النصراني

تحريف الدين النصراني إننا نواجه غزواً فكرياً وسلوكياً عظيماً جداً يقوم به هؤلاء الوثنيون، يدَّعون الإيمان بالمسيح عليه السلام وهم منه براء, وهو منهم بريء يجعلون لله تبارك وتعالى ولدا، ويقولون: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ويقولون: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]. واتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، فهذه العقائد الوثنية المرفوضة، والتي بيَّن علماء الأديان والمؤرخون قديماً وحديثاً أنها ليست من عند الله تبارك وتعالى في شيء وشهد بذلك كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالبحوث جميعاً تُجمِع على أن ما يعتقده هؤلاء هو من بقايا الوثنيات السابقة التي أدخلها عليهم بولس الذي كان يسمى شاؤل اليهودي، فغير الدين الذي جاء به المسيح عليه السلام، ومع ذلك فإنهم مع شركهم ووثنيتهم وإلحادهم وسبهم لله تبارك وتعالى وقولهم فيه ما لم يقله أحد إلا من شابههم من قبل من المشركين الأولين -مع ذلك كله- فإنهم أشد الأمم في الأرض اليوم حرصاً على نشر هذا الدين الباطل. وأعجب من ذلك أنهم أشد ما يكونون نشراً له وحرصاً على تبليغه في بلاد المسلمين، بين المؤمنين الموحدين الذين يشهدون: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهم يريدون هذه البلاد بالذات.

جهود التنصير قديما

جهود التنصير قديماً وأذكر عن جهودهم في تنصير العالم الإسلامي أمثلة عابرة، وسوف ينصب الحديث عن جهودهم في تنصير هذه الجزيرة بالذات، ومدينة جدة على وجه الخصوص، فمتى بدأ هذا العمل؟ من الناحية التاريخية: نجد أطماعهم قديمة للدخول في هذه البلاد، ففي أيام الحروب الصليبية حاولوا ذلك مراراً, وأوضح مثالٍ على ذلك أن إحدى الحملات الصليبية في أيام صلاح الدين رحمه الله استطاعت أن تدخل إلى ميناء ينبع , ومن هنالك اقتحم بعض أفرادها الجبال وتوغلوا فيها، وحاصرهم المسلمون، وأُبيدوا عندما وصلت طائفة منهم قرب مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وكان غرضهم إغاظة المسلمين، بنبش قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإحراق جثته قاتلهم الله وقبحهم، ولكن خيب الله فَأْلَهُمْ وظنهم. ومن هنا انصب اهتمام صلاح الدين رحمه الله على تقوية الموانئ الإسلامية على البحر الأحمر بجانبيه الشرقي والغربي، وينتهي عهده، ويأتي بعد ذلك بأمد عصر المماليك، وتبدأ أوروبا تفكر في الالتفاف حول العالم الإسلامي عن طريق الكشوفات والرحلات التي ابتدأها البرتغاليون، ومن هنا ظهرت لهم فكرة جديدة، وهي الدخول إلى جدة واحتلالها، ومن ثم اقتحام مكة والمدينة. وقد حاول البرتغاليون ذلك في زمن المماليك ثم في زمن الدولة العثمانية، ولكن الدولة العثمانية تصدت لهم، وهذا من أعمالها المشكورة في التاريخ، ولما عرفت هذه الأطماع أعلنت أن البحر الأبيض المتوسط كله بحيرة إسلامية، وأن البحر الأحمر كله بحيرة إسلامية، ومنعت دخول السفن والبواخر النصرانية في البحر الأحمر من أوله إلى آخره، ووسعت ميناء عدن، وجعلته مقراً لاستقبال كل البواخر التي تقدم من أوروبا وغيرها للنصارى، وآخر مدى يمكن أن تصل إليه سفنهم هو ميناء المخا في اليمن جنوب الحديدة، ولا يمكن أن يتعدوا ذلك شمالاً؛ بل يفرغون حمولتهم في سفن إسلامية تحملها إلى جدة أو ينبع أو السويس حتى لا يقربوا البحر الأحمر بتاتاً. وكذلك عملت الدولة العثمانية على ألا يدخلوا الخليج مطلقاً, فبذلك استطاعت أن تحفظ الجزيرة بحرياً، لأنهم لم يستطيعوا في ذلك الحين أن يدخلوها أو ينفذوا إليها. وظل هذا العمل حتى سقطت الدولة العثمانية، وجاء الاستعمار الذي خلفها، وجاءت الحملات الصليبية تحت رايات الاستعمار الجديد, وحينئذٍ عادت إلى أذهانهم فكرة اقتحام هذه الجزيرة، وهذه الأماكن المقدسة، وجاء المُنَصِّر المشهور الذي لا يخفى اسمه على أحد في عالم التنصير والذي باسمه اليوم تسمى كليات ومعاهد في التنصير في أمريكا وغيرها وهو زويمر، فجاء بالفكرة وأحياها، وأراد أن يتخذ من جدة مقراً له في أواخر الدولة العثمانية, وفي ظل الحكم البريطاني الذي كان يدعي المهادنة والمصادقة للدولة العثمانية، فلم يستطع الإقامة في جدة؛ لأن هذه البلاد من طبعها في تلك الأيام أن ترفض كل من لا يدين بالإسلام، ليست الحكومات بل الشعوب، وعلم أن كثيراً ممن جاءوا إلى هذه الجزيرة من قبله قد قتلوا ورجموا, فرجم بعضهم في اليمن , ورجم بعضهم في نجد , ورجم بعضهم في الحجاز، ولم يستطع أحد أن يدخل هذه الديار إلا من تزيَّا بزي المسلمين، وادعى أنه اعتنق الإسلام ودخله, وكثير من هؤلاء دخلوا تحت شعار وستار اكتشاف جزيرة العرب. ولكم أن تقرءوا الكتاب المعروف الذي حققه وأخرجه حمد الجاسر بعنوان (اكتشاف جزيرة العرب) يعتبرون ذلك اكتشافاً، منهم بلجراف وهوجارث، ومنهم كذلك امرأة تدعى جروترد بل وكانت نائبة للمندوب السامي في العراق , وأمثالهم ممن كانوا يجمعون بين الجاسوسية والتنصير تحت شعار التنقيب عن الآثار. وكان زويمر يعلم أن من تقدموه لقوا حتفهم ولاقوا مصيراً غير حسن, فبدأ عمله في البحرين، وقال كلمة مشهورة، قال: 'عن طريق الخليج نستطيع الوصول إلى الحجاز ' فبدأ العمل في البحرين، وأسس هنالك مركزاً للتنصير الذي لا يزال إلى اليوم من أكبر أوكار التنصير في جزيرة العرب، وكانت تحت حكم الإنجليز، فبدأ زويمر هنالك عام (1905م)، ثم عقد في عام (1910م) مؤتمر أدمبره في بريطانيا، وهو مؤتمر ضخم مشهور كبير جداً، وكان من أهم المواضيع التي عقد من أجلها كيفية الدخول إلى الحرمين واقتحامهما، وأعاد زويمر في المؤتمر الفكرة وطرح الموضوع وقال: لا بد من ذلك، واقترح لذلك أن ينشأ تحت الانتداب البريطاني وفي ظله معهداً خاصاً للتنصير في جدة، لأنها كما قال: بوابة مكة والمدينة؛ ولكن المشروع أيضاً تعثر، وكانت الأحداث التي جاءت من بعده وهي الحرب العالمية الثانية جديرة بأن لا يفتح وينفذ هذا المشروع، ولكن العمل استمر في الجانب الآخر -أي في الخليج - فأنشئوا في الكويت وأنشئوا في الموانئ التي تسمى الآن دولة الإمارات مراكز تنصيرية، وكذلك في البصرة في جنوب العراق. فكانت جدة كما ترون هي محط أنظار هؤلاء، ولكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إليها في ذلك الحين، فبقيت لديهم محفوظة في قلوبهم، لكنهم لم يستطيعوا ذلك عملياً إلا عن طريق السفارات أو القنصليات؛ أما الوسيلة التي اتخذوها للتنصير في الخليج، فكانت قوية وفعالة، وكان من أعظم الوسائل في ذلك أنه عندما تفجر النفط في المنطقة الشرقية، جاءت الشركات الأمريكية الأربع، التي وحدت باسم أرامكو. وعندما جاءت أرامكو جاء معها المنصرون والمستشرقون، بل إن الذي أبرم العقد أول الأمر وجاب المنطقة كان مستشرقاً يتكلم اللغة العربية، ودرسها في بلاد الشام مع الإرساليات التنصيرية، فهو من المستشرقين، والشريط الذي توزعه شركة أرامكو عن تاريخها ونشأتها يظهر فيه ذلك بوضوح. ولما نزلت أرامكو بَنَتْ أكبر مستوطنة تنصيرية في العالم، وإلى الآن لا يوجد أكبر منها، وتبلغ مساحتها حوالي 160 كيلو متر مربع، ولها منفذ على البحر، ولا يستطيع أحد أن يدخل إليها إلا من يريدون، وكانوا يمارسون كل شعائر دينهم كما يريدون، ويخططون كما يريدون، ولا أستطرد في ذلك، لكن أذكر لكم مثالاً واحداً مما عملته شركة أرامكو أول ما نزلت، وهو يبين أنها لم تكن مجرد شركة بترول، وذلك أنها أرسلت مندوبيها لجمع المخطوطات، فكانوا يتجولون في المساجد: في المنطقة الشرقية , وفي الرياض , وفي القصيم، وفي مناطق أخرى، حتى جمعوا كل ما وجدوه في المساجد أو عند بعض الأشخاص, وشروا المخطوطات بثمن بخس، وجمعت جميعاً في مكتبة أرامكو في الظهران، وأرسل بعضها إلى مكتبة الكونجرس في أمريكا ولا تزال هنالك، فهي شركة ذات عمل مزدوج، وكان لأتباع زويمر والقائمين على منهجه اليد الطولى في أن تظل مستوطنة كبرى لهم، ينفذون من خلالها إلى الخليج كله، وتحت ستار وشعار البترول، لكنهم يعملون في حذر شديد جداً، وبشكل سري لا بشكل مكشوف؛ لأنها وصية بولس لهم، عندما كانوا في ظل الاضطهاد الروماني، قال لهم بولس في رسائله: 'إذا عجزتم أن تكونوا وعّاظاً، فكونوا من صانعي الخيام' فاذهبوا إلى القرى والأرياف، وكأنكم تصنعون الخيام وتبيعونها، وعظوهم بهذا الدين ومن هنا أصبح المصطلح المشهور عنهم، وهو صانعو الخيام، أو الخيامون. وليست الخيام وحدها، بل أي عمل, أو أي حرفة, أو أي مهنة فهي داخلة تحت وصية بولس، فدخلوا بهذا الاتجاه، ولذلك اسألوا أي موظف من قدماء الموظفين في الشركة، كانوا يحرصون على النصراني، إن كان مصرياً أو سورياً أو ليبياً أو عراقياً قبل أي عربي غير نصراني، حتى في الهند تجد أن كثيراً من موظفي أرامكو الهنود نصارى, رغم أن النصارى في الهند لا يشكلون إلا واحداً بالمائة من السكان، لأنها شركة تنصيرية، ومكتبها في نيودلهي يشترط بأن يكون المتقدم نصرانياً في الدرجة الأولى. كانت هذه هي المركز الوحيد, حتى شاء الله تعالى وجاءت الطفرة الهائلة في هذه البلاد جميعاً, والقفزة العمرانية, والتوسع الكبير في الحياة الدنيا ومباهجها, ومفاتنها، وهي نعمة لا شك والحمد لله على ذلك، لكنها في جانبها الآخر نقمة.

جهود التنصير حديثا

جهود التنصير حديثاً عندما جاء عام (1395هـ) بعد ارتفاع أسعار النفط، وما بعدها من الأعوام، بدأ الناس يتوافدون على هذه البلاد من جميع الأقطار, وفتحت الأبواب على مصراعيها؛ مع أنهم كانوا من قبل كذلك, لكن الانفتاح الكبير إنما حدث بعد هذا التاريخ، وكان أكبر مقر وأكبر مركز لهذا الانفتاح هو مدينة جدة بالذات، فسكنوها بمختلف الأديان والألوان والأجناس، حتى أصبح المسلم غريباً فيها، ولا أحد منكم إلا وهو يذكر ذلك، وإلى الآن هناك أماكن كثيرة من جدة أنت غريب فيها، لكن قبل بضع سنوات كنت إذا مررت في شارع قابل، أو شارع الملك عبد العزيز أو غيرها، ورأيت إنساناً يلبس شماغاً، فإنك تراه غريباً بينهم؛ لأنهم كانوا أكثرية، وجاءوا بتخطيط عميق وبعيد المدى، ومن هناك بدءوا يعملون في أكثر من مجال، لم يعد في إمكاننا أن نحصر المجالات التي بدأ التنصير يعمل أو يشتغل فيها, سواءً على الطريقة المكشوفة, أي: طريقة الدعوة السافرة الصريحة إلى دينهم، أم على طريقة الخيامين التي هي الدعوة المبطنة المتسترة التي تدخل إلى الناس وهم لا يشعرون، والتي من أساسياتها أن يخرج المسلم من دينه، هذه المرحلة الأولى, ثم بعد ذلك يدخل الجيل الثاني أو الثالث في دين النصرانية، لكن الجيل الأول مهمتهم معه أن يخرج من الإسلام وينسلخ منه, ويتزيا بزي الحضارة الغربية ظاهراً وباطناً. وعندما توسع وانتشر هذا أصبح المسلم يحار! وأصبح في غربة! لا يدري كيف يقاوم هذا؟! لا يدري ماذا يفعل بهؤلاء الناس؟! فكثير منا أطرقوا رءوسهم, وقالوا: لا حرج في هذا وكثير لم يهتموا بالموضوع, لأن همهم هو الدنيا، حتى إن البعض إذا قيل له: لِمَ لَمْ تأت بعمال من المسلمين, يقول: يهمني إنجاز العمارة، أو المشروع، والمسلمون يصلون ويعتمرون وهم يتأخرون في العمل, لكن هؤلاء جادون في العمل!! فأهم شيء عند كثير من الناس الدنيا! وأصبحت الدنيا عندهم أعظم من الدين! والعياذ بالله، وصدق فينا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {دينار أحب إلى أحدهم من صلاته} وفعلاً صارت هذه القاعدة في تلك الأيام، ولا يزال لها أثر إلى اليوم، فتوغلوا في كثير من مجالات الحياة قبل أن تفيق الصحوة الإسلامية وتبدأ تمارس بعض المجالات الدعوية التي شهدتموها جميعاً, والحمد لله. وعندما تأتي للدعوة إلى الله في هذا البلد, وقد قرأت في الكتب عن التنصير وأعماله، تفاجئ وأنت ترى هذه الأعمال أمام عينيك مكشوفة وواضحة في قطاعات كثيرة!! حتى إنني فكرت مرة, وقلت: لماذا لا نعرض على الإخوان بعض الإحصائيات عن الشركات التي يديرها نصارى؟ ثم قلت لنفسي: قد نكون بهذا العمل مثل الذي يعد نجوم السماء أو يعد موج البحر! هل أستطيع أن أحصي الشركات في جدة وحدها التي يديرها ويرأسها بالكامل مدراء نصارى، ولا يوظفون إلا نصارى، ويمنعون الشاب المسلم أو العمال المسلمين من الصلاة؟! لا أستطيع ذلك أبداً!! رغم ما جمع لدي من حقائق في هذا، فقلت: لا يمكن أن نستطيع ذلك، ولا نضيع وقت الإخوان بالحديث عنهم, أو ذكر أسمائهم أو أعمالهم أو وظائفهم, لكنها موجودة ومعروفة؛ إنما الذي يمكن في الجملة أن نشير إليه هو أوكار التنصير.

أوكار التنصير

أوكار التنصير فمن أوكار التنصير المستشفيات: وهي كثيرة جداً في جدة كما تعلمون، منها المستشفيات العسكرية, التي تديرها شركات من هؤلاء القوم، ومنها المستشفيات الحكومية العامة، ومنها: المستشفيات والمستوصفات الخاصة. وهذا القطاع من أخطر القطاعات، وأين ما ذهبت فتجدهم فيه ظاهرين، وتجد أعمالهم إن كنت منقباً وكان لديك عينان كما في المثل: من كان له عينان نظر بهما رأيت في كل هذه المستشفيات أعمال التنصير ماثلة للعيان، ولا داعي للتعديد أو للتفصيل، ولعلنا نذكر نموذجاً واحداً وهو الذي تذكرونه في الدرس كما نبهنا عليه، وقلنا: نرجو أن نجد من ينكر لجرأتهم ووقاحتهم، أعني المنصرين فيه، وهو مستشفى الملك عبد العزيز، ولم يحدث شيء من ذلك، فأحببت أن أذكره كمثال فقط: المنصرون -زعماء التنصير- في مستشفى الملك عبد العزيز: 1 - د: صارفو: أخصائي النساء والتوليد: وهو قسيس وداعية للتنصير، وتعرض بدعوته لبعض المسلمين صراحة، فدعاهم إلى الإيمان بـ النصرانية صراحة، وهو يقيم في منزله وبالاشتراك مع أصحابه اجتماعاً تنصيرياً باسم الإخوة، أو الإخوان، يجتمعون فيه لمدارسة شئون التنصير في المستشفى, وفي هذا البلد، يرافقه ويعاونه: 2 - د: بنكولي: أخصائي جراحة الأطفال، وهو يجتمع مع د/ صارفو، وزوجة الدكتور/ بنكولي تحمل على صدرها لافتة مكتوب عليها بالإنجليزية ما معناه: أنا أحب المسيح، وهذه الشعارات تباع في المستشفى ولدينا نماذج منها، وتباع ملصقات في السوبر ماركت أو السوق الصغير في المستشفى، وفيها شعارات ملصقة عن المسيح وما أشبه ذلك، وموجود منها نماذج معي أيضاً. 3 - د: لايث: أخصائي المسالك البولية، انظروا الاختصاصات! توليد، أطفال، مسالك؛ لأنهم يريدون من وراء ذلك شيئاً، ولا أظن أنه يخفىعلى واحد منكم، ما حصل منه في التعقيم الذي ثبت في عدة حالات وفي عدة مستشفيات؛ وهذا الطبيب لايث، كان هو وزوجته في إيران ثم في البحرين، وقد استطاعت زوجته أن تنصر أربعة من المسلمين في البحرين، ثم ذهبوا إلى جنوب إفريقيا، ثم جاءوا إلى جدة، والزوجة نشطة جداً أنشط من الزوج، فأرادت أن تعمل في مدرسة خاصة من أجل أن تنشر هذا الدين، فاستطاعت أن تتعاقد مع دار الحنان، لتدرس اللغة الإنجليزية، المحببة لدى الجميع, والتي يراد أن تكون من الابتدائي, فتحت شعار اللغة تأتي هذه المرأة التي تدعى هيلين، وتدرس في دار الحنان، ومن هنالك بدأت في أعمالها التنصيرية مع الأطفال، حتى إنها تحرص على تعلم اللغة العربية، وإقامة علاقات قوية جداً مع العاملين والعاملات في المدرسة أو في خارجها، وتأتي بأفلام تنصيرية، أو دعاية للتنصير معها، ومن الأطفال الذين تهتم بهم: أسرة إنجليزية مسلمة, يرجع الأطفال إلى أمهم المسلمة, ويسألونها: لماذا لا يوجد عندنا إنجيل مثل كتاب أولاد هيلين؟! ولماذا -يا أماه- ليس عندنا صورة لعائلة الرب مثل هيلين وأبنائها؟!! وهذا دليل على أنها ناجحة ونشطة في عملها هذا، وغير ذلك كثير ولا نطيل بذكر الأمثلة. والمهم أن المستشفيات هي أحد أوكار التنصير، ولهم أكثر من هدف في ذلك، وقد عملوا في عدة مناطق، وثبتت قضايا تعقيم قام بها أطباء أقباط، كما ثبتت أيضاً قضايا أخرى، ومنها محاولة تنصير بعض العوام من سكان المناطق النائية، ولولا أن الله تعالى قدر لتنصرت أسرة مسلمة بأكملها في إحدى المناطق، لا نريد أن نذكرها، وبعضكم يعرفها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيضاً: المدينة الصناعية، وما أدراك ما المدينة الصناعية! - المدينة الصناعية التي في إحدى مصانعها بني مسجد وظل سنتين، والعمال المسلمون بجواره لا يستطيعون أن يصلوا فيه، ولا نسمي لكن القضية معروفة. يوجد بها -كما قيل- عشرون ألفا أو ثمانية عشر ألفاً أكثرهم نصارى، من العمال والمهندسين ومن الخبراء إلى آخره، يسكنون فيها، ويقومون بتنصير من يعيشون معهم من البوذيين وأشباههم، فيأتي البوذي بوذياً ويرجع نصرانياً، واكتشفت عدة شبكات للتنصير في المدينة الصناعية، بعضها إيطالي كاثوليكي، وبعضها يتبع الجمعيات البروتستانتية الأمريكية، وبعضها الأرثوذكسي. من الأوكار أيضاً: - جامعة الملك عبد العزيز , وقد تكلمنا عن هذا الموضوع، وقد وصلتنا الأدلة والإثباتات على ذلك، والمعاملة ذهبت ولا تزال تدور ولا ندري متى تنتهي، لكن هناك حقائق عن أعمال التنصير بين العاملات والعاملين في الجامعة من الفلبينيين وغيرهم، وبكل برود وعدم اكتراث، وعدم اهتمام, يبارك لهم رسمياً بأعياد الميلاد ويهنئون بها، بل ربما يحضر البعض حفلاتهم في ذلك ولا يبالون بشعائر دينهم!! - الخطوط السعودية، وهي وكر من أوكارهم، وأذكر لكم مثالاً واحداً فقط: الخطوط السعودية تعطي إعفاءات للأعمال الخيرية، وهذا شيء طيب في الحقيقة، لكن بعض الطيارين الأمريكان يجمعون من هذه البلاد التبرعات ويحملونها مجاناً في طيارات الخطوط السعودية، فإذا نزلوا في باكستان أو بنجلادش، أوصلوها إلى منظمة تنصيرية تستقبلهم في المطار أو يذهبون إليها، وهذا أيضاً ثابت، وتحدثنا عن هذه القضية فيما مضى، فلا نطيل وإنما قصدنا التمثيل، ويضيق الوقت عن الاستطراد. - المدارس الخاصة -وهذه أمرها عجيب- ففي بعض المدارس الخاصة ثبت لدينا وتواتر أنها تقوم بنشاط تنصيري مكثف، بمدرسات أمريكيات ولبنانيات وغيرهن، وأنهم يقومون جميعاً بأعمال لا منهجية: نشاطات خارج المنهج، ورحلات إلى البحر يومين أو ثلاثة أيام، ورحلات إلى مناطق أخرى، ومن خلالها يربون الأولاد والبنات على الأفكار التنصيرية تدريجياً. كذلك هناك معاهد التدريب، ومعاهد اللغات, ومعاهد الكمبيوتر, إلى آخره, وهي كثيرة. ولدي وثائق وحقائق عن كثير منها، تنتشر في جدة، ويذهب إليها الناس ليتعلموا اللغة العربية، أو الكمبيوتر، أو دورة إدارية، أو ما أشبه ذلك. وإنما يسيرون وفق خطط تنصيرية محددة الأهداف، ومبرمجة تماماً، والمناهج تدل على ذلك، والأسلوب يدل على ذلك، وسلوك المدرسين أو المدرسات يدل على ذلك، وفي النهاية يخرجون بثمرات واضحة ولا شك فيها، ولو لم يكن منها إلا الخطوة الأولى كما يقولون وهي: إخراج المسلم من دينه، ثم بعد ذلك الجيل الآخر يدخل في دينهم، وهنا تلتقي العلمانية والتنصير، أو جهود التغريب وجهود التنصير، فالتغريب خطوة إلى التنصير؛ ولذلك تتعاون المؤسسات والشبكات التنصيرية في جميع أنحاء العالم مع الحكومات, والمستعمرات، ومع وزارات الخارجية، ومع الاستخبارات الغربية؛ لأنهم يعتبرون أن هذا مقدمة لهذا, وأن هذا مصير إلى هذا، وكتاب (التبشير والاستعمار) وإن كان قديماً، لكنه مثال لعملهم الذي تطور فيما بعد وارتقى, وخاصة بعد مؤتمر كولورادوا الشهير الذي أصدر الكتاب المترجم الذي رأيتموه, الكتاب الضخم والذي لا بد أنكم اطلعتم عليه، ولديهم مؤتمر ضخم سيعقدونه بعد حوالي ثلاثة أشهر أو أربعة، لإتمام ما عقدوا من قبل. - كذلك الأسواق والتجارة: وهي من أهم المنافذ التي ينفذون منها فهم خبثاء جداً، يهمهم أن يرتفع شعار الصليب على المباني, والرخام، وعلى صدور الشباب في الملابس, وعلى صدور النساء، في حِلق الأذان, وفي الأقلام، وفي أي شيء، صورة المسيح المصلوب كما يزعمون، أو على الأقل الصليب وحده, يهمهم أن تنتشر في كل مكان؛ لأن هذا يهيئ الأذهان للتنصير مستقبلاً. وكذلك عن طريق الوكالات التجارية, وعن طريق البضائع, وعن طريق كثير من هذه المنافذ يدخلون أيضاً إلى عقول المسلمين ولا سيما المرأة.

الأوساط التي يعشعش فيها التنصير

الأوساط التي يعشعش فيها التنصير وللتنصير مجالات كثيرة فمنها:

النساء

النساء المجمعات السكنية: وكما تلاحظون في جدة مجمعات ضخمة, لا يدخلها أحد غيرهم, وهم يريدون ذلك، فمن خلال الباب لا يدخل أحد, وأما في الداخل فإنهم يفعلون كل شيء, حتى التنصير, حتى المخدرات, وكل أنواع الفساد، والذي يُدخلونه ممن يثقون فيه، فيدخل ويشاركهم في مثل هذه الأمور والعياذ بالله، وهي مجمعات كثيرة، بعضها تسمى قرية, وبعضها يسمى مجمع إلى آخر ما تعلمون، وهي في أماكن كثيرة من جدة، لا يتسع الوقت لحصرها. وأضرب لكم مثلاً على دخولهم إلى عالم المرأة, لأنهم يعلمون أن كل امرأة تحتاج إلى الطبيخ, لأنه عمل النساء, خاصة في مجتمعنا هذا -والحمد لله- وأي بيت يريد أن يطبخ, فإنه لا بد له أن يحتاج إلى الزيت، وعن طريق زيت عافية -كما يسمونه- أرادوا أن يدخلوا إلى أسرار البيوت التي لا يعرفها أحد، فأنا وأنت لا نقدر أن نعرف ما اسم زوجة جارنا في الشقة, وما عملها, وكم عمرها, لكنهم وعن طريق نشرات بعنوان (عالم عافية للسيدات) التي وزعوها, ونشروها، استطاعوا أن يعرفوا الاسم, والعمر, والعنوان، والعمل, والهواية, ثم بعد التعرف تبدأ لقاءات في مطعم كذا أو في فندق كذا، ثم بعد ذلك الحديث عن التسريحات, وعن الأصباغ, وعن الفنون, ثم بعد ذلك القيام بالرحلات للخارج, وهنالك تستقبل عن طريق المنصرات, وهكذا! عمل بطيء ولكنه أكيد المفعول لإفساد المرأة المسلمة.

الأطفال

الأطفال أما كيف يدخلون عالم الأطفال؟ فمن خلال هذا المثال -وسأضرب صفحاً عن الأمثلة المتعلقة بكبار السن، وكتب المرتدين التي توزع وأتكلم فقط عما يعملوه للأطفال- أحد أعمالهم هذه المجلة التي تسمى الأشبال. مجلة الأشبال هذه, إذا تأملتها فإن أول ما تجد في الداخل، هو اسم الجلالة, كما هو مكتوب عادة عندنا في المساجد، فتظن أنها مجلة إسلامية، وكلمة (الأشبال): كلمة عربية, فتقول: هذه مجلة لأطفال المسلمين، ثم إذا بدأت تقرأ فيها تجد الموضوعات الأولى تتحدث عن خلق الله, وعن حياة النمل, وكيف يمكن للطفل أن يقوم ببعض التجارب مع النمل، فهي مسلية ومضحكة، فينجذب الطفل لمتابعة هذه المجلة، ثم بعد ذلك ينتقل إلى موضوع عن الصداقة والأصدقاء، وتقول: هذه الفقرة يحتاجها الشباب، ثم يتحدث عن قصة طويلة تشرح موضوع الغيرة بين الأطفال، وهذا موجود بين الشباب في العلاقات، هذا يصاحب هذا وهذا يعارض هذا، ثم يختتمون فقرات المجلة بقولهم: إن كلمة خالدة من كتاب الله الكريم فانتبهوا إلى قولهم: من كتاب الله الكريم، وما قالوا: الإنجيل، فأي طفل يقرأ هذا الكلام فسيظن أنه في القرآن، وكم رأينا من أناس يقولون: قال الله, ثم يأتي أحياناً بحكمة، ويأتي أحياناً بحديث! ويقول قال الله، فكيف بالأطفال؟! يقول: 'إن كلمة خالدة من كتاب الله الكريم، تنفعك لمثل هذه الظروف، من يكثر الأصحاب يخرب نفسه, ولكن يوجد صديق أقرب من الأخ, إن اسم هذا الصديق هو عيسى' ولا يقولون: هو ابن مريم, بل يكتفون بكلمة (عيسى) فيتساءل هذا الطفل عن عيسى هذا, من هو؟ من هذا الذي هو أقرب إليّ من جميع أصدقائي؟ وإذا سأل والديه فليس لهم وقت يرشدونه فيه. وقد يفتح إذاعة أحياناً, كإذاعة مونتكارلو، ساعة الإصلاح، فإذا بها تتحدث أن عيسى هو الذي صلب من أجلنا, وخلصنا, وأنقذنا، فيتذكر أن هذا هو الذي يجب علي أن أصاحبه. وهكذا, والمهم أنهم أثاروا في ذهنه قضية مهمة من خلال أصدقائك الذين تغار منهم أو يغارون منك. وبعد ذلك يكتب عن موضوع (إنه حيران) موضوع الحيرة وكيف يمكن أن تحل حيرته، ثم يأتي بقصة، والقصة كما تعلمون مصورة كعادة مجلات الأطفال، ويبتدئون كتابتها بخط كبير. فيقولون فيها: 'ذات مرة جاء واحد من علماء الدين -لاحظوا أنه لم يقل راهب أو قسيس كما هو في أصل القصة- إلى عيسى -وأيضاً ما قال ابن مريم-. وسأله: يا معلم, ماذا أعمل لكي تكون حياة الخلود من نصيبي؟ فأجابه عيسى: أحب الله, وقريبك. لكن هذا الرجل عاد وسأل: من هو قريبي؟ ' فأخبره عيسى بهذه القصة. ثم يأتون بقصة، تصور وتشرح على أنها حكاية بين عالم الدين وبين عيسى، وهي قصة تنصيرية، غايتها وخلاصتها الرحمة والشفقة بالفقراء والضعفاء. ثم بعد ذلك يعرضون في مجلة حقائق عن بلادنا: البلد: جمهورية موريتانيا الإسلامية الموقع: , اللغات: إلخ. ثم يقول: في القرن الثامن الميلادي فتحها العرب، وفي سنة (1902م) أصبحت مستعمرة فرنسية، ثم حصلت على استقلالها سنة (1960م)، إذاً يقول: العرب فاتحون ومستعمرون، ولا نجد للإسلام أي ذكر. بعد ذلك نجد -وهذا هو بيت القصيد- صور الأطفال الذين يراسلون هذه المجلة، وبعضهم لم يرسل الصور، والأطفال هم من المغرب، والسودان والجزائر، ومصر، وتونس، ونيجيريا، والأردن، وسوريا، واليمن، وعُمان، والسعودية، والكويت. فيراسلونهم وتنشر صورهم هاهنا، وفي الأخير يكتبون إعلاناً مهماً مضمونه: أننا نعرف أن الكثيرين من أصدقائك سوف يتمتعون ويستفيدون إذا حصلوا على مجلة الأشبال، وأنت تستطيع مساعدتهم بالحصول عليها بواسطة إرسال خمسة أسماء من أصدقائك إلينا، مع عناوينهم وأعمارهم وصورهم إذا استطعت، ثم يرسلونها إليهم على عناوينهم، ولا يدري الطفل من أين جاءت إليه، وتأتيه بالمجان، ثم بعد ذلك يقولون له: هل لديك أية مشكلة؟ أو تفتش عن حل؟ نحن بعون الله تعالى وحده نعينك على هذا فاكتب لنا, ونحن نعينك على الحل أيضاً. ويعرضون -أيضاً- في المجلة كلمة (لأشبالنا): 'تستطيع أن تتعلم الكثير عن الصداقة الحقيقية من خلال سيرة سيدنا عيسى المسيح' الآن بدأت كلمة سيدنا المسيح! في آخر المجلة!! في الأول: مذكور "عيسى" فقط وثم رجل دين، أو واعظ يعظ رجال الدين، بعدها سيدنا عيسى المسيح، وهنا يضع لك مبادئ ونقاطاً معينة، كيف تستخرج الصداقة والعلاقة منها، لكن من خلال سيرة سيدنا عيسى المسيح، وهنا بعض المبادئ عن الصداقة يمكنك أن تتعلمها من سيرته العطرة، ثم يذكر لك المثال. وحقيقة إننا نريد أن نُذكر بأنواع وألوان هذا الغزو الذي تغلغل في عقول أطفالنا, ونسائنا, وصغارنا, وكبارنا, ونحن لا نعلم.

جنسيات المنصرين

جنسيات المنصرين قد تقولون: ما جنسيات هؤلاء المنصرين؟، أقول لكم: هم من كل الجنسيات.

العرب اللبنانيون والأقباط

العرب اللبنانيون والأقباط وهم من أخبث أنواعهم، لأن كثيراً منا لا يفطن لهم، فإذا رآه يسلم عليه أو يكلمه ظن أنه مسلم, وهو نصراني: إما من الأقباط, وإما من اللبنانيين المارون، وهم من أخبث الطوائف، لأنهم يتغلغلون عند الكبراء، وعند التجار الكبار، وعند المسؤولين، ويتغلغلون بوسائل كثيرة جداً, منها المشروع, ومنها غير المشروع، ولا يبالون ولا يتورعون، فلو أتيت بواحد منهم وهو لا يملك ديناراً واحداً, ثم أتيته بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، تجده قد ملك السيارة الفاخرة، والعمارة و، ما تدري من أين جاءوا بها، فيهم نوع من الذكاء والشيطنة والدهاء، ولا شك أنهم يتعاونون في هذا، وهؤلاء يجتمعون، ومثال على ذلك: اللبنانيون مثلاً يجتمعون، وتأتيهم الأشرطة, وتأتيهم الأفلام من بيروت، ويقيمون القُدَّاسات, ويحتفلون, ويصنعون ذلك في أكثر من مبنى من مباني الشركات وغيرها، وهذا أيضاً موجود بالوثائق.

الأوربيون والغربيون

الأوربيون والغربيون وهؤلاء يتغلغلون في معظم الإدارات, وينفذون إلى الناس من خلال كونهم غربيين، فالإنسان الغربي لا يمس، وذاته مصونة مقدسة، ولا يستطيع أحد أن ينتقده، ولا يستطيع أحد في الطريق أن يفتشه، ولا يستطيع أحد أن يوقفه ولا يسأله، بل مجرد أن يُرى الدم الأحمر والشعر الأشقر فلا يُكلم، ولا يقال له: من أين جئت؟ ولا ماذا فعلت؟ ولا ماذا تصنع؟ الثقة المطلقة فيهم، وهم ينفذون في المجتمع من خلال هذا الأمر، ويفعلون ما يشاءون. فأنشئوا نوادٍ خاصة للرجال، ونوادٍ للسيدات، ويقيمون رحلات في الإدارات التي يعملون فيها مع الموظفين وغيرهم إلى الأماكن التي يريدون؛ مثلاً: والرحلات تنطلق من جدة إلى خيبر وتنطلق من جدة إلى وادي فاطمة، وإلى الطائف، يفعلون كل شيء ولا يبالون. ومن خلالهم لا يكون تنصير فقط، بل هناك رصد أيضاً لهذا المجتمع, ولمعرفة مكامن القوة فيه واتجاهاته. وما الكلمات التي تكتب في الصحافة الغربية عن هذه البلاد والصحوة فيها، والأصوليون وما إلى ذلك إلا من آثار هؤلاء الذين بيننا، ونحن لا نعلم ولا ندري عنهم شيئاً، ولا يفتشون في دخول ولا خروج؛ فكل الوسائل لديهم متوفرة وممكنة!

الكوريون والفلبينيون وغيرهم

الكوريون والفلبينيون وغيرهم وقد تعجبون من كوريا التي ما دخلها الدين النصراني إلا من قريب، أن يكون منها منصرون يعملون في هذه البلاد لتنصير إخوانهم الكوريين وغيرهم. وطبعة الإنجيل الكبيرة التي توزع في إفريقيا وغيرها بالملايين، هي طبعة كورية، طبعها النصارى الكوريون بدعم من المؤسسات التنصيرية. وهناك حركة تنصيرية مضادة، ولها نشاط كبير في جدة مع الفلبينيين الذين أسلموا، تهاجمهم من أجل إرجاعهم إلى الدين الذي كانوا عليه. بين السرلانكيين وغيرهم، فكل هذه الشعوب، يوجد بينها من يريد أن يردها عن الإسلام إلى النصرانية، أو يثبتهم على دينهم إن كانوا نصارى، أما إذا كانوا بوذيين أو غير ذلك، فهؤلاء من أسهل ما يكون أن يُدْعَوا إلى النصرانية في هذه البلاد. ولعل هناك جوانب أخرى لا نستطيع الإطالة فيها، لأترك لكم المجال في الحقيقة، بعد أن نعرض المشروع بإيجاز للتساؤل عن المشروع بالذات.

من وسائل التنصير

من وسائل التنصير إن للتنصير وسائل عدة منها:

توزيع النشرات التبشيرية

توزيع النشرات التبشيرية أرسلوا نشرات إلى بعض المدارس المتوسطة، كباراً وصغاراً، وذلك غير ما يتلف في البريد، ولا شك أن في البريد وفي المنافذ أخوة مخلصين، ويتلفون الكثير من ذلك، لكن هذا الذي يتسرب، ومن جملتها: نشرة بعنوان (شهادة القرآن)، وهذه وزعت أيام وجودهم هنا أيام الحرب. ومنها نشرة تقول: في دعايتها للإنجيل: 'إن الإنجيل هو كلمة الله التي لم تتغير -وهذا من الكذب على الله, ثم يقولون:- إن الإنجيل قد ترجم إلى أكثر من ألف وأربع مائة لغة'. ومن ذلك أنه ترجم داخل اللغة الواحدة إلى عدة لهجات -وقد قرأنا ذلك في درس سابق- ترجم باللهجة المصرية، واللهجة اللبنانية, ولهجة بدوية للبدو، وترجموه إلى جميع اللهجات حتى يقربوه إلى أفهام الناس, ثم يقولون في الدعاية: ' الرب أعطانا كلمته بدون ثمن, ونحن المسيحيين نحب أن نعطيها أصدقاءنا المسلمين بدون ثمن -ثم يقولون:- وما عليك إلا أن تعبئ البطاقة وتأتيك الأشرطة مجاناً' لأنهم كما أخذوها بغير ثمن يعطونها بغير ثمن!!

الطعن في الدين واستخدام البث المباشر

الطعن في الدين واستخدام البث المباشر وهكذا فعلوا ويفعلون, وأذكر مثالاً على هذا, وقد أوردناه لكم أبو فيليب هذا عاش هنا وكان من زمرة الخيَّامين, فلما رجع إلى أمريكا كتب. يقول: 'أكثر ما آلمني في السعودية أننا نرى ملايين من الناس يذهبون إلى أماكن العبادة يومياً عدة مرات, ولكنهم -للأسف- يعبدون الله على ضلال' يتحرق قلب أبو فيليب أننا لا نعبد الله كما يعبدونه, ويريد أن نشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا, ويريد أن نجعل له صاحبه ولداً, ونجعل له شريكاً! ويعجب الواحد منا من شدة حرقتهم على ذلك، وهذا الكلام إذا قرأه الإنسان الأمريكي -وهو من أسذج الشعوب- يتأثر كثيراً, وتظل هذه القضية في حسه, ويقول: فعلاً لماذا لا أتبرع؟. ونتيجة ذلك تكون هذه التبرعات مبالغ خيالية, وقد ذكرنا أن مجموع التبرعات -كما نشر ذلك في مصدر تنصيري موثوق- مائة وواحد وخمسون ألف مليون دولار, جمعتها الكنيسة في سنة واحدة، أي ما يعادل ميزانية المملكة عشر سنوات، ولذلك يستفيدون من هذه الأموال فائدة كبيرة جداً. ونذكر لكم مثالاً واحداً من أمثلة إفادتهم من هذه الأموال ضد هذه البلاد: عندما بدأ البث المصري يصل إلى جدة أو خطط له لكي يصل إلى جدة , قالوا: لا بد أن نستفيد من هذا البث لإدخال النصرانية إلى جدة وهذا كان قبل البث المباشر. فأقاموا شركة تنصيرية في يوليو 1998م كما نشرت جريدة المسلمين بأنه بدأت في القاهرة الخطوة الأولى لمشروع تنصيري مشترك بين الفاتيكان والتلفاز المصري حول إنتاج مسلسل معاني القرآن الكريم، وهذه الفكرة خبيثة بحيث لا يستطيع أحد أن ينكر عليهم ذلك. وأيضاً قالوا: هذه البلاد متدينة، وأفضل شيء يجعلها تقبل عليه هو عن القرآن، فعملوا على إنتاج مسلسل معاني القرآن الكريم بالرسوم المتحركة التي تجذب عقول ملايين الأطفال, وتقوم بإنتاجه إحدى شركات النشر الكاثوليكية التي يقوم بالإشراف عليها مجموعة من القساوسة، وتخضع للإشراف المباشر من قبل أضخم مؤسسة تنصيرية في العالم وهي الفاتيكان. وعهدت الشركة الكاثوليكية بالأعمال التي تتم في القاهرة لشركة مصرية وضعت تحت تصرفها (21. 000. 000) دولاراً لإعداد الفيلم. وتخيل شركة مصرية تعطى مبدئيا مبلغ واحد وعشرين مليون دولار. ينفقون من سعة هائلة، ولا بد أن يكون مثل هذا العمل مما تتنافس وتتسابق عليه الشركات المصرية لكي تظهره في أروع وأبدع ما يمكن بغض النظر هل هو ضد الدين أو معه، وتعلمون أن تجارة الفنانين هي الدعارة والفساد والانحلال والإلحاد، فكيف إذا جاءت هذه المبالغ الخيالية في عمل مبدئي, وربما إذا انتهى تكون ضعف ذلك المبلغ, وذلك مقابل حلقات تعرض -ستة وعشرين حلقة- فما بالك بالجهود المستمرة للجامعات التي تعد بالمئات والآلاف في إفريقيا وغيرها، وللمراكز التنصيرية التعليمية, وللمستشفيات التي تقطع العالم ذهاباً وإياباً.

التخطيط والكيد لبلاد الإسلام

التخطيط والكيد لبلاد الإسلام عندهم خطة -وهذه البلاد من جملة ما تشمله الخطة- وهي خطة التنصير عام (2000م) نادى بها البابا عندما زار غرب إفريقيا في عام (1412هـ) في شعبان, وأقيم له أكبر قداس في الإستاد الرياضي وهو الملعب الذي أقيمت فيه بطولة إفريقيا , وجاء النصارى وأتباعهم من جميع دول غرب إفريقيا , ونقلت تلك المقابلات بالأقمار الصناعية إلى أنحاء العالم، ليس كشيخ من شيوخ الإسلام لا يدري به أحد, لا في التلفاز ولا في الإذاعة, بل ينقل بالأقمار الصناعية؛ ينقل هذا الكاهن الأكبر للوثنية البوليسية التي تنتسب إلى المسيح وهو بريء منها, وهناك أعلن أنه في عام (2000) ستكون إفريقيا نصرانية، وكذا إندونيسيا وقد لا يتم بالكامل, لكن المقصود أن إندونيسيا تعتبر هدفاً كبيراً لهم, لأن عدد سكانها يقارب المائتين مليون, وكذلك نيجيريا تعتبر هدفاً كبيراً لتنصيرها لأنها أكبر دولة إفريقية، وكذلك أفغانستان وباكستان وبنجلادش كلها لها برامج خاصة للغاية، لأنها تعيش أوضاع حروب, وفتن, وفيضانات, وكوارث, ومآسٍ, فهذه من أسهل ما يمكن أن ينصِّروها، وعندما أتى الداعية الشيخ: أحمد ديدات , رأيت نماذج من الرسائل التي ألفها باكستانيون مرتدون -والعياذ بالله- وعندي نماذج منها وفيها يقول: إنه كان في ظلام, وكان في حيرة, وكان يذهب إلى المسجد فلا يجد الحقيقة، وكان يسأل علماء الدين فيتهربون منه -اختلاقات من عنده- ولما تعرف على دين النصارى, فدخل فيه وآمن اطمأن قلبه, وينشرون هذا بجميع اللغات, ومنها اللغة العربية، وهكذا يريدون أن يزينوا للناس، كذلك في كل البلاد التي لا نستطيع أن نحصرها, والمقصود أن لديهم أعمالاً هائلة, منها ما أشرنا إليه في هذه الإشارات العابرة. ونقول: وماذا بعد هذا الطوفان؟ وماذا بعد هذا المد الهائل؟ وماذا بعد هذه الجهود التي نجدها في كل شارع، وفي كل شركة، وفي كل مكان؟! وماذا بعد هذا الموج العاتم, وهذا التيار الهائل الذي سينصب علينا من الأقمار الصناعية فيما بعد؟! وما هو موقفنا من ذلك؟ هل سنظل نقول: قاتلهم الله, ولعنهم الله, لقد فعلوا كذا, وعملوا كذا، ونظل نخطب؟! هذا لا يعفينا أمام الله عز وجل, وإن كانت التوعية بهذا في المنابر والخطب مفيدة, وهي ضرورية ومقدمة للعمل, لكن لا نكتفي بالمقدمة, بل لا بد أن نعمل وأن نواجه هذه الجهود بشيء مهما قل، حتى لو تخلت هذه الأمة -ولن تتخلى عن دينها- فلا بد أن يقوم لله تعالى من يقوم بإعلاء كلمة الدين، وأن يعمل أي عمل لمواجهة هؤلاء المجرمين، ونحن لا نعمل لأنفسنا, بل نعمل لله عز وجل, ولذلك نحن نثق بنصر الله، ولم تنجح جهودهم الهائلة والضخمة, لأنهم يعملون لغير الله، وإلا لو كانوا على الحق, لما بقي على ظهر الأرض أحد إلا دخل دينهم، إذ من الذي يملك هذه الوسائل؟! حتى الطائرات, وكذلك المطارات يملكونها في كثير من بلاد العالم!!

مواجهة التنصير

مواجهة التنصير لقد عزمنا على أن نقوم بعمل يقاوم جهود المنصرين، واسترشدنا بمشورتكم وبآرائكم وباقتراحاتكم الكثيرة، وتوصلنا إلى هذا المشروع، وهذه هي فكرته ببساطه: هي أنه لا بد من عمل ما، ونحن لا نستطيع أن نفتح مستشفيات, أو مطارات, أو جامعات, لا نستطيع إلا في حدود ما أعطانا الله, وهو أن ننشر العلم الصحيح والعقيدة الصحيحة, ونرد شبه هؤلاء بالرد العلمي، الذي هو مجالنا وبضاعتنا الوحيدة. فكّرت في هذا مع بعض الإخوة الأفاضل -جزاهم الله خيرا- وقلنا: ولم لا يكون ذلك, ولم لا تكون البداية في ترجمة ذلك الكتاب العظيم الذي كتبه شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله, عندما رأى بدايات محاولات التنصير، وهو كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.

ترجمة كتاب الجواب الصحيح

ترجمة كتاب الجواب الصحيح إن خير ما نبدأ به في هذا المشروع هو ترجمة كتاب شَيْخ الإِسْلامِ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح فيترجم إلى كل اللغات, ولا يكفي أن يكتب ويعلق عليه باللغة العربية، نحن الآن في عالم متشابك لا تكفي لغة واحدة ولا حتى الإنجليزية أو الألمانية أو غيرها، لأنها لا تكفي إلا طبقة مثقفة, فلابد أن يترجم هذا الكتاب إلى جميع اللغات. وقد عرضت هذا الموضوع على علمائنا الأفاضل جزاهم الله خيراً, ولقد قابلوه بكل ترحاب, ومنهم سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز , ومحمد العثيمين , وعبد الله الجبرين , وكل العلماء، ولقد سرهم هذا العمل، وجعلوا من أنفسهم القدوة في تأييد هذا المشروع ودعمه والتبرع له؛ فحقيقة إن أول من أيده وأول من كتب عنه هم هؤلاء العلماء الأجلاء بارك الله فيهم ووفقهم وجزاهم عنا كل خير وبدعائهم وبتشجيعهم, وبتشجيعكم نرجو أن يستمر هذا العمل وأن ينجح بعون الله تبارك وتعالى, وأن تكون ترجمة الكتاب نواةً لأعمال أخرى.

توزيع النشرات العقدية

توزيع النشرات العقدية ومن المقترحات المهمة أن تستخلص منه نشرات عن التثليث والتنصير, وكل القضايا العقدية المهمة, وتوزع بجميع اللغات, تهدى أو تباع بسعر التكلفة إذا عجزنا من الناحية المالية, كل هذا ضمن خطة معينة مرسومة والحمد لله. وبين يدي الآن هذه الدراسة -دراسة تكاليف المشروع- وربما أكون قد أشرت إليها في المحاضرات السابقة إشارات مجملة، فلا أريد أن أكررها الآن, إنما أقول: إن هذه بداية وخطوة إن شاء الله لتكوين مركز صغير للترجمة، ترجمة الكتاب وتلك النشرات المتفرعة عنه إن شاء الله.

تعاون الدعاة وتفعيل الأنشطة الدعوية في بلاد النصارى

تعاون الدعاة وتفعيل الأنشطة الدعوية في بلاد النصارى ثم بعد ذلك يكون لنا في كل بلاد العالم من يتعاون معنا -وهذا موجود والحمد لله- من إخواننا المسلمين في كل مكان, ولا يوجد بلاد في أي مكان حتى البلاد الغربية إلا ولنا إخوة مسلمون، لديهم مراكز دعوية, ولديهم أنشطة, يريدون كتباً، ونحن نرسل إليهم ونمدهم ونساعدهم, فيكون هذا التواصل بين المسلمين من أجل مقاومة هذا العدو الشرس، الذي يريد أن يقضي علينا جميعاً، فيكون هذا المركز الصغير، أو المشروع الصغير نواة التعاون بين المسلمين في هذا الجانب, أعني: جانب مقاومة التنصير ورصده، ومتابعة تحركات أصحابه وأتباعه رصداً علمياً بعيداً عن العاطفة والانفعال، ورد الشبهات رداً علمياً بأقوى الحجج، وفي المحاضرة الأولى تحدثت عن قيمة الكتاب وأهميته وتبحره, وهذا أظنه لا يحتاج إلى إعادة، ولا تحتاجون إلى ذكره لأنكم تعلمون من هو شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، ونحن كما قال ابن القيم رحمه الله قال: 'نحن من بحره نغترف' فنحن نغترف من بحره, ونبسط عباراته, ونزيد إضافات لما حدث من فتن وضلالات وبدع وفرق جديدة عندهم, ونتمم ما عمله رحمه الله، ثم ننشره إن شاء الله بجميع اللغات. وما يقف في سبيل هذا المشروع هو عقبتان: الأولى: هي الناحية المادية، والثانية: هي الناحية العلمية، والحمد لله قد توفر لنا من الناحية العلمية أخ أمريكي هداه الله تعالى للإسلام, وكان قد درس دينهم وتعمق فيه, ويعرف بعضاً من لغاته الأساسية، بالإضافة إلى إتقانه اللغات الإنجليزية، والحمد لله أنه قد أثبت كفاءة في فهمه للكتاب ودقته في ذلك, وقد بدأ في الترجمة، وهذه اللغة الإنجليزية نجعلها أساساً ثانياً مع اللغة العربية لدى من يترجم إلى اللغات الأوروبية، أما اللغات الإسلامية مثل الهوسا والأوردو والتركية والفارسية، فهذه الترجمة إليها من العربية ليس فيها إشكال كبير والحمد لله لأنها سهلة، وقد استعد كثير من الإخوة للتعاون معنا في المجال العلمي: تنقيح المصطلحات, وتخريج الأحاديث والروايات؛ فنحن نعمل سوياً مع إخوة متخصصين في اللغات والأديان. الجانب الآخر: هو الجانب المادي, وأقول لكم: إنه جانب مكلف كثيراً، حتى إن سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز عندما قلت له: قد يكلف ثلاثين مليوناً، على أساس أن تكلفة المجلد الواحد مثلاً عشرة ريالات، وعدد مجلدات الكتاب ستة مجلدات, ونحتاج أن نترجم خمسمائة ألف نسخة فقط, فتبلغ التكلفة الإجمالية ثلاثون مليون ريال, فقال الشيخ: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قلنا: سنفعل ما بوسعنا ثم نضعه للأمة، ونأمل إن شاء الله أملاً كبيراً جداً في غيرة هذه الأمة, وفي حرصها على دينها، وفي مقاومتها لهؤلاء الأعداء، فيمكن أن يغطى هذا الجانب بوسائل وبأسباب كثيرة ليس هذا مجالها. وليس المقصود من هذه المحاضرة أن نجمع التبرعات، وإنما المقصود أن نعلن لكم عن الفكرة، وأن نبين لكم المشروع وأهميته، وليس المقصود أن نقول لكم: نجمع شيئاً من المال اليوم أو غداً ثم نمضي!! لا فهذا عمل متكامل، ويحتاج إلى جهود مستمرة، فنريد من كل أخ منكم أن يعد نفسه جندياً للإسلام، إن رأيت أي نشرة تنصيرية فأرسل بها، إن سمعت أي خبر عن التنصير في جريدة أو مجلة فاكتبه، أو وجدت شبهة من شبهاتهم فاجمعها، أو حصل لك مبلغ مادي أو لديك تاجر يفعل خيراً فقل له: تعال يا أخي، أتتبرع لـ منظمة اليونسيف؟! أتتبرع لنادٍ من النوادي؟! أتتبرع لبطولة القارات؟! وعندنا مشاريع إسلامية مهمة جداً وضرورية جداً لا بد منها؟ فتدل على الخير، والدال على الخير كفاعله. على كل حال أرجو أن أكون قد وفيت بشيء مما أردته، والمشروع حقيقة لا مجاملة فيها هو منكم وإليكم ومن أفكاركم واقتراحاتكم جزاكم الله خيراً، وإن كان كثير منكم من خارج جدة، وخاصة من المنطقة الشرقية والرياض والقصيم، بل والله من أمريكا وصلت رسائل ومكالمات، كل واحد من المسلمين ممن لا نعرفه، يقول: أنا مستعد لأي عمل، ماذا تريدون أن أفعل، أنا مستعد ونحن نعلم أن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى قيام الساعة, ونعلم أن الذي ينقص هذه الأمة هو من يفتح لها الطريق، من يريها كيف تعمل، وإلا فهي مستعدة لأن تجاهد، وتبذل كل شيء، لكن الذي ران على عقولها وقلوبها من الشهوات والشبهات والتخدير الإعلامي والتضليل الذي يمارس ضدها فكرياً من قبل أعدائها هو الذي جعلها كذلك، وإلا فالحمد لله ما من مسلم إلا ولديه من الغيرة على دينه بحيث لو استطاع أن يقدم روحه لقدمها، بشرط أن تنجلي عنه هذه الغشاوة، ويعلم أنه جندي من جنود الله عز وجل، وتابع من أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وأن هؤلاء الوثنيين والمشركين والمجرمين الذين يسعون لإطفاء نور الله يريدون أن ينتزعوا إيمانه وعقيدته من قلبه وعقيدة أبنائه من بعده، وهذه هي التي نعلق عليها الأمل في إنجاح هذا المشروع, إن شاء الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

اقتراح تلخيص وترجمة كتاب الجواب الصحيح

اقتراح تلخيص وترجمة كتاب الجواب الصحيح Q يقول: لو قمتم بتلخيص كتاب شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله ليتسنى لعامة المسلمين معرفة دين النصارى ومنهجهم والرد عليهم، وأظن أن هذا العمل من أحسن الطرق لمقاومة التنصير، وكذلك نقترح ترجمة هذا الكتاب إلى اللغات الأخرى. A يضم إلى الاقتراحات الموجودة.

دور المدرسين في فضح اليهود والنصارى للطلاب

دور المدرسين في فضح اليهود والنصارى للطلاب Q يقول: فضيلة الشيخ: أهمية ترسيخ عداوة اليهود والنصارى للمسلمين وعداوتهم لنا كما بينها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا في القرآن الكريم، هذه من الأهمية بمكان، وفي الآونة الأخيرة هناك محاولة لطمس مثل هذا في المناهج الدراسية، فما هو دور المدرسين لترسيخ ذلك لدى الناشئة؟ A أقول: أولاً: إن المنهج يجب أن يتضمن ذلك، فإن لم يتضمنه أو حذف منه، -كما بلغنا ورأينا- فالواجب أن يتدارك أولاً المنهج ليصحح ويعود، بل يضاف إليه الآن مثلما يضيفون من العداوات، فنضيف نحن زيادة تكافئ ذلك في المنهج. وثانياً: يعوض ذلك ويكثف في المحاضرات والمواعظ والدروس العلمية وبكل وسيلة إعلامية ممكنة؛ فإن قضية الولاء والبراء من أعظم القضايا، وهي من أهم الأمور التي تعاني منها الأمة الآن، وتحتاج إلى معرفة عداوة هؤلاء -من أهل الكتاب- لنا.

بعض الكتب الإسلامية المترجمة

بعض الكتب الإسلامية المترجمة Q ما هي الكتب أو الكتيبات التي هي مكتوبة بغير اللغة العربية والتي تصلح لدعوة النصارى أو غير المسلمين عموماً؟ A هذه كثيرة والحمد لله، ويوجد بفضل الله تعالى الآن ترجمات طيبة وصحيحة المعتقد يترجمها أخوة فضلاء منهم الأخ أبو أمين بلال فلبس الموجود في الرياض، وأيضاً كتاب التوحيد ترجمه إسماعيل فاورقي رحمه الله، وبعض الكتب التي ترجمها بعض المسلمين في أمريكا، والحمد لله في الفترة الأخيرة أخذت تنحو المنحى السلفي الواضح والعقيدة المتميزة، ونحن إن شاء الله من جملة الأعمال التي نسعى إليها ضمن هذا المشروع الكبير ترجمة مثل هذه الكتب، أو تصحيح ما فيها من أخطاء وأيضاً إعادة طبعها، وعمل الدعاية اللازمة لها، وإيجاد مكاتب دعوة الجاليات وأمثالها.

معنى التعميد عند النصارى

معنى التعميد عند النصارى Q يقول: فضيلة الشيخ نسمع كثيراً عن التعميد، ولكننا لا نعرف معناه، وإنما الذي نعرفه أنه من طقوس النصارى، أفيدونا أفادكم الله؟ A التعميد عند النصارى هو: أن يُغمس المولود أو الداخل في دينهم في الماء إيذاناً بدخوله في هذا الدين، ويقولون: إن يوحنا الذي هو يحيى عليه السلام قد عَمَّد المسيح عليه السلام، وأصبح ذلك سُنَّة وعادة عندهم، وكلما احتاجوا إلى ذلك أو ولد لهم مولود حسب طقوسهم فإنهم يغمسونه، بأن يأتي القسيس ويغمس ذلك الرجل في الماء ويقرأ بعض الأوراد والأذكار المعينة عندهم، ويكون بذلك قد عُمّد، فأصبح هذا إيذاناً بدخوله في الدين، أو بالتزامه به بعد أن كان تاركاً لبعض شعائره. وبهذه المناسبة أقول وهذا ما قرره شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في مواضع، وهو معلوم من الواقع: أن الكفار يختلفون في شرائعهم اختلافاً عظيماً جداً، تختلف طوائفهم في شرائعهم، مثلما ما تختلف في عقائدهم، ويقول ابن القيم رحمه الله: 'لو التقى عشرة من النصارى وسئلوا عن عقيدتهم، لافترقوا على أحد عشر قولاً' من كثرة خلافاتهم، أما في الشريعة فأيضاً الخلاف شديد وعظيم، والشرائع الثابتة في التوراة والأناجيل مغيرة ومنسوخة، ومبدلة، حتى القبلة، وحتى الصيام، وحتى كيفية الصلاة مغيرة ومنسوخة، بعمل بولس وأتباعه، وبالنسبة للماء فالظاهر أنه أي ماء؛ لكن قد يكون عندهم بعض المياه المفضلة.

نصيحة لمن يريد حذف بعض المقررات الدراسية الهامة

نصيحة لمن يريد حذف بعض المقررات الدراسية الهامة Q ما رأيكم في حذف موضوع الحروب الصليبية من منهج السنة الثانية المتوسط في مادة التاريخ، باعتبار حديثكم عن النصارى، ولذلك نريد توجيه كلمة وتبيين ذلك لمن يقوم في خدمة التعليم وفقكم الله؟ A حقيقة بلغني هذا واطلعت بنفسي على المناهج ورأيت ذلك وقلت أحد أمرين، إما أن يكون قد نُقِل إلى مرحلة أعلى، وهذا من باب حسن الظن، ونرجو أن يكون كذلك، أو يوجد من أهل الغيرة من يقول في وزارة المعارف: إن الحروب الصليبية هي خطيرة وعظيمة وإنها تحتاج إلى بسط وإلى إفاضة، فتوسع وتنقل إلى سنة أخرى، وإن كان هذا الاحتمال قد لا يرجح، لكن نرجو أن يكون موجوداً. وأما الاحتمال الآخر فهو أن تكون حذفت لئلا تجرح مشاعر اليهود والنصارى، لأنه هذا ربما يؤثر فيهم أو يغضب بعضهم، كما منعت فتوى بعض العلماء، وقيل: إنها قد تجرح مشاعرهم!! فيكون هذا جزء من إبعاد هذه الأمة عن عقيدة الولاء والبراء، سواءٌ كان القائم بذلك يعلم أو لا يعلم، فالحاصل في النهاية أن هذه الأمة يرسم لها مخطط إجرامي خبيث، لكي تبعد عن عقيدة الولاء والبراء، فتوالي أعداء الله، وتعادي أولياء الله بأسماء خداعة كالسلام العالمي، والإنسانية، والمحبة لشعوب العالم، كما سمعناها منذ يومين في لقاء القارات أو دوري القارات وأمثالة، ويقولون: إن الأعداء هم الأصوليون والمتطرفون وإلى آخر العبارات، نرجو ألا يكون الأمر بالاحتمال الأخير؛ لكن على كلٍ فالأمر لا يخرج عن هذين الاحتمالين.

أحوال الدعاة المرسلين إلى البوسنة والهرسك

أحوال الدعاة المرسلين إلى البوسنة والهرسك Q يقول: أرجو منك الكلام عن أخبار مشروعكم المتميز الذي قمتم فيه باختيار الدعاة وإرسالهم للبوسنة والهرسك لينشروا العقيدة ويفقهوا في الدين؟ A الحقيقة أنه ليس متميزاً، وإنما هو مشروع عادي أو فكرة عادية جداً، والإخوة يتطوعون بالذهاب وتحسب المدة لهم، وطبعاً ليسوا دعاة متفرغين كالمنصرين بالملايين أو بمئات الآلاف، ولا عندنا أيضاً من يتفرغ لمدة سنة براتبه؛ بل بعض الإخوة يقول: لا أستطيع أكثر من عشرة أيام، فتكفل بعض المحسنين أثابهم الله بالتذاكر والإخوة بالذهاب، وبعض الجمعيات هنالك: كجمعية الوقف، والمنتدى، ومؤسسة الحرمين، تكفلت بترتيب أمور الدعاة، فكان التعاون من أطراف عدة، وليس لنا فيه كبير فضل، ولكن فوائده عظيمة ولله الحمد والفضل والمنة، وأثمرت ثمرة كبيرة جداً رغم ضعف الجهود وقلتها، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبارك فيها. وقلت للإخوان الكرام الذين رجعوا: لو لم يكن إلا أنكم رأيتم ما رأيتم، وقد رأو المنصرين من أمريكا، وألمانيا، والسويد وغيرها يأتون لتنصير المسلمين ويأخذون أطفال المسلمين وهم ينظرون، وبعض الإخوة كتب كتابات مبكية، وبعضهم تأثر تأثراً بالغاً جداً حتى إن حياتهم قد تغيرت، لما رأوا ما آلمهم من الحرقة على هذا الدين، يقول أحدهم: أنا أتكلم مع المسلمين وأشرح لهم التوحيد أو الصلاة، ويأتي الراهب الأمريكي بموز وبحلوى، وإذا بهم يذهبون من الجوع -وخاصة الأطفال- إليه، ثم يحملهم في الحافلات إلى الكنيسة، وأنا واقف أتكلم! فكيف يكون شعور المسلم؟! وأحداث أخرى، يطول المقام لو ذكرناها. فمما أفدناه فعلاً هو أن نعرف خطر هؤلاء الأعداء، وأنهم مهما أظهروا ومهما قالوا، فإن الأمر كما قال الله تبارك وتعالى في حقهم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] يُرِيدُونَ أَنْ يطفئوا نُورَ اللَّه بأفواههم وبتنصيرهم كما ذكر الله تبارك وتعالى: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ونرجوا أن يتحقق فيهم قول الله {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ونرجوا أن يكون لهذا المشروع أثره الطيب، وأن يحتذى بمثله، وقد سبقنا في هذه المنطقة الطيبة إلى شيء من هذا وأكثر إن شاء الله.

أقسام النصارى في القديم والحديث

أقسام النصارى في القديم والحديث Q وهذا يقول: المعروف أن النصارى ثلاث فرق: الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، فهل هذا التقسيم موجود في كتاب ابن تيمية أم حصل بعده؟ A هذا من الأسئلة المهمة جداً؛ لأن من أهم الأعمال التي نحن نريد الآن أن نحققها، أنك لا تجد هذا التقسيم، ومن قرأ إغاثة اللهفان، أو هداية الحيارى، فإنه لاحظ الأقسام الموجودة في القديم التي يقسمها علماؤنا وهم الملكية، والنسطورية، واليعقوبية. فهذه الأسماء والمصطلحات تختلف عن الثلاث الفرق المعاصرة الآن، وربما تكون هذه الثلاثة من طائفة واحدة، وهي طائفة الأرثوذكس، وقد يكون بعضهم كاثوليك، وهذه من الأشياء التي نريد أن نحققها إن شاء الله. أما البروتستانتية فهي لم تظهر إلا بعد شَيْخ الإِسْلامِ، فلم يكتب عنها، وهي أخطر أنواع التنصير، وهي التي تشكل ما يقارب ستين في المائة من نصارى الولايات المتحدة الأمريكية، ومعظم الأصوليين الإنجيليين هم من هذه الفئة الخبيثة الخطيرة، وهذا مما نريد أن نوضحه بإذن الله في تعليقنا على الكتاب.

معاملة النصارى

معاملة النصارى Q وهذا يقول: ما رأيكم فيمن يضايق النصارى في الطرقات، ويقول بأن ذلك من السنة؟ A لا شك أن الأصل في معاملتهم هو هذا، وأن يضطروا إلى أضيق الطريق، لكن نحن الآن ننظر من زاوية أخرى، لا أعني في هذه البلاد، فالأصل في هذه البلاد ألا يكون فيها نصارى مطلقاً؛ لكن كل ما يتعلق بالهجر أو الزجر لأهل الكتاب أو المبتدعة، فهو يندرج تحت القاعدة العامة والأصل العام في المصالح والمفاسد، فالشروط العمرية مثلاً التي تضمنها كتاب ابن القيم رحمه الله المشهور المعروف أحكام أهل الذمة، وشرحها فيه، هذه في حالة قوة المسلمين، كما كان في عهد عمر رضي الله عنه، والخلفاء من بعده، أما في حالة الضعف فتقتضي الحكمة نوعاً من التلطف بهم واللين معهم والترفق بهم، فهذا أيضاً وارد؛ فلا نقتصر على نوع واحد من المعاملة، وهذا قد يحصل في حق القسيس المعادي المخالف، ولكن ربما كان لدى البعض منهم، عملاً منفراً منا ومن ديننا، وهذا له تفصيل قد لا يتسع له المقام.

فتح حساب للمشروع

فتح حساب للمشروع Q كيف يمكننا أن نوصل التبرعات إليكم، وهل لكم أن تدلونا على كيفية إيصال التبرعات لهذا المشروع، وهل بالإمكان فتح حساب؟ A فُتِحَ حساب للمشروع في فرع شركة الراجحي المطار برقم (5848) لأنه أقرب, ويمكن فتح آخر إن شاء الله، وحجم الكتاب أربعة أجزاء في مجلدين كبيرين، ومع الشرح والتعليق والإضافات والمقدمة، سيكون ستة مجلدات، هكذا المتوقع إن شاء الله.

معنى اتحاد الناسوت واللاهوت

معنى اتحاد الناسوت واللاهوت Q كرر الشيخ رحمه الله قوله: اتحاد الناسوت واللاهوت، فماذا يقصد بذلك؟ A الناسوت واللاهوت عند النصارى جزء من عقيدتهم. وسأوجز لكم عقيدة النصارى، فأقول: لا يجتمع النصارى مهما كثروا في العالم، وهم كما يقولون: إن أكثر الأديان هو دينهم من ناحية العدد، ولكن لا يجمعهم إلا شيء واحد، وهو أن المسيح هو رأسهم الذي ينتسبون إليه. ثم بعد ذلك يختلفون في كل شيء: في العقيدة وفي الشريعة وفي الأحكام، إلا ما حرفه بولس من دينهم فإنهم أجمعوا عليه، وهو استحلال الخنزير وترك الطهارة وتعليق الصلبان, وكلها محرمة في دينهم وفي شريعتهم، فالصليبيون كلهم في العالم، الذي يجمعهم هو تعظيم المسيح نوعاً ما -وكل واحد له تعظيم، هذا يقول: إله، وهذا يقول: ابن إله- وأنه يرفع الصليب، وأنه يأكل الخنزير والميتة ولا يتطهر، أما ما عدا ذلك فالخلافات بينهم على أشد ما يمكن، حتى معنى اللاهوت ومعنى الناسوت. فمعنى اللاهوت: هو الجزء الإلهي من طبيعة المسيح، والناسوت الجانب الإنساني، فمثلاً يقولون عندما خاطب المسيح البحر, وقال: اسكن، كان الجانب اللاهوتي هو الذي يعمل، عندما يقول للميت: قم، هذا الجانب اللاهوتي، لكن لما صلب بزعمهم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] وقال: يا إلهي لماذا تركتني؟! كان يتكلم الجانب الناسوتي، وهذا من الخرافات، فهو مرة إله يأمر وينهى، ومرة يشكو إلى الإله أنه تركه! تعالى الله عما يشركون وعما يصفون!

كتاب هداية الحيارى وفكرة ترجمته

كتاب هداية الحيارى وفكرة ترجمته Q ما رأيكم أن يترجم كتاب ابن القيم (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)؟ A العمل إن شاء الله سيكون كبيراً جداً, ونحن سوف نترجم هذا الكتاب -إن شاء الله- وغيره، وأيضاً كتاب السموأل الذي كان نصرانياً ثم أسلم. وكذلك بعض المخطوطات، التي حققت منها نحن نترجمها، والتي لم تحقق سوف نعمل على أن تحقق ثم تترجم ثم تطبع، ثم يستخرج من مجموعات هذه الكتب: دائرة معارف، ومن خلال المادة التي تبحث عنها تعرف كل شيء عن هذه الأديان والمذاهب والفرق، وبجميع اللغات نسأل الله أن ييسر ذلك.

إنشاء هيئة مركزية لمحاربة التنصير

إنشاء هيئة مركزية لمحاربة التنصير Q يقول أحد الإخوة: لماذا لا تكون هناك هيئة خاصة لمحاربة التنصير، وتكون على شكل منظمة تهتم بأحوال المسلمين، وتعمل على تقليص جهود المنصرين، هذه الهيئة تكون لها قيادة مركزية، على غرار ما تفعله الكنيسة، التي تتخذ من الفاتيكان مقراً لها؟ A هذا الاقتراح عظيم, ونرجو من الأخ الكريم -ومنكم جميعاً- أن تتقدموا بمثل هذه الاقتراحات إلى سماحة الشيخ عبد العزيز أو إلى رابطة العالم الإسلامي مثلاً، لعله يوجد شيء من هذا، وتكون هذه الجهود الفردية نواة أو جزء من هذا العمل الكبير الذي تتمنونه جميعاً.

أسباب تقاعس المسلمين عن الإنفاق والبذل

أسباب تقاعس المسلمين عن الإنفاق والبذل Q ينفق النصارى الملايين في سبيل نشر عقيدتهم الباطلة، بينما يبخل العديد من المسلمين بدفع الأموال في سبيل نشر عقيدة التوحيد؛ ففي رأيكم ما هي أسباب ذلك؟ A كما أشرت السبب هو تخدير إعلامي، وتضليل فكري، وغفلة، وإلا لو أوقظت القلوب والمشاعر الإيمانية فلسوف ترى العجب العجاب، حتى ممن لا تظن أنه يدفع، وهذا شيء مجرب.

تدريب شباب الصحوة للدعوة

تدريب شباب الصحوة للدعوة Q لماذا لا يكون هناك معاهد تدريبية لشباب الصحوة المتمكن من اللغة الانجليزية، للدعوة المضادة لمثل هؤلاء النصارى، والمناظرة معهم حتى يسلموا؟ A في الحقيقة الأخ الكريم أشار إلى جانب مهم نحن لا نستطيعه وهو الجانب التدريبي، أو التعليمي، والذي نستطيعه هو الجانب العلمي أن نقرأ ونشرح ونفسر ونترجم فقط، والجانب التدريبي مهم جداً، لكن المؤسسة الخيرية للدعوة، وهي من مهماتها ومن برامجها جانب التدريب، وهم إخوة نشطاء, ونسأل الله تعالى أن يوفقهم، ونحن وهم نتكامل في هذا الأمر، ولا بد أنكم تعرفونها ولا تخفى عليكم، هنا في جدة موجودة والحمد لله، ونرجو أن تقدم لها هذه الاقتراحات, ونحن مستعدون للمشاركة في محاضرات أو غيرها، أنا أو الإخوة العاملون معي، مستعدون أن نشارك الإخوة في المؤسسة، فكلنا هدفنا واحد، ومسعانا واحد، لكن هم لديهم جوانب تدريبية وتعليمية، أما نحن فهي جوانب علمية بحتة.

دور المسلمين عامة في مجابهة التنصير

دور المسلمين عامة في مجابهة التنصير Q ما دورنا نحن الذين لا نملك قوة الإنكار عليهم في المستشفيات وغيرها، ولا نملك اللغة الانجليزية؟ A يا أخي كل مسلم له دور, لو لم يكن من دورك إلا أن تكتب عنهم وماذا يفعلون، أن يروا منك أنك حريص وغيور على دينك، وأنهم لو فعلوا شيئا ضد دينك فإنك تغضب عليهم ولو بالعين، ولو ببعض العبارات، ويعرفون من وجهك -ولو لم تتكلم- أنك غيور على الإسلام، ثم في إمكانك شيء آخر وعظيم وهو الدعاء! ندعوا الله أن يخذلهم، وأن يدمرهم، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، ويجعل تدبيرهم تدميرهم. وفي الجانب الآخر ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفق جهود المخلصين الذين يقاومونهم، وهذا الشيء يستطيعه: العجوز والشيخ الكبير، والمقعد، والمريض، والفقير، وكل واحد منا يستطيعه، وهو أمر عظيم، ونحن إنما ننصر ونرزق بضعفائنا، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

علاج مشكلة التنصير

علاج مشكلة التنصير Q يقول الأخ: هل يمكن التزويد بأسماء الشركات وعدد العاملين فيها، من غير المسلمين؟ A نعم يمكن ذلك, وكل أخ يستطيع أن يعطينا فليتقدم وليتفضل -جزاه الله خيراً- ونحن نتعاون ومع الإخوان في مكتب الجاليات، ومع الإخوان في المؤسسات الخيرية، ومع مركز الدعوة، وكلنا جنود لهذا الدين، كلنا دعاة، من أجل أن نعرف حجم العمالة والدين الذي تدين به، وبالتالي نوجه لهم الدعاة، أو النشرات، بحسب اللغة، وبحسب الدين الذي يدينون به في هذه الشركات، ولاشك أن العلاج الأساس والأصلي، الذي لا نتجاوزه أبداً هو ما أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغيرهم أولى منهم، فهذا هو الحل، وكل الحلول الأخرى جزئية وغير مكتملة؛ لأنها مخالفة، لأن بقاءهم في هذه البلاد المطهرة مخالف لما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} فهذه بلاد التوحيد لا يجوز أن يدخلوها، ولم يدخلوها ولم يستوطنوها في تاريخهم كله، إلا في ظل هذه الطفرة المادية من البترول فصاعداً، وإلا قبل ذلك -كما أشرت- ما كانوا يحلمون أن يقيموا فيها أبداً إلا قناصل، بل حتى القناصل من شدة حرص المسلمين ومن خوف الكافرين كان القنصل الروسي مسلماً والقنصل البريطاني في بعض الأحيان مسلماً ولو بالاسم، لأنهم يعلمون أن هذه البلاد لا يمكن أن يكون فيها إلا المسلم، والله المستعان على هذه الأحوال الأخيرة.

دعوة النصارى أفضل حل لمشكلة التنصير

دعوة النصارى أفضل حل لمشكلة التنصير Q إن الهجوم أفضل أساليب الدفاع؛ فلماذا لا نأخذ بذلك؟ A وهذا لا شك فيه، وقد أهديت أحد النصارى في العام كتيب الدين الصحيح بالإنجليزية، وقد بدأ يسألني وأنا لا أعرف لغته ووعدته أن أنقله إلى مركز ثقافي أو مكتبة إسلامية، ولكني لا أعرف أين هذه المكتبات أو المراكز الثقافية، وقد جاءتني فكرة لماذا لا توجد باصات، تنقل هؤلاء إلى تلك المراكز لتعرفهم على الإسلام، ولو قلنا لهم رحلة ترفيهية، والتعرف على الإسلام، فكثير منهم مستعد، المهم أن الأخ يشير إلى جانب آخر, وهو جانب الهجوم، وفعلاً لماذا لا ندعوهم في بلادنا بحكم أننا غُلِبنا وقد أقاموا بيننا؟! ومن الوسائل التي ذكرها الأخ ما هو جدير بالاعتناء ففعلاً: لماذا لا نفكر في ذلك، وخاصة أنهم يعيشون في الغالب في مجمعات سكنية, كـ المدينة الصناعية. فيمكن أن تهيأ لهم وسائل نقل لحضور محاضرة معينة، أو تهيأ لهم رحلة، أو أي عمل من شأنه أن يكون وسيلة لأن ننقل إليهم حقائق هذا الدين.

مجادلة الكفار ومجالدتهم

مجادلة الكفار ومجالدتهم Q كيف يمكن التوفيق بين قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] وبين قوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]؟ A هذا الموضوع أحد الموضوعات التي أجاب عليها شَيْخ الإِسْلامِ في الكتاب، فلا تعارض بين المجادلة والمجالدة، لأن من جادلناه فأبى أن يقتنع، فالحل هو المجاهدة والمجالدة بالسيوف، فنحن نخاطب النصارى أفراداً ونخاطبهم أمماً، فالأمم تدعى إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، أما الفرد فلا تقاتله، ولا يرغم، ولا يكره الواحد منهم على اعتناق ديننا، ولكن يرغم على دفع الجزية، أو يسلم طواعية واختياراً, فهو إما أن يرتبط بأحكام أهل الذمة، فيدفع الجزية، ويكون ضمن أهل الذمة المقيمين في بلاد الإسلام، أو يسلم طواعية، فإن كان حربياً فلا يعيش بيننا.

استخدام القنوات في محاربة المنصرين

استخدام القنوات في محاربة المنصرين Q هل بالإمكان استخدام القنوات الأخرى للرد على المنصرين مثل التلفاز والإذاعة الصحف؟ A نعم, بالإمكان أن نجعل من صحافتنا وإذاعتنا وتلفازنا ناطقاً بديننا، بدلاً من أن تَعرِضَ اللهو والعبث وما لا خير فيه، ولو كانت القناة الثانية مثلاً تعرض الإسلام وتهتم به بأساليب منوعة ومشوقة، لأسلم الكثير بإذن الله.

كيفية المشاركة في مشروع ترجمة الكتاب

كيفية المشاركة في مشروع ترجمة الكتاب Q يقول الأخ هل هناك تسجيل أسماء، وكيف يمكن أن أشارك بعملي في هذا المشروع؟ A المشروع بما أنه علمي فلا يحتاج إلى سواعد كثيرة، وإنما يحتاج كما أشرنا إلى جهود أخرى تخدم الجانب العلمي، فإذا كان الأخ يقصد بعمله أنه مثلاً يتبرع بشيء، لعله هذا في مراحل فيما بعد -إن شاء الله- فمثلاً إذا طبع الكتب، فبالإمكان أن توزع عن طريق الإخوة في الداخل وفي الخارج. وبالمناسبة نشكر القائمين على بعض المشاريع: أحدها في الرياض قامت به الدار العالمية، والآخر في جدة، والثالث في الرياض جزاهم الله خيراً، وهم مجموعة من الإخوة الذين تحابوا في الله, وجمعتهم الغيرة على الدين, يوزعون الكتب في أنحاء العالم عن طريق المراسلة، والكتيبات في العقيدة بالعربية وبغيرها، وهذا مشروع ناجح وجيد ومفيد، وهو من الأمور التي يمكن أن يشارك فيها عدد كثير من الإخوة. وعلى كل حال فإن المستعد وإن لم يجد إلا نفسه أو يده للعمل، يمكن أن نجد له -إن شاء الله- وسيلة يعمل بها لخدمة هذا الدين. ونشكركم جميعاً، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمنِّه وجوده وكرمه أن يوفقنا وإياكم للإخلاص في القول والعمل, وأن ينفعنا جميعاً بما نسمع وما نقول, إنه سميع مجيب, والحمد لله رب العالمين.

الإيمان بالغيب

الإيمان بالغيب إن الإيمان بالغيب أصل من أصول الدين، وهو أول صفات المؤمنين كما ذكر ذلك القرآن الكريم، والناس قد يتفاوتون في الإيمان بالغيب، فالإيمان بالغيب لا يكفي فيه الإقرار الذهني فقط، بل يجب الإقرار والتسليم المطلق لله، وقد بين لنا القرآن بعض أحوال الأمم مع الإيمان بالغيب، كحال فرعون وقومه، وحال المشركين في الجاهلية، ثم بيَّن أسباب إنكار هذه الأمم للإيمان بالغيب كعدم الإحاطة بعلمه وعدم تأويله، مبيناً أحوال الإيمان بالغيب وكيفيته، ومتى يتحول إلى شهادة، ومتى تنقطع التوبة والإيمان بالغيب، ولقد بات إنكار الغيب من سمات العصر الحديث -وصار الإيمان بالماديات هو البديل- في نظر الحضارات الغربية والشرقية. وعلى هذا فإن الإيمان بالغيب يعد فيصلاً بين البشر في حياتهم، فصار سعادةً للمؤمن بإيمانه به، وشقاءً للكافر بجحوده ونكرانه له.

أهمية الإيمان بالغيب

أهمية الإيمان بالغيب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا -إنك أنت العليم الحكيم-. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: فكما تعلمون جميعاً أن الإيمان بالغيب هو الفارق بين الكافر والمؤمن؛ بل هو في الحقيقة الفارق بين الإنسان والحيوان؛ أو مَنْ هو أضل من الحيوان، فالإيمان بالغيب هو أكبر حقيقة يعيشها الإنسان، وأكبر مسألة من مسائل الاعتقاد، وأكبر قضية من قضايا العمل أيضاً، فـ أهل السنة والجماعة وهم أصحاب المنهج الثابت والمعروف الذي يؤمن بكل ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هم الذين يفهمونه الفهم السليم والصحيح.

تفاوت الناس في الإيمان بالغيب

تفاوت الناس في الإيمان بالغيب بقدر تفاوت الناس في الإيمان بالغيب يكون تفاوتهم في الإيمان عامة، وتكون منازلهم عند الله تبارك وتعالى، وتكون مراتبهم في الجنة، لأنه كما قلنا: الإيمان يقتضي ويتضمن القول والعمل وكذلك الاعتقاد والتطبيق والتنفيذ، وكل ذلك يدخل تحت مُسمى الإيمان بالغيب، والانحراف الذي وقع فيه الناس في هذه المسألة هو أكبر انحراف وأعظم ضلال؛ فكل من ضل في معرفة الله تبارك وتعالى، وكل من أشرك مع الله تبارك وتعالى غيره، وكل من أنكر الرسل وجحدهم وكذب ما جاءوا به؛ كل ذلك إنما هو لأنه لم يؤمن بالغيب؛ إذاً هذه هي القضية والحقيقة. إن الناس يتفاوتون -كما قلنا- في الإيمان بالغيب، فهنالك أناس يؤمنون بالغيب إيماناً نظرياً عقلياً مجرداً، وهذا حال أكثر الناس من المسلمين، فهم يؤمنون بالغيب: أي يصدقون بأن هنالك رباً ورسولاً وملائكة ويوماً آخر، وإذا سألت أحدهم عن اليوم الآخر، عن الصراط، والميزان، والحساب، قال: نعم أُقر بذلك، وأؤمن به وأصدق به، لكن هل هذه هي حقيقة الإيمان بالغيب التي يريدها الله تبارك وتعالى والتي من أجلها أنزل الكتب، وأرسل الرسل؟ بل وهنالك أيضاً من ينكرون الإيمان بالغيب! وينكرون عالم الغيب؛ ولو دققنا ومحصنا لوجدنا -في الحقيقة- أنه لا يوجد عاقل على الإطلاق ينكر الغيب.

الإيمان بالغيب أول صفات المؤمن

الإيمان بالغيب أول صفات المؤمن فالإيمان بالغيب عندهم يشمل القول والعمل، ويشمل إيمان القلب، وإيمان اللسان وإيمان الجوارح، ومن ثم كان الإيمان بالغيب هو الحقيقة العظمى التي جعلها الله تبارك وتعالى، فوصف بها عباده في أول سورة من القرآن الكريم بعد الفاتحة، قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3]. فهذا أول وصف، وما بعد ذلك فهو تبع له؛ فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالآخرة، والإيمان بكل ما أخبر الله تعالى به في كتابه، أو أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما لا يعلم إلا من طريق الوحي؛ كل ذلك إنما هو تفصيل لما أجمله في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] فأول علامة من علامات المؤمنين، وأول صفة من صفاتهم: أنهم يؤمنون بالغيب، وهذا مفرق الطريق بينهم وبين الكافرين والملحدين والمنحرفين.

حقيقة الإيمان بالغيب

حقيقة الإيمان بالغيب إذاً: كيف يكون الحال؟ فالمؤمنون بالغيب منهم من لا يؤمن بالغيب على الحقيقة، والمنكرون للغيب كثيرٌ منهم لا ينكر الغيب على الحقيقة. إذاً: القضية أن الإيمان بالغيب في عرف الشرع، وفي حقيقة دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- أن يسلم الإنسان بقلبه إلى الله تبارك وتعالى، وأن ينيب إليه؛ فكل ماجاء من عند الله تبارك وتعالى صدق به، وأقر وظهر أثر ذلك الإيمان على لسانه؛ فيؤمن لسانه وتؤمن أيضاً جوارحه، ولهذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. نعم العلماء الذين يؤمنون بالغيب على حقيقته، ويعلمون ويعرفون ربهم، وصفاته على الحقيقة، هم أكثر الناس خشية، فكأنه لا يخشاه تعالى إلا هم؛ لأنهم عرفوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

حال الأمم مع الإيمان بالغيب

حال الأمم مع الإيمان بالغيب لذلك أنكر الجاهليون ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي، فأنكروا الوحي، والوحي من الغيب؛ فقالوا: كيف يتنزل هذا القرآن على هذا الرجل؟ هذا لا يمكن أبداً! ولذلك قالوا له: إنما أنت مفتر، وقالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: كاهن، وقالوا عنه أيضاً: شاعر، وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، فَلِمَ كُل هذا اللجاج وكل هذا العناد؟! كل ذلك حتى لا يؤمنوا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اختص هذا النبي الأمي بهذه الرسالة؛ فأنزل وأرسل إليه الروح الأمين بهذا الوحي، وهل في ذلك ما يخالف الفطرة أو العقل السليم؟ كلا. لا شيء من ذلك، ولكنه العناد والجحود، فقد جحدت الأمم وعاندت من قبل، كما فعل ذلك فرعون وقومه، ولهذا أخبر الله عنهم بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14]. فطمأن الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] أي لا تهتم بقولهم لك: إنك كاذب؛ فإنهم في حقيقة أنفسهم لا يعتقدون كذبك، بل يعلمون -في أنفسهم- أنك صادق؛ ولكنه الجحود. فهل نفعهم هذا الإقرار القلبي المجرد؟! هل نفعتهم هذه المشاعر الذهنية العامة بأن هنالك عالماً آخر هو عالم الغيب بخلاف عالم الشهادة؟ لا. لم ينفعهم ذلك أبداً.

الإيمان بإقرار الذهن فقط

الإيمان بإقرار الذهن فقط أما مجرد الإقرار الذهني فقط فقد كان موجوداً حتى عند العرب في الجاهلية، فكان العرب في الجاهلية يؤمنون بشيء من الغيب، فقد كانوا يؤمنون بوجود الله، ولم يكن ينكر ذلك أحد في العصر الجاهلي! بل ولا في سائر العصور، إلا عند طائفة شاذة مارقة مكابرة ومعاندة، وكان في العرب -أيضاً- من يؤمن بيوم الحساب مجرد إيمان، ورد ذلك في شعرهم كما قال زهير: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم إذاً: كان لدى العرب شعور وإحساس بأن هنالك عالماً آخر، وأنه قد يكون هناك يوم آخر؛ ولكن ليست القضية في أنه هل يوجد أو لا يوجد يوم آخر؟ وإنما المسألة: أن يكون الإيمان بالغيب هو الإيمان الذي يريده الله تبارك وتعالى على الحقيقة، والذي من أجله بَعثَ الرسل، وأنزل الكتب، وهذا هو محل النزاع؛ لأنه يقتضي التسليم المطلق والمجرد لله تبارك وتعالى، والإنابة إليه بالقلب، والإخبات إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الكفر بالغيب وأسبابه

الكفر بالغيب وأسبابه إن الله تبارك وتعالى قد بين الأسباب التي تجعل المعاندين والمنكرين ينكرون عالم الغيب، ولا يؤمنون به فقال الله تبارك وتعالى في ذلك: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39]. هذه الآية لو تدبرناها وعقلناها وفهمناها كما هو السائر في آيات القرآن الحكيم؛ لوجدناها وحدها كافية لبيان أسباب ضلال هؤلاء القوم: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس:39]

عدم الإحاطة بعلمه

عدم الإحاطة بعلمه من أسباب التكذيب وردِّ ما جاءت به الرسل من أمور الغيب: أنهم لم يحيطوا بعلمه، وكما قال تبارك وتعالى عنهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] أي أن كثيراً من الناس عادةً يريدون أن يصدقوا -فقط- بما يمكن أن يعلموه، أو يستدلوا عليه، أو بما يمكن أن يصلوا إليه بفكرهم وعقولهم فالسبب الأول هو: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس:39].

لا يعلمون تأويله

لا يعلمون تأويله والسبب الآخر: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39]. فإن الناس يصدقون بالمشاهد المحسوس، ويكذبون بالغيب المكتوم، والتأويل -كما تعلمون- له معان؛ ففي هذه الآية جاء بمعنى: الوقوع: أي: وقوع حقيقة الشيء المخبر عنه سابقاً، كما قال يوسف عليه السلام: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] أي هذه حقيقة الرؤيا التي قد وقعت، كانت رؤيا في عالم الغيب أخبر بها؛ فلما أن تحقق ذلك ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً، كان ذلك هو وقوع الرؤيا وهو تأويلها {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} [يوسف:100]، فهؤلاء الجاحدون يريدون أن يروا الملائكة، وأن يروا الله، وأن يروا الجنة والنار؛ فإذا رأوا ذلك آمنوا؛ وهذا مما يطلبه الجاحدون والظالمون، ولكن! هل يلبى لهم ذلك؟ لا، فهم يريدون أن يؤمنوا بشيءٍ يمكن لعقولهم أن تصل إليه، وهذا هو الذي لايمكن؛ وهم يريدون أيضاً أن يؤمنوا بشيء يمكن لعقولهم أن تستدل عليه، وأن تعرفه؛ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما أرسل الرسل لعالم الغيب، وهو عالم لا يمكن أن تحيط العقول البشرية به علماً؛ وإنما غاية الأمر أن تستدل عليه وأن تؤمن به وتثبته في الجملة. فكل إنسان في فطرته الإيمان باليوم الآخر، ولو أنه فكر لوجد أن الإيمان باليوم الآخر ضرورة عقلية لا بد منها، لكن هل يمكن أن يؤمن عن طريق العقل المجرد بالميزان، أو بالصراط، أو بالحوض، أو بدرجات أهل الجنة والنار أو بالصحف أو بأمثال ذلك مما لا يمكن أن يُعلم إلا عن طريق الوحي، وخبر السماء عن الله تبارك وتعالى؟ إن عالم الغيب الذي يريد الناس أن يحيطوا به علماً لا يمكن أن يكون بهذه المثابة؛ بل لا يمكن أن يكونوا مؤمنين أو عبيداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا إذا آمنوا بما أمر به الله، وصدقوا بما أنزله الله تبارك وتعالى؛ وإن لم يكن مما تدركه عقولهم أو تحيط به. فليس من حقك إذاً أيها الإنسان المخلوق الضعيف العاجز ألا تؤمن إلا بما أدركه علمك وأحاط به فكرك، إن هذا الكلام عندما نعرضه لنبين أسباب تكذيب الكفار؛ فإنما نبين هذه الحقيقة؛ لأن في المنتسبين إلى الإسلام من الفرق الضالة، وأصحاب الانحراف في القديم والحديث، من وقع في هذه القضية، وفي هذا الخلل أو الخطأ أو الشبهة ولو جزئياً.

من مظاهر الإيمان بالغيب

من مظاهر الإيمان بالغيب وهنا قضية أخرى {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39] وهذه متعلقة بالذين يقولون: لا نؤمن إلا بما نشاهده، وبما نحس به، وبما نراه؛ فإذا وقع آمنوا، وليس الأمر كذلك؛ فإن فرعون آمن لما أدركه الغرق، وكذلك المحتضر حين تأتيه الملائكة لتقبض روحه يؤمن حينئذ، ولكن هل ينفعه إيمانه في تلك اللحظة بالذات؟ جزماً لا.

متى تنقطع التوبة

متى تنقطع التوبة فلا ينفع الإيمان حينئذٍ، ولا يقبل أن يأتي الإنسان فيقول: الآن أتوب، بعد طلوع الشمس من مغربها! ولا مجال للمعصية، فهذا يقال له: لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت، هذه حالة أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً وهذه هي الحالة الثانية. إذاً يجب على الإنسان: أن يؤمن بعالم الغيب في عمره المحدود، وقبل تلك اللحظات، وكذلك يجب على الإنسانية جمعاء، أن يؤمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويؤمنوا بالغيب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وأن يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى. فالإيمان بالغيب شامل لكل ما جاء في الكتاب، وصح به الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالإيمان بالله، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار، وتفصيل ذلك كله من الإيمان بالغيب، وأن قوله تعالى في الآية: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] فسرها الصحابة الكرام كـ ابن مسعود وابن عباس وفسرها أبو العالية وقتادة وغيرهم من السلف أنها تعني: كل أمور الإيمان وكل أمور الغيب.

متى يتحول الغيب إلى شهادة

متى يتحول الغيب إلى شهادة إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، وهذا من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما دام الإنسان في عالم الغيب -ولو كان على فراش الموت- فإن الله يقبل إيمانه، ويقبل توبته، وهذا من سعة رحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن سعة كرمه وجوده أنه يمهل الإنسان ليتوب إلى آخر تلك اللحظة؛ لكنه إذا عاين الحق وحضر الموت فقال: إني تبت الآن فليس لهذا الإنسان توبة أبداً. إذ أنه الآن لم يعد مؤمناً بعالم الغيب، بل أصبح مؤمناً بعالم الشهادة؛ لأنه يرى الملائكة عياناً أمامه، إذاً: ما الفرق بينه وبين الكفار الذين طلبوا أن يروا ربهم، أو يروا الملائكة؟! فإذا لم يعد هناك إيمان بالغيب، فلا توبة حينئذ، وكذلك الجنس الإنساني، أو البشرية كلها أيضاً هذا هو حالها، وهذا هو شأنها قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158]. فالإنسان في مفرده إذا حضرته ملائكة العذاب لا ينفعه الإيمان، وكذلك العالم بأكمله إذا احتضر وإذا جاءت النهاية الحتمية لهذه الدنيا وما عليها، وأذن الله بانقضاء هذا العالم، وجاءت العلامات التي جعلها الله حداً فاصلاً بين هذه الدنيا وبين الدار الآخرة، وهي مقدمات يوم الفزع الأكبر؛ هنالك -أيضاً- لم يعد الأمر أمر إيمان بالغيب؛ بل أصبح إيمانٌ بالمحسوس. وهذه الآية صح الحديث في تفسيرها، بأنه طلوع الشمس من مغربها أي: إذا طلعت الشمس من مغربها لم يعد ينفع نفساً إيمانها لم تؤمن من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بذلك، والناس يعلمون أن هذا من أعجب مايرون، ومن أبعد ما يمكن أن يقع؛ فإذا وقع قال الناس: هذا ما أخبر به الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الآن نؤمن به! لكن بعد ماذا! بعد أن تطلع الشمس من المغرب تؤمنون به؟!!

إنكار الغيب وعلاقته بالنهضة العلمية

إنكار الغيب وعلاقته بالنهضة العلمية إن إنكار الغيب ما اشتهر أمره، وظهر وأصبح ظاهرة عالمية إلا في العصر الحديث؛ وذلك نتيجة لأن العالم الإنساني أصبح الآن متقارباً ومتلاحماً، حتى أن أي فكرة في الشرق تصل إلى الغرب -أو العكس- في يوم واحد، أو في أسابيع، وإن أبرز سمة في هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم هي: السمة المادية، فهو عالم لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يؤمن إلا بالماديات، فينكر الغيب، ولا يؤمن إلا بما يدر عليه نفعاً في هذه الدار الفانية؛ ولهذا كان لا بد لنا أن نعرج على أسباب ضلال هؤلاء القوم، ثم نرى بعد ذلك أثر الإيمان بالغيب في حياة المؤمنين، وأثر فقدان الإيمان بالغيب عند الكافرين. فلماذا كفرت أوروبا، وكفر مفكروها بالغيب؟ وهل هم في الحقيقة كافرون بالغيب؟ أم أنهم كافرون وجاحدون بالرسل وبما جاءت به الكتب؟ ولما قلنا أنه لا يكاد يوجد إنسان يؤمن على الحقيقة بالغيب، بل يؤمن بأنه لا شيء وراء هذا المحسوس، فكيف ذلك؟ وهل كل ما يؤمن به أكثر الماديين -غلواً وعتواً- هو كل ما يشاهدوه ويروه أو يلمسوه ويدركوه بعقولهم؟ الجواب على هذا السؤال ينقلنا إلى أن نعود إلى أسباب انتشار المادية لنعرف الجواب.

بداية ظهور النظرية المادية وسببها

بداية ظهور النظرية المادية وسببها عندما كان الناس في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر الميلادي، كان العالم الإسلامي -الذي ينبغي ويجب أن يكون هو قائد العالم -وكانت الأمة الإسلامية- التي كان يجب أن تقود العالم إلى الخير والفلاح؛ الأمة التي تؤمن بالغيب، ولديها الغيب الحقيقي- غارقة في الأوهام والخرافات، إلا ما رحم الله تبارك وتعالى؛ فكانت بعيدة التأثير على العالم الغربي. وأما العالم الغربي، فكان -في تلك اللحظة- تفيض فيه، وتعج براكين وفيضانات، من التمرد على الدين الذي كانت عليه الكنيسة، دين البابا، ودين القسيسين الغربيين النصارى عموماً، مما جاء في الأناجيل، وفي رسائل الرسل وما سوى ذلك، فثار أولئك على هذا الدين؛ لأنه خرافة، ولأنهم وجدوا أنه لا يتفق مع العلم، ومع التجربة التي وصلوا إليها، وأخذ الناس يتحولون في كل يوم ويكتشفون -في هذا الكون- أمراً جديداً يثبت لهم أن ما كانت تعتقده هيئة رجال الدين (الكنسية) باطل وضلال، وأن ما وصل إليه الإنسان بالتجربة، وبالعقل وبالحس هو الصحيح؛ وكل يوم كان يزداد ذلك؛ فأصبحوا يبتعدون قليلاً قليلاً عن عالم الغيب، في نظرهم على الأقل، إذ ليس لديهم من الغيب إلا ذلك، فلم يعرفوا الإسلام ولم يبلغوه، وإنما وصلتهم صورة مشوهة عنه. فأخذوا ينقلون إيمان الناس من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالمحسوسات المجردة، وهذه هي النقطة التي نريد أن نصل إليها. كان الرجل المادي يقف ليخطب أو يتكلم ويدعو الناس فيقول: آمنوا بالحقائق ولا تؤمنوا بالخرافات. إذا سئل ما هي الحقائق، وما هي الخرافات؟ فيقول لهم: الحقائق هي هذه الأمور المشاهدة: أترون السماء، أترون الجبال، أترون الأرض أترون هذه الأشياء المادية؟ إنها حقيقة، فآمنوا بها وآمنوا بكل الماديات، وجربوا، واخترعوا، واكتسبوا، ويقول: أما الغيب فهو ما جاء عن الرب -والرب عندهم يسوع- وما جاء في الأناجيل عن اليوم الآخر، وما جاء فيها من معجزات، أخبار، كل ذلك لا تؤمنوا به ولا تصدقوه؛ لأن العقل والعلم ينفيه. فكان الناس يحتارون، إما أن يصدقوا بالخرافات الموجودة -والتي يظنون أنها هي الدين- وإما أن يتبعوا هذا، وفي كل مرة تصدق ثلة منهم وتنحاز إلى المادية، وتترك ركب الإيمان -الذي هو إيمان خرافي محرف ومبدل- ومع الزمن أصبح الناس يظنون أنه لم يعد هناك من داعٍ إلى الإيمان بالغيب مطلقاً، وأنه على الإنسان أن يؤمن بهذه الماديات المحسوسة.

فشل النظرية المادية واختلاف علمائها

فشل النظرية المادية واختلاف علمائها لكن ما الذي جرى؟! يقول الله تبارك وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، أخذوا هذه المادة (قطعة حديد) فآمنوا بها؟ لأن (الحديد) موجود ومحسوس، فآمنوا بالحديد، وصنعوا منه ما صنعوا، واخترعوا ما اخترعوا، وفعلوا ما فعلوا. ثم بعد ذلك يأتي السؤال المحير الذي لا بد منه، ولا بد أن يطرأ على أذهان البشر، وهو: ما هو هذا الحديد؟ وعندما أرادوا معرفة حقائق الأشياء وكنهها، ووضعوا الحديد تحت المجاهر الكبيرة؛ لم يستطيعوا أن يؤمنوا بعد ذلك بشيء واحتاروا! فقيل لهم لماذا تحتارون؟ ألم تكونوا تقولون: نكفر بالغيب ونؤمن بالمادة المحسوسة والمشاهدة؟ قالوا: لا، ليست هذه هي القضية؛ إنه عندما اكتُشِفَتْ الذرة، واكتشفت المجاهر الكبيرة جداً؛ أصبحنا لا نرى حديدة، بل أصبحنا نرى فراغات هائلة تشبه الفراغات التي بين أفراد المجموعة الشمسية: الأرض، والكواكب الأخرى حول الشمس، هذه هي المادة وهذه هي الحديدة؛ فإذاً ما هي المادة؟ قالوا: لا نستطيع أن نقول لكم شيئاً. فيقال لهم: كنتم تطالبوننا أن نكفر بالإنجيل، ونؤمن بالمادة فما هي المادة؟ قالوا: لا نستطيع معرفة ذلك. فاختلفوا في ذلك إلى الآن، وكلما تقدموا في العلم فإنهم يجهلون ما هي المادة؟ ما هي حقيقتها؟! وعندما يقال لهم: أنتم إذاً تؤمنون بالغيب؟ يقولون: نحن لا نؤمن بالغيب كيف ذلك؟ لأن الغيب عندهم هو تلك الخرافات التي لا يريدون أن يؤمنوا بها، سواء عرفوا هذه الحديدة أم لم يعرفوها. لكن هذا الغيب الجديد، وإن صح التعبير (الغيب العلمي) كما يسمونه أحياناً، فهم يؤمنون به ولم يروه، ويقولون لا نستطيع أن نراه، إنما هو أمر غيبي. فالكهرباء -مثلاً- قالوا: إنها من عالم الغيب، فإذا قيل لهم: أنتم هل تؤمنون بالغيب؟ قالوا: لا نؤمن بالغيب، لكننا في الحقيقة لا ندري ما هي الكهرباء؟ إننا ندرك آثارها ونستخدمها في كل بيت وفي كل شأن تقريباً؛ لكننا لا ندري ما حقيقتها!! وقس على ذلك كثيراً من الأمور كالجاذبية، فما هي الجاذبية؟ لا يدرون! مع أنهم يعرفون قانون الجاذبية؛ ولكن ما هي الجاذبية على الحقيقة؟ يقولون: لا ندري. إذاً: ماذا استفاد الإنسان!! فقد صعد إلى السماء فتاه في هذا الفضاء بين الأجرام، حتى إنه لم يعد يدري عن شيء، ودخل إلى أعماق الذرة الصغيرة فتاه في أعماقها، وقال: إن الفراغات التي توجد بين الهواء وبين ما يدور حولها تشبه الفراغات التي بين الكواكب. إذاً فأين يعيش الإنسان؟ وكأن حصيلة هذا الجهد الإنساني، وحصيلة هذا العلم لاشيء! وهذه هي الحقيقة أيها الإخوة، فالإنسان بغير الإيمان بالله عز وجل وبغير الإيمان بالغيب صفرٌ فارغٌ لا حقيقة له، ولا يستطيع أن يؤمن بأي شيء، فلم يعد هناك في الغرب -بين العلماء الغربيين- اتفاق على شيء، إلا على شيء واحد، إن اتفقوا عليه وهو: أنه لا يصح لك أن تصدر أحكاماً مطلقة، سواء كنت عالم فيزياء أم كيمياء أم أحياء أم في علم الاجتماع أم في علم النفس، فلا تصدر أحكاماً مطلقة وتقول الحق كذا، إذاً فمعنى ذلك: أن الإنسان لم يعلم شيئاً أبداً، فجهد وتعلم، وإذا به يجد أنه لا يرى ذلك الذي تعلمه على الأرض.

أثر الإيمان بالغيب على المؤمن والكافر

أثر الإيمان بالغيب على المؤمن والكافر إن الإنسان لا يستفيد شيئاً، ولا يعلم شيئاً، ولا يرى الأشياء على حقيقتها، إلا إذا آمن بالله، وإذا آمن بالغيب. وهذه الحقيقة -يا إخوة- ليست مجرد راحة للفكر والقلب، وأنه عندما يعتقد أو عندما يصدق، فإنه يتحرر من الشك، ويترك الحيرة التي يقع فيها العلماء عادة إذا لم يعرفوا الأجوبة على أسئلة معينة، لا؛ فالمسألة أكبر من ذلك جداً، فهي مسألة طمأنينة القلب، أو المعيشة الضنك، يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].

اطمئنان المؤمن وسعادته

اطمئنان المؤمن وسعادته بالمقابل نجد أن أسعد جيل على وجه الأرض، وأكثره طمأنينة وراحة وأماناً في الحياة الدنيا هم جيل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فالمؤمن مطمئن، فإن جاءه الخير فهو مطمئن، وإن جاءه الشر فهو مطمئن، ومهما وقع له فهو مطمئن، فإن ظلم فإيمانه بالله وباليوم الآخر يجعله يطمئن، ويصبر احتساباً، فهو يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف ينتقم له ممن ظلمه، وليس بقدرته الذاتية، وإن منع حقاً له فهنالك أيضاً اليوم الآخر الذي توفى فيه كل نفس ما كسبت. أيضاً فإن عالم الدنيا مهما كبر فإنه يصغر عند الإنسان، وذلك عندما يؤمن بعالم الغيب؛ فما قيمة الدنيا عند المؤمن الذي يؤمن بأن موضع سوط في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس! فلماذا نتصارع على هذه الدنيا؟ ولماذا نتتطاحن؟ ولماذا نتشاحن؟ ولماذا البغضاء؟ ولماذا الأحقاد؟ ولماذا العداوات؟ ولذلك فإن المؤمن يطمئن ويرتاح عندما يرى الكفار أو الفجار أو الظلمة قد أخذوا ما أخذوا؛ فبهذا يستقر؛ وإن أُعطي حمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يشغله ذلك عن اليوم الآخر، وعلم أن هذا المتاع فان وزائل، وأنه إن تمتع بشيء منه فهو يتذكر متاع الآخرة؛ فيجتهد ويعمل لها، ويؤجر على هذا العمل؛ لأنه مشروع، ولأنه فعل المأمور فعف نفسه -بهذه الشهوة مثلاً- أو عف أهله إن كانت شهوة مال وما أشبه ذلك. فيعيش الإنسان والمجتمع المسلم في طمأنينة كاملة، وما ذلك إلا نتيجة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والإيمان بالغيب، وليس كما يرى بعض المسلمين الإيمان بالغيب في حين أنهم ينقضونه بتصرفات وأعمال عديدة.

ضنك الكافر وشقاؤه

ضنك الكافر وشقاؤه إن العالم الغربي يعيش -لعدم الإيمان بالغيب- في حالة الضنَك؛ وفي العيشة الضنك بل في الشدة يلهث ويجري، وتتقطع أوصال الفرد وأوصال المجتمع وهو يكدح في هذه الحياة، ولكن من غير هدف، ومن غير راحة، ومن غير اطمئنان على الإطلاق؛ فسبحان الله! هل يطمئنون وهم لا يؤمنون بالآخرة؟ وهل يمكن أن يطمئن قلب وهو لم يعرف الله عز وجل؟! هل يمكن أن يسعد إنسان وهو لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر؟! كيف يكون ذلك؟ فبأي شيء يعيش، وهو لا يعلم شيئاً، ولا يجد إلا الصراع في الحياة كلها. الحياة كلها شقاء، كُلها نكد، فدول كبرى تصارع دولاً كبرى أخرى، وشركات، تصارع شركات وأفراداً يصارعون أفراداً وينافسونهم، والأسرة تحطم الأسرة، والمرأة تتكتل ضد الرجل، والرجل يتكتل ويتعصب ضد المرأة، الطبقة الغنية تتكتل وتتحزب ضد الفقراء، وللفقراء أيضاً نقابات واتحادات تتكتل ضد الأغنياء، صراعات وانقسامات وفوضى رهيبة لا يستقر فيها الإنسان على الإطلاق، ولا يهدأ له بال أبداً، لماذا؟ إنه عدم الإيمان بالغيب. فهم لا يؤمنون بالقدر، ولا يؤمنون بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب كل شيء، وأنه لن يبلغ الإنسان إلا ما كتبه الله تبارك وتعالى له، فكل ذلك لا يؤمنون به؛ ولهذا نجد أنهم في الشقاء وفي الضنك.

الأسئلة

الأسئلة

إسلام من لم يتلفظ بالشهادة

إسلام من لم يتلفظ بالشهادة Q ما حكم من أدى بعض الأعمال الإسلامية وهو لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بلسانه؟ وهل يعتبر مسلماً؟ A هذا الذي لم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله -بلسانه- لا يعد مسلماً بإجماع أهل السنة والجماعة والسلف الصالح؛ لا يكون مسلماً لا ظاهراً ولا باطناً؛ ولا يجرى عليه حكم من أحكام الإسلام إلا بإعلانها، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله} فما دامو لم يفعلوا ذلك أي: الشهادتين والصلاة والزكاة؛ فإنهم يقاتلون قتال ردة.

القدر وتعدد الأسباب

القدر وتعدد الأسباب Q يقول الشاعر: (تعددت الأسباب والموت واحد) هذا شطر من بيت شعري فهل يكون سبباً من هذه الأسباب معارضاً للقدر، أم أنه موافق له؟ وهل هذا السبب مكتوب في اللوح المحفوظ؟ A نعم، فكل ما يقع إنما يكون وفقاً لما كتب الله تبارك وتعالى، فكل مصيبة كما يقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. فكل شيء قد كتبه الله علينا قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ ولا يقع إلا ما كتبه الله؛ فهو من القدر، ولا يكون مخالفاً للقدر.

نزول عيسى وانقطاع التوبة

نزول عيسى وانقطاع التوبة Q نزول عيسى من العلامات الكبرى. فهل لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، مع العلم أنه يكسر الصليب، ويضع الجزية، ويدعو إلى الإسلام هذا على ما بلغنا من علم؟ A نعم فما بلغك هو الصحيح، ولكن! أولاً: جاء في تفسير الآية (بأنها الشمس عندما تطلع من مغربها) {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158]. أي إذا طلعت الشمس من مغربها، وقد جاء هذا نصاً في نص الحديث الصحيح. الأمر الآخر: أن ذلك يكون بعد نزول عيسى، وبعد أن يؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن طلوع الشمس من مغربها: هي أول الآيات الكبرى (أي أول الآيات غير المألوفة) فنزول عيسى -عليه السلام- مألوف؛ وإنما يكون طلوع الشمس من مغربها بعد نزوله عليه السلام.

الكتب التي تحدثت عن مسائل الغيب

الكتب التي تحدثت عن مسائل الغيب Q ما هي الكتب التي تتكلم عن الإيمان بالغيب، والبعث والنشور والصراط، وغيرها من أمور الغيب قديماً وحديثاً؟ A من هذه الكتب: كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً، وكذلك فإن في صحيح البخاري، وصحيح مسلم أبواباً في الإيمان والتوحيد، وكذلك معارج القبول للشيخ: حافظ الحكمي رحمه الله فقد جمع في ذلك أحاديث، وأدلة عقلية ونقلية؛ فجزاه الله خيراً وأثابه، والمؤلفات في ذلك كثيرة.

معرفة الطب لنوع الجنين

معرفة الطب لنوع الجنين Q يدعي الطب في الغرب معرفة الجنين في بطن أمه هل هذا صحيح؟ A الأمر الأول: أن الله تبارك وتعالى قال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] ولم يقل: يعلم الجنين ذكراً أو أنثى؛ فمعرفة كون الجنين ذكراً أو أنثى جزء من معرفة ما في الأرحام، وما في الأرحام شيء عجيب جداً! فإلى الآن حار العلماء فيه في الظلمات الثلاث، وفي عملية التحول من مرحلة إلى مرحلة، في أمور كثيرة ماتزال مدار الجدل والبحث في العالم الغربي، حول عالم الطب، إلى الآن، فالمسألة أعم من ذلك. الأمر الثاني: كل ما في العالم من غير المدركات العقلية، وكل ما أدرك بالحس؛ فإنه لم يعد من عالم الغيب، فلو أن رجلاً قال: أنا أعلم ما في بطن هذه البقرة الحاملة، أو يقول: أنا ولي، وأنا تأتيني كرامات، فهذا كاهن عراف كاذب، من صدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد. لكن لو أن طبيباً قال: أنا أعرف ذلك؛ لأني أعمل أشعة وأعرف ذلك، نقول: هذا ليس فيه شيء؛ لأنه لم يدعِ علم الغيب؛ وإنما استطلع شيئاً ما بشيء محسوس؛ فهذا خرج من عالم الغيب ولم يعد منه، وليس له وسيلة غيبية كما يدعي ذلك الآخر، وأيضاً لو أن إنساناً شق بطن هذه البقرة الحامل وأخرج ما في بطنها وعرف ما فيها، فهل نقول هذا عالم الغيب؟ لا؛ بل قد رآه، فليس المقصود بعلم الغيب كل ما غاب أو خفي عن الإنسان. فإذاً: عرفوا أم لم يعرفوا فليس فيه تأثير أبداً لأن هذا من الخمس الأمور التي اختص الله تبارك وتعالى بعلمها.

المدرسة العقلانية

المدرسة العقلانية Q ما موقف العقلانين من الإيمان بالغيب؟ وكيف يُرد على من أنكر بعض المغيبات بحجة أن العقل ينكرها؟ A العقلانيون مدرسة -في الأصل- ظهرت بتأثير الفلسفة اليونانية، وقد تبناها المعتزلة، والخوارج، والرافضة وكل المتكلمين؛ ثم ظهرت بشكل حديث في فكر الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومن تتلمذ عليهما؛ وماتزال إلى اليوم متمثله في المدرسة المسماة (المدرسة العصرية) أي التي تفسر الإسلام تفسيراً عصرياً يتناسب مع العلم ومع العصر الحديث بزعمهم. وأما موقفهم من عالم الغيب فإنه متناقض، فكل واحد منهم يثبت مالا يثبته الآخر، أو ينفي ما لا ينفيه الآخر وهكذا؛ لأنهم لا يرجعون إلى معيار ثابت سديد، فحسب الإنسان أن يخرج عن الطريق المستقيم، وعن الجادة؛ لأنه بعد ذلك ستتشعب به الطرق، ويذهب كل مذهب، فهؤلاء -مثلاً- ينكرون بعض الأشياء بحجة أن العقل أو أن العلم ينكرها، ويكفي هؤلاء أن يعلموا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]، فالوحي من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يأت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من عنده قط. ولو أن العقول وحدها تكفي؛ فلماذا بعث الله تبارك وتعالى الرسل؟ ألم تكن فلسفة أرسطو وأفلاطون وسقراط وأمثالهم موجودة ومترجمة! فما الحال إذا لم يبعث الله تبارك وتعالى الرسل! وأصبح الناس يستغنون بهذه الفلسفات؟ فلسفات وثنية ضالة حائرة، ولذلك يأتي فيلسوف فيهدم ما قاله الأول، وكما قال أحد السلف الصالح: 'من جعل دينه عرضة للخصومات؛ أكثر التنقل' وقال الإمام مالك رحمه الله: 'لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله؛ خيرٌ من أن يبتلى بعلم الكلام' فهذه العلوم هي التي صرفت الناس عن الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتسليم بخبره إلى القضايا العقلية والذهنية المجردة. والحقيقة أن العقلانيين المعاصرين ما هم إلا امتداد للمذهب الذي ظهر في أوروبا وأشرنا إليه، فالشيخ محمد عبده -وهو رأس هذه المدرسة- يعتبر تلميذ الفلسفة الوضعية، الذي وضعها الفيلسوف الفرنسي المعروف أوجست كولد والذي يقرر فيها أن العالم الإنساني تطور إلى ثلاث مراحل: مرحلة السحر، ثم مرحلة الدين، ثم مرحلة العلم، فجاء الشيخ ليوفق بين هذا الكلام، وبين ما يعتقده من دينه. فقال: إنه الآن وفي هذه المرحلة الجديدة يجب أن نحدث في الإسلام إصلاحاً، ونجرده من كل ما يتنافى مع هذه المرحلة ويقصد بها: مرحلة العلم، ومن هنا أنكر الطير الأبابيل، وأنكر الشياطين أو الجن وغيرها، وقد أفضى إلى ربه وقدم عليه.

المحتضر من أهل عالم الشهادة

المحتضر من أهل عالم الشهادة Q قلت في حديثك أنه لا تقبل توبة المحتضر؛ لأنه أصبح في حياة الشهادة، فهل تتفضل بشرح هذه العبارة؟ A المحتضر: هو الذي رأى الملائكة، أو الذي عاينهم قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:22]، فالإنسان إذا رأى الملائكة، لم يعد مؤمناً؛ لأن المؤمن هو الذي يؤمن بالغيب؛ فإذا رآه عياناً بالعين لم يعد مؤمناً به، فإذا انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فهو مؤمن بشيء محسوس. فمثل هذا كمثل الذين يقفون على النار أو يقفون بين يدي ربهم يوم القيامة فيقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] إذاً: ففي هذا الحال لا ينفع الرجوع، ولا ينفع التمني؛ لأنهم رأوا النار، ورأوا الجنة، ورأوا ما كان في عالم الغيب.

ضعف اليقين من أسباب انحطاط المسلمين

ضعف اليقين من أسباب انحطاط المسلمين Q هل إيمان المسلمين بالغيب نظرياً وعدم تطبيقه عملياً يعتبر من أسباب تخلفهم وانحطاطهم عن خيريتهم التي ميزهم الله بها؟ A نعم، فما دام أن الإيمان بالغيب: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؛ فبلا شك أن ضعف إيمان المسلمين بذلك هو السبب الأساسي في الانحطاط، والتأخر الذي حصل للمسلمين، وكذلك هو سبب في ضعفهم وتسلط الأعداء عليهم، وتفرق كلمتهم، وهوان أمرهم على الناس، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

إنكار الغيب بين الوسوسة ورد الأحاديث

إنكار الغيب بين الوسوسة ورد الأحاديث Q الإنسان المسلم بطبيعته يؤمن بالغيب، ولكنه أحياناً يطرأ عليه إنكار باطني لبعض الغيب فما هو الحل؟ A إن كان المقصود بالسؤال هو الشك الذي يلقيه الشيطان أو الوسوسة، فلا تبالي بها يا أخي؛ لأن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم وهم أكثر الناس إيماناً من هذه الأمة، قد شكوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: {يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أو قد وجدتموه، قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان} وفي حديث آخر: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} أي رد كيد الشيطان، فلم يجعلنا مشركين نشرك بالله ونكفر برسله؛ وإنما رد كيده للوسوسة، وتكون هذه الوسوسة عندما يغفل المؤمن عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإذا غفل؛ ضعف الإيمان في القلب، فيجد الشيطان الفرصة، فيدخل ويلقي شيئاً من الوسوسة؛ فإذا أفاق المؤمن أفاق الإيمان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. فإذا قال المؤمن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كيف جاءني الشيطان، وشككني في إيماني؟! تركه الشيطان وألقاه، فاستمر المؤمن في طاعة ربه وفي الإيمان به؛ وهذا من أنواع الجهاد، وهذا الإيمان يعطيه -بإذن الله- مناعة، فيأتيه الشيطان مرة ثانية وثالثة فلا يقدر عليه، وذلك مثل إنسان تطرده ثلاث مرات فإذا جاءك مرة رابعة تكون أقوى منه، وكذلك لو أنك غلبت إنساناً ثلاث مرات ثم أتاك مرة أخرى، فإنك لا تبالي به؛ لأنك قد غلبته عدة مرات، وهذا من فضل الله علينا. فالإيمان يزيد وينقص، ونحن إذا جاهدنا الشيطان، ورددنا هذه الوسوسة بالإيمان الصادق؛ فإنها تصبح لا شيء، ولهذا اجتهد الشيطان في أن يرد الصحابة الكرام إلى الشرك فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً؛ لما رسخ الإيمان في قلوبهم، وهذا ما يجب أن يكون عليه جميع المؤمنين، فإنما يحاول الشيطان الدخول في القلوب المؤمنة؛ ولهذا لما قيل لبعض السلف لماذا يوسوس المسلمون ولا يوسوس اليهود والنصارى في صلاتهم فقال: 'وما يفعل الشيطان في البيت الخرب' فاليهود والنصارى لا يوسوس الشيطان في صلاتهم سواء صلوا أم لم يصلوا لأنه لا صلاة لهم، ولا إيمان لهم، ولا عمل لهم، فماذا يعمل الشيطان بهم؟! ولذلك فإنه يدعهم. وأما المسلم المؤمن فقد ترفعه هذه الصلاة درجات عالية عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد لا يكتب له منها إلا العشر، وقد لا يكتب له منها شيء. إذاً: ها هنا الامتحان، وها هنا عمل الشيطان، فهو عند هذا الذي يرتقي به الإيمان إلى درجة عليا يوسوس له حتى يُضعف ذلك الإيمان، أو يذهبه. وأما إذا كان المقصود من السؤال: أن هناك من ينكر بعض أمور الغيب، فنعم. وهذا موجود، فمن الناس من ينكر السحر، أو ينكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذات قد سحر، فيقول: أنا لا أصدق، وعقلي لا يحتمل أن الإنسان يقدر على السحر، أو عقلي لا يصدق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سحر، وهذا كما يقوله الإباضية من الخوارج، وكما يقوله المعتزلة، يقولون: العقل لا يصدق أن للميزان كفتان توزن فيهما الأعمال، فهذا لا يمكن، كذلك الصراط قالوا عنه العقل لا يصدق أن الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف. سبحان الله! لو أن الله تعالى وكل الأمر إلى مثل هذه العقول، فجئت أنا وقلت: عقلي لا يقول بهذا، وجاء الآخر وقال: عقلي لا يقول بهذا، وكل واحد يرد ما يشاء؛ فإنه سيضيع الشرع، ألا ترون لماذا يتجادل الناس ويختصمون؟! فسبب ذلك هو تفاوت العقول، فمثلاً: أنا آتي بقضية فأقول: هذا ليس معقولاً أبداً؛ فيأتي أحدهم فيقول: بل هذا هو المعقول تماماً، اختلفنا هذا الاختلاف، فمن الذي يحكم في الموضوع؟ وكذلك لو أن الله تعالى وكل الإيمان بالغيب إلى العقول ما آمن أحد منَّا بشيء، أو آمن بعضنا بشيءٍ ولم يؤمن البعض الآخر به تماماً، فكيف يحاسبنا الله عز وجل؟ من المتقون منا إذاً، ومن الفجار؟! ولو أننا سلمنا لهولاء الناس أن إنساناً يقول: عذاب القبر لا أستطيع أن أصدقه، وآخر يقول: أنا لا أصدق السحر، وآخر يقول: أنا أنكر الصراط، وآخر: أنا أنكر الميزان، فما الذي يبقى بعد ذلك في ديننا؟! ما هو شان المؤمنين مع ربهم ومع رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ كيف أخبر الله عز وجل عنهم؟ قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. فلا بد أن المسلم يسلم بكل ما يحكم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبكل ما يحكم به الله، الحكم القدري، والحكم الشرعي، الأخبار والأوامر والنواهي كلها؛ فيجب أن نؤمن بأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنزلها في كتابه، أو ما جاء عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلا: فلا إيمان إذاً. فكثير من الناس يثيرون بين الحين والحين قضايا من هذا الشأن، وعلى سبيل المثال البسيط: القضية التي تتردد هذه الأيام، وهي ليست بذات الأهمية لكن التنبيه عليها ضروري، فمثلاً: من الناس من ينكر أن الجني يتلبس في الإنسي، ويدخل فيه، وقد كتب في ذلك سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله ونفعنا بعلمه، وأتى بالأدلة والبراهين من ظواهر الآيات، ومن السنة، ومن فعل السلف، ومن الواقع المشاهد -أيضاً- ومع ذلك يقول البعض: إن عقلي لايصدق وأنا لا أتصور ذلك، فسبحان الله! إذاً: أنت بهذا الكلام تفتح المجال لكل من يدعي العقل، وإلا فلا عقل لمن خالف الحق وخالف الوحي، فكل من لديه مسكة من عقل، أو يدعي أنه عاقل -ينكر مايشاء وكما يشاء- يقول: أنت تنكر السحر، إذاً: إذا كُنْتُ أنا أنكر الشيطان بالكلية، أو أنت تنكر دخول الجني بالإنسي، وآخر أنكر الوسوسة والشيطان بالكلية، فإن هذا الإنسان قد يقع في حيرة؛ فإن قال لك أحدهم: يجب عليك أن تؤمن بهذا؛ لأن الله أخبر به في القرآن، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر به في الأحاديث، فقل له: وأنت -أيها الآخر- لماذا ترد ما جاء في القرآن وماجاء في الحديث؟ قد يقول لك: لا، فالعقل يدل على وجود الشيطان. فإن مثل هذا إن لم يغلبه الملحد؛ فإنه سيحيره. ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ عن أهل الكلام: 'لا للفلاسفة كسروا، ولا للإسلام نصروا' فلم ينفعوا لا هنا ولا هناك؛ لأنهم استسلموا للمقدمات العقلية التي يحتج بها أولئك الملاحدة، وبدءوا يصدقونهم فضاعوا. ولكن عندما يكون المعيار هو النص، فنقول له: لماذا تنكر الشيطان وقد جاء ذكره في القرآن؟ فإنه يسكت إن كان مؤمناً، وإما إن كان كافراً فهذا فيه كلام آخر، إذاً: فكل ما جاء به الخبر، أو صح به الحديث؛ فإننا نؤمن به، وإن قل وإن دق، لا نرده؛ لأن رد الأمر الواحد ينبني عليه رد الشيء كله. أضرب لكم -أيضاً- مثلاً آخر: هناك من ينكر حديث الذباب، فيقولون: كيف نصدق بأن الذباب إذا وقع في الشراب، فإننا نغمسه، ثم نلقي به، ثم نشربه، هذا لا يمكن، فيقال لهم: إن الحديث في صحيح البخاري. يقولون: وإن صح فإننا ننكره، فسبحان الله!! وكذلك إذا جاءت أحاديث في عذاب القبر، قالوا: نحن ننكرها ونردها وإن صحت، كيف تلزمهم بالإيمان بعذاب القبر؟ وكيف تلزمهم بالإيمان بالحوض وغيره من الأدلة، وكذلك أيضاً، إذا نحن رددنا حديثاً، أو إذا أنكرنا الغيب في قضية واحدة فقط؛ فمعنى ذلك أننا فتحنا الباب لإنكار الغيب كله، وهذا هو سر عظم المسألة ومكمن الخطورة فيها.

الإيمان بلاعمل يدل على ضعف الإيمان بالغيب

الإيمان بلاعمل يدل على ضعف الإيمان بالغيب Q بعض الناس يترك الأعمال من أوامر ونواهٍ، ويقول: أنا مؤمن، ولو كان مؤمناً لاستعد لذلك اليوم العصيب، فهل هذا بتكذيبه العملي يعتبر مكذباً بالغيب؟ A هذا في الحقيقة لا نسميه مكذباً بالغيب، ولكننا نقول: إنه ليس مؤمناً بالغيب إيماناً حقيقياً، أو إيماناً كاملاً؛ لأن المؤمن بالغيب يظهر أثر ذلك على جوارحه، وعلى أعماله، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: ظاهر وباطن، قول وعمل، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ وحسبنا في ذلك أن نعلم كيف آمن الصحابة الكرام بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجنة أو النار، فظهر أثر ذلك -كما تعلمون- في حياتهم رضوان الله تعالى عليهم كاليقين، فإنها أثر من آثار الإيمان كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [[رأيت الجنة والنار قيل: كيف؟ قال: رأيتهما بعيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله تبارك وتعالى عنه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]]] فرؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجنة والنار التي كانت ليلة الإسراء، والتي كانت في مرات أخرى، حتى لما مثلت له الجنة والنار في الحائط وقال: {ما رأيت مثل اليوم في الخير والشر} وأخبرهم بما رأى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومرات كثيرة يرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً من ذلك أو يمثله الله له في اليقظة، والناس لا يرون؛ فيخبر أصحابه بذلك، فينتقل هذا الإيمان مباشرة في قلوب الصحابة الكرام إلى خوف من الله وخشيته، وإلى تقوى وجهاد وإيثار للآخرة، ورغبة فيها، وعزوف عن الدنيا وشهواتها، وعن مطامعها المحرمة، إلى الاستقامة على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الذي يقتضيه الإيمان الحقيقي للغيب.

حكمة الوجود

حكمة الوجود من أهم الأسئلة التي ترد على الفطرة البشرية في القديم والحديث السؤال عن الحكمة من وجود الإنسان على هذه البسيطة، ومثل هذه الأسئلة لا يوجد لها جواب شافٍ إلا في شريعة الإسلام الخالدة. وما انتكس الغرب، وما زاغت الحضارة الحديثة إلا حين فشلت في الإجابة على مثل هذا السؤال، فنتج عن ذلك تنكّر أمم الغرب والشرق لدينها بحجة أنه يمنعها من اللحاق بركب الحضارة، فصارت تلك الأمم تعيش حياة أقرب إلى البهيمة، رغم ما تتشدق به من تمدن.

الحكمة من الوجود

الحكمة من الوجود إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن موضوع حكمة الوجود مما لا يخفى على كل مسلم، ولولا أن الله تبارك وتعالى أمرنا بالتذكير، وبيَّن لنا ما في التذكير والذكرى من الخير والفائدة، لما تُحدث عن مثل هذا الموضوع، ولكن الإنسان قد يتعمق في العلم، ويتعمق في العمل -أياً كان العمل- وينسى الهدف والأساس والمنطلق لذلك العلم والعمل. ومن هنا يحتاج المرء دائماً إلى التذكير، وهذه الأمور بديهية لا تحتاج إلى تذكير، لكن هذا الأمر البدهي لو فكر فيه الإنسان وتأمل؛ لوجد أنه يغير حياته كلها بناءً على تفكير جديد في ذلك الأمر البدهي المعهود.

نظرة الجاهلية الأولىللوجود

نظرة الجاهلية الأولىللوجود والجاهلية الأولى التي بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها -نعني بها جاهلية قريش والعرب- ماذا كانت نظرتهم للوجود؟ لقد كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر. وقال قائلهم: أموتٌ ثم بعثٌ ثم حشرٌ حديث خرافة يا أم عمرو فكانوا لا يتصورون أن لهذا الوجود حكمة ولا غاية؛ إنما هي أرحام تدفع، أي: "تنتج المواليد"، ثم أرض تبلع في النهاية؛ ولذلك قالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات:11 - 12] أي كيف -بعد أن نكون عظاماً نخرة- نعود إلى حياة جديدة؟! فالوجود عندهم ينتهي بهذه الحياة الدنيا فقط، والدهر -أي: مرور الأيام والليالي- هو الذي يهلك والذي يفني، ولا شيء وراء ذلك. فهكذا كانت غفلتهم، والعمى الذي ضربه الله تعالى على قلوبهم. ومع ذلك فالفطرة تلح عليهم إلحاحاً شديداً، وقد كان منهم الشعراء وهم أكثر إرهافاً وإحساساً؛ فالشعراء كانوا يتخيلون أنه لا يمكن أن يكون وراء هذا العالم إلا شيء آخر، وكذلك الخطباء وأمثالهم من أصحاب الإرهاف في الحس، يقولون: لا بد أن وراء هذا العالم عالماً آخر، ولا بد أن لهذا الوجود حكمة وغاية أكثر من مجرد أنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، وهذا موجود في أشعارهم. ولما أرسل الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين العظيم؛ جاءت الهداية الكبرى من عند الله تبارك وتعالى، وقضت على ما شاء الله تعالى أن تقضي عليه من الضلال والحيرة والاضطراب الذي كان يسود الأرض أو معظمها من أجل: لماذا جئنا؟ ولماذا خلقنا؟ لقد كان الناس إما أن يتدينوا على باطل، كحال اليهود والنصارى وأتباعهم، أو يتيهون ويحارون ولا يدرون بمَ يتدينون، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه معروفة، فقد رفض النار التي كان يعبدها أبوه، ثم هاجر إلى العراق، فوجد راهباً هنالك وتعلم الدين عنده، وتعبد بدينه؛ ثم سلمه الراهب عند الموت إلى راهب آخر؛ ثم ذهب إلى الآخر؛ ثم إلى آخر؛ ثم بيع رقيقاً. ثم أتى إلى المدينة -كل ذلك وهو يبحث عن الحق- فكان يشعر أن لله ديناً، وأن هذا الدين حق، وهو غير ما يتدين به، وغير ما يسمع، وغير ما عند اليهود والنصارى والمجوس، حتى عرف الحق ووفقه الله تبارك وتعالى له، وأمثال سلمان رضي الله تعالى عنه قليل؛ فأكثر الناس يأكل ويشرب وينام ولا يفكر على الإطلاق، ولا يبالي بهذا السؤال وبالإجابة عليه. لقد كانت ظاهرة البحث عن الدين الحق ومعرفة سر الوجود؛ مقتصرة على أفراد قلائل؛ لأن الناس كانوا يعيشون -إلى حد ما- في طمأنينة بما يدينون به من معتقدات، وهذه نقطة مهمة في التاريخ؛ فاليهود والنصارى، والمجوس، والبراهمة، وكل الأديان التي كان يعتنقها الناس كان لديهم اطمئنان إلى أنها هي الدين الصحيح؛ ولهذا لا يبحثون عن الحكمة من الوجود خارج هذا الدين.

أسئلة تراود الإنسان عن هذا الوجود

أسئلة تراود الإنسان عن هذا الوجود ماذا وراء هذا الوجود؟ ولماذا خلقنا؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ كل هذه أسئلة تراود كل إنسان من حيث هو إنسان لا من حيث كونه متحضراً، أو متعلماً أو مؤمناً أو كافراً، فلا علاقة لهذه الصفات كلها، فكل إنسان بما أنه إنسان؛ فإنه تراوده هذه الأسئلة دائماً في أي زمن عاش فيه، سواء في الأزمان السحيقة الغابرة، أم في هذا القرن، أم في قرون قادمة، أم في أي بيئة أو زمان؛ فلا بد من أن يلح هذا السؤال على الإنسان، من أين جئت؟ وما هدفي في هذه الحياة؟ وإلى أين أذهب؟ وهذه فطرة أودعها الله تبارك وتعالى في قلوب جميع العباد. إلا الحيوان؛ فهو المخلوق الذي لا يفكر إلا في اللحظة التي هو فيها، مهما كان ذكياً فهو يفكر في اللحظة التي هو فيها فقط، كيف يأكل العشب في هذه اللحظة، ولذلك ليس للحيوان تأريخ، لا في الحيوان كفرد، ولا في القطيع كنوع؛ لأنه لا يفكر في تأريخه، ولا يفكر في ماضيه، وأيضاً لا يفكر في مستقبله وإلى أين سيذهب؟ وما هي نهايته؟ وما هي نهاية هذا الجنس أو هذا النوع؟ فهو لا يفكر في شيءٍ من ذلك؛ وإنما يفكر في اللحظة التي هو فيها -إن سمينا عمله تفكيراً- وينتهي الأمر عند هذه الحدود. ولكن الإنسان ميزه الله تبارك وتعالى عن الحيوان بميزات عظيمة جداً، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] وقال أيضاً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] أي تكريم عظيم بخصائص عضوية خلقية وتكوينية، وخصائص عقلية روحية، وكل أنواع الخصائص التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان. فمن ذلك أنه يفكر هذا التفكير، ويسأل نفسه هذا السؤال؛ ولكن الاهتداء إلى الجواب الصحيح ليس من شأن كل إنسان، إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى يؤتيه من يشاء.

حكمة الوجود مركوزة في الفطرة

حكمة الوجود مركوزة في الفطرة أما القضية ذاتها فإنها مركوزة في الفطر، يقول الله تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3] ويقول على لسان نبيه موسى عليه السلام لما قال له الطاغية فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50]. فالله تبارك وتعالى أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى -خلق فسوى وقدر فهدى- فأصل الهداية قد تكفل الله تبارك وتعالى بها، وهذه نعمة كبرى وفضل من الله تبارك وتعالى؛ فلم يكلنا إلى أنفسنا، بل تكفل لنا بهذا الشيء العظيم الذي بدونه لا تكون الحياة حياةً إنسانيةً أصلاً. وهل معنى هذه الهداية أن كل إنسان يعرف الجواب الصحيح؟ لا. لكن معناها أن كل إنسان ميسر له أن يعرف الجواب الصحيح؛ فقد فطر الله تبارك وتعالى العباد جميعاً على الإيمان به وعلى معرفته، وعلى التوحيد كما قال جل شأنه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]. فلا يمكن بأية حال من الأحوال أن يولد إنسان إلا وهو على هذه الفطرة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة -وفي رواية: على الملة - فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} وكل الروايات تدل على أن كل مولود يولد على الإسلام وعلى التوحيد؛ تحقيقاً للعهد الذي أخذه الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]. فكل إنسان ميسر له أن يهتدي إلى الجواب؛ وهو أن يعرف أن الله خلقه لعبادته، وأن معرفة الله هي أعز ما يسعى إليه كل مخلوق، وهي الغاية التي ليس بعدها غاية أبداً، لكن الذي حدث هو الابتلاء من الله تبارك وتعالى وهذا ما دل عليه القرآن كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]. فهو تبارك وتعالى مع بيانه لحكمة الوجود، ومع أنه فطر الناس على الهداية والاهتداء إليه؛ لكنه جعل مكان الابتلاء ومحل الابتلاء {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وهكذا يمكن أن يكون الإنسان: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].

التحول من كفر الخرافة والجهل إلى كفر الطبيعة والعلم

التحول من كفر الخرافة والجهل إلى كفر الطبيعة والعلم ثم تحولت القضية، وأصبحت ظاهرة عامة، وبدأ ذلك في أوروبا خاصة؛ لأن أوروبا تعرضت لما لم يتعرض له غيرها من الأمم، فقد تعرضت أوروبا لتأثير الحضارة الإسلامية وتأثير الإسلام عامة، وهذا التعرض جعلها تكتشف أن ما هي عليه من الحياة؛ إنما هي حياة لا إنسانية؛ بل همجية ووحشية؛ فأخذوا بما يسمى (النهضة الأوروبية)، فشرعوا في النهضة. إلا أن العداء للإسلام منعهم من أن يعتنقوا الإسلام فينعموا بعدالة الإسلام وهدايته وطمأنينته؛ واستفادوا من المسلمين في (سلوك المنهج التجريدي العلمي) واستفادوا من المسلمين في (النظر والبحث العقلي) في حين كانت الهيئة الدينية المسماة بالكنيسة تفرض عليهم كل شيء فرضاً وقسراً وقهراً وإن لم يقبله العقل؛ وهل يقبل العقل شيئاً من خرافات النصارى؟! لا يقبلها. ولكن العقل الأوروبي أُرغم على أن يقبلها؛ فلما استفاد من الحضارة الإسلامية بصيصاً من الحق والنور؛ رفض حضارته ودينه -وإن كان لم يدخل في دين المسلمين- فتزعزعت ثقة الإنسان الأوروبي فيما كانت الكنيسة تمليه عليه من حكمة الوجود وسبب الوجود، فقد كان الأوروبي يؤمن بأن الغاية من الوجود هو التكفير عن الخطيئة. وذلك أن الله تعالى خلق آدم، فأكل من الشجرة، ووقع في الخطيئة؛ فرأى أن يفتدي العالم، فأرسل ابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ثم صُلِبَ؛ ليكفر عن الخطيئة، ومن أراد طريق الخلاص من هذه الحياة الدنيا والنجاة فيها، فعليه أن يقتفي نهج المسيح، ويؤمن بأنه هو المخلِّص والمنقذ، فهذا ملخص ما كانت النصرانية تقوله وإلى الآن يدينون به، وكانوا يعتقدون أن الإنسان هو سيد المخلوقات، وهذا يعطي القناعة والرضا بالوجود مع عدم السؤال عن حكمة هذا الوجود. فالذي حصل في أوروبا أن الناس فقدوا الثقة في هذا كلِه، قليلاً قليلاً، فكان أول ما تزحزحت في أذهانهم حكمة الوجود وغايته.

اكتشاف النظريات قديما

اكتشاف النظريات قديماً لما كتشف أحدهم -هو كوبرنيك - موعة الشمسية تدور حول الشمس، وأن مركز المجموعة هو الشمس وليس الأرض. كانت هذه القضية خطيرة جداً عند الغربيين؛ لأنهم من خلالها فكروا وقالوا: إذاً ما دامت الأرض ليست هي مركز الكون، فيمكن أن يكون الإنسان ليس هو سيد المخلوقات ولا سيد الكون؛ لأن الأرض تابع، والإنسان يسكنها فهو تابع، وقد يكون هناك مركز آخر ومخلوقات أخرى. ولكن رجال الكنيسة حاربوا هذه النظرية حرباً شديدة، على أساس أن المسيح ما نزل وصلب إلا على هذه الأرض؛ فالأرض هي مركز الكون، وكل الكائنات تدور حول الأرض، أو هي مركزها الأساس؛ فلما تبين لهم أن ما تقوله الكنيسة باطل، وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس؛ فلم يعد للأرض وللإنسان تلك القيمة. إذاً: لماذا جاء الإنسان؟ فلا خطيئة ولا شيء، وبدءوا يفكرون، هل هذه الخطيئة حق أو باطل؟! وهل المسيح حقاً هو ابن الله؟ فدءوا يفكرون ويفقدون ثقتهم في هذا الوجود. ثم بعد ذلك جاءت نظرية الجاذبية لمكتشفها نيوتن فقالوا: إن هذه النظرية فسرت الوجود تفسيراً آلياً -والتفسير المكنيكي كما يسمونه- فالوجود يتحرك مع بعضه البعض ويتفاعل بطريقة آلية حسب قوانين الجاذبية، وهي قوانين رياضية لا تخطئ، فازدادوا بُعداً عما كانت تقوله الكنيسة ورجال الدين والأناجيل، وأخذوا يتعلقون بهذه النظريات العلمية الجديدة.

اكتشاف النظريات الجديدة

اكتشاف النظريات الجديدة بعد ذلك ظهرت في القرن التاسع عشر، نظريات أكثر زادت البُعد والشقة بين ما كان يؤمن به الإنسان من نظرته إلى هذا الوجود، وبين ما جاءت به هذه النظريات. ومن جملة هذه النظريات نظرية التطور العضوي -نظرية دارون - فقالوا: إن الأحياء كلها تتسلسل، تبدأ من الكائن ذو الخلية الواحدة إلى أن تصل في النهاية إلى الإنسان، تسلسلاً تدريجياً طبيعيا. أي: أنه وجد هكذا بدون إرادة وراءه ولا هدف أو غاية، فأصبح كل ما تقوله الكنيسة ورجال الدين لا قيمة له إزاء هذه النظرية العلمية كما يزعمون! إذاً لم يعد في حس الإنسان الأوروبي شيءٌ اسمه خطيئة أو صلب أو مسيح؛ إلا وهو من جملة الخرافات -وبالأخص عند المثقفين- إذاً فالإنسان تطور -كما يزعمون- وهذه هي النظرية الصحيحة. وما دام أن الأمر كذلك فليس هناك آدم ولا خطيئة، ولا يحتاج الأمر إلى تكفير أو أي شيء. فتغيرت نظرة الإنسان الأوروبي إلى الوجود تغيراً كلياً، فكفر بكل الأديان. والمصيبة أن الإنسان الأوروبي الذي آمن بهذه النظرية وأمثالها؛ هو الإنسان الذي يقود العالم في تلك الفترة، فقد كان الإنسان الأوروبي من الإنجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم يستعمرون معظم الدنيا؛ فكأن هذا هو خلاصة رأي البشرية والإنسانية. ومن ثم نقلوه إلى معظم الدول التي احتلوها ومنها العالم الإسلامي، وأصبحوا ينادون في كل مكان بأن الإنسان ليس له غاية، وليس لوجوده حكمة، كما يقول زعيم الإلحاد في هذا العصر وهو ألدوس هكسلي صاحب النظرية الداروينية الجديدة، يقول: إن هذا التطور هو الذي جعل الإنسان سيد المخلوقات، فجاء الأمر صدفة واعتباطاً، ولو أنه حل محل الإنسان الضفدع أو الفأر، لأمكن أن يكون هو سيد المخلوقات؛ فالأمر عندهم سواء، فأفقدوا الوجود كل حكمة وكل معنى.

الغربيون بين التنكر لدين الفطرة والاعتراف به

الغربيون بين التنكر لدين الفطرة والاعتراف به وهذا الكلام على مستوى النظريات، فما هو أثره على مستوى الحياة الفردية في الإنسان؟ لقد ترك الناس الكنائس والمواعظ، وتركوا قراءة الأناجيل، وقالوا: كل هذا خرافة، إذاً فكيف يعيشون؟ فلا يمكن للإنسان أن يعيش من دون هدف؛ فكانت فرحة الانبهار بالعلم، وما حقق من منجزات تغشى الأعين قليلاً قليلاً؛ إلا أنه وجِد شعراء وأدباء، ووجِد أناس يفكرون؛ لأن هذا سؤال فطري في كل نفس. فقالوا: هل من المعقول أن يكون الإنسان قد وجد هكذا وليس له هدف ولا غاية؟ فكانت الحيرة الكبرى التي وقع فيها الإنسان الغربي عامة -الأوروبي منهم والأمريكي- هي أننا ليس لوجودنا معنى. إذاً: فما هو الحل؟ تعددت الإجابات.

الانتحار نتيجة الضلال عن حكمة الوجود

الانتحار نتيجة الضلال عن حكمة الوجود ومن الظواهر العجيبة التي أثارت اهتمام العلماء من هذا النوع؛ ظاهرة انتحار الحيتان، وقد تتعجبون لماذا تنتحر! فهي في أعماق المحيط فتخرج جماعات ضخمة من أعماق المحيط فتنتحر على الشواطئ، وترمي نفسها حتى تموت، ومعلوم أن أحرص شيءٍ عند الحيوانات المائية؛ أن تعيش في الماء، فإذا أخرجتها من الماء حاولت أن تتدحرج حتى ترجع إلى الماء؛ فكيف يقذف الحوت نفسه عامداً متعمداً على الشاطئ ليموت؟ فأخذوا يفكرون! وكان مما قيل: إن الحيتان بدأت تشعر أن وجودها لا معنى له، ولا حكمة من وجودها، ولذلك رمت نفسها، لتموت. وكذلك فقد وجد آلاف من البشر ينتحرون، فلماذا ينتحرون؟! ففي السويد وبعض دول اسكندنافيا -وهي أكثر الدول رقياً وتقدماً كما يقولون- وضعوا مستشفيات خاصة للانتحار؛ فالذي يريد أن ينتحر عليه أن يسجل اسمه ويذكر أسباب الانتحار. فقد يكون السبب أن العشيقة طردته، أو لأنه لم يرق في العمل -أو أي سبب كان- فيكتب هذه المعلومات، ويدخلونه في غرفة خاصة، ويقتلونه بطريقة معينة. ويقولون: هذا القتل أفضل من أن يذهب إلى الشواطئ، فيعكر الصفو على المصطادين والسواح، أو أن ينتحر من مبنىً شاهق فيعكر على النزلاء. وهكذا فالآلاف من البشر الأوروبيين -عموماً- يشعرون بأن حياتهم ليس لها معنى، وأن وجودهم لا حكمة من ورائه، وأنهم حيارى ضائعون لا يدرون لماذا جاءوا وإلى أين يذهبون؟ كما عبر الشاعر النصراني، شاعر المهجر إيليا أبو ماضي: جئت لا أعرف من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟! لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري! فهو لا يدري ولا يدري لماذا لا يدري؟ فهو يعبر عن الحياة التي عاشها بنو دينه النصارى، والتي يعيشونها إلى اليوم في أكثر أنحاء العالم؛ فلم يجدوا حكمة لهذا الوجود، فماذا كانت النتيجة؟ إن الانتحار هو ما اختاره كثير منهم! فقد كونوا جماعات كبيرة، منها الجماعة التي انتحرت قبل عشر سنوات بشكل جماعي -وكان عددهم أكثر من ثمانمائة شخص- في الأمازون، وهم من أمريكا ولما وقعت هذه الحادثة أوصى الكونجرس بدراسة هذه الظاهرة في الولايات المتحدة. فكانت نتيجة الدراسة: أنه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية (ألفان وخمسمائة نحلة ودين وجماعة) من هذا الشكل ممن يبلغ أتباعها المليون أو أقل من ذلك، وكلهم بهذا الشكل لا يدرون لماذا جاءوا؟ وإلى أين يذهبون؟ ولا يعرفون قيمة ولا طعم الحياة. وقد تكونت من هذه الجماعات عصابات تذهب إلى البلاد التي تشعر بالطمأنينة في نظرهم، ويسألون عن أي البلاد أكثر انحطاطاً وتأخراً في الحياة لماذا؟ لأنهم تصوروا أن التكنولوجيا والتقدم (الطائرات، والصواريخ، والرفاهية) هي السبب في ضياعهم، أي أن الحضارة هي السبب، فقالوا: نبحث عن أحط بقاع العالم في الحضارة ثم نعيش فيها. ولذلك يذهبون إلى نيبال -وهي دولة داخلية في شمال الهند تعيش حياة شبه بدائية- فالأمريكان في نيبال كثيرون وشبه عراة، لكنهم يقولون: المهم أننا فارقنا نيويورك وشيكاغو، فارقنا تلك المجتمعات المتحضرة حضارة متعقدة لكي نعيش في جو الطمأنينة، وفي جو إنساني حتى نموت. فهم لا يبحثون عن شيء إلا راحةً قليلةً قبل أن يأتيهم الموت، ويحقنون أنفسهم بالمخدرات! إنها حيرة متناهية! فهم لا يدرون لماذا جاءوا؟ ولماذا خلقوا؟ وإلى أين يذهبون؟ فلا يدرون ولا يخطر على بالهم أن في إمكانهم أن يعرفوا ذلك أو يعلموه؛ لأن المجتمعات التي لفظتهم هي مجتمعات التقدم والعلم والتكنولوجيا، فما قيمة هذا العلم وهذه الحضارة المادية بغير إيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! لم يجدوا لذلك أي قيمة، وهذا الداء قد وصل إلى بلاد المسلمين، ولو تحدثنا عنه في بلاد الغرب لطال الحديث جداً، فأنتم تقرءون في المجلات الغربية عن عدد المنتحرين، بسبب الحياة العابثة التي يعيشها الغرب.

أولا: التنكر

أولاً: التنكر فمنهم من قال: العلم لا دخل له في الفلسفة؛ فنحن في المعمل نبحث عن وجود الأشياء والظواهر العلمية، وكذلك علماء الاجتماع يبحثون عن الظواهر الاجتماعية، ولكن لا شأن للعلم بالفلسفة؛ فنحن لا نبحث لماذا جاء الكون؟ فهذا لا يهمنا. فهذا سؤال فلسفي وهم يعاندون الفطرة؛ لأنه كلما بحثوا في شيء من الكون؛ يأتيهم Q لماذا جاء هذا؟ فيعاندون ويقاومون الفطرة بهذا الحل، وهو أنهم يجعلون هذا من مسئولية غيرهم، فالباحث في الأحياء أو الفلك أو الطبيعة؛ لا دخل له بغيره، وغيره هو الذي يجيب على هذا السؤال، أما هو فيجيب فقط عن خواص المادة، وكيف تتركب، وكيف تتكون، وهذا يكون في حدود علمه. فأصبح الإنسان يجد عالماً فيزيائياً، أو فلكياً -كبيراً- يتكلم عن دقة الكون وعن عجائب النبات، وعن عجائب خلق الله عز وجل؛ فإذا سألته وماذا وراء هذا؟ وكيف نشأ هذا؟ يقول: لا تحول الموضوع إلى فلسفة؛ فنحن نتكلم كلاماً علمياً فقط، وكأن العلم عدو للبحث عن الحقائق الأساسية. فحالهم هو كما قال بعض العلماء: كمثل الإنسان الذي كان في فناء بيت من البيوت، وهو يرى البيت من بعيد، يعجب به! ويقول: هذا البيت لا بد أن له صاحباً عمله وبناه وهندسه وصرَّفه ودبره، فلما أن دخل هذا البيت كلما فتح باباً قال: الآن أيقنت أن هذا البيت ليس لأحد، ولم يبنه أحد ولا هندسه أحد، فكيف وهو في الخارج يؤمن بأن هذا البيت لا بد أن له مهندساً وأن له مالكاً وله موجداً، ولما دخل ورأى النقوش والزخارف، والتخطيط العجيب الدقيق أنكر؟! فكلما ازداد في معرفة دقة البيت ونظامه وهندسته، يقول: الآن ازددت قناعة أنه ليس لهذا البيت مالك ولا مهندس؟! فهذا هو حالهم! فالإنسان عندما كان أُمياً ساذجاً لا يعرف من هذا الكون إلا المظاهر، يرى السحاب ويظن أنه ملتصق بالسماء، ويرى النجوم ويظن أنها عبارة عن لمبات صغيرة في الكون؛ كان يعتقد أن لهذا الكون إله، ولما تعمق في الكون ورأى المجرات والآفاق البعيدة قال: الآن أيقنت أنه ليس لهذا الكون إله كيف يكون هذا والفطرة والعقل الصحيح عكس ذلك؟! فالعقل الصحيح يقول: كلما تشاهد الدقة تزداد يقيناً بأن الذي صنع هذا أعظم مما كنت تتخيل بكثير جداً، وهكذا نسي أولئك هذا الشيء.

ثانيا: الاعتراف

ثانياً: الاعتراف النوع الآخر: اتجهوا إلى أن هذا الكون له حكمة، والوجود له غاية؛ لكنهم لما كانوا لا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح، ولا يؤمنون بالإسلام الذي يملك الإجابة الصحيحة على كل شيء؛ أخذوا يتخبطون أو يأتون بإجابات مجملة، ومن ذلك: أن كثيراً من العلماء الذين أقروا على الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، على أساس أن لهذا الكون إله، ولكن ماذا يعمل الإنسان؟ لم يجدوا الجواب، فأخذوا يقولون: عليه أن يحقق السلام، وعليه أن يبحث عن الطمأنينة، وعليه أن يفعل كذا. فهم لا يجدون الإجابات؛ لأنهم لا يملكون ذلك؛ فتركوها وأعرضوا عنها. ومن هؤلاء العلماء الذين أدهشتهم دقة الكون وعجائب الكون أحد العلماء الأمريكيين الكبار، صاحب الكتاب الذي ترجم باسم: العلم يدعو إلى الإيمان وهو كريس مرسون، فهذا الرجل رد على هكسلي زعيم الإلحاد، فقد كتب هكسلي كتاباً اسمه: الإنسان يقوم وحده؛ فرد عليه هذا بكتاب الإنسان لا يقوم وحده، وترجم باسم العلم يدعو إلى الإيمان. فذكر فيه أموراً عديدة، وتفصيلات دقيقة لحكمة الأحياء؛ لكنه لم يذكر فيه شيئاً عن حكمة وجود الإنسان؛ لأن هذا لا يملكه الإنسان الغربي، وقد تكلم عن الهداية فيقول -مثلاً-: إن الطيور التي تعشعش في بيوتنا، في فصل ما من الفصول، تهاجر وتقطع آلاف الأميال فوق البحار في فصول أخرى، ثم تعود إلى نفس العش، هذا شيء يثير الانتباه '. ومنها أن الثعابين المائية -على نوعين: ثعبان الماء الأوروبي، وثعبان الماء الأمريكي- التي تهاجر من المحيط الأطلسي -إذا تجمد- إلى اتجاه المناطق الاستوائية الدافئة إلى مثلث برمودا، تهاجر وتموت هنالك؛ ولكنها تبيض في المناطق الاستوائية؛ والذي يحصل أن الثعابين الصغيرة المولودة -بعد أن تكبر- تعود وتهاجر إلى المناطق التي كان فيها آباؤها في أوروبا أو في أمريكا؛ بحيث أنه إذا ذهب الثلج وجاء الفصل المعتدل؛ نجد أن كل بحيرة فيها الثعابين المائية. إذاً هناك نوع من الهداية، لأن الثعبان يعود إلى المكان الذي كان فيه أبوه، ولا يذهب إلى بحيرة أخرى. وأكثر من ذلك! المسافة التي يقطعها الثعبان الأوروبي فهي -بطبيعة الحال- من شواطئ غرب أوروبا إلى برمودا، أكبر وأطول من أمريكا؛ ووجدوا -أيضاً- أن عمر الثعبان الأوروبي أطول بأشهر من الثعبان الأمريكي؛ وكأن هذا حساب للمسافة الزمنية، فكل شيء له حسابه ونظامه الذي يختص به دون غيره. ثم نظر إلى النمل وقال: إنه وجد أن هذا النمل أنواع، فهناك نوع من النمل يطحن الطعام، أي: أن النمل يجمع الطعام فيأتي النمل الطحان فيطحن الطعام؛ فيطحن الحب ويجمعه، وإذا انتهى الطحن، وجاء موسم الأكل من المخزون؛ يقوم النمل الآخر فيقتل النمل الطحان، لأنه لو بقي لأكل مما طحن فلا حكمة من وجوده. إذاً: يموت، وغيرها من الأشياء العجيبة!! وذكر -أيضاً- نوعاً من العناكب التي تعيش في الماء، فهذه العناكب تغوص وتبني عشها في أي شيءٍ ثابتٍ في قعر البحر، ثم تصعد إلى سطح الماء؛ لتحتفظ بفقاعة من الهواء، ثم تعود فتضعها في العش، وهكذا. حتى تأتي بفقاعات ينتفخ بها العش من الهواء، ويكون فيه البيض والمواليد التي تضعها هذه العنكبوت في جو في قاع البحر بعيدٍ عن العواصف وبعيد عن الأخطار؛ وفي نفس الوقت الأكسجين موجود؛ لأن العنكبوت قد أخذت الأكسجين من الهواء الطلق، وهذا الأكسجين يكفي لأن تعيش العناكب حتى تكتمل، فإذا اكتملت تخرج وتصبح مثل الأم؛ تسبح في الماء وتبدأ تصنع أعشاشاً جديدة. إذاً فكل شيءٍ له حكمة وكل مخلوق له نظام، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] وكل شيء له نظام يمشي عليه. أما إذا انتهت الغاية من وجود هذا الشيء؛ فإنه ينتهي وجوده تلقائياً، وكأنه لا مبرر لبقائه.

من وسائل نقل أمراض الغرب إلينا

من وسائل نقل أمراض الغرب إلينا كيف وصلت هذه العدوى إلى البلاد التي أُرسل إليها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وإلى أمةٍ تتلوا القرآن وتقرأ السنة؟ ثم لا تدري لماذا جاءت، وإلى أين تذهب.

مشاهدات واضحة

مشاهدات واضحة إن الدراسات التي يقوم بها العلماء الأوروبيون عن أي دين من الأديان كثيرة: فهم يذهبون إلى علماء الهند -علماء البرهمية - يزورونهم ويجالسونهم ويسألونهم عن الدين، وكيف ينظرون إلى الأمور؛ فيكتبون عنهم المصادر الموثقة، ويكتبون عن بوذا وغيره بأنهم رجال مصلحون عظماء فقد فعلوا وفعلوا. لكن إذا أرادوا أن يكتبوا عن دين الإسلام: هل رأيتم مستشرقاً جاء إلى علماء المسلمين وأخذ يسألهم عن الإسلام؟ وهل يأخذ الحق من مصادره الصحيحة؟ وهل يستدل بتفسيرٍ صحيحٍ للقرآن ويستشهد به؟ لا. بل تجده يخبط خبطاً عجيباً جداً ويفتري أشياء لا وجود لها في القرآن، أو في السنة، أو حتى عند المسلمين. فمثلاً أصحاب دائرة المعارف الإسلامية، وهؤلاء هم أرقى طبقة من المستشرقين؛ فالغربُ كله يقدرهم ويجل أعمالهم العلمية، ولكن مع ذلك فلهم افتراءات عجيبة، وسأضرب أمثلة بسيطة جداً على ذلك: فمثلاً يقولون في قصة إبليس: في القرآن أن إبليس يبيض ثلاث بيضات، ومن كل بيضة يطلع نوع من أنواع الشياطين. ففي أي سورة وفي أي آية نجد هذا؟! ومع ذلك فهم علميون محترمون لا يتكلمون إلا من منطلق العلم والبحث العلمي -كما يزعمون- فلماذا إذا تكلموا عن الإسلام فإنهم يختلقون ما شاءوا من الأكاذيب، وإذا تكلموا عن غيره فبالاتزان والهدوء والمراجعة؟ لماذا لا يذكرون صحيح البخاري ولا يستشهدون به؟ وإنما يستشهدون بكتب ككتاب الأغاني، وألف ليلة وليلة أو بالكتب السخيفة التافهة التي لا قيمة لها علمياً؟! إنما ذلك لأن الحقد في قلوبهم. فهذا من الناحية العلمية. ومن الناحية الواقعية؛ فإنه إذا حدث حدثٌ في الهند أو الصين أو في أي بلد من بلدان العالم فإننا نلاحظ كيف تتعامل معه النفسية الغربية؟! إنهم ينظرون إليه نظرة مجردة، فيأخذون الأخبار من مصادرها، ويجرون المقابلات مع زعماء الطوائف الانفصالية أو الثوار أو غير ذلك، حتى لا يقولون عنهم إلا القول الذي أخذوه عنهم، أو يقولون: تنسب الحكومة إليهم كذا، حتى لا يكونوا مفترين. فإذا كان الأمر في بلاد المسلمين لفقوا التهم كما يشاءون عن المسلمين، ولا يسألون أبداً، ولا يستفسرون مِن صاحب الشأن من المسلمين: ما رأيك في كذا؟ ولماذا قلت كذا؟ ولهذا فإن كثيراً من القضايا الإسلامية لا نعرف حقيقتها إلا إذا جاءت مجلة أو صحيفة إسلامية، وقد تكون متأخرة جداً، فتعرف أن حقيقة الموضوع كذا وكذا؛ بينما سمعنا في الإذاعات والصحف الغربية أن الأمر يختلف تماماً! والأمثلة في هذا كثيرة. المهم أن هؤلاء الذين لا يدرون لماذا جاءوا؟ ولماذا خلقوا؟ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ لا يمكن أن يريدوا لنا الخير؛ وبذلك لا يمكن أن يعيشوا في أنفسهم عيشة إنسانية. وكما قلنا: إن الحيوان هو الذي يعيش عمره لحظة بلحظة، ولا يفكر فيما مضى ولا فيما هو آتٍ، وإن أكثر هؤلاء الناس لو سألناهم؛ لوجدنا أنهم يعيشون كالحيوان، يفكر في ذلك اليوم وكيف يسهر، وكيف يلعب، وكيف يترفه (في حدود ذلك اليوم) ولا يدري لماذا أتى؟ وإلى أين أذهب؟ فيجب أن نعلم أنها تربية عامة وليست تربية غربية. ولذلك فإن البيان الشيوعي الذي قامت عليه الشيوعية والعالم الشرقي ينص على أن مطالب الإنسان الرئيسية هي الغذاء والمسكن والجنس -أي: المطالب الحيوانية فقط- وكذلك العالم الغربي، ففي أي مجال ننظر وندرس سواء كان ذلك في مجال العلاقات العامة، أو مجال الدراسات الاجتماعية، أو مجال البحوث الاقتصادية، فإننا نراهم يقولون: الغاية التي تسعى إليها المجتمعات والدول والأفراد هي الرفاهية الاقتصادية، والسعي إلى تحقيق أكبر ربح مادي وأكبر نسبة من التنمية ومن التقدم والاقتصاد، فهذه غاية الشرق والغرب، إنها مطالبٌ حيوانية، ونظرة حيوانيةوليس للإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها أي أثر.

سبب انتقال هذه الأمراض

سبب انتقال هذه الأمراض كثيرٌ من الشباب وصل به الأمر إلى هذا الحال؛ بل إنهم يتابعون ويلهثون وراء أولئك الضائعين الذين لا يدرون لماذا جاءوا وإلى أين يذهبون، وأكثر من ذلك أنهم ربما يعظمونهم ويجلونهم ويقدرونهم ويقتدون بهم في مناهج الحياة. فهؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، والذين لا يسأل الواحد منهم نفسه لماذا جئت إلى هذه الحياة، وإلى أين نذهب بعد الموت هؤلاء يتبعهم بعض شباب المسلمين ويقولون لهم: تعالوا نظموا لنا حياتنا! ونريد أن تكون حياتنا العلمية والاجتماعية، بل كل أمورنا على ما تسيرون عليه وهل يمكن للحيران الأعمى أو التائه الضائع الذي لا يجد حلاً لنفسه أن يعطي لغيره الحل؟! وسبب هذه المصيبة أن الإنسان الغربي لما نظر وتصور أن دينه هو أفضل الأديان، وأنه قد ترك دينه فقال: إذاً أنا فعلاً لديَّ هداية؛ وأصحاب الأديان الأخرى التي هي أقل من ديني يجب أن يأخذوا مني؛ لأن عندي تجربة إنسانية في بعض مناحي الحياة، وديني قد تركته؛ فمن الطبيعي أن أصحاب الديانات الأخرى يتبعوني ويأخذون ما عندي؛ لأنهم يتصورون أنه إذا كانت النصرانية ملأى بالخرافات؛ ففي الإسلام أضعاف أضعاف ذلك من الخرافات عياذاً بالله تعالى. فهكذا هي نظرتهم، ونحن نصدق نظرتهم حين نتبعهم، ونقتفي آثارهم، ثم نسير عليها ونكِّيف أنفسنا وفقها، هذا هو الواقع شئنا أم أبينا؛ كأننا الآن نقول للعالم الغربي: لم نتخذك قدوة إلا لأنك تملك من الحق ما لا نملك، ولأنك تركت خرافات النصرانية ونحن -أيضاً- نترك خرافات الإسلام عياذاً بالله. فهذا واقع الحال، وإن كان بعض المقلدين لهم يقولون: لا. نحن لا نأخذ منهم الدين! إذاً فما الذي تأخذ منهم؟ ألست تأخذ منهم منهج حياتك كلها؟! وهذا هو الدين وهم لا يملكون غير ذلك، أما دينهم فقد تركوه؛ إلا ما بقي من تعصب له ضد الإسلام. فإذا قورن دينهم بالإسلام، فكلهم يتعصبون لدينهم ويقولون: ديننا صحيح والإسلام باطل، وأما إذا قلت لهم: ما رأي العلم في دينكم؟ قالوا: ديننا باطل، من الجهة العلمية والعقلية؛ لكن من جهة مقارنته بالإسلام؛ فهو الحق وهو الصحيح؛ لأنه لا يُجوِّز تعدد الزوجات، ولأنه لا يحرم المرأة من الفواحش وغير ذلك؛ ويقولون: إن الإسلام هو الذي يقف حجر عثرة أمام الحضارة والرقي وأمام التقدم. ومن هنا نعلم لماذا حذَّرنا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من انتهاج طريق الذين كفروا، ومن اتخاذهم أولياء عندما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]. فحذرنا الله من هؤلاء، ولو أنهم أرادوا أن يعطونا الهداية والحق؛ فإنهم لا يملكونه، كيف وهم يحملون علينا الحقد ولا يريدون إلا الكيد والمكر وسوء العاقبة، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة؟! فلو أقسموا الأيمان المغلظة على أنهم يريدون مصلحة الأمة الإسلامية؛ لكانوا كاذبين، ولو فرض أن بعضهم أراد الخير؛ فإنه لا يملكه، فهو مثل إنسان جاهل زعم أنه طبيب، ولو أخلص وأراد أن يعالج أحداً لقتله؛ لا لأنه يريد أن يقتله؛ لكن لأنه ليس بطبيب. فهؤلاء الغربيون ليسوا بأطباء؛ بل هم قتلة متعمدون لهذا الدين، فلا يريدون أن تعود هذه الأمة إلى مجدها لحظة واحدة، وأنا أضع أسباباً حتى يُعلمَ أن الحائر الضائع الذي لا يدري لماذا جاء وإلى أين يذهب لا يمكن أن يهدي أحداً غيره.

الأسئلة

الأسئلة

تربية الأبناء على العبادة الصحيحة

تربية الأبناء على العبادة الصحيحة Q كيف نربي أبناءنا على فهم العبادة بمفهومها الصحيح؟ A من المهم في التربية أن نربي أنفسنا وأبناءنا على العبادة بمفهومها الصحيح، فبعض الناس لا يفهم من الإسلام إلا بأنه عدو للدنيا يحارب الرفاهية والمال والزوجة، يُحارب كذا وكذا إلخ. وهذه ليست العبادة الصحيحة، ومن هذا الباب يأتي الإنسان الضال فيقول: الأفضل أن أعيش متنعماً ومترفهاً، وأجمع المال وأعمل وأعمل إلخ. فلا نكون مثل هذا الإنسان. وبعض الناس لا يفهم أيضاً من الدين إلا أن الدين يسر، وكلما كلمته في شيء، قال لك: الدين يسر. وإذا سألته: ما حكم هذا الشيء؟ يقول: ليس فيه شيء، فالدين يسر. الاختلاط؟ الدين يسر. الربا؟ الدين يسر. أكل مال اليتيم؟ الدين يسر لا تتشدد ولا تفعل إلخ. فهذا يبيح كل شيء، وهذا يحرم ما أحل الله، فتكون حيرة المجتمع وحيرة الناس من هذا ومن ذاك، وهذا يرد على هذا، فهذا يقول له: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش عيشة الزهد والتقشف والتواضع وكذا وكذا وذاك يرد عليه إن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] وأنه ما يشادّ الدين أحد إلا غلبه فهذا عنده أدلة وهذا عنده أدلة، فهذا أخذ بجزء من الحق وهذا أخذ بجزء من الحق وأما العبادة الصحيحة لله عز وجل، والتربية الصحيحة فهي أننا نأخذ الحق كله، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: ادخلوا في الإسلام كله، فهو يضمن لك الحياة الصحيحة في الدنيا، ويحثك على العمل، وينهاك عن الاغترار بالدنيا، فيبيح لك الطيبات؛ لكنه ينهاك عن الانغماس فيها ونسيان الآخرة، فهو توازن في جميع الأمور. فالعبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تكون: بأن تكون كل أمورنا في الحياة على وفق الإسلام؛ فلا يغلو طرف على الطرف الآخر؛ وبذلك تكون حياتنا صحيحة، وعبادتنا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صحيحة، وجميع حياتنا عبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ حتى اللقمة يرفعها الرجل إلى فيِّ امرأته له فيها أجر، حتى وهو يأتي أهله ففي بضع أحدكم صدقة، حتى وهو يفكر ويعمل في أمور تنفع المسلمين ولمصلحتهم فله في ذلك أجر وهكذا. فلا نحارب الدنيا لمجرد أنها دنيا، ولا نحارب أيضاً التزهد والترفع عن متاع الدنيا وزخارفها؛ لمجرد أن ديننا دين يسر وأنه يحل الطيبات ويحرم المحرمات. والحمد لله رب العالمين.

الرد على نظرية دارون

الرد على نظرية دارون Q كيف يمكن الرد على نظرية دارون؟ A الرد على هذه النظرية وعلى غيرها له جانبان: الجانب الأول: نحن المسلمين إيماناً منا بديننا وبصحة ما نحن عليه من الكتاب والسنة -والحمد لله- الأصل أننا لا نتأثر بها على الإطلاق؛ لأنها لا تجد في بلاد المسلمين موضع قدم، ولأننا نعلم جميعاً أن الله تبارك وتعالى خلق آدم عليه السلام، ومن ثم تناسلت السلالة الإنسانية أو الجنس البشري من ذرية آدم وحواء -وهذا لا شك فيه عند أي مسلم عالم أو جاهل- أما ما يتعلق بالأحياء الأخرى، فهذا لا يهمنا كثيراً. فإذا أثبتوا أن الله تعالى هو الذي خلقها لكنه جعل بعضها ينتج من بعض، فلا مانع. وأما إذا قالوا: هذه نتجت من ذاتها عن طريق التولد الذاتي أو عن طريق الخرافات التي يقولونها؛ فهنا نرد عليهم. فالجانب الأول هو الرد الديني بالكتاب والسنة، وهذا معروف لدى كل مسلم، ومن شك في ذلك فهو كافر؛ لأنه يكذب صريح القرآن. الجانب الثاني: وأما من الناحية العلمية المجردة فقد رد عليها كبار علماء الغرب، ومن الردود العلمية عليها: أن نظرية التطور تقوم أساساً على أن الأنواع تتطور عضوياً بحيث تنتج أنواعاً جديدة، وكل نوع ينتج نوعاً آخر فعن طريق الوراثة المتسلسلة المتتابعة تنتج أنواعاً جديدة، وهذا ملخص النظرية الذي يرد بها العلماء المعاصرون على هذه النظرية. يقولون: إن دارون لما كتب هذه النظرية؛ لم يكن يعلم هو ولا علماء عصره شيئاً عن ناقلات الوراثة -الجينات- فهذه لم تكتشف إلا بعد دارون بزمان، وهذه الخلايا كل خلية تحمل كل خصائص الجنس، أي: أن الخلية الإنسانية كأنها مصغر للإنسان ككل، ولهذا يقولون -مثلاً-: التوائم تتشابه لأنها لخليتين حيتين متقاربتين انتجت التوائم، لكن لا يوجد شخصان متشابهان في كل شيء أبداً، فلا بد من فروق عضوية. فناقلات الوراثة هي علم جديد اكتشف، وفيه من العجائب ما يبهر الألباب. ولم يكن دارون ومن معه يعرفون هذا العلم؛ وإنما نظروا نظرة ظاهرية فقط، وهي أن هناك تشابه بين بعض الحيوانات وبين بعض. فقالوا: يمكن أن هذا أصله من هذا، فحكموا من الشكل الخارجي فقط، ولكننا عندما ننظر إلى الحقائق الدقيقة العلمية، والخلايا وما يتعلق بها، فإننا نجد الفروق المختلفة المتباينة جداً، بحيث لا يمكن ولا يصح بأي حال من الأحوال أن يقال إن هذا الجنس هو أصل لذلك الجنس أبداً. وهذا رد من ردود كثيرة جداً يقولها علماء الأحياء الكفرة الغربيون على نظرية دارون.

التمسك بالدين سلاح المواجهة في وجه الأعداء

التمسك بالدين سلاح المواجهة في وجه الأعداء Q كيف يمكن مواجهة الإعلام الغربي وحملاته على الإسلام هنا وفي بلاد الغرب؟ A هذا السؤال يجرنا إلى قضية كبيرة جداً أكبر من هذا السؤال وأكبر من هذا الموضوع، وهي: أننا دائماً نسأل كيف نقاوم الشيوعية، ونقاوم الإلحاد، وكيف نقاوم النظريات الوافدة، ونقاوم التشويه الذي يقوم به الإعلام الغربي، كيف وكيف وكيف إلخ. وأنا أقول: إنه لا يمكن أبداً أن نقطع ألسنة الناس عنا أبداً، ولا يمكن أبداً أن نصل إلى مرحلة نأمن فيها من شر الشرق أو الغرب أبداً، فقد قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال أيضاً: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] فلا يمكن ذلك. ونحن اليوم -كما يقول بعض العلماء- ندفع ضريبة الانتماء للإسلام، كيف؟! ليس فينا من الإسلام إلا -ما يعلمه الله- شيءٌ قليل جداً، لكن الغرب ينظر إلينا على أننا مسلمون. فبعض المسلمين صاروا شيوعيين ماركسيين تماماً؛ لكن الشيوعي الروسي يعاملهم على أنهم ذيل؛ فالشيوعي الأوروبي درجة أولى، والشيوعي الأسيوي أو الأفريقي درجة ثانية، أما الشيوعي الذي هو من بلد مسلم فهو آخر الشيوعيين وأحطهم. وكذلك في الغرب، فإذا وجد إنسان وقد صار أمريكياً تماماً في فكره وحياته وكل شيء؛ فإنه لا يعتبر أمريكياً ولا ينظرون إليه على أنه مثل الأمريكي الآخر؛ وإنما هو من درجة بعيدة؛ بل إن أحط درجة من درجات الحياة الأمريكية هي التي يعيشها هذا الإنسان. ولذلك نقول: كيف نقاوم: الإعلام والزنا والنوادي الإباحية والاختلاط، وهل هذا ممنوع في أمريكا؟ لا. هل سمعتم أن أمريكياً يُعيَّر أنه عضو في نادٍ مختلط مثلاً؟ لكن لماذا إذا ذهب مسلم إلى هذه الدعارات شوهتموه؟ نقول: الحمد لله! هذه نعمة! لأن هذا المسلم يحمل ضريبة الانتماء للإسلام، فضريبة ذلك أن تنسب إليه جميع التهم، وإن كانت في نظرهم ليست بعيب ولاتهمه أو عار، فنحن ندفع هذه الضريبة. ولا يمكن -أبداً- أن يسكت عنا الأعداء؛ لا بالإعلام أو بغير الإعلام، ولا يجوز لنا أن نلوم أعداءنا، وكما قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. فنحن مسئولون أمام الله وأمام أنفسنا عن كل هذه الأمور؛ فيجب أن نؤمن بالله وأن نتمسك بديننا، وهذا هو الذي يدفع عنا كل شر، ومع ذلك سيشهرون ويتكلمون، لكن لا نبالي بهم، المهم أنه لا طريق لنا إلا أن نعود إلى ديننا، ولو استأجرنا مئات الإذاعات في أوروبا ومئات الصحف في أمريكا لتثني علينا، لما تغيرت صورتنا عندهم أبداًَ! ولو أنفقنا لهم ملايين الدنيا ليسكتوا عنا لسكتوا إلى حين أو إلى مصلحة ثم شهروا بنا من باب آخر. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما خلق الناس جعل منهم مؤمنين وكافرين، وجعل هذا عدواً لذاك، فنحن نخطئ خطأً كبيراً جداً إذا ظننا أننا نستطيع أن نسترضي الكافر أو نستعطفه أو نسترحمه بأي شكل من الأشكال؛ والصحيح أننا نطبق فيه حكم الله وشرع الله ونعامله كما أمر الله تعالى، فهذا الذي يقينا شره كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] أي: بالصبر والتقوى، وأما بوسائل الإعلام أو أشياء أخرى؛ فهذه لا يمكن أن تكفهم عنا أبداً.

الهندوسية والبوذية وغيرها ديانات باطلة

الهندوسية والبوذية وغيرها ديانات باطلة Q هناك عدة ديانات مثل: الهندوسية والبوذية، يقال: إن هذه الديانات كان أصلها ديانات سماوية ولكنها حرفت وبادت، مع العلم أنها تتفق مع ديننا في الإيمان بعالم الأرواح، فنرجو منكم التوضيح. A يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] فلا يوجد أمة من الأمم إلا وقد بعث الله تبارك وتعالى إليها: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. ولكن بعض هذه الأمم حرفت وغيرت وبدلت والموجود الآن من الأديان في الأرض لا ندري هل هو تحريف لذلك الدين، الذي هو التوحيد والشرائع التي أنزلها الله تبارك وتعالى أم أنها تحريفات متوالية، أي أن القرون توالت والتحريف موجود لكن هناك تحريفات توالت، وهناك بدع أحدثت، وأديان أحدثها البشر ونسبوها إلى الأديان الأولى التي حرفت. فتراكمت الانحرافات والضلالات حتى وصلت إلى الحالة التي هي موجودة عليها اليوم؛ فلذلك لا ندري! هل بوذا نفسه كان نبياً، ونسب إليه هذا، أم أنه كان من أتباع بعض الأنبياء، وكان محرفاً للدين وابتدع البوذية؟ فهذا الله تعالى أعلم به، وهذا تاريخ سحيق ولا نملك فيه إلا أن نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] وأن نعتقد أن الدين الحق عند الله هو الإسلام، وما عداه فهي أديان باطلة لا يقبلها الله تبارك وتعالى ولا يدخل من دان بها الجنة أبداً، بل هم من أصحاب النار.

الإقرار النظري بحكمة الوجود لا يكفي

الإقرار النظري بحكمة الوجود لا يكفي Q الإنسان مخلوق للعبادة، وهي عبادة الخالق عز وجل، ما حكم من يقر بهذا الأمر ويفعل خلافه؟ A إذا كان كل مسلم لو سألته لماذا خلقت؟ وما الحكمة من وجودك؟ يقول: خلقت لعبادة الله، لكن هل يكفي هذا؟! وانظر إلى واقع كثير من المسلمين. فإذا كان هذا نظرياً فهو يعيش حياة الذين لا يؤمنون؛ ولذلك لا يكفي الإقرار النظري، وإنما يجب أن يتحول إيماننا بهذا الإقرار إلى عقيدة صادقة، تغير حياتنا وتحرك أعمالنا، وفق ما أمر الله تبارك وتعالى به من الإيمان الصحيح، والالتزام بدين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما شرع. هذا هو الإيمان الصحيح، وهذا الذي تحتاجه الأمة الإسلامية اليوم؛ أما مجرد الإقرار أن للوجود حكمة، ولي حكمة وهي العبادة، دون أي عمل؛ فإن هذا يحول الإيمان إلى مسألة ذهنية فلسفية، يمكن حتى للإنسان الأوروبي أن يؤمن بها، ولكن لا أثر لها في حياته.

الدين والحضارة

الدين والحضارة Q كيف نرد على من يقول: إن الدين عقبة في التقدم الحضاري والتكنولوجي بالذات، لأن هذا هو الذي نراه من كثير من المسلمين قديماً وحديثاً؟ A هذا السؤال الإجابة عليه تحتاج إلى أن نستفصل ما هو الدين؟ فإذا قال الإنسان الأوروبي: الدين عقبة في سبيل الحضارة، وإذا قال كذلك الإنسان الهندي: الدين عقبة في سبيل الحضارة، وإذا قال الإنسان البوذي في الصين أو غيره: الدين عقبة في سبيل الحضارة؛ فنقول: نعم. دينكم عقبة؛ لأنه دين أنتم وضعتموه، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وليس هو الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى. أما الإسلام فلماذا أنزله الله؟ قال سبحانه: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] أي ما أُنزل هذا الدين ليشقى أبداً، بل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]. إذاً: هذا الدين أنزله الله تبارك وتعالى لسعادتنا، فإذا كان من سعادتنا أننا نتقدم بالتكنولوجيا، فبدلاً من أن نركب الجمال؛ نركب الطائرات فهل يُحرِّم الدين ذلك؟ إن دين الله تعالى الغني غنىً مطلق عنا، الكريم كرماً لا حدود له على الإطلاق، الذي خلق لنا ما في الأرض وأمرنا أن نمشي في مناكبها كما قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] وأحل لنا الطيبات جميعاً، وأمرنا بالتفكر في الكون، وأمرنا أن نتخذ كل وسيلة فيها خيرٌ لنا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احرص على ما ينفعك} وندعو ربنا تبارك وتعالى كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أكثر ما يدعو ربه يقول: اللهم آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. فالدين يحثنا على العمل الدنيوي، وعلى حسنة الدنيا وخير الدنيا؛ ويريدنا أن نكون قادة للعالم نتحكم فيه بالحق والعدل والهدى الرباني؛ فكيف يكون عقبة في طريق الحضارة والتقدم؟ هذا إذا كانت حضارة حقيقية. وأما إن كانت الحضارة شيئاً آخر أو كانت حضارة التعري؛ فالإسلام عقبة كبرى في سبيل التعري، وإن كانت الحضارة إدمان المخدرات والتكبر على عباد الله بهذه القوة التكنولوجية؛ فالإسلام يقف ضدها؛ لأنها تؤدي إلى شقاء الإنسان ولا تؤدي إلى سعادته. أما الله تبارك وتعالى الغني الحميد، فإنه قد شرع لنا ما هو خير لنا في دنيانا وأخرانا، وهو أكرم وأجل وأفضل من أن يشرع لنا ما يضرنا وما يضيق به علينا، وليس للمسلم فقط؛ بل وللكفار الذين يرضون بالطاعة، ويدخلون في طاعة المسلمين، ويدفعون الجزية، يمتعهم الإسلام المتاع الحسن ويقبل منهم الجزية، ويعيشون مطمئنين، ويتعبدون كما يريدون. فإذا كان ديننا يحقق الحياة الكريمة، لمن لا يؤمن به؛ لأنه خضع ظاهراً للدين؛ فكيف بالمسلم الذي يطبق هذا الدين؟ فهذا يجب أن يكون قائداً للإنسانية، ويجب أن يكون موجهاً للأمم جميعاً، وهذا لا يكون إلا بالتمسك بهدى الله وشرعه.

الحضارة التي تسعد الإنسان

الحضارة التي تسعد الإنسان Q لقد اهتممت بموضوع الحضارة وأثرها في المجتمع، فهل سوف ترجع الدنيا كما كانت؟ وما هي الحضارة التي تسعد الإنسان وترقى به إلى كمال الإنسانية؟ A قوله: هل سترجع الدنيا كما كانت، بمعنى أن الإنسان سوف يفقد الحضارة الموجودة اليوم. أقول: إن الحياة الإنسانية مد وجزر؛ حتى إن بعض الباحثين من الأوروبيين يرون أنه لا يستبعد أن تكون قد وجدت حضارات من قبلنا أرقى منا مادياً ثم تدمرت لأي سبب من الأسباب، إما انفجارات نووية أو غيرها. وأما الجانب الشكلي من الحياة: -جانب الرقي المادي التكنولوجي أو عدمه- فإنه يرتفع وينخفض على مستوى الإنسانية جميعاً، وعلى مستوى الشعوب أيضاً، فيمكن أن يكون شعب من الشعوب هو قائد العالم في الحضارة المادية، وقد يسلم القيادة إلى شعب آخر وهكذا. ولهذا فـ الولايات المتحدة -مثلاً- كانت تخشى من اليابان؛ والآن اليابان وأمريكا تخشيان من كوريا وهذه لا علاقة لها بالدين ولا بالهداية، فمن الممكن لأي شعب أن يُمكَّن له مادياً ولكن هل يدوم؟ إن هذا لا يدوم. إلا إذا كان على الإيمان والتقوى. فإذا كانت الحضارات التي تقوم على الإيمان والتقوى واتباع أمر الله تسقط إذا انحرفت وارتكبت المعاصي والترف والفجور؛ فما بالك بالحضارات التي قامت من أصلها على المادية والإلحاد، فإنها تذهب وتعود إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وقد تقوم الساعة والناس في قمة من الحضارة المادية، وقد تقوم وهم دون ذلك بكثير، وقد تقوم وهم أنواع أو أخلاط، وإن كانت الأحاديث الصحيحة الواردة -مثلاً- في قتال المسلمين للروم في آخر الزمان حين يقرب خروج الدجال، ومن ثم انتهاء هذا العالم، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني لأعرف أسماء خيولهم -لأنهم سوف يقاتلون على الخيول- ويربطون خيولهم على الزيتون} وهذا يدل على أن وسائل القتال سوف تكون بالوسائل المادية المعروفة سابقاً، وليست الوسائل الحديثة، والله تعالى أعلم، فهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. فالمهم هو أن الحضارة التي تُسعد الإنسان وترقى به إلى كمال الإنسانية، هي الحضارة التي تقوم على الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وأما على أي دين آخر فلا يمكن أن توجد أبداً؛ لكنها تقوم على الإسلام، على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة وليس أي إسلام، بل على الاعتقاد الصحيح. فهذه هي التي يسعد الإنسان فيها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:122 - 124] فالإسلام هو سبب النجاح والسعادة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه سبب الهلاك في الدنيا والآخرة أيضاً.

أسباب النصر

أسباب النصر تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في درسه هذا عن الأسباب الحقيقية للنصر، مبيناً ضرورة رجوع المسلمين إلى دينهم الذي يعد السبب الرئيسي لتنزّل النصر على الأمة، ثم ذكر بعض الوسائل المعينة على النصر، مبيناً ضرورة العمل على تحقيقها في واقع الأمة، وبذل قصارى الجهد في ذلك، ومن ثم انتظار نصر الله الذي لا يخلف وعده، وذكر الوسائل المُعينة على النصر، وأخذ يوضحها بإسهاب، ثم ضمنها بشعر حول الأوضاع الراهنة من تأليفه.

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين الحمد لله الذي كتب العز والنصر والتوفيق لمن أطاعه واتقاه، وكتب الذل والخزي والعار على من خالف أمره وعصاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم} وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: إن الأحداث التي تعيشها الأمة الإسلامية هي ملء السمع والبصر، وإنها لأحداث ينطبق عليها قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها لما ذكرت أنه قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزعاً محمر الوجه من نومه ذات يوم وهو يقول: {لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه السبابة والوسطى}. إنها لفتنة عظيمة، وسوف نبين -إن شاء الله- من خلال هذا الموضوع ما يجب على هذه الأمة حيال أسباب النصر المستنبطة من كتاب ربنا ومن سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ما من خير إلا وقد دلنا عليه، وما من شر إلا وقد حذرنا منه إلى قيام الساعة، فصلى الله وسلم وبارك عليه، فهو نبي الرحمة ونبي الملحمة، جاء بهذه وهذه، ودلنا على الخير كله، ونهانا عن الشر كله، وما أصابنا من خير فمن الله وباتباع سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أصابنا من شر فمن أنفسنا وبمخالفتنا لأمره وسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إن النصر للإسلام، وإن المستقبل لهذا الدين بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن الله قد وعد عباده المؤمنين بالنصر، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]. فالنصر -بإذن الله- والمستقبل للإسلام، وما هذه المحنة إلا حلقة من محن كثيرة ومصائب كبيرة يحفل بها تأريخنا الإسلامي، فأي صفحة من تأريخنا ليس فيها وقائع ومعارك وأعداء يتكالبون؟! أي صفحة من تأريخنا ليس فيها دماء وفتن ومصائب؟! وهذا هو قدر هذه الأمة، وهذا هو ما أراده الله تبارك وتعالى لها، وهذه سنة الله عز وجل فيها، فيبلوها ويبتلي بها. فهذه هي إرادة الله في الدنيا كلها قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40]

العاقبة للمتقين

العاقبة للمتقين إن من سنن الله في الحياة أنها كفاح، وصراع، ومعركة دائمة، ولكن العاقبة للمتقين، والعاقبة للتقوى، وقد أخبر الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في أحاديث كثيرة بأن العاقبة -فعلاً- لهذا الدين، كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله تبارك وتعالى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر} فلن يبقى بيت -ولا سيما في هذه الجزيرة وما حولها- إلا ويدخل الله تبارك وتعالى فيه هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على هذا الدين، وسوف يبلغ ما بلغ الليل والنهار. إن هذا العالم الجديد -كما يسمونه- الأمريكتين وما جاورهما، واستراليا - لم يكتشف إلا قريباً، ولم يكن الصحابة والتابعون ومن بعدهم يعلمون عنها شيئاً، وسوف يبلغها هذا الدين بإذن الله، وسوف يدخلها ويحكمها شرع الله -بإذن الله-؛ لأن هذا ما وعد به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فتح القسطنطينية

فتح القسطنطينية وقد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما سئل عبد الله بن عمرو أي المدينتين تفتح أولاً مدينة هرقل يعني القسطنطينية أو روميه فقام عبد الله بن عمرو ليؤكد للسائل وللحاضرين ما قال، وأتى بصندوق له فيه حلق وفتحه وأخرج منه كتاباً وقرأه، فإذا فيه: {بينما نحن جلوس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي المدينتين تفتح أولاً؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مدينة هرقل تفتح أولاً} أي: القسطنطينية، وإلى الآن لم تفتح المدينة الأخرى، وهي مدينة رومية -أي روما عاصمة إيطاليا ومقر الفاتيكان - وسوف تفتح وتدخلها جيوش الإيمان، وترفع فيها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الفتوحات التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم

الفتوحات التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم ورد في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة، ونافع بن عتبة رضي الله عنهما في آخره يقول جابر رضي الله عنه: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله عز وجل، ثم تغزون فارس فيفتحها الله عز وجل، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله} فقال نافع: يا جابر أرى أن الدجال لا يخرج إلا بعد فتح الروم. فالدجال لا يخرج إلا بعد فتح الروم، وهذه الجملة تصدقها أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، من أن المسلمين يفتحون القسطنطينية وهي عاصمة الروم في القديم، وهي أكبر مدينة في الامبراطورية الرومية الشرقية كما كانت تسمى. وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: {أن المسلمين يفتحونها -ولعله في إحدى المرات- بالتكبير، فيأتون إلى المدينة نصفها في البر ونصفها في البحر، فيقولون: لا إله إلا الله، فيسقط النصف الأول الذي في البحر، ثم يقولون: لا إله إلا الله، فيسقط النصف الآخر الذي في البر}. وهناك أحاديث كثيرة تدل على أن هذه الأمة منصورة وغالبة، ومظفرة، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يفتح لها الأرض، وأنه مهما اعتراها من خلل، ومهما دخلها من عوج، ومهما كان فيها من دخن، فإن العاقبة للطائفة المؤمنة المنصورة، وهذه الطائفة موجودة فيها، وستظل ظاهرة وغالبة على الحق، حتى يُظهِر الله عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويضع الجزية، ويقتل الخنزير، وتترك القلائص -وهي الإبل الثمينة- لأن الناس ينصرفون عن الدنيا إلى الجهاد، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ويدعو إلى المال -أي عيسى عليه السلام- حتى لا يجد من يأخذه} وفي هذه الأثناء تكون الطائفة المؤمنة والعصبة المنصورة، في بلاد الشام. فيأتي عيسى عليه السلام إليها، فيقدِّمه الإمام فيأبى إلا أن يصلي وراءه، وفي ذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإمامكم منكم تكرمةً من الله تعالى لهذه الأمة} فيصلي عيسى عليه السلام، خلف إمام من هذه الأمة ومع هذه العصبة المؤمنة، ويصبح عليه السلام -وهو من أولي العزم من الرسل، وهو الذي تعبده النصارى وتشرك به من دون الله عز وجل- معدوداً ضمن الطائفة المنصورة التي هي من هذه الأمة تكرمةً من الله تعالى لهذه الأمة، لأنه يحكم بشريعتها، ويكون كواحد منها، ويصلي خلف إمامها. فالأحاديث كثيرة، والعبر كثيرة، فما من زحف ابتلى الله تبارك وتعالى به هذه الأمة إلا وَرُدَّ على أعقابه خاسراً حسيراً مقهوراً بإذن الله عز وجل.

وما النصر إلا من عند الله

وما النصر إلا من عند الله أما القضية الأخرى فهي أن النصر من عند الله، وهذا -أيضاً- صريح كلام الله وما دلت عليه سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال الله تبارك وتعالى لعبده وصفيه وخليله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] وقال في موضع آخر: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120]. سبحان الله! عندما يقترن الصبر والتقوى في مواجهة الأعداء نغلبهم -بإذن الله تبارك وتعالى- كما قال عز وجل: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:125 - 126] وقال تعالى في آية الأنفال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10] إذاً فالنصر من عند الله، مهما تكالب الأعداء، ومهما كانوا أقوى عدداً أو عدة، فالنصر من عند الله عز وجل يهبه لمن يشاء، وما يهبه إلا لعباده المؤمنين إذا اتقوا وآمنوا وصبروا وتحقق فيهم ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله سبحانه هو الحافظ والناصر. ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وإذا اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك} فالعدة والعدد إنما هي وسائل قد أمر الله تبارك وتعالى بها فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألا إن القوة الرمي} والرمي يشمل أي نوع، وما يزال الرمي -إلى اليوم- هو الحاسم في المعارك، ولكن كل هذه العدة والعدد لا تعني أن النصر من عند البشر مهما كان هؤلاء البشر؛ بل هو من عند الله سبحانه، فهو ينصر من يشاء ويؤيد من يشاء. وقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الآيات السابقة أنه أيد المؤمنين بالملائكة، ومن نظر إلى الجيش الذي فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤيد بالملائكة، وهم جند الله الذي لا يقهر ولا يغلب، ومع ذلك لم يسمح المؤمنون لأنفسهم وهم يقرءون هذه الآيات أن يعتقدوا أن النصر من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أن النصر من عند ملائكة الله؛ لأن الله لا يرضى بذلك.

تفرد الله تعالى بالتأييد بالنصر

تفرد الله تعالى بالتأييد بالنصر نصت الآيات السابقة على أن النصر من عند الله وحده، وليس من عند رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أكرم الخلق عليه، ولا من عند ملائكته، وهم الذين يدبر الله بهم هذا الوجود، كما قال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} [الصافات:1 - 2] وقال: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] وقال: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [النازعات:5] وقال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] كل هذه الصفات ذكرت الملائكة التي يدبر الله تعالى بهم ملكه وأمره، وهم كما قال الله -تبارك وتعالى- فيهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فهؤلاء هم العباد المكرمون الذين يشفعون عند الله -تبارك وتعالى- لقيمتهم ولمنزلتهم يشفعون، ولكن ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، ومع ذلك لا يرضى الله -تبارك وتعالى- أن ينسب النصر إليهم، وإنما النصر من عند الله تبارك وتعالى، فيريد الله عز وجل أن يعلمنا أن النصر من عنده وحده، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فهو إن شاء أرسل ملائكة وإن شاء أرسل ما شاء، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور} فالريح دمر الله تبارك وتعالى بها أعتى أمة ظهرت على هذه الدنيا -عاد إرم ذات العماد- والتي لم يخلق مثلها في البلاد، أهلكهم الله تبارك وتعالى بالريح، ولو جاءهم عدو محسوس يرونه لربما صارعوه وغالبوه، ولكن الريح لا يستطيعون أن يقاوموها أبداً، فأتت عليهم، فدمرت كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا كما قال تعالى: {لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] وأصبحوا كما ذكر الله تبارك وتعالى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]. وكذلك نصر الله تبارك وتعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جيش الأحزاب الذي أحاط بـ المدينة النبوية إحاطة السوار بالمعصم، وسلط على هذا الجيش ريح الصبا، فهذا من جند الله تبارك وتعالى. ومن جنود الله تبارك وتعالى الماء، وقد أغرق به قوم نوح الأمة العظيمة الأولى، أول أمة خالفت أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكذبت أول رسل الله فعذبها الله تبارك وتعالى بالماء والطوفان، وأغرقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، فأمر السماء أن تأتيهم بالمطر، قال تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12]. وقد حدثنا بعض إخواننا الثقات، الذين كانوا مع المجاهدين في أفغانستان ببعض العجائب، أذكر منها ما يتعلق بالغاز السام الذي خفنا من ذكره، قبل أن نراه ولن نراه إن شاء الله قالوا: والله لقد رأيناه ولقد ألقي علينا، وكنا نتضرع ونلجأ إلى الله تبارك وتعالى. قال أحدهم: والله إنه انعقد مثل الغمامة فوق رءوسنا، وجاءت الريح وأخذته وألقته على رءوس الكفار، والحمد لله رب العالمين. ويقول الآخر: أصابنا دوار شديد وتعب شديد، وكنا نظن أننا سنموت، فتضرعنا إلى الله تبارك وتعالى، فأذهب عنا ما بنا بعد يوم أو يومين، وعدنا كما كنا، وقد ظنوا أنه لم يبق منا بشر. فهذه هي أعتى وأقوى دولة في العالم بعد أمريكا، ومع ذلك لم تقف قوتها أمام الريح التي يسوقها الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فالنصر -إذاً- من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا ما يجب أن نربي عليه الأمة، فإذا علمناها أن المستقبل لها وأن العاقبة لها، وأن النصر لها، فلتلجأ ولتتضرع إليه، ولتدعوه، ولتطلب منه نصرها، فإننا نكون قد جعلناها في المسار الصحيح.

كيف نحيي الدين في أنفسنا

كيف نحيي الدين في أنفسنا القضية الثالثة التي أحب أن أتطرق لها، هي: كيف يأخذ المسلمون بأسباب النصر؟ وكيف يرجعون إلى دينهم؟ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر، واشتغلتم بالزرع أو بالضيعة، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه أو لا يضعه حتى ترجعوا إلى دينكم}. إذاً: فلا بد أن نفكر كيف نرجع إلى ديننا، وكيف نأخذ بالأسباب التي ننتصر بها على أعدائنا، ومن هذه الأسباب:

الضراعة إلى الله تبارك وتعالى

الضراعة إلى الله تبارك وتعالى قال تعالى في قصة قوم يونس: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس:98] فهم آمنوا فكشف الله تبارك وتعالى عنهم العذاب، عندما خرجوا وتضرعوا إلى الله، بأطفالهم ونسائهم ومواشيهم أيضاً، فتضرعوا إلى الله تعالى، كما ذكر المفسرون من السلف أربعين ليلة، بعد أن واعدهم يونس عليه السلام عذاب الله، وذهب مغاضباً وقال لهم: سيأتيكم العذاب بعد ثلاث، فعلموا أنه نبي، وأن النبي لا يكذب؛ فتضرعوا إلى الله، فكشف عنهم العذاب، ومتعهم إلى حين. فالضراعة سبب عظيم لا يجوز أن نغفله ولا أن ننساه، ولنعلم أن الضراعة ليست هي مجرد الدعاء، وليس التضرع -فقط- أن ندعو الله تبارك وتعالى، ولكن الدعاء هو أول ما يدخل في مسمى وفي مدلول التضرع.

التوبة من الذنوب

التوبة من الذنوب يجب علينا أن نتوب إلى الله تبارك وتعالى من كل ذنب، وأن نعد العدة لدفع أسباب هذا البلاء، فإن كان عدواً فلنعد العدة لجهاده، وإن كان -أيضاً- جدباً أو قحطاً فلنزرع الأرض، ونعد العدة لها، ونأخذ بالأسباب وهكذا، فالمقصود أن التضرع ليس هو مجرد الدعاء، وإنما هو المدخل للتوبة والإنابة والاستغفار، وما ذكرناه من مراجعة النفس ومحاسبتها، وكل بحسبه وكل في موقعه.

تحكيم شرع الله

تحكيم شرع الله يجب على الحكام والأمراء أن يراجعوا أنفسهم، ويحكموا الناس بشرع الله ليذهب الله تسلط الأعداء علينا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: {وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا سلط الله عليهم عدواً يأخذ بعض ما في أيديهم}. إذا فالقضاة، والأمراء، والمدراء، والرؤساء، وكل من ولاه الله تبارك وتعالى أمراً يجب عليه أن يتقي الله فيه، وأن يكون كما أمر الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]، فلنراجع أنفسنا، ولنتلاف كل تقصير فينا.

تذكر واجب العلماء

تذكر واجب العلماء العلماء واجبهم عظيم، وهم -كما نص السلف الصالح - من أولي الأمر، الذين أوجب الله تبارك وتعالى طاعتهم، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء:59] وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ أنهم الأمراء والعلماء، فالعلماء هم -أيضاً- ولاة على الأمة في أمر عظيم. لأنهم الحارس والرقيب؛ ولأنهم الأمين والمؤتمن على كل ما يتعلق بالأمة. إن لدى الدول الجاهلية والوضعية برلمانات ومجالس شيوخ ومجالس نواب؛ من أجل هذه الرقابة، إضافة إلى السلطة الشوروية أو التشريعية أو الرقابية إلى غير ذلك، كما يسمونه في القوانين الوضعية. أما أمة الإيمان والإسلام والتوحيد، فعندها العلماء، الذين أمرهم الله تبارك وتعالى، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، وإن كان بعض العوام أو بعض الناس من المقصرين، لا يريد بيان ذنوبه وعيوبه. التي يجب عليه أن يتركها، ولكن يجب على العلماء أن يبينوا الحق كما ذكر الله تبارك وتعالى فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فواجب العلماء أن يقودوا الأمة -أيضاً- في أي موقف، وأعظم المواقف هي مواقف الجهاد، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقود المعارك بنفسه وهو نبي الله ورسوله وأكرم الخلق على الله، وكان صحابته من بعده كذلك. ومن المعلوم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقسم أنه لولا أهل الأعذار لما تخلف عن سرية تخرج في سبيل الله قط، وكذلك أبو بكر وعمر لم يمنعهما من الخروج؛ إلا أن يكونوا فئة للمسلمين يتحيز إليها كل جيش يجابه من هنالك، وليمددوا المؤمنين، وقد أراد عمر -رضي الله عنه-، أن يخرج لقتال فارس، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ابعث إليهم وابق هنا، فإن أصيبوا فأنت فئة لهم، ولكن إن أصبت ذهب الإسلام فكان رضي الله عنهم هذا شأنهم. كذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية شارك بنفسه في بيان ضلال التتار وكفرهم وخروجهم عن الشريعة، وشارك بنفسه في المعركة، فواجب العلماء عظيم، والحمد لله الذي منَّ علينا في هذه البلاد الطيبة الطاهرة بهؤلاء العلماء الذين هم على منهج السلف الصالح -ولله الحمد- دعوة، وعملاً، وعقيدة، وعلماً، وجهاداً، فهذا من فضل الله تبارك وتعالى علينا. ولكن بقي واجبنا نحن طلبة العلم، ونحن عامة المسلمين، وهو أن نشد من أزرهم وأن يكون المسلمون جميعاً يداً واحدة وقيادة واحدة، وهدفاً واحداً وغاية واحدة، فلا مجال لمن يندس، ولا مجال للدخيل، ولا مجال لمن يبث الفرقة فيما بيننا، فالهدف للجميع واحد، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} فالغاية هي هذه، والوسيلة واحدة وإن تنوعت وسائطها، فلنكن في الجهاد في سبيل الله ومقاومة أعداء الله صفاً واحداً، كأننا بنيان مرصوص، كما أمر الله تبارك وتعالى.

وحدة الصف

وحدة الصف إنَّ الصف يجب أن يكون واحداً، فيما نسميه نحن اليوم "الجبهة الداخلية"، وتعتبر ضرورتها أكيدة، فوحدة الجبهة الداخلية واجتماعها، وإقناعها بحقيقة المعركة وتصوير الأمر لها على حقيقته؛ لتقف صفاً واحداً متراصاً خلف العلماء، وخلف القيادة المؤمنة، فهذه -أيضاً- ضرورة لا بد منها. ومن هنا كان الواجب علينا أن نُبصِّر المسلمين جميعاً -خاصتهم وعامتهم- بما فيهم من خلل وخطأ وتقصير، فعندما يتهافت العامة على الطعام والشراب في وقت كان الواجب عليهم فيه أن يفكروا في حمل السلاح والجهاد في سبيل الله ودفع المعتدين المجرمين، فهذا دليل على نقص وخلل عندهم، والواجب علينا -نحن طلاب العلم والدعاة- أن نصلحه، لأن فينا الخطيب أو الداعية أو المدرس أو الواعظ أو الإمام. لا بد أن نقوم بواجبنا -نحن- في تماسك هذه الجبهة، من أجل ألا يكون فيها من يعذبنا الله -تبارك وتعالى- أو يُسَلِّطْ علينا بسببه، حتى لو كان الجيش يقوده رسول، كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما كان موسى، حيث وجد الغلول في الجيش: وهو الأخذ من الغنيمة، وهذا مما يسبب ويجلب الهزيمة، وكذلك إذا وجدت الخيانة والزنا أو الفساد، فإنه يسلط علينا الأعداء نسأل الله العفو والعافية. وقد ذكر المفسرون في قصة موسى أمراً عظيماً، وهو أن الذنوب يجب أن يتطهر الجيش والناس منها، فالذين يسمون الجبهة الداخلية لابد أن يتطهر كل فرد منهم من هذه المعاصي ومن أدران الذنوب، ويجعل ولاءه خالصاً لله عز وجل، وهدفه إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى، ويكون الجميع قيادة وعلماء ودعاة وجيشاً وعامة يداً واحدةً -كما أمر الله تبارك وتعالى- على كل كافر وفاجر وظالم ومعتد. فإذا أخذنا بهذه الأسباب، وأحكمنا -فعلاً- هذه الجبهة الداخلية، وجمعناها على الحق، وجعلناها يداً واحدة، وتمسكنا جميعاً بكتاب الله تبارك وتعالى واعتصمنا بحبله، فسوف نجد أننا في موقف لا يستطيع أي معتد أو مجرم أو غاصب أن يمني نفسه بهذه البلاد؛ بل بأية بقعة من بقاع العالم الإسلامي؛ لأنه يعلم أن للحمى حرّاساً أشداء.

جهاد الطلب

جهاد الطلب إن واجبنا كما أمر الله تبارك وتعالى ليس فقط جهاد الدفع، بل هو جهاد الطلب، وهو أن يطارد الكفار والمرتدون والمجرمون ويغزون في عقر دارهم؛ لينضموا تحت راية لا إله إلا الله وتحت كلمة الحق، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإذا لم نحرك مشاعر الأمة، ونستحثها بهذه الغاية العظيمة فإننا سنظل مقصرين في هذا الجانب. إن الأمم الكفرية أو المرتدة، أو الضالة خلقت لمتاع الدنيا، فتتنافس في الدنيا، وتجد أن اقتصادها في زينتها وفي زخارفها، أما أمة الإسلام فغرضها وعملها الأساس هو الجهاد، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} فهذه الأمة يبني أعداؤها ويشيدون ويجمعون ويتحضرون كما يشاءون، ثم يجعلهم الله تبارك وتعالى غنيمة للمسلمين، فمثلاً: الحضارة الرومانية ظلت ألف سنة أو أكثر وهي تبنى فجعلها الله غنيمة للمسلمين، وكذلك الحضارة الفارسية ظلت أكثر من ذلك، فجعلها الله تبارك وتعالى غنيمة للمسلمين. وكذلك جيش فارس، فقد كانت الرتب العسكرية ليست كحال الناس اليوم، يصنعونها من المعادن؛ إنما كانت الرتب العسكرية في جيشهم من اللؤلؤ، وبقدر ثمن اللؤلؤة التي يضعها القائد على التاج -على رأسه- تكون رتبته، فالقادة الكبار مثل ماهان ورستم وجابان، كان ثمن لؤلؤة كل واحد منهم مائة ألف دينار، وثمن لؤلؤة من يليهم عشرة آلاف دينار، فكانت رتبهم بهذا الترف والبطر، ولما جاءهم أمر الله تبارك وتعالى، وجاء جيش التوحيد، أخذوا بتيجانهم وعروشهم. وكانوا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل} ثم فتحت كنوز كسرى وقيصر وأنفقت على جهاد الصين وجهاد بلاد ما وراء النهر، حتى إن موسكو -التي هي عاصمة روسيا اليوم- ظلت قروناً تدفع الجزية للمسلمين، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى-. وكذلك الروم بنوا في مصر وفلسطين وبلاد الشام الطرق الرومانية الشهيرة، وبنوا المدن والمآثر الرومانية المعروفة في التاريخ مثل مدينة دمشق، وغيرها من المدن العظيمة، فعندما جاء جيش الإيمان والتوحيد ملكوها والحمد لله وملكوا مزارعها، وضربوا عليهم فيها ما أمر الله تبارك وتعالى به من الجزية، أو من الخراج، بحسب الأحكام الشرعية المعروفة، وكانوا لقمة سائغة لهذه الأمة والحمد لله، فبنوا وشادوا وأعدوا، فجعلهم الله تبارك وتعالىغنيمة للمسلمين وأورثهم أرضهم وديارهم. لقد خرجوا من هذه الجزيرة ومن هذه الصحراء التي جعلها الله في كل العصور -ولله الحمد- حصناً منيعاً ترتد عليه رماح المعتدين على أعقابهم خاسرين، خرجوا منها حفاة عراة، وإذا بهم يستوطنون الأندلس، وأواسط آسيا، وشمال الهند التي يقال فيها جنة الدنيا لما فيها من الجمال. فكل ما في هذه الدنيا من خير ونعمة أوتوه -ولله الحمد- بالتقوى وبالإيمان، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، فهذا وعد من الله لعباده الصالحين أنه سوف يورثهم الأرض في هذه الدنيا والله على كل شيء قدير. المخاطب -طبعاً- في هذه الأبيات تعرفونه جميعاً أو سوف تعرفونه كما تحدثنا: طلعة المجد في رباك تجول وسنا الحق في ذراك يصول في مدار الأفلاك تعرج والشرق والغرب تهافت وأفول الرسالات من ربوعك قامت ولخير الهداة أنت الرسول عجز الشعر عن ثنائك والدهر إذ الشعر فيك شأن يطول هذه المعجزات أتعبت العدُ وعاد التأريخ وهو ذهول فاسأل الدردنيل واسأل بواتيه وروما فما تراها تقول تلك أطلالهم تماثيل شؤم شاحبات فما تعد الطلول كل عرش في قبضتيك أسير كل كنز إلى يديك يئول فاهطلي أيها السحابة هنداً أو على الصين ليس منك غلول سيفك الحق في الوهاد صريخ ليس في معمع القتال نكول كلما در شارق يتهادى طلب العتب منك مجد أثيل كلما خر كوكب يتهاوى بين جفنيك حلم عز طويل أنت فوق الورى ورأس الذرى وأنت الإصرار والمستحيل تعبد الله وحده وتعالى أذن الحق فاخرسي يا طبول قل لمن أرجفوا مماتك زوراً أو ما يعتري الجواد الذهول أو ما تخفق الشواهب للأرض وإن كان في السماء تجول لا تلمني في ساعة الفر إلا إن تراخى من بعد كر يهول فاعصفي يا رياح بالدرب هولاً أو تأني فعزمتي لا تزول يرعب الراجمات مقلاع طفلي وشراعي يهابه الأسطول عز للسيف نبوة في جهاد سنة للكماة هذا الرسول أنت أنشودة الحياة وملحمة الدهر فماذا عليك إن لم يقولوا أنت إن قمت غير عابئ شيء فالطواغيت كلهن هزيل وإذا الحق سل منك حساماً فالشعارات كلهن قتيل أنجبتك البطحاء وهي ولود وغدتك الشام وهي بتول كلهم سوف يغلبون جميعاً كلهم عن حماك سوف يزول رب فوج يقود للروع فوجاً وخيول تجرهن خيول موكبٍ ترهب المنايا سراه رابط الجأش للدماء نهول هذه الصافنات أورين قدحاً فالنواصي شهيدة والذيول وأدتها رمالنا البيد وأمست نعوشهن التلول كلما أظلمت من الرهج البيد أضاء السماء سيف صقيل وطئت بالسنابك الصم أحلام هولاكو وأودى الصليب والمستطيل أنت أوثقت من جبابرة الكفر قروماً فكلهن ذليل ما عتاب الكريم إن عثر الجد زماناً ولم يجد من يقيل إن تكن غضبة فصفح جميل أو تكن محنة فصبر جميل والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

تارك الصلاة

تارك الصلاة Q ذكرت أنه يجب على الجبهة الداخلية تصحيح النية، فكيف يكون ذلك، وأنا أعرف أناساً لا يعرفون الصلاة البتة, وعندهم من الذنوب والمعاصي ما عندهم، نسأل الله عز وجل للمسلمين الاستقامة على دينه؟ A جزاك الله خيراً، إن تارك الصلاة قد أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه من غير المسلمين، فليس بمسلم ولا حظ له في الإسلام، وإذا وجد في الأمة تارك صلاة فهذا مما يوهن قوتها، ويضعف تمسكها، ويغري بها ويطمع فيها عدوها. إن تماسك الجبهة الداخلية يجب أن يكون بالكف والإقلاع عن كل الذنوب؛ بل بالصبر والمصابرة والمرابطة على جميع الطاعات والواجبات، فالذين يشتغلون بالغيبة والنميمة والنفاق والحسد في مجالس المسلمين عليهم أن يتوبوا، والذين يفرقون بين المرء وزوجه عليهم أن يتوبوا، والذين يقطعون الأرحام عليهم أن يتوبوا ويستغفروا الله تبارك وتعالى، والذين يأكلون الربا عليهم أن يتقوا الله وأن يكفوا عن محاربته، حتى ينصرنا على من نحارب من أعدائه. والذين يفتحون دور اللهو والفساد، وما يسمونه الكوافير، وأماكن التجميل، ومشاغل الخياطة المختلطة، وكل اسم من هذه الأسماء التي تتعرى فيها المرأة المسلمة وتخلع ثيابها في غير بيت زوجها، معرضة نفسها لوعيد الله -تبارك وتعالى- وقد يراها الأجنبي أو تكلمه أو تختلط به، فكل هؤلاء القوم عليهم أن يتقوا الله وليعلموا أننا في معركة لا مجال فيها لهذا اللهو العابث، وكذلك المعلمون والمدرسون الذين كانوا يضيعون الوقت على الطلاب إما فيما لا ينفع أو في العبث فعليهم أن يتقوا الله تبارك وتعالى. ولتكن دروسنا جميعاً في التربية على الجهاد والفضيلة والخلق القويم، ولنراجع مناهج تعليمنا -أيضاً- لتكون جميعاً كذلك، ولنراجع وسائل إعلامنا المسموع منها والمقروء والمرئي لتكون جميعاً في موضع يستحق أن تكون جزءاً من هذه الجبهة التي يجب أن تتماسك بحيث تتطهر من كل ما حرم الله تبارك وتعالى، ويكون المعيار والضابط لما يعرض أو يذاع أو يقرأ هو شرع الله تبارك وتعالى، وهناك أشياء كثيرة جداً، ولكن كلٌ منا حسيب نفسه، يعرضها ويحاسبها ويزنها قبل أن توزن. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن، وتهيؤوا للعرض الأكبر على الله تبارك وتعالى، فهناك تبلو كل نفس ما أسلفت.

القتال من أجل الوطن

القتال من أجل الوطن Q هل هناك فرق بين القتال من أجل الوطن والقتال في سبيل الله -تبارك وتعالى- نرجو التوضيح؟ A لما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الرجل يقاتل حمية، ويقاتل عصبية، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} فهذا هدفنا وهذه غايتنا وهذا طلبنا ولا سيما في جهاد الطلب، وأما في جهاد الدفع، فلا شك أن من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، فالواجب -إذاً- على الإنسان أن يجعل هدفه وغايته وهمه من الجهاد هو إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى، ولتكون كلمة الله تبارك وتعالى هي العليا، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]. أما إذا اعتدي عليه ودافع عن نفسه فمات أو قتل فهو شهيد كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنه دفع الصائل أو دفع المعتدي، فهو نوع من أنواع الجهاد، وهو -أيضاً- إذا صلحت النية يعتبر في سبيل الله تبارك وتعالى، ويدخل ضمن ما قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الطائفة المنصورة

الطائفة المنصورة Q عرف فرقة الطائفة المنصورة، هل هي في بلد معين، أو جماعة معينة، أم من جميع بلاد المسلمين وكيف تجتمع إن كانت من بلاد متفرقة؟ A الطائفة المنصورة عرفها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث الافتراق، وهو حديث متواتر لكثرة طرقه، ويشد بعضها بعضاً، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة} فلما سئل عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قال في رواية-: {الجماعة} وقال في رواية: {من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي} فهذه علامتها. وأيضاً جاء في وصفها في نفس الأحاديث الصحيحة التي أخبر فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجودها كما في حديث جابر بن سمرة ومعاوية وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم، في نفس الأحاديث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يقاتلون على أمر الله}، وقال: {قائمين على أمر الله}، إذاً فحقيقتها أنها على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي قائمة ومستقيمة ومتمسكة بهذا المنهج. أما من هم؟ فقد قال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم -أي: من كان متمسكاً بالسنة، عندما تفرقت الأمة إلى خوارج وروافض ومعتزلة وباطنية وبقي أهل السنة أو أهل الأثر أو أهل الحديث الذين هم أهل السنة والجماعة، ولا يقصد بذلك مجرد من يشتغل بعلم الحديث؛ بل من يتبع منهج الحديث؛ لأن القرآن كلٌّ يدعيه ولكن الحديث يميز بين أهل السنة وبين أهل البدعة وأهل الفرق الضالة الأخرى. إذاً هذه هي صفتهم، أما مكانهم فليس لهم مكان معين، ولكن كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله أن الأحاديث تدل على أنه في آخر الزمان يكون اجتماعهم في الشام، وقد ورد في الحديث الصحيح: {إن الإيمان ليأرز إلى المدينة أو ما بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} أي: كما تعود الحية إلى جحرها، فهذه إشارة في أن هذه البلاد المقدسة المدينة ومكة أو ما بين المدينتين سوف تكون مأوى الإيمان -بإذن الله- إلى قيام الساعة. ولكن الشام موطن المعارك ولا انفصال بين الأمرين؛ لأن الأمة واحدة، والبلد واحد، وهذه الدويلات عارضة، فالأصل أن المسلمين جبهة وأمة واحدة، فـ الشام هو موضع الملاحم، وأما مأوى الإيمان وبقاؤه ومجمعه، فإنه يكون في هذه البلاد -بإذن الله- ويكون -أيضاً- في وسط الجزيرة في مساكن بني تميم الذين أخبر عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح فقال: {هم أشد أمتي على الدجال}. فإذا ضممنا الأحاديث بعضها إلى بعض، نجد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر أن الساعة تقوم والروم أكثر الناس، وكون الملاحم مع الروم، وخروج الدجال بعد الملاحم، فتكون الأمة أحوج ما تكون إلى أن تقاتلهم، وتكون المعركة في بلاد الشام -في الأعماق أو دابق، وكذلك يكون اليهود هنالك ويقاتلهم المسلمون. إذاً: فالجبهة الداخلية القوية والفئة التي تنحاز إليها الجيوش ستكون -إن شاء الله تبارك وتعالى- بين المدينتين.

نصيحة للمقصر في جنب الله

نصيحة للمقصر في جنب الله Q ذكرتم -حفظكم الله وأثابكم- أنه يجب النصح للناس، ولا سيما في هذه الأوقات، فهل على المقصر في جنب الله أن يقوم بالنصح والإرشاد؟ A هذا السؤال وجيه، فكثير من الإخوة يقول: أنا مقصر، فهل أنصح غيري، ونقول: إن هناك حديثاً وإن كان في سنده ضعف، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {مروا بالمعروف وإن لم تفعلوه، وانهوا عن المنكر وإن فعلتموه} ولكن الظاهر أنه لا يصح مرفوعاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن يصح من حيث المعنى ومن حيث عمل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وقد يصح أنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، بمعنى أن شعب الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، فإذا لم يأمر الإنسان بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا إذا استكمل شعب الإيمان جميعاً، فربما انقطعت هذه الشعيرة، ولم يوجد من يقوم بها. ولا ينبغي للعبد المؤمن أن يجمع بين ذنبين، بين تقصيره في طاعة الله من جهة، وبين ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة أخرى، فإذا وجد في الإنسان تقصير في بعض الطاعات وفي بعض الجوانب، فيجب عليه أن ينصح الناس، وأن يرشدهم وأن يذكرهم ليرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- ومع ذلك يخوف نفسه كما قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44]. ويتذكر حديث الرجل الذي يجر أقتابه وقصبه في النار -نسأل الله العفو والعافية- والناس ينظرون إليه يقولون له: مالك! ألم تكن تأمرنا! ألم تكن تنهانا! قال: بلى، ولكن كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه -نسأل الله العفو والعافية! فهو في حال دعوته للناس، يعظ نفسه أيضاً، والإنسان يستحي من الله تبارك وتعالى أن يعظ الناس بخير ولا يفعله، أو ينهاهم عن شر ويأتيه، وهذه من نعم الله تبارك وتعالى على الدعاة. ولهذا كان الدعاة إلى الله تبارك وتعالى من أكثر الناس اهتماماً بهذا الأمر؛ لأنهم يأمرون وينهون، فأنفسهم تلومهم ولا تلوم غيرهم؛ لأنهم يقولون: كيف تقولون ما لا تفعلون؟! وتأمرون وتخالفون الناس إلى ما تنهونهم عنه؟! فمن هنا كان من واجبنا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان فينا ما فينا من تقصير مع السعي الحثيث إلى استكماله إن شاء الله تبارك وتعالى، وهو المعين.

حكم القنوت في جميع الصلوات

حكم القنوت في جميع الصلوات Q ما حكم القنوت في جميع الصلوات بسبب المحن؟ A القنوت مشروع في النوازل، وقد قنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أحياء من العرب والقبائل التي كانت قد عصت الله تبارك وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآذت المسلمين، وفي هذه الأيام نرى القنوت مستمراً، والحمد لله، قد كنت صليت مع سماحة الوالد الشيخ ابن باز فصلى بنا الإمام صلاة المغرب وقنت، وقنتنا خلفه، فالقنوت مشروع، لكن إذا كان في كل الصلوات، فأنا أخشى أن يدخل السأم على العامة، فعلينا بالتضرع إلى الله، فهو من أرجى ما يكون، فكل منا يتضرع إلى الله تبارك وتعالى في السر والخفاء وفي أوقات الإجابة. وكذلك يشرع القنوت ولكن ربما كان التضرع أرجى، لأن الإنسان يكون صادقاً ومخلصاً أكثر، ويكون في حالة القرب من الله تبارك وتعالى والضراعة إليه، وهو إن أطال في تضرعه ودعائه فهو وحده لا يمل منه أحد ولا يسأم منه أحد، وهذه قضيتنا، فحق لنا والله أن تكون أيدينا مرفوعة وعيوننا باكية في كل لحظة وفي كل حين حتى يدفع الله -تبارك وتعالى- عنا هذا البلاء، وجدير بنا أن نكون كذلك دائماً وفي كل وقت. وجدير بنا أن نذكر إخواننا المسلمين في كل مجلس وما أكثر اللغط، وما أكثر اللهو في المجالس، فيجب علينا أن نذكرهم بالدعاء وبالاستغفار، لأنه من لزم الاستغفار جعل الله تبارك وتعالى له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً. فالأمة -الآن- تعاني من هذا الضيق ومن هذه الأزمات، فلنستغفر الله ولنتب إلى الله تبارك وتعالى كما أمر، وإذا استقمنا على أمر الله يكون الخير كما ذكر الله بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66]. لكن في الجانب الآخر، إذا تركنا الضراعة، والإنابة والاستغفار، فيكون حالنا -عياذاً بالله- كما ضرب الله تبارك وتعالى مثلاً: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

أحداث الجزائر

أحداث الجزائر إن أعداء الأمة الإسلامية يدأبون باستمرار في تعزيز قضايا الاختلاف والفرقة في الأمة الإسلامية، لتشتيت شملها، والسيطرة على ثرواتها، وأوضح دليل على ذلك ما تعيشه البلدان العربية والإسلامية من الفرقة والاختلاف، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن إحدى هذه البلدان ألا وهي بلاد الجزائر، فيتحدث عن ملابسات الوضع والاختلاف القائم بين الجبهة الإسلامية وجبهة التحرير، مبيناً أسبابه وحقيقته، وموقف الغرب وإعلامه إزاء هذه القضية، مختتماً كلامه بما ينبغي أن يكون عليه موقف المسلم من هذا الصراع، داعياً خلال ذلك إلى العمل على ترسيخ مفهوم الأخوة الإسلامية.

فتوى ابن عثيمين في تتبع الصحف والرد على أخطائها

فتوى ابن عثيمين في تتبع الصحف والرد على أخطائها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، هناك بعض الأسئلة، حبذا لو نبدأ -كالعادة- بما له علاقة بالموضوع، وإن كانت بعضها مفيدة جداً، لكن لعلنا نرد عليها إن شاء الله. نبدأ بهذه الفائدة القيمة، وهي عبارة عن فتوى في هذه الورقة تقول: 'بسم الله الرحمن الرحيم. المكرم فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإننا نود أن نعرف رأي فضيلتكم فيما يقوم به بعض الإخوة من طلاب العلم، من تتبع المجلات والصحف الداخلية والخارجية، بغرض جمع المواد المخالفة للإسلام، ومن ثم الرد عليها، وتحذير الناس منها، وهل هذا من جهاد المنافقين الذي أمر الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفتونا مأجورين؟ " فكان الجواب بخط فضيلة الشيخ أثابه الله، وبارك في حياته ونفعنا بعلمه فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. رأيي أن هذا لا بأس به، نظراً لما يكثر في بعض الصحف والمجلات من المسائل التي تحتاج إلى التنبيه عليها، ولكن أرى أن يُتصل أولاً بالكاتب، وينبه على ما حصل منه من أخطاء، ويوعظ ويطلب منه أن يكتب تصحيح ما أخطأ فيه في نفس المكان الذي كتبه فيه، لأن ذلك أنفع له، وأجدى للقارئين، وأقطع للجدال بالباطل. فإن حصل ذلك منه فهو المطلوب، وإلا فليُكتب الرد عليه في نفس الصحيفة، أو المجلة التي كتب فيها ذلك الخطأ". وهذا قد ينطبق -غالباً- على المجلات الداخلية أو الصحافة الداخلية فقط، وأما الخارجية فلا يهمها أنك كتبت، ولا يهمها أن ترجع عما كتبت من الباطل غالباً. وأما غير الإسلامية -من الصحف والمجلات- في الخارج أو الداخل فإن لها وضعاً آخر، فقد يكون ذلك من باب الخطأ، لكن المقصود هو كل ما فيها من الخبث والفجور، بل وأحياناً الكفر والإلحاد. ويقول الشيخ أيضاً: "ثم إن هاهنا أمر أُحب أن أنبه عليه، وهو أن يكون الرد لقصد الإصلاح لا الانتقام" وهذا تنبيه حسن أثابه الله، فهو ينبه إلى أن يكون رداً يقصد به الإصلاح، فلعل الله أن يصلح ذلك الكاتب، أو الجريدة أو المجلة، وأن الرادَّ على ذلك لا يريد إلا الحق، لا الانتقام الذي قد تغلب عليه العاطفة أحياناً، فالشيخ -أثابه الله- يعرف العواطف، وكيف تتغلب، فتعصف ببعض الشباب، قال: ' فإنه إذا كان القصد في ذلك الإصلاح كانت صياغة الرد هادئةً مقبولة ' أي: مع أنها خيرٌ عند الله فإنه أيضاً يؤثر في صياغة الرد، ويكون هادئاً مقبولاً. ثم قال: 'وأما قول السائل: هل هذا من جهاد المنافقين؟ فلا ريب أن بيان الحق وإظهاره، وإبطال الباطل وبيانه؛ من الجهاد بالعلم، ولا يخفى أن الله تعالى جعل طلب العلم قسيماً للخروج في جهاد السلاح، حيث قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من دعاة الحق وأنصاره، وأن يهب لنا رحمةً منه إنه هو الوهاب، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم '. كتبه/ محمد الصالح العثيمين في 26/ 6/1411هـ، وتحته التوقيع، أثابه الله وجزاه خيراً.

الجمع بين الخوف والرجاء

الجمع بين الخوف والرجاء Q كيف نجمع بين الخوف والرجاء والرغبة والرهبة؟ A هذا له علاقة بما قاله الإمام ابن القيم: 'الرهبة: هي إمعان في الهرب من المرهوب، وضدها الرغبة'، إذاً فكيف نجمع بين اللفظتين في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك إلخ} فنجمع بين الرغبة والرهبة، بأن نقول: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُرهَب عذابه، ويُرهَب جانبه من جهة أنه {شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] وأنه {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4] ويُرغَب فيما عنده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من جهة أنه ودود، وكريم، وغفور، ورحيم، فكل هذه من أسمائه وصفاته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فتجتمع الرهبة والرغبة معاً، وليس فيها شيء يناقض بعضه.

الكلام على أحوال المسلمين في الجزائر

الكلام على أحوال المسلمين في الجزائر Q ما حقيقة الوضع في الجزائر في ظل الأحداث التي تعصف بها عصفاً؟ A إنه لما كثرت الطلبات، والتساؤلات سواء بالرسائل أو الأسئلة المباشرة، وذلك من قبل الكثيرين المهتمين بأحوال الأمة، مضمونها كلها حول الجزائر، وما حدث فيها، ولعلنا نعطي كل هؤلاء موجزاً عن ذلك، وعما نراه في ذلك.

قضية الجزائر قضية إسلامية

قضية الجزائر قضية إسلامية إن مما أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به من بيان الحق في هذا الأمر ما يلي: أولاً: أن نقول للناس جميعاً: إن الله -تبارك وتعالى- أمرنا بالعدل، ففي كل جمعة -تقريباً- نسمع الخطيب وهو يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] فنحن مطالبون بالعدل في كل الأحوال، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، وقال تعالى أيضاً: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9]. ثانياً: إن الله تبارك وتعالى أمرنا بمحبة إخواننا المؤمنين، والتآزر معهم، والتعاطف معهم في قضاياهم، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} فهذا أصلٌ عظيم، وأدلته كثيرة، لا تخفى عليكم. ومن منطلق ما أمر الله تعالى به من العدل، ومن موالاة المؤمنين، ومحبتهم، والاهتمام بأمورهم، نقول: إن ما حدث ويحدث إلى الآن في الجزائر هو مصيبة، ونازلة، وفاجعةٌ عظيمة حلت بالإسلام والمسلمين، وليست بأشخاص معينين، ولا بجبهة معينة، ولا بحزب مقصود لذاته أبداً لماذا؟

بين الجبهة الإسلامية وجبهة التحرير

بين الجبهة الإسلامية وجبهة التحرير لأننا من مقتضى العدل يجب أن نقول: إننا لا نعرف الكثير عن هذه الجبهة الإسلامية، أما بالنسبة لقائديها الشيخ عباس مدني وعلي بلحاج فلم نعرفهما، ولم نقابلهما، ولم نرهما، أقول هذا عن نفسي؛ وبما أنه ليس لنا علاقة شخصية مجردة بهما، ولكن من منطلق ما أمرنا الله تعالى به من العدل: أمامي رجلان، مدعيان، وهما جبهتان في الحقيقة الجبهة الإسلامية وجبهة التحرير الحاكمة، فهما المدعيان، وأنا بمنزلة القاضي المأمور بالعدل، وكلٌ منا كذلك، كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله-: 'القاضي أعم من أن يكون الذي في المحكمة، فكل من قضى بين اثنين فهو قاضٍ'. وعليه: فأمامنا الآن قضية، مطلوب منا أن نحكم فيها، وأمامنا خصمان متنازعان.

حجج الجبهة الإسلامية

حجج الجبهة الإسلامية أحدهما: وهو الجبهة الإسلامية ونحن لا نعرفه، يقول: أنا أريد الإسلام، وأريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا عندي (80%) من الشعب، كلهم يريدون الإسلام، فهذا برنامجي، وهذا تطبيقي، وقد طلبت من الناس أن يطالبوا ببقاء نظام الانتخاب كما هو، إلا أن الحكومة عدلته، وغيرته، لتفوز وحدها، ولذلك طلبنا منها أن يظل القانون كما هو؛ ولندخل جميعاً في الانتخابات. فإن فزنا؛ حكمنا البلاد بكتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن فازوا قلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويكون الشعب قد اختار الاشتراكية علينا. ثم قال عن خصمه: هذا خصمي جبهة التحرير، وهو حزب اشتراكي علماني تابع لفرنسا والغرب، فقادته وزعماؤه فرضوا الاشتراكية على البلاد، واستوردوها من موسكو، وهؤلاء هم الذين نحوا كتاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن الحكم، فلم يقيموا حداً واحداً من حدود الله، منذ أن استقلت الجزائر إلى اليوم، بل إنهم يبنون دور السينما، ويشجعون الغناء والفساد والفجور، ويبيعون الخمر إلى الغرب، وكذلك لم يهتموا بالأمر بالمعروف، ولا بالنهي عن المنكر، كما قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فهذه حجتي، وهذه دعوتي.

حجج جبهة التحرير

حجج جبهة التحرير قالت جبهة التحرير: نحن نُدعَى الحزب الحاكم، فنحن حزبٌ اشتراكي نؤمن بـ الاشتراكية، ونحن حزبٌ علماني -وهذا في الدستور لا يخفونه أبداً-. قالوا: ونحن عندما حكمنا البلاد حكمناها بـ الاشتراكية، لأنها أفضل المذاهب الموجودة، وحكمناها بـ الديمقراطية، لأنها خير ما تحكم به الشعوب، وسمينا البلد: جمهورية الجزائر الديمقراطية، لأننا نؤمن بـ الديمقراطية، ونعتقد بـ الديمقراطية، ونحن أخذنا الحكم عن طريق الأسلوب الديمقراطي، وهؤلاء أصوليون ومتطرفون، يريدون الوصول إلى السلطة، ويريدون إفساد البلاد، ويريدون تحقيق مطامعهم الشخصية، وهذه الكثرة من الشعب التي معهم مغرر بها، ومخدوعة بهم، فقد خدعوها بهذه الشعارات التي يرفعونها، وأما نحن فقد فرضنا القانون والدستور، واعتقلناهم واضطهدناهم وسجناهم، لنقر الدستور، ونقر القانون، لتستمر الديمقراطية، وليستمر القانون.

الحكم في هذه القضية

الحكم في هذه القضية فهذا هو ما يعلن، وهذا واضح من دستورهم ومن كلامهم، فبماذا يجيب المسلم؟ بل وماذا يقول المسلم الذي يخاف الله، ويؤمن بالإسلام، ومع أيهما يكون، مع أنه لم يعرفهما ولا علاقة له بهما؟ لكن من منهما الذي فرض الله تبارك وتعالى أن تكون معه، وأن تنصره وتؤيده، فهل في هذه المسألة خيار لنا؟! فنحن أمام إلزام وحكم قاطعٍ وصريحٍ من الله، فيجب علينا إما أن نكون مع الفجار، أو مع المتقين المؤمنين المطالبين بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأولئك إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أعرضوا وتولوا، وقالوا: عندنا الاشتراكية، وهؤلاء يقولون نريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهؤلاء يقولون: معنا الشعب، وهؤلاء يقولون: ونحن معنا موضوع الشعب، وليعلم الجميع أن هذه قضية منتهية ومفروغ منها، فنحن لا نحكِّم الشعب أصلاً، ولكن من حيث الواقع الشعب مع من؟ الانتخابات المحلية والبلدية واضحة: (80%) من الشعب مع الذين يريدون الإسلام و (20%) مقسمة على ثلاثين حزباً، فإذاً هو بلدٌ مسلم، وأهله مسلمون، وقد قدموا مليون شهيد بإذن الله من أجل أن يتخلصوا من الفرنجة، ومن الاستعباد للكفر؛ لأنهم يريدون تحكيم الكتاب والسنة. ولكن المسيرة تنحرف، فتأتي هذه الجبهة الحاكمة، وتفرض نظام ماركس ولينين على هذا الشعب المؤمن، والآن هذا الشعب أفاق واستيقظ -كما استيقظت والحمد لله الأمة الإسلامية في كل مكان- فهم يريدون كتاب الله، ويريدون أن يعودوا إلى إيمانهم ودينهم، وأصالتهم التي نزعت منهم قهراً، ويرفضون الاشتراكية التي فُرِضَت عليهم فرضاً وهم 80%. إذاً مع من نكون؟؟!

موقف الغرب من الجزائر وغيرها

موقف الغرب من الجزائر وغيرها أما موقف الغرب، فالغرب دائماً له معياران، وله مكيالان: معيار للإسلام، ومعيار لغيره، ولذلك الآن وفي هذه الأحداث بالذات وفي هذه الأيام، فهناك مثلان حادثان، ومشكلتان في بلدين ليس بينهما إلا البحر، وهما متقاربان تقريباً، وهما يوغسلافيا والجزائر. فانظروا إلى الحكم بمعيارين كيف يكون؟ ففي يوغسلافيا يقول الغرب: على الجيش أن يرجع إلى الثكنات، والناس هم الذين يختارون ما يريدون، أما في الجزائر: فليسمح للجيش أن يضرب الناس، وليفعل ما يشاء، ليفرض القانون. فالموقف معكوس تماماً، لماذا؟ لأن هؤلاء -في يوغسلافيا - نصارى، والديمقراطية تصلح لهم، ولا بد أن يدعوا إلى الديمقراطية. ومثل آخر: الصين وقفت أمريكا ضدها، حتى كاد الوفاق الذين بينهما أن ينفصل، وذلك لما ثار الطلبة، وطالبوا بالديمقراطية، فقالت أمريكا: من حق الشعوب أن تطالب بـ الديمقراطية، وإن وقوف الجيش والشرطة الصينية أمام المطالبة بالديمقراطية جريمة عظيمة، فحدثت بذلك فتنة كبيرة، حتى إن أمريكا منحت الطلاب الصينيين في الولايات المتحدة الأمريكية، والمبتعثين للدراسة لديها إقامة دائمة، وذلك تمهيداً لمنحهم الجنسية الأمريكية، وعددهم أربعون ألف طالب، دفعة واحدة، وذلك تأييداً لهم لمطالبتهم بـ الديمقراطية، وعندما جاءت جبهة إسلامية، وقالت: نريد أن يبقى نظام الانتخاب كما هو، ويعمل بإجراءاته في موعدها، لأننا نريد أن ندخل فيها. قال الاشتراكيون: لا، غيروا النظام. فقالت الجبهة الإسلامية: إذاً أيها الناس: يا من ستنتخبون! من تنتخبون؟ ودعوا إلى الاعتصام والإضراب، لأن القانون قد تغير -قانون الانتخابات- وطالبوا أتباعهم بعدم استخدام القوة، وكانوا يحذرون كل التحذير أن لا يستخدموا القوة، ولهذا اجتمعوا في المساجد، وفي الميادين، تجنباً لأي شيء. فواضح أن دعواها سلمية، وأنها تريد تحقيقها مع الذين يزعمون أنها ديمقراطية، فتريد أن ترشح وتصوت، فإن فازت فإنها تريد الإسلام، وإن لم تفز، فإنها تكون قد سلكت سبيلها، واعتذرت إلى الله، فهذا اجتهادها على الأقل، وكذلك فإنها لم تستخدم العنف، ولا القوة أبداً.

موقف الإعلام من هذه القضية

موقف الإعلام من هذه القضية الإعلام الجزائري، ومن تبعه أتى بثلاثة نبيلات -أقواس أطفال- وأربع سكاكين، وثلاثة خناجر، وكذلك هراوتين أو ثلاث، ثم قالوا: هذه وسائل الأصوليين المتطرفين لقلب نظام الحكم، وصوروها في جميع تلفزيونات العالم. الله أكبر! أين دبابات الجيش وهي تدك المساجد؟ فهل صوروها؟! لا. فأعجب شيء أن جيشاً يدك عواصم ولا يصور!! ولماذا لم تنقل وسائل الإعلام هذه الصور؟! أين الذين ألقيت عليهم القنابل، والغازات الخانقة، من قنابل أمريكية الصنع، لم تستخدم من قبل؟! وأما كونها أمريكية فهذا يدل على مغزىً آخر، فالمسألة ليست فرنسية فقط، لأنها لم تستطع أن تفعل ما ينبغي، فجاءت أم الكفر، ورأس الصليبية في العالم، وأعطتها قنابل لا تعرفها فرنسا، بل إنها محرمة دولياً، مكتوب عليها (لا تقذف على الأشخاص مباشرةً؟) بل تقذف في الهواء ثم تلقي بالرذاذ؛ فيختنق المتظاهرون، وتسيل دموعهم، فتتفرق المظاهرات، لِم لم يذع عن هذا شيء؟ ولم يتكلم عنه؟ بل إن أمريكا هي التي تدفع ذلك، وتقضي على الديمقراطية بقنابلها، وهي أم الحرية وأم الديمقراطية في العالم!! تذبح الديمقراطية بقنابلها وهي مطمئنة وراضية، لأن الموتى والمختنقين في الجزائر - مسلمون، أما في يوغسلافيا فلا، أو في الصين فلا. ولذلك عندما فازت الجبهة الإسلامية، قطعت المعونات التي كان من المفترض أن تعطيها السوق الأوروبية المشتركة للجزائر، وذلك حتى يحرجوا الجبهة أمام الناس، ولكنهم استعانوا بالله، وجمعوا الأموال ممن عندهم من الناس، ومن أهل الخير؛ وفتحوا مشاريع خيرية، فأعطوا الفقراء وساعدوهم، في رمضان وفي غير رمضان. فأحبهم الناس وتنفسوا روح العدالة الإسلامية، فأحبوا الإسلام، وأقبلوا على بيوت الله وعمروها، وانتشر الخير فيما بينهم، وكسدت تجارة الخمور والمخدرات والسينما. حتى إنه عندما جاءت فرقة غربية إلى الجزائر، أرادت أن تقيم حفلاً غنائياً، وعادت إلى بلادها خائبة، فذهل الغرب من هذا الموقف، ولم يعجبهم ذلك، فماذا صنعوا؟ لقد اشترطوا أن لا تُعطَى جبهة التحرير الحاكمة قروضاً إلا بالقضاء على الجبهة الإسلامية، ولما قضي عليهم، سمعنا الخبر -جميعاً- وهو أنهم أعطوا كل المساعدات التي يريدونها، وكذلك أديت عنهم الديون، لأنهم فعلوا الشيء الذي يطلبه الغرب ويريده، وهو القضاء على هؤلاء! إذاً فالقضية قضية دين، وإيمان، وعقيدة تحارب، وليست جبهة كذا، ولا فلان من الناس ولا علان، فديننا أكبر من كل الأشخاص، وهو أهم عندنا من كل أحد، والقضية التي نتكلم عنها ليست مجرد فلان، أو جبهة، لأنهم إن كانوا من أولياء الله، فالله ولي المتقين، والله ناصرهم ولو بعد حين، وإن كانوا غير ذلك فقد عجلت إليهم بعض ذنوبهم.

حقيقة القضية وحقيقة الصراع

حقيقة القضية وحقيقة الصراع إن القضية قضية إسلام يحارب، ومساجد تدكها المدافع والدبابات، ومصلون تلقى عليهم الغازات السامة، من قبل فجرة ملحدين، وبعضهم شيوعيون. كل الأحزاب العلمانية قد سُرت وفرحت بذلك، في كل مكان؛ وأما المسلمون فلا بواكي لهم!! ولا أحد يعرف قضيتهم، بل لا أحد يتفهم حال الدعوة في الجزائر، وأنها قائمة على عقيدة السلف الصالح -والحمد لله- فالشيخ عبد الحميد بن باديس، ورابطة علماء السلف، رابطة سلفية نشأت على دعوة التوحيد التي قامت عليها البلاد، وأما التهم التي يتهمونه بها، فهي نفس التهم التي توجه إلى من أقاموا هذه البلاد، وأنشأوا هذه الدولة، وهي أنهم وهابيون ومارقون، وخوارج متطرفون، فهذه تهمة توجه إلى من أقام هذه الدولة على التوحيد والحمد لله. ولذلك فإن من أكبر الألم عند المسلمين في الجزائر -ولا أقول الجبهة أو غيرها، بل المسلمين عامة- ألاَّ يجدوا التعاطف من أبناء هذه البلاد لقضيتهم، وألاَّ يتفهم أهل هذه البلاد ما يعانون لأنهم يريدون حكم الله، وتحكيم كتابه! والجبهة ليست حزباً سياسياً، واسألوا من يعرف الأحزاب، أو اقرءوا في صحيفة الحياة، أو في غيرها من الصحف، فـ الجبهة ليست حزباً سياسياً ضيقاً بالمعنى المعروف، بل إنها عبارة عن تجمع عام، والدليل: أن معظم الشعب -ثمانون في المائة- معهم، لأنه يريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذاً فالغرض هو الإسلام، والهدف هو الإسلام، فعندما يُضرب فإنما يضرب الإسلام، وعندما تكون الطعنة النجلاء فإنما هي في صدر الإسلام، وليست لمجرد فلان أو علان من البشر، بل إنه دين الله، وكتاب الله، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إن البيان الذي تريد الحكومة الجديدة إخراجه هو باللغة الفرنسية، فإنهم أناس بعيدون عن الإسلام، وبعيدون عن العروبة التي تُزعم، متفرنجون في عقولهم، وآرائهم، وقوانينهم، وفكرهم، ومع ذلك يوجد فينا من يقف معهم -عياذاً بالله! - ونعوذ بالله من الضلالة.

واجبنا حيال هذه القضية

واجبنا حيال هذه القضية فالواجب علينا أن نناصر إخواننا المؤمنين، وأن ننصر الإسلام في كل مكان؛ فإن لم نفعل فلا أقل من أن نسكت، ونتق الله؛ أما أن نكون مثل الكاتب الذي كتب أن موقظو الفتنة هم عباس مدني وأتباعه، ونحن لا يهمنا من كان، ولكن الذي يهمنا هو: ما هي الفتنة؟ إنها الشرك بالله تعالى، يقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فالفتنة في هذه الآية هي الشرك كما في الحديث الصحيح، فعندما يطالب أحد بكتاب الله فهل هو داع إلى الفتنة؟ أم أن صاحب الفتنة هو الذي ضحى بمليون شهيد من الشعب، ومع ذلك يحكم بالاشتراكية اللينينية الماركسية فأيهما أيقظ الفتنة؟ وأيهما يقف ضد الحق، وضد إرادة الشعب؟! فالمسألة واضحة. ولذلك نهيب بكم جميعاً -أيها المسلمون- بالاهتمام بهذه القضية، وألا ننساق وراء الإعلام الغربي المضلل، فالغرب -والله- لا يريد لنا إلا الشر، فهو يشوه قضايانا في إعلامه، وفي إذاعاته، فعندما نأخذ الأخبار منهم، أو ننقل أخبارنا مباشرة مما يقولون، فنحن بذلك نرسخ ما يريده، ونحن بذلك نحقق له أهدافه، فنحن مؤمنون، ولا بد أن نكون مع إخواننا المؤمنين، ومع قضايانا الإسلامية في كل مكان، ولا تستغفل عقولنا، فنسمع مثلاً أن دبابات الجيش نزلت إلى الشوارع، ونرى نبالاً وسكاكين، فننزل الغضب على هذه، وننسى صاحب الدبابة والمدفع لأن هذا من استغفالهم لنا، ولأنهم وجدوا أن عقولنا -مع الأسف- لا تدرك كثيراً من الأمور، فلَبَّسوا علينا ذلك. هذه نصيحة أخ لكم في الله، وأرجو أن تصل -هذه النصيحة- إلى هؤلاء الصحفيين الذين لا يخافون الله، فلم يعدلوا، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، بل وليتهم سكتوا! حتى لا يفضحونا في ذلك البلد الذي سكانه ثلاثون مليون مسلماً -والحمد لله- وبلد يقول الغرب عنه: إنه بعد عشرين سنة أو أقل سيصبح سكانه أكثر من سكان فرنسا الأم، وفهم يخافون منه؛ وأكثرهم من الشباب، فنسبة الشباب في الجزائر تعد من أعلى النسب في العالم، من بين السكان شباب متحمس ويريد الإسلام، وهو ما يهدد بأن ينتهي الغرب، وتنتهي مصالحه، وهو الذي يخشاه، ويخافه الغرب. ولذا فإنهم يضللوننا عما يجري وعما يحدث في الجزائر، فهذا البلد إذا سمع أن أهل هذه البلاد الطاهرة المقدسة، والذين يدينون الله تعالى بعقيدة التوحيد -والحمد لله- وعندهم العلماء، وفي بلادهم الحرمين الشريفين، وأن موقفهم منهم هو نفس موقف الإعلام الفرنسي والغربي، سُقط في أيديهم، وسيشعرون بالمرارة والألم، أكثر مما يشعرون به إذا رأوا أولئك المتفرنجين وأتباعهم ولا يقف أحد أمامهم. فمن المفروض أن يروا منا التشجيع والتأييد والنصح، وإذا رأينا فيهم خللاً أن ننصح لهم، فنحن إلى الآن لم نر في صحافتنا نقداً للحزب الاشتراكي الحاكم، إني لم أر ذلك، لماذا؟ يقولون: لأن هناك اتفاقات دولية، تنص على ألا نتكلم في الدولة الفلانية، فنقول: لماذا لم يطبق هذا أيام أحداث الخليج، فجميع صحف الجزائر -كما بلغنا- وكل الأحزاب فيها، بل والحكومة فيها أيضاً، كلهم كانوا ضد المملكة في حرب الخليج. إذا كان الصحفيون يريدون هذا، فلماذا نحن الآن لا نتكلم إلا عن الإسلاميين فقط، وأما الاشتراكيون الذين وقفوا ويقفون مع حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، فلأنهم تجمعهم الاشتراكية والعلمانية، لم نتكلم عليهم أبداً، فإذا قيل لهم: ولماذا تتكلمون عن هذه الجبهة؟ قالوا: لأنها وقفت في حرب الخليج في غير موقفنا، فنقول لهم: كلهم كانوا في غير موقفنا، فالصحافة الحكومية كانت تسخر منا، بل إنها رسمت كاريكاتيرات تسخر منا، وهي صحيفة الحزب الحاكم. وأما المسلمون أو الإسلاميون فما بلغنا عنهم شيء من ذلك، وإنما قرأنا عن تعاطفهم مع الشعب العراقي -فقط- ضد الأمريكان، لكنهم يكرهون صدام أشد الكره، ويعتقدون بكفر حزب البعث. فيجب أن لا نصدق ما يقال، فالقضية ليست بالشكل الذي صُور لنا، والمسألة ليست كذلك، فهذا الأمر أخطأ فيه كثيرون، وأصاب فيه كثيرون كذلك، فقدكانت فتنةً عمياء، والتبست على أكثر الأمة، وهذا الحال ليس خاصاً بالجزائر فقط، بل إن معظم العالم الإسلامي قد تعاطف مع العراق، ليس حباً في صدام، ولكن كرهاً لأمريكا. فالواجب علينا أن نتق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا الأمر، ولا ننظر لهذه الأحداث على أنها أحداث أو وقائع فقط، بل ننظر إلى أصل العقيدة والمبدأ، وأصل العدل والدين حتى نكون مع المؤمنين لا مع المجرمين، ومع المطالبين بكتاب الله لا مع المطالبين بالدساتير العلمانية الملحدة الكافرة. فدستور الجزائر الذي تسير عليه جبهة التحرير الحاكمة الآن، دستور كفري وإلحادي، ومن عجائب هذا الدستور أنه يتيح لفرنسا التدخل في الجزائر، إذا اقتضى الأمر، فأين الاستقلال والعدو يتدخل فيهم؟ ولهذا قال ميتران إذا فاز الأصوليون قد أتدخل في الجزائر مباشرة، كما تدخل بوش في بنما ' هذه كلمة سمعتموها جميعاً من قبل. ولذلك أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نناصح هؤلاء، والحمد لله جاءت هذه الفتوى بَقَدرٍ من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعني كلام الشيخ محمد، الذي وجه بمناصحة من كتب من هؤلاء في الصحافة وغيرها، ثم إنه ليس في الكلام من بينة إنهم واسمعوا إلى ما تقوله الصحافة فيهم تقول: أبعد ما يكونون عن الصدق، لأنهم انتهازيون ونفعيون، وهم أقدر الناس على المخادعة والمراوغة، وهذا كلام مجرد ليس فيه أدلة، فأين الأدلة على ذلك، كان عليهم أن يقولوا: لقد صرح بكذا، وله كتاب كذا، وله خطبة كذا. فنرى أن القول بالمراوغة والمخادعة يمكن قولها لأي أحد، وهو بريء، لكننا نريد حقائق أولاً. قبل أن تتكلم. وقد رأينا عندما أضرب الناس وخرجوا إلى الشوارع، فقال الحزب الحاكم: الإضراب بسيط، ولا يؤثر في الحياة، وليس فيه مشكلة، فما دام الأمر كذلك! فلماذا نزل الجيش والدبابات والغازات إلى الشوارع، وبقي أسابيع لم ينته. إذاً الناس يريدون الإسلام، وهؤلاء يحولون بينهم وبينه. فنسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن تصل هذه النصيحة إلى مثل هؤلاء الكُتاب، وأن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما هي إلا كلمة حق وإنصاف كما أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعدل، فإذا أردنا أن ندرس حال الدعوة الإسلامية في الجزائر وغيرها، من خلال ما لها وما عليها. فإن الذي يبحث في مثل هذا الموضوع هم العلماء المختصون بالدعوة، ينقدون حركة عباس مدني، ينقدون حركة حسن الترابي، وحركة راشد الغنوشي فإن أي حركة من تلك الحركات، تُنقد ما لها وما عليها، من خلال الكتاب والسنة النبوية والأدلة الشرعية، وهذا النقد مفتوح، وليس أحد فوق النقد كائناً من كان، وإن غضب من يغضب، فلا يهمنا غضبهم في تلك اللحظة، لكن لا نريد من الدعاة والصالحين أن يغضبوا منا لأننا وقفنا مع أعداء الإسلام، فليس هذا من العدل، بل إن هذا الغضب من حقهم إن كان الأمر كذلك. وقد يقول قائل وكلامه صحيح: ألا تعتقد أن السكوت عن ظلم المسلمين في الجزائر هو مشابه لما حدث في حرب الخليج، في العراق؟ وأن السكوت عليهم سيجعلنا بعد فترة ننساهم، ولا نذكر ما حصل على إخواننا في الجزائر، إلا عندما تسوء العلاقات السياسية بين البلدين؟ فأقول: نعم، هذه هي المشكلة، فإنه لا يمكن أن يقف أحد مع الظالم على المظلوم إلا ويحوجه الله -عز وجل- أن يقف معه المظلوم، ونعوذ بالله أن يكون قولنا من بعد ثلاث سنوات أو أربع: هؤلاء كانوا مجرمين، أو كانوا مفسدين، أو ضربوا الحركة الإسلامية، أو أن يكتب أحدنا هذا الكلام، مثل هذا الصحفي، فنحن أمرنا الله بالعدل والقسط في الغضب والرضا، في العداوة والمحبة، فنقول الحق في كل وقت ولكل أحد، وإلا فلا فرق بيننا وبين أي انتهازي، أو كاتب صحفي مأجور في أي جريدة من جرائد العالم.

رسالة من حاج جزائري

رسالة من حاج جزائري ولدينا رسالة -من القلب- من حاج جزائري، يتقدم بها إلى إخوة العقيدة في أرض الحرمين الشريفين وفي كل بلاد المسلمين، يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فهذه نبذة موجزة عن تاريخ الجزائر، من عهد الاستقلال إلى هذه الآونة الأخيرة، وسوف أتطرق فيها إلى الأسباب التي أدت إلى ظهور جبهة الإنقاذ الإسلامية، وكيف برزت هذه الجبهة في واقع الحياة في الجزائر؟

أسباب الأزمة الحالية

أسباب الأزمة الحالية فشل قادة الاستقلال والمتمثل في حزب جبهة التحرير الوطني، في قيادة البلاد وإخراج الشعب الجزائري من الأزمات التي تراكمت عليه منذ عهد الاستقلال إلى هذه الآونة، والأزمة الكبيرة التي قصمت ظهره وتركته مكسور الجناح -لا يملك من أمره شيئاً- هي تلك المصيبة الكبرى التي نادى بها الطاغية الراحل - هواري بوحدين - حيث جرد الشعب الجزائري من ممتلكاته الحيوية، التي كانت تنعش البلاد بالخيرات، والأرزاق، مما كان يكفي احتياج الشعب، بل كان يصدر الفائض من الإنتاج إلى خارج البلاد، كما هو معروف في عهد الاستعمار. ولكن هذا الطاغية الذي تمثلت فيه كل قوى الشر، وحب الانتقام، فدعا إلى هذا النظام الظالم، الذي يخالف كل سنن الله تبارك وتعالى في تدبير خلقه، ورزقهم من فضله، وبالتالي أصبح الشعب الجزائري بعد هذا النظام عالةً لا ينظر بعضه إلى بعض، لا الغني بماله يجود به على غيره، ولا الفقير يجد من يتفضل عليه، وأصبح الجميع كما قال تشرشل أحد المحنكين الإنكليز: (إن الاشتراكية أفقرت الغني ولم تغن الفقير) وإذا رأيت هناك أثرة من غنى أو سعة في رزق، فاعلم أن صاحبها من أعضاء الحزب الحاكم، وأن لديه بطاقة انخراط في حزب جبهة التحرير الوطني، حتى أصبحت بطاقة الانخراط -هذه- مصدر رزق الكثيرين من الشعب أو حرمانهم منه. ولا أبالغ إذا قلت: -وأنا على يقين مما أقول لأنني عشت في تلك الظروف التي أهلكت الحرث والنسل- أن الفلاحين -على شظف عيشهم- إذا ضاقت ميرتهم، وذهبوا يشترون العلف لدوابهم من الجمعيات الحكومية، التي تحتكر العلف وغيره، وتستغله أبشع استغلال، فإن المسئولين -في هذه الجمعيات- يسألونهم على الفور: هل لكم بطاقات انخراط في الحزب؟ وهل لكم ترخيص في تربية الدواب أو غيرها، أم لا؟ وغيرها من الأسئلة التي لا تطاق.

أسباب الثورة على نظام الحكم

أسباب الثورة على نظام الحكم فقد مكث الشعب الجزائري المغلوب على أمره تحت هذا النظام، وعلى هذا الوضع المزري (ما يزيد على ثمانيةٍ وعشرين عاماً) وهو يرى حاله تزداد من سيئ إلى أسوأ، واليوم بعد اليوم، والشهر بعد الشهر، والسنة بعد السنة، ولم ير أحداً يلتفت إليه، أو يحاول أن يصلح حاله، أو يدخل عليه شيئاً من السرور، حتى في الضروريات التي لا غنى للإنسان عنها، وكلما رأى فئة الحزب تزداد طغياناً وغنىً وظلماً وكبرياءً، وأصبح الظلم مستشرٍ بين طبقات الشعب، وكذلك الحاجة تزداد يوماً بعد يوم، وكذلك مما يزيد الأمر شراً: اختلاق الأزمات الاقتصادية -من قبل الدولة- عند هذا الظرف الحالك. حتى نفذ صبر هذا الشعب الصبور الجريء، وحانت ساعة الصفر التي لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت تجربة السنين والأعوام، ودعته بأن ينفجر ويكسر قيود هذا الحكم الظالم، فخرج من أقصى البلاد إلى أقصاها، منادياً بسقوط حزب التحرير الوطني، الذي جثم على صدر الشعب ردحاً من الزمن، ولم يكن للشعب منه فائدة واحدة تذكر، بل كانت طغياناً وعلواً وظلماً، فانفجر الشعب الجزائري بكل فئاته في 6/أكتوبر/1988م، ومما يزيدنا تصديقاً وبرهاناً على كفر الشعب بهذا الحزب الاشتراكي الظالم: أنه في معظم مناطق القطر الجزائري أحرقت مباني ودوائر هذا الحزب، ومنشئاته، ولم ينجو منها إلا النزر القليل. فاستعملت الحكومة في هذا الظرف الذي لم تحسب له، بل ولم تتوقع أن الشعب قد يتمرد يوماً ما هذا التمرد الكامل، منادياً بسقوط الحزب وأعضائه، استعملت كل وسائل القمع ضد هذا الشعب، ومنها الذخيرة الحية، فكانت النتيجة سقوط ما يزيد على ألف وخمسمائة قتيل -معظمهم من الشباب وأطفال المدارس- ويعلم الله أنه لم يهدئ تمرد هذا الشعب أحد، ولم يسمع من أحد، ولم يخف أحداً، إلا ما كان من سماعه للمشايخ، وخطباء المساجد حين اجتمعوا ونادوا في الشعب بالهدوء، والكف عن الحرق والتدمير والتخريب، ثم المطالبة بحوار مع الحكومة، فهدأ -عندها- الشعب. وخطب بعدها رئيس الجمهورية، وأمر بإلغاء الحزب، والدعوة إلى الديمقراطية، وطرح الكلمة الأخيرة للشعب، وأمر بتعدد الأحزاب. فأصبح الأمر جارياً، ورأى قادة المسلمين في الجزائر أنه من الضروري شرعاً الدخول في هذا المعترك، لأنه اختيار شعبي عام، حيث إن الشعب خرج منادياً بسقوط الحزب الظالم، والمطالبة بحكم الإسلام الذي لا حكم غيره، وعندها خرجوا بهذا الاسم المبارك (جبهة الإنقاذ الإسلامية) وذلك تفاؤلاً في أن ينقذ الله بها البلاد والعباد مما هي فيه من سوء الحال.

عقيدة جبهة الإنقاذ الإسلامية

عقيدة جبهة الإنقاذ الإسلامية وقد يسأل سائل عن عقيدة هذه الجبهة، فإن عقيدة هذه الجبهة هي عقيدة السلف الصالح، التي تتمثل في الالتزام بتعاليم الكتاب والسنة، وفي فهم السلف الصالح، كما أنها امتداد لدعوة جمعية علماء المسلمين الجزائريين، وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله. وأما شعارها فهو لا إله إلا الله، عليها نحيا، وعليها نموت، وعليها نبعث يوم القيامة، كما أن هذه الجبهة -أيضاً- ليس لها أي علاقة بـ الشيعة أو الخوارج، بل هي دعوة سلفية محضة. فقادتها ملتزمون بهذه العقيدة، وإليها يدعون دائماً، وكذلك فإن هذه الجبهة قد قامت بأعمالٍ خيرية، وميزات حسنة قامت بها فمنها: أولاً: لجان خيرية على مستوى كل بلدية، وذلك لمساعدة الفقراء والأرامل، ومحدودي الدخل، كذلك تم فتح مطاعم خيرية في كل بلدية -في شهر رمضان- المبارك لإطعام أبناء السبيل والمنقطعين، وكذلك -أيضاً- فتح محلات تجارية خيرية لا تأخذ من المشتري ربحاً، وإنما تبيع بسعر التكلفة محاولة لحل الأزمة الاقتصادية التي افتعلها النظام، واستغلها بعض وضعاء النفوس أبشع استغلال. وقد نجحت هذه الأعمال في التنفيس عن الشعب نجاحاً ظاهراً الأمر الذي دعا معظم الشعب الجزائري إلى الثقة وحب هذه الجبهة، ونبذ ما عداها من أحزاب أخرى.

موقف الصليبية من المسلمين في الجزائر

موقف الصليبية من المسلمين في الجزائر ولا ننسى هنا أن نذكر موقف الصليبية العالمية من المسلمين في الجزائر فقد سخرت الصليبية العالمية -وعلى رأسها فرنسا -كل إمكاناتها ووسائل إعلامها للطعن، والنيل في جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر؛ لأن فرنسا -خاصة- لم تنسَ ولن تنسْ تاريخها الطويل مع الشعب الجزائري، فالذي أخرجها من أرض الجزائر مدحورةً صاغرةً هو الإسلام وحده لا غير، لذلك فهي دائماً تناصبه العداء؛ لأنها خائفةٌ منه ومذعورةٌ، وكذلك لأنه قوةٌ حية لا يمكن لها أن تموت، وإن بدت في بعض الأحيان أنها خامدة، ولكنها سرعان ما تنطلق إذا وجدت لها أنصاراً أبراراً. وهذا الذي دعا زعماء فرنسا السابقين إلى أن يقولوا كما قال أحد الحكام الفرنسيين في الجزائر إبان استعمار فرنسا لها فقال - في هذه الآونة عن الوضع في الجزائر محذراً في ذلك بني جلدته الفرنسيين- قال: ' إن الخطر يهدد فرنسا من الجنوب -ويقصد بالجنوب الجزائر طبعاً كما صرح الرئيس الفرنسي نفسه- وقال: سأتدخل مباشرةً في الجزائر إذا ما تسلم الحكم المسلمون، كما تدخل الرئيس بوش في بنما >' وهذا مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. زد على ذلك كله -أيضاً- أن فرنسا قد ألغت عدة عقود كانت مبرمة مع الجزائر -في الاقتصاد وغير ذلك- لمجرد نجاح جبهة الإنقاذ الإسلامي في تسيير البلديات، وكذلك ألغت المنح والابتعاث للدراسة في جامعة فرنسا وذلك خوفاً من إمداد جبهة الإنقاذ الإسلامية بالأطر التي تزيد من نشاطها وخطرها -بزعمهم-. وهذه كلمةٌ صادقة، ومناشدة أخوية أقولها لإخواني في العقيدة بعد عودتي إلى الجزائر من رحلتي هذه، وبعد أن يسر الله تبارك وتعالى لي الحج في هذه السنة، ولقد رأيت الكثير مما يسر الخاطر، ويثلج الصدر في أرض الحرمين الشريفين من المشاريع العظيمة التي أدت إلى تسهيل مناسك الحج بيسرٍ وسهولة، وكذلك رأينا من كرم الضيافة، وحسن الاستقبال الشيء الكثير، ولكن الشيء الذي عكر صفو فرحتي وبهجتي بما رأيت، أنني -دائماً- كنت أتابع أخبار بلادي - الجزائر - من الصحف والإذاعات والاتصال بالبلاد هاتفياً.

تأثر إعلام المسلمين بإعلام الغرب

تأثر إعلام المسلمين بإعلام الغرب وأما الشيء الذي تعجبت منه غاية العجب! أن الصحف في بلاد الحرمين الشريفين -المعروفة بالنزاهة والموضوعية- قد تأثرت إلى حدٍ كبير بالإعلام الغربي المغرض، الذي دائماً يكيد للإسلام والمسلمين، وأصبحت هذه الصحف بكل ما تقول تتبع الإعلام الغربي حذو القذة بالقذة، وهذا مما لا يليق بالإعلام في هذه البلد حيث إن له وزنه واعتباره في جميع البلاد الإسلامية، أنه لا يذكر إلا من صدق الكلمة بحقيقة الواقع، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6] وفي قراءةً أخرى متواترة: (فتثبتوا). فالحذر الحذر! مما تبثه أجهزة الإعلام الغربية وبعض العربية، فإنها لا تصدر ذلك إلا كيداً للإسلام والمسلمين وكراهيةً لهم، ونحن لا نحبذ لكم أن تتخلوا عن إخوانكم في الجزائر فالدم الدم والهدم الهدم، فالعقيدة واحدة والمنهج واحد والحمد لله، ولا نريد أبداً أن تدافع عنا أو تتعاطف معنا أي جهة ليست على عقيدتنا ومشربنا، ولقد تزعمت دولة إيران الدفاع عنا، ولكنَّا براء من عقيدتها، ومن دفاعها عنا، وليس بيننا وبينها أي وشيجة أو رحمٍ قبل.

طلب النصرة من أهل الحرمين الشريفين

طلب النصرة من أهل الحرمين الشريفين ولذلك فإن الشعب الوحيد الذي يمكنه أن يجرد لسانه وقلمه لنصرة قضيتنا، والتعاطف معنا هو: شعب دولة الحرمين الشريفين لما له من السابقة في الخيرات والأيدي الطيبة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكذلك لصفاء العقيدة السليمة التي لم تشبها شائبة من ملل أو نحل ضالة، وهذه -والحمد لله- هي عقيدتنا التي ندعو إليها، ونرجو من الله تبارك وتعالى أن يميتنا وإياكم عليها بإذنه. وهانحن ننادي إخواننا في العقيدة -في أرض الحرمين الشريفين- بعد أن انتهينا من رحلة الحج المباركة، ونزلنا أرض بلادنا الجزائر وقد رأينا عن قرب سوء الحال، وما آلت إليه أوضاع المسلمين في الجزائر، وقد تحققنا تماماً أن ما كانت تقوله أجهزة الإعلام بعيدة كل البعد عن حقيقة الواقع، لذا فإننا نناشد إخواننا في العقيدة في أرض الحرمين الشريفين وفي كل مكان ونذكرهم أننا إخوة لهم وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} فإننا وإن بعدت بيننا الديار، وحالت دوننا البحار والقفار؛ فإن قلوبنا وأحاسيسنا أقرب إلى بعضها من حبل الوريد، وإننا قد تحاببنا في ذات الله تبارك وتعالى، ونسأل من الله أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، لذا فالنداء لكم خاصة -يا إخواننا في أرض الحرمين الشريفين- إن أجدادكم الأبرار قد فتحوا البلاد وأسعدوا العباد وأنتم عليكم بإكمال الطريق ونصرة إخوانكم في العقيدة في كل مكان.

موقف الشعب الجزائري من صدام وحزبه

موقف الشعب الجزائري من صدام وحزبه وإن كانت قضية الخليج التي أوقد نارها الطاغية صدام وأعوانه قد أثرت في علاقتنا وأخوتنا الإسلامية؛ فإن هذه القضية ليست بالميزان الذي نقيس به أمور المسلمين وأوضاعهم؛ بل هذه فتنة هوجاء عكرت تفكير الكثير من أولي الألباب والنهى. وبعد هذا كله فإن معظم الشعب الجزائري -وأنا قد عشت أوضاع حرب الخليج- من أولها إلى آخرها- معظمه كان ضد الطاغية صدام وحزب البعث، وأما البقية من الشعب والتي تعاطفت في ذلك، إنما كانت مع الشعب العراقي وليس مع حزبه الملحد. وإن الذين وقفوا مع العراق إنما وقفوا ضد الصليبية الحاقدة على شعب العراق، الذي ابتلي بحكم هذا الطاغية الذي أورده المهالك، وكان شعارهم آنذاك لا حباً في صدام ولكن بغضاً لأمريكا عدوة الإسلام والمسلمين، مع العلم أن الأحزاب العلمانية في الجزائر وهي تزيد على الثلاثين حزباً، منها صدام شخصياً ومع حزبه الملحد. كما أن أجهزة الإعلام في الجزائر -وهي في أيديهم- كانوا قد سخروها جميعاً لخدمة صدام وحزب البعث وجعلوا منه الزعيم الأوحد الذي قد جاء يخلصهم من مشاكلهم التي يتخبطون فيها.

الخاتمة

الخاتمة ولعلي في هذه النبذة القصيرة قد أوضحت الرؤية قليلاً عما يدور في الجزائر، وما يدبر للإسلام والمسلمين فيها، ويمكننا القول بصراحة: إن القضية في الجزائر اليوم هي محاربة الإسلام والمسلمين، وكل المبررات التي تقال عن المسلمين مدبر ومخطط لها، الجيش الجزائري -الآن- يضرب المتظاهرين ويقذفهم بقنابل أمريكية الصنع، وهي أشد من القنابل التي يقذف بها الصهاينة على الفلسطينيين في الأرض المحتلة، فهذه القنابل الأمريكية الصنع مسيلة للدموع مع وقوع الاختناق في نفس الوقت، وقد احتفظ الكثير من المسلمين بعينات من هذه القنابل وهي عندهم، وأنا مسئول على ما أقول. ولقائل أن يقول: ما شأن هذه الاضطرابات والمظاهرات؟ هل تأتي بفائدة للمسلمين في الجزائر؟ وهل لها مسوغ شرعي؟ ولأجل هذا السؤال فقد اتصلنا في هذا الموسم ونحن مجموعة من الشباب الجزائري بسماحة الشيخ محمد العثيمين -الذي هو أحد العلماء البارزين عندكم في أرض الحرمين الشريفين- وسألناه عن رأيه، فقال سماحته: إذا كانت هذه المظاهرات والاضطرابات قد تأتي بمصلحة ويمكن أن تخدم قضية الإسلام في الجزائر بدون أن تجر لكم مفاسد أشد، ففي هذه الحالة لا بأس، إذ هي وسيلة من الوسائل. وختاماً: نسأل من الله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويحكم فيه شرعه الحكيم، آمين اللهم آمين. اللهم لا تمتنا حتى تقر أعيننا بدولةٍ إسلامية، وخلافة راشدة تعز بها لنا النفوس، وترفع لنا بها الرءوس، اللهم أقم لواء الجهاد، وأغث البلاد والعباد، اللهم لا تمتنا حتى تقر أعيننا بإهلاك اليهود وأعوانهم من الملحدين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدستور اليمني ودور العلماء فيه

الدستور اليمني ودور العلماء فيه Q وهذا سؤال بشأن الدستور في اليمن؟ A أولاً: أعتذر عن تأخير الجواب عن موضوع الدستور في اليمن، فقد اطلعت على الكتاب والحمد لله وأقول: فضلٌ ونعمةٌ من الله أن يوجد في هذا البلد -المسلم العريق الشقيق- مثل هؤلاء العلماء الذين تكلموا ووقفوا في وجه الدستور الكافر، ولم ولن يقروه بإذن الله، فقد قرأتم وسمعتم الشريط ورأيتم صراحتهم في قول الحق، وكذلك فإني قد تتبعت المواد التي انتقدوها على الدستور، ووجدت أن نقدهم كان صائباً وصحيحاً، وإنني أحمد الله أن لدينا -من هذه الأمة- من عنده هذه الدرجة من الوعي. والذي عكر عليّ في الحقيقة لما قرأت الكتاب وجدت أن المنافقين موجودون في كل مكان، وفي هذا الموقف، ولهذا كنت أريد من الإخوة عندما طبعوا الكتاب أن يحذفوا كلامهم منه، حتى ولو كان تعليقاً فقهياً فالذي يقول: إن ما قاله الأخ الرئيس كله الحق، وكله الصواب، وفيه الشفاء، وفيه الخير ثم يسكت، فهذا ما قال شيئاً، وهذا معدود في العلماء! فقلت: لا بد من شطب هذا الكلام من أصله، بدلاً من أن يذكر ثم يعلق عليه. ولكني أظن أن الإخوة الكرام أرادوا الأمانة العلمية وهي طبيعة المؤمن دائماً، فقالوا: إن الأمانة أن ننقل الموضوع كاملاً، ثم نعلق على أولئك، لكن الحمد لله فقد عوض الله عنهم بمن هم خيرٌ منهم وأكثر بأضعاف مضاعفه من العلماء الذين قالوا: لا يمكن أن نوافق على دستور مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الوحدة إن كانت على الكتاب والسنة فنحن الذين نرحب بها وندعو إليها، وإن كانت الوحدة على هذا الدستور الوضعي الذي وضعته أيادي الاشتراكية في الجنوب، فلا، فرفضوه، وكتاباتهم وتوقيعاتهم وآراؤهم تشكر لهم، ونسأل الله أن يثيبهم وأن يجعلها في ميزان حسناتهم، وأعتذر مرة أخرى عن تأخير الجواب.

الكلام على كتاب كنز الدعاء

الكلام على كتاب كنز الدعاء Q ورد في كتاب " كنز الدعاء " من أدعية قيل أنها تسهل حفظ القرآن فهل هذا صحيح؟ A كلنا محتاجون إلى أن نحفظ القرآن والذي قد حفظه فليثبته، ولكن مثل هذا الكتاب كنز الدعاء الذي ذكر هذا الدعاء في صفحة تسعة وستين، فلا أعلم لهذا الدعاء أصلاً. السؤال: هل يجوز توزيع كتاب كنز الدعاء؟ الجواب: لا يوزع حتى نتأكد من صحته، لأني لم أر إلا صفحة واحدة، ولا أستطيع أن أقول لك: "وزع" إلا إذا تأكدت من أنه ليس فيه أحاديث باطلة أو ضعيفة.

الموقف من بعض كتب الأدعية والأذكار

الموقف من بعض كتب الأدعية والأذكار Q اذكر لنا بعض كتب الأدعية والأذكار التي لا مانع من توزيعها ونشرها؟ A تحفة الأخيار للشيخ عبد العزيز بن باز، وكتاب صحيح الكلم الطيب للشيخ الألباني فهذه وزعوا منها ماشئتم، فمن أراد أن يشتري منها أو يعطي إخوانه أو يضع منها في المساجد فهذا طيب؛ لأنها والحمد لله موثقة، وصحيحة.

مصنع البيرة وإغلاقه

مصنع البيرة وإغلاقه Q ما قول الشيخ فيمن يكتب أن سبب إغلاق مصنع الجعة (البيرة) في اليمن هم الأصوليون؟ A عجيب هذا يكتب أن الأصوليين قوة جديدة، وبسبب ضغوطهم سيتوقف مصنع الجعة (البيرة) وأنه المصنع الوحيد في شبه الجزيرة العربية لإنتاجها، فهؤلاء يرون أن الأصولي هو الذي يقول الخمر حرام، وهذا نموذج مما يكتب، وأقول: خذوا نموذج للكلام بأن كلمة أصولي ومتطرف تعني أنه لا يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يفسد، فهذه النعوت إذا أطلقت في أي بلد -من قبل الصحافة المأجورة- فإن هذا هو مرادهم، فلنحمد الله على ذلك، ولكن هل هذا هو المصنع الوحيد في جزيرة العرب، أم أنه المصنع الوحيد علناً؟ فماذا لو تم تفتيش جدة، فكم يا ترى نجد فيها، والله المستعان!

الفرق بين المكوس والعشور

الفرق بين المكوس والعشور Q ما هي المكوس؟ وما هو الفرق بينها وبين الضرائب الحديثة؟ وما هي العشور؟ وهل هذه الموارد المالية محرمة شرعاً؟ وما هي الأدلة الشرعية على التحريم؟ وما هي أدلة التحليل؟. A السؤال يحتاج إلى محاضرة، وأيضاً ليست محاضرة في المسجد؛ ولكن في كلية الاقتصاد والإدارة، ولكن نوجز: المكوس أو الجمارك أو الضرائب أو العشور التي يأخذها الظلمة، وتُؤخذ بغير وجه حق، وبغير وجه شرعي فكلها بمعنى واحد، وكلها حرام، ويكفي في تحريمها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرأة التي رجمت: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه}. إن المرأة الزانية تابت توبة لو تابها صاحب مكس وليس زنا!! أي أن المكس أعلى وأشنع وأفظع في الفساد وأجرم من الزنا، وهذا الحديث صحيح، وكذلك ورد في بعض الأحاديث التي في سندها كلام، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما العشور على اليهود والنصارى} رواه أبو داود، وهذا في سنده ضعف، لكن هذا المعنى يكفي، ففي القديم كانوا يسمونهم العشارين والمكاسين، وكان ذلك عند الرومان وعند الفرس وعند العرب في الجاهلية، وهي التي يسمونها في العرف الحاضر الجمارك. ولا نعني إدارة الجمارك. لأنها الآن تطلق على عدة أعمال، منها: التفتيش على المخدرات، وهذا عمل خير عظيم، وأجره كبير، وكذلك التفتيش على المجلات والأفلام الخبيثة، فنحن نسميه الجمارك. والمقصود بالجمارك في الأصل هم الذين يأخذون العشور من الأموال التي تمر، أو تقدم، أو تدخل، أو تخرج من وإلى البلاد، فهذا هو المحرم، وهو المكس، أما إذا كان عملهم مراقبة المنافذ البحرية، والجوية، والبرية وذلك بضبط ما يدخل من محرمات شرعاً، فهذا من أعظم أنواع الحسبة، وهو داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكن التسمية العامة لها تسمى الجمارك، وفي كتاب الأموال لـ أبي عبيد فصل وذكر أشياء كثيرة في هذا الموضوع، وهي من الموارد المحرمة شرعاً، ولقد ذكرنا -إن شاء الله- من الأدلة ما يكفي، والحالة الوحيدة أو الصورة التي تجوز فيها إذا كانت على سبيل المعاملة بالمثل -وطبعاً هذا على غير المسلم؛ لأن المسلم لا عشور عليه، فما على المسلم في ماله إلا الزكاة- لكن الكافر الذي يمر ببلاد المسلمين مجتازاً بها، إذا كان تاجرنا إذا مر ببلادهم يؤخذ عليه (10%) أخذنا عليهم (10%) وإن أخذوا عشرين أخذنا عشرين، فهذا ليس مكساً لأنه من قبيل المعاملة بالمثل، أما أن يؤخذ من المسلمين وعلى أشياء إسلامية وبضائع إسلامية أو أمور حلال مباحة، فهذا لا يجوز.

الظاهرية أفكارهم ورجالهم

الظاهرية أفكارهم ورجالهم Q ما هي الظاهرية هل هي فرقة من الفرق الظاهرة مثل المرجئة والخوارج، ثم ما هي أفكارهم الرئيسية، ومن هم المنظرين لهم؟ A الظاهرية مذهب فقهي، وليست فرقة عقائدية، لكنها تعد من البدع من جهة إنكارهم لكون الشريعة معللة -أي أنهم ينكرون الحكم الشرعية- وبناءً على ذلك ينكرون القياس، وحتى لا نعبر بالتعبير الأصولي، فمن القياس ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، ومنه الصحيح ومنه الفاسد. فهم ينكرون أن الشريعة معللة أي أن لها أحكاماً ومصالح معروفة، فمثلاً القتل يقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] فهذه معللة، وأكثر الأحكام معللة، وقال تعالى أيضاً: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر:7]. أليست هذه معللة؟! إذاً فإن كثيراً من الأحكام المالية والحدود معللة؛ حتى العبادات معللة وإن كانت الحكمة خفية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فالعلة هنا هي علة التقوى وهكذا. فهم لما أنكروا ذلك أتوا بما يخالف العقل، وتعرفون رأيهم الذي يضرب به المثل -دائماً- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه} فقالت الظاهرية: إن النهي هنا عن البول في الماء، أما لو بال في قارورة، ثم صبها في الماء، فإنه يجوز ذلك، وهنا وقعوا في الخطأ، وذلك لما نفوا الحكمة، مع أن العلة واحدة وواضحة وهي تنجيس الماء وهكذا. ولذلك فقد أثر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: 'إن هذه من إحدى البدع' وإمامهم القديم داود بن علي الظاهري ثم تزعمهم وأظهر شأنهم وأمرهم الفقيه المجتهد البارع أبو محمد بن حزم، فقد ملأ علمه الآفاق، وضرب في كل علم بسهم: في اللغة، والبلاغة، والبيان، وفي الفرق، فهو رجل عالم، لكنه كان سليط اللسان. ثم أضاف إلى ذلك أمراً آخر رغم أنه ظاهري في الفقه ترك ظاهريته وأعمل عقله في العقيدة فأتى بالعجائب التي لا يتسع المقام لذكرها، ففي بعض الأمور يوافق الجهمية، وفي بعضها وصل به الحال أنه كاد أن يوافق الباطنية والقرامطة وفي بعض الأمور وافق أهل السنة، كل ذلك كان باجتهاده الخاص وترك ما أجمع عليه السلف في موضوع الأسماء والصفات وغيرها، وإن كان له ردود قيمة وعظيمة على اليهود والنصارى وعلى الصوفية والخوارج والشيعة، فنسأل الله أن يغفر لنا وله.

توبة مخرج

توبة مخرج Q سُئلتم منذ بضعة أشهر عن توبة المخرج السينمائي أنيس عبد المعطي فلم تجيبوا، حيث لم يكن لديكم معرفة كافية به، وقد علمنا أنكم قدمتم لكتابه محاكمة أهل الفن، فهل من كلمة تعرفنا من خلالها بهذا الأخ، وبتوبته، وبكتابه، عسى أن يكون في ذلك تبشير للمؤمنين، وإغراء للعصاة للتأسي به، والإقبال على الله، ويمكن تنبيه الإخوة عن وجود شريطين للأخ أنيس قذارة الفن، والسينما وتشويه المرأة. A نعم، أنا عرفت الأخ عن قرب، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ييسر ويسهل خروج كتابه هذا، فهو كتاب مفيد لأهل الفن ولغيرهم، وهو -والحمد لله- أول ما عرفت عنه قرأت في بعض الجرائد دعاية له وهو أنه يريد أن ينتج عملاً فنياً لم يسبق إليه، ويحشد فيه معظم الفنانين والمطربين المشهورين في العالم العربي، وذكروا فلاناً وفلاناً وفلانة فقلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، كلما نقول سوف يهدم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دولة الفساد والقذارة، وإذا بها يظهر لها كل يوم عماد جديد، ومنهم هذا الشاب الذي أثنى عليه الجميع، حتى النقاد العالميين ذهلوا مما أُوتي من مهارة وملكة وذوق. ثم قابلناه وعرفناه، وقد هداه الله والحمد لله على ذلك، وأراد أن يكفر عن ماضيه الفني العفن، بأن يكتب هذا الكتاب مبيناً فيه خطر الفن، وكذلك خطر الأيادي الصهيونية الخبيثة في نشر التمثيل والطرب والفن وما يتعلق به، مبيناً فيه -أيضاً- بأن الأمة المؤمنة الجادة الصادقة لا تتعامل مع هذا العفن، ومع هذا النتن، ومحذراً وناصحاً أولئك بأن يتوبوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذكر من سيرهم وأحوالهم ما فيه من عبرة. وستقرءون الكتاب وتجدون من العبر التي تراها عقولكم واضحة من حياة هؤلاء، وما فيها من التنغيص، وكذلك من التقليد الساذج لأعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما فيها من الموالاة لأعداء الله من الكفار، وما فيها من التبعية لخدمة الأغراض الصهيونية وأشباهها ممن يحاربون كتاب الله، وممن يحاربون الإسلام في عقر داره. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثيبه ويؤجره ويثبته على الحق، وأن يرد الإخوة الذين غرقوا في هذه المعاصي عن جهل وانخداع إليه رداً حميداً، وأن يعرفوا في أي ركب يسيرون، ومع من يطبلون، وأهداف من يخدمون، فيرجعون إلى الله، ويتوبون إليه توبة نصوحاً، والأشرطة موجودة يمكنكم أن تسمعوها وتستفيدوا منها بإذن الله.

حكم افتتاح المجامع المشتملة على باطل بالقرآن

حكم افتتاح المجامع المشتملة على باطل بالقرآن Q ما حكم من يستهل الأعمال المحرمة، كالحفلات المحرمة، والمسرحيات بالقرآن الكريم؟ A هذا له علاقة بالفن، فهناك تقليد جديد يتبعه الآن النجم المسرحي فلان، حيث يتفق مع قارئ قرآن لتلاوة آيات من الذكر الحكيم في السادسة والنصف مساء كل يوم على خشبة مسرحه، سواءً كانت الفرقة المسرحية تقوم بالعمل أم كانت في إجازة، وهذه الفرقة تتصدر إيرادات المسرح منذ بداية الموسم الشتوي، وهذا يحصل حتى لو كانت الفرقة تغني، لأنها تظن أن ذلك بركة من أجل ذلك يكثر الرزق، ومن أجل أن تنجح التمثيلية -أعوذ بالله- فهم يخدمون الدنيا بالدين، وهذا هو الإجرام بحق كتاب الله.

تصوير الصحابة في المجلات والمسلسلات

تصوير الصحابة في المجلات والمسلسلات Q ما حكم ما يصدر في بعض المجلات والمسلسلات من تصوير الصحابة؟ A عجيب أمر هؤلاء كيف يصورون الصحابة والتابعين بهذا الشكل، صور الصحابة والتابعين يوم بدر، وهذه مجلة باسم تصور معركة بدر وجبل أحد وكذلك ما حصل لـ هند بنت عتبة، فعلى كل حال، فكل ما في المجلات من نشر لصور الصحابة، وأحداث السيرة والصحابيات كما هو في المسلسلات التلفزيونية حرام، ولا يجوز إقراره في أي حال من الأحوال.

كتب في الميزان

كتب في الميزان Q ماذا يقول الشيخ في كتاب موانئ بلا أرصفة؟ A هذا الكتاب موانئ بلا أرصفة وكما تقول السائلة أنه يسير على منهج غازي القصيبي ونجيب محفوظ وأمثالهم في أشعارهم ثم ذكرت مثالاً من الكتاب يقول: ' أنا امرأة خلقت من حديد، وليس لي صلصال، ولست امرأة هشة يغريها كلام الحب، وكلام إلى أن تقول: هأنذا أكذب نفسي بنفسي، أسحق مبادئي، أكفر بمذاهبي' نعوذ بالله! لو كانت من حديد أو خشب لاستفدنا من الخشب والحديد. والعجيب أن في التقديم يقول الكاتب: 'أفلا يكون نجيب محفوظ قدوةً للآخرين في هذا الموضوع' وهل هذا قدوة!! فمع ما في هذا الكتاب من الشنائع، فإنه يطالب بأن يكون هذا الرجل هو القدوة! فهذه مشكلة، وكذلك فإن السائلة تشكو من أن هذه الكتب والمجلات تكتظ بها مكتبة الجامعة التي لها موقع ممتاز في الجامعة، بل وترتادها الطالبات من مختلف الكليات والأقسام، وهذه المنكرات تباع أيضاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكل هذا لا يجوز السكوت عليه أبداً. بالإضافة إلى ما ذكرت السائلة بشأن الموسيقى، والنادي الرياضي النسائي في الجامعة، وكذلك بشأن ما يلبسن من الضيق، فالله المستعان! السؤال: كتاب شفاء الفؤاد في زيارة خير العباد، ما رأي الشيخ فيه؟ الجواب: هذا الكتاب الذي يسأل عنه الإخوة شفاء الفؤاد في زيارة خير العباد إلى الآن لم أره وأرجو أن أراه -إن شاء الله- وقد سمعت عنه؛ لكن من عادتي -كما ترون- أني لا أتكلم إلا عن شيء يكون في اليد حتى نقرأ من كلامه؛ فهو بمثابة عمرو بن لحي الذي أدخل الأصنام، وأفسد التوحيد، وأفسد ما ورثه الناس عن إبراهيم عليه السلام، وهكذا في كل زمان يظهر من أمثاله من يريد أن يفسد دعوة التوحيد، وهذا الكتاب وما فيه من شركيات وضلالات إن شاء الله نبينها من نصه إذا وصلتنا نسخة خاصة منه إن شاء الله تعالى.

الصحف والتدخين وموقفنا من ذلك

الصحف والتدخين وموقفنا من ذلك Q ما رأي الشيخ حفظه الله فيما نشرته جريدة الشرق الأوسط من أن التدخين يمنع الأصابة بمرض الخرف؟ A هذه بشرى طيبة عند بعض الناس -مع الأسف- وهو ما نشر في جريدة الشرق الأوسط من أن التدخين يمنع الإصابة بمرض الخرف، فمعنى هذا الكلام: أن العجوز الذي يخرف يجب أن يدخن، ومعنى هذا الكلام -أيضاً- أن الذي لا يدخن يصاب بالخرف، فمثل هذه العناوين تخدم من، ولمصلحة من؟ كلنا نعرف أن الدعاية للدخان ممنوعة في الصحف الداخلية، فصارت الصحف السعودية تصدر في الخارج، وبهذه الطريقة تكون قد تحايلت على هذا القرار، فتضع الإعلان على الصفحات الواضحة والأغلفة الملونة: " تعال إلى حيث النكهة والجمال والمتعة" وفيه أيضاً " يظهر حصان ملون وجميل جداً! " وكأن الدخان هو الذي جعله بهذا الشكل، مع أن الحيوان وبما أعطاه الله من غريزة فإنه لا يمكن أن يأكل الدخان أبداً؛ ولكنهم يأتون بصورته ويقولون: تعال إلى النكهة والمتعة والصحة، وفي نفس الإعلان وتحت تلك الدعاية، نجد تحذيراً صغيراً بأن التدخين ضار بالصحة، فما هذا الكلام؟ وهل هذا فعل عاقل؟ ما هذا التناقض المكشوف؟ وإلا فإن الله قد أعطانا العقل، فإن كان ضاراً فلا داعي له أبداً، وإن كان مفيداً فلا يقولون: إنه ضار، كيف وهو النكهة والمتعة والجمال! فلن يجتمعا أبداً! فهذا نموذج صغير وبسيط للتناقض الذي نعيشه للأسف، ولن يكون الخلاص من ذلك إلا إذا تمحضنا لما أمرنا الله تبارك وتعالى، وأطعنا الله ورسوله في كل أمر، ونبذنا ما عدا ذلك، وإن كانت شهواتنا تدعوا إليه.

حركة الإصلاح المزعومة وروادها

حركة الإصلاح المزعومة وروادها Q ما مدى علاقة جمال الدين الأفغاني ورفاقه بحركات الإصلاح؟ A بالنسبة لحركات الإصلاح التي تكلم عنها السائل فليس جمال الدين الأفغاني زعيماً إصلاحياً، بل هو خبيث رافضي، وقد قرأنا كتبه مباشرة، وليس مجرد نقل عن أحد، وكتبه موجودة وتقرأ أيضاً، وأما محمد عبده فكان عقلانياً، وتلميذه رشيد رضا أفضل منه، لكن كان لديه بدع وانحرافات لا مجال لذكرها الآن. وكذلك الكواكبي فليس من دعاة الإصلاح؛ أما الحركة المهدية في السودان حركة صوفية باطنية، وليست من الإصلاح في شيء.

التجمعات السكنية الخالية من المساجد

التجمعات السكنية الخالية من المساجد Q ماذا يقول الشيخ عن عدم وجود مساجد بالقرب من الشقق السكنية العامة؟ A هذا السؤال كثيراً ما جاءت الشكوى به، وهي أن شقق الإسكان مع أنها ثلاثة آلاف شقة تقريباً فليس فيها مسجد، وليست مشكلة المسجد فقط، لكن لا ندري كيف سيسكن هؤلاء الناس، وكيف يتكومون في هذه العمارة الشاهقة، وكيف يعيشون؟! وكيف يتصرفون؟! بل كيف يصعدون؟! وإذا تعطل المصعد فكيف يخرجون؟! وفي الحقيقة أعترف أنني ليست عندي خبرة في الهندسة المعمارية، لكن عندي خبرة كيف أسكن، فأرى وأعرف ما يناسبني من السكن. فأنا أتعجب من هذا النموذج، وهناك نماذج في البناء والمعمار بنتها أوروبا قبل أكثر من خمسين سنة، وخاصة دول الاشتراكية مثل بريطانيا وغيرها فإنها تبني أي بناء؛ لأنها حين تحشر الناس لا يهمها شيء من تعر واختلاط، وليس عندهم صلاة ولا دين، أما نحن المسلمين فإننا نحتاج إلى الذهاب إلى المسجد خمس مرات في اليوم والليلة، فإذا كان السكن بهذا الشكل، فإذاً أقول: أعان الله من يسكن فيه، لأنه لا يسكن فيه إلا المضطر، أما إصلاح ذلك فيمكن، وذلك بوضع وسائل معينة للتخفيف من هذا الضنك، الذي قد يجده السكان.

أحكام أهل الذمة

أحكام أهل الذمة إن الشريعة الإسلامية منهج شامل لكل ما يتعلق بمصالح البشر، ولقد اهتمت هذه الشريعة بعلاقة العباد مع بعضهم البعض، حتى إنها لم تغفل العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الديانات الأخرى. ولقد ركزت الشريعة في الأحكام المتعلقة بغير المسلمين بمن هم بين ظهراني المسلمين، والذين يسمون أهل الذمة، فقد تناول أحكامهم المتعلقة بهم عدد من أعلام المسلمين، منهم العلامة ابن القيم رحمه الله ومن ضمن هذه الأحكام: منع استعمال أهل الذمة في مناصب يمكنهم من خلالها الاطلاع على أسرار المجتمع المسلم. وقد أظهر التاريخ الأثر الخطير الذي يترتب على مثل هذا العمل، وما يمكن أن يجره من ويلات على المسلمين. ولقد بين ابن القيم المنهج الصحيح في التعامل مع أهل الذمة، حيث أورد الأمثلة على ذلك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جاء من بعده من الخلفاء الراشدين، ثم أردف ذلك بذكر أمثلة على عداوتهم للمسلمين، وسعيهم لتقويض أركان الدولة الإسلامية.

حكم ولايات أهل الذمة

حكم ولايات أهل الذمة يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فصل: في المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم". ثم بدأ بذكر روايات عن الإمام أحمد كعادته فقال: قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله: يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ قال: لا يستعان بهم في شيء. ثم قال: قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن زيد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنا لا نستعين بمشرك} إلى أن قال: عن عروة عن عائشة {أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة فقال: إني أريد أن أتبعك وأصيب معك، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع، فلن أستعين بمشرك؛ ثم لحقه عند الشجرة، ففرح بذلك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان له قوةً وجلداً، فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك؛ ثم لحقة حتى ظهر على البيداء فقال له مثل ذلك، قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فخرج معه} رواه مسلم في صحيحه بنحوه. وفي مسند الإمام أحمد من حديث حبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: {أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يريد غزواً وأنا ورجل من قومي وكنا لم نسلم، فقلنا: إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، قال: فأسلمنا وشهدنا معه}.

أهل الذمة في العهود الإسلامية الأولى:

أهل الذمة في العهود الإسلامية الأولى:

أهل الذمة في عهد العمرين

أهل الذمة في عهد العمرين قال بعد ذلك: وقال عبد الله بن أحمد بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [[قلت لـ عمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً، قال: مالك؟ قاتلك الله! أما سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً -أي: مسلماً- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله]]. وكتب إليه بعض عماله يستشيره في استعمال الكفار، فقال: [[إن المال قد كثر، وليس يحصيه إلا هم -أي: أن الجبايات والخراج والواردات كثرت وهم عندهم حذق وفهم في أعمال المحاسبة- فاكتب إلينا بما ترى، فكتب إليه: لا تدخلوهم في دَيْنِكُم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولاتأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي للرجال أو فإنما هي حلية الرجال]]. هو بهذا يحث هذه الأمة أن تتعلم الحساب. وكتب إلى عماله: [[أما بعد: فإنه من كان قِبله كاتب من المشركين، فلا يعاشره، ولا يؤازره، ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده]] أي: لم يرضه. وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان [[أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإن في عملي كاتباً نصرانياً، لا يتم أمر الخراج إلا بهذا النصراني فكرهت أن أقلده دون أمرك -أي: أنه يريد استثناءً لهذا الكاتب- فكتب إليه: عافانا الله وإياك، قرأت كتابك في أمر النصراني، فأما بعد، فإن النصراني قد مات! والسلام]]، أي افترض أنه قد مات فهل تتعطل الأمة؟ فإذاً لا بد أن تتخذ غيره؛ فمعنى كلامه أنه لا توجد ضرورة لهذا الكاتب. وكان لـ عمر رضي الله عنه عبد نصراني، فقال له: ' أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمرهم بمن ليس منهم، فأبى فأعتقه وقال: اذهب حيث شئت '. وكتب إلى أبي هريرة: [[أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا حضرك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وعُد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح بابك، وباشرهم، وأبعد أهل الشر، وأنكر أفعالهم، ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم؛ غير أن الله تعالى جعلك حاملاً لأثقالهم]]. قال ابن القيم رحمه الله: 'ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة كـ عمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر ' ونحن نذكر بعض ماجرى. قال: 'فأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق أما بعد: فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فجعلهم الله حزب الشيطان {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104،103]، واعلموا أنه لم يهلك من هلك من قبلكم إلا بمنعه الحق، وبسطه يد الظلم. وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلداً، أتاهم أهل الشرك، فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم، لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خيرة ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدة، وقد قضاها الله تعالى؛ فلا أعلمن أن أحداً من العمال أبقى في عمله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم؛ فأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار. وأمر بمنع اليهود والنصارى من الركوب على السروج إلا على الأكف -جمع إكاف- وليكتب كل منكم بما فعله من عمله'. فهكذا كانت كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إلى جميع ولاته وكتب مثل ذلك إلى حيان عامله على مصر باعتماد ذلك، فكتب إليه ' أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة -أي لو استمرينا على كلامك هذا أسلم أهل الذمة- وبطل ما يؤخذ منهم فتقل الموارد، فأرسل إليه رسولاً، وقال له: اضرب حيان على رأسه ثلاثين سوطاً أدباً على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام، فضع عنه الجزية، فوددت لو أسلموا كلهم؛ فإن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً لا جابياً '. وأمر أن تهدم بيع النصارى المستجدة، فيقال: إنهم توصلوا إلى بعض ملوك الروم، وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، أي رجعوا إلى أصولهم ملوك الروم وقالوا لهم: عمر فعل ذلك بنا، فكتب إليه: أما بعد ' يا عمر! فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك؛ لتجري أمورهم على ما وجدتها عليه، وتبقي كنائسهم، وتمكنهم من عمارة ما خرب منها؛ فإنهم زعموا أنَّ من تقدمك فعل في أمر كنائسهم ما منعتهم منه؛ فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلك سنتهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعل ما أردت'. فهذا يدل على أن وساطة ملك الروم وشفاعته كانت مهذبة؛ لأنه لا يريد أن يواجه عمر رضي الله عنه لأنه يعرف قوته وصلابته. فكتب إليه عمر: [[أما بعد فإن مثلي ومثل من تقدمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79،78]]]. فما أراد أن يطعن في حكمهم؛ لأن هذا عدو للإسلام والمسلمين، فلم يقل: إن الذين كانوا قبلي ليس فيهم خير، وأتى بنبيين من أنبياء بني إسرائيل، يؤمن النصارى بنبوتهما وجعل الحكم وهو معلوم عندهم في التوراة ومعلوم عندنا في القرآن أن كلاً منهم قد اجتهد، ولكن مَن من المجتهدين المصيب؟ فكأنه يقول: أنا الذي فهمت الحق وأصبت وأما الذين قبلي فهم مخطئون ولكنهم معذورون. وكتب إلى بعض عماله: ' أما بعد، فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -أي ذلك الكاتب- إلى الإسلام؛ فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين فأسلم حسان وحسن إسلامه '.

أهل الذمة في عهد أبي جعفر المنصور والمهدي

أهل الذمة في عهد أبي جعفر المنصور والمهدي قال: "وأما أبو جعفر المنصور، فإنه لما حج اجتمع جماعة من المسلمين إلى شبيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم، ولا يُمكن النصارى من ظلمهم وعسفهم في ضياعهم، وأن يمنعهم من انتهاك حرماتهم وتحريهم؛ لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية، فقال شبيب: فطفت معهم عند الكعبة فشبك أصابعه على أصابعي، فقلت: يا أمير المؤمنين! أتأذن لي أن أكلمك بما في نفسي؟ فقال: أنت وذاك، فقلت: إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه، لم يرض لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحداً؛ فلا ترض لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحد!! يا أمير المؤمنين، اتق الله! فإنها وصية الله إليكم جاءت، وعنكم قبلت، وإليكم تؤدى -أي: الوصية بالتقوى- وما دعاني إلى قولي هذا إلا محض النصيحة إليك، والإشفاق عليك، وعلى نعم الله عندك اخفض جناحك إذا علا كعبك، وابسط معروفك إذا أغنى الله يديك يا أمير المؤمنين! إن دون أبوابك نيراناً تتأجج من الظلم والجور، لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبينه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يا أمير المؤمنين! سلَّطت الذمة على المسلمين، فظلموهم، وعسفوهم، وأخذوا ضياعهم، وغصبوهم أموالهم، وجاروا عليهم، واتخذوك سلماً لشهواتهم، وإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاًَ يوم القيامة فقال المنصور: خذ خاتمي فابعث به إلى من تعرفه من المسلمين وقال: يا ربيع، اكتب إلى الأعمال، واصرف من بها من الذمة، ومن أتاك به شبيب فأعلمنا بمكانه لنوقع باستخدامه'. أي: خذ هذا الخاتم فأتني بولاة من الثقات وأنا أصرف النصارى وأجعلهم محلهم، فقال شبيب: يا أمير المؤمنين! إن المسلمين لا يأتونك، وهؤلاء الكفرة في خدمتك، فإن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغروك بهم، ولكن تولي في اليوم الواحد عدة، فكلما وليت رجلاً عزلت آخر' قال: 'وأما المهدي فإن أهل الذمة في زمانه قويت شوكتهم، فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين، وسألوه أن يعرفه بذلك وينصحه، وكان له عادة في حضور مجلسه، فاستدعي للحضور عند المهدي، فامتنع، فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره -أي: أن الشيخ لم يحب أن يذهب إلى المهدي فانقطع عن مجلسه- فجاءه الخليفة وقال له: لماذا لم تأتِ إلى مجلسي 'فقص عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلمين من ظلم الذمة، ثم أنشده: بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام؟! من صد عن دين النبي محمدٍ أله بأمر المسلمين قيام؟! إن لا تكن أسيافهم مشهورةً فينا فتلك سيوفهم أقلام! ' يقول: هذا حين كان النصارى يحاربون الإسلام بالأقلام؛ لأنهم يكتبون في الدواوين فقط، فكيف إذا كان أكثر؟! ثم قال: يا أمير المؤمنين! إنك تحملت أمانة هذه الأمة، وقد عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها ثم سلمت الأمانة التي خصك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين! يا أمير المؤمنين! أما سمعت تفسير جدك - عبد الله بن عباس - لقوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] أن الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة؟! فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم؟! وقد نصحتك وهذه النصيحة حجة عليَّ ما لم تصل إليك، فولَّى عمارة بن حمزة أعمال الأهواز وكور دجلة وكور فارس، وقلد حماداً أعمال السواد. وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحداً من الذمة يكتب لأحد من العمال، وإن علم أن أحداً من المسلمين استكتب أحداًَ من النصارى، إلا قطعت يده فقطعت يد شاهونة، وجماعة من الكتاب'، الذين أبوا إلا أن يكونوا كتاباً قطعت أيديهم، حتى لا يقول أحد من المسلمين: إن هذا عنده خبرة، فلماذا لانستخدمه ونستكتبه؟! قال: 'وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتباً نصرانياً بـ البصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلم المتظلمون إلى سوار بن عبد الله القاضي -ويلاحظ دائماً أن الأمة في أي وقت تقع عليها المصائب والمشاكل، فيرجعون بعد الله تعالى، إلى العلماء والقضاة فهذا واجبهم- فـ سوار بن عبد الله كان قاضي البصرة فأحضر وكلاء النصراني واستدعى بالبينة، فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدي مناهج الحق ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي بالتثبت في أمره، فجاء البصرة ومعه الكتاب وجماعة من حمقى النصارى، وجاءوا إلى المسجد، فوجدوا سواراً جالساً للحكم بين المسلمين. فدخل المسجد، وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده؛ لأن عنده كتاباً من الخليفة فتعدَّى وتجاوز فمنعه الخدم، فلم يعبأ بهم وسبهم ودنا حتى جلس عن يمين سوار، ودفع له الكتاب، فوضعه بين يديه ولم يقرأه، وقال: ألست نصرانياً؟ فقال: بلى، أصلح الله القاضي، فرفع رأسه، وقال: جروا برجله، فسحب إلى باب المسجد، وأدَّبه تأديباً بالغاً، وحلف ألَّا يبرح واقفاً إلى أن يُوفِّي المسلمين حقوقهم. فقال له كاتبه: قد فعلت اليوم أمراًَ يخاف أن يكون له عاقبةً -أي: يخشى أن يكون له عاقبة عند النصارى، أو عند الخليفة، فقال: أعز أمر الله يعزك الله ولا تخف من أحد".

أهل الذمة في عهد الرشيد والمأمون

أهل الذمة في عهد الرشيد والمأمون قال ابن القيم رحمه الله: 'وأما هارون الرشيد فإنه لما قلَّد الفضل بن يحي أعمال خراسان، وجعفراً أخاه ديوان الخراج، أمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج والسقايات، وجعل في المكاتب مكاتب لليتامى، وصرف الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضاً عنهم، وغيَّر زيهم ولباسهم، وخرَّب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام'. قال ابن القيم: 'وأما المأمون؛ فقال عمرو بن عبد الله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بـ مصر وقال لي: قد كثرت سعايات النصارى وتظلم المسلمون منهم، وخانوا السلطان ثم ذكر قصتهم وكيف ملكوا إلى أن قال: وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدة له يمدح فيها عمرو بن العاص رضي الله عنه، ويحثه على قتلهم ويغريه بهم: يا عمرو قد ملكت يمينك مصرنا وبسطت فيها العدل والإقساطا فاقتل بسيفك من تعدى طوره واجعل فتوح سيوفك الأقباطا فبهم أقيم الجور في جنباتها ورأى الأنام البغي والإفراطا عبدوا الصليب وثلثوا معبودهم وتوازروا وتعدو الأشراطا وبقي في نفس المأمون منهم، فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرةٌ في بغداد بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي، فلما قرأ عليه المأمون، ووصل إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] قال الكسائي: يا أمير المؤمنين! أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به؟! فأمر المأمون بإحضار أهل الذمة، فكان عدة من صرف وسجن (ألفين وثمانمائة) وبقي جماعة من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته، فخرج توقيعه بما نسخته: أخبث الأمم اليهود، وأخبث اليهود السامرة، وأخبث السامرة بنو فلان، فليقطع ما بأسمائهم من ديوان الجيش والخراج إن شاء الله تعالى. ودخل بعض الشعراء على المأمون، وفي مجلسه يهودي جالس! فكان من مصائب المأمون أنه كان يدني اليهود والنصارى ويجالسهم، ويأتي بهم إلى مجلسه على أنهم أدباء وحكماء وأطباء ومن باب الفلسفة، وعلم الكلام الذي كانوا يتفننونه، فدخل عليه شاعر مسلم مؤمن أخذته الغيرة لله ولرسوله والحمية لدين الإسلام، فأنشده: يابن الذي طاعته في الورى وحكمه مفترضٌ واجب إن الذي عُظمت من أجله يزعم هذا أنه كاذب أي ما عُظِّم المأمون إلا لأجل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأنه من أهل البيت ومن بني العباس وأنه خليفة المسلمين. قال: إن الذي عُظمت من أجله وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزعم هذا اليهودي أنه كاذب فقال المأمون لليهودي: أصحيح ما يقول؟ قال: نعم، فأمر بقتله".

أهل الذمة في عهد المتوكل والمقتدر بالله

أهل الذمة في عهد المتوكل والمقتدر بالله قال: 'وأما المتوكل: فإنه صرف أهل الذمة من الأعمال، وغيَّر زيَّهم في مراكبهم وملابسهم، وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه، وزادوا على الحد وغلبوا على المسلمين، لخدمة أمه وأهله وأقاربه، وذلك في سنة (خمس وثلاثين ومائتين) هـ ثم ذكر بعض ماعملوا. ثم قال: وعُرِضَ على المتوكل، فأُغري بهم، وظن ما أوجبوا من ذلك حقاً، وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه. أي أنهم أوجدوا وقيعة بينه وبين المتوكل، والقصه طويلة، فنختصرها. قال: فدخل عبيد الله بن يحي على المتوكل، فعرفه مأثمة أهل الذمة على المسلمين وغيرهم، وأوقفه على خط سلمه، وقال: هذا قصده أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكُتَّاب المسلمين، ويتمكن هو ورهطه منها. وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلمين ويحضرهم بين يديه على خلوة، فأحضر بين يديه شيخ كبير، فذكر أنه من أهل دمشق، وأن سعيد بن عون النصراني غصبه داره فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ، اشتد غضبه إلى أن كادت تطير أزراره، وأمره أن يكتب إلى صالح عامله برد داره. قال الفتح بن خاقان: فقمت ناحية لأكتب له بما أمرني، فأتبعني رسولاً يستحثني، فبادرت إليه، فلما وقف على الكتاب، زاد فيه بخطه، نُفيتُ عن العباس فلئن خالفتَ فيما أمرتُ به لأوجهن من يجيئني برأسك! ووصل الشيخ بألف دينار، وبعث معه حاجباً. قال: وكثر تظلم الناس من كُتَّاب أهل الذمة، وتتابعت الإغاثات، وحج المتوكل تلك السنة فرئي رجلٌ يطوف بالبيت، ويدعو على المتوكل، فأخذه الحرس وجاءوا به سريعاً، فأمر بمعاقبته، فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلته، إلا وقد أيقنت بالقتل، فاسمع كلامي، وأمر بقتلي، فقال: قل. فقال: سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله ويغضبك يا أمير المؤمنين، فقد اكتنفت دولتك كتاباً من الذمة، أحسنوا الاختيار لأنفسهم، وأساءوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خِفْتَهم ولم تَخَفِ الله، وأنت مسئول عما اجترحوا، وليسوا مسئولين عما اجترحت؛ فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته، واذكر ليلةً تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلة يخلو المرء في قبره بعمله. فبكى المتوكل إلى أن غشي عليه، وطُلِبَ الرجل فلم يُوجَدْ، فخرج أمره بلبس النصارى واليهود الثياب العسلية -على زي خاص- وألَّا يُمكنوا من لبس الثياب، لئلا يتشبهوا بلبس المسلمين، ولتكن رُكُبُهُم خشباً -أي: لا يركبوا السروج كالمسلمين- وأن تُهدَّمَ بِيعُهُمْ المستجدة، وأن تطبق عليهم الجزية، ولا يفسح لهم في دخول حمامات المسلمين، وأن يُفْرَدَ لهم حمامات خدمها ذمة -أي: أن يكون الخدم في هذه الحمامات من أهل دينهم- ولا يستخدموا مسلماً في حوائجهم لنفوسهم. أي: لا يجوز أن يستخدم الكفار أي مسلم في حوائجهم، فيكون خادماً أو عاملاً في خدمة الكفار. وأفرد لهم من يحتسب عليهم من أهل الحسبة -وهم الذين نسميهم الآن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فأفرد المتوكل قسماً خاصاً بالاحتساب على النصارى ليتأكد على قيامهم بهذه الأمور ومن تلبسهم بالذل والصغار وكتب كتاباً نسخته: أما بعد: فإن الله اصطفى الإسلام ديناً، فشرَّفه وكرمه، وأناره ونصره، وأظهره، وفضَّله، وأكمله، فهو الدين الذي لا يقبل الله تعالى غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] ثم ذكر الآيات الكثيرة في حكم أهل الكتاب، ومما ذكره الله تعالى عداوتهم للمؤمنين وآخرها. قال: وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناساً لارأي لهم ولا رَوِيَّةَ يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانةًَ من دون المسلمين ويسلطونهم على الرعية، فيعسفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشهم، والعدوان عليهم؛ فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله تعالى منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحَسْمِه والنهي عنه. ورأى أن يكتب إلى عماله على الكُوَرِ والأمصار وولاة الثغور -الكور: جمع كورة وهي القصبة أو الناحية أو المنطقة- والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم، وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسَّن الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استُكْفُوا، والقيام بما حملوا، مما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله، المكذبين برسله، الجاحدين لآياته -وهذا كله كلام الخليفة- الجاعلين معه إلهاً آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ورجاء أمير المؤمنين بما ألهمه الله من ذلك، وقذف في قلبه جزيل الثواب، وكريم المآب، والله يعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه، فليُعلم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا يستعانن بأحد من المشركين، وإنزال أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها، فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك، وأَشِعْهُ فيهم، ولا يعلمنّ أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحدٌ من عمالك أو أعوانك بأحد من أهل الذمة في عملٍ، والسلام'. قال ابن القيم رحمه الله: 'وأما المقتدر بالله، فإنه سنة (خمسة وتسعين ومائتين) عزل كُتَّاب النصارى وعمالهم -فيتكرر العزل وما ذلك إلا إذا أتى من يقيم فيهم أمر الله، ثم يأتي بعد ذلك من يدعهم يتسلطون فيأتي من يرجعهم- وأمر ألَّا يُستعان بأحد من أهل الذمة، حتى أمر بقتل أبي إياس النصراني عامل أبي مؤنس الحاجب. وكتب إلى نوابه بما نسخته: 'عوائد الله عند أمير المؤمنين توفي على غاية رضاه ونهاية أمانيه، وليس أحد يُظْهِرُ عصيانه إلا جعله الله عظةً للأنام، وبادر بعاجل الاضطلام والله عزيز ذو انتقام'. فمن نكث وطغى وبغى وخالف أمير المؤمنين، وخالف محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين، عاجله أمير المؤمنين بسطوته، وطهر من رجسه دولته، والعاقبة للمتقين، وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانه بأحد من أهل الذمة في عمل من الأعمال، فليحذر العمال تجاوز أوامر أمير المؤمنين ونواهيه'.

أهل الذمة في عهد الراضي بالله والآمر بأمر الله

أهل الذمة في عهد الراضي بالله والآمر بأمر الله وقال ابن القيم: 'وكذلك الراضي بالله، كثرت الشكاية من أهل الذمة في زمانه، فكتب إليه الشعراء في ذلك، فممن كتب إليه مسعود بن الحسين الشريف البياضي -أحد الشعراء الغيورين- يقول: يا ابن الخلائف من قريش والألى طهرت أصولهمُ من الأدناس قلدت أمر المؤمنين عدوهم ما هكذا فعلت بنو العباسِ حاشاك من قول الرعية إنه ناسٍ لقاءَ الله أو متناسِ ما العذر إن قالوا غداً: هذا الذي ولَّى اليهود على رقاب الناسِ أتقول: كانوا وفروا الأموال إذ خانوا بكفرهم إله الناسِ لا تذكرنْ إحصاءهم ما وفروا ظلماً وتنسى محصي الأنفاسِ وخف الإله غداً إذا وُفِّيَت ما كَسَبَتْ يداك اليوم بالقسطاسِ في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ أو مهطع أو مُقْنعٌ للراسِ أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم نارٌ وحارسهم شديد الباسِ إن تمطل اليومَ الديون َمع الغنى فغداً تؤديها معَ الإفلاسِ لا تعتذر عن صرفهم بتعذر الـ متصرفين الحذَّقِ الأكياسِ ما كنت تفعل بعدهم لو أُهلِكوا فافعل، وعُدَّ القومَ في الأرماس وكأنه تذكر قول عمر رضي الله عنه لمعاوية: اعتبر أنهم ماتوا وأنهم ما وجدوا. يقول: وكتب إليه وقد صرف ابن فضلان اليهودي وابن مالك النصراني، يقول: أبعد ابن فضلان توليِّ ابن مالكَ بماذا غداً تحتج عند سؤالك خف الله وانظر في صحيفتك التي حوت كل ماقدمته من فعالك وقد خط فيها الكاتبون فأكثروا ولم يبق إلا أن يقولوا كذلك فوالله ماتدري إذا مالقيتها أتوضع في يمناك أو في شمالك يقول: ما بقي إلا أن يقول الملائكة: فذلك، آخر عبارة تقال عادةً في كتب الأقدمين، ولهذا يقال الآن: الفذلكة، والفذلكة هي آخر الجملة ومختصر الكلام. يقول: وكذلك الأمر بأيام الآمر بأمر الله، امتدت أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالجناية، وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يعرف بالراهب، ولقب بالأب القديس، الروحاني النفيس، أبي الآباء، وسيد الرؤساء، مقدم دين النصرانية، وسيد البتركية، صفي الرب ومختاره، ثالث عشر الحواريين. فانظر كيف استنكر الناس والعلماء أن النصراني يلقب بلقب تشريف، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم، فقد أسخطتم ربكم عز وجل}. يقول: فصادر اللعين عامة مَنْ بالديار المصرية من كاتب وذكر بعض أعماله الخبيثة، وبعض أقواله الشنيعة. ولا بأس أن نورد بعضاً من كلام هذا النصراني القبطي، حيث يقول: 'نحن ملاك هذه الديار، حرثاً وخراجاً، ملكها المسلمون منا -هذه دعوى الكفار دائماً- وتغلبوا عليها، وغصبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة مافعلوا بنا -انظر! ماذا يقول المجرم- ولايكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع مانأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حلٌ لنا، وبعض مانستحقة عليهم'. وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75]. قال: فإذا حملنا لهم مالاً كانت المنة لنا عليهم، واستشهد بأبيات-: بنت كرم غصبوها أمها وأهانوها فديست بالقدم ثم عادوا حكَّموها فيهمُ ولنا هيك بخصمٍ يحتكم فضرب مثالهم بالخمر، فالعنب تهان وتداس وتعصر بالأقدام، لكن بعدما تصبح خمراً يحكِّمونها في عقولهم. أي: أن الأقباط النصارى أهانهم المسلمون، ثم بعد ذلك أصبحوا هم المتحكمين عليهم. ويقول ابن القيم رحمه الله: ' ثم انتبه الآمر من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية، والغيرة المحمدية، فغضب لله غضب ناصر للدين وبار بالمسلمين، وألبس الذمة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله أن ينزلوا بها من الذل والصغار، وأمر ألَّا يُولَّوا شيئاً من أعمال الإسلام '. ثم كتب كتاباً فيه عبر آيات أحاديث، ومواعظ، وهو طويل جداًَ يبلغ عشر صفحات في مثل حجم خطبة الجمعة، وهو كتاب عجيب كتبه هذا الخليفة أو كتبه له أحد العلماء.

عداوة أهل الذمة للمسلمين

عداوة أهل الذمة للمسلمين ثم يُعقِّب ابن القيم رحمه الله: فصل في سياق الآيات الدالة على غش أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم، وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم، ومعادة الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أوولاَّهم أمور المسلمين، وذكر آيات كثيرة في أربع صفحات، ثم ذكر بعد ذلك حكم التولية. ثم قال: ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكُتَّاب، ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان، لثناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال. ثم ذكر الأمثلة على ذلك من قصة أحد الملوك الذي كان يُسمى الملك الصالح، فقال: دخل بعض العلماء ليعظه والعلماء كانوا يعظون كلاً بحسب فهمه وعقله، فالخليفة العالم يكتبون إليه آيات وأحاديث وعلم وفقه، وهذا الملك الصالح لم يكد يفهم الآيات والعبر، فوعظه هذا العالم بموعظة تناسب فهمه وهو في مجلس الكُتَّاب والقضاة والعلماء، فقال له: إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحداً، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وأولو أمانتهم وعقد دينهم: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيده له: كيف يدري الحساب من جعل الـ ـواحد رب الورى ثلاثة ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة؟! وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً، وأخذ لنفسه اثنين، ولاسيما وهو يعتقد ذلك قربةً وديانة!! فانصرف القوم، واتفق أَنْ كَبَتْ بالنصراني فطنته، وظهرت خيانته، فأريق دمه، وسلط على وجوده عدمه إلى أن يقول: وفيهم يقول عمارة اليمني وذكر قصيدةً له. وعلى كل حال؛ فكتاب أحكام أهل الذمة لـ ابن القيم رحمه الله موجود، وهذا بعض ما فيه حول تولية اليهود والنصارى واستعمالهم والاستعانة بهم.

الأسئلة

الأسئلة

خبر صفقة كيماوية للمجندات الأمريكيات

خبر صفقة كيماوية للمجندات الأمريكيات هذا الخبر نقرأه من غير تعليق، نقرأ ترجمته، في عرب نيوز 1411هـ (ص 20). صفقة كيماوية لمجمع التسويق كيمار، تتكون هذه الصفقة من خمسة آلاف زجاجة من كريم منعم للجلد، وألفين وأربعمائة علبة لطرد الحشرات والناموس، وخمسة آلاف وخمسمائة أنبوبة مرطب شفايف، وخمسه آلاف وخمسمائة علبة بودرة أقدام، وخمسه آلاف وخمسمائة زجاجة لكريم الجلد ضد الشمس. تقول الصحيفة: فهذه صفقة خيالية ماكان يحلموا بها اشتروها في طريقهم إلى الخليج.

الشباب الصالح ودوره في الأحداث

الشباب الصالح ودوره في الأحداث Q سمعنا بمقاومة في الكويت من الشباب الصالح فهل هذا صحيح؟ A الذي سمعته أن الشباب المسلم ليس له مقاومة عسكرية في الكويت، وإنما قاموا بدور عظيم جداً، وهو الذي تسمعونه في الإذاعة، مع من يتقابلون في الإذاعة أحياناًَ، وهو أن هؤلاء الشباب قاموا بنوع من التنسيق بين الأسر وبين الناس، وخاطبوا المعتدين، وخاطبوا بعض الناس أنه لابد أن يحتسبوا لإيصال الطعام والماء إلى البيوت التي قطع عنها، ولإيصال المرضى إلى المستشفى، والقيام بأعمال إغاثة، وخدمات ضرورية لحياة الناس، فقاموا بذلك جزاهم الله تعالى خيراً، واحتسبوا ما يلقون من الأذى، بل ربما القتل أو البطش في سبيل ذلك. ولكن القيام بهذه الأعمال قامت بفضل الله، ثم بفضل هؤلاء الشباب، وأرجو أن يكون هذا دافعاًَ -إن شاء الله- لأن يلتف الناس حولهم، وأن يعلموا من الذي يحبهم ومن الذي يشفق عليهم أهم الراقصون، والراقصات، وأصحاب المجلات وأصحاب الشاليهات وأصحاب الدعارة على الشواطئ، وأصحاب الأشياء التي لا تخفى؟! أم هذا الشباب المتدين المتمسك الذي ربما كان كثير منهم يحتقره في وقت الرخاء، ولا يحب أن ينظر إليه، والآن في وقت الشدة يجد هذه الخدمات منهم، وكما نسمع في برنامج الإذاعة أو التلفزيون أن الناس يقولون: "الإخوان المتدينين أعطونا الماء وأعطونا الطعام، وقدموا لنا الخدمات حتى خرجنا". وهذا من فضل الله على هؤلاء الشباب. أنا أنصح الإخوة، بألَّا يقوموا بأية مقاومة عسكرية، فهذه ليس لها أية قيمة في الحقيقة، فهي مجرد انتحار؛ لأنهم أفراد قليلون، وأنا أرى أن المقاومة الحقيقية تكون في شكل مقاومة سلبية، وذلك بأن يعيشوا هناك دون أن يقروا بهذا الواقع، وأن يعيشوا معهم عيشة الداعية الذي يدعو الناس إلى الخير عن طريق هذه الخدمات، ويدعو أولئك الجنود أيضاً. وقد بلغني عن بعضهم أنهم دعوا بعض الجنود، وقالوا: أنتم مسلمون، وأنتم عرب وأخذوهم بالنخوة، وقالوا لهم: لماذا لا تصلون؟ فأصبحوا يدخلون بعض المساجد ويصلون، وهذا -والله- مكسب كبير، وربما بعض الذين عبروا بدباباتهم إلى الأراضي السعودية وهم عدد كبير، ربما يكون من هذا النوع الذي أوقظت فيه الغيرة الإيمانية. ورأى أنه حرام أن يعتدي على إخوانه المسلمين، وحرام أن يهاجمهم، وقال: إذاً أفر بديني ونفسي، فجاءوا بدباباتهم ودخلوا إلى السعودية، كما سمعنا في نشرات الأخبار. فالأمة المسلمة فيها خير، حتى وإن كانوا جنوداً للكفرة وجنوداً للبعثيين، أو لمن هو أكثر من البعثيين، فسيظل الخير في هذه الأمة -بإذن الله تعالى- باقياً إلى قيام الساعة، ولهذا لو خوطبوا بالدعوة إلى الله، ولو وُجِّهت إليهم موجات إذاعية معينة أو نشرات أو كتيبات -في الكويت أو خارجها أو في أي مكان، أو أن تبث عليهم برامج تذكرهم بالله، لكان ذلك من أقوى العوامل أن يتركوا هذا المجرم أو ينقلبوا عليه أو -على الأقل- يهربوا ولا ينفذوا أوامره. وثبت لديكم أن كثيراً منهم أول ما وصل إلى الكويت يطرق الباب، يريد ثوباً كويتياً، يختفي فيه عن الجند، فيظنوا أنه فقد أو مات, أو شيئاً من هذا فيختفي، فكثير منهم أجبروا، وأكثر الشعوب في العالم مقهورة، مجبورة مظلومة، وإن كانت نتائج الانتخابات تصل إلى (99. 99%) فهي ليست ذات معنى. والحمد لله، أن المسلمين المؤمنين المتقين ليس من أصلهم الظلم أو الجور أو البغي، وخاصةً أن هذه الحرب فادحة وخسائرها واضحة ومعاركها لا هدف لها، لكن من يذكرهم بالله؟ فليتنا بدل الأغاني والمسلسلات نُوجه في إذاعتنا نداءات إيمانية إسلامية إلى هؤلاء، ونسلط عليهم موجات معينة، ليلتقطوها كما سلط هذا المجرم وحزبه إذاعات ليلتقطها الناس هنا.

مصطلح الأمة العربية وعدالة التوزيع

مصطلح الأمة العربية وعدالة التوزيع Q إنسان مسلم ومؤمن وملتزم، لكن يؤمن أن وحدة الأمة العربية خير من الفرقة في ضوء نفاق الدولة، والمشاركة والشورى مطلب الأمة، وعدالة التوزيع بين الأمة واجب ديني؛ فهل هذا يعتبر نقص في إيمانه؟ A أخشى أن يكون هذا متستراً، وعلى أية حال لا يوجد شيء اسمه الأمة العربية، أين توجد الأمة العربية؟ قبل الإسلام كان يقال: العرب أو قبائل العرب، فإذا صح أن نستخدم مصطلحاتنا الحالية، فنقول: إن الأمة العربية ما كان لها هذا الاسم إلا قبل الإسلام، أما بعد أن بعث الله سيدنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنور المبين، وأنزل عليه الذكر الحكيم، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه قوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فأصبح اسمنا المسلمين، والعرب جزء من الشعوب المسلمة. ولم يوجد في تاريخنا -وهذه كتب التاريخ عندنا وكتب الفرق والفقه والآثار وغيرها- شيء اسمه الأمة العربية إلا لما ظهر ساطع الحصري وميشيل عفلق وفارس النمر ومن قبلهم النصارى وأمثالهم جاءوا بهذه الكلمة، وأكثرهم ليسوا عرباً وليسوا أيضاً مسلمين، فجاءوا بهذا المصطلح، فأصبحنا نقول: الأمة العربية، والقضية العربية، والبيت العربي. فمثلاً جامعة الدول العربية من الذي أنشأها؟ ومن الذي أسسها؟ فكما هو معلوم أنه أنطوني أيزن، الذي كان وزير خارجية بريطانيا ثم أصبح رئيساً لوزرائها، فـ بريطانيا أنشأتها لتضمن لها الهيمنة مثل: الكومنولث، ثم بعد ذلك سلمت أمر المنطقة إلى أمريكا وريثتها في حماية واستعباد المنطقة، فلا يوجد شيء اسمه (الأمة العربية). ونحن دائماً نخطئ في وسائل الإعلام فنقول: (الأمتان: العربية والإسلامية) فهل جعلها الله أمتين أم أمةً واحدة؟! كل المؤمنون أمة واحدة من لدن آدم عليه السلام، والمسلمون أمه واحدة كمثل الجسد الواحد -كما لا يخفى علينا- ولازلنا كذلك والحمد لله. وأما أن المشاركة والشورى مطالب الأمة، فهذا ليس فيه نقاش، ولكن هل هي على الطريقة الديموقراطية أم على طريقة الشورى الإسلامية؟ فهذا هو الفرق، فعلينا ألَّا يقودنا الكلام العام إلى الخطأ، ومن خلال ذلك نحتاج إلى تفصيل أكثر فإن كان المطالب بهذا يريد أن تكون عدالة التوزيع والشورى إسلامية، فيوضح ويقول: نريد حكم الله ورسوله، ولا أحد يعترض عليه من المسلمين أبداً، وإن كان يتستر على مطالب الأمة الشورية من أجل الديموقراطية، وإظهار الحزبية التي يريد، يتستر بكلمة عدالة التوزيع من أجل الاشتراكية التي يريد، فنحن برآء منه، وديننا -والحمد لله- واضح ولا يحتاج لهذه الشعارات.

مقالة

مقالة هذه المقالة لإخواننا من مجلة الحرس، عن الوفاق بين أمريكا وروسيا ويقول فيها: 'لو كان ما جرى من الأمريكان في الخليج قبل سنة من الآن لرأيتم العجب العجاب من روسيا، فتحريك جندي أمريكي واحد كان يثير روسيا أكبر الإثارة، أما الآن فإن روسيا بسفنها وبجنودها تبع للغرب وتبع لـ أمريكا، فهذه ثمرة من ثمرات الوفاق'. أشكر الأخ الذي أعطانا مجلة الحرس الوطني التي فيها مقال عن هذا الموضوع.

حكم الاستعانة بالنصارى وإعلان الهدنة معهم

حكم الاستعانة بالنصارى وإعلان الهدنة معهم Q بعض أهل العلم عفا الله عنهم يستدلون بقتال خزاعة مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حنين أو في فتح مكة وأنه استعان بقوم كانوا كفاراً مشركين أن يقاتلوا معه، يستدلون بهذا على جواز الاستعانة بالكفار في القتال فهل هذه صحيح؟ A لا، الحقيقة أن قبيلة خزاعة كانت عام الحديبية عام الصلح كما في صحيح البخاري عن الزهري كانت خزاعة مؤمنهم ومشركهم في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدخلوا في حلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية؛ لأن الدولة الإسلامية لم تكن قد شملت المنطقة، فالدولة كانت في المدينة، ويحكمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما امتدت إلى ما حولها، وبقيت قبائل ومناطق بعيدة غير داخلة في الدولة الإسلامية، وأيضاً ليست داخلة ضمن قيادة قريش، فلما عقد الصلح بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قريش، تراضوا على بند من بنود الصلح أن من أراد أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدها، فليدخل فهذا في عام الحديبية. ثم كانت قصة الفتح، وسببها نقض قريش للعهد، إذ إنها أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة فجاء عمرو بن سالم من خزاعة موفداً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال قصيدته المعروفة ومن ضمنها: وقتلونا ركعاً وسجدا خزاعة كانت مسلمة لأنه يقول: وقتَّلونا ركعاً وسجدا، فمعنى ذلك: أن الصلح قد انتقض، فلما تقدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخل مكة كانت معه خزاعة، وكانت قد أسلمت جميعاً، وكما قرأنا في الأحاديث بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشترط أنه لايدخل معه إلا من أسلم، وهي أحاديث صحيحة فليس هناك مجال للاحتجاج بهذه القصة. وأما حديث الروم فقد سبق وأن تكلمنا عنه، وإن شاء الله تتاح لنا فرصة فنتكلم عن الروم من خلال الأحاديث؛ لأن الملاحم قائمة مع الروم إلى قيام الساعة، وهناك أحاديث كثيرة جداً في الملاحم، وأن الروم يقاتلون المسلمين. ففي صحيح البخاري، حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: {انتظر ستاً قبل الساعة ومنها: هدنهٌ تكون بينكم وبين بني الأصفر، ثم يغدرون بكم ويقاتلونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً}. هذه الهدنة تكون بيننا وبينهم ثم يغدرون، الرواية التي في مسند أحمد وسنن أبي داوود وغيرها، وذكر فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنكم {تصالحون الروم وتقاتلون معهم عدواً فتسلمون وتغنمون -قال في آخره-: فإذا برجل من الروم يقول: غلب الصليب، يرفع شعار الصليب فتقع المعركة فيغدرون بكم} والروايات الأخرى في البخاري وغيره تفسر هذا الحديث، وأنه بعد الهدنة وبعد الصلح يكون الغدر. فلو قرأنا الحديث إلى آخره وقرأنا الأحاديث الأخرى معه، فهل نفهم من هذا الثقة في الروم أو الغدر؟ لا. لن نفهم منها إلا الغدر! فإذاً لا يوجد حديث حجة يصلح للاستشهاد به هنا.

المجلات الداعرة

المجلات الداعرة Q أطلت علينا بعض المجلات الداعرة وجهاً قبيحاً هذه الأيام مثل مجلة ألوان ومجلة الشراع، وأظن أنها كانت ضمن الممنوع، فماذا حصل في الأمر؟ A أظن أن الذي حصل هو أن النهضة واليقظة والمجالس اختفت، فأرادوا أن يعوضوا فجاءت هذه؛ لأن المخطط لابد منه، فعوضوا بإعادة بعض ما منع أو بكثرة الطبعات مما منع، فكانوا يفسدونا عن طريق الصحافة الكويتية، ولما انتهت حاولوا أن يعيدوها، وحاولوا أن يأتوا بصحافة أخرى بديلة ولاحول ولاقوة إلا بالله.

من إذاعة البعثيين

من إذاعة البعثيين حدثني شخص وأرجو ألا يكون واهماً، لكن أقسم بالله بأنه متأكد أنه في إحدى إذاعات البعثيين غير إذاعة بغداد كان يقدم في برنامج الإفطار في رمضان موعظة دينية يلقيها محمد بن عبد الوهاب المطرب وهو يقول: 'هناك علاقة وثيقة بين الدين والفن'، ومن جملة ما يقول: 'إن الغناء أول ما نشأ في أحضان المشايخ مثل الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وزكريا أحمد '. فانظر إلى الحرب علينا من هنا ومن هنا، وتكلم حتى عن الشعراوي، وفي الحلقة الثانية يقول: 'الدين حياة كاملة' في حوار ديني مع موسيقار الأجيال محمد بن عبد الوهاب لتعرفوا منه رأي الشيخ محمد عبد الوهاب في المشايخ، فرأيه في الشيخ الشعراوي أنه يحاور الناس ولا يحاضرهم، ورأيه في الشيخ الغزالي أنه عالم بأحكام الدين في عصر سريع التغيرات، ويرى فتاوى الشيخ الغزالي سريعة التغير، فقال: إن الشيخ عالم بعصر سريع التغيرات، والشيخ عبد الحليم محمود يجمع بين السلفية والعصرية، وشر البلية ما يضحك.

المجندات الأمريكيات

المجندات الأمريكيات وهذه مجلة الجمهورية يتحدث فيها أحدهم أنه رأى امرأة كاشفة عن نحرها وعن شعرها ونصف الذراع وهي مجندة أمريكية ضمن القوات الأمريكية الموجودة في السعودية، وتمسك بندقيتها وهي ترتدي شيرت؛ لأنه قد صدرت تعليمات للمجندات بارتداء ملابس وقورة مراعاة للتقاليد السعودية، فهذه المرأة لم تلبس التي شيرت إلا من أجل التقاليد، وإذا لم تكن هناك أوامر عسكرية فكيف يكون الحال؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.

معيار العقيدة عند حزب البعث

معيار العقيدة عند حزب البعث العراق يعلن الحرب على التبرج هذا عنوان كبير يذكر أن التبرج ممنوع بقرارات رسمية، وممنوع عمل الرجل في كوافير السيدات، ومحظور دخول الشباب دور اللهو. وهذا عنوان آخر (حملة لحث طالبات الجامعة على ارتداء الحجاب) حتى إذا قلنا: قال الله وقال رسوله في البعثيين، لم يصدقنا أحد. ونقول لكم: إن الرئيس بوش قال: 'إن صدام ملحد فلا تصدقوه إن أعلن الجهاد'. فعلينا بعد الآن أن نعتمد رسمياً أن صدام ملحد؛ لأن بوش قد أعلن ذلك! فما ينبغي أن ننقلب عن هذا الرأي!! فكل كلام صدام دغدغة ونفاق، وأمة لاتعرف الإسلام ولا معنى الإيمان ولا النفاق، فمن الطبيعي أن يضحك عليها أي واحد ويقول: امنعوا الرجال من الكوافير! فهل هناك امرأة واحدة في بغداد متفرغة الآن للعمل في الكوافير؟ لكن هذا الكلام من أجل ذر الرماد في العيون، وما هو إلا سخرية بهذه الأمة. وربما يصدق بعض الناس فيقول: هذا داعية، أو مصلح على الأقل، ويقول لماذا نقاتله؟! وخاصةً إذا كان المقاتل من الأمريكان، فالواحد في هذه الأيام لا يدري على من يدعو، أعلى صدام أم على أمريكا؟ سبحان الله! فهذه الفتن لا تحتاج حيرة، ولكن الحيرة لهذه الأمة جاءت من ضعف الولاء والبراء عندها، ومن عدم معرفتها بحقيقة لا إله إلا الله، ومن عدم معرفتها من هو المسلم، ومن هو الكافر؟ ومتى كان البعثيون مسلمين؟! فأنا لاأخص بعثياً واحداً فالبعثيون في جميع البلاد الإسلامية متى كانوا مسلمين؟! ومتى كانوا مؤمنين؟! ومتى كان في مبادئهم الجهاد؟ أو الإصلاح أومنع الفساد؟! فكيف مشى هذا الأمر علينا؟! لأننا سنوات طويلة نخفي هذه الحقيقة ولانتكلم إلا عن بطولاتهم في الجبهة والبوابة الشرقية والقادسية إلخ. أقول: نحن السبب، البيان على العلماء وعلى الدعاة فرض {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فهذا عهد الله وميثاقه الله، وأما من خُدِعَ بأن حزب صدام من الحركات الإسلامية، فيؤسفني جداً أن يقع منهم هذا الشيء، ولا أخاطبهم خطاب العاطفة أنه أهلك، وسفك،، لا. فليست هذه هي القضية، فقد يكون المسلم سفاكاً وسفاحاً ولكن افترض أن صداماً لم يرق قطرة دمٍ إلا من دماء اليهود، وافترض أنه دمر إسرائيل، ودمر الروافض، وفعل ما فعل وهو بعثي، أيكون مسلماً؟ المعيار معيار العقيدة فليست قضية أنه فعل أو لم يفعل، فحتى لو أقام مجد الأمة العربية كما يقولون، من المحيط إلى الخليج، وقضى على اليهود والنصارى، وفعل كل شيء، أيكون مسلماً وهو بعثي؟. لا. فالمعيار إذن بالعقيدة، فنحكم على الناس من خلال العقيدة فليس العبرة بأنه قتل وفعل وفجر. فالواجب أن نبين عقيدة هؤلاء القوم، وخطرهم وضررهم، وكل من دان بعقيدتهم في أي بلد، فحكمه حكمهم، لا نفرق ولا نجزئ حتى لا نكون قد كتمنا العلم. والحمد لله رب العالمين.

أخطار تهدد الأسرة المسلمة (ندوة)

أخطار تهدد الأسرة المسلمة (ندوة) بعد أن عجز أعداء الإسلام من هزيمة الأمة الإسلامية وغزوها عسكرياً بالعدة والسلاح، لجئوا إلى المكر والخديعة وتغريب الشباب عبر الغزو الفكري. وقد جاءت هذه الندوة لبيان الغزو الفكري الذي تعددت أسلحته المتمثلة في الصحف والمجلات، والقنوات الفضائية، وما تبثه من برامج خليعة، وأفلام عنف وجريمة، مبينة آثاره النفسية والعضوية، ثم تحدثت عن أخطار السفر إلى الخارج والمخاطر الناجمة عن استقدام العمالة الاجنبية من غير المسلمين.

مقدمة مقدم الندوة

مقدمة مقدم الندوة قال مقدم الندوة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد بن عبد الله وعلى آله وأزواجه وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وخالصاً من كل رياء وسمعة، ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28]. فهنا خطاب من الله عز وجل لنا يلزمنا أن نضعه نصب أعيننا، وأن نتذكر ونتدبر في كلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نمضي أيامنا في أن نتعلم، ونَعْلَمَ وَنَفْهَمَ ديننا، ونثقف أنفسنا، ونصلح ما اعْوَجَّ منها، لأن أمامنا مسئوليات كثيرة، وأمانات تحملناها ببشريتنا قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] هذه الأمانة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنه -وهو في صحيح البخاري - أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته}. وهذا ما سنتناوله في موضوع بعنوان: (أخطار تهدد بناء الأسرة المسلمة) هذه الأسرة المسلمة هي أسرنا جميعاً، وهم أمانة في أعناقنا، من زوجات، وذريات، ولهم واجب عظيم علينا لابد أن نقوم به، فكل إنسان بطبعه يقوم بأداء الواجبات المادية، ولا يقصر فيها حتى الجاهل، فهو يقوم على الأكل والشرب والملبس والمسكن، ولكن هناك ناحية عظيمة جداً، هي أهم من هذه الأمور هي مسئوليتنا التي قال الله عنها في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] فلا أحد يحب أن يكون أهله وقوداً لهذه النار. ومن هذا المنطلق، نبحث في الأخطار التي تهدد بناء هذه الأسر التي نحن مسئولون عنها أمام الله، والمجال في هذا واسع. فهناك أخطار معنوية، وهي شرٌ خبيث، وداء وبيل، يتسرب إلينا بحذر، قد يكون أحياناً لذيذاً، ولا ننتبه له. وهناك أخطار مادية، نراها أمامنا متجسدة، ولكن قد يغض الكثير عينيه عنها. وهناك أخطار زاحفة زحفاً قوياً تريد أن تقوِّض بناء هذه الأسرة المسلمة. نحن جيلٌ سنمضي قريباًَ، ونرحل عن هذه الأرض، وسيخلفنا من بعدنا ذريتنا، وإذا تدبرنا آيات القرآن، نجد أن الله سبحانه وتعالى يذكر عن الإنسان ما يهمه في هذه الدنيا بقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15]، وهذا همّ كل من عرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعرف عبء الأمانة الملقاة عليه، بل إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -من لطفه وعنايته ورحمته بنا- خلق مخلوقات عظيمةً جسيمة، وذكر أنهم يدعون للذين آمنوا، أولئك هم حملة العرش ومن حوله، ومن دعائهم لنا: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر:8] فنحن متقلدون مسئولية إصلاح ذرياتنا وأزواجنا وتقويم أسرنا. وفي هذا سيتناول كلٌ من الشيخ: سفر الحوالي، والطبيب الجراح الدكتور: عدنان غلام الذي يستطيع أن يمدنا بأمور قرأناها عادةً من قصص وحكايات الجرائد، ولكن سيخبرنا بما هو في مجال اختصاصه، فلنتلق ولنأخذ منه ما سيخبرنا به بقلوب واعية. وأول ما نحب أن نتعرف عليه من هذه الأخطار هو الخطر العظيم، الذي لم يتنبه له بعض الناس، وهو الخطر الفكري أو الغزو الفكري الذي تتعرض له أسرنا وبيوتنا, ونحن لا ندري عنه إلا قليلاً. إن وسائل الإعلام تنوعت هذه الأيام: فمن قصص، ومجلات متداولة في كل مكان، وزاوية، وشارع، إلى المذياع وأشرطته، وما أكثر المحطات التي تبث من كل سوءٍ! إلى هذا الدخيل الذي دخل كل بيت إلا من سلم الله، وهو هذا الرائي، وتبعته أشرطته، وفيها ما فيها من أفكار -فإن مجال هذه الوسائل هي الأفكار- وهو ما سيتناوله الشيخ سفر، وسوف يستعرض لنا المستوى الغالب لهذه الوسائل، ويبين قوة تأثيرها وما هي الآثار التي تخلفها علينا وعلى مجتمعاتنا.

خطر الغزو الفكري

خطر الغزو الفكري قال الشيخ: سفر الحوالي. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد اقتضت رحمة الله تبارك وتعالى أن تكون نواة هذه البشرية وأصل هذه الجماعة الإنسانية التي تعد اليوم بالملايين، هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى: {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، فالأسرة هي النواة التي تتكون منها الجماعة الإنسانية عامة، والأسرة في كل مجتمع هي حجر الزاوية في بناء أي مجتمع، وسواء علينا تحدثنا عن الأسرة، أم تحدثنا عن المجتمع والأمة؛ فلا فرق بين أن نتكلم عن المخاطر التي تهدد الأسرة، أو أن نتكلم عن المخاطر التي تهدد الأمة والمجتمع. ومن هنا نعلم ونتبين من كتاب ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الحكمة البالغة العظيمة، حين نجد أن كل ما يتعلق بالأسرة وبنائها وضمان عقيدتها وسلامة فضيلتها، قد فصله الله سبحانه وتعالى تفصيلاً في الكتاب وفي السنة، ولم يدع مجالاً ولا ناحية من نواحي تنظيم الأسرة، إلا وجعل الأحكام فيها مفصلة، ابتداءً من الخطبة، حين يريد الإنسان أن يخطب: ماذا يفعل؟ بأي أمرٍ يبدأ؟ ومن يخطب؟ ومن يتزوج؟ ثم إذا تزوج: كيف يعاشر تلك الزوجة؟ وفي أخص دقائق هذه الأمور جاء أيضاً البيان من الكتاب والسنة، ثم منذ لحظة الولادة: كيف نربيه؟ وكيف تنشأ الأسرة؟ وكيف تستمر؟ إلى أن يموت الأب، ويأتي الجيل الذي بعده، ماذا يفعل بأبيه؟ وماذا عليه بعد موته؟ أحكام لا يتسع المقام لشرحها وإيضاحها، كأحكام العشرة بين الزوجين، وآداب الأسرة، وحق الزوجين، وتربية الأبناء، وكل ما من شأنه أن تكون الأٍسرة به متماسكة، قوية في إيمانها، وأخلاقها، وفضيلتها، وفي ترابطها الدنيوي. فقد أوضح الله تعالى الأحكام المالية التي تتعلق فيما بين الزوجين، وما بين الأبناء والآباء، كل ذلك فصله الله تبارك وتعالى، لكيلا يحوجنا إلى التسول على موائد الشرق والغرب، فلا نريد أن نأخذ منهم المناهج الهدامة، والأنظمة المدمرة. فهذه الأسرة التي اهتم ديننا بها، والتي يحرص علماؤنا ومفكرونا وكتابنا دائماً على أن يحدثونا عنها، لابد أن نعي دورها، وأن نعي قيمتها، وأن نعي أهميتها.

دمار الأسرة بالغزو الفكري

دمار الأسرة بالغزو الفكري إن أي خطر يهدد الأسرة، فإنما هو دمار للأمة، وكل داعٍ يدعو بطريقٍ مباشر أو غير مباشر إلى تدمير الأسرة، فإنما هو يدعو إلى تدمير الأمة، سواء قال بلسان الحال، أو بلسان المقال: (دمروا هذه الأسرة) (فرقوا بين الزوج والزوجة) (أضيعوا الأبناء)، أو قال: (دمروا هذه الأمة)، (مزقوها بالصواريخ والقنابل)، الحال لا يختلف، ولكن أعداء الله تبارك وتعالى يمكرون ومكرهم خفي، وهم بهذا جنود الشيطان الرجيم، عدو بني آدم، وعدو هذه الأمة المسلمة بالذات، الذي أحب من لديه و {أفضل جنوده، هو الذي يأتي إليه فيقول: مازلت بفلان حتى فرقت بينه وبين زوجته}. إذا هدم البيت، وهدمت الأسرة، ضاع الأطفال، وضاع الزوج، وضاعت الزوجة، ثم ضاعت الأمة وضاع المجتمع، وهذا ما يريد أن يتوصل إليه أصحاب الغزو الفكري، حيث إن مفكرين غربيين من الذين يفكرون على مدىً بعيد في هذه القضية قد أيقنوا -وكتبوا ذلك- أن تدمير الأسرة هو تدمير للأمة، وأن بناء الحضارات وبقاءها واستمرارها إنما يكون باستمرار الأسرة. أرنولد توينبي المؤرخ الإنجليزي المشهور الذي كتب عما يقارب عشرين حضارة مندثرة منقرضة أو باقية، أَوْلهَا آثارٌ في الوجود، وجد من الظواهر المشتركة في انهيار جميع الحضارات أنها تنهار عندما ينتشر الترف، وتخرج المرأة من البيت، وتنشغل عن تربية الأبناء، هذا ما كتب!! وكما وضح ذلك أيضاًَ المؤرخ الألماني المشهور الذي يدعى شبنجلر الذي كتب وتنبأ بسقوط الحضارة الغربية في حوالي عام (1920م) تقريباًَ قبل أن تبلغ قوتها التي هي عليها اليوم، وقبل أن تظهر علامات الانهيار الموجودة اليوم، يقول: ' إن كل حضارة من الحضارات تنهار وتتدمر إذا خرجت المرأة، واهتمت بشهواتها ونزواتها، وتركت الأسرة، فضاعت الأسرة، وضاعت الفضيلة من المجتمع '.

سيطرة الغزو الفكري على المجتمعات

سيطرة الغزو الفكري على المجتمعات نحن في عصر الغزو الفكري، في زمن الخطر الذي يسميه الغربيون: التدفق المستطير للمعلومات، يقولون: إن العالم أصبح قرية إعلامية، ولاسيما بعد أن تطورت وسائل الإعلام بواسطة الأقمار الاصطناعية الذي جعلته كله قرية إعلامية، فما يحدث في أطراف القرية، يعلم به أبناء قرية أخرى، ومن الصعب جداً مقاومة التأثير الإعلامي، أو مقاومة التدفق المستطير للمعلومات، إلا بوجود قوة وعقيدة داخلية. الأمم البوذية شكت من هذا التدفق المستطير، وبسبب الغزو الفكري أصبحت دول جنوب شرقي آسيا -وهي بوذية - متطبعة في حياتها وثقافتها وفنها بطابع الغزو الفكري الغربي، فأصبحت تلبس الزي الغربي، وتتذوق الموسيقى الغربية، وتعيش الحياة الغربية! وضج من ذلك أهل ذلك الدين وعقلاء تلك الأمم كما حصل في الهند. وأعجب من ذلك كله أن تضج فرنسا من هذا الغزو الإعلامي! وصرح بذلك وزير الثقافة الفرنسي منذ فترة فقال: ' إن فرنسا تتعرض لخطر الغزو الفكري الأمريكي، فإن الأفلام وأنماط الحياة والملابس الأمريكية قد غزت فرنسا وهذا خطر ونذير شر، ويجب على الأمة الفرنسية أن تتحصن بتقاليدها وبتراثها وبفنها ضد هذا الخطر '. ونذكر هذا لأن من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بلغتنا، لا يرون في هذا أي خطر. الأمة الفرنسية والأمة الأمريكية، ما الفرق بينهما؟ أي انحلال يوجد في أمريكا ولا يوجد في فرنسا؟ حياة غربية وثقافة غربية تعود للجاهلية اليونانية، الاتجاه العام في الحياة واحد، لا إيمان بالآخرة، لا تفكير فيها، الكل يعيش ويأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، والنار مثوىً لهم، إلا من آمن منهم، كما أخبر بذلك الله تبارك وتعالى، ومع ذلك يشعرون بالخطر! فأي خطر يداهم ويزحف على أمة الإسلام وعلى أمة الأيمان؟! كيف يجب أن تكون مقاومة هذه الأمة التي تؤمن بالله رباً، وبكتاب الله منهجاً وشريعةً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً؟! هذه الأمة التي كما قال الله تبارك وتعالى عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] هذه الأمة التي تُسْأَل عما يُفْعَل في تلك البلاد من الموبقات، لأنها لم تُبَلِّغْهم رسالة الله الأخيرة، ولم تُبَلِّغْهم بشريعة محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! كيف يكون الحال إذا هي استقبلت ورضيت وامتصت هذا الغزو الفكري حتى مسخت نفسها ومسخت شخصيتها وذابت فيه؟!! والإعلام ما هو إلا واجهة ونافذة من نوافذ ذلك الغزو، ولا حرج على الإطلاق على أية أمة من الأمم أن تضع الوسائل، وأن تضع سياجاًَ كبيراً للمحافظة على ذاتيتها وشخصيتها من طغيان التأثير الإعلامي، فما بالكم بالأمة التي جعل الله تبارك وتعالى لها هذا المنهج الرباني؟! الأمة التي تسير في علاقاتها وفي شئون حياتها -ويجب أن تكون كذلك- على ما أنزل الله تبارك وتعالى؟! التي علاقة الزوجين فيها إنما تكون بكلمة الله، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واستحللتم فروجهن بكلمة الله} فبكلمة الله تم عقد الزواج، وعلى منهج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تمت هذه العشرة، وعلى ذكر الله يربى هذا الطفل منذ أن يولد، وكل حياتنا إنما هي على ذكر الله، كيف يجب أن نقاوم هذا الغزو المستطير بشتى أنواعه: من المجلات، والأفلام، والصحافة المقروءة، وكل الوسائل التي تبث الإعلام وتنشره، وما أكثر سمومه!

آثار الغزو الفكري على الأسرة

آثار الغزو الفكري على الأسرة لا شك أن الذي يتتبع المجتمعات الإسلامية، ويقارن حالها قبل أن تخضع لهذا التدفق المستطير بحالها الآن، سوف يجد البون شاسعاً وكبيراً، لقد هُدِّدَتْ الأسرة المسلمة في عقيدتها؛ حيث إن كثيراً من برامج ومجلات الأطفال لا تكتفي بأن تشغل الطفل المسلم عما يجب أن يكون عليه من التربية الإسلامية، بل إنها لتنشئه تنشئة غريبة جداً عن العقيدة الإسلامية، وتزرع في نفسه ما يضاد هذا الدين وهذا الإيمان. ويكفينا أمر واحد وهو: هل سمعنا أو رأينا في أي مجال من هذه المجالات حديثاً عن اليوم الآخر؟ إنما الكلام فيها منصب على الدنيا، وهذا لو فرضنا أنه في الحلال مع انعدام الحرام، فإغفال الآخرة إغفالاً مطلقاً ما معناه؟ معناه: أنها أمة لا تؤمن بالله واليوم الآخر، فهي مثل البهائم التي تعيش على الحضارة الغربية. وقد يتعرض هؤلاء إلى نظرياتٍ في نشأة الكون، أو في نشأة الحياة، أو في سر الروح، أو في النبوة، فيصبغون صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ما يرونه في هذه الأفلام، وما أكثر الحديث عن هذا الجانب.

انتشار الفاحشة هو تدمير للأسرة

انتشار الفاحشة هو تدمير للأسرة الجانب الآخر جانب الفاحشة، الذي أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه في كتابه فقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] وقال في الآية الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19]. أدرك أعداء الله أن نشر الفاحشة في المجتمع هو عن طريق هدم الأسرة بهذه الوسائل، واليهود خططوا لذلك منذ القدم، وأول ما ابتدأ اليهود قالوا: لابد من تدمير النصرانية؛ لأنها كانت العدو المباشر لهم في الغرب، فقالوا كما في البروتوكولات: لابد من نشر الرذيلة وهدم الفضيلة بين النصارى، وما زالوا يمكرون بهم مكر الليل والنهار، حتى أصبح من الشائع جداً -والعياذ بالله- في بلاد الغرب أن تنكح المحارم. بل إن جرائدنا أحياناً تنشر هذه الأخبار -وإن كانت قد لا تعلق إلا في النادر- كيف يأتي الإنسان محارمه! وليس ذلك نادراً عندهم، بل هي حالات منتشرة، وبنفس القوة يراد لها أن تنتشر في بلادنا حيث اتجهوا جميعاً يهوديهم ونصرانيهم إلى تدمير المجتمعات الإسلامية عن طريق هذه الأفلام، والمجلات، والكتب، عن طريق طمس الأخلاق الإسلامية وإحلال الأخلاق النفعية الغربية المادية محلها، فينشأ الطفل الذي لا يؤمن بخلقٍ ولا دين، إلا من خلال ما يتلقاه ويستقبله من الأفلام، فتنهدم الأسرة. وكم من أسرةٍ هدمت نتيجة لذلك، كم من رجلٍ طلق زوجته، كم من زوجة هجرت زوجها تطبيقاً لما رأته أمام عينها، أو لما رآه هو بعينه من مشاهد، أو من مسلسلات، أو قصص، وما أشبه ذلك، وبذلك استطاع هذه الغزو أن ينقل المجتمع الإسلامي نقلةً بعيدة من مجتمعات محافظة يضرب بها المثل في العالم كله، إلى مجتمعات لا تكاد تفترق عن المجتمعات الغربية إلا ما رحم الله، وإلا من كان لديه بقايا من هذه المحافظة.

ضياع الوقت

ضياع الوقت وأقل ما يأتي من ضرر من هذه الوسائل، ومن هذا الغزو هو: إضاعة الوقت فيما لا ينفع، فالمؤمن الذي يؤمن بالله ويؤمن باليوم الآخر، ويعلم علم اليقين أن هذه الحياة ما هي إلا عبور، وأن الدار الآخرة هي الحيوان، وأنه لا خلود له في هذه الحياة، وأنه محاسبٌ عليها، وأنه ما من ساعة تمر به لا يذكر الله ولا يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان ذلك حسرةً عليه يوم القيامة، فكيف يضيع الأوقات في هذه المجلات، أو الأفلام التافهة؟! حتى ولو افترضنا أنها تخلو من أي محرم، إلا أن فيها إضاعة للوقت فيما لا خير فيه وفيما لا يهمنا من الأمور، وهذا العمر محدود، والعقل إناء، فإن ملأته بالخير قبله، وإن ملأته بالشر لم يتقبل الخير. وأنت الآن تجد الناس يعيشون على هذه الأمور ويتنافسون فيها، وأكثرهم يجهل أركان الإسلام، وخاصةً الأطفال والنساء، فهم لا يعلمون أركان الإسلام ولا أركان الإيمان، ولا يقدرون أن يأتوا بتعريف بسيط بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! سورة من قصار السور لا يحفظونها! أسماء الأنبياء لا يعرفونها! وتنشأ الأسرة على التفاهات، ويختلط الآباء بالأبناء ولا يتحدثون إلا عنها!

انتشار العنف والجريمة من أسباب دمار الأسرة

انتشار العنف والجريمة من أسباب دمار الأسرة العنف والجريمة أحد المخاطر التي تتعرض لها الأسرة، ومن ثَمَّ المجتمع، فأفلام وقصص وكتب العنف والجريمة والجاسوسية وما أشبه ذلك، هي أيضاً من معاول الهدم التي تهدم الأُسْرةَ، ومن ثَمَ تهدم المجتمع، وتجعله بعيداً جداً عن الطمأنينة والأمن الذي لا يجلبه إلا الإيمان. ما رأيكم في طفل فسق وفجر أبوه، وفجرت أمه؟! ولو كان يعيش في عهد التابعين مع أبٍ فاجر وأم فاجرة، ولا يتلقى التربية الصحيحة، كيف تكون نظرة الناس إليه؟ أليس ذلك مدعاةً للرحمة وللرثاء وللشفقة به؟ وهو في الجيل النظيف؛ إن ذهب إلى المسجد أو خرج، فلن يرى منكرات، أينما ذهب فإنه لا يجد إلا الخير والسلامة، ومع ذلك العصر تعد هذه مأساةً. فكيف في عصر الفتن الذي تقوضت فيه الأسرة، وتهدمت فيه الفضيلة، أين يذهب الطفل؟ يذهب إلى المدرسة! فماذا يتلقى في المدرسة؟! يذهب إلى الشارع! ماذا سيجد في الشارع؟! يذهب إلى المقهى! ماذا سيجد في المقهى؟! فمسكينة هذه الأجيال التي سوف تتعرض لهذا الغزو، والآباء في غفلة، والموجهون والعلماء والدعاة في غفلة عن التصدي له، فنسأل الله سبحانه أن يقي أمتنا شره، وأن يبصرنا جميعاً بخطورته، وأن يجعل كل واحدٍ منا يعي مسئوليته التي أخبر عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فـ {كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته}، والحمد لله رب العالمين.

كلمة للمقدم

كلمة للمقدم جزى الله الشيخ سفر على ما بين من عظم تأثير وسائل الإعلام، وقوة الغزو الفكري الذي يمثله هذا الكم الهائل من التدفق المستطير للمعلومات. في الواقع نحب أن نسلط الضوء أكثر على جانب واحدٍ من وسائل الإعلام، ألا وهو التليفزيون، وما انبثق عنه من أشرطةٍ. إن الأسرة في غالب الأحيان لا تجلس مجتمعة إلا قليلاً، وكذلك قد لا تستمع إلى الأشرطة مجتمعة بل فرادى، ولكن هذا التلفاز يجمع الأب والأم والابن، وقد يجمع الجد والجدة والأحفاد في مجلس واحد مُسمَّرةُ أعينُهم على هذه الشاشة الفضية، وهي تبث ما تبث، ومن هذه الزاوية نرجو من الأخ عدنان أن يتطرق إلى بحث وإيضاح الآثار النفسية التي تتركها هذه الوسيلة على المتفرجين، وكذلك ما ينتج من آثار جسدية عضوية أخرى من جراء الجلوس أمام هذه الوسيلة، ونود منه بصفةٍ خاصة أن يوضح لنا تأثير دخول هذه الوسيلة إلى بيوتنا على العلاقات الموجودة بين الأسرة، وعلى النواحي التي لا يمكن أن تقوم إلا بتواجد الأسرة وأفرادها في مجلسٍِ واحد.

من الآثار السيئة للإعلام

من الآثار السيئة للإعلام قال الدكتور: عدنان غلام. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته واقتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد: حديثي سيكون باختصار شديد، وسأحاول التركيز على أشياء يثيرها الناس في هذه الأيام.

الأثر الأول: الكبت

الأثر الأول: الكبت من الآثار النفسية التي تظهر لهذا الإعلام ما يسمونه بالكبت، فالكبت هذا كثيراً ما تكلم عنه علماء الغرب، وهو ظاهرة موجودة في كل شباب الأمة الغربية، وللأسف بدأت تظهر نسبة كبيرة من هذا الكبت في شبابنا، نراها في حياتنا العملية في المستشفيات، في العيادات النفسية، وفي كثير من الأماكن. فما هو الكبت؟ ببساطة هناك طاقة لدى الإنسان يريد أن يخرجها، ولكنه لا يستطيع أن يخرجها، من فطرة الإنسان ميل الرجل نحو المرأة، الشاب هذا أو الشابة يسمع ويرى أشياء تثير فيه الغريزة، وتحفزه وتدعوه إلى الجريمة، ماذا يستطيع هو أن يفعل؟ قد لا يستطيع أن يتزوج، ويأخذ هذه الأمور بطريق الحلال، وليس أمامه إلا الانحراف، أو أن يكبت هذه النفس كما هو حاصل كثيراً، هذا الأثر ليس باليسير؛ لأن وجود هذا الكبت في هذا الشاب أو في هذه الشابة يعطله. قد يصبح حياً صحيحاً بين الأحياء، يذهب إلى عمله من الصباح، ويعود بعد الظهر، أو يذهب إلى دراسته، أو يذهب إلى جامعته، لكن تركيزه وتفكيره وأعصابه ونفسيته في مكان آخر، بل هو -كما يقول العامة- صفر على الشمال، لا قيمة له في هذا الواقع! فلا شك في أن لهذا الذي تبثه وسائل الإعلام، أثراً عظيماً في تحطيم كيان هذه الأسرة والمجتمع المسلم.

الأثر الثاني: الانفصام والتناقض

الأثر الثاني: الانفصام والتناقض وجود نوع من الانفصام والتناقض في حياة الكثير من شباب الأمة، وأخص الأطفال بالذات؛ لأن هذا الشاب أو هذا الطفل يطلب منه أمور مثلاً: يوجهه والده إلى أمر، أو توجهه المدرسة إلى أمر، فيأتي إلى واقع المجتمع، وينظر إلى ما حوله، فيجد خلاف ذلك، قد يستطيع الكبير أن يستوعب هذا التناقض، لكن الصغير لا يستوعب، الصغير بفطرته، يصدق كل ما يسمع، يصدق كل ما يقال، لو أخبرته أن البحر عبارة عن شيء من السماء لصدق؛ لأنه ليس لديه خبرة في هذه الحياة، فإذا قيل له: افعل كذا، ثم وجد خلاف ذلك، كما لو جلس مع والده يشاهد فيلماً -فيما يسمى بالفيديو- فوجد أن شاباً يقبل فتاة في هذا الفيلم، الأب يشاهد هذا ولا ينكره، الطفل ماذا يسمع من والده، هل يسمح له والده بأن يقبل فتاة؟! أو يسمح له المجتمع فعل ذلك؟ لا. فيقول: إذاً كيف أشاهد هذا؟! وكيف يقر والدي هذا؟! ووالدتي بجانبي، وأسرتي بجانبي، وأنا لا أرى هذا يطبق، ولا أرى هذا شيئاً مسموحاً به، فهنا ينشأ شيء من التناقض، وفي هذه السن بالذات يؤدي هذا إلى شلل ومشاكل لهذا الطفل. ومن أخطر نقاط التناقض التي تبثها وسائل الإعلام -سواء المقروءة أم المسموعة أم المرئية- التناقض العقائدي، الذي تكلم عنه الشيخ سفر الحوالي -جزاه الله خيراً- ولكن أنا أذكر ذلك من خلال مثال: حيث إن كثيراً من الأطفال ينشأ عنده ما يسمى بحماة الكون، ومن قبل كان هناك الرجل الجبار الذي يسمونه سوبرمان وغيره، وهي شخصيات خيالية، أدخلت إلى عقول الأطفال، والطفل كل همه أن يصبح مثلها. ولكن أتكلم عن حماة الكون، هؤلاء مجموعة يحمون هذا الكون، أين هذا التصور الذي يُغرس في عقل هذا الطفل من قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:41] أين هذا من الذي يسمع ويقال له: إن هناك حماةً للكون: فلان، وفلان، وفلان، ولديهم القدرة، ثم يأتي ويقرأ في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يمكن أن تستقيم أمور هذه السموات والأرض، إلا إذا أمسكتها يد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن تستقيم بغير هذا، فهذا التناقض العقائدي من أخطر الأمور التي يواجهها الطفل المسلم.

الأثر الثالث: السلبية وعدم الإيجابية

الأثر الثالث: السلبية وعدم الإيجابية ومن الآثار النفسية التي ترد على الجيل الناشئ قضية السلبية وعدم الإيجابية، فالذي يتلقى من وسائل الإعلام إنما يسمع فقط ويتلقى لا يناقش، هذا شيء أمامك تقرؤه أو تسمعه أو تراه، وتسلم به، وهو مصدرك في التلقي: فأين العقلية الابتكارية؟ أين حب الابتكار؟ أين حب الاختراع؟ هذا كله لا يمكن أن يناله هذا النشء بهذه الطريقة. لا يمكن لإنسان يقف هكذا فقط ويتلقى، ويقال له: (افعل كذا، افعل كذا، الأمر هذا صحيح، وهذا خطأ) لا يمكن في يوم من الأيام أن يكون له دور، أو تكون له عقلية متفتحة متنورة، لا يتفق هذا مع هذا. هذه الأمور الثلاثة هي من أبرز القضايا النفسية التي تؤثر فيها وسائل الإعلام على البيت والمجتمع المسلم.

الأثر الرابع: الآثار العضوية

الأثر الرابع: الآثار العضوية أما عن الآثار العضوية: فكثير من البحوث والنشرات تكلمت حول ما يخرج من إشعاعات ملونة من هذا التلفاز، وخصوصاً الملون منها، وأنه يؤثر على شبكية العين، وأن لديه أخطار، هذا من ناحية الرؤية، وأما من ناحية الأمور العضوية الأخرى، فمثلاً منها: الجلوس، وأيضاً طريقة الاستماع، تجد الولد، أو الشاب لا يستطيع أن يجلس أمام التلفاز جلسة سليمة، أو صحية، وإنما يجلس جلسة اعتيادية، فقد يشوه هذا أعضاءً فيه ويؤثر عليه. من القضايا العضوية التي تؤثر على الشباب: الحد من نشاطهم الطبيعي، فالشاب أو الطفل بطبيعته متحرك لا يمكن أن يبقى الطفل في مكان واحد ولو لدقائق معينة تجده يلعب بهذا ويتحرك هنا، ينقلب على وجهه وعلى ظهره، حتى لو كان عمر الطفل شهراً أو شهرين، فإنه، لا بد أن يتحرك، لكن هذا الطفل وهو يشاهد أفلام الكرتون، ربما لا يتحرك لساعات. فالحركة هذه التي يتحرك بها الطفل، هي نوع من التجارب، والخبرة، والنمو الطبيعي للطفل؛ فكلما زادت حركة الطفل، وتحرك وأتى وذهب وجاء وتعلم، ولمس هذا وأمسك بهذا، كان نموه طبيعياً أكثر، وكان أقرب إلى أن يكون تفكيره سليماً نتيجةً لتربيته العضوية السليمة، هذه أيضاً مجمل للآثار العضوية التي نراها نتيجة وسيلة الإعلام.

الأثر الخامس: قتل الأوقات

الأثر الخامس: قتل الأوقات تبقى هناك قضايا اجتماعية أكبر من هذه بكثير، وهي قتل الوقت كما تكلم عنها الشيخ سفر، فالوقت له ردود فعل على علاقة الأسر فيما بينها، فالأسر إن لم تجد ما يربطها بالبيت، فسيكون لها بدائل لتمضيه وقتها، ستذهب في زيارة الجيران، ستذهب لزيارة الأقارب، فتزيد الصلات بين الناس والمحبة والألفة، لكن وجود ما يربطها بالبيت، من الساعة الرابعة مثلاً، أو أثناء الصباح إلى منتصف الليل، فإنه يحد من نشاط هذه الأسرة، وتجدها باقية في البيت فقط؛ فمثلاً: تجد عمارة كبيرة ضخمة، فيها أربعون أو خمسون شقة، وقلة منهم الذين يعرف بعضهم بعضاً، وقد يكون الباب للباب، ولا يعرف الجار جاره، ولا يفكر الجار أن يخرج ويزور الجار، لكن لو وجد وقت فراغ يخرج فيه، ويستفيد منه لخرج بالفعل، لكن وجود ما يربطه بالبيت، أدى لقطع الصلة بينه وبين الناس. وهناك دراسة قامت بها مؤسسة، اسمها مؤسسة (باين) في عام (1930م)، أي قبل سبع وخمسين سنة، عرضت دور السينما (مائة وخمسة عشر فيلماً) تتحدث عن الجريمة والبوليس، ووجدت الإحصائية أن (400) جريمةٍ حدثت ممن شاهدوا هذا الفيلم! -هذه المائة وخمسة عشرة فيلماً أدت إلى أكثر من أربعمائة جريمة- واستحقت هذه الجرائم أن يكون هناك حدود جنائية ضدها، وهناك عدد ليس بالقليل من حالات الشروع في الجناية، ولم يكن هناك إجرام بالفعل، وهذا كان في حوالي ثلاثة وأربعين حالة من تلك الحالات. وحق لكم أن تستغربوا كيف يعيش هذا المجتمع إلى الآن، ولكنه منهار بإذن الله تعالى، ولا يغركم ما حوله من الهالة المضيئة، فإنه من الداخل منهار، ولا شك أنه سينهار! الدولة الرومانية من قبل أخذت في بنائها ألف سنةٍ، وبلغت من العظمة ما بلغت، وانهارت أخلاقياً، فانهارت في خمسين سنة! في خمسين سنة فقط انهارت تلك الدولة ببساطة، وذلك بانهيار هذه الأمور المهمة فيها، فالأسرة هي القاعدة! أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.

أخطار السفر إلى بلاد المشركين

أخطار السفر إلى بلاد المشركين قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. موضوع السفر إلى بلاد المشركين أو السفر إلى البلاد التي تنتشر فيها البدع والرذيلة -وإن كانت بلاد إسلام في الأصل- هذا الموضوع ما هو إلا حلقة من حلقات التأثير على الأسرة المسلمة، والبيئة المسلمة لكي تتحلل من عقيدتها ودينها وأخلاقها وعاداتها الحميدة، وتصبح تبعاً للبيئات التي حكم الله سبحانه تعالى عليها بالكفر والذل والخزي في الدنيا والآخرة، والمسلمون وكما هو واضح لمن يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أمة التوحيد، أمة مجتباة ومصطفاة، أُهِّلت لتكون من أهل الجنة بإذن الله. ونحن نعلم أنه لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، ولا أهل التوحيد والشرك، ولا أهل الطاعة والمعصية، ولا أهل السنة وأهل البدعة، ومن هنا كان من أوضح الدلائل على أن الإنسان قد أسلم وجهه لله عز وجل وآمن بكتاب الله هادياً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً، أن يفارق المشركين من جهتين: أولاً: المفارقة القلبية: فيفارق قلبه عقائدهم وأديانهم، وتفارق جوارحه أعمالهم وعباداتهم، وكل ما هو من شعائر دينهم. ثانياً: المفارقة الجسدية: فلا يختلط بهم، ولا يعيش معهم، ولا يندمج في بيئتهم، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا بريء من مسلم أقام بين ظهراني المشركين. قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما} لأن البيئة العربية التي بعث فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي في الأغلب بيئة بادية، والأعراب ينزلون في الأودية، هذا يوقد ناراً، والآخر يوقد ناراً على مسافة ما، فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تتراءى ناراهما} أي: لا يرى المسلم نار المشرك، ولا يرى المشرك نار المسلم، فيبتعد عنه ابتعاداً شديداً ويغيب عنه في شعب الجبال، ومن أجل ذلك شرعت الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وكما كان المهاجرون الأولون يهاجرون إلى المدينة، وكان الذي يرجع عن الهجرة في أول الإسلام يعتبر مرتداً، أو في حكم المرتد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاهد أصحابه في أكثر من موضع على مفارقة المشركين، وعلى البيعة على الهجرة، وهذا في أحاديث كثيرة صحيحة متفق عليها، منها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبايعهم على الهجرة والجهاد إلى أن فتحت مكة فقال: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية}، أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة، وأما ماعدا ذلك، فإن الهجرة باقية من بلد الكفر إلى بلد الإيمان.

الأخطار العقائدية

الأخطار العقائدية شرعت الهجرة لأن الإنسان يتأثر ببيئة الشرك، يتأثر بما يقوله المشركون وما يعتقدونه هو وأبناؤه وأهله وذووه، والمؤمن مأمور أن يُمَحِّصَ إيمانه وعلاقاته وروابطه وأواصره، ولهذا أنزل الله تبارك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] وكانت بعد ما تم صلح الحديبية. ومع ذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذه السورة قطع تلك الأواصر والعلاقات إلا علاقة الإيمان، فقال في حكم المؤمنات المهاجرات: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10] وكما بين -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في أنه لا علاقة بين المسلمين والكافرين، إلا في التعامل الحسن للذين لم يؤذوا المسلمين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم. ولذلك فإن كثيراً من الفقهاء نصوا على أن المسلم الذي أسلم في بلاد الكفار ولم يخرج إلى بلاد المسلمين، بل بقي معهم أو رئى في صفهم وقتل فإنه كافر!! فالأمر ليس بالأمر الهين، وما ذلك إلا لأن المسلم يجب أن يتميز عن هؤلاء الكفار والمشركين، فإذا أسلم الشخص، وكان في بيئة كافرة، ويجب عليه أن يفارق بيئتهم، وينتقل إلى بيئة الإسلام. ولكن الذي يحصل -مع الأسف- هو العكس فالمسلمون -وهم في بيئة الإسلام وفي بلاد الإيمان- هم الذين يختارون -طوعاً ورضاً- الذهاب إلى بلاد الكفار، وأن يقيموا ويعيشوا فيها لغير ضرورة ولا حاجة! وهذا بلا شك إحدى العلامات التي تدل على ضعف الإيمان أو على فقدانه. وقد ذكر العلماء أنه ما من قضية أو أمر من الأمور -بعد التوحيد وبعد النهي عن الشرك- أكثر وروداً في الكتاب من الأمر بموالاة المؤمنين، والنهي عن موالاة الكافرين، فمن تلك الآيات قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر} [آل عمران:118] وقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقوله جل شأنه: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] وقوله عز وجل: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]. وآيات وأحاديث كثيرة وعاها المسلمون الأولون المجاهدون الذين كانوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بعده، فكانوا لا يحلون الإقامة في بلاد الكفار، ولا يذهبون إليهم، إلا لضرورة أو حاجة ملحة، مثلاً: للدعوة إلى الله ويعودون، أو يذهبون رسلاً من المسلمين إلى تلك البلاد، أو يذهبون للتجارة. ولها أيضاً ضوابط محددة لا بد أن يلتزم بها المسلم كما يلتزم بها أولئك الكفار إذا قدموا إلى ثغور الإسلام، كل ذلك لأن البيئة لها تأثيرها، ولأن المؤمن لا يكون مؤمن حقاً إلا إذا قطع صلته بالمشركين، وهجرهم وترك موالاتهم. واختلاطه بهم، وعيشته في بيئتهم مما يدفعه إلى أن يواليهم ويحبهم، وقد يمنعه ويحول بينه وبين إظهار دينه، فيرضى بالذل مع أنه مسلم! فتكون النتيجة أن الإسلام قد ذلَّ بذلِّ ذلك المؤمن الذي يقيم في بلاد الشرك، فهو لا يستطيع أن يجاهر بتكفيرهم أو بما هم عليه من الضلال، أو يجاهر بدعوتهم إلى التوحيد وإلى الحق. ولا شك أن من أكبر العوامل في هدم الأمة الإسلامية، وهدم الأسرة المسلمة بالذات، هو ما ارتكبه بعض المسلمين من ذنب عظيم، وهو: استحلالهم واستمراؤهم أن يسافروا إلى بلاد المشركين ويقيموا فيها، وأول ما يفكرون فيه هو معصية الله تعالى، والتخلي عن العادات والأخلاق الإسلامية الظاهرة، ويعقب ذلك التحلي بالعقائد الباطلة شيئاً فشيئاً -عافنا الله وإياكم- فالمرأة المسلمة منذ أن تركب الطائرة، تبدأ تتجرد من الحجاب، وتتزيا بزي الكافرات! حتى إذا نزلت هناك أصبحت مثلهن، والرجل كذلك يتزيا بزيهم، ولا شك أن المشابهة بهم في الظاهر يورث التشبه بهم في الباطن؛ كما نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ في موضوع المشابهة في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فهذه المشابهة في الظاهر تؤدي إلى الاندماج والمشابهة في الباطن شيئاً فشيئاً، وهذا ما قرره علماء الاجتماع وعلماء النفس في العصر الحاضر، بناء على تجارب ملموسة واضحة.

السفر والانسلاخ من الدين

السفر والانسلاخ من الدين يذهب الإنسان إلى تلك البلاد فيُضيِّع أول ما يضيع دينه! لأنها بلاد كفر، وليس بعد الكفر ذنب، فهي بلاد تعلن أن الله تعالى غير موجود، أو أنه ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويضيع المؤمن فيها ويشعر بالغربة الشديدة، فإذا كان المتمسك بدينه يشعر بالغربة في بلاد الإسلام! فكيف بتلك البلاد التي لا مساجد فيها ولا أذان ولا صلاة تقام؟! ويرى غلبة الكفر وقوته، ويرى بهرج الحياة الدنيا وزخارفها التي هم عليها، والتي لا توجد في بلاد المسلمين إلا النزر القليل إن وجد. فيكون مما يثبط عزيمته، ويضعف إيمانه، وينبهر ويُخدع بهذا المتاع الفاني الزائل، ويظن أنه كان مخدوعاً مغروراً، وأنه ما وعده الله ورسوله إلا غروراً -كما قال ذلك المنافقون- وأن هؤلاء الكفار في عزة ومنعة وهم على كفرهم، فيظن أن الكفر هو مصدر هذه العزة، أو أنه لا يتعارض مع العزة، وهذه من أكبر الأمراض القلبية التي تصيب المسلم دون أن يستشعر ذلك عقلياً، وتدخل إلى قلبه وأحاسيس نفسه وهو لا يدري. وإذا كان أهله معه فإنها مصيبة كبرى؛ يرون المناظر المتبرجة، ويرون الخمر علانية، والفسق والانحلال والعادات الرذيلة الذميمة يرونها أمام أعنيهم، فإن كانوا ممن ذهبوا لنيل هذه الشهوات! فقد غرقوا وهلكوا وأهلكوا، وإن كانوا من المخدوعين الذين يذهبون من أجل الفسحة وقضاء الوقت، فإنهم سوف يصابون بأمراض القلوب، وأقل ذلك أنهم يرون أنفسهم في تمسك وإيمان، فإذا رأى الإنسان تلك البيئات فإنه يقول: أنا مؤمن وأنا متمسك، وبيئتي مؤمنة وعظيمة، ولكنه يرجع معظِّماً لتلك البلاد، محقِّراً لبلاد الإسلام، متهاوناً بالمعاصي، وكأن لسان حاله يقول: كلنا سواء، المؤمن والكافر، بل هم أكثر معصية منا، فلماذا تنزعجون من وجود المنكرات؟ أو من الاختلاط أو التبرج أو انتشار المخدرات أو ما أشبه ذلك؟ وهذه من أعظم الدلائل على أن مثل هذا قد أصيب في عقيدته؛ لأنه شتان بين المؤمنين والكافرين، ومن يعقد المقارنة بينهما فإنه لا يعرف حقيقة التوحيد ولا معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فإن الصحابة الكرام كانوا إذا ابتلوا أو اضطروا إلى أن يروا مشركاً، فكأنَّ الرجل منهم رأى رجلاً من أهل النار خرج إلى هذه الحياة الدنيا أمام عينيه! فلو تصور المؤمن أن هؤلاء أهل النار، فهل سيغتر بما لديهم من زخارف الحياة الدنيا؟! هل سيغتر بما أعطوا من النعمة والعافية أو الحضارة؟! هل سيغتر بما هم عليه من عزة ظاهرة أو من نعمة خادعة؟ هل سيكون ذلك سبباً في أن يجاريهم في عاداتهم وأخلاقهم ويتأثر بها هو وأبناؤه؟ لو كان يعلم حقيقة أن هؤلاء من أهل النار، وأنه ليس بين هذا الذي أمامه وبين النار إلا أن يموت، وما أقرب الموت، وكل آت قريب، وأن هؤلاء أعداء الله عز وجل ونحن المسلمين أولياء الله عز وجل لو علم ذلك لعلم أنه لا يستوي أعداء الله وأولياؤه. بل أدهى من ذلك أن يأتي أحدهم ويقول: إن تلك البلاد فيها نظام وأخلاق وفيها وفيها، فيكون ممن يمدح الكافرين ويذم المسلمين! وبعضهم يقول علانية: الكافرون أفضل وخير من المسلمين! وهذا من الكفر الصراح الذي يصادم كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحمد لله أن بعضهم يذهب، ولكنه يعود وهو في منعة وحصانة، يذهب مخدوعاً فيعود بعقل سديد، حتى أن بعضهم قال: أقسمت بالله أنني إذا عدت إلى بلادي أن أسجد شكراً لله عز وجل! وفعلاً نزل من سلم الطائرة في مطار جدة، وسجد لله عز وجل فرحاً أنه عاد من تلك البلاد، وقال: والله ما ذهبت إليها إلا لأنها بلاد حضارة ورقي وتقدم، فلما رأيت ما رأيت، أقسمت على نفسي ونذرت أن أفعل هذا، وألا أعود إليها، فإذا كان هذا ضميره مستيقظاً، فكم من ضمائر ماتت، وكم من قلوب قد أصابها المرض وقتلها، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، حتى أن أولئك في تلك البيئات أصبحوا يأتون بما يندى له الجبين، يفتحون البارات والخمارات والمراقص، ويكتبون عليها باللغة العربية دار مكة! أو مرقص مكة! أو ملهى المدينة ليصطادوا المسلمين إليها، وقد قال بعض إخواننا إنه رأى ذلك بأم عينه. ولا شك أنه لا يرضى بذلك ولا يرتاح إليه إلا من خلا قلبه من الإيمان، فتلك البيئات لا يجوز للمسلم أن يسافر إليها، لا في عطلة ولا في غيرها، إلا من اضطر للعلاج، أو من أضطر لدارسة معينة تنفع المسلمين، ولا يوجد له ملجأ إلا تلك البلاد، فيجوز للضرورة.

واجبنا تجاه ظاهرة السفر إلى بلاد الكافرين

واجبنا تجاه ظاهرة السفر إلى بلاد الكافرين يجب علينا جميعاً أن نفكر ونتعاون لنمنع هذه الظاهرة السيئة، وأن نأخذ على أيدي أولئك الذين يخالفون حكم الله الواضح، كالذين يدعون إلى تخفيضات في تكاليف السفر إلى تلك البلاد، والذين ينشرون الدعايات التي تُطمع الشباب وترغِّبهم في الذهاب إلى تلك البلاد التي فيها الصلبان، وفيها الشيوعية والإلحاد، وفيها العراة وما لا يخطر على بال، ويجب أن نتعاون ونسد كل المنافذ المؤدية إليها، ومنها منفذ الابتعاث، وأن نوجد الوسائل التي من شأنها ألا يُبتعث الطالب المسلم إلى تلك البلاد، فلو تعاونا جميعاً في ذلك- من مسئولين ومربين وآباء- لاستطعنا أن نقاوم أثر تلك البيئة. ولنضرب مثلاً بـ اليابان، تلك البلدة الشرقية التي تفوَّقت تكنولوجياً حتى غزت أمريكا نفسها، اليابان عندما بعثت أول دفعة إلى أوروبا عادت وقد مسخت شخصيتها، فعادت باللبس الأوروبي والكلام الأوروبي والعادات الأوروبية، فجيء بهم إلى ميدان عام، وجمع أكثر الشباب أمامهم، وحكم عليهم بالإعدام ذلك لأنهم فقدوا الشخصية اليابانية. فابتعثت بعد ذلك عدة بعثات، فكان الرجل يذهب وينزل في أي بلد من أوروبا ويمشي ويأكل على الطريقة اليابانية، والنساء يلبسن الزي الياباني، ويرجع وهو ياباني التفكير والعادات، ولكنه قد اكتسب العلم الذي عندهم، فما هو إلا عقد من الزمن، وإذا بـ اليابان تتفوق على كثير من الدول الأوروبية التي كانت أرقى دول العالم صناعياً في ذلك الوقت، فإذا كان هؤلاء المجوس والبوذيون على هذه الحال، فما بالكم بأمة الإيمان وأمة القرآن؟ نسأل الله تعالى أن يردها إليه رداً حميداً، إنه سميع مجيب.

أخطار استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين

أخطار استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين قال الدكتور عدنان غلام: أثبتت الدراسات أن السبب الرئيسي في نقل الأمراض التناسلية من الأماكن الموبوءة إلى غيرها، هو السفر ومقارفة الحرام -الزنا- وأن الحالات المكتشفة كانت في أولئك الذين ذهبوا إلى بانكوك عاصمة تايلاند أو غيرها من البلدان الموبوءة. بل إن هناك مرضاً جديداً ظهر في الرياض يعرف بمرض بانكوك، غير الأمراض الأخرى كالإيدز والزهري والسيلان -عافنا الله وإياكم منها- وأنها تنتقل إلى الأسرة عبر الزوج، فتحطم الأسرة والمجتمعات!! وللتأكد من ذلك تزار عيادة للأمراض الجلدية والتناسلية لينظر كم عدد الحالات في اليوم الواحد! لا أقول في الشهر ولا في السنة. قال الشيخ سفر: والاستقدام -غالباً- يكون لثلاثة وظائف، وهي: الخادم -ويشمل الرجل والمرأة- والسائق والمربية. هؤلاء الذين نستقدمهم لهم أكبر الأثر في هدم الأسرة المؤمنة، وقبل أن أستعرض الآثار الحديثة لا بد أن أرجع بكم إلى التاريخ قليلاً، وأذكر حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه مسلم في صحيحه أنه سأله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الفتن وأخبره بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب رفضها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصبح القلوب على قلبين: أبيض خالصاً، وأسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً} ولكن هذا لم يكن هو السؤال الذي سأل عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: {ليس عن هذا سألتك! فقال: تسألني عن الفتن التي تموج كموج البحر؟ قال: نعم. فقال حذيفة: مالك ولها إنَّ بينك وبينها باباً مغلقاً. فقال عمر بن الخطاب: أيفتح الباب أو يكسر؟ قال: لا، بل يكسر. فقال عمر: وددت لو أنه يفتح} أراد أنه قد يغلق في المستقبل، أما أن يكسر فلا أمل في إغلاقه. ثم قام رضي الله عنه، وخاض الناس في هذا الباب الذي يقف في وجه الفتن، وتكاثرت الأقوال، فلم يجدوا بداً من أن يسألوا صاحب الحديث أمين السر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقالوا: {من الباب يا حذيفة؟ فقال: عمر. فقلنا لـ حذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم, كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط}. فإذا نظرنا من الذي قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؟ ومن الذي فتح هذا الباب للفتن؟ أليس هو أبا لؤلؤة المجوسي، ألم يكن خادماً مستقدماً؟ إن خطر الاستقدام كان من بداية الإسلام، من بداية تحرك هذه الأمة ووجودها، كان مع أطول خليفة راشد، فلم يكسر هذا الباب إلا عمالة أجنبية مستقدمة.

ظهور الفواحش

ظهور الفواحش وإذا نظرنا في عصرنا الحاضر فسنجد أن من أخطار استقدام غير المسلمين الفاحشة -الزنا- والتي قد يقع فيها الزوج أو الزوجة أو الأبناء؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذرنا من الخلوة بقوله: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} ولأن الرجل بطبيعته وبفطرته التي فطره الله عليها يميل إلى المرأة، والمرأة تميل إلى الرجل، فالخلوة حرام سواء في السيارة أو غيرها، وهذه فتوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في ذلك، لأنه يمكن أن يذهبا إلى أي مكان، ويمكن أن يتكلما في أي موضوع، سواء حديث حب وعشق، أم غيرها من المحرمات. وقد وقعت قصة عجيبة في هذا الشأن، حصلت في مركز شرطة جدة، وهي أنه قدم إليهم رجل فلبيني وامرأة إندونيسية، وأتت بهم العائلة التي استقدمتهما، أحدهما سائق، والأخرى خادمة، فرب العائلة يتهم هذه المرأة بأنها زنت مع هذا السائق، وأنها حامل من الزنا، وبعد التحقيق اعترف الرجل بأنه زنى، ولكنه لم يعترف أنه زنى بالخادمة، وإنما اعترف بحصول الزنا مع ربة الأسرة، واعترفت الخادمة بأنها حملت من رب الأسرة، فهذا مثال واقعي وصريح في الجانبين. مثال آخر: رجل من أهل الخير في الرياض، يقيم مع ولدين شابين له في سن المراهقة، استقدم الرجل خادمة شابة إلى بيته، ولكنه بعد فترة من الزمن اكتشف أن هذه الخادمة لا تنام في غرفتها! فلما تتبع الأمر، وجد أنها تبيت ليلة عند هذا وليلة عند هذا! فأراد تسفيرها، فوقف في وجهه ولده، وقال: والله لا تسافر أبداً بل تبقى في بيتنا! فخرج الرجل وهو يبكي ويشتكي ويقول: إن ابني عصاني بعدما عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو أن الولد رُبيَّ التربية الإسلامية الصحيحة، ومُنِعَت عنه أسباب هذا الفساد لما حصل هذا، فلا نضع عود الثقاب المشتعل أمام البنزين، ثم نقول للنار: لا تشتعلي! بل حتى في تاريخ الأمم السابقة يقص الله علينا قصة يوسف عليه السلام وهو معصوم، فيقول تعالى عن الفتنة التي تعرض لها: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فقوله ((وَهَمَّ بِهَا)) قال العلماء: لو لم يقل الله: (وَهَمَّ بِهَا) لاتهم يوسف في رجولته عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرجل الذي لا يميل للمرأة يسمى خنثى -لا رجل ولا امرأة- وهي منقصة، لكن يوسف - النبي المعصوم- عندما ابتعد عن المرأة -وهي صاحبة الشأن وصاحبة الدار والسلطان والجمال- إنما كان بشراً لديه فطرة ولديه ميل نحو المرأة -كأي بشر- ولكنه استعلى على هذه الشهوة وارتفع بإيمانه عنها. الشاهد من هذه القصة أن الفتنة لا بد حاصلة، ولا يعصم الإنسان منها شيء، فلا يقل: (أنا نفسي طيبة، وأنا أختلف عن غيري)؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. وقد يستدل بعض الناس على جواز وجود الخادم أو الخادمة أو المربية بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة النور: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ} [النور:31] إلى أن قال: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] فيدخل السائق ونحوه وكأنه من التابعين غير أولي الإربة. وهذا غير صحيح لأن العلماء قالوا: إن المقصود من الآية هو المخنث الذي ليس له شهوة في النساء. وقال بعضهم: هو الأحمق الذي لا يعقل الفرق بين الرجل والمرأة. وقال بعضهم: هو المخصي -الذي ليس له خصية- فلا تثور له قائمة. وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسيره: 'المراد بالآية ظاهرها، أي من يتبع أهل البيت، ولا حاجة له في النساء، ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال '. وهذا كلام دقيق، لأنه قد يأتي -هذا التابع- في فترة من الفترات ولا يكون له إربة بداية؛ لأنه يكون محتاجاً إلى العمل أو يفكر في أسرته التي تركها في بلده، فلو رأى ربة البيت لا يميل ابتداءً، لكنه إذا استقر به الحال واستأمنه الرجل وبدأ يخلو، أتته الشهوة، كقصة الرجل التي رواها الإمام مسلم -رحمة الله عليه- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: {أنه كان رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان يدخل عليهن ويعتبرونه من التابعين غير أولي الإربة حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة، والرجل مع بعض أزواجه، وكان الرجل يصف امرأة ويقول: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنهى أزواجه من أن يظهرن على هذا الرجل}.

تغيير العقائد

تغيير العقائد يستقدم بعض الناس للوظائف المنزلية أشخاصاً لا يدينون بالإسلام، وإنما يدينون بـ الهندوسية، أو النصرانية، أو البوذية، ولهذه الديانات أشد الأثر على الأسرة المسلمة، وبالأخص الأطفال، فلو تُرك طفل مع مربية -أقل ما فيها أنها لا تذكر اسم الله تعالى- لتربيه، فلن تربيه على ذكر الله إذا أراد أن يأكل -مثلاً- ولن تقرأ عليه آية الكرسي أو أذكار النوم إذا أراد أن ينام، وإنما ستقرأ عليه نصوصاً من الإنجيل أو قصصاً من خرافات دينها، سواء كان ذلك مع الأطفال في البيوت، أو مع المرضى في المستشفيات، وسيخرج الأطفال بتربية غير إسلامية في عقائدهم وتصوراتهم.

التدهور الأخلاقي

التدهور الأخلاقي وإذا نظرت إلى جانب الأخلاق والسلوك، فستجد أن كثيراً من المسلمين والمسلمات -فضلاً عن غيرهم- لا يعرفون كيف يتوضئون، ولا كيف يصلون؟ فكيف سيكون حال الأطفال في الأسرة التي نطمح أن يخرج أبناؤها مجددين ومصلحين ويبنون هذا المجتمع، ويعيدون لهذه الأمة قيادتها ورئاستها في الدنيا، بل الذي يقع أن يتعلموا السرقات والجرائم التي تحدث في البيوت، بل أصبح بعضهم أشبه بالعصابات يقتحمون الشقق والفلل في غياب أهلها.

إضعاف اللغة العربية

إضعاف اللغة العربية قال حافظ إبراهيم في اللغة العربية: وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات اللغة العربية هي اللغة التي نفهم بها ديننا، وهي التي نزل بها القرآن، وتكلم بها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فاللغة العربية يجب علينا أن نصونها من الركاكة، فلا نتكلم مع الخادم أو الخادمة، فنجعل الرجل امرأة، والمرأة رجل، ولا نقول للرجل: أنتِ روحي أو أنتِ افعلِ كذا، وللمرأة العكس مقابل أن تفهم هذه الخادمة أو ذلك الخادم. بل يجب علينا أن نعلمهم بالطريقة الصحيحة، فلا يحاول المتكلم أن يركك في لغته مقابل أن يفهم هذا الذي أمامه، ولكن يحاول أن يرتفع به ليكون قريباً من اللغة العربية الفصحى.

انتشار الأمراض

انتشار الأمراض قضية أخرى أخيرة، وهي الأمراض التي يحملونها، وينبغي أن يكون هناك كشف طبي لهؤلاء المستقدمين، لكن بعض الناس لا يقدر أهمية هذا الأمر، وأن المرأة التي تأتي وتطبخ في البيت، لو كانت حاملة لمرض معدٍ أو مرض من الأمراض الخبيثة، فإنها يمكن أن تنقله إلى الأسرة، وهذه الأسرة تنقله إلى غيرها، فيجتنب هذا بالكشف الطبي من المستشفيات الرسمية؛ لأن هؤلاء بيئتهم بيئة فقر، وبيئة هابطة، ولا شك أن كثيراً من هذا الأوبئة منهم، وأنتم ترون في الحج وما يأتي وينتشر في بلادنا عن طريق هؤلاء الحجاج القادمين من تلك البيئات، سواء من الهند، أو الباكستان، أو سيريلانكا، أو الفلبين، أو تايلاند، وكلها دول تحمل الأمراض المعدية، وأكثر ما يتأثر بها الأطفال؛ لأنهم أقل مناعة من الكبار.

إفساد الدين والأخلاق

إفساد الدين والأخلاق هؤلاء الناس إذا دخلوا إلى بلاد المسلمين عامة فضلاً عن هذه الجزيرة، فإنهم يبنون الكنائس -وهذا أمر معروف- وقد بنوا الكنائس في أطراف جزيرة العرب، ولو سمح لهم أن يبنوها في أقرب بقعة إلى مكة لفعلوا، ولكنهم لا يسمح لهم ولن يسمح لهم بإذن الله عز وجل. لكن في تلك البلاد التي قد تهاونت في الموضوع قد بنوا الكنائس الضخمة، ومن ذهب منكم إلى تلك الديار لا بد وأنه قد رآها، يبنون المعابد البوذية وقد بنيت معابد بوذية في أطراف جزيرة العرب على دين البوذية ليتعبد فيها البوذيون، ينشرون أديانهم الباطلة، يحاولون أن يدعوا الناس إلى أديانهم: النصراني إلى نصرانيته، والبوذي إلى بوذيته، وما انتشار مذهب البهائية إلا من أوضح الأدلة على ذلك، وما من بلد يسمح أن يقيموا فيه ويأخذوا فيه حريتهم، إلا وينشئوا النوادي الماسونية: إما نوادي عالمية كالروتاري وما أشبهها، وإما نوادي سرية تحت ستار الحفلات، وستار نشر الثقافة وستار المسرح، بأي شكل من الأشكال. لا بد أن ينشروا هذه النوادي الماسونية وينشروا الفكر الماسوني في بلاد المسلمين، وهناك من أبناء المسلمين من ينخرط في صفوف هذه النوادي والأحزاب الكافرة الملحدة، وإنما انتشرت الشيوعية بتأثير هؤلاء المجرمين عندما دخلوا بلاد المسلمين، وكل النحل الباطلة والضالة فهذا حالها أيضاً. دخولهم أيضاً في بلاد المسلمين فيه أعظم الإفساد لأخلاق المسلمين، لأن المسلم الذي لم يكن يرى في بلاده إلا امرأة محجبة أصبح يرى امرأة كافرة متبرجة، فبعد حين يستهين المسلم بذلك، ثم يكثر ويتناقل الداء حتى تصبح المحجبة هي الشاذة -نسأل الله السلامة والعافية- بل إنه كما تلاحظون -وهو أمر واقع- أن هؤلاء النساء في بلادهن لا يأبهن بأي شيء، ممكن أن تقف على قارعة الطريق وتركب مع أي إنسان يمر ويذهب بها إلى حيث شاء وليس لديها أي تفكير في أن هذا فيه حرج أو عيب أو عار، وهذا أمر مشاهد لمن تفطن ولمن تأمل له؛ فما ذلك إلا لاستقدامهم ولإدخالهم في بلاد المسلمين، ولتعمدهم أحياناً أن يفسدوا عقائد المسلمين. وفي دخولهم أيضاً إفساد الذوق العام عند المسلمين: إن المسلمين لهم دين ولهم حياء ولهم مروءة، وهناك أمور كثيرة حتى من الحلال مروءة المسلم تمنعه منها، هل رأيتم أحداً من آبائنا في أيام العادات الحسنة الطيبة مهما كانت قلة علمه بالدين يأكل هذا السندوتش على قارعة الطريق؟! والله ما يفعل هذا آباؤنا أبداً! يستحون من ذلك، وما كان أشد منه فإن حياءهم منه أشد، أما هؤلاء فإنهم يجاهرون بما يفسد الذوق العام، فيجعل مظهر البلد وذوقه العام مظهراً غربياً أوروبياً، حتى إنك تجد المسلم المتخلق بآداب الإسلام في لباسه وهيئته وزيه شاذاً ونادراً في بلد الإسلام، فإذا كان المسلم في بلد الإسلام يشعر بالغربة؛ فما بالكم بمن يدفع ويزيل تلك الغربة بالإتيان بهؤلاء الكفار واستقدامهم إلى بلاد المسلمين؟!

نتائج أخرى

نتائج أخرى هناك قضايا كثيرة قد نغفل عنها وهي في صميم الموضوع، كموضوع البناء: مثلاً، فعندما استقدمنا مهندسين كفرة، ومنظمين ومخططين للمدن من الكفار، أو من تلقى على أيديهم، أصبحت مدننا مدناً غربية بالفعل، وفقد الطابع الإسلامي لها، ولا نفرق بين البناء الإسلامي وغيره، الحياة الإسلامية والحياةُ عامةً أجزاء وعناصر عضوية متماسكة. أصبحت بيوت المسلمين تستر بالزجاج! وما كان آباؤنا يعرفون هذا الزجاج أبداً، فأصبح الزجاج والألمنيوم من جميع الجهات، فلم يكفنا أن تبرجت النساء حتى تبرجت العمارات أيضاً، فأصبح الإنسان يرى المرأة ويرى الناس وهم في أعماق البيت عن طريق هذا الزجاج! والأوروبيون إذا وضعوا الزجاج، فلأنهم يكادون لا يرون الشمس، فيفرحون ويحلمون أن يروا الشمس، والشعراء الأوروبيون لهم قصائد ودواوين في الشمس؛ لأن عندهم ضباباً طيلة السنة، فيفرح إذا رأى الشمس، فيجعل للبيت زجاجاً، فإذا أتت الشمس يتلذذ بها ويتنعم بها، ونحن في بلاد الحر الشديد نرى الشمس طوال العام، فنفرح ونتغنى إذا رأينا سحابة! هؤلاء القوم جاءوا وخططوا لنا فجعلوا العمائر متراصة عالية، والشقق متجاورة ضيقة، وضعفوا الزجاج في جميع الجهات ومن جميع الأطراف، وكذلك الشرفات التي تسمى البلكونات لم يعرفها آباؤنا أصلاً، فبيوت المسلمين في القديم كانت النوافذ عالية ومستترة، والباحات أو الساحات في داخل البيت، أما هؤلاء فهم في داخل البيت كالعلبة المعلبة، فأين تخرج المرأة؟ أين تنشر الملابس؟ وأين إذا أرادت أن تنادي أبناءها أو تعمل أي شيء، وكذلك الأولاد، فمن الشرفة، وما بين الشرفة والشرفة الأخرى إلا قليل من الهواء، فلو وضعت خشبة لأمكن أن يسير عليها الإنسان من هذه الشرفة، إلى تلك الشرفة، وينتقل إلى ذلك البيت، إما سارقاً أو زانياً أو لصاً أو ما شاء، والمصيبة أننا جعلنا عادات بلادنا وذوقنا العام وسكننا تحت تأثير هؤلاء الذين بأموالنا وبأنفسنا استقدمناهم ووليناهم ليخططوا لنا كيف نعيش، وكيف ننظم حياتنا، وكيف ننشئ بيوتنا. فالقضية خطيرة، وهي تمس كل بيت وكل إنسان وكل من يخاف الله عز وجل -وهو حريص على هذه البلاد الطاهرة المقدسة التي لم يبق للتوحيد قلعة إلا هي- فإنه والله يغار ويهتم لمثل هذه الأمور، ويجِدُّ في البحث عن الحل وعن المخرج، وهو بين أيدينا؛ وعندما نعرض هذه المآسي أو هذا الواقع، فإنما نذكر بأمر مشاهد محسوس؛ لنستثير همم أهل الإيمان والغيرة أن يغيروا وأن يبدءوا بأنفسهم وبمن حولهم. فأقول: إنهم أفسدوا حتى الذوق العام في مظاهرنا العامة، في سكننا، حتى في لغتنا وفي لهجتنا -كما ذكر الأخ الدكتور- بل إنكم لتشاهدون اللوحات، اذهبوا إلى بلد من بلادهم، وانظروا إلى اللوحات واللافتات في بلاد المسلمين، مع الأسف الشديد كأنها ثوب رقع من سبعين رقعة؛ هذه اللوحة من لغة كذا، هذه من لغة كذا، وهذه بلغة كذا، وأصبح الإنسان لو فتح محلاً صغيراً جداً لا يأتيه ولا يشتري منه إلا طبقة من العمال الذين لا يقرءون أية لغة، ومع ذلك لو وضع له عنواناً فسوف يكتبه بغير العربية، إما بالإنجليزي أو بلغة أخرى؛ لأن عبوديتهم ليست في المظهر والمخرج، لكنها في الباطن وفي المخبر، أصبحنا متأثرين بهم إلى هذا الحد. وأدهى من ذلك أننا نستعير أسماء فجارهم -وكلهم فجار- ونضعها عناوين ولافتات في بلاد الإسلام، من أعجتبه مطربة أو مغنية أو ممثلة عاهرة داعرة، جعل اسمها عنواناً لمحله أو لشركته أو لمطعمه أو لمخبزه أو لما أشبه ذلك، فنجعل من بلادنا معرضاً للدعاية لمشاهير الكفر ومشاهير الفجار من شتى الأصناف ومن جميع البلاد كالمطربين والممثلين ولاعبي الكرة والمصارعين والرياضيين عموماً بينما في تلك البلاد رغم أنها لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا تخاف أن الله سيعذبها يوم القيامة ولا تعرف شيئاً اسمه موالاة الكفار، رغم ذلك لا يسمحون بأن يمجَّد اسم في بلدهم إلا ما كان على لغة البلد، ومن له بطولة وطنية -كما يسمونها- بخلاف ما نحن عليه للأسف الشديد. ونحن قد تكلمنا وأشرنا، وما هي إلا إشارات إلى ما يهدد الأسرة من هذا الغزو الفكري الرهيب، ومن هذا الخطر الزاحف الداهم، سواء كان خطر ذهاب المسلمين إلى بلد الكفار أم خطر استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين، وعلى كلا الحالين يجب علينا أن نعيد النظر في أنفسنا وفي مجتمعاتنا مما يتعلق بهذا الشباب المسكين.

الشباب والفساد

الشباب والفساد لو صح أن أحداً يعصي الله عز وجل وهو مظلوم لقلنا: إن شبابنا مظلوم، نعم هذا الشباب مهما فجر ومهما فعل لو نظرنا بالمقياس الشرعي الصحيح لوجدنا أن حالنا معه كما قال الشاعر: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء لا نجد مجلساً إلا ويشتكى من الشباب: الشباب فسد، الشباب أدمن المخدرات، الشباب فعل وفعل، الشباب هذا كيف وكيف، شكوى! ولكن هل واقعنا وحياتنا العامة تدفع هذا الشباب إلى الخير أم تدفعه إلى ما هو أشد من ذلك، وإلى ما هو أوحش وأفحش من ذلك؟ ليس هناك أحد يعذر في معصية إلا من عذره الله، ويجب على هذا الشباب أن يتمسك بدينه، لكن كيف نفتح له جميع منافذ الشر، ثم نقول له بعد ذلك: لا تعص! دعايات تنشر في مجلات كثيرة: تعال إلى حيث المتعة، تعال إلى الليالي الدافئة في بانكوك وكذا وكذا، تخفيض أربعين في المائة على قيمة التذاكر، الفنادق والحجز وكذا وكذا موجود، ترونها جميعاً ونراها جميعاً، تدفع بهذا الشاب المتلهف المتعطش في قوة الشهوة وفي قوة الشبق وقوة الشباب تدفعه وتجذبه، نضمن لك كذا وكذا من أساليب المتعة والرفاهية في العطلة، وقد تنظم مواعيد الرحلات على مواعيد العطل، فمن أراد ذلك فهو لا يحتاج أن يخرم عمله، الأمر منظم ومرتب على مواعيد العطل الأسبوعية أو السنوية، ثم تبدأ تلك الجموع تذهب إلى هناك، فإذا جلس الإنسان هنا، وبلغه خبر أن جثة زميله فلان قد جاءت من مانلا -كما حصل قبل فترات وكما تعلمون ذلك- قال: هذا فاسد، وهذا مجرم وقمنا نتشكى. نعم هو مجرم، لكن هل نحن مبرعون؟ هل نحن غير مؤاخذين أمام الله عز وجل؟ أم أننا قد دفعناه إلى الجريمة وهيأناها له وفتحنا له أبوابها؟ وكذلك ما يقع داخل البيوت من الشجار ومن الخصام ومن عقوق الأبناء، قلما تجد أباً أو مدرساً أو مربياً إلا ويشكو من عقوق هذا الشباب، ويشكو أنه شباب متمرد، لا يهتم بشيء، لا يبالي بخير أو شر! ولكن نسأل أنفسنا أولاً: على أي شيء ربيناهم نحن؟ إذا كان الأب الذي تربى على الدين وعلى الأصالة وعلى الخلق يُرى فيه التهاون في أعظم أمر، وهو أمر الغيرة وأمر العرض، فيدع المرأة والبنت تذهب مع السائق، فكيف تلوم الابن لو ارتكب أكبر من ذلك؟! فأنت تعصي الله عز وجل فيه وفي الأسرة جميعاً بهذا الخادم وهذا السائق، وتريد ألا يعصى الله فيك بالعقوق؟! لا يمكن هذا أبداً. فهؤلاء الشباب لا ندافع عنهم، ولكن نقول: إننا مسئولون مثلهم أو أكثر، وإنهم قد يكونون مظلومين في كثير من الأحيان؛ لأنهم لم يعرفوا الحق ولم يعرفوا الخير، وإنما وجدوا أنهم يساقون سوقاً إلى الفاحشة وإلى الفساد وإلى الإجرام، فانساقوا في هذا التيار الجارف، ولذلك - وهذه والحمد لله من بشائر الخير - تجدون الشباب الذي يهتدي ويرجع إلى الإسلام، وهذا الذي يسمى شباب الصحوة الإسلامية الجديدة الذين نراهم في كل مسجد، وفي كل حي، وفي كل مدرسة، بعضهم لما اهتدى بدأ يصرح يقول: والله لأول مرة أسمع أن الغناء حرام، وأن مشاهدة المرأة في الفيديو أو التلفاز حرام، وإذا به اهتدى، وجاء إلى المسجد، وحضر ندوة وندوتين، ثم التحى وترك الفساد. إذاً لماذا نظلم الشباب؟! فلو أنهم ربوا تربية سليمة لكان فيهم خير عظيم، ولو كانوا يهتدون بأشياء عارضة قليلة، فكيف لو كان التوجيه العام كله على ما أمر الله وعلى ما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزع هؤلاء الشباب من أيدي الذين يريدون أن يتبعوا الشهوات، ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. فنسأل الله تعالى أن يردنا إليه رداً حميداً وأن يبصرنا في ديننا وأن يفقهنا فيه؛ حتى نعلم مقدار ما شرفنا الله تعالى به من التوحيد، ومقدار ما أذل الله تعالى به أعداءنا من الشرك، فلا نواليهم ولا نحبهم، ولا نسافر إلى بلادهم، ولا نستقدمهم إلى بلادنا، ولا نعاملهم بأية معاملة إلا على وفق ما شرع الله في حالة الاضطرار التي أباحها الله تبارك وتعالى، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم ذلك وما هو خير منه، والحمد لله رب العالمين.

خاتمة

خاتمة قال مقدم الندوة: أذكركم بما بدأنا به الندوة بالحديث عن الغزو الفكري، وتأثير استخدام وسائل الإعلام هذا الاستخدام الجائر الذي نتج عنه ما سمعتم في هذه الندوة من أمور فاحشة تأثر بها هذا المجتمع، وسمعتم أيضاً ما ذكره الشيخ سفر من حال أجدادنا وكراهيتهم معايشة أهل الكفر والشرك والفجور والباطل، وكيف أنه كان كثير من الرحالة الكفرة يقتلون في هذه الجزيرة عند محاولة اكتشافها، أجدادنا ينظرون للكفرة وللمشركين هذه النظرة التي تحملهم على قتلهم، ونحن نعاشرهم ونصاحبهم ونصادقهم في مكاتبنا وفي بيوتنا! نستقدمهم إما عمالة على أنهم خبراء وعلماء، وإما عمالة رخيصة على أنهم خدم وسائقون! هذه الآثار التي تحدث عنها في هذه الندوة وفي الندوة السابقة ما كانت إلا نتيجة لأول ما بدأنا به الغزو الفكري الذي جاء نتيجة لاستخدام هذا الإعلام استخداماً لا يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والذي لم يسخر لخدمة دينه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وفي الختام نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه.

تصحيح مفهوم العمالة

تصحيح مفهوم العمالة كان أبو لؤلؤة المجوسي عبداً رقيقاً للمسلمين، ولم يكن عاملاً مستقدماً، وتعلمون أن المسلمين إذا حاربوا أمة كافرة، فإنهم يغنمونهم ويأسرونهم، ومن أسر منهم يجوز أن يُسترق، فيصبح عبداً للمسلمين؛ لأنه رفض أن يكون عبداً لله عز وجل، فحكم الله تعالى أن يكون عبداً لعبيده الصالحين، ففرقٌ بين العبد وبين العامل المستقدم؛ لأن الأدلة في تحريم دخول اليهود والنصارى إلى جزيرة العرب كثيرة. ولهذا لما طُعن الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه [[قال: من فعل بي ذلك؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل ميتتي على يد رجل لم يسجد لله سجدة]] ثم قال: [[وقد كنت نهيتكم أن تكثر العلوج بـ المدينة]] لأن عمر كان ينهى أن تكثر العلوج في المدينة أي: أن هؤلاء أرقاء وملك للمسلمين، فالمسلم إذا ملك عن طريق الجهاد رقبة من رقاب الكفار، فإنه يستخدمها كما يستخدم الدابة، ومن هنا يجوز له أن يأتي بها، ولو لـ جزيرة العرب باستثناء مكة.

جزيرة العرب للمسلمين

جزيرة العرب للمسلمين أما إذا كان هذا الرجل حراً، وإنما جيء به من أجل عمل من أعمال الدنيا، فهذا هو الذي ينطبق عليه ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان}، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً} وهذا في آخر حياته، فهو حكم ناسخ لما قبله. وهذا يبطل استدلال من يستدل أن أهل خيبر صالحهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يقيموا فيها ويزرعوها، فيكون لهم النصف وللمسلمين النصف، فإن أهل خيبر كانوا أرقاء لأنهم استسلموا في الحرب، فكانوا مما يسمى برقيق الأرض. ولما أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر حياته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب نفذ ذلك الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وظهرت له خيانة اليهود التي لا بد أن تقع، فأجلى يهود خيبر إلى أذرعات من بلاد الشام، وفرقهم في البلاد، وطهر جزيرة العرب من رجس هؤلاء الكفار، وبقي هذا أمراً مألوفاً لا يخرمه ولا يخرقه أي خارق أي أن جزيرة العرب بلد للمسلمين فقط لا يساكنهم ولا يعاشرهم فيها أحد. بقي هذا أربعة عشر قرناً إلى أن جاء الاستعمار الحديث، ودخل الإنجليز والبرتغال أطراف الجزيرة، أما قبل ذلك فلم يكن أي كافر يأتي إليها إلا متخفياً، بل إن بعض الرحالة الأوروبيين الذين جاءوا لاكتشاف جزيرة العرب قتلوا على أيدي الأهالي، لأنهم رأوا أن هذا كافر يهودي أو نصراني، ولا يجوز له أن يدخل إلى جزيرة العرب، وهذا موافق لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسبق أن تعرضنا لقضية التجارة وحكمها، وقد نحتاج ذلك لأننا نتاجر مع الكفار وبما يأتون إلى ثغور المسلمين أو موانئهم وأطراف بلادهم، وقد يُحتاج أن يدخلوا ببعض تجاراتهم إلى بلاد المسلمين، فإذا احتاج المسلمون للتعامل مع الكافرين في بعض الأمور-كالتجارة- فعليهم أن يفعلوا مثلما أوصى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما روى أبو عبيد في كتاب الأموال إذ جعل لأهل الروم ولمن تاجر من أهل الكتاب ثلاثة أيام، يأتون بتجارتهم مما يلزم المسلمين إلى ظاهر المدينة، ولا يدخلون إليها، فيأتي إليهم المسلمون، فيشترون منهم البضائع لمدة ثلاثة أيام ثم يعودون. أما أن يستخدموا ككتبة أو مستشارين أو خبراء، فهذا حرام، ولو كان في بلاد ما وراء النهر، أو في الأندلس، أو في أي مكان، وقد بلغ الفاروق عمر أن أبا موسى الأشعري استخدم كاتباً نصرانياً، فكتب إليه يعاتبه أشد العتاب ويقول: [[كيف تأمنونهم وقد خونهم الله؟! وتكرمونهم وقد أهانهم الله؟!]]. وله مع المغيرة بن شعبة قصة -وكان المغيرة في العراق ليس في داخل جزيرة العرب - إذ كتب المغيرة إلى عمر: إنني استخدمت هذا النصراني، وإنه رجل نبطي، ولا يجيد الحساب غيره، فكأنه يقول: وجود الرجل ضروري لنا، فكتب إليه الفاروق كلمتين، قال له: [[هب أن النصراني مات، والسلام]]. فيقطع الجدال والنقاش في هذا الموضوع، فـ جزيرة العرب لا يجوز أن يجتمع فيها دينان في أي حال من الأحوال، ومن هنا نعلم لماذا علماؤنا -جزاهم الله خيراً- الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد الله بن حميد في فتواهم المسجلة والمقروءة يذكروننا دائماً بهذا الحكم، يقولون: 'لا يجوز للمسلم أن يستقدم الكفار إلى جزيرة العرب '.

حدود الجزيرة العربية

حدود الجزيرة العربية وقبل ذلك قد تقولون: وما هي جزيرة العرب؟؟! جزيرة العرب تشمل من أطراف العراق والشام شمالاً إلى بحر العرب جنوباً، ومن الخليج وبحر عمان شرقاً - خليج البصرة الذي اختلفوا فيه: هل هو فارسي أو عربي؟ العرب المسلمون كانوا يسمونه خليج البصرة أو بحر البصرة - فمن الخليج شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً، فيدخل في ذلك بطبيعة الحال الكويت والإمارات واليمن وعمان. فكل ذلك من جزيرة العرب التي لا يجوز أن يدخلها الكفار فضلاً عن الحجاز، فهو أمر متفق عليه ولم يخالف في ذلك أحد، وكل من تكلموا في حدود الجزيرة لم يختلفوا في أن الحجاز من جزيرة العرب وأنه أولى الأماكن بألا يدخلها يهودي ولا نصراني؛ حتى إن بعض العلماء جعلوها على نوعين محرم مغلظ ومحرم غير مغلظ، أي يحرم أن يدخلوا جزيرة العرب عامة، لكن دخولهم إلى أرض الحجاز محرم حرمة مغلظة، فحرمته مغلظة دائمة؛ لأنها كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إن الإيمان ليأرز بين المسجدين}. فيجب أن تظل بلد إسلام وأن تحمى من هؤلاء الذين يسبون الله عز وجل أعظم السب، ولو أن أحداً سب أبا أحدنا كل يوم فلن يرضى أن يعاشره أو يخالطه، فكيف بالكافر الذي يسب الله عز وجل، فالنصارى يسبون الله عز وجل حين يقولون: إن له ابناً {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:43] هذا سبٌ لله عز وجل، والبوذيون يقولون: إن بوذا هو إلههم، وبعضهم يقول: إن بوذا هو ابن الله، وفي هذا سبٌ لله عز وجل، وكلهم أعداء الله، وكلهم لا يجوز أن يوالوا، ولا أن يدخلوا إلى جزيرة العرب.

من دخول الكفارة إلى بلاد المسلمين

من دخول الكفارة إلى بلاد المسلمين ولا بد أن إدخالهم إليها وإلى غيرها من بلاد المسلمين يؤدي إلى فساد عريض، ويجب أن نضع هذه القاعدة في أذهاننا ولا ننساها: (وكل أمر نعصي فيه الله عز وجل، فلا بد أن تصيبنا بسببه العقوبة) وذلك كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ذكر الخمس التي أمرنا أن نستعيذ بالله منها، وأنها إذا وقعت وقعت نتيجتها، ومنها: {وما انتشرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا أصابهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن من قبلهم}. فإذا عصينا الله عز وجل فلا بد أن ندفع ضريبة المعصية من أجسادنا ومن سعادتنا ومن أمننا في الدنيا، وكذلك عقوبة الآخرة: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]-عافنا الله وإياكم من ذلك- فما تفضل به الدكتور عدنان من هذه الأمراض والمشاكل، إنما هو نتيجة لمعصيتنا لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت هذه عقوبة بالمعصية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] ولا بد من هذا.

الأسئلة

الأسئلة

البديل الإسلامي لوسائل الإعلام

البديل الإسلامي لوسائل الإعلام أجاب على هذا السؤال الشيخ سفر الحوالي. Q في الواقع هنا نقطة نحب أن نعود فيها إلى الأخ الشيخ سفر في موضوع التلفاز، والبرامج التلفزيونية، والفيديو وما شابه ذلك، فالبعض يريد أن يوقف هذا السيل الجارف بأن يأتوا بأفكار، ويقولون: لماذا لا نعمل أشياء إسلامية؟ لماذا لا نعمل أفلاماً إسلامية؟ لماذا لا نعمل أفكاراً إسلامية؟ لما لا نعمل أفلام كرتون إسلامية -مثلاً- ولا نشك أبداً أن هناك مغرضين مندسين وراء هذا، ولكن الظاهرة موجودة الآن؛ فالناس قسمان -إلا من رحم ربي- إما أناس متجهون خاضعون لهذا الغزو الفكري ولا يرون به بأساً، بل يرونه عين الحضارة، وهو المطلوب، وهو المراد، وهذا والله فيه الدمار، وآخرون رأوا في هذا البديل سلامةً لهم، الأمهات يتضجَّرن من الأطفال في البيوت، وتعلمون حال البيوت هذه الأيام وصغرها وحبس الأطفال فيها، فالأم تريد من طفلها أن يكون ساكنا ساكتاًَ، لاكما أراده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طبيعياً متحركاً نشطاً، فتريده أن يجلس أمام التلفاز ساعتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، وهي تقضي ما تقضي من أمورها، فتصر على شراء التلفاز، فيرضخ الأب ويقول: إذن نأتي بأفلام إسلامية أو برامج إسلامية، فنريد من الشيخ سفر: توضيح الحقيقة، لما في هذا الحل من مخاطر، حتى نكون على بصيرةٍ من أمرنا؟ A الحمد لله رب العالمين، إن الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر الهين، لأن القضية أخطر من أن يدرسها فرد بذاته، هذه مشكلة كل بيت يريد أن يحافظ على البقية الباقية من الأخلاق والفضيلة، ولكنه يواجه غزواً منظماً مسيطراً، ومن هنا يجب أن تتردد الآراء فيها -ولا نعني أي آراء- ولكن نعني آراء أهل العلم، ورأي أهل الخبرة، ورأي رجال التربية الإسلامية الذين يمارسون الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إنه لا حرج شرعاً من حيث المبدأ أن توجد أفلام إسلامية نافعة مفيدة، لو سئلنا نظرياً عن ذلك لقلنا: قد يكون واجباً أن يوجد البديل، ولكن يجب أن نتنبه إلى مخاطر كثيرة تحف هذه القضية: الأمر الأول: أن البديل عن أي شيء في كثير من الأحيان فيه نوع من الإقرار بالأمر الواقع، بمعنى أن البديل قد يكون مظهراً للعجز عن المقاومة، فأنا لم أستطع -مثلاً- أن أحفظ بيتي وأبنائي وأغرس وأربي في أنفسهم مقاومة هذا الغزو، وأن هذه الأمور حرام، فقلت: لابد أن آتي بالبديل، بينما توجد الأسر التي تستطيع ذلك، ولو أننا جعلنا الأصل والأساس هو أننا نقاوم هذا الغزو، ونجعل البديل أموراً صالحة، ليس شرطاً أن تكون من جنس ذلك الغزو، كالطفل الذي يأتي -مثلاً- من المدرسة بعد الظهر يتغدى ثم يرتاح قليلاً، يذاكر للعصر، يذهب للمسجد، يحفظ القرآن إلى العشاء، بعد العشاء ينام إجبارياً، ليستيقظ مبكراًَ، هذا الطفل إذا ربي تربية سليمة على أن هذه الأشياء أقل ما فيها أنها تضيع وقته، وأنه لا يستطيع أن يتلقى معلوماته فيها، فسيترك هذه الأمور وما فيها من حرام وما قد تجره إليه من فساد، فهو يقتنع بذلك وإن كان صغيراً مع التربية السليمة، وماذا يربح الإنسان إذا خسر أسرته، مهما كان نجاحه مالياً أو مادياً أو حتى لو دعوياً، نجح في أن يدعو طائفة كبيرة من الناس للإسلام، لكنه ضيع أطفاله وضيع زوجته، فهذا خسران، لا يرضاه إلا من كتب الله عليه الغواية. الأمر الثاني: أن هذه البدائل فيها -كما ذكره الأخ عدنان - أخطار من النواحي العضوية، فما ينتج عن ذلك في النظر، أو في الأعضاء، أوفي عدم الحركة، أو ما أشبه ذلك، كل المساوئ العضوية موجودة سواءٌ كان هذا الشيء صالحاً أو سيئاً، وأنا قرأت وسمعت أيضاً ندوة إذاعية أن بعض دول أوروبا وفي بعض الولايات الأمريكية، حددت مشاهدة الأطفال للتلفزيون بساعة واحدة في اليوم فقط، وجعلت ذلك تشريعاً إلزامياً في الدولة وفي الولاية، فيلزم الأطفال ألا يروا التلفزيون إلا ساعة واحدة، ثم بعد ذلك يتحدثون عن محتوى هذه الساعة وما سيكون، لكن يشترطون ألا تزيد عن ساعة واحدة، فكيف بنا نحن الذين لا بد من مفارقتنا لهم، بمقتضى أن أصحاب الصراط المستقيم يخالفون أصحاب الجحيم، فهؤلاء رأوا الأضرار العضوية التي تنتج عن المشاهدة للتلفزيون وإدمان ذلك، فقالوا: لابد أن يحدد ذلك بساعة واحدة من أربعة وعشرين ساعة. الأمر الثالث: هي أن ما يوجد اليوم باسم الأفلام الإسلامية، أو ما قد يوجد هو كأي أمر من أمور حياتنا -نحن المسلمين- يخضع لذوق ولرغبة المشتري، كما هو خاضع لعلم وفقه المنتج، بمعنى أن المنتج الذي لا يعرف الحلال من الحرام، أو لا يتقيد بكثير أو ببعض أحكام الإسلام، قد ينتج أفلاماً فيها محرمات كثيرة وواضحة، وكثير من الآباء لا يدركون الفرق بين الحلال والحرام في هذه الأمور؛ لأن الدعوة العامة وعلم الفقه الشرعي في المجتمعات الإسلامية ضعيف محدود، فئة محدودة فقط هي التي تستطيع أن تنتقي وتختار، ومن هنا فإن هذا المنتج مع حسن نيته -افتراضاً- سوف ينتج لنا أشياء ضارة على أنها نافعة، وهذه قد تتقبلها الأسرة بحجة أنها إسلامية، وقد رفضت تلك التي ليست إسلامية، وفي ذلك خطره وضرره. وكذلك قضية الرقابة، قد يقول قائل: نخضع هذه الأشياء للرقابة، وأنتم تعلمون أن الأفلام غير الإسلامية فيها الكثير من المحرمات مع وجود الرقابة، وفيها أمور لا تخضع للرقابة، فإذا قلنا: الأفلام الإسلامية تخضع للرقابة، فإن الحال سيكون كحال هذه الأفلام التي تخضع للرقابة من جهتين وأنتم ترونها، بل بالعكس الرقابة -إن وجدت فرضاً- ستجد نفسها أنها أمام شيء عادي جداً، فأحدهم مطالب بأن يراقب مئات من الأفلام الخليعة الفاجرة، ويأتيه فيلم إسلامي فيقول: هذا إسلامي، فلا يراقبه، فنتيجة ذلك تنتشر في المجتمع أخطار قد تكون أكثر خطراً من الأفلام الواضحة أنها للفسق والدعارة. وأنا أضرب لكم أمثلة واضحة: أنتم تشاهدون ما يسمى -أحياناً- بالتمثيليات والمسلسلات الإسلامية، ولاسيما في رمضان أو في موسم الحج، والحق يقال، كلمة نقولها لله عز وجل: لو أنه وضعت مكان هذه الأفلام أفلام ما يسمونه حباً وهو فاحشة -الأفلام العادية من الغرام والعشق العادي- لكان والله أسلم من هذه الأفلام، والله لقد رأيت بعيني في موسم من مواسم الحج فيلماً في قصص الأنبياء، والقصة كانت عن داود عليه السلام، الممثلة تمثل زوجة داود عليه السلام -الذي أثنى الله عليه في القرآن الكريم: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]- زوجة نبي كاشفة الصدر والنحر كله، وتختلط بالأجانب، وتكلم طالوت، وتكلم فلان، ووزوجة من هي؟ زوجة داود!! هذا والله أفحش مما لو كانت هذه زوجة فلان من الناس وتختلط بغيره. وكذلك على هامش السيرة الذي عرض في سنة من السنوات على أنه سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظهرت فيه أخطاء كبيرة في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيلم الرسالة وما أدراك مافيلم الرسالة، وقد سمعتم عنه الكثير، وكذلك تمثيلية موسى بن نصير شيء عجيب جداً أن يكون الفاتحون المسلمون لايفتحون البلاد إلا عن طريق العشق والغرام والعلاقات مع بنات الروم! أيضاً في سنة من السنوات كان الموضوع عن أبي عبيدة بن الجراح، أمين الأمة المصطفاة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] فهل في الأرض، أمة أكثر أمانةً وحقاً وعدلاً من أمة الإسلام، وهذا أمين الأمة الأمينة، يفتح دمشق بناءً على علاقات غرامية مع بنت ملك الروم!! فإذا كان هذا أميننا، فمَنْ منا الأمين؟! نحن أمة خائنة إذن، ولاشك أن من رضي بهذه الخيانة فهو خائن، وهذا شيء ليس بالخفي، بل شاهده الملايين، وهذا من قبيل توضيح الخطأ لا التشهير ولا الافتراء، لأن هذه الأمور شاهدها الجميع. فالحقيقة أن هناك خطراً مبطناً مدسوساً فيما يسمى بهذه الأفلام الإسلامية أو المسلسلات الإسلامية في المواسم الإسلامية، وفي تمثيلة ابن تيمية وغيرها. ولكي يبرزوا شجاعة الصحابة يأتون بسيوف من الخشب، ويقولون: هذا خالد بن الوليد! والطفل الصغير يقول: رأيت خالد بن الوليد، ولا يقول: رأيت ممثلاً يمثل خالد بن الوليد، يقول: رأيت عمرو بن العاص، رأيت معاوية، لأنه يرى شيئاً أمامه، نحن الكبار ننسى الموضوع، ونتصور أن هذا خالد، فكيف بالطفل الصغير؟! وأشد من ذلك أن يأتي في فيلم آخر نفس ذلك الممثل الذي يمثل خالد بن الوليد أو أبا عبيدة، وإذا به لص من أكابر المجرمين، ويأتي في فيلم آخر، وإذا به داعر من أكبر الزناة ومدمني المخدرات، وهو نفس ذلك الرجل!! كيف ينطبع هذا في نفس ذلك الطفل؟ لو بقي ينظر إلى هذا الرجل في كل هذه الأفلام على أنه داعر، زانٍ، فاسق، غشاش، لبقيت صورة واحدة في ذهنه، لكن يأتي يمثل صحابي بهذه الصور! هذا هو التناقض الحاد الذي أشار إليه أخونا الدكتور عدنان، وهذا مما يسيء ويفسد سمعة الصحابة، وبالتالي يفسد الشباب المسلم عن طريق هدم القدوة الذي يجب أن نتأسى بها، وقارنوا بين طفل في الرابع الابتدائي أو الخامس يسمع بصوت الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا -رحمة الله عليه- وهو يتحدث عن صور من حياة الصحابة أو صور من حياة التابعين، كيف يتأثر عندما يسمع عن الصحابة؟! ولكن انظروا واسألوه لو رأى فيلماً من هذه الأفلام، حتى تجد الفرق بين الإعلام النظيف والإعلام المغشوش. والحمد لله رب العالمين.

مخاطر عمل المرأة

مخاطر عمل المرأة أجاب على هذا السؤال الشيخ: سفر الحوالي ثم الدكتور: عدنان غلام. السؤال: الموضوع مهم جداً، ويمس الناس أجمعين، وقَلَّ أحد إلا وهو متأثر به، لذا فإنها مسئوليةٌ عظيمة، هذا الغزو الفكري أو الخطر الفكري الذي يهدد أسرنا المسلمة يجب أن نعيه، وأن نهتم به، وأن نوجد الحلول، وأن نبعد هذا الخطر عن أنفسنا بكل ما نملك. نود أن ننتقل الآن إلى خطر آخر يهدد الأسرة المسلمة، وكما قلت لكم سابقاً، هذه الأخطار الفكرية تتسلل إلينا وقد يكون للبعض العذر في عدم الاطلاع عليها، لأنها تغزو الفكر، وتأتي قليلاً قليلاً، ومع هذا فالعلماء والدعاة يُحَذِّرون، ولكنْ هناك خطر مادي يَمْثُلُ أمامنا، ونراه يتحرك، ونراه يزداد، ونحن غافلون! إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما خلق الذكر والأنثى، أعطى لكلٍ منهما مهمة في هذه الحياة، كلف الرجل بالقوامة، فجعله قيماً، وألزمه بالإنفاق، وهذا يشغل كثيراً من الوقت، ثمان ساعات في النوم، ومثلها أو أكثر منها في العمل، لنقوم بجزء القوامة، للإنفاق على أسرنا وعلى من نعولهم، وكلف الله المرأة بعمل آخر لا يحسنه البتة أحدٌ غيرها، وإن تواطأ عليه الإنس والجن. إن بقاء هذا الجنس البشري مرهون في أن تحمل المرأة وأن تلد، وبعد أن تلد تحضن أولادها، وتحنو عليهم، وترضعهم سنتين، ثم تربيهم وتغذيهم غذاءً مادياً وفكرياً، حتى يشبوا عن الطوق، ويخرجوا إلى المجتمع، وقد بلغوا شيئاً من العقل. الخطر المادي الذي نراه متمثلاً أمامنا قد اجتاح أمماً كثيرة، بل اجتاح الأمم كلها في مشارق الأرض ومغاربها، ووراءه مقولة خطيرة، لو سمعها الإنسان لأول وهلة، يقول: صحيح، نصف المجتمع عاطل، النساء في البيوت، ماذا يعملن؟ إنتاجية المجتمع هابطة، لو اشتغل هذا النصف الموجود في البيوت، لازددنا ارتقاءً، وازددنا حضارةً، وكنا أكثر في القوة المادية، وهذا يخدع الكثيرين، وقد خدعت مجتمعاتٌ كثيرةٌ بهذه المقولة، ووجهٌ آخر من هذه المقولة يَخُصُّ الفردَ نفسه، يقولون له: امرأتك عاطلة في البيت، هذه الأسرة يمكنها أن تزيد من دخلها، لماذا لا تخرج المرأة، وتعمل بضع ساعات، وهي تنفع الوطن وتنفع الأسرة بزيادة الدخل؟ فبدلاً من أن يكون للأسرة دخل خمسة آلاف ريال، يصبح لديها سبعة آلاف ريال أو ثمانية آلاف ريال. إن مسألة عمل المرأة وخروجها من بيتها، ومزاحمتها الرجال، سواءٌ في الأعمال أم في الأسواق مسألة خطيرة، تهدد الأسرة المسلمة، ونود من شيخنا سفر -جزاه الله خيراً وثبته- أن يبين لنا تفاصيل هذه المقولة؟ وكذلك خطأها من صوابها، وما حدث في الأمم التي مشت في هذا الاتجاه؟ A هذه قضية كبيرة وخطيرة، وهي قضية عمل المرأة، ولن نستطيع أن نعطيها حقها، ولكن حسبنا أن نشير إلى ما يوفقنا الله عز وجل إليه في هذه القضية. يكفيكم من كل أمر حامله وداعيه لتحكموا عليه!! من الذي يدعو إلى أن تخرج المرأة، وإلى أن تشارك في بناء الوطن كما يقولون؟ من الذي يدعو لذلك؟ فكل دعوة تأتيك يجب عليك أن تنظر إلى قائلها وحاملها. لقد جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل الله تبارك وتعالى عليه الشريعة الكاملة الخالدة التي تكفلت بصلاح العباد إلى قيام الساعة، فما وجدنا فيها هذه الدعوى، بل وجدنا ضدها، وهذا كتاب الله بين أيدينا، وهذه سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا، وهناك نص صريح محكم في ذلك وهو قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فلا يستطيع بشر أن ينسخ حكماً من أحكام الله عز وجل، المرأة أساساً حياتها في بيتها، وخير لها ألا ترى الرجال ولا يروها، وإن كانت في طريقها إلى المسجد، وصلاتها في قعر بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، مع عدم الاعتراض عليها إن رغبت أن تذهب إلى المسجد في حالات معينة، وفي شروط معينة، لكن الأصل في صلاة المرأة هو البيت، وهي الصلاة! وهي العبادة!! هذه قاعدة، ولا ننظر إلى واقعنا مهما ابتعد عنها، لكن هذا هو الأصل، أربعة عشر قرناً والأمة الإسلامية على هذه الحالة الفطرية، مهما انحرفت أو ابتعدت في تقاليد أو ما أشبه ذلك من انحراف، لكن تبقى القاعدة في ثبات، وهو أن المرأة عملها في البيت، ودروها عظيم في إنجاب الأطفال، وفي تربيتهم، وفي أعمالٍ في البيت تستطيع أن تعملها، والرجل عمله خارج البيت، وعلى ذلك سارت الحياة. ولم تظهر هذه الدعوى إلا في العصر الحديث، بعد قدوم الاستعمار وبعد انحطاط الأمة، وأول من دعا إلى خروج المرأة ومشاركتها -وسموه تحرير المرأة- هم النصارى الأقباط في مصر ونصارى لبنان الذين أنشئوا جرائد ومجلات، وكانت صحفهم أول ما صدر من الصحف في العالم العربي، وكانت مجلات وصحف نصرانية، أنشأها أولئك الذين تلقوا تعليمهم وحياتهم في مدارس الإرساليات التبشرية، كالكلية الإنجيلية، التي سميت فيما بعد بالجامعة الأمريكية في بيروت، هذه الكليات الإنجيلية أخرجت ذلك الجيل الذي كان أول جيل يطالب بحرية المرأة، ويصرح بأنه يريد لها أن تصبح كالمرأة الغربية، تماماًَ سواء بسواء. ولو نظرنا إلى دعاة الخير، وإلى العلماء، وإلى أهل الغيرة والصلاح، فلن تجدهم يدعون إلى هذه الدعوة، إنك لو فتشت: لن تجد من يدعو إليها إلا من هو مشكوكٌ في إخلاصه لأسرته، ولبلاده ولدينه، لابد من ذلك، بل ممن يكتبون عن دعوى تحرير المرأة، أو خروج المرأة ومشاركة المرأة، منهم من له أمٌّ لم يزرها من سنة أو أكثر، منهم من تكون له زوجة، والعلاقة بينه وبينها أسوأ ما يمكن، ولا يسمح لها ولا يعطيها شيئاً مما يقول: إنه حرية، وتقر هي أيضاً أنه حريه، وقد تكون له أختٌ، وهو مقاطع لها غير زائر ولا واصل لها، ومع ذلك يكتب ويقول: نريد أن تخرج المرأة، لماذا؟! والله عز وجل قد بين ذلك، فقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)) [النساء:27] وهذه الآية ذكرها الله عز وجل من ضمن الآيات التي تتحدث عن موضوع العلاقات يبن الرجال والنساء: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27]. يريد سكرتيرة أو زميلة أو صديقة في المكتب، امرأة متفرنجة متبرجة، يلهو ويعبث معها، ولذلك يقول: لابد أن تخرج المرأة، وأن تعمل المرأة، ليس غرضه أن ينمي اقتصاد بلاده، ولا أن يطور وطنه، ولا يهتم بوضع المرأة، ولا يرثي لها، إذ يسميها الحبيسة في بيتها، فهذا خروج على فطرة المرأة، حتى وإن كانت هذه المرأة كافرة أو مشركة، فالمجتمعات النصرانية واليهودية والبوذية، وكل المجتمعات التي تريد أن تحافظ على أخلاقها، تستغرب وتستنكر ذلك، والآن في العالم الغربي الذي خرجت فيه المرأة إلى أقصى ما يمكن، وجدت جمعيات تسمى (جمعية العودة إلى البيت) مكونة للنساء، ويطالبن بالعودة إلى البيت، وأن تقوم الأم برسالتها الحقيقية وهي الأمومة، فليس هناك رسالة أعظم منها، المرأة عاطفية بطبيعتها، مهما عملت، ومهما أخذت من مرتب، فأعظم وأعز شيء لديها أن تحتضن ابنها، لو قلت لها، ما رأيك احتضانك لابنك هذا وتقبيله، أفضل عندك أم هذا المرتب وهذا المنصب؟! فإنها سوف ترمي بالمرتب وبالمنصب مهما كان. والآن أصبحنا نقرأ على صفحات الجرائد: المرأة التي تقول: لم يرغب فيّ ولم يخطبني أحد، لأنني جامعية، ولأنني موظفة، أنا مستعدة أن أترك العمل, وأن أرمي بالشهادة إذا وجدت الشاب الذي يقبلني زوجة!! في مجتمعنا أصبح هذا الشيء موجوداً، لماذا؟ لأننا أخرجنا المرأة عن طبيعتها وعما فطرت عليه، إن دعوى إخراج المرأة للعمل هدمٌ للأمة من نواحٍ كثيرة من ذلك: أنه يهدم الأمة بشرياً وعددياًَ، ونظراً لأن الذين يثيرون هذا الكلام، كثيرٌ منهم لا يريد أن يسمع كلام الله ولا ذِكْرَ الله، فلنضرب لهم الأدلة من واقع الدول الغربية. في روسيا الشيوعية الملحدة التي تجاهر بإنكار وجود الله عز وجل، وتجاهر بأن الأسرة هي أثر من آثار البرجوازية القديمة، والتقاليد البالية، في روسيا المرأة التي تنجب -مثلاً- عشرة أطفال تُعْطَى وساماً معيناً تحمله، تركب الحافلات مجاناً، تدخل أي مطعم مجاناً، تخفيضات لها أينما ذهبت؛ لأنها بطله قومية، أنجبت للأمة عشرة أطفال، ونحن نقول: (يجب أن تخرج المرأة وأن تعمل). في فرنسا: القضية تدرس دراسة عميقةً جداً وكذلك في ألمانيا في إيطاليا، وإن كان يبدو أن فرنسا تهتم أكثر، لأنها تريد أن تبقى قوة مسيطرة، لأن إنجلترا فقدت مكانتها كقوة دولية، وتريد فرنسا أن تستبقي ذلك، وهذا الموضوع من أخطر ما تدرسه فرنسا، موضوع تكثير النسل، وإيطاليا من أكبر الدول الأوروبية، ومع ذلك هناك إعانات مخصصة لكل طفل يولد، وحث مستمر على الزواج. بيوت الزنا والدعارة، لا تنتج أطفالاً، إلا أطفالاً معروفاً وضعهم إن جاءوا، ولذلك يحثون على الزواج، ويحثون المرأة على أن تنجب الأطفال، ويأتون بالجوائز السخية، والإعانات لكل مولود يولد، لماذا!؟ لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، بل يؤمنون بالمادة، فيقولون: حتى تعوض المرأة، تقول: لو كنت أعمل سأحصل على ألف ليرة، مثلاً، لكن لو أنجبت أطفالاً، سأحصل على خمسمائة أو مائتي ليرة، فتوازن راحتها النفسية مع هذه الثلاثمائة، فتقبل الزواج والإعانة وتترك العمل، أصبحوا في واقع حالهم يضجون من واقع هذه المأساة الرهيبة التي يعيشونها. ولكن في بلاد الإسلام، يأتي أناس فيقولون: نصف المجتمع معطل، ولابد أن تخرج المرأة من بيتها، أين مساهمة المرأة في تنمية بلادها، فهذا هدمٌ بشري أن تخرج المرأة، وأن يتعطل الإنجاب وأن يصبح المجتمع كما هو في

أسباب انهيار الأمم (ندوة)

أسباب انهيار الأمم (ندوة) إن من سنن الله الكونية على مدار التاريخ أن مكّن لكل الأمم في أرضه فجعلها مشتركة في توافر أسباب البقاء والاستمرار، وجعل لذلك مقومات ومبادئ، فكان من الأمم من عمل بشيء من هذه المقومات وأغفل مقومات أخرى، فتفاوتت فترات استمرار الأمم وفق ذلك. ومن رحمة الله بالأمة المحمدية أن جعلها آخر الأمم لتستفيد من تجارب الأمم السابقة، وتتعرف على أسباب هلاكها وانهيارها؛ لتتجنب هذه الأسباب، ولتكون بذلك بعيدة عما يؤدي بها إلى غضب الله وسخطه. وتتمثل الأسباب المؤدية إلى النجاة من سخط الله في طاعته تعالى، واتباع سنة نبيه، واجتناب المعاصي التي تؤدي إلى تقويض المجتمعات من ربا وزنا وغيرها.

القرآن يقص أنباء الأمم

القرآن يقص أنباء الأمم يتحدث الشيخ عبد الله المحمدي عن الأمم السابقة ويعرض لنا شيئاً من أحوال هذه الأمم من خلال كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد: يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه الكريم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131] ويقول تعالى أيضاً: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف:4] {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5].

استدراج الله للأمم بالنعم

استدراج الله للأمم بالنعم وقال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:94 - 99]. إن هذه الآيات التي يبين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيها أنه ما أرسل من نبي في قرية إلا أخذ أهلها بالبأساء والضراء، ثم بدل مكان السيئة الحسنة، أي: أنهم أبدلت سيئاتهم وكربهم تلك بحسنات ونِعَم، ثم ماذا حصل لهم بعد ذلك؟ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا السراء والضراء، كانوا يتكلمون مما عفى عليهم، يقولون: قد مس آباءنا في الماضي السراء والضراء، وهم منعمون وينزل عليهم من الخيرات الشيء الكثير، ماذا حصل لهم بعد ذلك؟ قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95] فالذي ينظر إلى واقع المسلمين اليوم، وينظر إلى مثل هذه الآيات يجدها تتمثل في واقعنا وحياتنا. كان آباؤنا وأجدادنا قد مستهم البأساء والضراء، فبدلنا مكان السيئة الحسنة، حتى تنعم كثير من المسلمين، وعندها بدأ كثير منهم لا يرعوي لنعمة الله، ولا لكلام الله، ولا لما أعطاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من جزيل النعم في الدنيا، بل أنكر هذه النعم، وجعل يعفو عليها ويتبرم منها، ينكر هذه النعم، فلا نخشى أن تأتي المرحلة التي بعدها وهي: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]. فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائد الغُرِّ المحجلين وأكرم الخلق الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى غيماً أو ريحاً، أو رأى رعداً أو برقاً يصفر وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت تسأله عائشة رضي الله عنها: وتقول له: {يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا السحاب ورأوا مثل هذا فرحوا واستبشروا، فقال لها: يا عائشة قد عُذب أقوام بالريح، وقد عذب أقوام بالمطر} {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل:58]. فإذا كان هذا هو حال رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما هي حالنا اليوم وقد أغرقنا في الذنوب والمعاصي حتى فشت فينا كثير من الذنوب والمعاصي؟ ثم يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مبيناً أمراً آخر: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] عندما تكذب الأمم ويكذب الناس يأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا بظلم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما بما كانوا يكسبون، ولذلك يقول -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- محذراً الأمة: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25] فحذرنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من ذلك في القرآن، وبيَّن لنا، وأوضح لنا الطريق، وأوضح لنا سنته في الكون، وسننه تعالى في إهلاك الأمم، وإتيان الأمم من بعدهم، فيحل قوماً مكان قوم، وهذه هي سنة الله، وما ذهب القوم الأولون إلا بما كسبوا، وما أتى القوم الآخرون إلا ليستخلفهم الله فينظر ماذا يعملون.

الأمن من مكر الله

الأمن من مكر الله يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] أفأمنوا مكر الله عندما عملوا تلك المعاصي وجاهروا بها وأعلنوا الرذيلة والفاحشة في المؤمنين؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. يقول الله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] وهم يلعبون في ناديهم، ومجتمعاتهم، وأعمالهم: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. ثم بين الله في الآية التي بعدها أمراً آخراً عظيماً ألا وهو قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:101] أي: أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها، أن أمة محمد قد ورثت الأرض من بعد الأمم السابقة التي أهلكها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف:100] أما يخافون؟ أما اهتدوا إلى هذه النقطة المهمة العظيمة بأن الذنوب والمعاصي سبب في إهلاك الشعوب والأمم جميعاً لا فرق! فهذا إنذار من رب العالمين: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف:100] نطبع على قلوبهم حتى لو رأوا الآيات والنذر فإنهم لا يؤمنون ولا يتبعون الحق؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100]. ثم بين بعد ذلك، قال: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف:101] إلى آخر الآية، وآيات أخرى. يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] إذاً: لما آمنوا كانت النتيجة أن الله كشف عنهم عذاب الخزي ومتعهم إلى حين، وهذه هي نتيجة طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتباع كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

اقتراب موعد الهلاك

اقتراب موعد الهلاك فإذا كثر الفساد في الأرض وانتشر الخبث في الناس، فإنه ينذر بعاقبة وخيمة! عندما سألت إحدى نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أونهلك يا رسول الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث} فالخبث إذا كثر في أمة من الأمم فإنه نذير بأن تهلك هذه الأمة كما ورد ذلك في القرآن؛ إما بخسف أو بمسخ أو بريح أو بعاصفة أو بفيضان أو بزلزال أو ببركان أو بطاعون أو بمرض أو بغير ذلك من جند الله التي لا يحصيها إلا رب العالمين، يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] فالشرط أن تكون ظالمة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117]. فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116] أما إذا أُمر بالفساد وانتشر الفساد، ولم يوجد أولو بقية من الصالحين والطائعين ينهون عن الفساد في الأرض، فإنها عند ذلك تقع الطامة، فقوله: {أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:117] هؤلاء قليل، أما البقية الذين ظلموا فإنهم اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، مجرمين على أنفسهم، ومجتمعهم، وأسرهم، وديارهم التي كانوا يسكنون فيها، فإن العذاب لما حلَّ، حَلَّ بالجميع: قُلِبتَ الديار، وتضرر المجتمع، والأفراد، والأسرة، والدواب، والشجر، والحجر من تلك المعاصي التي كانوا يفعلونها. فما كان ليهلكها بظلم وأهلها مصلحون، ونجزم بذلك لِماَ نُؤمن به من وعد الله ألا يهلكهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مبيناً كيف قصم الأمم التي ظلمت أنفسها {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15] فما زالت تلك دعواهم، أي ما زالوا يرددون {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14] حتى جعلناهم حصيداً خامدين، والسبب هو: أنهم من قرية كانت ظالمة {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء:12] لما أحسوا بالخطر والضياع والتشريد والدمار بدأت الصيحات وإنذارات الخطر تظهر يمنة ويسرة وأماماً وخلفاً، كلهم ينذرون صيحة الخطر {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء:15].

غفلة الأمم عن عذاب الله لها

غفلة الأمم عن عذاب الله لها ويقول: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مبيناً أن القرية التي ينذرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعقاب بسيط أو بإنذار يسير لا ترجع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن القوم تمر بهم النكبات والويلات من حولهم، ولا يعتبرون ولا يتعظون بمن حولهم، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] لا يرجعون إلى الحق والصواب، وكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرام عليهم؛ فعندما يرون عذاب الله، وعندما ينذرهم الله ببعض هزات خفيفة لا تؤثر فيهم الأثر العظيم ومع ذلك يبقون على ذنوبهم ومعاصيهم، حتى يأتيهم العذاب الأليم، هذه نُذُر كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المنافق مثل الحمار لا يدري فيم ربط ولا فيم أطلق} فهؤلاء حتى مع إنذارالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم فإنهم لا يفقهون ولا يرجعون ولا يعقلون، نسأل الله السلامة والعافية. وكذلك يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد:31] فهذا إنذار قارعة تصيبهم أو تحل قريباً من دارهم. هذه آيات الله فينا تتلى، نسأل الله أن يرزقنا الخشية والإنابة والتوبة والمعرفة والصدق والإخلاص. ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} [الطلاق:8 - 11] فبيَّن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصير القرية التي عتت عن أمر ربها، وبين في الأخير الذين آمنوا به وبرسله، وبيَّن نعمته ومِنَّته على المؤمنين؛ إذ أرسل لهم رسولاً يدلهم على الخير والطريق المستقيم، ويُحذِّرهم من طريق الغواية، والآيات أكثر من ذلك وأعظم، ولكن نكتفي بهذا القدر لنتطرق إلى نقاط أخرى. يقول الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي: الحمد لله الذي من رحمته وفضله بيَّن أسباب النجاة ويسرها وأوضحها وجلَّاها، وبيَّن أسباب الدمار والهلاك، لنجتنبها ونتوقاها، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمةً للعالمين، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ومن طريق الهلكة والدمار والخراب إلى طريق النجاة والسعادة والفلاح، وسدَّ من الحقوق والطاعات، كل طريق إلى الخير والنجاة والسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة إلا من طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد: لو تأملنا كتاب الله وقرأناه، هذا الكتاب المهجور إلا ممن رحم الله! لوجدنا أن موضوعاته جميعاً تنحصر في ثلاثة: إما الأمر بالتوحيد وما يتبعه من الحقوق والطاعات مع النهي عن الشرك وما يتبعه من المعاصي والذنوب. وإما خبر عما صار لأهل التوحيد والطاعة من النجاة والسعادة والفلاح، وخبر عما كان لأهل الشرك والمعاصي من الدمار والوبال والخسارة. وإما حال هؤلاء، وهؤلاء عند البعث يوم القيامة. فهذه هي موضوعات القرآن وكل ما في القرآن لا يخرج عن هذا.

فرحوا بما عندهم من العلم

فرحوا بما عندهم من العلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان وهو يعلم حاله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] فهو يعلم أن هذا الإنسان ظلوم جهول، ولهذا احتمل الأمانة وقبلها بعد أن أبت منها السماوات والأرض {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] هذا الظلوم الجهول لا بد أن يُذَّكر، وأن تتلو الذكرى ذكرى، والموعظة موعظة، ولكن ما أكثر العبر! وما أقل الاعتبار! والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قصَّ علينا من أنباء ما قد سبق، وذكر لنا حال الأمم، أين قوم نوح؟ أين عاد؟ أين ثمود؟ أين فرعون؟ أين تلك الأمم؟ وأين تلك الحضارات؟ وأين القرى التي عُمِّرت وسادت وبنت وأترفت في الحياة الدنيا حتى ظن أصحابها أنه لا يقدر عليهم أحد حتى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولهذا قالت أعتى تلك الأمم وهي عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} [فصلت:15] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أشد منهم قوة ولكنها الغفلة. لماذا تأتي هذه الغفلات؟ ولماذا نجد صورتها ما تزال حية واقعة إلى اليوم في هذه الدنيا؟ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فصل ذلك وبينه. من أعظم الأسباب التي تجعل القلوب تغفل عن الله عز وجل ولا تتعظ ولا تعتبر: أن يفرح الناس بالحضارة والتقدم والإنتاج والصناعة وما هم فيه من الترف والنعيم! {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ} [غافر:83]. يقولون: لماذا نطيع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلم لدينا إذا قيل لهم: أيها الناس! اتقوا الله وذروا الزنا واللواط والفحشاء تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، قالوا: لا نطيع أمر الله ولا أمر رسول الله، لدينا الأطباء، والعلم كل يوم يبحث لاختراع علاج لمقاومة الإيدز وما أشبهه، {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45] أي: عشر العشر، فالحضارات الماضية بلغت الشيء الذي لم تبلغ هذه الأمة منه عشر العشر، كل أمة تظن أنها أرقى الأمم في الحضارة، وأن ما عندها من العلم كافٍ لأن تنكر أمر الله وتعترض عليه ولا تتبعه، إذا قيل لهم: إن الله حرم الربا، قالوا: لا، عندنا علماء اقتصاد وعندنا خطط، وعندنا خبرات تكفي لأن نتوقى المخاطر التي تنجم عن الربا. {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وظنوا أن هذا العلم يكفي لاجتناب ما ينزل من أخطار؛ حتى عندما هُددوا بالأعاصير والزلازل فرحوا بما عندهم من العلم، قالوا: أصبح بالإمكان مراقبة الإعصار وهو ما يزال في المحيط الأطلسي أو المحيط الهادي، فلا يأتي إلى المدينة، إلا وقد أخذت جميع الاحتياطات والاستعدادات، والزلازل يمكن أن ترصد وهكذا، لكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يملي لهم كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] ولكن إذا جاء أمر الله تتبخر وتتبدد كل هذه الأوهام، ويذهب ذلك العلم والكبرياء فيه، ويركضون ولكن وراء السراب، حيث لا ينفع حينئذ إلا أن يتوبوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما أكثر الغافلين. وأما قصة قوم يونس التي سمعتم {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]. فهي قصة شاذة في تاريخ الأنبياء والأمم، أنَّ أمة تؤمن حال رؤية العذاب أو قرب رؤية العذاب، فمن رحمة الله أن يفتح الباب للتوبة وللاستغفار، ولكن قل من يتذكر.

أسباب انهيار الأمم

أسباب انهيار الأمم إذا تكبرت الأمم وطغت وانتشر فيها الفساد عاجلها الله بالعقوبة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر:6 - 10] ماذا عملوا، وما صنعوا؟ {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر:11 - 12] فكانت النتيجة {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:13 - 14] فما هو الفساد والطغيان؟ فأوجه الفساد والطغيان كثيرة، ولكن هل في البشرية من يتدبر ويعقل؟! العقلاء هؤلاء يرفعون العقيرة بالنذر، وهم قليل جداً في التاريخ. وبما أننا في عصر قد عُظِّمت فيه أوروبا وحضارتها الغربية المسيطرة على العالم، والتي تقوده إلى الدمار والهاوية؛ فلننظر ماذا قال علماء وباحثو الغرب ومفكروه العقلاء -وهم قلة- لما رأوا أمتهم تمضي إلى هذا الدمار والانهيار، تفكروا في حال أممهم وبحثوا عن أسباب الانهيار؟ وأسباب الفساد الذي أدى إلى من قبل في انهيار الامبراطورية الرومانية، وانهيار الحضارات.

الإعلان بالفاحشة

الإعلان بالفاحشة هناك رجل غربي يعرفه كل مفكر غربي، وهو المعروف بـ أرنولد توينبي، ويعتبر توينبي أكبر مؤرخ في هذا العصر، فقد درس جميع الحضارات، وأحصى الحضارات القديمة التي يمكن أن تعرف، واستطاع أن يجد أن هناك أكثر من إحدى وعشرين حضارة من الحضارات، بعضها استمر ألف سنة، وبعضها خمسمائة سنة، في أنحاء مختلفة من الأرض، ومنها الحضارات التي نعرفها جميعاً: الحضارة اليونانية، الحضارة الرومانية، الحضارة التي يسميها هو الحضارة العربية، ثم الحضارة الأوروبية، هذه الأربع المعروفة الآن في التاريخ، وما قبلها مندثر منقرض، ومن آخر الحضارات حضارة لم تنقرض إلا قبل خمسمائة سنة في أمريكا الجنوبية، وما تزال أعلامها ماثلة إلى اليوم، فوجد أن كل هذه الحضارات في التاريخ المكتوب تنهار وتنقرض وتدمر بأسباب منها: أن تخرج المرأة وتترك وظيفة الأمومة، وينتشر التبرج والزنا، فمن تتبع سقوط هذه الحضارات وجد أن السبب هو هذه الظاهرة. انقرض اليونان لأن المسارح أصبحت علناً، وانتشر فيهم الاختلاط والخمر والزنا والتبرج! وكذلك الحضارة الرومانية وقد كان من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية في بغداد انتشار المعاصي والذنوب، كما شهد بذلك أعداء الإسلام وهم كفار، حتى أن الخليفة -الذي كان في بغداد لما دخلها هولاكو وحاصرها- كان قد كتب إلى أمير الموصل يقول: 'بلغنا أن مغنياً مشهوراً عندكم أوجد نغمات جديدة في السلم الموسيقي، فنريد أن تبعثوا به إلينا' وكان اسمه صفي الدين. فسبق دخول هولاكو دخول ذلك المغني، فحصل الدمار، وقُتل من المسلمين على أيدي أولئك الوثنيين وبتعاون من الروافض الملاعين أكثر من مليون وقيل: مليوني رجل، وأقل ما قيل إنهم ثمانمائة ألف قتلوا من المسلمين في بغداد من أهل السنة ومن خيار أهل السنة، فلما انتشرت المعاصي وانتشر الترف والتبرج والغناء، كانت النتيجة هي الدمار والخراب. وهذا رجل غربي آخر يدعى توينبي: " الحضارة الغربية اليوم سوف تنهار لأنه ينتشر فيها شرب الخمر" فذكر أحد الأسباب: شرب الخمر، والسبب الآخر الذي ذكره قال: ' إن أوروبا سوف تصبح أقلية بين الشعوب ولهذا تنهار أوروبا '.

الكفر بالله من أعظم أسباب الانهيار

الكفر بالله من أعظم أسباب الانهيار نحن نعلم أن السبب هو: الكفر بالله عز وجل، وأما باقي ذكره فهي أسباب عرضية أو فرعية، فلماذا تصبح أوروبا أقلية؟ في جميع البحوث التي أجريت في أكثر من دولة أوروبية، تبين لهم أن السبب في نقص عدد السكان وكثرة عدد الوفيات بالنسبة للمواليد هو: خروج المرأة لتعمل ولتشارك الرجل في العمل، فلما خرجت لم تتزوج، واكتفت بالعشيق فلم تنجب، فكانت النتيجة أن عدد المواليد أقل من عدد الوفيات، وبالتالي ستصبح هذه الأمة أقلية، فمن سنن الله أنه لم يجعل الدمار والانهيار فجأة بغير مقدمات وبغير أسباب تؤدي إلى نتائج. وأما أرنولد شبنجلر المؤرخ الألماني الذي أصدر كتاباً ضخماً في ثلاث مجلدات عن تدهور الحضارة الغربية وانحطاطها، مع أن هذا الرجل توفي عام 1923م أو قريباً من ذلك، قبل أن يصل الفساد إلى ما نراه اليوم -يقول هذا الرجل: 'إن خروج المرأة من البيت هو المنعطف الخطير الذي إذا وصلت إليه أي حضارة من الحضارات بدأت بالسقوط، وبدأت بالانهيار'. ويضرب لذلك مثالاً ببطلة إبسون - إبسون هو أديب من أدبائهم- يقول: ' إذا أصبحت بطلة إبسون هذه هي النموذج للمرأة الغربية، فالحضارة الغربية سوف تنهار ' وهذا ما وقع والانهيار حاصل، فقد أنطقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما تدبروا ولما تأملوا والأمثلة على ذلك كثيرة.

الترف من أسباب الانهيار

الترف من أسباب الانهيار من أسباب الانهيار التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: انتشار الترف، ولهذا فإن أول من يرد دعوة الأنبياء هم المترفون، كما قال تعالى: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34]، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام:123] فأكابر المجرمين المترفين يردون الحق والدعوات وواعظ الخير، لأن ترفهم قد ران على قلوبهم، فالترفُ وحبُّ الدنيا يُقسِّي القلب، فلا يطيق صاحبه أن يسمع شيئاً عن الآخرة، هذا الرجل المترف الذي هذا حاله، لو جلست معه أو جلس أمام أي منظار أو مرآة أو مشهد ساعات فإنه لا يمل، ولو جاءه رجل يذكره بالموت خمس دقائق لملَّ ولخرج، لا يريد أن يسمع ذكراً للموت، ولا يريد أن يسمع ذكراً للآخرة -نسأل الله العفو والعافية- قست قلوبهم، حتى إذا جاءهم العذاب، فإنه يأتيهم وهم في تلك القسوة {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:24 - 25] هكذا قسوة القلب {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُم} [الأنعام:43]. يقول الحسن البصري رحمه الله: [[يا أهل العراق لا تدفعوا عذاب الله بأيديكم وأرجلكم، ولكن ادفعوه بالتوبة إلى الله، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]:]] تضرعوا إلى الله وتوبوا إليه يكشف ما بكم من سوء ويبدل حالكم. يقول مالك بن دينار: [[ذهب أهل البصرة يستسقون فلم يمطروا، فعادوا وقالوا: عجباً والله! استسقينا ولم نمطر، قال مالك: سبحان الله! ستبطئون المطر، أما والله إني لأستبطئ الحجارة من السماء]]. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما جعل للمطر وللنعم سبباً إلا الاستغفار {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] استغفروا الله وتوبوا إليه [[تستبطئون المطر، أما والله إني لأستبطئ الحجارة من السماء]] هكذا يقول مالك بن دينار رحمه الله في عصر الخير، في القرن الأول أو بداية الثاني، وأين نحن من هذا؟! رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى غيماً أو سحاباً يخاف ويصفر وجهه، وكأن عذاباً سينزل، وأولئك الذين قست قلوبهم يقولون: (عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) فلنقارن بين الحالين، ولننظر في واقعنا، هل نحن أقرب إلى حال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخوف من عذاب الله وتوقع عذاب الله بسبب ذنوبنا ومعاصينا، أم نحن أقرب إلى قسوة عاد، ونظرتها إلى كل هذه الأمور أنها ليست إلا عوارض، أو أمور تنتهي؟

البطر من أسباب الانهيار

البطر من أسباب الانهيار من الأسباب الأخرى والعوامل التي تنخر في كيان الأمم والشعوب البطر والملل من الحياة الرغيدة الهنيئة، فقد ذكر الله تعالى لذلك مثالاً لأمة عجيبة ذكرها القرآن تفصيلاً وهي سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:16] جنة عن يمين وجنة عن شمال كلوا واشربوا من هذه النِعم، بلدة طيبة معطاءة، ورب غفور يغفر الخطايا، استغفروا وكلوا وتمتعوا، فماذا كانت النتيجة؟ أعرضوا! وهذا الإعراض هو الذي دمر الأمم، فماذا كان من تلك الجنات؟ وأين ذهبت؟ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16]. لقد رأيت هذا بعيني، وإنها لعبرة لمن يذهب إلى هنالك، وأنت ترى ما ذكره الله من الأثل والسدر القليل، في تربة يزيد سمكها عن عشرة أمتار، من أجود أنواع التربة، ولا ينبت فيها شيء إلا الأثل وشيء من سدر قليل، كما أخبر الله، والماء يجري إلى اليوم، وإذا جاء السيل فإنه يجري جرياناً كأنه نهر عظيم، والتربة خصبة ولا يوجد إلا أثل وشيء من سدر قليل، فالذنوب وأثرها يتعدى إلى الأرض فلا تنتج بل تجدب، يتعدى إلى الدواب، فتعذب البهائم بالقحط، وتعذب بالزلازل والغرق، فما ذنب البهائم؟! لا ذنب لها، ما الذنب إلا ذنب من عصى الله عز وجل وجاهر الله تبارك وتعالى بالمعاصي وأعلنها، فهذا هو البطر. ماذا قالت سبأ لما بطرت النعمة: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:18] حكمة من الله ورحمة منه أن أعاد لهم مرة ثانية شيئاً من الخير في الأرض، وجعل بينها وبين القرى التي بارك فيها - بلاد الشام - قرىً ظاهرة {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:18] تجارة وأمن وقرى ظاهرة، تمشي في الصباح من قرية وتبيت في قرية، فماذا قالوا؟ {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19] يريدون المشقة والتعب ويريدون أن يتذوقوا متعة الرحلات. فحالة البطر والملل التي تصيب الإنسان معروفة اليوم حتى عند علماء النفس والاجتماع، لو وجدت شاباً نشأ في ترف لا تصادفه أي مشكلة أبداً، كل شيء مهيأ له تجد أنه يحاول أن يفتعل مشكلة كبيرة يجرها على نفسه أو على أبيه أو على المجتمع، حتى يعاني من مشكلة، فهو لا يريد أن يعيش من دون مشاكل. هذه حالة هؤلاء القوم {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [سبأ:19] أين هم؟ لم يبق من أولئك القوم إلا أحاديث يتحدث بها في المجالس، ذكريات عابرة، هذا الذي بقي من أمة عظيمة كانت تطغى وتتجبر على خالق الأرض والسماء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما عصت الله عز وجل {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق} [سبأ:9] فهذه حالتهم.

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك أكابر المجرمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، إذا تآمروا وإذا تُرِكَ لهم الحبل على الغارب، وأطلق لهم العنان، ولم يضرب على أيديهم، ولم يؤطروا على الحق أطرا، فهذا من أعظم أسباب دمار الأمم والشعوب. يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم صالح: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:48 - 49]. فالذين كانوا يمثلون دور أكابر مجرميها، ودور مترفيها، كانوا تسعة، وقالوا: لا بد أن نقضي على صالح، ولا بد أن نقضي على الناقة، فانطلق أشقاها فضربها بسهمه، فماذا كانت النتيجة؟ {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51] دمر التسعة ومن معهم! وما ذلك إلا لأن العاقل لم يأخذ على يد السفيه، ولم يضرب عليه.

المحاباة في حدود الله

المحاباة في حدود الله بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبباً عظيماً من أسباب هلاك الأمم ودمارها، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ' إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه} إذا عطَّلنا أحكام الله عز وجل مراعاةً لحال فلان (هذا قريب) (هذا بعيد) (هذا شريف) فتدخل الشفاعة في حدود الله، وتقام على الضعفاء ولا تقام على الكبراء، فهذا مما يمهد لكي يكون المترفون أكثر قوة وتمكناً، حتى أن أحدهم لا يخاف من أي شيء، لأنه مطمئن أن أي شيء يقع فبيده أن يتخلص منه، فإن خُوِّف بعذاب أو بأمر أو بعقوبة، قال: العقوبة أستطيع أن أدفعها، وإن خوف بالفقر فهو يرى أنه أغنى من في المجتمع أومن أغنى الناس، وهكذا البطر حين يأتي إلى هذه القلوب. فالأمة التي تقيم حدود الله على ضعفائها ولا تقيمها على أشرافها أمة معرضة للهلاك والدمار، فلا بد من إقامة أمر الله وحدود الله على الصغير والكبير، حتى ينزجر الناس ويرتدعوا، فتسلم بذلك الأمة، وتنجو من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن عقوبته، وبغير ذلك فإن الناس لا يزدادون إلا قسوة، مهما رأوا من نذر العذاب، فإن القلوب إذا قست وإذا غفلت عن الله لا يؤثر فيها عبرة ولا موعظة، فهذان مثلان حالهما واحد.

مجاهرة الله بالمعاصي

مجاهرة الله بالمعاصي يقول سد سد قائد جيوش الانجليز في الحرب العالمية الثانية: ' لما كانت الطائرات الألمانية تضرب لندن كل يوم، وتنزل عليها الأمطار من القنابل، اضطر الناس إلى أن يضعوا المسارح والمراقص تحت الأرض ويقول العاملون فيها: إن الإقبال على المراقص وعلى المسارح وعلى شرب الخمر تضاعف، ويتضاعف عند القصف الألماني على البلد'. وفي بلد آخر عربي ما هو منا ببعيد نفس المشكلة، يقولون: إن المراقص والمسارح تحت الأرض، فإذا تقاتلت المليشيات، ينزلون فيسكرون ويرقصون، فإذا أُعلنت هدنة مؤقتة عادوا إلى بيوتهم! لا تظن أن الإنسان إذا ابتعد عن الله يمكن أن يعظه أي واعظ أو أي زاجر، ولهذا لما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمم التي أهلكها، وما تركت من آبار معطلة وقصور مشيدة قال بعد ذلك: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فالقلوب إذا عميت ترى الآثار شاخصة ولكنها لا تعتبر ولا تتعظ، يمر بقصر مهجور، وببئر معطلة، ويمر بآثار العذاب -وقد يكون قريب منه ولكنه في غفلة، ولو عرضت عليه أسباب اللهو، لانتهزها فرصة، وترك العبرة والموعظة، وهذا لا يفعله حيوان، فالحيوان إذا رأى حيواناً يذبح فإنه يفر، ويخاف، وأما هؤلاء الناس فإنهم يرون الدمار والخراب، ويستمرون في معصية الله ويعرضون عن طاعة الله وذكره، ولهذا كان التهديد من الله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] في أثناء هذا الليل الطويل من السكر والعربدة واللهو {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] اللعب العام، فحياتهم كلها لعب، أو اللعب الخاص حين يجتمع في الملعب خمسون ألفاً أو مائة ألف ليس فيهم من يصلي -نسأل الله العفو والعافية- فماذا يريدون؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. نعوذ بالله من الأمن من مكر الله، ونعوذ بالله من الخسارة والدمار، ونسأل الله تعالى أن يحفظنا، وأمتنا، وإخواننا المسلمين من أسباب عقوبته وانتقامه، وأن يردنا إليه رداً حميداً؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

وسائل الوقاية من الانهيار

وسائل الوقاية من الانهيار يقول الشيخ عبد الله المحمدي: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد: إن علاج هذا الموضوع بسيط جداً، ويتلخص في اتباع كلام الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأول علاج هو عدم الشرك بالله، ثم عدم الابتداع في دين الله، ثم عدم الاختلاف بين المسلمين، وهذه سوف أترك الكلام فيها على الشيخ سفر، لكن أطرق علاج المشكلة من جوانب اجتماعية حذَّر منها الله ورسوله والإسلام.

محاربة الزنا

محاربة الزنا فأول هذه المشاكل الاجتماعية التي تؤدي إلى انهيار الأمم وإلى الخسف والمسخ هو الزنا، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عنه ابن عباس: {إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله} رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. وكذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه ابن عباس: {ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت}. وكذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ترويه ميمونة رضي الله عنها: {لا تزال أمتي بخير ما لم يفشُ فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب من عنده} رواه الإمام أحمد. ويقول ابن القيم رحمه الله: 'إن الزنا من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة، ولما اختلطت البغايا بعسكر موسى عليه السلام وفشت فيهم الفاحشة، أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يوم واحد سبعون ألفاً' فعوامل انهيار الأمم تكمن في موتهم بطاعون أو بغير ذلك. وإن أعظم نتائج الزنا اليومك انتشار الأمراض الجنسية وغيرها، من الزهري والسيلان والهربز والإيدز، هذه التي بدأت تفتك بالمجتمع الغربي اليوم حتى بدأت جذورها تنتقل إلينا. إننا في معالجة هذا الموضوع لا بد أن نضع نصب أعيننا أن نمنع الفاحشة بين المؤمنين، فإن الفاحشة ما انتشرت في قوم إلا عمهم الله بعقاب أو عمهم بمرض أو طاعون، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكمن ذلك في تطبيق حدود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجلد الزاني إن كان غير محصن، أو برجمه إن كان محصناً، فوجود هذا الأمر هو أكبر علاج في القضايا الاجتماعية.

محاربة الربا

محاربة الربا لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] فأسباب الهلاك أن نعاند الله وأن نحاربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكم من ربا في ديار المسلمين، وكم من المسلمين ممن يتعامل بالربا، حتى أصبحت البنوك الربوية تتفاخر، وأصبح أحدهم يُعلن عن قيامه منذ خمسين عاماً، ويعلن الآخر عن قيامه منذ ستين عاماً، ويعلن له في جميع الصحف والمجلات، وأصبح الكثير منا يؤمن بالربا ويتعامل به، ويحث عليه، نسأل الله السلامة والعافية!! أليس هذا مرضاً خطيراً وداءً عظيماً، إن من أسباب العلاج إن أردناه أن ننبذ ما سوى شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالربا والزنا وكل ما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

القضاء على شرب الخمر

القضاء على شرب الخمر الخمر أم الخبائث كما سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس هناك مجال لأذكر لكم الآيات والأحاديث في تحريمها، ولكن أبين لكم الجانب الذي تهدم فيه الخمر الأمم والشعوب. أذكر لكم إحصائيات في دول أوروبا حيث انتشرت هناك الخمر، إحصائية تقول: إن (66%) من جنايات الاعتداء على الأشخاص مرتكبوها هم من مدمني الخمر؛ لأن الذي يشرب الخمر يعتدي ويقتل، فهذا سبب من أسباب انهيار الأمم، وإحصائية أخرى تقول: نسبة المدمنين من مجرمي العنف (82%) وفي جرائم القتل (53%) ممن قتلوا بسبب الخمر، وكذلك في التشريد، والمتشردين، والمتسولين (80%) من الخمر.

الحد من عمل المرأة

الحد من عمل المرأة فقد بدأت تظهر في المجتمع علامات هذا الداء، ألا وهو خروج المرأة، وتبرجها، وسفورها، وخروجها إلى العمل؛ بل الأعظم من ذلك أننا جميعاً نعلن ذلك في صحفنا وإعلامنا وندعو نساءنا إلى التبرج، والسفور، وأن يتكلمن أمام الملأ، وندعوهن إلى كشف الوجه، وإلى الفن والأدب، ونطرق لهن أبواباً لم تطرق من قبل، حتى دعا بعضهم النساء والفتيات إلى الرياضة، والأندية الرياضية. إنه -والله- كما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء} إذا خرجت المرأة كما حدث في المجتمع الغربي، وشاركت الرجل في عمله، وخرجت ماجنة متعطرة فاجرة فاسقة، تضرب بالمثل والدين والقيم عرض الحائط، فعند ذلك لن يتربى جيلنا تربية إسلامية، ولا شبابنا أيضاً، ولن يجد الشارع المسلم الذي يمنعه من الرذيلة، فينبغي علينا جميعاً أن نتقي الله في نسائنا، وبناتنا وأخواتنا، وفي كل قريبة لنا، وأن نمنعهن من أن ينجرفن أمام الدعايات الفتاكة، والحياة الفتانة باسم الحرية والفن والتقدم وعدم الرجعية، كل ذلك يدعو شبابنا وشاباتنا؛ لأن ينجرفوا أمام الملهيات والمغريات، فلنتق الله، ولنعلم أننا مسئولون عن ذلك، فإن هذه الأمة تقدم على أمر خطير بيد قوم لا يرعوون عن مخالفة أمر الله فيها، ولا ينصاعون لأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي الأخير أذكر لكم بعض النقولات، يقول باتلر وموريل، -وهما طبيبان أوروبيان-: 'يذهب الوالدان للعمل خارج البيت، ويتركان الأولاد المراهقين ليعتنوا بأنفسهم مما أدى إلى ضعف الصلات العائلية' أي: أن ذلك يؤدي إلى تفكك الأسرة والمجتمع، وضياع الأمة، ويؤدي إلى ترك الزوجة لزوجها، واتخاذ خدين لها، وإلى أن تتعرف البنت على صديق وعشيق لها، وما إلى ذلك! أترك المجال لنقاط أخرى في علاج هذه القضية، وأسال الله الكريم أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والسداد.

التوبة والاستغفار

التوبة والاستغفار يقول الشيخ/ سفر الحوالي: الحمد لله رب العالمين؛ فإن من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العالمين أنه جل شأنه يقبل من أناب وتاب مهما عصى وفَجَرَ، ومهما عمل من السيئات، فاللحظات والأيام والليالي التي تسبق نذر العذاب هي أغلى ما تملكه أي أمة من الأمم أو فرد من الأفراد، فأغلى ما في حياة الإنسان هي تلك اللحظات التي تسبق نذر العقوبة بأن يتوب إلى الله ويستغفره. إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من كرمه وجوده فتح باب التوبة، لأعدى أعدائه الذين حرقوا أولياءه وشقوا لهم الأخاديد وألقوهم في النار {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج:10] يفتح باب التوبة لمن يحرق أولياءه المؤمنين الموحدين أحياء في النار، فما بالكم بمن كان ذنبه دون ذلك كالزنا أو الربا أو ما أشبه ذلك من المعاصي؟

القيام بتحمل المسئولية

القيام بتحمل المسئولية الحل بأيدينا فلا يقل أحدنا: الحل عند فلان، والمسئولية على فلان، فإن من أعظم الأدواء ومن أكثر أسباب انتشار واستشراء أسباب الدمار والهلاك أن نلقي بالتبعة وبالمسئولية على جهة معينة أو شخص معين، حتى مسئولياتنا في البيت قد يلقيها الرجل على الزوجة والأولاد، لا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته} فابدأ بنفسك تجد الحل، وانظر إلى تقصيرك في طاعة الله -عز وجل- وزن نفسك بالميزان الصحيح، فستجد أن ما فيك من الذنوب جدير وحقيق بالعقوبة، وأنك إن تبت إلى الله عز وجل فسوف تجده غفوراً رحيما، وكلنا ذلك الرجل، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، وأن ننظر إلى ذنوبنا، وإلى حال غيرنا من الناس نظرة النصح والإشفاق، لا أن نحملهم كل المسؤوليات ونترك أنفسنا، فالحل هو الاستغفار والتوبة. قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] لما آمنوا كشف الله تعالى عنهم العذاب، وقد كان وشيك الوقوع. فنحن والله اليوم يوشك أن يعمنا الله بعذاب، فهذه الأرض، قد امتلأت بالخطايا والفجور والفحشاء بما لم يعهد في التاريخ المكتوب أبداً، فالحل أن نستغفر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأن نتوب إلى الله: أولاً: من الذنوب الكبار، من الشرك بالله تعالى، فهو أعظم ذنب عُصِيَ الله به، ونخلص في عبادتنا ودعائنا وخوفنا ورجائنا، وإنابتنا وتوكلنا لله رب العالمين، لا شريك له، ثم نتوب من الابتداع في دين الله والقول على الله تعالى بغير علم، والزيادة والنقصان في شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نتوب من المعاصي التي زجرنا عنها الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نتوب إلى ربنا توبة صادقة، ونتبع السيئة الحسنة، سنجد أن الخير والنعمة والرخاء يعود إلينا، ويعمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنعيم بعد العذاب. عندما نقول: الفرد، والمسئولية الفردية، ونؤكد عليه، فإن السبب في ذلك أننا دائماً ننظر إلى أخطاء الآخرين ولا ننظر إلى أخطائنا، فكلٌ منا اليوم أصبح يشكو الوضع الاقتصادي، حتى أصبحت ظاهرة عامة في المجالس، فلماذا بدلت بعد ذلك بالترف والبطر؟ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] لقد غيرنا، لاحظوا لماذا هذا النقص الاقتصادي الذي حصل؟ لقد قرأت إحصائية لوزارة المالية ووجدت فيها أن المملكة تستهلك من الدخان ما قيمته ألف ومائتي مليون ريالاً سنوياً!! لقد أحللنا بأنفسنا العقوبة، انظروا إلى الأفلام أو أشرطة الغناء، كم يصرف كل إنسان على هذه المعاصي؟ قبل سنوات ما كان هذا الباب يستهلك، والآن كم يشتري كل واحد بالإضافة إلى إيجار المحلات، ومزاحمتها في الأسواق ومنافسة الناس على ذلك صار سبباً من أسباب الغلاء، فهو بسيط لكن له أثر كبير أيضاً. المشاغل الرجالية التي يذهب إليها النساء أفواجاً وراء أفواج، كم ينفق فيها من الأموال، محلات الأزياء والعطورات، ومحلات التجميل ومشاغل الخياطة، كلها حول شيء واحد، فالمرأة المسلمة لا تتزين ولا تتجمل إلا في البيت لزوجها، فلما عصينا الله عز وجل، وأصبحت المرأة تتزين إذا أرادت الخروج، فكم من الملايين سوف نخسر نتيجة هذه المعصية التي لا يرى كثير من الناس كما أنها معصية، بل معصية خطيرة، ويترتب عليها أضعافاً مضاعفة من الخسارة في الدنيا والآخرة، وهؤلاء الخادمات كم يستهلكن من مال سنوياً؟ وأولئك السائقون كم ندفع لهم سنوياً من الملايين. ثم نقول: نحن في أزمة! لا والله. نحن اختلقنا هذه الأزمة، وأوجدناها وأحللنا عقوبة الله بأنفسنا وبأيدينا؛ لأننا لم نتب إلى الله ولم نستغفر الله، وارتكبنا ما حرم الله، لو ألغينا كل هذه الأشياء من حياتنا: لو ألغينا الدخان، ومشاغل الخياطة الرجالية، ومحلات بيع الأغاني، ومحلات الفيديو، والتعامل بالربا والفوائد الربوية، والخادمات الأجنبيات، والسائقين الأجانب وبالذات الكفرة، واقتصدنا في استيراد العمال الكفار من بلادهم، بالله كم من الملايين سنوفر؟ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] يريد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فنحن أولى بهذه الآية، فعلى الإنسان منا أن يكون حسيب نفسه قبل أن يحاسب، وما أكثر ما نحتاج أن نحاسب أنفسنا في هذا. نسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، إنه سميع مجيب.

استقبال شهر رمضان

استقبال شهر رمضان إن من سنة الله الجارية في خلقه أنه فاضل بين عباده وبين مخلوقاته، وهذا التفاضل لا يكون إلا لحكمة ربانية، وإن من الأزمنة المفضلة عند الله شهر رمضان، فهو شهر الصبر والتقوى والجهاد والكرم، وكان الصحابة يتخذونه متجراً للحسنات وفرصة لرفع الدرجات، ويقبلون فيه على قراءة القرآن والصدقة، والناس في هذا الشهر يتباينون فمنهم من يستغل أوقاته في التزود من الطاعات والقربات، ومنهم من يتردد في الشهوات والمحرمات. ولعلنا ندرك أن الحكمة من فرض الصوم هو السمو بالنفس وتطهير القلب وتزكيته، فيجب على المسلم استغلال هذا الموسم في تغيير مسار حياته باتخاذ الوسائل المؤدية إلى ذلك كمحاسبة النفس والصبر، والسعي إلى إصلاح الذات، وتغيير مظاهر الفساد المتفشية في المجتمع المسلم في جميع مناحي الحياة.

المفاضلة بين المخلوقات

المفاضلة بين المخلوقات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: إن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الإنسان، وخلق الملائكة، وخلق الليل والنهار، وهو كما قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]. فاختار الله تبارك وتعالى من فضَّله على غيره من مخلوقاته. فاختار محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضَّله على سائر البشر، وفضَّل بعض النبيين على بعض. واختار هذا البلد الحرام مكة وفضلها على جميع الأرض. واختار جبريل عليه السلام وفضَّله على الملائكة. واختار أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلهم على جميع الأمة. واختار من الأزمان كما اختار من الأمكنة، فاختار هذا الشهر العظيم -شهر رمضان- وفضله على سائر الأيام والشهور. واختار -أيضاً- من هذا الشهر العشر الأواخر. واختار من العشر ليلة القدر، فليس في ليالي السنة ليلةٌ هي أفضل من ليلة القدر، وليس هناك من ليالٍ هي أفضل من الليالي العشر. وأما الأيام؛ فإن أفضل أيام العام أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، فتلك أفضل الليالي وهذه أفضل الأيام، كما رجح ذلك بعض العلماء، ومنهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- جمعاً بين الأقوال في التفضيل. وذلك أن لهذه الليالي من ليالي رمضان فضل عظيم اختصت به من حيث العبادات، كما أن أيام الحج امتازت عن سائر الأيام بكثير من العبادات {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]. والله تبارك وتعالى جعل الليل والنهار يتعاقبان كما قال: {خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فالإنسان يتبلد إحساسه ويغفل، إذا كان على حالة واحدة، فإذا تغيرت الحالة بحالة أخرى، كان ذلك أدعى إلى أن يفكر ويستيقظ وينتبه!! وجعل الله تبارك وتعالى فصلاً للحر، وفصلاً للبرد، وبين ذلك فصلان؛ لكي يتذكر الإنسان. قال تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:62] فهذه ذكرى حاضرة، ثم قال: {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] أي: أن يشكر الله تبارك وتعالى، والشكر يشمل جميع العبادات والطاعات. والإنسان لو تأمل في أمر واحد من هذه الأمور لكفى، فلو أن الخلق تأملوا في طلوع الشمس وفي غروبها، وفي إدبار الليل وإقبال النهار، لكفاهم ذلك، ولكانت ذكرى وأيما ذكرى. لكن القلوب إذا تعودت شيئاً غفلت عنه ونسيته، فقليل من الناس من يُفكر ويعتبر بمرور الليل والنهار؛ لماذا؟! لأنه أمر متكرر، ولكن أولياء الله وعباد الرحمن، ومن كان قلبه معلقاً بالدار الآخرة لا تزيدهم إلا عبرة وعظة، فتتجدد لهم العبر والعظات بتجدد الليالي والأيام. فما هذه الأيام والليالي إلا رواحل، تنقلنا من دار إلى دار، وتقربنا من دار هي الدار الآخرة، وتباعدنا عن هذه الدار الدنيا، لكن من الذي يستشعر ذلك؟! وكما قال بعض السلف: الأيام والليالي خزائن، فضع في خزينتك ما شئت، فسوف تلقاه. فإن وضعت ذهباً وفضة، وجدت النهاية هناك ذهباً وفضة، وإن وضعت تراباً أو فحماً أو حصىً، وكذلك فإن الخزائن هناك إذا فتحت تجد فيها ما وضعت، فهذه الليالي والأيام هي بهذه المثابة.

مكانة شهر رمضان

مكانة شهر رمضان وإن الله تبارك وتعالى قد فضَّل هذا الشهر على سائر الشهور، وكان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهم أكثر الأمة اجتهاداً وعبادةً واعتباراً واتعاظاً- يقدرون لهذا الشهر قدره؛ تأسياً واقتداءً بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذا الشهر هو شهر الصبر وشهر التقوى وشهر الكرم والجود، وإن ديننا هذا يقوم على أمرين: على الصبر وعلى الشكر، وأساس ذلك اليقين، لهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[الصبر شطر الإيمان، واليقين الإيمان كله]].

رمضان شهر الصبر والجهاد

رمضان شهر الصبر والجهاد نعم! إنه شهر الصبر؛ لأنه يصبر الإنسان على الطاعة، ويصبر عن المعاصي، فإنه قد يفتن في نفسه وفي شهوته وفي جوارحه؛ فيكف ما كان يستمتع به، كما أمر الله تبارك وتعالى وكما شرع، إلى أن يأذن الله بأن يستمتع ويأكل. وهو -أيضاً- شهر الجهاد: والجهاد من الصبر، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا في هذا الشهر غزوتين، هما أعظم الغزوات جميعاً: الأولى غزوة بدر؛ فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خرج من المدينة في الثاني عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، وهو أول رمضان صامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي اليوم (17) منه كان يوم الفرقان، وكانت معركة بدر الكبرى التي خلدها الله تبارك وتعالى في القرآن، ورفع أصحابها على سائر الأمة. وأما الغزوة الأخرى: فهي فتح مكة المشرفة، هذا البلد الحرام الأمين فتحها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وكانوا في شدة الحر، لهذا أمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإفطار شفقة عليهم.

رمضان شهر التقوى

رمضان شهر التقوى وهو كذلك شهر التقوى؛ فالله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. فالتقوى هي غاية كل عبادة، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}. فالعبرة في العبادات كلها بالتقوى، وليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، أو بمجرد الانحناء في الركوع والسجود، أو بمجرد أن يذبح الإنسان أو يحجَّ أو يتصدق كما في قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، فالأساس هو التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. ومن هنا كان اهتمام السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم باستقبال هذا الشهر، وبمعرفة ما يصلح قلوبهم فيه أعظم الاهتمام. ولو أننا قارنا بين حالنا وحالهم لرأينا العجب العجاب والبون الكبير!! اعلموا أن كل إنسان منا هو في الحقيقة تاجر، وبضاعتك هي عملك الذي تقدمه كل يوم، وسوف تعرف الربح والخسارة إذا نُصبت الموازين يوم القيامة، فهنالك يظهر الرابحون الفائزون، ويظهر الخائبون الخاسرون. وبما أن كل إنسان منا تاجر؛ إذاً فكيف نتاجر مع الله؟! أقول: إن الله تبارك وتعالى قد جعل لنا -نحن التجار- مواسم للتجارة، وكل أيام العام فيها تجارة؛ لكن هناك مواسم زمانية -كشهر رمضان- تضاعف فيها الأرباح، وتكون التجارة فيها أعظم منها فيما سواها. وكذلك جعل مواسم مكانية لهذه التجارة، فهناك أمكنة للتجارة أرباحها مضاعفة أضعافاً كثيرة عن غيرها من الأمكنة؛ فالبلد الحرام الطاعة فيه مضاعفة. فمثلاً: الصلاة في المسجد الحرام ليست كالصلاة فيما سواه لشرف المكان. وأيضاً: فإن شرف الزمان -كما هو الحال- في شهر رمضان له أثره في أن تكون الطاعة أكثر أجراً وأكثر قبولاً، فجعل الله تعالى هذا الشهر موسماً لذلك؛ ولهذا لما علم الجيل الأول بذلك، ظهر هذا في أعمالهم وفي حياتهم، فقد ورد أن الصحابة الكرام كانوا يدعون الله تبارك وتعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان؛ فإذا صاموه دعوا الله تبارك وتعالى ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان. فالحول كله تفكير في رمضان واهتمام بشأنه، إما استقبالاً له، وإما رجاءً أن يُتَقَبَّلْ؛ لأنه أشرف ما في العام، فكان الصحابة الكرام يتاجرون طوال العام بالذكر، وبالجهاد، وبقراءة القرآن، وبالصدقة، وبالتفكر في ملكوت السموات والأرض؛ لكن! إذا جاء هذا الشهر؛ ضاعفوا ذلك وغيَّروا طريقة حياتهم، واستقبلوه استقبال البصير العالم بقيمته وأهميته.

الاستغلال الأمثل لرمضان

الاستغلال الأمثل لرمضان كان العلماء من السلف وهم الذين أناروا للأمة طريقها بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وببيان الأحكام، وهم الذين قاموا مقام الأنبياء، وورثوا ميراث النبوة، {وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم}. فهؤلاء العلماء كانوا إذا جاء شهر رمضان، يتركون العلم، ويتفرغون لقراءة القرآن، حتى قال بعضهم: [[إنما هما شيئان: القرآن والصدقة]]. وكان الإمام الزهري رحمه الله تعالى كذلك. وكذلك كان الإمام مالك، وهو ممن تعلمون منزلته وقيمته واهتمامه بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمه له، حتى إنه كان لا يحدثهم إلا وهو على وضوء ويبكي ويتخشع، وكان يقدِّر ويُجل حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ومع ذلك كان إذا دخل رمضان، لم يشتغل بالحديث بل يترك الحديث ويقبل على القرآن. وكذلك كان سفيان الثوري رضي الله عنه، وغيرهم من السلف كثير، ممن كانوا ينظرون إلى أن هذا هو موسم الخير تترك فيه الأعمال الفاضلة إلى ما هو أفضل منها، فهذا حالهم وهذا شأنهم.

الناس في رمضان

الناس في رمضان لكن كيف يستقبل المسلمون اليوم شهر رمضان؟! لنكن صرحاء ولنبدأ بأنفسنا، وكيف نستقبل شهر رمضان؟! إن الأمة الإسلامية بأفرادها من: (تجار - موظفين - عمال - أصحاب شهوات - أخيار) يستقبلون هذا الشهر فكيف يستقبل التجار هذا الشهر؟!

التجار في رمضان

التجار في رمضان ونقصد بذلك: التجار الذين يتاجرون بالدرهم والدينار، لا بالأعمال؛ كيف يستقبلون شهر رمضان؟! هل يقولون: قد جاء شهر الخير والبركة، فلنتصدق ولنؤد الزكاة، ولنحذر من الحرام، ومن الغش، ومن الربا؛ لأننا في شهر عظيم، وإذا صمنا دعونا الله تبارك وتعالى، ونحن نأكل الحرام من أي مصدر كان! فيكون حالنا كحال ذلك الرجل الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟!}. وأعجب من ذلك أن بعض التجار ينتهزها فرصة؛ لزحمة الناس ولكثرتهم ولإقبالهم على المطعوم والمشروب وسائر الكماليات؛ فينتهزها فرصة للغش في شهر رمضان، وقد يأتي الغش بألوان متعددة. فمن الغش: التخفيضات الكاذبة. ومن الغش أيضاً: إخراج البضاعة التي تقادم عهدها وانقضى أوانها، فيقول: هذا رمضان والناس تشتري ولا ترى!! اخرجوا كل ما في المستودعات وبيعوا منها!! فيكون موسماً للغش، وموسماً للتجارة الخاسرة في الدنيا والآخرة.

أصحاب الشهوات والعصاة في رمضان

أصحاب الشهوات والعصاة في رمضان وأما الشهوات فماذا نقول عنها؟ فما من شهر تتوالى النذر فيه عن قلة الطعام والشراب أو احتمالها كشهر رمضان؛ ولهذا يسعى الناس بطمع وشره ليكون المخزون كافياً في شهر الصوم! وكل منا يشفق ألا يجد في رمضان ما يكفيه من بعض المؤن. ولهذا نستعد من أول شعبان أو في آخره، لنجمع أكبر ما نستطيع أن نتزود به لرمضان، حتى إن البيت الواحد قد يشتري ما يكفي لثلاثة بيوت؛ لماذا؟! لأنه شهر تعارفنا أنه ربما نقصت فيه المؤن، مع أن المخزون كافٍ والأمر متيسر، وكل البضائع من ضروريات وكماليات متوافرة في شهر رمضان، وكأننا مقبلون على شهر مأمورون فيه أن نعبَّ من الشهوات عباً، وأن نملأ البطون كل ساعة وكل حين. وليس هو شهر الصيام الذي كان يستقبله الصحابة الكرام بالفرح، حتى إن الفقراء وأصحاب الحاجة كانوا يُسَرُّون في رمضان؛ لأنهم يجدون أنهم هم والأغنياء سواء. أما الآن فالفقير يزداد حسرة على حسرة؛ لأنه ينفق في غير شهر رمضان (1000) ريال، فيضطر أن يستدين في رمضان، ويقول للتجار: (أقرضوني! جاء رمضان وليس عندي شيء) لأنه سينفق بدلاً من الألف ألفين أو ثلاثة، وإلا ذهب هو والعيال في حسرة مما يرى الناس يتفننون فيه بأنواع الأطعمة، وهو على التمر والخبز كأنه في الفطر! فهذا واقعنا. وأشنع من ذلك وأشد أصحاب الشهوات المحرمة!! فرمضان عند أصحاب الشهوات المحرمة فرصة وموسم كبير، يستعدون له قبل رمضان بأشهر؛ فأصحاب السهرات يفكرون أين تكون الجلسات والسهرات في رمضان؟! وأصحاب الإجازات يقولون: نأخذ الإجازة في رمضان ونغادر إلى خارج البلاد؛ لنلعب بالشهوات كما نشاء. وأما وسائل الإعلام -ولأننا نريد الشهوات، ولأن فيها من يريد أن نتبع الشهوات- فيُستقبل هذا الشهر عندهم بأخبث المسلسلات والتمثيليات وأطول السهرات، وكذلك في الصحافة فأينما ذهبت تجد الكل -إلا ما رحم ربك- لا يشتد إلا إلى الشهوة الحرام وإن لم يكن إلى ذلك؛ فهو إلى الشبع وإلى النوم والكسل!! فيتعاون علينا شياطين الجن وشياطين الإنس ليضيعوا منا هذا الموسم العظيم، إلا ما رحم ربك وقليل ما هم.

الاستعداد لرمضان

الاستعداد لرمضان متى نستقبل هذا الشهر العظيم كما استقبله أولئك الجيل الذين اصطفاهم الله تبارك وتعالى على جميع الأمم؟! لا بد أن نسأل أنفسنا هذا السؤال وأن نعد الإجابة؛ فإن كنا حقاً نريد أن نغتنم أوقات الخير وفرصه ومواسمه، وأن نتاجر مع الله تجارة رابحة فلنعمل كما عملوا والطريق أمامنا ميسر، ولله الحمد.

الاستعداد بالإيمان

الاستعداد بالإيمان فلنستعد لشهر رمضان بإيمان صادق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد تقولون: نستعد بالإيمان! أولسنا مؤمنين؟! نحن مؤمنون -إن شاء الله- ولكن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] فنؤمن بالله، أي: نجدد هذا الإيمان في قلوبنا، ونجدد توحيدنا، وننقي قلوبنا من الشوائب كالرياء والنفاق. فأول ما نفتش عنه ليس البطن وماذا نعد له؛ وإنما القلب وماذا نعد له؛ وكيف يكون هذا القلب في هذا الشهر العظيم.

الاستعداد للصوم الحقيقي بترك المحرمات والمنكرات

الاستعداد للصوم الحقيقي بترك المحرمات والمنكرات فالصيام الذي هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كل المسلمين يشتركون فيه، لكن الصيام الحقيقي الذي يجب أن نعد أنفسنا له، ونوطن قلوبنا عليه: هو أن نطهر قلوبنا وأن نزكيها وأن تكون هذه القلوب بعيدة عما حرم الله تبارك وتعالى؛ فإذا كان الشرك والرياء والنفاق وما أشبهها كبائر ومصائب في الفطر، في شعبان أو رجب؛ فهي في رمضان أعظم، وأعظم! فلنستقبل هذا الموسم بقلوب خالية من ذلك، وإذا كان الغش والغل والحقد والحسد للمسلمين والشحناء والبغضاء والعداوات بين الإخوان والأرحام والزملاء والجيران حراماً في سائر العام وهي كذلك؛ فهي في رمضان أشد حرمة. فيجب أن ننتهز هذه الفرصة لنترك هذه المحرمات التي تشغل قلوبنا وتأكل حسناتنا؛ فإذا كان النظر إلى المرأة الأجنبية محرماً في سائر العام، فكيف يستحله الصائم في الليل أو في النهار؟ وإذا كان قبيحاً أن تجعل موسم الطاعة كغيره في الطاعة، فكيف إذا جعلنا موسم الطاعة موسماً للمعصية؟! إن ذلك لأقبح القبح!! فإذا لم يصم القلب عن الشهوات المحرمة، ولم تصم الأذن عن سماع الحرام، وأكثر المسلمين لا تصوم آذانهم لا في رمضان ولا في غيره، وكيف تصوم الأذن ومزمار الشيطان: (المعازف والموسيقى) لا يكاد يخلو منها بيت، ولا سيارة؟! وهل صامت عيوننا؟! وكيف تصوم، والإنسان لا يكاد يفطر إلا ويمتد بصره إلى تلك المناظر المحرمة؟! بل ولربما امتدت السهرات إلى وقت السحر أو طلوع الفجر!! ثم بعد ذلك يكون الموت ويكون الخذلان!! كيف يكون حال أسواقنا في هذا الشهر العظيم؟ إنما تعمر بما لا تعمر به في سائر الأيام، ويا ليت أنها تعمر -فقط- بالبيع والشراء! ولكن بالمعاصي والتبرج والسفور والاختلاط المحرم، وبالغش والنجش وبما لا يرضاه الله تبارك وتعالى، حتى إن الإنسان إذا رأى هذه المناظر، لا يصدق أنه في رمضان وأنه في أمة الإسلام!! ولو كنا نستقبل هذا الشهر استقبال المؤمنين الأوابين، لكان أول ما يخف ويقل حتى يكاد يتلاشى هو الأسواق، فاللائق أن يقل إقبال الناس حتى على شراء المباحات، لماذا؟ لانصرافهم إلى اغتنام هذه الأوقات للعبادة، ولكن ليالي رمضان تشهد من الحركة ما لا يشهده سائر العام!!

من آثار الاستخفاف برمضان

من آثار الاستخفاف برمضان أولاً: لا نجد الصبر ولا نجد التقوى كما ينبغي لنا وكما أمرنا الله تبارك وتعالى، وإن شئتم أن تروا دليلاً واضحاً أن هذه الأمة لا تقدر رمضان حق قدره، وأنه يجب علينا أن نأخذ بأنفسنا وبإخواننا المسلمين إلى طريق الخير ونذكرهم بذلك، فانظروا إلى حالنا قبل رمضان وإلى حالنا بعد رمضان، وإن شئتم أن أحدد، فانظروا إلى حال هذه الأمة أيام العيد؛ فإن علامة قبول الطاعة الاستمرار فيها، وعلامة ردها أن تعقب بمعصية. ثانياً: لو كنا نستعد لرمضان ونستقبله استقبال المؤمنين الأوابين، لظهر أثر ذلك فينا في رمضان؛ ولو كنا نصوم رمضان كما يجب أن يكون؛ لظهر أثر ذلك فينا فيما بعد رمضان، ولكن لا هذا ولا ذاك، فيأتي العيد فكأنما كان رمضان عقالاً ففك، فلننطلق ولنفعل ما نشاء!! والذين كانوا في ليالي رمضان يفرحون ويمرحون في الأسواق، ويتركون زوجاتهم وبناتهم يتبرجن فيها ويغفلون، يزدادون أيام العيد، وأعجب من ذلك أن الذين كانوا يقرءُون القرآن ويصلون التراويح، تجدهم في أيام العيد مشاركين لأولئك، وكأنهم منهم، وحالهم كحالهم. والغريب من الناس: من تراه في أيام العيد محافظاً على ما أمر الله، ومتمسكاً بالمقدار نفسه من التقوى، أو بقريب منه كما كان حاله في رمضان، فأين أثر القرآن؟! وأين أثر التراويح والقيام؟! وأين أثر الصيام؟! إنه أثر قليل، وربما كان معدوماً. إذاً يجب أن نعلم أننا ما دمنا كذلك؛ فإن واقعنا هذا لن يتغير أبداًَ، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فالمسلمون اليوم أذل أمم الدنيا جميعاً؛ وفي الفقر هم أفقر شعوب العالم، ولهم حظ وافر من المرض والجهل ومن كل مصيبة؛ مع أن القرآن والسنة بين أيديهم، ومواسم الخير تمر عليهم وتأتيهم، لماذا؟! لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم؛ فلو صاموا حق الصيام لتغيرت حياتهم لو حجوا حق الحج لتغيرت حياتهم، ولتبدل هذا الذل عزاً ونصراً؛ ولأَعقَبَ هذا الخذلان توفيقاً وسداداً؛ ولانتقلنا من هذا الهوان والجوع والفقر والمرض، إلى العزة والعافية والقوة والتمكين؛ كما كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فالصوم الذي هو الإمساك عن الطعام والشراب هو هو، لم يتغير في الجيل الأول ولا في هذا الجيل، لكن أين القلوب من القلوب؟! وأين الأعمال من الأعمال؟! وأين الصيام من الصيام؟!!

الصوم الحقيقي وآثاره

الصوم الحقيقي وآثاره لم لا نفتش هذه القلوب؟! فنحن ما نزال في فسحة، ولم يدخل الشهر بعد، وأمامنا الفرصة. ولم لا نفتش أموالنا: أهي من حلالٍ أم من حرام؟! ونفتش أسماعنا: أتسمع الحلال أم الحرام؟! ونفتش أبصارنا: أترى الحلال أم الحرام؟! ونفتش أيدينا وأرجلنا؛ نفتش علاقاتنا: كيف علاقتنا مع أهلينا وزوجاتنا؟! كيف علاقتنا مع آبائنا وأمهاتنا؟! كيف علاقتنا مع جيراننا، ومع أرحامنا، ومع من ولانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم من موظف أو عامل أو طالب منهم تحت أيدينا؟ هل هي كما يرضي الله عز وجل؟! أين التقوى والصبر إن كنا - كما هو حال كثير من المسلمين- إذا جاء نهار رمضان امتنع عن التدخين، فإذا أذن المؤذن ربما بدأ بعضهم بالتدخين قبل التمر أو الماء!

الصبر وحلاوة الإيمان

الصبر وحلاوة الإيمان أين الصبر وأنت تضيع موسم الصبر؟ فلو صبرت عن هذه المعصية الحقيرة؛ لكان لك في هذا الموسم عبرة وعظة، ولانتصرت على أمور أكبر!! أين الذي يقول: كنت أرى هذه التمثيليات أو المسلسلات وأرى فيها النساء في غير رمضان؛ أما الآن وقد أطل رمضان فلن أرى في رمضان وفيما بعده شيئاً من ذلك أبداً؟ نعم! هذه عزيمة تحتاج إلى صبر، وليست مما يفوت على الإنسان شيئاً، وما الذي يفوتك إن فعلت ذلك؟! فماذا علينا لو آمنا بالله؟! وماذا علينا لو كففنا أعيننا وجوارحنا عما حرم الله؟! بل إن هذا من الفوز بالدنيا والآخرة {النظرة سهم من سهام إبليس من تركها خوفاً من الله آتاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه} كما جاء في الحديث. فإذا غض الإنسان بصره عن الحرام إيماناً ويقيناً بأن هذا حرام، وامتثالاً لأمر الله القائل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] {آتاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه} وليس في هذه الدنيا قط حلاوة أعظم من حلاوة الإيمان؛ فهي التي إذا ذاقها الإنسان وطعمها ينسى حلاوة كل شيء، فقد ذاق الصحابة الكرام حلاوة الإيمان؛ فرأينا منهم العجب العجاب! أراد صهيب أن يهاجر وجاء أهل مكة ليمنعوه، فتحرك قلبه بالإيمان وتعلق بـ المدينة، وتعلق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشرى نفسه منهم بماله كله في مكة، ولسان حاله يقول: خذوا كل ما أملك ودعوني بهذا الجسد الذي لا شيء عليه؛ لأذهب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذلك سلمان رضي الله عنه الذي أخذ يسأل الأحبار والرهبان، يريد أن يعرف من هو نبي آخر الزمان، حتى رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمن به وصدقه، فكل لذات الدنيا ونعيمها لا يساوي أن تذوق طعم ولذة الإيمان! والصحابي الذي كان يقرأ القرآن فذاق من طعم القرآن ومن حلاوة الإيمان ما شغله عن السهام وهي تخترق جسمه سهماً بعد سهم، وهو واقف منتصب لم يكفَّ عن قراءة القرآن؛ وكل إنسان يمكنه أن يجد من مطعومات الدنيا ومشروباتها ما يشاء، لكن طعم الإيمان فضل يختص الله به من يشاء.

التغيير ومحاربة الفساد

التغيير ومحاربة الفساد لا بد أن نكف أعيننا عن مشاهدة هذه المناظر الخبيثة السافلة الهابطة، التي لو أن هناك أمة من الأمم الجادة العاقلة حتى من لا دين لها؛ فلن ترضى أن ينغمس شبابها فيها؛ فكيف بأمة القرآن وأمة الإيمان وأتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! الأمة التي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110]. فواجب هذه الأمة أن تحارب الفساد والانحلال في أمريكا، وفي روسيا، في الشرق وفي الغرب؛ فكيف تعرضها وترضى بها وتراها وتسمعها؟! حتى إن الشاب الغريب الْمُسْتَنْكِر الذي لا يراها!! يُلمز ويقال عنه: (عجيب! ماذا لديه؟) (هذا عجيب! لقد تاب) ويستنكر منه -أيضاً- حتى في أوقات الخير وفي مواطنها!! فنحن إذاً لسنا أهلاً لأن نتاجر مع الله -في مواسم الخير هذه- ونحن على هذه الحال!

مدرسة رمضان

مدرسة رمضان هذه أيام تمضي شاهدة لنا أو علينا، والحجة قائمة، وإن كانت في أي مكان قائمة؛ فهي في هذه البلاد أكثر قياماً، ونحن إن شئنا الحق فهو موجود. والمسلمون في بعض البلاد يريدون أن يقوموا بما يفرض عليهم، فيفرض عليهم ألَّا يفعلوا، فيريدون -مثلاً- أن يقرءوا القرآن، أو فعل أي عمل آخر ويفرض عليهم ألَّا يعملوا. وأيضاً: كيف يقومون بذلك وهم لا يجدون العلم الصحيح ولا يجدون الدعوة الصحيحة؟ وأما نحن فمن فضل الله علينا أن العلم -عندنا- والوقت والمال والأمن كله موجود، وكل ما يوفر لنا العبادة متيسر وموجود، وحلقات الذكر موجودة، وتعليم القرآن متيسر، وإن كان في بعضها شيئاً من المشقة. وكما أننا في مواسم الدنيا قد نسهر ولا ننام فلنكن كذلك في مواسم الخير؛ فالحجة قائمة، والعلم بين أيدينا ظاهر، فما من حرام حرمه الله ورسوله ونرتكبه إلا ونحن نعلم أنه حرام، لهذا نخشى العقوبة؛ لأنه لا حجة لنا عند الله ولا عذر لنا بين يدي الله، فإننا نسمع العلماء في الإذاعة وفي الأشرطة المسجلة، وإن شئنا اتصلنا بهم بالهاتف ليفتونا ويعطونا الأدلة. فأين نحن من العمل؟! إذاً فهذا محك واختبار، فلنختبر أنفسنا -قبل أن يأتي هذا الشهر- ولنعدها، فالفرق بين المؤمنين والمنافقين: أن المؤمنين يعدون العدة وقد لا يبلغون ما يريدون، أما المنافقون فإنهم لا يعدون العدة؛ ولهذا قال الله تعالى عنهم: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فالمنافقون لو كانوا -حقاً- يريدون الخروج، لأعدوا له العدة؛ ولذلك فإن نفاقهم يظهر في عدم إعدادهم للعدة. ونحن إذا أعددنا العدة بأن نطيع الله في هذا الشهر، وأن نتقي الله فيه، وأن نبعد أنفسنا عن كل ما حرم الله، ونجعله فرصة لنطيع الله طوال العام وإلى أن نلقى الله؛ فإذا عزمنا على ذلك؛ وفقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وكان هذا من صدق الإيمان ومن صدق الاستقبال لهذا الشهر الكريم؛ وإذا أخلفنا ولم نُعِدَّ العدة؛ فمهما منَّينا أنفسنا؛ فإننا لن نحقق إلا الخسارة، ولا خسارة أكبر من أن يخسر الإنسان نفسه ووقته ويجوع ويعطش، وغاية ما فيه أنه أجزأه هذا الصوم. مع أن بعض الناس قد لا يجزئه صومه إذا ارتكب ما يفسد إيمانه، كالشرك بالله، وكالنفاق الكلي؛ فهذا يفسد الإيمان كله ويحبطه كله، لكنَّ ما يُنغص الصيام من المعاصي والشهوات، وتعلق القلب بالمحرمات، إن لم يحبط الأجر كله؛ فإن أعلى ما يحصل عليه صاحبها؛ أن يسقط عنه فريضة الصوم، فإذا نظرت بعد ذلك إلى الذي عمل واجتهد، فادَّخر عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعظم الذخر، فأعتق من النار، ورُفِعَتْ درجته عند الله؛ علمت أنك في خسارة وغبن وتفريط! وهي أيامٌ وليالٍ مرت بك وبه، ولكن شتان بين حالك وحاله!! وأكرر النصح والوصية لي ولكم؛ بأن نتقي الله تعالى في رمضان وفي غير رمضان، وأن نعد العدة في استقبال هذا الشهر العظيم بإيمان صادق، وإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعمل صالح، وتجارة رابحة مع الله تبارك وتعالى، وأن نكف أنفسنا عمَّا حرم الله، وأن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر، وأن نكون رسل خير وهداية مذكرين واعظين لإخواننا المسلمين بما قد لا يعرفونه عن حرمة هذا الشهر وعن فضله وخيره. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم وأن يتوب علينا وعليكم.

الأسئلة

الأسئلة

الصوم كفارة للذنوب

الصوم كفارة للذنوب Q فضيلة الشيخ: يستدل بعض الناس بحديث أبي هريرة الصحيح {الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر} على أن صغائر الذنوب تمحى بدون توبة منها؟ فما مدى صحة هذا الرأي؟ وما قولكم لمن يرتكب الصغائر ولا يتوب منها ويحتج بهذا القول؟ وما التوفيق بينه وبين حديث {إياكم ومحقرات الذنوب} نرجو التوضيح والله يحفظكم؟ A الحديث صحيح وهو من البشائر للمؤمنين، لكن كيف نفهمه حق الفهم؟! فكل بني آدم خطَّاء، والصغائر لا يكاد يسلم منها أحد، لهذا جعل الله تبارك وتعالى الصلاة إلى الصلاة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، أي: إذا لم تؤت الكبائر. فالصالحون المؤمنون لا يزنون، ولا يسرقون، ولا يكذبون، ولا يرابون، ولا يسمعون الغناء؛ لأنها محرمات ظاهرة وكبائر واضحة، لكن قليلاً منهم من يسلم من نظرة ومن سيئة من الصغائر التي قد لا يلقي لها بالاً من غمزة أو همزة، أو كلمة أو حركة، لا يلقي لها بالاً. فإذا اجتهد الإنسان، وأدَّى الصلاة بقنوت وخشوع، وحضر إلى الجمعة، وصلاها كما ينبغي، وصام على الوجه الصحيح وكما ينبغي له أن يصوم؛ صيام المتقين والصابرين، فإن ذلك يكفر عنه هذه الذنوب، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أما أن يفعل معصية ويقول: صغيرة وقد تكون كبيرة ثم يصر عليها، مع أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة ثم يقول: {الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن} فهذا خارج عن الحديث وعن مقصوده. والإنسان إذا اتقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يضع الأمور في مواضعها؛ فالإصرار على أية معصية صغيرة يجعلها كبيرة، ومحقرات الذنوب يجب أن تجتنب كما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما مثلها إلا كما أشار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كمثل رجل أتى بعود من هنا وعود من هنا وعود من هنا ثم أشعلها وإذا بها نار تضطرم}. ولا تعارض في الحقيقة بين هذه الأحاديث؛ وإنما الخلل في فهم الناس وفي تصورهم لحقيقة المعصية وحقيقة الصغيرة والكبيرة، وعلينا دائماً أن نتذكر مواعظ السلف حينما قالوا: [[لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظمة من عصيت]]. ونضع نصب أعيينا قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].

السنن المؤكدة في رمضان

السنن المؤكدة في رمضان Q ما الأعمال التي ورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعلها ويحرص عليها في رمضان مما ورد في السنة الصحيحة؟ A أعظم شيء هو قراءة القرآن فقد {كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيه جبريل في شهر رمضان فيدارسه القرآن} كما قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]. ثم الصدقة فقد {كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان}. وكذلك الاعتكاف، إذ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف العشر الأواخر من رمضان. وكذلك القيام وصلاة التراويح، فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليها وأصحابه من بعده. فهذه أهم وأبرز ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعمله ويواظب عليه؛ إضافة إلى ما ذكرنا من الصبر، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا يعرفون أن رمضان شهر الصبر، وكان صبرهم عظيماً على أعباء الدعوة إلى الله، وعلى أعباء الجهاد، وعلى طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يبلغون من الصبر غايته في شهر رمضان الذي هو شهر الصبر.

أثر الذنب في رمضان

أثر الذنب في رمضان Q أفتنا يا سماحة الشيخ في حكم مشاهدة الأفلام والتلفاز في نهار رمضان، ولعب الميسر، وسماع الأغاني، وليس هو بوقت الإمساك عن الطعام والشراب؟ A أشرنا إلى ذلك، والقضية هي قضية الإيمان والقلوب، هذا القلب إن شُغِلَ بالحق؛ أثمر ذلك طاعات وعبادات وخيراً وبركةً في جميع الأعمال، وإن شُغِلَ بالباطل واللهو واللعب؛ أثمر ذلك ذنوباً وإجراماً وقبائح وشنائع. وهل رأيت أحداً ممن يديم مشاهدة هذه المحرمات وسماع الأغاني، هل رأيته خاشعاً أواباً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! أم أنك لو رأيت مجرماً محترفاً وسألت عن حاله؛ لوجدته مدمناً لهذه المحرمات. فثمرة كل شيء بحسبه، وهذه القلوب جعلها الله تبارك وتعالى مقراً ومستودعاً للإيمان به ولذكره؛ فأشرف ما في الإنسان قلبه، وأعظم وأشرف ما يُشْغَلُ به هو معرفة الله، وتقوى الله، والتعلق بالله، والتفكر في خلق الله، وفي أمر الله؛ فجاء شياطين الإنس والجن فأشغلوه بالملهيات وبالمغريات في رمضان وفي غير رمضان، فتعلقت قلوب الناس بالشهوات. حتى قرأنا قبل أيام من يطالبون ونحن في استقبال شهر رمضان أن توجد مسارح، وأن يكون فيها نساء، وقالوا: ما دمنا نرى المرأة في التلفاز والفيديو فلماذا لا نراها على المسرح؟! يريدون أن يكون في المدن الرئيسية وفي النواحي من هذه البلاد الطاهرة مسارح تتبرج بها النساء؛ والحجة (أننا نراها في التلفزيون والفيديو!) فمن الذي أحل هذه المنكرات في التلفزيون حتى تستدلوا بذلك على حلها في المسرح؟! أقول: استمراؤها واستمرارها وقلة إنكارها في التلفزيون والفيديو جعلها حجة لمن يريدها في أي مكان آخر!! فهذه المنكرات الظاهرة من أعظم ما يجب على الإنسان أن يُخلِّص منها بيته، ويُطهر منها قلبه وعينه، وإن كنا صادقين مع الله، وإن كنا نخاف الله ونتقيه؛ فيجب أن نطهر أنفسنا وبيوتنا وأزواجنا وبناتنا وأولادنا من هذه الآثار والملاهي الخطيرة؛ لأنها تدمر الأمة وتدمر المجتمع. ولا تقولوا: المسئولية في هذا على المسئول عن التلفاز أو عن الإذاعة أو عن الأغاني؛ فالمسئولية على الجميع، وكل ما يقدم فإنه يقدم باسم المشاهدين؛ لأن أكثر الناس يريدونها وإن كانت أفلاماً محرمة، وإن كانت من النكت التي قد يكون فيها تعريض بالدين أو استهزاء واستخفاف. فلماذا يُعمَّر هذا الشهر العظيم بهذه الأمور التي أقل ما فيها أنها لهو تُصْرِف عن القرآن؟! قالوا: لقد صام الناس وتعبوا، ويريدون؛ فمن من الناس اتصل وأنكر هذه الأمور؟ فتأكدوا أن أي شيءٍ ينكره -في يومٍ واحد- ثلاثون أو عشرون (فهذا يتصل بالتلفون، وهذا يكتب خطاباً) تأكدوا أنه يُغير، وقد غُيِّرت بعض الأفلام لما استنكرها هذا وهذا وذاك؛ لكن لما استمرأناها جميعاً وسكتنا، وأصبحنا نقول: اللوم على من يعرضها، ولئن سألت من يعرضها، لقال: أنا أعرض ما يريد الناس، والناس ساكتون. إذاً فالمسئولية على الجميع، وأنت الذي تأخذ بنفسك. ولو بقي الأمر في حدود ما يعرض عامة لقلنا ربما؛ ولكن! أليس الناس يشترون اللهو كما يشاءون، ويشترون الأفلام والأشرطة كما يشاءون؟! وفيها من الفساد غير ما يعرض عرضاً عاماً على الناس! فالاستعداد لدينا للشهوات موجود. لكن إذا سُئلنا، قلنا: يا أخي! ماذا نعمل؟ قال: الحق على الذي يعرضها، وكأننا مجبورون، وكأننا شددنا بالسلاسل، وربطت أعيننا وقيل: انظروا ولا بد أن تنظروا، من الذي قال ذلك؟! فإن أي أمر من المنكرات أو من الشر إذا عزفنا عنه وتركناه؛ فإنه يموت بذاته، ويحترق بذاته؟! ولذلك فإنه لو عُرضت شرور أكبر وشبهات أعظم على هذه الأمة؛ لأقدموا عليها. لكن نحمد الله أن هناك موانع كثيرة تحول دون كثير من الشهوات، وإلا لرأينا الإقدام عليها يفوق التصور؛ لأن الاستعداد في القلوب موجود، ولا أحد يخفى عليه حرمة الأفلام هذه أو الميسر أو الأغاني في كل شهر وحين، وهي في رمضان أشد وأغلظ كما ذكرنا.

طريقة مثلى للاستفادة من شهر رمضان

طريقة مثلى للاستفادة من شهر رمضان Q نريد من فضيلتكم أن تجعل لنا طريقة مثالية نقضي بها وقت رمضان من أول اليوم إلى آخره؟ A ليس هناك من طريقة أفضل من طريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه والسلف الصالح، فنُعمر النهار بالصيام -صيام الجوارح وصيام القلب- وبقراءة القرآن ومدارسته، ونُعمِّر الليل بالقيام، ونترك لهذه النفوس أوقاتاً للراحة، وكلٌ بحسبه. لا أستطيع أن أقول: ضعها أربع ساعات أو ثلاث، فكل إنسانٍ بحسبه وبقدر طاقته واجتهاده؛ فهو موسم خير، ومن أراد أن ينافس فلينافس كما يشاء، فليس هناك من صورة محددة بذلك، وإنما أكرر على أمر هو أعظم ما في هذا الشهر -كما رأينا من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن سيرة السلف - (وهو القرآن) حتى قال بعض العلماء: 'إن ختم القرآن في رمضان لا يكره في أقل من ثلاث كما في بقية الشهور'. ففي رمضان من استطاع أن يختمه في أقل؛ فليفعل. وقال بعض العلماء: 'إنه شهر القرآن وشهر التفرغ للعبادة'. فالمقصود أن أهم عمل يشغل به الإنسان نفسه آناء النهار هو قراءة القرآن، ففي الصلاة سيصلي جماعةً، ويسمع القرآن، وفي الحقيقة كأن الشهرَ كله شهرُ قرآن، ولابد أن نتفكر فيما نقرأ وفيما نسمع؛ لأنها فرصة عظيمة أن نسمع كتاب الله كاملاً مرة أو مرات في شهر واحد، فنعرف ما نهى الله عنه في كتابه، وما حذَّر منه، وما أمر وأوصى به؛ لأن هذا القرآن خطاب لنا فأُنزل لنا ليخاطبنا الله به، وليس مجرد آيات تسمع بالآذان، ونقول: صلينا أو سمعنا. فاعتبر كل ما تقرأ أو تسمع خلف الإمام خطاباً من رب العالمين إليك، ثم انظر كيف مقامك من هذا القرآن، وكيف منزلتك في التعامل مع ربك من خلال كلامه الذي أنزله، والذي أمرك أن تتبعه وتؤمن به. هذا ما أوصي به نفسي وإخواني: وأسأل الله لي ولهم القبول.

حكم الصوم بلا صلاة

حكم الصوم بلا صلاة Q أخي لا يصلي ولكنه يصوم، فهل يصح صومه؟ وفي بعض الأحيان يساعدني ببعض النقود فهل يجوز أخذ النقود منه؟ A أما بالنسبة لصيام من لا يصلي فلا يُقبل منه؛ لأن ترك الصلاة كفر مخرج من الملة، وتارك الصلاة بإطلاق مرتد كافر، والكافر لا عمل له، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]. وصيامه ليس عن إيمان، وإنما هو عن عادة وعن مسايرة للناس؛ ولو صام عن إيمان لما ترك الصلاة قط؛ والأدلة على كفر تارك الصلاة مشهورة معلومة؛ وقد روى اثنان من الصحابة وواحد من التابعين أن الصحابة الكرام أجمعوا على أن تارك الصلاة كافر. أما بالنسبة للمال والنقود: فإن كان هذا الأخ لا يجد نفقة إلا عن طريق أخيه الأكبر، أو والده الذي لا يصلي؛ فإنه يأخذ منه ولا حرج عليه إن شاء الله تعالى، فذلك له ذمته وعليه وزر ترك صلاته، وعليه -أيضاً- وزر هذا المال الذي يتنعم به ولا يطيع ربه. وأما هذا فلا حرج عليه إن شاء الله، ولكن إن استغنى فهو خير له حتى يكون إنفاقه على نفسه من كسب يده، فإن أخذه للمال منه قد يجعله يقصر في دعوته، أو أمره بمعروف، أو نهيه عن منكر؛ ولا شك أن من ينفق عليك، فإنك ترى أن له عليك حقاً وفضلاً فتغض عن كثير مما ترى وتعلم.

نوم الصائم

نوم الصائم Q كثير من الناس ينام كثيراً في رمضان، ويقول: النوم في رمضان عبادة هل هذا صحيح؟ A بعض الناس يقول: النوم في رمضان عبادة؛ وبناءً عليه؛ فإنهم ينامون أكثر النهار. فينبغي لنا أن نعرف كيف يكون النوم عبادة؛ وما معنى أن النوم عبادة؛ لأن هذا مما يُبتلى به عامة الناس، أو أكثرهم في واقعنا الحاضر. فالنوم يكون عبادة في رمضان وفي غير رمضان، إذا احتسب الإنسان نومته كما يحتسب قومته؛ وذلك بأن ينام ليستعين بهذا النوم على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ومن قال من السلف: 'نوم الصائم عبادة ما لم يغتب' فإن مراده به أن الصائم إذا لم يغتب؛ أي: إذا كف لسانه عما حرم الله، فنام؛ فهو مستمر في الطاعة. يعني: إذا صلى الإنسان الظهر وهو صائم، ثم نام بعد صلاة الظهر -مثلاً- إلى العصر، فإنه مستمر في العبادة التي هي الصيام، ثم استيقظ إلى المغرب -مثلاً- فهو صائم، فالصائم النائم صائم، فهو إذن مستمر في العبادة؛ هذا بالنسبة للنهار. وأما الليل: يحتسب النوم؛ ليستطيع أن يقوم وأن يصوم أيضاً؛ فيكون في هذه الحالة في عبادة؛ فليس المقصود أن الإنسان في رمضان ينام ويضيع أكثر الوقت في النوم، ويقول: النوم عبادة، وهو مفرط ومضيع لقدر هذا الشهر ومفرط في قراءة القرآن، وفي الذكر، وربما أدى التفريط إلى أن يتخلف الإنسان عن الصلوات!! وإنما المقصود أن الصائم إذا نام فإنه لا تنقطع عبادته بالنوم؛ وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو مستمر في العبادة ومتلبس بها في حال اليقظة وكذلك في حالة النوم، ومتى يكون النوم؟! أقول: للحاجة وللاستعداد بالاستعانة به على الطاعة.

الإفطار في السفر

الإفطار في السفر Q ما حكم الإفطار في رمضان في السفر؛ مع أن ذلك ليس فيه مشقة عليَّ في نظري؟ A العلماء -رحمهم الله تعالى- اختلفوا في هذه المسألة: هل الإفطار أفضل أم الصوم أفضل؟ والذي يترجح إن شاء الله، أنه بحسب حال الإنسان، فقد يكون الصوم أفضل، وقد يكون الفطر أفضل؛ فمن وجد شيئاً من المشقة أو الحرج؛ فليعلم أن الله يحب أن تؤتى عزائمه ورخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه. ومما يحبه الله: (أن تؤتى رخصه) فليأخذ برخصة الله تعالى، وأما إذا اشتد عليه الجهد والمشقة فإنه يحرم عليه أن يصوم؛ ولهذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صاموا واشتد عليهم ذلك بالفطر أمراً، كحال الرجل الذي كانوا يُظللونه من شدة الحر؛ لأنه كان صائماً. ففي هذه الحال لا يجوز الصيام، وأما من لم يكن عليه في ذلك أدنى حرج ولا مشقة، والأمر بسيط في حسه وفي نظره، فإننا لا نستطيع أن نلزمه بأن يفطر، فليصم إذا أراد ولا شيء عليه إن شاء الله، بل له الأجر كاملاً كما لو كان مقيماً.

حكم الأكل بعد أذان الفجر

حكم الأكل بعد أذان الفجر Q ما حكم الأكل عند الأذان لإعلان الفجر، مع علمي بأنه الأذان فأكلت وشربت، فهل في ذلك بأس؟ A الصائم أُمِرَ بالإمساك عن الطعام والشراب إذا طلع الفجر، فلهذا إن كان المؤذن لا يؤذن إلا وقد طلع الفجر، فمن أكل أو شرب بعد ذلك فإنه أكل في وقت الصيام، ومعنى هذا أنه لم يصم وعليه القضاء. وأما إن كان المؤذن كعادة بعض المؤذنين (يؤذنون قبيل الوقت)، وذلك بغرض تذكير الناس أو تنبيههم إلى أن الوقت قد قرب، ويعلم أن هذا المؤذن يفعل ذلك؛ فهذا لا حرج عليه؛ لأن الأساس هو: (طلوع الفجر، وليس الأذان)، وقد يُؤذن بعض الناس مبكرين، وقد يؤذن بعض الناس متأخرين. إذاً فالعبرة والمدار على طلوع الفجر وليس على الأذان، ولا ينبغي أن يؤذن قبل الوقت؛ لأنه في هذه الحالة قد يُحرِّج على الناس. وأيضاً: دخول العبادة في غير وقتها لا يجوز؛ ولكن نحن نتحدث عن واقع مشاهد، وهو: أن بعض المؤذنين -في بعض المناطق- من عادته أنه يحتاط، ويقول: أنا -إن شاء الله- لست آثماً، فالمسألة دقيقتان أو أكثر فقط، لكي يحتاط الناس ويكفوا عن الطعام والشراب! فإذا كان الأخ مؤذنه يفعل هذه الحالة، فيكون قد أكل في وقت لم يجب عليه الإمساك عليه، فلا يقضي ولا شيء عليه إن شاء الله.

الأحداث في الخليج

الأحداث في الخليج إن الله عز وجل قدر لهذه الأمة أن تمر بفترات من القوة والضعف، وأهم معيار يتوقف عليه حال الأمة هو قربها وبعدها من المنهج الإلهي الذي شرعه الله لها. والأمة الإسلامية هذه الأيام تمر بفترة ضعف وتفرق قلّما مرت بمثيل لها من قبل، وخير شاهد على هذا الحال الأحداث الأخيرة التي تمر بها منطقة الخليج، والتي أدت بالبعض إلى الاستعانة بأعداء الإسلام، وفتح المجال لهم للإقامة في جزيرة العرب مستدلين بأدلة يحملونها على غير ما تحتمل. فجاء أعداء الله من الأمريكان ومن عاونهم مستغلين هذه الفرصة ليكون لهم موطئ قدم في أرض التوحيد متعللين بأنهم جاءوا ينصرون الضعيف على من اعتدى عليه، بالرغم من أن الأحداث التاريخية والوقائع أثبتت أن الأمريكان كانوا يخططون لغزو الجزيرة منذ سنين، منتظرين الفرصة المواتية لإحكام قبضتهم على ثروات الأمة. فعلى الأمة الإسلامية التنبه لما يحاك لها، وعلى المسلمين أن يصدقوا الرجعة إلى الله، والتضرع إليه ليكشف عنهم الضر الذي لحق بهم.

مرتكزات أحداث الخليج

مرتكزات أحداث الخليج الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فسوف نتحدث بالتفصيل عن القضايا التي تتركز فيها هذه المشكلة الكبرى، وهي تتركز في عدة قضايا، كل قضية منها تحتاج إلى محاضرة، فموضوع: (حزب البعث والموقف منه) يحتاج إلى محاضرة أو أكثر، وموضوع: (موالاة اليهود والنصارى والموقف -أيضاً- من أمريكا) يحتاج إلى محاضرة، وموضوع: (موقفنا نحن من أنفسنا، وموقفنا مع ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) يحتاج إلى محاضرة أو أكثر، وموضوع: (تصوراتنا عن مستقبل هذه الأمة، وما يمكن أن تكون) أيضاً يحتاج إلى شرح بالتفصيل؛ لأن لها تصورات مؤكدة، لا توقعات، وهي بطبيعة الحال اجتهادات واحتمالات على ما يُرى من هذا الواقع، فكل منها يحتاج إلى تفصيل أكثر. وأول ما يجب أن أذكره في هذه القضية هو: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يقدِّر في هذا الكون إلا ما هو خير، وإن كان هناك ضرر أو شر لأناس مؤمنين أو كافرين، ففي الجملة الشر ليس إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فما يقع منه عز وجل هو خير بإذن الله، لكن يجب علينا أن نعتبر ونتعظ ونستفيد من الأحداث، لتكون خيراً لنا من جميع الوجوه، فإن اشتملت على ضرر فإن الأمور بمجرياتها. ونحن الآن في أيام المشكلة، ولا نتصور أن ما حدث هو مشكلة تحل في أسبوع، أو أسبوعين، أو شهراً، أو شهرين، فهذه مشكلة ستطول، ونهايتها لا يعلمها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن تنتهي في أيام معدودة. فإن الغرب قد بدأ يتكالب، ويأتي من كل جهة، وبعض أساطيله إلى الآن لم تتحرك، وبعضها تحرك منذ أيام، ويحتاج إلى شهرين حتى يصل، ثم بعد وصول هذا الأسطول ماذا سيكون؟ الله تعالى أعلم. فالأمر سيطول، وليست هذه المشكلة خارجة بأي شكل من الأشكال عن مشكلتنا الأساسية.

مشكلة الأمة الأساسية

مشكلة الأمة الأساسية نحن أمة الإسلام؛ ما مدى قربنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ وما مدى تمسكنا بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يسلط علينا أعداءنا إن عصيناه، وسوف ينصرنا ويؤيدنا ويجعل الدولة لنا على أعدائنا إن تمسكنا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة في جميع العصور، وفي جميع مراحل التاريخ. فقد جاءت موجة التتار، وجاءت موجة الصليبيين في مراحلها الأولى، ثم جاءت الصليبية في شكل الاستعمار، ثم جاءت هذه الصليبية الجديدة، فهذه المعركة التي نعيشها الآن هي معركة صليبية، فالبعث صليبي، والغرب صليبي، والقضية كلها صليبية. فيجب أن تكون لدينا القاعدة الإيمانية التي لا يجوز أن نتركها بأي شكل من الأشكال، فإن من سنن الله في الأمم وفي المجتمعات؛ إذا عصوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخالفوا أمره أنه يجب أن يتضرعوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. والآن مرّ علينا أسبوعان أو أكثر، وأمة القرآن والإيمان والإسلام، التي جعل الله لها في كل مشكلة وأمر وكل ضائقة ونازلة حلاً في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالحل موجود، وقد تكلم عنه الكثير من دعاة الحقبة الأولى، إلى الآن لم نجد أي إشارة واضحة إلى أننا -فعلاً- بحثنا عن الحل في كتاب الله عز وجل، وأننا امتثلنا الحل الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

قسوة القلب

قسوة القلب يقول الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] فقد أصبحت قلوبنا فيها قسوة عجيبة، ويدل على ذلك أنه لما أشيع عن الغازات الكيماوية وتأثيرها على الأحياء ثار الرعب والهلع في نفوس الناس، وأنا لا أتكلم عنها على سبيل التخويف منها، مع أن هذه الغازات هي سامة فعلاً، لكنها ليست هي القضية. لكن القضية هي: لماذا يُنشر مثل هذا الكلام الذي ليس له أصل ولا تصريح رسمي؟ ولماذا يقال للناس خذوا أقنعة أو احتاطوا؟ والمهم أن مصدره وقائله غير مؤكد وغير معروف. ومع ذلك خاف الناس وذعروا، وبدأ كل إنسان يفكر جدياً: ماذا أصنع؟ وهل منطقتنا بعيدة عن الأحداث أم قريبة؟ وإذا وصل الغاز ماذا أفعل؟ سبحان الله!! القرآن كلام الله رب العالمين يحدثنا عن عذاب جهنم، وعن دخان جهنم، فأين هذه الغازات من دخان جهنم، نعوذ بالله من عذاب جهنم؟ أين هم من قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30]؟ وأين هم من قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41] فهذا كلام رب العالمين وهو حق وصدق. وقد ذكر الله تعالى أسباباً للعذاب، ومنها: المعاصي والذنوب، فهل اتخذنا وقاية من هذه الذنوب والمعاصي؟ وهل فكرنا في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71]؟ فكل إنسان واردها، وكل إنسان سيعبر الجسر المنصوب فوق جهنم كما أخبر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فهل أعددنا وقاية من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! وهل نخاف من الله عز وجل، كما أصابنا الخوف والهلع والذعر من البشر، حتى قلنا: ماذا نتخذ من وقاية لتلافي وقوع الغازات السامة أو غيرها؟! ونتسائل: لماذا أُصبنا بهذه النكبة؟ ولماذا حلّت بنا هذه المصيبة؟! والجواب معروف، وهو أنه لم نعد نخاف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم نعد نخاف من وقوع وعيده وعذابه. ولم نعد نستمع إلى آيات القرآن وما فيها من وعد أو وعيد، وإن استمعنا فإننا نستمع إليه وقلوبنا غافلة إلا من رحم ربك، وننتظر متى نكف عن الغناء واللهو والطرب؟! ومتى سينتهي الربا؟! وهل انتهى التبرج واللهو في الأسواق والملاهي والمنتزهات؟ لم يحدث شيء من ذلك: هل أعيدت صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووضع لها اعتبارها؛ لعل الله أن يرحمنا، ويدفع عنا العذاب؟! وهل أعدنا وضع مدارس تحفيظ القرآن إلى وضعها الطبيعي؟! وغير ذلك كثير. وأين الرقابة الإعلامية؟! فهناك الكثير من الصحف والمجلات الكويتية المخلة، فيا ترى هل هذه الصحف والمجلات عوقبت على فسادها وإلحادها وكفرها الذي كنا نتحدث عنه في أكثر الأسابيع؟! إننا لم نفعل شيئاً من هذا، وحالنا كما هو: الذي لا يصلي؛ لا يصلي قبل الأحداث وبعدها، والذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر لم يتغير حاله إلا من رحم الله، فليس هناك اعتبار ولا اتعاظ ولا تضرع ولا رجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!! فمن الذي حاسب نفسه وقال: كان عملنا حراماً فلنبتعد عنه أو كان هذا الشيء واجباً ولم نفعله، فيجب أن نفعله؟ لم يحدث شيء من هذا إذاً ماذا نتوقع؟! كيف ندفع العذاب؟ قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] ويقول الله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] ويقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:96 - 97] وهذا ما حصل في الكويت -والعياذ بالله - {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] فأين الضراعة التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! فلا والله! ما تضرعنا! ولا استكنا! ولا تبنا! ولا أنبنا! وحالنا كما هو، فكيف تأتينا السكينة؟! وكيف يأتينا الأمان والارتياح؟!

هل ننتظر النصر من اليهود والنصارى؟!

هل ننتظر النصر من اليهود والنصارى؟! عندما قيل: إن الغرب والكفار سوف يدفعون عنا عذاب الله؛ سُررنا وفرحنا بذلك، نسأل الله العفو والعافية. أمة التوحيد التي تقول في كل ركعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هذا هو حالها وهذا هو شأنها في وقت الشدة! أنها لا تلجأ إلى الله ولا تتوب ولا تتضرع! وإنما تلجأ إلى الكفار، وتجعل ثقتها لهم! فإلى هذا الحد وصل بنا الأمر من ضعف العقيدة! ففي كل وقت نقول: العقيدة والعقيدة فأية عقيدة هذه! إن لم تكن واقعاً وسلوكاً فإن العقيدة مجرد كلام. فأين العقيدة الصحيحة؟! وهل من العقيدة أن نأمن ونطمئن إلى الكفار؟! وهل نظن أن الكفار سينصروننا؟ وهل ننسى وعد الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]؟ فمن هم هؤلاء المؤمنون الذين يدافع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم؟! وقد قال بعد ذلك: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] إلى أن قال بعد ذلك: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] وهؤلاء هم الذين يدافع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم، وهؤلاء هم الذين ينصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنحن إنما ينصرنا الله، وليس الكفار هم الذين ينصروننا! وهذا الكلام ليس من حيث ضرورة الواقع، أو غير ذلك، بل هو من حيث التوجه القلبي، فإن هذه المسألة مشكلة خطيرة، وأرجو من كل مسلم أن يقرأ كتاب الله. فالمشكلة والخطورة ليست أننا قد نقول: استعانتنا بالكفار أتجوز للضرورة أم لا تجوز؟ فليست هذه هي القضية؛ لأننا يمكن أن نبحث هذه المسألة أو أن نفعل هذا العمل وقلوبنا مطمئنة بالإيمان، وبالثقة والتوكل على الله، ويكون هذا سبباً من الأسباب. ولكن ليست هذه هي المشكلة، بل المشكلة في أن القلوب انصرفت إلى غير الله من الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فقد تعلقت الآمال بهم في سلامتنا وفي نجاتنا والعياذ بالله. وأنا أريد أن نتناول القضية من جانبها الإيماني، ومن جانبها القلبي الإذعاني، وننبه إخواننا وأنفسنا وأهلنا، وأي شخص آخر، إلى أن عذاب الله قد يأتينا في أشكال لا نعلمها، وهذا إنما هو نذير فقط. {ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] فأين نحن من التوكل؟! وأين الدعاة والخطباء والعلماء لإيقاظ الناس إلى هذه المسألة المهمة؟! وقبل أن نبحث الأسباب، وقبل أن ننظر في واقعنا، يجب أن نبحث عن هذه القضية من جذورها، وهناك إشارة وردت في بيان مجلس القضاء الأعلى إلى وجوب الاستغفار والتوبة لكن إذا نظرنا إلى وسائل الإعلام. وإلى البيانات الصادرة، فإننا لا نجد فيها هذا التذكير، مع أنه هو الأصل، وفيه النجاة، وهو الذي امتن علينا به الله، فالله رحيم رءوف بنا عندما نقع في أي مشكلة. وعندما دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة منتصراً، دخلها في ذلة لله، واستكانة له، مطأطئ الرأس، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال الاستكانة والذل لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو منتصر، ونحن في حالة الخوف والذعر والهلع ومع ذلك لم نتضرع ولم نستكن ولم نندب، بل على العكس من ذلك، تعلقنا بالمخلوقين الذين هم أعداء لنا، وعداوتهم لا تنتهي إلى قيام الساعة، فهذا هو العدو الحقيقي الذي لا يمكن أن ينصرنا؛ لأن هذا هو خبر الله عز وجل، وخبر من لا ينطق عن الهوى، الصادق المصدوق، كما ورد في الحديث الصحيح: {لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بـ الأعماق} فهناك تكون الملحمة والمعركة، وهي كما بينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستنتهي لصالح المسلمين حتى لا نخاف ولا نيأس، لكن أين المسلمون؟! إن حالات الذل تمر بالأمة كما تمر بها حالات القوة، وأيضاً حالات الخذلان تمر بها كما تمر بها حالات التوفيق إذا اتقت ورجعت إلى الله. وكنا في محاضرة: (مستقبل العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي) ثم محاضرة: (الحروب الصليبية)، من هذا المنطلق كنا نتوقع ونعلم -دون معرفة التفاصيل- أن هذا الميثاق سيؤدي إلى أن الغرب سيتكتل، ويتكالب علينا، وأنه سيأتي إلى هذه المنطقة، لكن الله تعالى أعلم، كيف سيأتي، المهم أنه سيأتي. فهل هذه الفرصة أتاحها لهم حزب البعث الصليبي، وقدمها لهم على طبق من ذهب؟! أم هل رتبوها مع بعضهم البعض؟ أم أنها جاءت فرصة فاهتبلوها؟ هذا لا يهم.

استعدادات أمريكا لغزو الخليج العربي

استعدادات أمريكا لغزو الخليج العربي لكن المهم أن أمريكا من عام (1980م - 1400هـ) وهي تعد العدة وتدرب الجيوش، فأكثر من مائتين وخمسين ألف جندي أمريكي يتدربون في صحراء نيفادا وهي صحراء قاحلة في وسط أمريكا أجواؤها مشابهة لأجواء الصحراء العربية. والمعركة الآن يسمونها معركة درع الصحراء، فهم يتدربون هناك على الإنزال في الخليج، وآخر خبر نذكركم به، عندما حدث الإنزال في بنما، وقيل: إن من أهدافه الاستراتيجية هو التمرين والتعود على الإنزال في الخليج، وهذه العملية ليس لها سوى أربعة أشهر، فالأمر مهم ووارد، ولقد جاءوا من كل حدب وصوب، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي لا ينطق عن الهوى: {تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها}. فمن كل أفق، ومن كل المناطق جاءوا إلينا، بحجة أنهم يحموننا، ومما نُشر أنه من مائتين وخمسين ألف جندي ما لا يقل عن ثلاثين ألف امرأة! برتبة ضابط ونقيب ورقيب، فهؤلاء بنسائهم جاءوا ليحموا أبناء خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبناء الأنصار الذين فتحوا فارس والروم بعدد أقل من عددنا اليوم! وبعدة أقل من عدتنا اليوم!! ولو كنا كما أمر الله متقين لله، وقائمين على أمر الله، فوالله سوف نفتح العالم بما عندنا من عدة، وقوة، والله لم يكلفنا مالا نطيق: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60].

بعض وسائل دفع الأعداء عنا

بعض وسائل دفع الأعداء عنا إن أسوأ ما يمكن أن يقع -وهذا واقع- هو أن يتكالب علينا أعداؤنا ولا نستطيع أن ندفعهم، ماذا نفعل؟ إن بين أيدينا سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة الخلفاء الراشدين، وعندنا عدة وسائل منها: إعطاؤهم شيئاً من المال، كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه أراد أن يعطي الأحزاب لما تكالبوا عليه من ثمر المدينة. ويمكن -أيضاً- أن نساومهم على شيء من الأرض. فهناك وسائل وبدائل، فلم يجعلنا الله تعالى في ضيق وحرج، إما هذا أو هذا، كما يظن بعض الناس، حيث يقولون في المجالس: لا ينفع شيء، إما الموت أو التعلق بالغرب -عياذاً بالله- فمن قال لك هذا؟! ومن قال: أنه ليس هناك إلا هذان البديلان ولا ثالث لهما؟ فلو فكرنا وتأملنا لوجدنا أن هناك أكثر من عشرة بدائل، نستطيع أن ندفع الشر بها بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ما هي مشكلتنا؟

ما هي مشكلتنا؟ والمشكلة في الأساس: هي مشكلتنا مع الله رب العالمين، حيث أننا لم نصطلح مع الله، بل نحاربه! فلذلك غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا، وأرسل علينا هؤلاء، وهو الذي أرسل على بني إسرائيل الفرس - بختنصر وجيشه- يقول تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] فالفسق والفجور والطغيان والترف الذي كنا نعيشه، هل يمكن لأي عاقل أو ناظر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصدق أن يستمر هذا الأمر إلى الأبد، مع عدم وجود توبة ولا أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر؟ إن هذا لا يمكن، بل سوف نهلك وفينا الصالحون إذا كثر الخبث، كما أخبر عن ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكان المفروض أننا ننظر إلى كل هذه الأمور من خلال كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن نحمد الله على هذه الأحداث فهي عبرة لنا لكي نتعظ. وهل تظنون أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -وقد أخبرنا عن نفسه، وعن رحمته بالمؤمنين، وما أعده لهم، وما يبشرهم به- أنه يظلم الكفار أو المؤمنين؟ {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44] فهل يظلمنا الله وقد دفعنا لـ صدام حسين الملايين والمليارات طوال عشر سنوات، ثم ترتد أموالنا علينا؟ لا والله! لا يظلمنا، لكننا تعلقنا بالأسباب المادية. فلو أننا كنا مستقيمين على أمر الله، فلا ننفق إلا حيث أمر الله أن ننفق، ولا نمنع إلا من أمر الله أن نمنع، وإذا أنفقنا فللدعوة إلى الله، وفي سبيل الله خالصة لوجهه، فلو فعلنا ذلك -والله- لنصرنا الله ولأذل أمريكا، ولأتى بها راكعة ذليلة، وقد أذلها من هو أضعف شأناً منا، فقد أذلها أمام كوبا وغيرها، فهي المضطرة إلينا. فإذا اتقينا الله كفانا الله شرها، وبالمثل إذا خفنا من الله أخافها الله منا، وإذا لم نخف من الله أخافنا الله من كل شيء، وأصابنا بالرعب والذل والهوان. فقضيتنا ومشكلتنا نحن المسلمين هي: موتنا ونحن على ماذا؟ وبماذا نلقاه؟ فكلنا سنموت، أصحاب الكمامات سيموتون، وغيرهم سيموتون، ولو كنا في بروج مشيدة. فالقضية ليست قضية نظرة مادية، لكن عندنا قضايا أساسية مذكورة في كتاب ربنا، فإذا تبنا وتضرعنا ولجأنا إلى الله؛ فإن الله يسلط على عدونا جنداً من عنده يدفعهم عنا. وقد دفع عنا شرورهم وهم أعظم ما يكونون ونحن أضعف ما نكون. واقرءوا التاريخ، فقبل ستين أو سبعين سنة، كانت بريطانيا العظمى لا تغيب الشمس عن مملكتها، وكانت أكثر بطشاً من أمريكا اليوم، وكانت كل شعوب العالم ترهبها، وتخافها، فممن كانت بريطانيا تخاف؟

الشيء الذي كانت تخاف منه بريطانيا

الشيء الذي كانت تخاف منه بريطانيا إن أكثر ما كانت بريطانيا تخاف في المنطقة كلها هو من الإخوان الوهابيين -كما يسمونهم الإنجليز- فهذه مشكلتهم، وقد كان هؤلاء الإخوان يعيشون في الصحراء، وليس عندهم استراتيجيات، ولكن كان الإنجليز يخافون منهم خوفاً شديداً. ومن الوثائق المنشورة حتى تعرفوا كيف يكون حالنا لو كنا مع الله! أنه كان هناك مقيم سياسي في البحرين كلف من قبل المندوب السامي في العراق أن يكتب شيئاً عن الإخوان -يريدون أن يعرفوا ماهية هؤلاء الإخوان- فكتب -والوثيقة محفوظة، وموجودة- يقول: أنا بنفسي ذهبت إلى شرق البحرين ورأيت: الإخوان أنهم كذا، وصفتهم كذا، ووجوههم صفتها كذا، وتعاملهم في السوق من أفضل التعامل، فهو يكتب عنهم ويحسبون لهم ألف حساب. وسألوا أحدهم: كيف يمكن القضاء على الإخوان؟ فقال: إذا أرادت بريطانيا أن تقضي على الإخوان، فعليها أن تخصص خمسين ألف جندي بريطاني، ولكنهم سيموتون جميعاً تحت شمس الصحراء المحرقة. وكان أخطر شيء وأهم شيء تخافه بريطانيا هو أن يهاجم الإخوان الحدود العراقية، فكانت بريطانيا العظمى تخاف من هؤلاء الإخوان!! وعندما وصلت جيوش الإخوان إلى بحرة، حيث أنه لم تفتح جدة، وكانوا قد دخلوا مكة ثم تقدموا إلى بحرة من أجل أن يفتحوا جدة، فجاء وزير الخارجية من العراق، ووقع معهم اتفاقية بحرة، وهي تتضمن عدم الاعتداء على الحدود العراقية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى كان اليهود ومعهم الإنجليز الذين وجدوا في فلسطين يخشون أن يهاجم الإخوان العصابات اليهودية، لأنهم علموا قوتهم، فلو جاء هؤلاء الإخوان إلى فلسطين فإنهم سيقضون على اليهود قضاء مبرماً، وبالفعل في عام (1928م) وصل الإخوان إلى عمَّان، وارتعب الإنجليز رعباً شديداً، وقالوا: إذا أخذ الإخوان الأردن، فسيتقدمون إلى فلسطين وسيقضون على اليهود. وهم لم يكن لديهم أكثر من البنادق العادية، حتى أنهم في أحد المعارك أرادوا أن يتقدموا، والإنجليز كانوا يملكون طائرات تقذف ناراً، فقالوا: كيف نتقدم سيضربوننا؟ فقال لهم قادتهم: هذه الطائرات فوق الله أم الله فوقها؟ -انظروا كيف الإيمان- قالوا: الله فوقها! قالوا: إذاً توكلنا على الله. فتأتي الطائرات، وتُصد بالبنادق العادية، وانهزم جيش الصليب الذي كان يملك الطائرات، ودخلوا إلى جدة، ثم تقدموا منها حتى أخذوا العقبة، ولم يكن عدتهم إلا الإيمان بالله تعالى والثقة به؛ فكان العالم يخاف منهم ويرهبهم، ونحن اليوم لدينا الطيران وقوة كثيرة ولكن الذنوب والمعاصي أثقلت كاهلنا. فأين الإيمان بالله وقوة التوكل عليه؟! وإن وجد ذلك عندنا -فوالله- لخاف منا الغرب والشرق بأسره. وهل تظنون أن الغرب والشرق عندما يجتمع ويتكالب ويأتي إلى هذه المنطقة، أن هذا من أجلنا أو من أجل سواد عيوننا؟ والله ما يريد الكفار لنا خيراً أبداً، وإن جاءت الغازات السامة فهي علينا، والموت لنا نحن المسلمين.

الأهداف الغربية لغزو الخليج

الأهداف الغربية لغزو الخليج إن أغراض الغرب في مجيئه إلينا كثيرة، فمنها: البترول، ولكن قبل البترول هناك الغرض الأساسي وهو إذلال هذه الأمة، وضرب الصحوة الإسلامية، وقد نشر في (11) من ذي القعدة على لسان أحد المسئولين في الإدارة الأمريكية، ما معناه: هل تتخوفون من قوة العراق الضاربة في المنطقة؟ فكانت الإجابة: لا، لأن العراق يشكل أكبر قوة في المنطقة لضرب الصحوة الإسلامية التي أخوف ما نخاف، وهذا الخبر قد نشر سابقاً. ووزير الخارجية البريطاني يقال له: كيف موقفكم مع العراق طوال السنوات الماضية؟ وما هو موقفكم الآن؟ قال: إن موقفنا مع العراق -سابقاً- كان المساندة له، فهذا أمر حتمي؛ لأنه كان يحارب الأصولية الإيرانية، ثم قال: وأكثر ما يزعجنا الآن هو أن تتحالف القومية مع الأصولية الإسلامية ضد موقفنا لتأييد صدام، فهو يقول: عندما كان صدام يحارب الأصولية في إيران وقفنا معه وساندناه، وعندما وقفت الأصولية مع صدام حاربنا صدام وهذا كلام واضح. فالهدف الغربي هو: إذلال الأمة الإسلامية، وضرب الصحوة الإسلامية، واستنزاف المنطقة؛ لأنها منطقة مهيأة لأن تقود العالم، فـ روسيا الآن قد أصبحت تابعاً لأمريكا، وأساطيلها جزء من القوات التي دعت إليها أمريكا، وكلهم ضدنا نحن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] فالشاهد: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فهل جاءت أمريكا لتحمي الكويت رحمةً بها؟! إن الغرب كلهم ليس فيهم رحمة على أحد إلا على الإنسان الأوروبي فقط، فهل سمعنا أن هناك مشكلة حدود بين أي دول أوروبية؟ لم نسمع بذلك؛ وبعد العام القادم، ستكون أوروبا دولة واحدة، إذاً الأساطيل والحشود لمن؟ وهذه المليارات التي تنفق على التسليح لمن؟! إن كل ذلك من أجل مواجهتنا، وقد جاءتهم هذه الفرصة، أو أنهم خططوا لها، المهم أنهم بدءوا يتوافدون، وسيتوافدون علينا لهذا الغرض. فـ أمريكا من أجل هذا الحدث البسيط أرغمت أسبانيا، واليونان، وتركيا على استخدام القواعد التي في أرضها، وأخذت منهم صلاحيات واسعة في ذلك، واحتلت وطوقت المحيط الهندي، وبحر العرب والبحر الأبيض المتوسط، والمنطقة بكاملها ابتُلعت من أجل الكويت، فهم أناس يخططون للمدى البعيد. ونحن لا نقول هذا من أجل الإخافة، فوالله إننا كما نؤمن أن الشمس ستشرق غداً -بإذن الله- نؤمن أن النصر لهذه الأمة -بإذن الله- لكن لمن؟ وعلى يد من؟ نحن نحتاج إلى معرفة هذه الأمور الأساسية.

من أجل مواجهة الغرب

من أجل مواجهة الغرب يجب أن نذكر الناس ونربطهم بالله، وأن نقول لهم: ارجعوا إلى القرآن، واعمروا المساجد، وكفوا عن التبرج والاختلاط في الأسواق ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وتوبوا إلى الله، وغيروا ما بأنفسكم فيغير الله ما بكم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] وإذا غيرتم؛ ستجدون أن الله يُذهب صدام بانقلاب عسكري أو بأي شيء، فيجب أن نبدأ بالتغيير من الآن. فالملحمة مع الروم لن تكون سهلة، ولن تكون يوماً وسنة، وسنتين، بل إنها ملحمة ومعركة طويلة، وهي تحتاج أول ما تحتاج إلى أمة مؤمنة صابرة متقية: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120] فأول شيء نعمله أن نصطلح مع الله، فنلغي الربا، ونلغي الزنا الباطن المتمثل في الفاحشة، والزنا الظاهر المتمثل في التبرج والسفور؛ ونلغي الغناء والرشوة والغيبة والنميمة والحسد والبغضاء بيننا نحن المسلمين. ونلغي كل نظام يخالف شريعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بحيث كل الأمور يكون الحكم فيها لكتاب الله وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونراجع أنفسنا: ماذا أذنبنا؟ وماذا أخطأنا؟ وماذا فعلنا؟ ونتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم بعد ذلك نعد العدة ما استطعنا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60]. فنعد لهم ما استطعنا، وسينصرنا الله عز وجل، فلا شك أن الروم والغرب هم أعداؤنا إلى قيام الساعة -كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلنعد لهم العدة، ونعلم أنهم لا بد أن يواجهونا يوماً ما، ثم نجعل جميع موازيننا وفق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا أعطينا نعطي لله، وإذا منعنا نمنع لله، وإذا غضبنا نغضب لله، وإذا رضينا نرضى لله. ونخشى لو حلّت هذه القضية أن نعود أصدقاء نحن وهؤلاء المرتدون؛ فيجب أن نعاملهم كما أمر الله أن نعامل الكفار، ويجب أن تكون موالاتنا ومعاداتنا في الله ولذات الله، فهذه العقيدة يجب أن نتمسك بها، فإن متنا نموت ونحن متمسكون بها، وقد عملنا ما استطعنا، وأعددنا ما استطعنا، وإن عشنا فالنصر لنا -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وتأكدوا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف ينصرنا. وإن لم يكن النصر في جيلنا هذا الذي هو جيل المعاصي، فسيكون في جيل آخر، يأتي به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الجيل الذي سيتربى بعيداً عن العقد النفسية. وعندما جاءت الحملة الصليبية الأولى ودخلوا أنطاكية، كان عددهم خمسة الآف فقط، لكن الأمة كانت مشغولة بالشهوات، وقد فرقتها العصبيات والفرق والطوائف الضالة، وكان أغلى شيء في تلك الأيام هو المطربات، وأغلى سلعة في السوق كانت الجارية المغنية، حيث وصلت أسعارهن إلى عشرة الآف دينار، وإلى مائة ألف دينار، وكان أهم شيء عندهم هو الطرب واللهو واللعب. وكانوا أمة كبيرة جداً، ومواردها هائلة، ثم بعد ذلك خمسة آلآف من الصليبيين يذلونها؛ والحملة الثالثة كانت ثلاثمائة ألف صليبي من جميع دول أوروبا جاءوا وهُزموا بعد خمسين سنة تقريباً؛ لأنه ظهر جيل مؤمن بالله لا يعرف ذلك الفسق والهبوط واللهو الذي كان عند أولئك.

نصيحة للمسلمين

نصيحة للمسلمين ونقول نصيحة للمسلمين خاصتهم وعامتهم، نوجهها من هذا المكان، نسأل الله عز وجل أن تبلغ إلى كل من ينفعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها: إن الحرب هي أولاً مع أنفسنا، والصلح أولاً مع الله؛ فنحارب هذه النفس وهذه الشهوات، وهذه النفس الأمارة بالسوء، ونصطلح مع الله ونتوب إليه، ونعيد لأهل الدعوة قيمتهم واعتبارهم. فنعيد لرجال الهيئات قيمتهم واعتبارهم، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمته، ولكل أمر من أمور ديننا: الحق، والخير، والفضيلة نعيد لها قيمتها واعتبارها، ونكف عن كل المعاصي، غيروا وانظروا ماذا ستكون النتيجة! والله ليغيرن الله هذا الحال، ويكون هذا نصراً عظيماً جداً نفتخر به مدى الأزمان، ونظل نقول: الحمد لله الذي جعل هذه المشكلة سبباً لتغيير أحوالنا. فإذا بقينا على حالنا، نتعلق بالأسباب المادية، ونسينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واستمر صاحب الغناء في غنائه، وصاحب المنكر في منكره، ومحلات السياحة في فسادها، ومحلات الخياطة والتعري في عملها، وتارك الصلاة ظل تاركاً لها، والذي يريد تغيير تسجيلات الغناء إلى تسجيلات إسلامية يمنع، والذي يريد أن يتوب لا يجد من يشجعه، فإذا بقينا هكذا؛ فالعذاب قادم، ونعوذ بالله أن يعذبنا، ولكن نسأل الله ونتضرع إليه ألا يؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، وأنه إذا وقعت العقوبة والفتنة، أن يتوفانا غير مفتونين. فيجب أن نتوب؛ لنلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن على توبة وإيمان، فواجبنا عظيم وكبير ولا يستهان به، ولا تقل: ماذا أفعل؟ فأنت تعظ، وهذا يخطب، وهذا يعقد المجالس ليذكر الناس بالله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] فإذا أعرضنا، وعصينا؛ لا بد أن يصيبنا النقص: نقص في الوظائف والعملة والأرزاق. نذكر الناس ونعظهم ونعظ أنفسنا قبلهم، ونقول كلمة الحق التي سيحاسبنا الله تعالى عليها، لماذا لا نقولها وفيها الخير لنا وللأمة؟ وأقول: علينا ألا ننام هذه الأيام، وألا نهنأ بأكل ولا شرب، ليس ذلك لأننا نخاف من الموت، أو لأن هؤلاء سينتصرون، لا والله، لكن لأننا سنسأل عن العلم الذي لم ننشره، والدليل الذي لم نبلّغه، وعن الحق الذي لم نصرّح به ولم نقل إلا بعضه، وربما لم نقل شيئاً منه، فلو تحرك العلماء والقضاة والمسئولون كل بحسب مسئوليته، نحو التضرع والتوبة والإنابة والاستغفار لكان أفضل وأخير لنا، أما بدون ذلك فالمسألة ستكون مجرد مهاترات.

توقعات حول الأزمة

توقعات حول الأزمة وأنا أتوقع -والله أعلم- أنه لن تكون هناك ضربة قريبة، لا من هذا ولا من هذا، وإنما سيكون الحصار والإنهاك، فهذا يعزز مواقعه، وهذا يعزز مواقعه، فالبعثيون يحكمون قبضتهم على الكويت، والغربيون يحكمون قبضتهم على المنطقة بأكملها؛ وبعد ذلك سوف يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالفرج من عنده. ولن ينبع الأمل والفرج إلا من هذا الشباب الطيب المؤمن، إن اتقى الله وعرف واجبه في هذه الأحداث، وبدأ بالمرحلة الأساسية الأولى التي ذكرناها في الأسبوع الماضي، ثم ننتقل إلى المرحلة الثانية، ثم الثالثة، حتى لو استمر الحال مائة سنة أو مائتي سنة، فلا بد من يوم يتواجه فيه المؤمنون مع هؤلاء الكافرين. وفي ظل هذه الظروف الحالية نحن نحتاج إلى القاعدة الأولى؛ لأن عليها يبنى كل شيء، وتجاوزها إلى أي شيء آخر خطأ، ولا يصح أن يقرّ بأي حال من الأحوال، ومن أراد الأدلة فما ذكرنا يكفي.

شبهات وردود

شبهات وردود وهناك مشكلة أخرى خطيرة جداً، وحقيقةً أنه لا يمكن أن نسكت عنها، وهي الاستدلال بأدلة غير صحيحة، ولا تؤدي إلى المطلوب، ونحن نقول هذا دفاعاً عن ديننا، بغض النظر عن رأينا في أي حدث من الأحداث، وذلك لكي لا يُفترى على الله أو يُكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكي لا يقال على الله غير الحق. فهنالك من تكلم واستدل لبعض الأمور، فأخطأ الاستدلال، فيجب أن نبين خطأه، فنقول:-

الاستدلال بقصة عبد الله بن أريقط

الاستدلال بقصة عبد الله بن أريقط أولاً: الاستدلال بحديث عبد الله بن أريقط، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان به واتخذه دليلاً إلى المدينة، وهذا من باب استئجار الكافر، أليس البيع والشراء مع الكفار جائز أم لا؟ طبعاً جائز، والكل متفق على هذا، وهل الشركة مع الكفار تجوز؟ على القول الصحيح أنها لا تجوز؛ لأن الشركة مشاعر مشتركة: الرأي واحد، والأمنيات واحدة، فلا تجوز الشركة. أما الاستئجار: فإن كان استئجار عين أو استئجار منفعة معينة، فهذا جائز؛ لأنه ليس كالشركة، وهو أقرب للبيع لكنه بيع مؤقت، فلا يجوز الاستدلال بهذا الحديث في غير موضعه الصحيح.

الاستدلال بالمعاهدة التي عقدها النبي مع اليهود

الاستدلال بالمعاهدة التي عقدها النبي مع اليهود الأمر الآخر: هو المعاهدة التي عقدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع اليهود في المدينة، فسكان المدينة الأصليون هم اليهود والأوس والخزرج، فمن الأمور الجديدة على المدينة مجيئ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمهاجرون، إذ أنهم كانوا في نظر أهل المدينة كأنهم محتلون، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب المعاهدة، ومن ضمن ما كتب: أن الأمر في المدينة كلها مرجعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هذا شيء مهم جداً- وإذا داهم المدينة عدو، فإن الدفاع عنها يكون من قبل الجميع، فهل من المعقول أن يتصدى الأنصار والمهاجرون للعدو، واليهود لا يعملون شيئاً، وهم أهل البلد الأصليون؟ ليس هذا معقولاً! فهذه القضية هي مسألة تختلف تماماً. وشيء آخر وهو: هل استعان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمشركين في أي معركة من معاركه؟ لا لم يستغن أبداً؛ وقد جاء في بيان هيئة كبار العلماء أن الأمر يرجع إلى الضرورة؛ وهذا صحيح أن الأمر يرجع إلى الضرورة، ولكن الضرورة لها أحكام ولها تفصيل، وهذا ليس موضوعنا، لكن موضوعنا هو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستعن بمشرك في أي حرب، بل في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: {أسلمت، قال: لا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع فإنا لا نستعين بمشرك} وهذا حديث صحيح، أما ما نسب إليه -مما ذكره الشافعي رحمه الله- أنه استعان ببعض يهود خيبر، فهذا الحديث غير صحيح، ولم يستعن بهم، وإنما استعملهم في الأرض.

الاستدلال بقصة الدروع المستعارة

الاستدلال بقصة الدروع المستعارة Q هل استعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دروعاً من الكفار؟ A أولاً: الحديث الصحيح في سنن النسائي وغيره أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار من يعلى بن أمية، ويعلى بن أمية صحابي جليل مسلم، لكن ورد في روايات موجودة في السنن والمسند وغيره من الكتب أنه استعار من صفوان بن أمية وهو مشرك، لكن الصحيح أنه استعار من يعلى بن أمية وليس من صفوان بن أمية، فهذا شيء. ثانياً: وعلى فرض صحة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار دروعاً، فإن ذلك أمر طبيعي؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكم الجزيرة العربية، وهو قائد الأمة، وجيشه اثنا عشر ألف. فالجيش المسلم يمكنه أن يستعير أو يشتري السلاح من تجار الكفار، وهذا ليس فيه شيء! وليس هنالك إشكال في هذا! لكن هل هذا من باب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان بالكفار، وحاربوا معه كفاراً آخرين؟! الجواب: لا. ونقول هذا براءة للذمة، لأنه مهما كانت الظروف والضغط النفسي علينا؛ فلا يجوز أن نبرر لأنفسنا أي عمل بدليل غير صحيح، فلا يصح أن نستدل به في وقت الضرورة. مثلاً: الميتة ليس هناك دليلٌ أن أكلها حلال، لكن في حالة الضرورة تأكل الميتة، ومتى تكون الضرورة؟ وهل هي ضرورة؟ فهذا شيء آخر، فالاستدلال بدليل ضعيف أو موضوع أو غير صحيح؛ لا يجوز.

حكم الاستعانة بالكفار في القتال

حكم الاستعانة بالكفار في القتال والعلماء قد ذكروا أنه: إذا كنا في عهد مع عدو، وكنا نأمن غائلتهم، وأردنا أن نحارب عدواً آخر، وأمكننا أن نغلب كل منهما على حدة، في هذه الحالة يجوز أن نستعين بالعدو الذي بيننا وبينه عهد. مثلاً: أردنا أن نحارب الفرس، ففرح الروم بذلك، فعرضوا مساعدتهم، فإذا كنا قادرين على التغلب عليهم جميعاً؛ ففي هذه الحالة يمكن أن نستعين بالروم على الفرس. فهذه الحالة ذكرها الفقهاء، وقالوا: إنه بالإمكان الاستعانة للقضاء على عدو آخر، والأمر المهم أننا مهما كانت الظروف والأمور، يجب أن نتقي الله، إذا قلنا: قال الله، أو قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو هذا من الدين، أو هذا يجوز، أوهذا لا يجوز، فإنه يجب أن نقف عند كلام العلماء. ومن العجيب أننا نجد أنهم يخيفوننا، ويقولون: إن المطاوعة سوف يموتون؛ لأن الكمامات الواقية لا يمكن استخدامها مع اللحية، وهذا الكلام تكلم به مسئول في الحاخامية اليهودية -المقر الديني لليهود بإسرائيل- وقالوا: يجب أن تصطحبوا معكم مقصات؛ لأنه في حالة وضع القناع سيكون الأمر صعب مع اللحية. وأقولها بكل أسف: إسرائيل سكانها كما يقال: ما يقارب أربعة أو خمسة ملايين، وهي مستعدة أن تجند مليون جندي خلال أربع وعشرين ساعة، فالجيش جاهز، والاحتياط جاهز، والكمامات جاهزة، وكل شيء جاهز، فهي أمة تعيش الحرب مع أن الانتفاضة تؤرقها من الداخل، ومع أن اقتصادها منهك ومنهار من الداخل، ومع أن مجتمعها متفكك ومكون من عدة جنسيات، ولديهم مشاكل كثيرة؛ لكنها مستعدة في خلال أربع وعشرين ساعة أن يكون لديها ما يقارب المليون جندي جاهزين لأية حرب.

أهمية أعمال القلوب

أهمية أعمال القلوب لقد حثنا الدين الإسلامي الحنيف على الاهتمام بالقلب وتزكيته، وتطهيره من الشوائب والأمراض، وذلك لأن عليه المعول في صلاح الأعمال أو فسادها، وفي هذه المادة يبتدئ الشيخ حديثه عن أهمية الاهتمام بأعمال القلوب، مبيناً أن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب، مستعرضاً لأقسام القلوب، ومحذراً من أمراضها التي قد تؤدي أحياناً إلى موتها. ولقد اتخذ أهل البدع من أعمال القلوب مدخلاً لدس بدعهم وخرافاتهم، وخلخلة عقيدة الأمة ودينها. فعلى المسلم أن يكون حريصاً على دينه ولا يؤتى من قبل هذه الدعوى

موقع التربية من الدعوة إلى الله

موقع التربية من الدعوة إلى الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد: فإن موضوعنا سوف يكون عن جانب عظيم ومهم جداً من جوانب الإيمان، وهو ما يتعلق بأعمال القلوب التي غفل كثير من الناس عن أهميتها، ولا أعني بالغافلين عنها الذين انحرفوا فيها كالمتكلمين والصوفية، ولكنني أقصد تقصيرنا نحن أهل السنة والجماعة المتبعين لمنهج السلف الصالح، ومنهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الدعوة والتزكية والتربية، نحن قد لا نعطي لهذه الأمور ما تستحق من العناية والتركيز, مع أنها من أهم الأمور كما سنوضح بإذن الله تبارك وتعالى. والتذكير بالأمور الأساسية والمهمة واجب لا يجوز ولا ينبغي لأحد أن يجد غضاضة منه، فإن الله تبارك وتعالى أكثر ما ذكر في القرآن ووعظ ونوَّع في الأساليب بالإيمان بالله وتوحيده والإيمان باليوم الآخر، مع أن المخاطب به قوم قد آمنوا بذلك من قبل في الغالب، لكن هذه هي الأمور المهمة والأساسية والأصلية التي تنبني عليها حياة المؤمن وعبادته وأعماله والتي يجب أن يُذكِّر بها، وأن يُتَحَدَّث عنها كثيرا، ً فكيف إذا وجدنا أنها ربما أهملت لأسباب مختلفة.

الاهتمام بأعمال القلوب

الاهتمام بأعمال القلوب إنَّ علينا جميعاً -نحن طلبة العلم- أن نراجع أول ما نراجع موقف قلوبنا مع ربنا تبارك وتعالى، وحال هذه القلوب من التزكية والطهارة والتصفية والنقاوة، وأن نتعرف على أعمال القلوب، ونعلم مقدار ما لدينا منها، وماذا ينقصنا، وكيف فهمنا لها، ومعرفتنا وعلمنا بها، أهي كما يرضي الله عز وجل وكما كان السلف الصالح, أم هنالك شيء من الخلل فيها فيتدارك، فإذا صلحت هذه القلوب؛ فإن الحال يكون كما في الحديث الصحيح {ألا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ} رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي وأحمد. إنَّ هذا الدين إنما نزل في حقيقته لتزكية القلوب وإصلاحها، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا دَعْوَةُ أبي إِبْرَاهِيمَ} رواه أحمد. ودعوة أبينا إبراهيم هي ما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129] فإبراهيم عليه السلام دعا الله لما بنى هذا البيت العظيم "العتيق" أن يبعث في هذه الأمة هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبهذه الأهداف والأغراض، وقد استجاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دعوة إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. فنلاحظ هنا أن هذه الأمور الثلاثة المدعو بها اختلف اختلفت ترتيبها، فتقدمت التزكية على التعليم، ولاشك أن الإنسان لا يمكن أن يتزكى إلا بأن يتعلم الكتاب والسنة، فيتعلم الهدى الذي جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن عندما تتقدم التزكية فهي من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إلى هذه الغاية. فالأصل هي: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد كما في الحديث: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} رواه مسلم، وهذه القلوب هي محل الابتلاء والتمحيص ومحل الأعمال التي لو استعرضناها؛ لعجبتم ولعلمتم أن لهذه القلوب شأناً عظيماً عند الله تبارك وتعالى، كيف لا والقلب هو الذي إذا كان حياً فإن الجسد يحيا معه، وإذا مات مات الجسد.

حياة القلب وموته

حياة القلب وموته فالحياة حياة القلب، والموت موت القلب، والمرض مرض القلب. ولذلك نجد آيات عظيمة وكثيرة تتحدث عن أعمال القلوب، وأعظم هذه الأعمال بلا ريب هو الإيمان الذي هو الدين كله، ونحن الذين خاطبنا الله تبارك وتعالى باسم الإيمان حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] والمقصود به: الذين استجابوا لله تبارك وتعالى، وأذعنوا ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة هو -كما تعلمون- (قول وعمل). فالقول قولان والعمل عملان. فالقول: قول القلب وهو: إقراره وتصديقه، وقول اللسان وهو: إقراره وتصديقه، أي: نطقه. والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح. فلا أحد من المسلمين يجهل أنه لا بد من عمل الجوارح كالصلاة والصيام والزكاة وما أشبه ذلك، والأوضح عند المسلمين عامة الإقرار باللسان أي: (قول اللسان) , لكن ما يتعلق بالقلب -وهو الأهم- قد يخفى على كثير من المسلمين. ولهذا نجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخاطبنا بذلك ويبين لنا أهمية القلب فمثلاً: لما جاءت الأعراب، وقالوا -كما حكى الله عنهم-: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] فالأعراب أسلموا بمعنى أنه: حصل منهم الانقياد الظاهر، وأصل الإقرار والتصديق الذي يكون بالقلب، ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم. فالقلب لم يصل بعد إلى أن يكون قد آمن حقاً، وهذه درجة لا يجوز لأحد أن يدعيها، فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] وذلك في مخاطبة المؤمنين، فهكذا يكون تزيينه في القلب، ودخوله فيه، أما المؤمنون السابقون فقد زينه في قلوبهم، وأما الأعراب فهو لما يدخل قلوبهم بعد، مع أن الجميع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مثلما نكون نحن الآن في الصلاة -مثلاً- في المسجد وفي الجهاد, فكلنا في مسجد واحد وفي معركة واحدة, لكن بين هذا وذاك من التفاوت مثل ما بين السماء والأرض، بقدر الإيمان وبقدر أعمال القلوب من الإخلاص والخشوع والإنابة والإخبات وغير ذلك من أعمال القلب. أما أعمال الجوارح فإنها لا تكفي من دون أعمال القلب كما حصل في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الرجل الذي كان يبلو بلاءً شديداً ضد المشركين، ومع ذلك يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هو من أهل النار}، ربما يكون ذلك مع وجود من هو من أهل الإيمان والتقوى ومن أهل الجنة في الجيش, ولم يبل ذلك البلاء ولم يقتل مشركاً واحداً ولم يَصُلْ ولم يجل في المعركة، وكذلك في الإنفاق والصدقة والإحسان وسائر أعمال الخير التي إنما نريد أن نعبد ونتقرب إلى الله تبارك وتعالى بها. إذاً: الإيمان هو: إيمان القلب، والتقوى -أيضاً- هي: تقوى القلب، كما قال الله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} رواه مسلم، وأحمد، فمحل التقوى هو القلب، والتقوى تشمل كل أعمال الخير والبر والصلاح، ولاسيما إذا أفردت, وقد بحث هذه المسألة شَيْخ الإِسْلامِ في أول كتاب الإيمان عند كلامه على لفظ البر ولفظ التقوى، وأمثالها من الألفاظ التي تأتي في القرآن والتي إذا جاءت فهي تشمل كل أعمال الإيمان الظاهر منها والباطن.

أقسام القلوب

أقسام القلوب أقسام القلوب ثلاثة وهي التي تسلم، أو تقسو، أو تمرض، والقسوة هي الموت، وهذه الثلاث الحالات تنتاب القلوب. أما القلوب السليمة: فقد جاءت في كتاب الله تعالى، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] أي: خالص متجرد من الشرك، لا تشوبه شائبة من شرك، أو نفاق، أو رياء. ويقول الله تبارك وتعالى في موضع آخر عن سلامة القلب في حق إبراهيم الخليل: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] فإبراهيم عليه السلام حقق ذلك، ولذلك أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالائتساء والاقتداء به؛ لأن قلبه عليه السلام سَلِمَ من الشرك، ومن الولاء لغير الله، ومن المداهنة، والرياء، والنفاق، فخلص وتجرد، وتطهر لله وحده لا شريك له. أما القلوب المريضة: فكما قال الله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] فالقلوب تمرض، والآيات التي تذكر مرض القلب كثيرة منها قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} [البقرة:10]. وهناك طائفة كبيرة محسوبة ومنسوبة إلى هذا الدين, ويأتي الحديث عن أمراض القلوب غالباً مقترناً بها، وهم المنافقون -نسأل الله العفو والعافية- وهل هناك مؤمن يخاف من شيء أكثر من خوفه أن يكون منافقاً، فهذا أخشى وأخطر ما يجب أن نخافه، فلا ينفعنا عمل مهما كبر وعظم مع النفاق، لأن المنافقين ينفقون ولكن ينفقون وهم كارهون، ويصلون ولكن يصلون وهم كارهون، ويخرجون للجهاد ولكن كما قال تعالى {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} [التوبة:47]. فليست المسألة في أن الأعمال تقع، لكن أن تكون هذه الأعمال تقع مع قلب سليم من المرض، ولهذا خاطبهم الله ووصفهم بأنهم قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، فلا ينفع من آمن بفيه ولم يؤمن قلبه، إلا السلامة من سيف المؤمنين في الدنيا؛ لأنه قد دخل في دائرة من عصم دمه بقول هذه الكلمة ظاهراً، ولهذا لما ضرب الله تعالى المثل لهم في أول سورة البقرة قال فيهم: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] أي: أنهم ليسوا كالكفار الذين لم يروا نوراً مطلقاً، فقد رأو نوراً ولكن هل ينفعهم هذا الصِّيب، وهذا البرق؟ لا ينفعهم مطلقاً، بل هو مخيف لهم، لأنهم لم يذعنوا بقلوبهم لله تبارك وتعالى, ولو أذعنوا وآمنت قلوبهم لاستنارت ولما كان ذلك إلا نوراً في قلوبهم وحياة يحيون بها، ويزكون بها أعمالهم، وتسلم قلوبهم من المرض فتطمئن، كما قال الله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. وأما القلوب الميتة: فإنه إذا اشتد المرض بالقلب؛ حصل الموت، والموت: هو القسوة كما في قول الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74] وقوله تعالى أيضاً: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم} [الزمر:22].

من نتائج مرض القلوب

من نتائج مرض القلوب هناك ألفاظ قريبة من القسوة أو شبيهة بها تدل على موت القلب -والعياذ بالله- إذا كان صاحبه ممن أهمله حين مرض, ولم يتنبه له ولم يعالجه بذكر الله؛ فأوصله إلى نتائج مرض القلب مثل: 1 - أن يقفل عليها، كما قال تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فيقفل على هذه القلوب. 2 - الران، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون} [المطففين:14]. 3 - أو التغليف، كما قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88]. 4 - عدم الفقه، كما قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]. 6,5 - الطبع والزيغ، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]. 7 - العمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج:46]، وقد ذكر الله تبارك وتعالى الكثير من نتائج موت القلب من مثل هذا، ولو تدبرنا في القرآن حق التدبر لوجدنا الكثير من هذه المواضع، فيما يتعلق بمرض القلب وموته، وأكثر من ذلك أو مثله فيما يتعلق بأعمال القلوب.

أعمال القلوب

أعمال القلوب حياة القلوب لها أعمال ولها صفات وأحوال، والأعمال القلبية كثيرة جداً منها:

الوجل

الوجل كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2].

المحبة

المحبة والمحبة قطعاً محلها القلب؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ُيحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله} [البقرة:165] ويقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ويقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فهذه مزاعم ودعاوى باطلة، ولكن المؤمنين هم الذين يحبون الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبون المؤمنين والصالحين وكل ما من شأنه أن يقربهم إلى الله عز وجل، وإلى محبته ورضاه.

الإخلاص

الإخلاص الإخلاص عمل عظيم، وبه يكون الفارق بين المؤمنين والمنافقين، لأنَّ المنافقين حتى وهم يشهدون شهادة الحق، فإنهم يشهدون وهم كاذبون، فإذا أردنا أن نفرق بين المؤمنين والمنافقين فالصدق والإخلاص هما أساس ذلك, وهما من أعظم أعمال القلوب إضافة إلى المحبة واليقين، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة:5] نعم هكذا أمروا، فلو عبدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من غير إخلاص, لما قبل منهم ولما نفعهم ذلك في شيء، لا سيما إذا فقد الإخلاص كله, أما إذا كان الإخلاص ناقصاً أي غير مفقود فشابته شوائب؛ فهذا له حكم أهل الوعيد والعصاة.

الإخبات

الإخبات الخبت في اللغة: هو الأرض المنبسطة، والإخبات: أخبت إذا طأطأ حتى يساوى بالأرض، ففي هذا دليل على كمال الانقياد والإذعان {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54] فالإخبات هو عدم الاعتراض, فلو ارتفعت لكان فيها نوع من الاستكبار. ولهذا يقولون في قلوب الكفار: إنها قلوب متكبرة جبارة, وكثيراً ما يصفهم الله بوصف الاستكبار؛ لأنهم يستكبرون عن عبادة الله وطاعته والانقياد لأمره، فالاستكبار ضد الإخبات. والإخبات في الشرع هو: الخضوع الكامل والمطلق، فكأنه التصق بالأرض، فليس لديه أي اعتراض على ما يأتي من عند الله تبارك وتعالى، فهو كما قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] والتسليم هو: حالة الإحسان التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل العظيم المشهور، وهو: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} لأنه كما قال ابن القيم رحمه الله تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقام الإسلام. فمن لم يحكم رسول الله على قلبه ونفسه, ويجعل هواه تبعاً لما جاء به في أصل التحكيم؛ فإنه ليس بمؤمن ولا بمسلم, إذ التحكيم في مقام الإسلام هو كما قال: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65]، وانتفاء الحرج يكون في مقام الإيمان، فالإيمان درجة أعلى من درجة الإسلام، فالدرجة هذه أنه حكم وانتفى الحرج من قلبه فلا حرج فيما يحكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمقصود هو: ما جاء به عامة، أي: ما جاءنا من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهديه وسنته الظاهر منها والباطن، فنجعل كأنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنفسه قائم بين أظهرنا, يقول: اعملوا كذا ولا تعملوا كذا. فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاب بجسده, وأما دينه وسنته وهديه فهي بين أيدينا وحجته قائمة علينا, فلا بد من انتفاء الحرج هذا في مقام الإيمان.

التسليم

التسليم يقول: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وهذا التسليم هو الذي لا يخطر على البال معه أدنى اعتراض كما كان الصديق رضي الله عنه. ففي صلح الحديبية كان الصديق رضي الله عنه هو الوحيد من بين الصحابة جميعاً الذي سلم في هذا ولم يعترض، أما ثاني رجل في هذه الأمة في الإيمان والدين، وهو عمر رضي الله عنه فقد أبى واعترض، وقال: {يا رسول الله! ألسنا بالمؤمنين، وأليسوا بالكافرين، قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!} فكأن الشروط مجحفة وما سلم تسليماً، لكن ليس في ذلك رد لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو تقديم بين يدي الله ورسوله، وإنما ذلك غيرة منه على دين الله، وحرصاً منه على علو الدين وظهوره وتمكينه وانتصاره على أعدائه, فيرى أن هذه الشروط مجحفة للمسلمين -كما هو ظاهر الحال- فما سلم تسليماً بحيث لا يكون لديه أي ممانعة أو مدافعة أو منازعة، وإذا علمنا ذلك علمنا أهمية أعمال القلوب، وأن التزكية تحتاج إلى صبر ومصابرة ومثابرة ومجاهدة ومحاضن تربوية، وعمل ذاتي من المربي أو المزكي بنفسه ومن المجتمع أو الأمة، حتى تصلح هذه القلوب وتصلح هذه الحالة (حالة الإحسان). ولهذا يقول عمر رضي الله عنه: [[فأعتقت وتصدقت لذلك]]، أي: أعتق وتصدق من أجل موقفه في ذلك اليوم, لأنه أنزله عن دائرة التسليم المطلق الذي فعله الصديق رضي الله عنه، وكان الصحابة مع عمر لكن لم يستطيعوا وليس فيهم جرأة عمر رضي الله عنه، فلما رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحلق ويتحلل؛ عندها أذعنوا عملياً لمشورة أم المؤمنين رضي الله عنها.

الإنابة

الإنابة قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] والإنابة معناها قريب من معنى الإخبات، وأناب في اللغة معناه: عاد ورجع، فالإنابة: أن يعود الإنسان ويرجع إلى الله رجوعاً كلياً متجرداً خالصاً لله تبارك وتعالى، فيرجع عن كل ما لديه من أهواء، وشهوات، ودوافع، ونوازع ويجعل همه هو رضا الله تبارك وتعالى.

الخشية

الخشية الخشية أمرها عظيم، وقد مدح الله وأثنى على الذين يخشونه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ولا خير في علم لا يؤدي إلى خشية الله تبارك وتعالى.

الخشوع

الخشوع قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] والخشوع هذا بمعنى الخشية أو قريب منه. فأعمال القلب تتقارب؛ لأنها أعمال باطنة، فنجد -مثلاً- الوجل، والخوف، والخشية، والخشوع؛ متقاربة المعنى، ولكل واحد منها معنى, لكنها متقاربة في ذلك وكلها تدل في النهاية على كون هذا القلب خاضعاً وذليلاً للعزيز الجبار المتكبر الذي خلقه فسواه وعدله، وافترض عليه ما افترض، وشرع له ما شرع، وتعبده بما تعبد. فإذاً الوجل والخوف والخشية والخشوع هي جملة من أعمال القلب لها دلائل، ويقابلها الرجاء والمحبة والرضا والفرح, فتتوازن النفس الإنسانية بين هذه الأربعة وتلك الأربعة, فيكون الإنسان حقاً قد جمع كل أعمال القلوب وأنواعاً من العبوديات التي يحبها الله تبارك وتعالى والتي لا يريد أن يقع أو يحصل بعضها ويترك ويهمل البعض الآخر.

التوكل

التوكل إنَّ أعمال القلوب كثيرة، والقاعدة في ذلك: كل ما نسب إلى القلوب أو إلى الصدور في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهي من أعمال القلوب، وهي أحياناً لا تنسب إلى القلب أو إلى الصدر ولكن هي محلُ ذلك، كالتوكل مثلاً، فهو من أعظم أعمال القلب؛ لأن التوكل يدخل في الاستعانة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفاتحة التي هي أم القرآن والسبع المثاني يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وكل الدين داخل في هذه الآية وهذه، كما قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك:29]، فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] هي {آمَنَّا بِهِ} [الملك29] و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هي {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَاِ} [الملك29]. فهناك أمران: أن يكون الله تبارك وتعالى وحده هو المعبود والغاية وهو المراد الذي نسعى إليه, وأن يكون هو المستعان به وحده على تحقيق هذه الغاية, والمتوكل عليه وحده في أمورنا وحدها، فأعمال القلوب كثيرة نستطيع أن نستخلصها من كتاب الله.

ضلال الناس في أعمال القلب

ضلال الناس في أعمال القلب كيف ضلت الأمة في أعمال القلوب، وكيف أخطأت، وكيف صار حالها؟ في أول الحديث تعرضنا من أجل بيان أهميتها إلى التقصير والخلل الذي يحصل من أهل السنة والجماعة في هذا، فلعلنا نبدأ في هذا ثم ننتقل إلى المناهج الأخرى التي ضلت وانحرفت، فنقول: إن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف الصالح، فهموا كتاب الله تبارك وتعالى, وأقاموه علماً وعملاً، وعلموا أهمية الإخلاص واليقين والصدق والمحبة وغير ذلك من أعمال القلوب، فتحققت فيهم العبودية الكاملة لله عز وجل، وعلموا أن لا إله إلا الله ليست كلمة تقال باللسان، وعلموا أن الإنسان إذا انقاد بقلبه وخضع وخشع، فلابد أن يعمل وأن تنقاد جوارحه؛ ولذلك كانت حياتهم واقعاً وترجمةً وتجسيداً لهذه الحقائق الإيمانية التي تعيشها قلوبهم رضي الله عنهم وأرضاهم. أما الذي حدث في العصور المتأخرة لبعض أهل السنة والجماعة -ولا نتكلم عمن عداهم- أنهم اعتراهم ما اعترى غيرهم, ولكن بقدر، فاعتراهم الضعف، وانحسر وتضاءل المفهوم في أذهانهم، فأصبح الدين كأنه الشعائر الأساسية, وأصبحت شهادة أن لا إله إلا الله مجرد قول فقط. فلم يعد أهل السنة بتلك القوة وفي تلك القمة العالية التي كانت عليها الأجيال أو القرون الثلاثة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال: {خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} هؤلاء الذين يأتون بعد القرون الثلاثة، ليسوا من أهل البدع ومن أهل الأهواء، بل هم على نفس الخط ولكنهم أقل، ففيهم ضعف، وفيهم من الأمور التي لا تخرجهم عن السنة، لكنها تخرجهم وتنزلهم عن درجة القرون الثلاثة المفضلة التي هي في قمة العمل والإيمان والتصديق بهذا الدين. ودليل ذلك: أن الذين فهموا حقيقة أعمال القلوب من العلماء وتكلموا عنها قوبلوا بشيء من الاستغراب, فقد استغربهم أو ربما أنكر عليهم البعض, ولا نعني بالبعض أهل البدع, ولكن بعض أهل السنة ظنوا كأنما جاءوا بشيء جديد, أو كأن هذا العالم أتى بأمر ما كان يؤتى به من قبل، أو أنه على الأقل جاء بشيء هم لم يألفوه من شيوخهم، وانظروا -مثلاً- كيف استُغْرِبَ ما جاء به شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تبارك وتعالى، فبعض الناس فيه الخير والصلاح, ولا يحب أهل البدع ولا يركن إليهم، وكانوا أيام دعوة الشيخ محمد وفي أثنائها وقبلها ومع ذلك ما دعوا إلى مثل ما دعا إليه ولم يجددوا مثل ما جدد؛ لأنهم ما فطنوا إلى ما فطن إليه، لكن الشيخ -رحمه الله تبارك وتعالى- وقبله ابن تيمية والإمام أحمد، فهموا وعلموا أن هذه العقيدة قول وعمل، وأن القلب إذا حيَّ وتحرك وانطلق, فلا بد أن تتحرك الجوارح وتنطلق في الحياة, فليست المسألة تقرير بأن نجلس ونقرر عقيدة الأسماء والصفات، وعقيدة القدر, وعقيدة اليوم الآخر، وكل منا يحفظ هذا العلم، ثم ينصرف راشداً إلى بيته ويكون قد حصل له الخير والعلم والفضل، لا شك أنه حصل له خير وعلم وفضل والحمد لله وهذا شيء عظيم، لكن الأمر أكبر من ذلك أما هؤلاء الأئمة فقد تعلموا كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الصحابة الإيمان قبل القرآن. وهؤلاء الذين ورثوا هذا العلم علموا أنه لا بد أن يتحول هذا العلم إلى عمل ودعوة وجهاد وصبر ومصابرة، لذلك انطلقوا في واقع الحياة، فلا يمكن أن يقر الإمام أحمد الأمة وهي تنصرف وتنحرف عن العقيدة الصحيحة إلى عقيدة فاسدة، وإنْ أُوذِي، وضرب، وجلد، وإن حصل له ما حصل -كما تعلمون- وكذلك شَيْخ الإِسْلامِ أراد أن يحرك هذه الأمة في الجهاد وهو في أول الصفوف، فيجاهد طواغيت التتار ويذهب بنفسه ويخاطبهم بأقوى الكلام. أما الباطنية فيأخذ طلابه ويجاهدهم بالجدال، ويدعو الأمة لمقاتلة الصليبيين، إنها حياة حقيقية التقت فيها حياة أعمال الجوارح مع حياة القلب، وعمل القلب, ولكن ليست كل الأمة فيها ذلك, فالتقصير حصل عند أهل السنة في هذا, فعندما أتت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كان الأمر كذلك. والآن ونحن -والحمد لله- نعيش على هذه العقيدة وعلى بقايا هذه الدعوة, نجد فينا من الضعف الظاهر البيّن، والواضح الجلي، والذي يدل على أننا لم نحقق أعمال القلوب كما ينبغي، وإن كنا -والحمد لله- في الجملة مجانبين لأهل الأهواء والبدع، ولكن ليس الأمر فقط أن تجانب أهل الأهواء, ولكن أن ترتقي في درجات الإيمان واليقين والإخلاص والدعوة، ولذلك كم من المسلمين ومن طلاب العلم من لا يعلم شروط لا إله إلا الله، والتي هي: العلم والإخلاص واليقين والصدق والقبول والمحبة والانقياد، ولو رجعنا لأعمال القلب التي نتحدث عنها، فـ: "لا إله إلا الله" تقتضي هذه الشروط، والتي هي أساسيات الإيمان، فنحن رجعنا إلى هذه القضية، فالشخص الذي لم يتعلم هذه الشروط ولم يوفقه الله لها، بل ربما لا يتخيل أن لها شروطاً أو أركاناً أصلاً، لكن مع ذلك فهو إن شاء الله تبارك وتعالى على الإيمان والسنة وفيه خير ولا يأتي بالبدع، ولكن هذه الإشارة تكفي لنعلم أن الأمة لديها هذا الخلل والنقص الواضح.

أعمال القلوب عند المبتدعة

أعمال القلوب عند المبتدعة ما ذكرناه من أهمية أعمال القلوب، هو ما يعتقده أهل السنة أما غيرهم من أهل البدع فلهم مواقف أخرى.

الطائفة الأولى: أهل الكلام

الطائفة الأولى: أهل الكلام إنَّ أهل الكلام: هم الذين تُقرر كتبهم ومناهجهم الآن في الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية خارج هذه البلاد إلا ما رحم الله, بل ربما قررت هنا في بعض الجامعات وتدرس في بعض المساجد. عقائد أهل الكلام التي يقولون فيها -كما يقول الباقلاني وهو من أكبر أئمة المذهب الأشعري المتقدمين والجويني -: 'إن الإيمان هو التصديق دون سائر أعمال القلب والجوارح' فالإيمان عندهم مجرد التصديق دون سائر أعمال القلب والجوارح, والجويني في الإرشاد يأتي بالخلاف فيقول: قال جهم: 'الإيمان هو المعرفة بالقلب وقال: السلف الإيمان قول وعمل ثم يقول: والذي نرتضيه ديناً هو: أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط' أي: غيَّر عبارة جهم والتي هي المعرفة، وجاء بالتصديق. إذاً: هو يرفض مذهب السلف بعد أن نقله وأورده وذكره، فكيف يكون هؤلاء من أهل السنة والجماعة كيف يكونون متبعين لمنهج السلف الصالح وهم يذكرونه ويتعمدون مخالفته، وإلى أي رأي يخالف! إلى رأي ليس ببعيد عن رأي جهم، وإن غيروا المعرفة وجعلوها تصديقاً. فإذا تجرد التصديق عن العمل، وعن بقية أعمال القلب والجوارح؛ فإنه يصبح في الحقيقة علماً مجرداً أو معرفة مجردة لا أكثر ولا أقل، فكأن الاختلاف بينهما -بين الأشاعرة والجهمية - لفظي فقط. إذاً: ماهي نتيجة أن تدرس عقائدهم الباطلة من أقصى إندونيسيا مروراً بـ الهند وبنجلادش وباكستان وغيرها إلى الدول العربية إلى تركيا إلى إفريقيا وتكون هذه هي المناهج التي يتعلمها الناس، فيقال لهم: إن الإيمان فقط هو التصديق ولا يدخل فيه أعمال القلب ولا أعمال الجوارح. إنه يترتب على هذا الكلام خطر عظيم، وهو الواقع في أحوال المسلمين اليوم؛ حيث اعتقدوا أن الكفر هو التكذيب، ما دام أن الإيمان هو التصديق، فمن اعتقد أن الله حق، وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق؛ فقد صدق وهو مؤمن، فالكافر هو الذي يعتقد أن الله تبارك وتعالى ليس حقاً وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس صادقاً، وكم من المسلمين من يعتقد ذلك؟! قليل جداً. فلما أهملوا التوكل والاستعانة واليقين والإخلاص وغير ذلك من أعمال القلوب؛ استُعين بغير الله، واستُغيث بغير الله، ودُعي غير الله، وعُبد غير الله؛ فامتلأت بلاد العالم الإسلامي بالقبور، والأضرحة، والمشاهد، والمزارات، وأصبح الناس يتقربون إليها، ويطوفون حولها، ويدعون أصحابها، ويبتهلون إليها، ويتضرعون إلى أصحابها، ويذبحون لهم، ويهدون إليهم، فإذا قلت: هذا شرك، وهؤلاء يقعون في الشرك، قالوا: ليس هذا بشرك أو كفر؛ لأنهم تعلَّموا أن الكافر هو الذي كذَّب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يؤمن به، وهذا مصدق، فإذاً أنتم مبتدعة، وأنتم على مذهب الخوارج! وتهمة الخوارج هذه إذا سمعتموها وأنها تقال لمن ليس من أهلها، فاعلموا أن هذه هي سنة الله تبارك وتعالى كما قال: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53]، وكما قال الله تبارك وتعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43]، فيقال: خوارج لكل من دعا إلى الله تبارك وتعالى على علم وبصيرة, وهو واضح أنه مجانب لمذهب الخوارج مثل ما بين السماء والأرض. فهكذا يتهم أهل الباطل وأهل الإفك من أراد أن يجرد التوحيد وأن يخلصه لله تبارك وتعالى، في القديم والحديث، وفي كل زمان ومكان. إن إغفال أعمال القلوب هو الذي أدى إلى هذه الظاهرة العجيبة جداً لو تأملناها، وربما أن من خرج من هذه البلاد ورآها، تعجب كل العجب، فتجد أستاذاً جامعياً في كلية الشريعة أو في غيرها على درجة كبيرة من العلم يقول: ذهبت عند ضريح الشيخ فلان أدعو، فيقال: أنت دعوته، فيقول: لا أنا ما دعوته ولكن دعوت الله تبارك وتعالى بواسطته، فإذا قلت له: فما رأيك فيمن يدعوه! يقول: حتى من يدعوه فغرضه التوسل، فإذا قلت: وأين الدليل؟ يقول: الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] سبحان الله! كل هذه الآيات التي في أعمال القلوب تهمل, ويؤتى بمثل هذه الآية, ويتأولونها على غير وجهها, ويجعلونها معارضة لكل الآيات الصريحة الدلالة الواضحة على أنَّ القلوب لا بد أن تتجرد لرب القلوب تبارك وتعالى.

الطائفة الثانية: الصوفية

الطائفة الثانية: الصوفية ولقد انحرفت الصوفية انحرافاً عظيماً في أعمال القلوب, فهم لم يهملوا أعمال القلب كالذين أغفلوها من المتكلمين، فـ الصوفية من جنس الضالين, وأما أهل الكلام فهم من جنس المغضوب عليهم. فمن ضل من أهل الكلام -وهم كلهم أهل ضلال- فهو من جنس المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق ولكنهم تعمدوا مخالفته ولم يعملوا به، فعندهم علم في أقوالهم، ولكنهم يتركون ذلك، أما الصوفية فهم من جنس الضالين، لأنهم يعلمون أهمية التوكل، فأكثر ما يدعون ويتكلمون عن أعمال القلوب ويركزون على اليقين والإخلاص والإخبات والإنابة، ويجعلونها مقامات وأحوالاً. وهم يعادون أهل الفقه، أو أهل الظاهر, أو الشريعة، إلى غير ذلك من الألقاب التي ينبزون بها العلماء لأنهم يرون هؤلاء العلماء يغفلون عن أعمال القلوب, فيجلس أحدهم في المسجد يتكلم عن كتاب المياه والطهارة والوضوء والصلاة والحيض والغسل والزكاة, ولا يتكلم عن اليقين أو الإنابة أو الإخلاص أو الخوف أو الرجاء أو المحبة أو الخطرات أو الوساوس أو الشكوك أو غيرها، فيقولون: هؤلاء أهل الظاهر فقط، أي: أحكام ظاهرة فقط، ويتركون الأساس، نعم هذا تقصير كما ذكرنا أن تهمل هذه الجوانب، لكن لا يفر من انحراف إلى انحراف آخر. أما التوكل -مثلاً- عند الصوفية فهو التواكل، ولهذا عندما يأتي الغزالي في الإحياء فيجعل درجات الناس في هذا العمل العظيم, يقول: 'الناس درجات، منهم عامة الناس وهؤلاء يعملون ويتخذون الأسباب'، أي: يكدحون من أجل الحصول على لقمة العيش. ثم قال: 'ومن مقامات التوكل الذي يعتزل في المسجد ويذكر الله ويسبح الله ويتوكل على الله برجاء ما يقدم له'، أي هذا يعطيه دينار والآخر درهم، وآخر يقول: تعال اليوم العشاء عندي، وهو جالس يعبد الله تبارك وتعالى في المسجد، انظروا كيف يكون هذا مقام من مقامات التوكل. ثم قال: 'ومقام أعلى منه كمقام الخواص وأمثاله من أئمة الصوفية وهو الذي ينطلق ويمشي في البرية بغير زاد، توكلاً على الله تعالى، وترك الأخذ بالأسباب'، فإذا كان يريد الحج -مثلاً-: من بغداد، أو من خراسان، إلى مكة، فيخرج في البرية من غير زاد، وذلك ثقة في الله، وتوكلاً عليه، ولا يأخذ أي شيء، وهكذا يهيم في الصحراء وهذه هي الدرجة العليا من التوكل عند الصوفية، سبحان الله! كيف سيكون حال الأمة الإسلامية لو أخذت بذلك؛ لتركت الأسباب، ولتواكلت، ولأفنُيت تماماً، فيفنيها التتار والصليبيون وأمثالهما، -وفعلاً- فلما جاء الصليبيون اعتزل الغزالي الدنيا ولم يكن له أي مشاركة، والمقصود من هذا النموذج بيان خلل الصوفية في فهم أعمال القلوب كالتوكل. أما الرضا وهو عمل عظيم, فقالت عنه الصوفية: الرضا أن ترضى بكل ما ترى في هذا الكون، أي أن تشهد الحقيقة الكونية، فكل ما قدره الله تبارك وتعالى ترضى به، فالكفر، والشرك، والسحر، والزنا، والفساد، والسرقة، والظلم، والإفك، ترضى بها لأنها من عند الله تبارك وتعالى فتشهد الحقيقة الكونية. حتى أن بعضهم فعل الأعاجيب، فلما دخل هولاكو إلى بغداد أتى أحد شيوخ الطريقة وأخذ يقود الفرس لـ هولاكو، فقال الناس: شيخ وتقود الفرسان لعدو من أعداء الله, سبحان الله! لكن الشيخ أجاب: بأن هذا من شهود الحقيقة الكونية، فهذا قد يكون منافقاً في الحقيقة، ولا شك أن مثل هؤلاء عملاء، وفي الأصل هو أجاب بما اصطلحت عليه الصوفية، بأن هذه عقوبة من الله على المسلمين بذنوبهم، فيدخل مع أعداء الله تبارك وتعالى فيا سبحان الله على هذا الفهم! ولو أن كل واحد من المسلمين فهِم كفهم هذا الشيخ الضال، لكان كلما داهمنا عدو، ذهبنا مع اليهود، أو الصرب، أو الأمريكان، أو المجرمين، في كل مكان يحاربون فيه أو يهاجمون فيه المسلمين، سبحان الله! أما المحبة, فقالوا: المحبة إذا تعلق المحب بالمحبوب؛ رضي عنه ولم يؤاخذه بشيء, فأصبحوا -حتى في عبادتهم- إن تقربوا إليه بشيء تقربوا إليه بما يثير المحبة، يقولون: نحن أحببناه فلا يؤاخذنا في شيء، لأن الله تبارك وتعالى لما قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] قالوا: فإذا أحب الله العبد لا يعذبه بذنوبه، إذاً نحن نحب الله ويحبنا الله تبارك وتعالى فلا يعذبنا. فكل ما يعملونه هو تهييج المحبة فقط، فيجلسون ويجتمعون رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً ومرداناً، وينشدون الأناشيد في المحبة والعشق والهيام والغرام، ومنها قصيدة امرؤ القيس فيأتون بها، والقصائد التي قالها المجنون في ليلى يأتون بها وليس فيها تغيير، ويتناغمون، ويتمايلون عليها ويقولون: هذه تهيج المحبة وتجعلنا نحب، فإذا جئنا إلى محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم يرون أنها عشق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظر إلى سوء الأدب حتى في التعبير، يرون العشق هو عشق النبي، وقد هجاهم المعري على ما فيه من الانحراف لما قال: أرى جيل التصوف شر جيل فقل لهم وأهون بالحلول أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي لقد بلغت -كما أوردت بعض المصادر- تكاليف بعض حفلات الصوفية التي كان يحضرها سلاطين المماليك وغيرهم آلاف الدنانير والمسومات والروائح والأطياب، فترى الشيء العجيب من الترف والبذخ، فعندما يحتفلون بعيد ميلاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبتَدَع ترى بذخاً هائلاً جداً، فيأكلون من هذا البذخ ثم يقومون يرقصون ويتمايلون إلى الفجر، فقول المعري هنا على ما فيه من الزندقة ينطبق عليهم: أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي!! فإن أنكر هذه البدعة عليهم منكر, قالوا: هذا لا يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تستغرب منه أن يقول: هذا خارجي، أو وهابي، أو هذا لا يحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان يحبه ويحب الله لأكل كما يأكلون ولرقص كما يرقصون, نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية، إذاً هذا فهمهم للمحبة، ولذلك من غلوهم في فهم المحبة أنسوا الناس الخوف، بعكس الخوارج الذين أخذوا الخوف فقط، وأغفلوا الرجاء، فـ الصوفية أهملوا الرجاء كما قال الهروي: 'الرجاء أضعف مقامات المريدين'، إذاً هم أخطئوا وضلوا في الرجاء، والخوف، والرضا، والمحبة، وحتى في اليقين. أما اليقين عند الصوفية فهو شيء عجيب جداً، فاليقين عندهم أن الواحد منهم ينام بعد أن يدعو بدعاء معين ابتدعوه فيرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في تلك الليلة، بل وصل الحال بهم إلى أنهم يرونه -كما يزعمون- يقظة، بل ويدعون أن الله تعالى يكلمهم وهم يسمعونه. إذاً: وصلت الأمة إلى ما ترون من الحال، فالطائفة الأولى أناس انصرفوا إلى فقه مجرد, مع أن الفقه في حقيقته هو العلم الشريف العظيم الذي منه الفقه الأكبر وهو التوحيد، ولكنهم انصرفوا إلى مجرد أحكام ومسائل يبلغون فيها الدرجات والمناصب، ولكنهم في بعدٍ كامل وشديد عن تزكية القلب وتطهيره وتنقيته، والإجلال لله تبارك وتعالى والخشوع، والخضوع والإنابة له وتوحيده كما أمر الله تبارك وتعالى. والطائفة الأخرى التي ينظر إليهم على أنهم هم أهل العبادة وأهل الذكر، تجدهم في الموالد وعند الأضرحة، وتجد العمائم والمظاهر ولكن كما قيل في القديم: 'العمائم أبراج، والأكمام أخراج، والعلم عند الله تبارك وتعالى'، هذا هو حالهم، فهم أصحاب موائد، ومناسبات، واحتفالات، ويتكلمون عن أمور هي من أصل الدين كالمحبة والرضا واليقين وما أشبه ذلك, والكرامات والولاية وكيف يصل الإنسان إلى ولاية الله تبارك وتعالى، والموضوع نفسه موضوع عظيم لكنهم يتكلمون فيه بجهل، وبدع وضلال؛ فضاعت الأمة بين هذا وذاك. والحق هو الوسط وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المعلوم، حديث الافتراق فقال: {من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي}. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا العلم النافع إنه سميع مجيب

الأسئلة

الأسئلة

صلاح القلب وفساده

صلاح القلب وفساده Q نحن نعلم أن القلب من الناحية التشريحية عبارة عن عضلة تتصل بها الشرايين والأوردة, وأنها تضخ الدم, فكيف تكون هذه العضلة موضعاً لأعمال مختلفة مثل الحب والكره والحسد وغيرها، وما هي إلا عضلة تضخ الدم؟ وآخر يقول: إنه مع التقدم في طب القلب ربما يغير للإنسان عضلة قلبه، فهل تتغير أحوال المرء بتغيير القلب، ما رأي فضيلتكم؟ A نحن لا نخلط بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فحتى نحن عندما يقال هذا فلان، فإنك أخذته كعِلْمِ شهادة مجرد, الذي هو الطول والعرض والارتفاع، واللون والشعر والعصب واللحم، لكن إن أردت بفلان حقيقته الذاتية المعنوية، فأنت تتكلم عن شيء آخر غير ذلك تماماً, فلا نخلط بين الأمرين. والمقصود شرعاً بالقلب ليس هو مجرد ما يقصد به تشريحاً أنه هذه العضلة وغيره، إنما الحديث عن الجانب المعنوي الذي هو من عالم الغيب، فنحن نجهل الروح كما قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] وهذه العضلة توجد عند الميت والحي والحيوان، وتوجد عند أتقى الأتقياء، وأفجر الفجار، ولكن ليست القيمة بهذا الشكل المادي المشاهد المحسوس، وليس هو المقصود في كلام الله ورسوله بذاته المادية المحسوسة، وإنما المقصود القلب بكيفيته المعنوية، التي لا تدخل تحت الحس ولا تحت النظر, وهكذا سائر الأعمال وما يتفرع عن القلب من ذلك، فأرجو من الأخ أن لا يخلط بين عالم الغيب وبين عالم الشهادة، وكلام الإخوة الأطباء والمشرحين وأمثالهما له موضعه كناحية عضوية بحتة، ونحن نتكلم من الناحية المعنوية البحتة.

اتهام النفس بالنفاق

اتهام النفس بالنفاق Q إني أعد نفسي منافقاً حيث إني في الظاهر أمام الناس طيب وملتزم, ولكني إذا خلوت بنفسي ارتكبت المعاصي، ولا أستطيع أن أتركها إذا تذكرتها، ماذا أفعل هل أخبر الناس أنني أرتكب المعاصي؟ A نسأل الله أن يعفو عنا جميعاً، ومن منا ليس كذلك يا أخي، إذا كان بعض الصحابة يقول: [[لو تعلمون ما أُغْلِق عليه بابي ما تكالبتم وتجمعتم هكذا]] وهو من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو لا يقصد بذلك أنه ينتهك المحرمات، ولكن المقصود -كما في حديث حنظلة - أن حالهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير حالهم مع الخلوة، ونحن كذلك ليس حالنا في بيوت الله وفي حلقات الذكر ومع الإخوة الطيبين، كحالنا في حالة الضعف والخلوة وغلبة الشيطان، ولكن هل يعني ذلك أننا لا بد أن نكون بين حالتين، إما أن نكون على حال واحدة كما تخيل حنظلة، فيكون حالنا على وتيرة واحدة من ازدياد الإيمان ونتخيل أن الإيمان يبقى على حالة واحدة لا يقل ولا يضعف ولا يفتر, لا في حالة الوحدة والانفراد, ولا في حالة الاجتماع, ولا في حال إقبال النفس وتشوفها إلى الطاعة, ولا في حال جرمها وعنادها وإما أن نتصور النفاق والسقوط الذي قد يدفع إلى القنوط -والعياذ بالله- فعند ذلك يقول: الأفضل أن أترك هذه الأعمال الظاهرة, بل أقول للناس: أنا وإن صليت فإني أفعل كذا، ولو اتقيت ظاهراً فإني أفعل كذا، ليس الأمر هكذا، إما هذه وإما تلك، بل نحرص على أن نستديم هذه الحالة ما أمكن، فإذا ضعفت, فاعلم أن النفس طبيعتها الضعف، وطبيعة الإنسان هي الظلم والجهل، والله تبارك وتعالى يريد منك أن تقاوم هذا الظلم وهذا الجهل لتقوِّم النفس وتزكيها. ولهذا قال بعض السلف: جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، أي: قبل الأربعين كان يظن أنها لم تستقم بعد، ومع أنه كان في مثل هذه الحالة لكنه لم يقنط بل جاهدها، ولما سمع بهذه المقولة آخر: قال أو قد استقامت!! تعجب من أنها قد استقامت، لأنه يقول: نحن سنموت وما زلنا نجاهدها ولما تستقم، وهكذا كان حالهم رضي الله عنه، ولهذا يجب أن نبعد القنوط عنا وأن لا نُحدِّث الناس بذنوبنا, بل نحمد الله تبارك وتعالى أن ستر عنا ذنوبنا التي لا يعلمون. وأيضاً يجب علينا أن نجاهد أنفسنا وأن نحارب هذا النفاق والرياء، وهذا الخلل والتقصير ما استطعنا, فالحال حال مجاهد لا يضع سلاحه ولا يجد راحة, كما قال الإمام أحمد رحمه الله: 'لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه' فلا تجد راحة إلا إذا لقيت الله -تبارك وتعالى-, ولا تطمئن إلا إذا وضعت قدميك كلتيهما في الجنة، وهكذا نحن في دار ابتلاء فلا بد أن نصبر على ذلك وأن نجاهد ونصبر ونصابر، ولا نيأس ولا نقنط, فما دمت على هذه الحالة يا أخي, فأنت كما قال الحسن البصري رحمه الله عن النفاق: ' ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن '، لأن المنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه ففعل به هكذا فذهب، فلا يبالي بذنبه، أما المؤمن فيرى ذنبه كالجبل العظيم يوشك أن يقع فيخاف منه. فما دمت تخاف من النفاق -والحمد لله- وتستشعر هذه الحالة؛ فلا يدفع بك الشيطان إلى القنوط, ويقول: أخبر الناس وحدثهم بما خفي من أعمالك التي تخالف ظاهرك، بل احرص على أن تصلح باطنك، ونسأل الله أن يصلح سرائرنا وظواهرنا وأن يثبتنا على الحق إنه سميع مجيب.

الانشغال عن ذكر الله

الانشغال عن ذكر الله Q أنا طالب في كلية الطب، والإغراق في دراسة هذا العلم تشعرني بقسوة في القلب، بماذا تنصحني وكيف أجمع بين دراسة الطب والعلم الشرعي؟ A أنا أخالف الأخ في أن دراسة الطب تؤدي إلى قسوة في القلب، أما إن كان القصد حال المذاكرة للاختبار فإن هذه توجد في أي علم، حتى لو كان في التفسير أو الفقه أو الحديث، لكن إن كان الإنسان في مجال كمجال الطب، وهو يرى عجائب خلق الله تبارك وتعالى، وأسرار ما أودع الله في هذا الجسم البشري الذي آمن بسببه كثير من الناس وكانوا من عمالقة الكفر لما رأوه وتفكروا فيه، فما بالك بالمؤمن الذي يجب عليه أن يتفكر ويتدبر, وأعتقد أن هذا الأخ لو حدثنا عن تشريح العين وعن وظائف الكبد أو الكلية أو البنكرياس، لازددنا إيماناً بالله كما لو أننا سمعنا آيات الله سبحانه وتعالى وأحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمقصود: أن يحصل الإيمان بهذه أو بتلك، ولو أصلحنا هذه العلوم والمناهج وأخلصنا فيها النية والهدف؛ فيمكن أن نسمي هذه العلوم علوم التوحيد المساعدة، كما في الاصطلاح الأكاديمي حيث نسمي بعض العلوم: العلوم التخصصية والعلوم المساعدة، فعلم التوحيد الحقيقي الذي نعلمه نجعله هو الأساس، لكن علم التوحيد المساعد هو علم الطب والتشريح والكيمياء والفيزياء وغير ذلك؛ لأنها كلها تأمل وتدبر في ملكوت الله تبارك وتعالى وفي السماوات والأرض، وفي الأنفس, قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فيجب أن نسعى وننظر ونتأمل ونتدبر في السماوات والأرض والجبال، وفي الإبل والشجر، والماء، وحتى في الألوان، وفي مبدأ خلق الإنسان، وكيف تتكون النطفة، وكيف يتكون الجنين، وكيف يتعلم الإنسان بعد أن لم يكن كذلك، وأمور عديدة كلها تقوي الإيمان. أما إن كان الأخ ينظر إلى ما بعد التخرج, فالمشكلة بالنسبة للطب هي ما بعد التخرج، لأنك قد تعمل ثمان ساعات وفي مجال كله منكرات، وربما لا تستطيع أن تدعو إلى الله تبارك وتعالى كما ينبغي؛ لأنك مشغول دائماً بعمليات وبمعالجات, فنقول: كل ميسر لما خلق له، فليست هذه الأمة ميسرة لأن تكون كلها أطباء، ولا فقهاء، ولا محدثين، ولا وعاظاً، ولكن الله تبارك وتعالى نوّع فيها، فهذا يصلح للوعظ، ولا ينبغي له أن ينصرف عنه إلى غيره، وهذا الذي أعطاه الله تبارك وتعالى الفقه والقرآن والتلاوة وحسن العلم والتفقه في الدين لا ينبغي له أن يذهب ليصبح مثلاً مهندساً ميكانيكياً، لكن الذي لم يؤتَ إلا ذلك, فلا نقول له: أرغم نفسك ودع ما خُلقتْ له ويُسِّرَ لك, واذهب إلى هذا المجال الذي لا تحسنه ولا تتقنه بل كل يعمل فيما يحسن، فتتكامل الأمة لأن كُلَّاً منا قد عمل ما يتناسب مع ما خَلَقَهُ الله وجَبَلَه وفطره عليه, وكلنا ندعو إلى الله، فهذا الواعظ يدعو من جهة، وهذا الطبيب من جهة، وذاك من جهة، ورب طبيب يسلم ويهتدي على يديه ما لا يهتدي على يد عدد من طلاب علم يحدثون ويعظون ويعلمون في المساجد.

معنى: أن العبد سائر بين مشاهدة التقصير ومطالعة المنة

معنى: أن العبد سائر بين مشاهدة التقصير ومطالعة المنة Q هناك عبارة في كتاب مدارج السالكين هي: 'العبد سائر بين مشاهدة التقصير ومطالعة المنّة'، أرجو توضيح هذه العبارة؟ A عبارات ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى وأمثالها، عبارات عظيمة وعالية، وهي من أجود وأروع ما أبدعه العلماء أنهم عندما يتكلمون عن أعمال القلوب، يأتون بعبارات وبمصطلحات يجهلها علماء النفس المعاصرين. مثلاً الصبر: يتكلم عنه أي إنسان، لكن أن تقول: إن الصبر يأتي على عشرة أوجه، أو على كذا، لا يستطيع أحد أن يقولها، وكذلك اليقين له معانٍ وتفصيلات، فكلها أعمال خفية باطنية قلبية، فكيف إذا قسمت عمل القلب إلى أعمال، فكيف إذا قسم العمل الواحد إلى درجات وأنواع! فهذا علم عظيم لا يمكن أن يتمكن منه أو يعلمه ويدركه إلا الراسخون في العلم، ولا شك أن السلف الذين تكلموا في هذا قد بلغوا الغاية, ولا أظن أحداً بلغ في هذا مثل ما بلغ ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله ورضي الله عنهما، وربما قد يسهل عليك فهم العبارة ولكن لا تستطيع بقلبك أن تستوعب المراد منها. فمثلاً: عندما تسمع بعض الآيات لا تستطيع أن تشرحها أو تفسرها لغيرك، لكن يظهر في قلبك أن هناك معانٍ عظيمة جداً, وبما أنَّ هذا العلم مأخوذ من مشكاة القرآن والسنة، فهو يشبه إلى حد محدود مثل ما جاء في القرآن والسنة. فالعبد في سيره إلى الله تبارك وتعالى بين مطالعة شيئين: التقصير والمنة، أي أن يعرف نفسه ويعرف ربه، تعرف ربك بجوده ومنِّه، وكرمه وفضله، فهو الذي هداك وأنعم عليك وأعطاك وعلمك، فأنت حتى لو عبدته وأطعته فالفضل له وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتعرف نفسك بضعفها وجهلها وعجزها وتقصيرها ونسيانها ومعصيتها، فأنت كلك تقصير فلو وُكِلْتَ إلى نفسك طرفة عين لهلكت. فأنت في سيرك إلى الله تبارك وتعالى لا بد أن تراعي الأمرين: أن تعلم نفسك وتقصيرها، وأن تطالع منَّة الله تبارك وتعالى عليك الذي له الفضل كله حتى في هدايتك وعبوديتك فإنك إن أطعته واتقيته فبمحض فضله وهدايته، ولك على ذلك الجزاء الأوفى في الجنة, وهو عز وجل غير محتاج إلى طاعتك, وهو تبارك وتعالى غير مطالب بإثابتك ومجازاتك، ولكنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة وفتح لك الأبواب، كما في الحديث الذي رواه أهل الشام {يا عبادي يا عبادي} فهو سبحانه يفتح لك الباب ويدعوك، و {يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل} فأنت المحتاج المضطر بذاتك إليه تبارك وتعالى. ثم هو بعد ذلك لو فعل بخلقه ما شاء, لو لم يبعثهم ولم يجازهم، ولم يخلق الجنة ولا النار، فمن الذي يسأله، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ومع ذلك جعل لأهل التقوى الجزاء العظيم، الذي فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولأولئك العذاب الأليم الذي نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا منه. فهذه معانٍ قلبية قد يَقْصُرُ تعبيرنا نحن المتأخرين عن إدراكها ولكن نتأمل ونفكر فيها, ونحاول أن نشرحها وأن نفهمها، وأنا أنصح بمطالعة كتاب مدارج السالكين ما أمكن وغيره من كتب السلف , وإن شقت عليك بعض العبارات, فكلما طالعت كلما فهمت واستوعبت، أما قراءة المختصرات ومطالعة الكتب العصرية، أو الشروحات من كلام المعاصرين -وإن كان مأخوذاً من كلام المتقدمين- فإنه لا يغني طالب العلم عن الرجوع إلى نفس كلام المتقدمين رحمهم الله.

الكلام على كتاب الرعاية للمحاسبي

الكلام على كتاب الرعاية للمحاسبي Q ما رأيكم في كتاب الرعاية لحقوق الله للمحاسبي، وهل تنصح بقراءته؟ A أما كتب المحاسبي فقد حذر منها السلف وإن كان فيها حديث عن الوساوس والخطرات، ولكن كما عبر أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة، فقالوا: حسبنا ما قاله السلف.

الفتور في الطاعة

الفتور في الطاعة Q إنني شاب مستقيم، وفي بداية التزامي كنت أقوم بالاعتناء بنفسي وإيماني كثيراً، ولكن مع طول الطريق، بدأت في التكاسل وانقلبت كثير من الأعمال إلى عادات، ويشكو آخرون بنفس الشكوى من أنهم بعد فترة من التزامهم شعروا بقسوة في قلوبهم, نرجو توجيه نصيحة لي وللباقين؟ A نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، هذه سنة الله {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] لا شك أن طول الأمد وإن كان هو نسبي أنه يؤدي إلى ذلك، ولهذا نحتاج إلى تجديد الإيمان، كما في حديث: {إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب} أي: يبلى كالثوب إذا جئت إليه وقد بلي فإنه يتفتت في اليد، فالإيمان يبلى في القلوب فيحتاج إلى تجديد، فنحتاج جميعاً أن نجدد إيماننا. ومن هنا كان قدوم الإنسان خمس مرات إلى المسجد وسماعه في كل مرة آيات يقرؤها الإمام في المغرب ثم في العشاء، وما يلقى من مواعظ تجعل الإنسان يتدبر فيما يتكرر عليه، ومثل ما يتكرر كل يوم: موعظة الليل والنهار، ولكن أكثر الناس قد لا يتذكرها مرة واحدة، وبعضهم يتذكرها مرة واحدة، لكن المؤمن يحتاج في كل مرة وفي كل يوم أن يتذكر ويتفكر كما قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]، فينظر إلى الليل وما فيه من حِكم أو عجائب، وإلى النهار من طلوع الشمس إلى غروبها، فلم يأتِ يوم من الأيام يقول الناس فيه: لم تطلع الشمس اليوم, سبحان الله! كذلك في الليل وفي أنفسهم، فهذه مجددات ومقومات الإيمان مما يتكرر، فما بالك فيما لا يتكرر، فعلى الإنسان أن يحرص على تجديد إيمانه. ولا شك أن الإنسان في بداية أمره وأول التزامه -وغالباً التائب- يكون أصدق ما يكون, كما جاء في حديث الرجل الذي قتل مائة نفس، عندما توجه بقلبه بصدق إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكن سبحان الله! بعد أن يتوب ويطمئن ويدخل في غمار الإيمان فترة, تبدأ الغفلة في الظهور ويمسه طائف من الشيطان, وما أشبه ذلك, وهذا حال القلوب جميعاً, ولكن لا بد من المصابرة ومن تجديد الإيمان بذكر الله، وقراء القرآن، وزيارة المقابر، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، والاعتبار بمصير الأحياء والأموات، وكل ما من شأنه أن يحيى إيمان القلب إن شاء الله.

صحة علامات قبول العمل

صحة علامات قبول العمل Q هل عبارة: (من علامات قبول العمل: إتباع الحسنة الحسنة) صحيحة وعلى إطلاقها، لأنني هذا العام وبعد انتهاء صيام رمضان ارتكبت بعض المعاصي وفاتني صيام الست من شوال؟ A هذه العبارة كقاعدة عامة صحيحة، لكن لكل قاعدة استثناء, وليس من أطاع الله تبارك وتعالى وأدى فريضة من فرائضه خالصة من قلبه يعصم فلا يقع في معصية، لا. فالنفس معرضة للضعف والذنوب والتقصير, وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون, ولكن من علامة القبول، أن يتبع الحسنة حسنات, فإن أذنب أتبع ذلك الذنب توبة، فما دام أنه كلما أذنب تاب، فإنه ما يزال متبعاً للحسنة حسنة -إن شاء الله- وليس المقصود أن يعصم فلا يقع في الذنوب، لكن ما دام أنه يتوب فهذا يدل على أن قلبه حي. والمقصود هو حياة القلوب، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته الجامعة: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها} فكان في إمكانه أن يقول: ولا تعصِ الله مطلقاً, وهذه لا شك أنها مطلوبة, لكن في مقام الإرشاد العملي والواقعي الذي يخاطب النفس على واقعها وحقيقتها لا يمكن أن يعيش الإنسان فلا يعص الله تبارك وتعالى فكل ابن آدم خطاء. إذاً: عليه أن يتبع السيئة الحسنة حتى تمحها, فهذا من الاستقامة أنك كلما عصيت الله كفرتها بحسنة، أما الانحراف فهو الخروج عن الطريق بالكلية، أي: يستمرئ الإنسان المعصية ولا يبالي أن يتوب أو يستغفر الله تبارك وتعالى أو ينيب ويرجع إليه.

التقرب إلى الله لأمر دنيوي

التقرب إلى الله لأمر دنيوي Q بوَّب صاحب كتاب التوحيد: (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا) فهل إذا قام الإنسان مثلاً بالتصدق، وأراد بذلك دفع الضر عنه, أو مثلاً قام ليلة بالدعاء في أمر دنيوي هل هذا من الشرك، أرجو تفسير هذا وتوضيحه؟ A ذكر رحمه الله الآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16] ثم ذكر بعدها حديث: {تعس عبد الدرهم, تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة} والحديث يوضح الآية وهو أنَّ الإنسان إذا لم يريد من الزكاة أو الصدقة إلا أن يبارك الله له في ماله فقط، وهذه حالة تقع لكثير من الناس، فيقول: خشيت ألا أربح في البضاعة الفلانية، فتصدقت ذلك اليوم بألف أو ألفين ثم ربحت في الصفقة, وكثير من الناس يرى أن الصدقة وأن الإحسان له بركة فيدفع الله تبارك وتعالى به البلاء، ولكن لم يرد بذلك الدار الآخرة ولا ما عند الله تبارك وتعالى، فأصبح هذا ممن يريدون حرث الدنيا وحدها، دون الآخرة مطلقاً، فهذا وقع في الشرك الخفي، الذي قل من ينجو منه، فهذه الحالة يقع فيها كثير من الناس وهم لا يشعرون، وهذا ينافي الإخلاص لله وابتغاء ما عنده، فيجب عليك أن تصوم وأن تصلي وأن تحج لله عز وجل، أما الذي يصلي أيام الاختبارات لينجح: صلى المصلي لأمر كان يقصده فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما أو يتصدق من أجل أن يربح، فهذا يدخل بلا ريب في هذا النوع من أنواع الشرك، نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا منه دقيقه وجليله. والحمد لله رب العالمين.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر الإيمان بالقدر ركن من الأركان التي لا يتحقق الإيمان إلا بها، وهو من الأمور التي ظهر التشكيك فيها من قبل بعض الطوائف منذ العصور المتقدمة من عمر الأمة المحمدية. فقد أوردت هذه الفرق الكثير من الشبهات فتصدى لها أعلام أهل السنة في كل عصر ومن أشهرهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وكما في العصور المتقدمة فقد ظهر من ينكر القدر في العصور المتأخرة، وإمامهم في ذلك من سبقهم ممن طبع الله على قلبه وصده عن السبيل.

أهمية الإيمان بالقدر

أهمية الإيمان بالقدر الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، الذي أوضح الله تعالى به المحجة وأقام الحجة وأبان الدين، فلم يبق من أحد بلغته دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا آمن أو قامت عليه حجة رب العالمين، ولله الحجة البالغة على خلقه أجمعين. أما بعد: فإن موضوع القدر موضوع عظيم، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، ونحن في عصر كثُرت فيه الشبهات، والتساؤلات عن القدر، وهي قديمة في الحقيقة، ولكن في هذا الزمان اجتمعت شبهات الماضين مع شبهات المعاصرين، وما استجد عند الناس مما تلقيه شياطين الإنس والجن؛ فأصبح الناس في حاجة إلى تجلية هذه القضية، كما هو الشأن في بقية أركان الإيمان وقضايا العقيدة. والذي دفعني -في الحقيقة- إلى اختيار هذا الموضوع هو كثرة الأسئلة عن القدر، فأحببنا أن يكون هذا الموضوع عن هذا الركن المهم من أركان الإيمان، وبإذن الله تعالى سوف نجيب على أسئلة وإشكالات حول هذا الموضوع؛ لأنه موضوع دقيق وشائك، ونحاول بما يعيننا الله تبارك وتعالى ويفتح علينا به أن نأتي على ما نستطيع أن نأتي عليه من الشبهات في هذا الموضوع، بإذن الله تبارك وتعالى.

مراتب الإيمان بالقدر

مراتب الإيمان بالقدر ونبدأ لنعرف ما معنى الإيمان بالقدر؟ فإذا قلنا أننا نؤمن بالقدر -ونحن ولله الحمد مؤمنين بالقدر- فلا بد أن نعرف معناه، وهذا الإيمان كما جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقسّم على أربع درجات، ويمكن أن تختصر إلى درجتين؛ فما هي درجات الإيمان بالقدر؟ أي: ما هي مراتب القدر عامة؟

المرتبة الأولى: العلم

المرتبة الأولى: العلم أول مرتبة من مراتب القدر، أي: أول ما يجب علينا أن نؤمن به فيما يتعلق بالقدر هو: أن نعلم ونوقن ونؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بكل شيء، علم بما كان وعلم بما سيكون وعلم بما لم يكن لو كان كيف يكون؛ فهو يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، ويعلم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل حركة في هذا الوجود وكل قطرة من المطر تنزل ويعلم متى تنزل، وأين تنزل، وكل لحظة عين وخائنة أعين وهمسة، وكل خاطرة تخطر على بال أي مخلوق؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمها، وعلمه بها قبل أن يوجد هذا الكون، وقبل أن يوجد هذا الإنسان؛ فعلمه لم يزل أزلاً وما يزال أبداً، لا تخفى عليه خافية، يستوي في علمه عز وجل السر والعلن بالنسبة لنا نحن المخلوقين. ولا يخفى على أحد الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذه القضية، أي: قضية العلم ومرتبة العلم، فنؤمن بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم؛ ولذلك فإن كل ما نعمله من طاعات ومن معاصٍ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بها، ولم يستجد له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم بها بعد أن فعلناها؛ بل هو يعلمها قبل أن يخلقنا، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض والكون أجمعين، ولا يزال بذلك عليماً. وهو محصٍ لذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويجازينا به عز وجل، وكذلك المصائب التي تقع وما يحدث في الكون من خير أو شر، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به عليم. فعلى المؤمن بالله عز وجل أن يؤمن بالقدر، وأول شيء يؤمن به هو أن يؤمن بالله وبعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

المرتبة الثانية: الكتابة

المرتبة الثانية: الكتابة الدرجة الثانية بعد العلم هي: مرتبة الكتابة. فنؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكتب كل شيء؛ كتب ما كان وما سيكون، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ -أم الكتاب- الذي كتبه الله تبارك وتعالى عنده أول ما خلق القلم. فأول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم أمره أن يكتب؛ فكتب مقادير كل شيء، وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فكان عرشه على الماء في ذلك الزمن الذي لم يكن هذا العالم الموجود المشهود قد وجد بعد! بل كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يكن قبله شيء، ولم يكن غيره شيء، ولم يكن معه شيء، كما ورد في الروايات. وأول شيء خلقه الله عز وجل من العالم الذي نعرفه وبلغنا الخبر عنه هو العرش والماء، ثم خلق بعد ذلك القلم، وأول ما خلق القلم أمره أن يكتب؛ فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وهذا كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فإذاً: هذا أمر قد قُضي وفرغ منه، وقد كتب إن كان خيراً وإن كان شراً.

أنواع الكتابة

أنواع الكتابة وهذه الكتابة لها تفصيلات وأقسام، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدّر هذه الأقدار المعلومة المكتوبة بتقديرات مختلفة، بعضها لا يطابق بعضاً. فقبل أن يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكون كتب ماذا سيكون فيه، وهذه الكتابة نستطيع أن نسميها الكتابة الكونية. فكل الكون وما سيقع فيه مكتوب، ولما خلق الله تبارك وتعالى آدم واستخرج ذريته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صلبه في عالم الذر، وجعل طائفة منهم من أهل الجنة، وطائفة منهم من أهل النار. فكتب للنار أهلاً، وكتب للجنة أهلاً قبل أن يخلق الخليقة، وإنما قد خُلق في ذلك الوقت الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره ذريته وجعلوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وهذه كتابة تتعلق بالنوع الإنساني، ونستطيع أن نسميها الكتابة النوعية، أي: لنوع الإنسان، فوضع منهم الشقي، ومنهم السعيد، بحسب علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما سوف يعملون. ثم هنالك كتابة تتعلق بكل فرد من مخلوقات الله من بني آدم؛ فالكون كله له كتابة، والجنس البشري كله -النوع الإنساني- له كتابة، وكل إنسان له كتابة أيضاً. فمتى تكون هذه الكتابة؟ هذه الكتابة هي ما أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأنس بن مالك في الصحيحين في الحديث المتفق عليه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق: {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} ونحو ذلك ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه. والمقصود هنا أن هناك كتابة عمرية تتعلق بكل إنسان، فما من نفس منفوسة، وما من نسمة مخلوقة إلا وكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ماذا سيكون لها، فكتب لها هذه الكلمات الأربع أول ما نفخ الروح في هذا الإنسان، وهو مضغة في الظلمات الثلاث -في الرحم- فكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة أو السعادة؛ فهذا نوع من أنواع الكتابة. ثم بعد ذلك الكتابة الحولية -تقديراً حولياً سنوياً- في الحول والسنة، وفي أي ليلة سيكون هذا التقدير؟ إنه يكون في ليلة القدر، التي فيها يفرق كل أمر حكيم. فيكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك الليلة ما هو واقع في عالم الوجود هذا إلى مثلها من السنة القادمة، حتى إنه كما ورد في الحديث: {إن الرجل ليرى في الأسواق ماشياً، وهو مكتوب عند الله تعالى من الأموات} أي: أن هذا الإنسان يمشي ويتحرك ويضحك، وموعده لن يصل إلى ليلة القدر القادمة، بل سيموت في هذه السنة، وفي الوقت الذي كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو أعلم بما كان وما سيكون. ثم بعد التقدير السنوي يكون التقدير اليومي، وهذا التقدير اليومي هو ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه بقوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يعز ويذل ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ويخفض ويضع، كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذه المقادير التي يقدرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يومياً وينفذها، وفق ما اقتضت إرادته ومشيئته، ووفق ما سبقت به الكتابة في اللوح من قبل. فهذه الدرجة الأولى من درجات القدر، ونستطيع أن نجعلها درجتين إذا قلنا: إن العلم درجة والكتابة درجة، ونستطيع أن نجعلهما درجة واحدة، فنقول: مرتبة العلم والكتابة؛ فما علمه عز وجل كتبه أيضاً في ذلك اللوح المحفوظ وهو الإمام المبين.

المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة

المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة والمرتبة الثالثة من مراتب القدر: هي مرتبة المشيئة والإرادة، وهي: أن نؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له مشيئة وله إرادة، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويقدر ما يشاء كما يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو رب العالمين وهو خالقهم، وهو الذي يصرفهم ويدبرهم كما يشاء، فمشيئته مطلقة، وأما العبد فله مشيئة مقيدة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان:30]. فمشيئة العبد وإرادته واختياره هي جزء من قدر الله عز وجل الذي كتبه ليجازيه ويحاسبه عليها، ولكنها لا تكون إلا بعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبداً، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته لـ ابن عباس: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}. فهذه أمور قد قضيت وانتهت، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي له المشيئة، ولا يكون إلا ما شاء ولو أطبق الثقلان الإنس والجن كافة، وكل القوى جميعاً على أن تعمل شيئاً أو توجده أو تنفع به أو تضر ولم يشأ الله عز وجل أن يقع؛ فلن يقع ذلك على الإطلاق. وأيضاً لو اجتمعوا جميعاً على أن يردوا شيئاً مما كتبه الله وقدره وقضاه من خير أو شر؛ لا يستطيعون ذلك أبداً؛ لأنهم مقهورون مربوبون بقدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبمشيئته التي لا يردها شيء، ولا يحدها شيء. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الفعال لما يريد ولا يكون في خلقه إلا ما يريد وما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

المرتبة الرابعة: الخلق

المرتبة الرابعة: الخلق المرتبة الرابعة من مراتب القدر: مرتبة الخلق، فنحن نؤمن بالعلم، ونؤمن بالكتابة، ونؤمن بالمشيئة ثم نؤمن بعد ذلك بالخلق؛ لأن ما في هذه الدنيا هو خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى أعمالنا نحن بني آدم مخلوقة لله، حتى ما نخلقه -أي: ما نصنعه- وما نركبه ونفعله أو نبنيه ونهدمه؛ فهو مخلوق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما نطق بذلك صريح القرآن: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وفي آية أخرى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] وجاء في الحديث الذي صححه العلماء، ومنهم العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الله خالق كل صانع وصنعته}. فمهما عمل الإنسان إن بنى أو صنع أو عمل من طاعة أو معصية فكل ذلك من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكلها مخلوقة له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ إذاً فما دور العبد في هذا الموضوع؟ العبد فاعل، يفعل بمشيئته وباختياره ما يفعل من الأفعال الإرادية والأفعال الاختيارية.

الشبهات الواردة في مراتب القدر

الشبهات الواردة في مراتب القدر وهذه النقطة وعند هذه المرتبة نلاحظ أن الإشكالات بدأت تتوارد، وما يثيره الشياطين والمنحرفون والملحدون قديماً وحديثاً عند درجة الخلق والمشيئة. والذي أشكل على كثير من الناس أنهم قالوا: كيف يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الإنسان، وكتب عليه أنه يفعل الخير ويفعل الشر، وقدّر عليه ذلك قبل أن يخلقه، ثم بعد ذلك يجازيه ويحاسبه عليه؟ وهذا السؤال الذي يظن الكثير من الناس أنه محير وأنه لا جواب له وأنه مشكل ومعضل؛ فبنوا عليه مذاهب باطلة، وما خرجت القدرية التي ظهرت في عهد صغار الصحابة -رضوان الله عليهم- وأنكرت القدر؛ إلا من أجل الشبهة التي يثيرها هذا السؤال! لكن هل تُركنا لتساؤلات المتسائلين أو لشبهات الملحدين؟ إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوضح لنا هذا الدين مثل الشمس في رابعة النهار، فقد تركنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً -كما أخبر بذلك الصحابة الكرام- فهذه القضية هل تركت ولم تبين؟ لا. فأعظم الناس عقلاً وأعظمهم فهماً وأكثرهم يقيناً وإيماناً وفكراً وعلماً وعملاً هم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فهم الذين سمعوا هذه الأحاديث وتدبروها وعقلوها، وهم أنفسهم الذين سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عدة أحاديث عن هذه القضية، وكان يجيبهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعظم جواب، وهو الجواب الذي لو ظل الناس يبحثون وينقبون؛ فلن يجدوا جواباً أبلغ ولا أبين منه، وأنا لا أذكر لكم إلا بعضاً منها، فأذكر لكم حديثاً فيه قصة تنطبق على هذه الشبهة. : {كان عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه يجالس أبا الأسود الدؤلي، وفي أحد الأيام قال عمران لـ أبي الأسود يا أبا الأسود! أرأيت ما يعمله الناس، وما يكدحون فيه؛ أهو في أمر قد قُضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلغهم نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}. فهذا الصحابي يمتحن التابعي، ويقول: هذه الأعمال التي يعملها الناس الآن من طاعات أو معاصي هل هي أمر قد قُضي ومضى وكتب عليهم قبل أن يوجدوا أم فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلّغهم إياه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فوضعه موضع الامتحان. قال أبو الأسود: {قلت: لا. بل فيما قد قُضي ومضى، فقال له عمران: وكيف يجازيهم على ذلك؟} أي: إذا كان قد قضى ذلك وكتبه فكيف يجازيهم على ذلك. {فقال أبو الأسود: ففزعت لذلك فزعاً شديداً، وقلت: سبحان الله! {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] هو ربهم وهو خالقهم! فطمأنه عمران رضي الله عنه وقال: إنما سألتك لأحزر عقلك}، أي: لأختبرك، هل أنت متمكن من الإيمان وقوي أم أنه لو جاءتك شبهة لذهبت بك يميناً أو شمالاً؟ ثم قال عمران: {أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلان -وفي رواية رجل من مزينة- فقال له: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل فيه الناس ويكدحون، أفيما قد قُضي ومضى، أم فيما يستقبلون به مما قامت عليهم به الحجة وبلغه نبيهم؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل فيما قد قضي ومضى}. وورد مثل ذلك في الحديث المتفق عليه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن غيره من الصحابة، أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا السؤال، فقالوا: {يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل السعادة يسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]}.

من نتائج الإيمان بالقدر

من نتائج الإيمان بالقدر هذا هو الفهم الصحيح الذي فهمه الصحابة الكرام، وكان من أشد الأمور التي دفعتهم للاجتهاد، والحرص على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فإنسان يعلم أن من كان من أهل السعادة وأهل الجنة فهو ميسر لعمل أهل السعادة، ماذا تكون النتيجة؟ سيجتهد ويكدح ويحرص على أن يستكثر من الخيرات؛ ليكون من أهل السعادة ومن أصحاب الجنة. وأما المعرضون المنحرفون فإنهم يعارضون أمر الله، ودينه بمشيئته وبقضائه ويعجزون، بخلاف ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن أصابك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} فيجب على الإنسان أن يسعى، وأن يحرص على الطاعات وعلى ما ينفعه ويقربه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فاحرص واجتنب واجتهد، فإن كنت مؤمناً قوياً؛ فاعلم أنك خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف. والمؤمن الحريص على كل ما يقربه من الله، والعامل المجتهد في طاعة الله أحب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخير عنده من المؤمن الضعيف والعاجز الذي يُلقي كل ما يأتيه من الخير والشر على القدر ولا يعمل، فهذا شأنه، وهو أنه يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا؛ فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وقال: {فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} فهكذا يرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر الناس حرصاً واجتهاداً في طاعة الله وفي عبادة الله، لماذا؟! لأنهم يعلمون هذه الحقيقة الواضحة النيرة، فهم حريصون على الأخذ بها. ومثال ذلك الرؤيا الصالحة: إنسان بحالة حسنة طيبة، فرأى رؤية صالحة بأنه سيكون له ذرية كثيرة، فإنها جزءٌ من ست وأربعين جزءاً من النبوة؛ أو شيء يطلع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإنسان عليه من الغيب الذي سيقع، فرأى في المنام هذا، واستبشر بهذه الرؤيا، وفرح وسر بها فإن ذلك يدفعه إلى أن يبادر إلى أن يتزوج الزوجة الصالحة، وإلى ألا يتخذ أي مانع مما قد يمنع الحمل من الأسباب المعروفة لتتحقق له تلك الذرية. وكذلك لو أنه بشر من عند الله عز وجل -كما في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو جاءته مبشرات -كرؤيا مثلاً- أنه سوف يكون لديه من هذه المزرعة ثمر ورزق ونخل كثير فما الذي يفعله الإنسان العاقل عادة؟ سيجتهد ويحرص أن يكسب أكثر ما يستطيع لتتحقق له تلك البشرى. لكن لو قال: أنا سيكون لي أولاد، ولم يأخذ بالأسباب، فهذا يكون إنساناً غير عاقل. فالقدر علم علمه الله عز وجل وكتابة كتبها، ثم شاء ذلك، ولا بد أن تقع مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم خلق ذلك فينا؛ فمعنى ذلك أنه يجب أن نتسابق، ونحرص على طاعة الله، ونجتهد في الطريق الموصل إلى مرضاة الله وإلى جنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكي نكون من أهل السعادة الميسرون لها، كما أن أهل الشقاوة ميسرون لها، أجارنا الله وإياكم، وأعاذنا من الشقاوة وأهلها.

شبهة القدرية والرد عليها

شبهة القدرية والرد عليها والقدرية الذين من أجلهم روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو حديث جبريل المشهور لما جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر فيه أركان الإيمان، وأركان الإسلام، ومن أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، وقد ذكر ذلك عبد الله بن عمر لما أن جاءه ركب العراق وأخبروه أن معبداً الجهني ومن معه ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف. فقال عبد الله: [[أبلغوهم أنني منهم بريء، وأنهم مني برآء، والله لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبل منه إلا أن يؤمن بالقدر]] ونقل مثل ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه بل إنه قال: ' لو مكنت من أحد منهم لدققت عنقه '. فهذا أول شرك يقع في هذه الأمة، وأول نقض يقع لعرى التوحيد، وكان أول ما وقع في مسألة الإيمان بالغيب هو إنكار الإيمان بالقدر؛ فقالوا: الأمر مستأنف، والعبد هو الذي يخلق ما يفعله من طاعة أو معصية. وحتى نعرف مذهب القدرية نذكر مذهب أهل السنة والجماعة؛ فالضد بالضد يعرف. فما هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي تدل عليه الآيات والأحاديث؟ أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو: أن كل عمل من أعمالنا نحن بني آدم من طاعات أو معاصٍ نحن نعمله ونحن نفعله، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نسب لنا العمل ووصفنا به: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] وفي القرآن يتكرر كثيراً: وتعملون، تفعلون، وكذلك يقيمون الصلاة، يؤتون الزكاة وكل الطاعات؛ وكذلك المحرمات يشركون، يزنون، وما أشبه ذلك، فقد ورد في القرآن جميع الأفعال منسوبة إلى الإنسان. إذاً فالإنسان فاعل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان وخلق عمله؛ ولكن العبد هو الذي فعل ذلك. والقدرية الذين أنكروا القدر قالوا: لا، إن الإنسان هو الخالق -هو الذي يخلق فعل نفسه- تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وقالوا: لو قلنا: إن الله هو الخالق، فكيف يخلق الفعل في الإنسان ثم يجازيه عليه؟ فهذه هي الشبهة التي أثيرت. فيقول لهم أهل السنة والجماعة: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الفعل، ولكن الإنسان هو الذي فعله. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي شاء ذلك، فشاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعصيه من عصى وأن يكفر به من كفر، وأن يشرك به من أشرك، ولكن هل كل ما خلقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكل ما شاءه رضيه؟ لا. إذاً لا بد أن نسلط الضوء على هذه القضية، حتى نعرف لماذا وقع اللبس عند المشركين؟ ولماذا وقع اللبس حتى عند كثير من الناس في مسألة القضاء والقدر؟

أنواع الإرادة

أنواع الإرادة يظن الذين لديهم شبهات في هذا الموضوع أن ما شاءه الله عز وجل وقدره فقد رضيه، وهذا لا يصح! لا على مقتضى القرآن ولا السنة، ولا على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شاء الإيمان، وشاء الكفر، شاء الطاعة، وشاء المعصية، وهذه مشيئة كونية وإرادة كونية. فأراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمقتضى الحكمة العظيمة الجليلة أن يكون في الناس مؤمن وكافر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]. فحكمته عز وجل اقتضت أن يجعلهم فريقين، فهذه مشيئته الكونية وإرادته الكونية؛ ولكن رضاه لا يتعلق بهذه المشيئة؛ بل رضاه عز وجل يتعلق بمشيئته الشرعية وبإرادته الشرعية؛ فأرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب لتبين للناس ما الذي يرضاه الله، وما الذي يحبه الله عز وجل، وما الذي يبغضه الله عز وجل، وما الذي يسخط الله، وما الذي لا يريده الله. ولهذا لو سألك أحدهم عن رجل لم يصلِّ أو فجر أو كذب أو زنا أو سرق، فقال لك: هل أراد الله عز وجل أن يفعل هذا الرجل هذا الفعل؟ فإن قلت: نعم أراد الله -هكذا بالإطلاق- فقد أخطأت، وإن قلت: لا، لم يرد الله أخطأت أيضاً. فلابد أن نفصل في الكلام، فنقول: ماذا تريد: بأراد؟ فإن كنت تقصد بأراد، أي: أن الله شاء ذلك وعلمه وكتبه وقدره عليه؛ فنعم، فإن الله تعالى شاء ذلك حتى ولو كان شراً أو كفراً أو فجوراً أو معصية فهو الذي شاءه، فلا يقع شيء في الكون إلا أن يشاء الله، وبما يريد الله. وإن أردت بقولك: هل أراد الله من هذا أن يزني وأن يسرق؛ أن الله تعالى يرضى بذلك ويحبه؟ فلا، بل نقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد أن يزني الزاني، ولم يرد أن يسرق السارق، أي: لم يحب ذلك. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يحب ذلك، ولم يشرعه، ولم يأمر به ولم ينزله في كتاب، ولم يرسل به رسول. إذاً: الإرادة هنا لها معنيان: إن أردنا بها الإرادة الكونية التي هي مطلق المشيئة - مجرد المشيئة - فنعم، فإن الطاعة والمعصية كلها أرداها الله ووقعت، لكن إن أردنا بالإرادة المحبة، فلا يريد الله -أي لا يحب الله- إلا ما شرع، وإلا ما أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب.

شبهة القدرية المشركية

شبهة القدرية المشركية ولهذا عندما احتج المشركون بالمشيئة، واعترضوا بالمشيئة، أبطل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجتهم في أربعة مواضع من كتاب الله، في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] وأكد ذلك بعد أن وقع في سورة النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] فهذين موضعين احتج المشركون فيهما بالمشيئة، أي: في مضمون كلامهم: لو شاء الله تعالى ما أشركنا. وقال في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20] فما معنى ذلك؟ يقولون: الله عز وجل شاء لنا أن نعبد هذه الأصنام، أي: أنه راضٍ بذلك، ولو شاء ما عبدناها، وهذا الكلام قالوه في موضع رد الرسالة وتكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماذا تريد منا يا محمد؟ أن نترك عبادة الأصنام؟ لا، لو شاء الله ما عبدناها، ولو شاء الله ما أشركنا. وقالوا: ذلك في الموضع الرابع، في موضع الأمر بالإحسان: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47] فلو شاء الله أطعمهم فكيف نحن نطعمهم؟ إذاً هم يريدون ألا يؤمنوا؛ لأن الله شاء الكفر، ويريدون ألا يحسنوا؛ لأن الله لو شاء الإطعام لأطعمهم. فالمقام هنا مقام الاعتراض والتكذيب والرد لرسالة الرسل، ولهذا عقب الله تبارك وتعالى على قولهم هذا في سورة النحل، فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] أي فضلاً وعدلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو كان الأمر كما تقولون؛ فلماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، يقولون لكم: هذا يريده الله ويحبه، وهذا يكرهه؟! فالمشركون إذاً لم يكونوا يثبتون القضاء والقدر، بل جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الحديث الصحيح في صحيح مسلم - يجادلونه في القدر؛ فأنزل الله تبارك وتعالى عليهم: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فهم لا يؤمنون بالقدر؛ وإنما قالوا: نحن نؤمن بمشيئة الله؛ لأنهم قالوها معترضين بها على الشرع، ويريدون أن تكون لهم حجة في ترك الأمر والنهي؛ ولهذا قال عز وجل عنهم في سورة الأنعام: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] سبحان الله يكذبهم في قولهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] ثم يقول: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9]. فقليل البصيرة قد يقول لك: كأن بعض الكلام متناقض مع بعض -عياذاً بالله- وهذا خطأ، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو شاء (كوناً وقدراً) لهدى الناس أجمعين، وفي هذه الحالة فلا يحتاج إلى رسل ولا يحتاج إلى كتب، فقد هداهم أجمعين؛ لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لهم المشيئة فقال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] لكنه عز وجل أقام الحجة عليهم بالرسل؛ فليس لأحد حجة على الله كما قال سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. إذاً: فهذا النوع الأول من أنواع الاعتراض، وهو اعتراض القدرية التي تسمى القدرية المشركية الذين اعترضوا بمشيئة الله واحتجوا بها على رد أوامره ونواهيه، ورد دينه وشرعه، وتكذيب أنبيائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

شبهة القدرية الإبليسية

شبهة القدرية الإبليسية والنوع الثاني من أنواع المعترضين -وهو واقع في الناس اليوم- هم: القدرية الإبليسية -نسبة إلى إبليس- الذي حكى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] فإبليس أبى أن يسجد لآدم واستكبر وكان من الكافرين، فكتب الله عليه اللعنة إلى يوم الدين، وأخرجه وطرده من رحمته، وعندئذٍ اتخذ هذا الموقف من آدم وذريته -موقف العداوة والإضلال والإغراء- إلى أن تقوم الساعة؛ فأراد إبليس أن يحتج على فعله هذا، فلم يقل: فبعصياني وبكفري وبإلحادي وباستكباري سأغويهم، بل قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39]. فإبليس يقول: ما دام أنك يا رب أغويتني؛ فسوف أستمر في إغواء بني آدم. وهذا النوع واقع في حياة الناس اليوم، فـ القدرية تقول لأحدهم صلِّ، فيقول: لم يرد الله ولم يكتب لي أن أصلي -فيستمر في ترك الصلاة- ولو شاء الله ذلك لصليت؛ لكن لم يكتب الله ذلك لي؛ فلن أصلي. فهو يستمر في الغواية ويستمر في المعصية، ويقول: إن الله ما شاء وهو الذي عصى، ولو شاء هذا الإنسان لقام وتوضأ وصلى؛ لكن الشيطان ألقى الشبهة الإبليسية هذه في أتباعه من شياطين الإنس، ومن المتبعين له الذين وقعوا في حبائله فأصبحوا يحتجون بهذه الشبهة: ما دام أن الله أغواني وما هداني فسأستمر، وما دمت قد أغويتني فسوف أستمر في إغواء الناس، فالشبهة المشركية -أو الشبهة الشركية- والشبهة الإبليسية واقعتان في الناس اليوم.

شبهة القدرية المجوسية

شبهة القدرية المجوسية والشبهة المجوسية في القدر هي شبهة الذين قالوا: كيف يخلق الله عز وجل الخلق، وكيف يخلق الأفعال في الإنسان ثم يحاسبه ويجازيه عليها؟ فقالوا: إذاً ننكر ما سبق، ونقول: الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه؛ وهؤلاء قد كذبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] وفي قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلقهم. وهؤلاء القدرية من النوع المجوسي- القدرية المجوسية - يثبتون خالقين: إله النور (خالق الخير)، وإله الظلمة (خالق الشر) قالوا: فعل العبد من الطاعات خلق الله، وأما المعاصي فهي من خلق العبد حتى لا ننسبها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فماذا قال فيهم السلف ومنهم الإمام أحمد رحمه الله؟ وعلم الصحابة وعلم السلف علم كلماته قليلة لكن تحتها علم كثير غزير، فكيف ناظروهم، وكيف جادلوهم؟ هل بكتابة أربع أو خمس مجلدات في فلسفات طويلة في القدر؟! لا، بل على نفس منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فناظروهم بجواب شاف كافٍ بأوجز الكلمات، قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من السلف: 'ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا'. فأول ما نبدأ معه أن نقول له: ماذا تقول في العلم؟ هل علم الله عز وجل أنك تفعل هذا أم لا؟ فإن أقر به خُصم وقُطع، فتقول: هل علمه؟ فيقول: نعم. فهل كتبه؟ يقول: نعم. فهل شاءه؟ يقول: نعم. فهل خلقه؟ يقول: لا. فنقول: لا. أنت مخصوم ومحجوج، لأنه علمه وكتبه وشاءه وخلقه! فما هو المانع؟ لماذا تؤمن بثلاث مراتب والرابعة تتركها؟ لا يمكن هذا. إذاً: فهم إن أقروا بالعلم خُصموا، وإن أنكروه وقالوا: لم يعلمه -عياذاً بالله- فهذا كفر، فبعد ذلك ليس هنالك حاجة أن تتناقش معهم؛ فكون الله عز وجل يعلم كل شيء، هذه حقيقة بديهة يعلمها جميع المؤمنين بل حتى من الأمم الكافرة يعلمون أن الله يعلم بكل شيء، وكل من يقر بوجود الله يعلم أنه يعلم بكل شيء. فمن يقول لك: لا. لم يعلم الله كل شيء! ولم يعلم أفعالي! فهذا بدون جدال هو كفر، ونكفره على أمر بين، لا على أمر قد تدخله الشبهة، فنكفره بأمر بين واضح، وهو إنكار العلم الذي لا يخفى على أي مؤمن، ولهذا نجد أن السلف الصالح ذكروا في كتبهم عن القدر حقائق وقصصاً ووقائع مما يوضح المراد، ولتعرف الفرق بين المؤمنين بالقدر وبين القدرية بأنواعهم. فقد ذكروا أن رجلاً جاء إلى عمرو بن عبيد وهو زعيم القدرية المعتزلة الأولين، وهو الذي أظهر مقالة معبد الجهني؛ لأن -كما تعلمون- أول من أظهر القدرية بعد معبد الجهني في البصرة هو غيلان الدمشقي الذي كان في المدينة ثم انتقل إلى دمشق، فتلقفها عمرو بن عبيد. وعمرو بن عبيد كان من النوع الذي يؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد الشر، فليس عنده إرادة، إلا إرادة واحدة، وليس كما قلنا: إن الإرادة إذا كانت بمعنى المشيئة المطلقة فلها حكم، وإن كانت بمعنى المحبة فلها حكم آخر، فعنده إرادة واحدة، وكان من العباد الزهاد جداً، فجاءه أعرابي بدوي لا يعرف شيئاً من الدين، وقال: دلوني على رجل صالح، وكان هذا الأعرابي قد ضاعت منه ناقته، فجاء يبحث عن رجل صالح يدعو الله له أن يعيد له ناقته، فدلوه على عمرو بن عبيد، وقالوا: هذا رجل زاهد وعابد فاطلب منه أن يدعو الله لك، فجاء إلى عمرو فقال له: مالك؟ قال يا عمرو: إن ناقتي قد ضاعت وفقدت ولا أدري من الذي أخذها فادع الله لي؟ فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته، فردها عليه! فالأعرابي بفطنته رأساً قال: لا حاجة لي في دعائك، فقالوا له لماذا؟ قال: ما دام أنه قد أراد ألا تسرق فسرقت، فأخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع! فالإرادة عند عمرو بن عبيد إرادة واحدة فقط. ولهذا يقال: إن مجوسياً وقدرياً أيضاً ركبا في سفينة، وأخذا يتجاذبان في القدر، فقال المجوسي للقدري: الشيطان لما فعل وعصى هل فعل ذلك بقدر من الله؟ فقال القدري: لا. قال: إذاً غلبه. -عياذاً بالله- فقال له: لم لا تسلم؟ قال: أنا مع أقواهم. أي: على كلامك أن الله لم يرد أن يكفر الشيطان وكفر فاتركني أكون مع القوي!

الآثار السيئة للانحراف في القدر

الآثار السيئة للانحراف في القدر فانظروا كيف تحدث هذه الشبهات طعناً في الدين وثلمةً فيه؛ فيفضي ذلك القول بالطرف الآخر إلى ردة الفعل، فمن هو الطرف الآخر؟ الطرف الآخر هو الذي يقول: إن الله عز وجل هو فاعل كل شيء كما قال بذلك الجهمية ومن اقتفاهم، كالكسب عند الأشعرية، والكسب أصلاً كان عند النظام عند المعتزلة، ثم أخذه منهم الأشعرية. فـ الشيعة قدرية ينكرون القدر، والأشعرية جبرية، أي يقولون: إن الله هو الفاعل، ولا يقولون: إن الله هو الخالق، وتبعهم على ذلك غلاة الصوفية الذين يقولون: إن أي فعل يقع يجب عليك أن تعتقد أن الله هو الفاعل -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فالناس يفعلون الزنا، وشرب الخمر، والمحرمات الكثيرة، فهل نقول: إن الله هو الفاعل؟! لا. ولكن الله شاء ذلك وأراده كوناً ولكنه لم يحبه ولا يحبه شرعاً؛ خلقه فيهم؛ لكن ليس هو الفاعل له؛ وإنما الله خالق، والعبد هو الفاعل. والشبهة الأخيرة هي قولهم: كيف يجازيهم الله عز وجل؟ فنقول: هل يجازي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العباد على ما يعلم؟ وهل يبعثهم يوم القيامة ويقول: أنا أعلم أنك تفعل المعاصي فأجازيك عليها، أو أعلم أنك تفعل الطاعات فأثيبك عليها، أم يجازيهم على ما فعلوا؟ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجازيهم على ما فعلوا؛ ولهذا يسترسل الإنسان: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] ولا يصدق بما يقرره عليه ربه، ويتهم الملائكة الكاتبين الكرام، ويقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، فيختم الله عز وجل على أفواه أولئك العصاة وتتكلم أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، وتنطق جلودهم بأنها عملت المعاصي. إذاً: فهذا الإنسان عندما يحاسب ويدخل الجنة أو يدخل النار فهو نتيجة للأسباب التي اتخذها، والأعمال التي عملها، وإلا لو كان الحساب على مجرد العلم؛ لكان أوّل ما خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آدم واستخرج من ظهره ذريته وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، انتهى الأمر ولا حاجة إلى أن يخلقوا، وأن يأتوا إلى هذه الدنيا، لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجازيهم على أعمالهم، وهذه الأعمال التي يعملها الناس منها ما هو غير اختياري فلا يحاسب عليه الإنسان. فهل يحاسب الله تعالى المجانين؟ بل ورد أن أربعة من الناس يتظلمون إلى الله عز وجل يوم القيامة: المجنون، والهرم، والصغير، والزّمِن أصحاب العاهات- كل منهم يوم القيامة يقول: يا رب! لما جاء الرسول كنت مجنوناً أو كنت هرماً أو كنت صغيرا، ً فكيف تحاسبني يا رب! وأنت الذي لا تظلم أحداً شيئاً؟! فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمتحنهم ويختبرهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس:44] فالله غني عن الناس، وغني عن ظلمهم: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} فالذين يقولون: إن الله قدّر ذلك وكتبه علينا فكيف يحاسبنا؟ نقول: أنت جعلت نفسك كالمجنون أو الصغير أو الزمن الذي لم يدرك شيئاً من الدين، وهذا لا يصح أبداً. فأنت قد جاءك الدين والإيمان وبلغك، فلو أن هذا الأمر خفي عليك كحكم من الأحكام لم تعلمه، فتقول كما قال سبحانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فيقول عز وجل: قد فعلت. وهذا الأمر فيما بلغك وأخطأت فيه أو نسيته، لكن في أمر تعمدته كعلمك بأن الله عز وجل أمرك بالصلاة ولم تصلِّ، فهل ينفعك يوم القيامة أن تقول: يا رب! قدّرت هذا علي أو قضيت؟ هذا لا ينفع أبداً! فاعلم أن الله عز وجل أمرك أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، وأن تطيع الله ورسوله فيجب عليك أن تحقق ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

الإنسان مخير أم مسير

الإنسان مخير أم مسير Q هل الإنسان مخير أم مسير؟ A الذي يجب أن نعلمه أن السؤال إذا كان خطأً؛ فهذا لا نجيب عليه إجابة مباشرة؛ لكن نبين خطأ السؤال. وهذا مثلما سأل بعضهم فقال: يقول الملحدون الغربيون: إذا كان الله على كل شيء قدير فهل يقدر أن يخلق مثل نفسه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأيضاً السؤال هنا خطأ؛ فلا نجيب عليه إجابة مباشرة، ولكن نبين خطأ السؤال؛ فمن الخطأ أن يقال: إن الإنسان مخير أو يقال: إنه مسير؛ بل من الخطأ أن يُسأل هذا السؤال، فمن الخطأ أن تسأل فتقول: الإنسان مخير أو مسير؟ وتتوقع أن يجيبك المجيب بأن يقول: مسير، أو يقول: مخير؛ فلو أجابك وقال: مسير، لقلت: إذا كان مسيراً فكيف يحاسبه الله عز وجل، وهناك أمور هو مخير فيها، وإذا قال لك: هو مخير، قلت له: كيف مخير ولم يأت إلى هذه الدنيا بإرادته، ولم يفعل الأفعال التي يشاء، فهو يشاء أحياناً أموراً كثيرة ولا تقع، وأحياناً لا يشاء الأشياء وتقع، فكيف تقول: إنه مخير، ففي مثل هذه الحالة نعرف أن السؤال نفسه خطأ. فهذا السؤال لم يرد عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولا عند السلف الصالح؛ لأنهم قوم أعقل من أن تخطر عليهم هذه الأسئلة، وهذا السؤال إنما يرد في كتب الفلسفة عند المتفلسفين الذين يخوضون في قضايا عميقة ودقيقة ونظرية لا أساس لها في الشرع، ولا حتى في العقل الصريح. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال وليس هناك أوضح من هذا القول ومن هذه العبارة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] فأثبت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا مشيئة، ولكنها لا تكون إلا بعد مشيئة الله، ووفق ما أراد الله، فإذا عملنا عملاً من الأعمال باختيارنا؛ فإن الله عز وجل يكون قد أراده، وإذا أردنا أن نعمل عملاً من الأعمال، ولكن الله عز وجل لم يشأه؛ فإنه لا يكون ولا يقع مهما اجتهدنا في تحصيله. ويقول لك أحدهم: أنا مخير وأنا حر، وأريد أن أعمل هذا العمل! ولكنه لا يقع ذلك -حتى في واقع الحياة- والقصص على هذا كثيرة جداً. فمما ذكره بعض العلماء: أنه كان رجلان في طائرة -مسلم والآخر كافر- والرحلة كانت إلى لندن فقال الكافر للمسلم: كم تبقى من الوقت لنصل إلى لندن؟ قال: تبقى ساعة إن شاء الله -قالها هكذا عادية مثل أي مسلم- فضحك الرجل وقال: لماذا تقول: إن شاء الله، فالطائرة ذاهبة والمطار موجود؟! بل قل: بعد ساعة ولا تقل: إن شاء الله، فقال له: لا. أنا مسلم، وأقول إن شاء الله؛ لأننا قد نشاء أشياء نسعى لها والأسباب متوفرة، ولا يقع ذلك فأبى الكافر أن يقتنع، فيقول الرجل المسلم: فقدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه عندما وصلنا قريباً من لندن وإذا بالمطار مقفل؛ فهناك ضباب والهبوط ممنوع، ولا بد أن يكون الهبوط في باريس، ولا أعرف كم تبعد باريس عن لندن فقلت له: كم بقي حتى نصل إلى باريس، فقال: ساعة إن شاء الله؛ فعرف أن هناك إلهاً فعلاً بعد أن قال: لماذا تقول: إن شاء الله؟ فهو لا يدري لعل باريس تكون مقفلة أيضاً. فالقصد أن الإنسان مهما كابر ومهما قال: لا. كل الأسباب موجودة، وأنا أقدر فلماذا تقول لي: إن شاء الله؟! فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي إذا شاء وقع ما شاء، لا ما خططت أنت وأحياناً لا تخطط لشيء فيحدث ويكون قد شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لك وهكذا. وبهذا نعرف قدرة الله وعظمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه هو الذي يدبر الكون ويصرفه، ونعرف أن الإيمان بالقدر يولد الطمأنينة في نفس الإنسان: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فالإيمان بالقدر يعطي الإنسان طمأنينة، وراحة فلا يندم ولا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما أوتي كما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك في كتابه. فإذاً الإنسان له مشيئة وله اختيار؛ ولكنه اختيار محدود وفي حيز مشيئة الله له، ولا تكون مشيئة الإنسان ولا تنفذ إلا إذا شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك. فلو كان الإنسان مجبوراً بإطلاق؛ لكان مثل الحجر أو الشجر في مهب الريح وليس الإنسان كذلك، ولو كان مخيراً بإطلاق؛ لكان يفعل ما يشاء، دون أن يقع له أي عارض أو أي مانع إلا تحصيل الأسباب؛ لكننا إذا نظرنا فسنجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو خالق الأسباب، وأنه إذا شاء أبطل الأسباب وأبطل أفعالها. فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي شاء وجعل المطر سبباً في إخراج الزروع: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60] أنبتنا به أي: أن الله عز وجل جعل المطر والغيث سبباً في الإنبات، ولو شاء الله عز وجل لكان كما ورد في الحديث في آخر الزمان: {يصبح المطر قيظاً} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: {ليس الجدب ألا تمطر السماء ولكن أن تمطر السماء ولا تنبت الأرض شيئاً}. فهل لاحظتم كيف جعله الله سبباً؟ ولو شاء الله عز وجل لجرَّد هذا السبب من الفعل كما يشاء؛ وما الآيات والبراهين والبينات التي جعلها الله تبارك وتعالى للأنبياء إلا جزء من ذلك؛ فالنار عادة تحرق، وكل ما يقع في النار فإن النار تحرقه، وهذا أمر خلقه الله تعالى هكذا؛ لكنه لما شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى الخليل عليه السلام فيها، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فما أحرقته. وكذلك ليس من الأسباب العادية المعروفة أن البحر بضربة العصا ينفلق حتى يكون كل فرق كالطود العظيم، ولا يمكن ذلك بالأسباب العادية؛ لكن الله جعله لموسى وقلب تلك العصا حيه، وهكذا فهذه إرادة الله، ومشيئته، فالإنسان له مشيئة لكنها ليست حرة، ومطلقة.

حديث "فحج آدم موسى" والاحتجاج به على المعاصي

حديث "فحج آدم موسى" والاحتجاج به على المعاصي Q حديث: {فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} اشرح لنا هذا الحديث؟ وآخر يقول: هل للعصاة حجة فيه للاحتجاج على المعاصي؟ A هذا الحديث أولاً: هو حديث صحيح لا شك في صحته عند علماء السنة. يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة} هكذا في بعض الروايات وكلها متقاربة، وهكذ احتج موسى على أبينا آدم عليهما السلام: {فقال له أبونا آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وخط لك التوارة بيده، تلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} أي: غلبه بالحجة. فآدم غلب موسى، وهنا وقع الإشكال؛ فـ القدرية المعتزلة وأشباههم قالوا: هذا الحديث لا يثبت وردوه، وإذا قيل لهم: كيف تردونه وهو صحيح؟! قالوا: هذا فيه حجة لأهل المعاصي، فيعصي الإنسان ويقول: قدَّر الله عليَّ؛ لأن آدم قال: قدر الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، فنحن نرد هذا الحديث، فردوه وهو حديث صحيح. وأما القدرية المرجئة -والكل يسمون القدرية لكن الأخص يطلق على النفاة- فقالت: لا. بل هذا الذي نريده، فاحتجاج العاصي بذلك جائز له؛ لأنه في الحقيقة لا فاعل إلا الله، وكما يقول غلاة الصوفية: أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات أي كل أعمالي من الله. فهذا الحديث يدل عندهم على أن للعاصي أو لأي مذنب أو مجرم أن يحتج بالقدر، وهذا أيضاً باطل. وقد وقع في هذا الحديث خصومة شديدة بين المعتزلة الذين أنكروا الحديث، والأشعرية والصوفية الذين أثبتوه؛ ولكن على غير الوجه الصحيح، حتى قال الشيخ المقبلي رحمه الله: من يقرأ في مجادلة الفريقين يظن أن آدم أشعري وموسى معتزلي. فجعلوا آدم أشعرياً، وجعلوا موسى معتزلياً، سبحان الله! من كثرة ما تجادل الطرفان، وكلاهما أخطأ في الفهم. والفهم الصحيح للحديث هو كما فهمه الصحابة الكرام، فلم يقع عندهم أي تعارض، وهم أفقه الناس وأعلمهم وأذكاهم، وهو أن موسى عليه السلام لم يعتب ويلم آدم على الذنب، ولم يقل لآدم كيف تذنب وتعصي أو كيف تأكل من الشجرة، وهذا هو الفهم الذي تفهمه الجبرية. وهنا إشكالات يكفي أن نذكر منها إشكالين بالنسبة لكل واحد من هذين الرسولين: أولاً: أما بالنسبة لآدم عليه السلام فالجواب سهل جداً، فإذا قال له: لماذا تعصي؟ فسوف يقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد غفر لي ذنبي، ولست أنت ربي حتى تحاسبني؛ ومن هذا الذي يلوم أحداً على ذنب قد فعله، وعنده علم من الله أنه قد غفر له؟ ومثلاً الكافر إذا أسلم؛ نحن نعلم -وإن كان ليس بنفس اليقين- أن هذا الإنسان ما دام أسلم فإن الإسلام يجب ويهدم ما قبله، فعندما أقول له: لماذا كفرت؟ فهو يقول: لا داعي للسؤال فأنا قد أسلمت، واعتراضك هذا ليس له وجه. فالجواب إذاً سهل بالنسبة لآدم، فيقول: إن الله قد غفر لي ذنبي، ولست أنت بربي، وأيضاً موسى عليه السلام أعلم بالله وبآدم وبالحق من أن يلوم أباه آدم على ذنب يعلم أن الله قد غفر له. إذاً إلى أي شيء يتوجه اللوم؟ إنما يتوجه موضع اللوم؛ إلى الإخراج فاللوم أنك خيبتنا وأخرجتنا، فموسى عليه السلام ينظر كيف كنا، وأين كنا، كما قال ابن القيم: فحي على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا أسرى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم فنحن نزلنا إلى هذه الدنيا وهذا التراب حتى يقال: إن آدم عليه السلام بكى طيله ثلاثمائة سنة، ولا بد أن يبكي عليه السلام لما أنزل إلى التراب، فهي مصيبة كبيرة أن يخرج من الجنة وينزل إلى التراب. فموسى عليه السلام يلومه على هذه المصيبة، فيقول: يا أبانا آدم! خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. إذاً هذا اللوم يتوجه إلى هذه المصيبة، وهي الخروج من دار النعيم، ومن دار القرار إلى دار الشقاء والنكد والمصائب، فآدم عليه السلام يقول: أنا ليس لي ذنب في الإنزال، بل هي مصيبة ليس لي ذنب فيها؛ لأنه أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، وهذا صريح القرآن: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] أي: أن هذا قبل أن يخلقه: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]. إذاً فالله قدر قبل أن يخلق آدم في الفترة التي لم يكن فيها آدم شيئاً مذكوراً، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] وهي أربعون سنة. فيقول آدم عليه السلام: يا موسى! الإنزال في الأرض ليس له علاقة بي، عصيت أو لم أعص فالنزول واقع واقع، لأنه قُدر وكُتب قبل أن أخلق بأربعين سنة بأنني أنزل إلى الأرض فلماذا تلومني؟ أتلومني على أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة؟! إذاً انتهى الجواب: {فحج آدم موسى} وفي رواية أخرى: {ألم تقرأ في التوراة أن الله تعالى كتب أنه سوف ينزلني إلى الأرض وأنه سيجعلني خليفة في الأرض}. إذاً ليس هناك مجال للاحتجاج بالقدر على المعاصي؛ ولكن نحتج بالقدر على المصائب، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] وهذا ما أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نقول: {قل قدر الله وما شاء فعل}. فإذا وقعت المصيبة ووقع الشيء خلاف ما تريد؛ فإنك حينئذ تحتج بالقدر وتقول: قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أخذ ولله ما أعطى، فهذه أقدار الله عز وجل؛ فالقدر يحتج به على المصائب، ولا يحتج به على المعائب والذنوب. أما أخطاؤنا التي نرتكبها عصياناً لله، فلا نحتج بها إلا في حالة واحدة! حالة أن يكون الاحتجاج بالقدر على المعصية مجرد إخبارٍ عن أمر قد مضى أو أمر واقع وليس فيه معارضة على القضاء والقدر. فالمشركون احتجوا بالقدر على الشرك، فقالوا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107] {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] فاحتج المشركون به في مقام الاعتراض على الرسل؛ لكن لو أن أحداً من الصحابة أسلم، فقيل له: لماذا لم تسلم إلا في السنة السابعة من الهجرة؟ فقال: لو شاء الله لأسلمت قبل ذلك، فإننا نقول: الاحتجاج هنا صحيح؛ لأن هذه مصيبة، فيحتج بالقدر على المصيبة، أو يحتج به على ما ظاهره أنه معصية، لكنه بمنزلة المصيبة. وأما إذا قال لك أحد: هؤلاء جيرانك محتاجون -وهم مسلمون- فأطعمهم، فقلت: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] فهذا لا يجوز؛ لأنه يعتبر رداً لأمر الله وشرعه الله بمشيئته، لا يجوز. ولو قيل لك: يا أخي! يوجد في أمريكا الوسطى أناس فقراء، وفي الصين كل يوم يموت من الجوع ألف؛ فما هو رأيك؟ فقلت: يا أخي! لو شاء الله أطعمهم، وهذه مشيئة الله، فكلامك هنا صحيح، فإنه لو شاء الله ما ماتوا في إفريقيا ولا في أمريكا الوسطى ولا في الصين ففي هذا الموضع لا يكون الاحتجاج دافعاً لعدم الإنفاق ولا منعاً للإحسان؛ وإنما تقول هذا من باب الإخبار المجرد؛ فهو في هذه الحالة يتحول إلى كلام على المصيبة وليس على المعصية. وقد ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لما ذهب يتفقد علياً وفاطمة وحضهما على قيام الليل، فقال علي: إن أنفسنا بيد الله فمتى شاء بعثنا، فولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يضرب على فخذه، ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]} وهذا ليس من باب قول أحدهم: أنا أنام ولا آخذ بالأسباب، وإذا قدر الله لي أن أستيقظ استيقظت! فهذا احتجاج بقدر الله -بأنه هو الذي يحيي ويوقظ النفس- لترك الطاعة، وهذا لا يجوز، لكن علياً فطن إلى المحاجة والمجادلة مثلما فطن آدم في محاجة موسى، أي أنه إذا وقع النوم بعد أخذ الأسباب فهو من الله. ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بني المصطلق لما نام هو وأصحابه ولم يوقظهم إلا حر الشمس، قال: {إن أرواحنا بيد الله فمتى شاء بعثها} وهذا استدلال بقدر الله على المصيبة، فأنت إذا تحريت واجتهدت ونمت في الوقت المناسب، وقد تكون وضعت المنبه، وكل شيء؛ ثم استيقظت وإذا بالناس قد صلوا الفجر؛ فهنا تقول: أرواحنا بيد الله. لكن أحدنا ينام ولا يبالي ولا يستعد ولا يريد أن يصلي الفجر جماعة، ثم يقول: أرواحنا بيد الله، فالفرق كبير بينهما، فهذه معصية وتلك مصيبة، وهناك فرق بين المعصية والمصيبة من حيث الاحتجاج.

محو الله للقدر ورد القدر بالدعاء

محو الله للقدر ورد القدر بالدعاء Q هل يمحو ويغير الله ما يكتبه على العباد ويكتب غيره، وهل يرد الدعاء شيئاً من القدر؟ A نعم، فالله تبارك وتعالى يقول: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {لا يرد القضاء إلا الدعاء} وهذا يحفزنا ويدفعنا للاجتهاد في طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باستمرار، وأن نكثر من دعاء الله ونجتهد في طاعته، وندعوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من السعداء، وأن نعمل بعمل أهل السعادة.

جواز الدعاء بطلب السعادة

جواز الدعاء بطلب السعادة Q هل يجوز أن يقول الإنسان: اللهم إن كتبتني شقياً فامحني واكتبني من السعداء؟ A مثل هذا جائز، وقد ورد عن السلف؛ لأنك لا تعلم الغيب، ولا تدري ما حالك عند الله، وهذا -كما قلنا- من أكبر الأسباب التي جعلت السلف الصالح يجتهدون في طاعة الله، وكذلك يجتهدون لأن يكونوا من المقربين ومن أصحاب السعادة؛ فاجتهد وادع الله أن يجعلك من أهل السعادة؛ فحينئذٍ تكون قد بذلت الأسباب، والله يوفق من دعاه ولا يخيبه، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. لكن أم الكتاب لا نقض فيها ولا تغيير ولا تبديل، لأنها كتبت حسبما سيكون عليه الحال كما علمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

خلق القلم وكتب الأقدار قبل خمسين ألف سنة

خلق القلم وكتب الأقدار قبل خمسين ألف سنة Q يقول السائل: إن الله خلق القلم، وكتب الأقدار قبل خمسين ألف سنة فما هو الدليل على ذلك؟ A الدليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء} رواه مسلم. فقد كتب الله عز وجل مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء، في الوقت الذي لم تكن السماوات والأرض قد وجدت، بل بينهما خمسين ألف سنة. فيجب أن يكون الإنسان على إيمان ويقين بأن كل ما يصيبه من خير أو شر فأمر قد قضي وانتهى؛ فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولم يبق إلا ما كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فليجتهد العبد في الطاعة وفي فعل الخير، وفي دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعله عنده من أصحاب اليمين، ومن المقربين، ومن المتقين، ومن الميسرين لليسرى.

حكم استخدام كلمة (لو) في الرد على القدر

حكم استخدام كلمة (لو) في الرد على القدر Q حصل لرجل حادث، فقال له رجل آخر: لو أنك لم تذهب، فهل يجوز هذا القول؟ A قوله: لو أنك لم تذهب لما وقع الحادث لا يجوز؛ لأن هذا ما قاله المنافقون: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] فرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أي: لو كان الإنسان في بيته، والله عز وجل كتب أنه يذبح هنا، فإنه يخرج إلى مضجعه ويضطجع ويذبح؛ فهذا شيء لا بد منه. فأمر كتبه الله لا بد أن يقع، ولا يجوز الاعتراض بكلمة (لو) هذه؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث السابق: {استعن بالله واحرص على ما ينفعك ولا تعجز، وإن أصابك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} وهذه لا يستخدمها المؤمن في القدر، في مثل هذا الموضع.

أنواع كتابة القدر

أنواع كتابة القدر Q هل الكتابة الكونية ليس فيها الكتابة النوعية؟ وهل الكتابة النوعية ليس فيها الكتابة الحولية؟ وهل الكتابة الحولية ليس فيها الكتابة العمرية؟ وما فائدة هذه الأنواع من الكتابة إذا كانت متضمنة مكتوباً واحداً؟ A هي في الحقيقة تقدير بعد تقدير، فالكتابة الكونية في اللوح المحفوظ هي وفق علم الله، ومن الممكن أن نعتبر أن العلم والكتابة مرتبة واحدة، لكن الكتابة النوعية والكتابة العمرية والكتابة الحولية والتقدير اليومي، هذا تقدير بعد تقدير، وكتابة بعد كتابة، ولله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك حكمة، فلما خلق الإنسان؛ جعل الله له قدراً خاصاً وهو موافق للقدر الأول، ولما خلق كل إنسان منا في ذاته -أيضاً- كتب قدره، فهو من نفس القدر الأول، وكذلك كل عام، وكل يوم يفعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يشاء، فهذه أخبرنا الله بها، حتى يزداد إيماننا ويقيننا، ونعلم أن الكون كله بقدر، فجنس الإنسان كله بقدر، وعمرك كله بقدر، وسنتك هذه بقدر، ويومك هذا بقدر. إذاً فكل شيء بهذا الترتيب العجيب الذي لا يمكن أن يعلم إلا عن طريق الوحي، فهل تتخيلون أن العقل وحده يستطيع أن يعرف أنواع هذه التقديرات؟ إن هذا لا يمكن على الإطلاق؛ وهذا فيه فائدة عظيمة لنؤمن بالغيب، ولنعرف قيمة الوحي، ولنزداد يقيناً بأقدار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلا فكلها مُتضمَنة ومكتوبة بالقدر الأول الذي هو أم الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير.

الحث على تعلم القدر

الحث على تعلم القدر Q يقول السائل: قال بعض السلف: 'رأيت أعلم الناس بالقدر أجهلهم به، وأجهل الناس به أعلمهم به' ما رأي فضيلتكم في هذه العبارة؟ ثم اذكر موقف السلف حول الإيمان بالقضاء والقدر؟ وهل حرص العبد على الادخار لذريته ينافي القدر؟ وهل عرض قضايا القدر تفصيلاً بحضرة العوام يتعارض مع قول الإمام علي: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله]]؟ A نبدأ أولاً بهذه العبارة 'رأيت أعلم الناس بالقدر أجهلهم به, وأجهل الناس به أعلمهم به' فهذه العبارة ليست عامة، وليس المقصود بهذه العبارة أحكام الخبر المنصوص عليها وما جاء في القدر من آيات وأحاديث وكلام السلف؛ لأن هذا من زيادة العلم الذي يزيد الإنسان يقيناً وإيماناً بهذا الركن العظيم من أركان الإيمان؛ لكن الذي يبحث في الدقائق ويتعمق في أسرار القدر؛ فمهما تعمق فإنه يرجع إلى الأساس الأول، وهذا هو الذي لو جهله لكان خيراً له. فالقدَر المتعمق فيه هو الذي سلكه أهل الكلام وأمثالهم، وقد وردت عبارة عن السلف مثل هذه تماماً وهي تفسر هذه كما يقول أبو يوسف أو غيره: 'العلم بالكلام هو الجهل، والجهل به هو العلم' وعلم الكلام هو التعمق والتدقيق في أمور غيبية بالعقل المجرد، كالتدقيق في صفات الله وفي القدر وما أشبه ذلك؛ فهذا هو الجهل، لأن الإنسان يتكلف ما لا يمكن أن يصل إليه وما لا يطيقه، وهذا ينتج عنه الضلال والانحراف عافانا الله وإياكم. أما العلم الذي هو في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة المتعلق بهما -أي الكتاب والسنة- فليس داخلاً في ذلك. وأما حرص العبد على الادخار لذريته فإنه لا يتنافى مع القدر؛ لأن الجوع قدر وإذا أكلت وشبعت أذهبت الجوع، وهذا أيضاً بقدر؛ ولهذا المؤمن مطالب بأن يدفع القدر بالقدر، فالقدر ينازع بالقدر، وهذه كلها أقدار أو أسباب جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنا لا أعلم بالمكتوب عند الله؛ وإنما المطلوب مني أن أدفع قدراً بقدر، فأدفع المعصية بالطاعة، وأدفع الغفلة في القلب بذكر الله عز وجل وقراءة القرآن وبتذكر الموت والآخرة، وأدفع الداء بالدواء والعلاج وهكذا، فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ سعد: {إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} وهذا من الأخذ بالأسباب والقدر، ولا شيء في ذلك. أما الحرص الذي يجعل الإنسان يمنع حق الله من المال، ويخاف على أولاده، ويقول: كيف يعيشون؟ وكيف يطعمون من بعدي؟! ويجزع ويهلع؛ فهذا هو الذي لا يجوز. أما أن يدخر شيئاً مما أعطاه الله؛ ليصلح حال أبنائه من بعده؛ فهذا مأمور به ومطلوب شرعاً؛ ولهذا لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثلث -كما ثبت ذلك في حديث سعد الصحيح الذي أشرنا إليه-. أما عرض قضايا القدر في حياة العوام تفصيلاً فليس كل شيء ينبغي أن يعرض أمام العوام تفصيلاً، لكن بالنسبة لطلبة العلم ينبغي أن يتعلموا ما يحتاجون من علمه؛ حتى إذا سأل العوام يجيبونهم. فمن لديه استعداد للعلم فليتعلم، وإن كان هو يجهل ذلك؛ لأنه ليس كل شخص يولد عالماً. وأما إذا قلنا: هذا لا يعلم شيئاً فلا نعلمه شيئاً في القدر؛ فسيظل جاهلاً. لكن ليتعلم شيئاً، ومن عنده استعداد أن يتعلم أكثر من ذلك فليعلّم ذلك، كما في الحديث الصحيح عن عمران بن حصين حين امتحن واختبر أبا الأسود الدؤلي في القدر. فإذاً: هذا مما يدل على أن من الناس من يُعلَّمون ذلك، ولكن ليس كل واحد يعلَّم.

سبب الالتباس في مسألة القدر

سبب الالتباس في مسألة القدر Q إنني أرى كثيراً من الناس يصلون ويصومون، ولكنهم مع ذلك لديهم التباس في مسألة القدر، فما السبب في ذلك؟ A السبب هو أن الشيطان حريص، فإما أن يأتينا بالمعاصي الظاهرة، وإما أن يأتينا بالمعاصي الباطنة -وهذا أشد- ولهذا قال الله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] فالمعاصي الظاهرة هي نتيجة للشهوات، كترك الصلوات أو الزنا أو الخمر أو ما أشبه ذلك -عافنا الله وإياكم منها- لكن المعاصي الباطنة تكون نتيجة الشبهات -في الغالب- فيأتي الشيطان بالشبهة فيفسد على الإنسان دينه، فيضل بالقدر أقوام، وكم كفر من أناس نتيجة القدر! نسأل الله العفو والعافية. فهذا عمرو بن عبيد كان عابداً زاهداً لا يكاد يملك من الدنيا شيئاً، لكنه كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [[لو أنفق مثل أحد ذهباً ولم يؤمن بالقدر لم ينفعه أبداً]]. إذاً هذا هو الذي يريده الشيطان؛ فلقد عجز أن يأتي إلى بعض الناس من باب الشهوات والمعاصي؛ فأتاهم من باب الشكوك، ومن باب فساد الإرادة والإخلاص -عافانا الله وإياكم من ذلك- ولذلك هو حريص إما أن يجعلك لا تعمل، أو أن يجعل عملك فاسداً حابطاً وإن اجتهدت واستكثرت منه؛ ولهذا يجب أن نحذر هذا العدو، فهو عدو لديه تجارب طويلة، ولديه نفس ثابتة تعينه، ولديه -خاصة في هذا العصر- من الوسائل من مكر الليل والنهار والسيطرة على قلوب البشر والغفلة عن ذكر الله، الشيء الكثير جداً؛ حتى أصبحت هذه الشبهات تتلاحق على الناس. فشبهات في القدر وشبهات في الصفات وفي الإيمان بالله وفي نشأة الكون، وفي سبب وجود الإنسان، وفي نهاية الإنسان، شبهات متلاحقة لا تكاد ترى كتاباً من هذه النوعيات أو مجلة أو فيلماً أو مقالة إلا وفيها شبهة فسبحان الله!! ولولا ثقتنا بنصر الله ووعده والإيمان به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن الأمة فيها صحوة طيبة، وفيها فئة ثابتة؛ لقلنا انتهى الإسلام من كثرة ما تجد من مكر الليل والنهار بهذه الشبهات. فقد كان الطفل ينشأ إلى أن يبلغ الحلم لا يسمع شبهة؛ أما الآن فإن الطفل تصب الشبهات في ذهنه صباً -كل يوم تقريباً- ولهذا ننصح بضرورة التربية على الإيمان وعلى العقيدة الصحيحة وعلى العلم الصحيح، ولا يكفي مجرد العواطف أو مجرد الاستثارة. بل يجب أن نكون على علم ويقين، وإلا فسوف تصبح الشبهات مستعصية، وهذه ما يريده الشيطان، نسأل الله أن يكفينا وإياكم وإخواننا المسلمين من شره.

الرؤيا المبشرة

الرؤيا المبشرة Q يقول السائل: إذا رأى الإنسان رؤيا مبشرة فما الذي يجب عليه أن يعمله؟ A عليه أن يعمل لتحقيقها. مثلاً: افرض أنك رأيت رؤيا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يهدي بك طائفة من الناس أسلموا واهتدوا على يديك! فعليك أن تتسلح بالعلم، وأن تستعد وأن تذهب إليهم، وأن تبذل الدعوة لهم؛ حتى تتحقق لك هذه البشرى، وكذلك لو رأى أو بُشِّر بأنه سيكون له أبناء كثيرون، فعليه أن يسعى ليتزوج المرأة الصالحة، ويسعى لأن يكسب هذه الذرية الصالحة الطيبة، أي: أنه يبذل الأسباب التي تجعل هذه البشرى حقيقة -إن شاء الله- كما أنه لو رأى أو ظن أو توقع ما يسيء إليه، فإنه يسعى إلى اجتنابه، ولو توقع أي شر فإنه يبذل الأسباب لاجتنابه، مع الفارق -طبعاً- بين البشرى وبين الفعل السيئ.

اختلاف الناس إلى طريقة الخير والشر

اختلاف الناس إلى طريقة الخير والشر Q قد يقول قائل: أنا أومن بأن الله بعلمه الأزلي قد علم ما سيكون من اختلاف الناس، وتفرقهم لطريق الخير أو الشر، فما السر الذي من أجله ذهب فلان إلى طريق الخير وفلان ذهب إلى طريق الشر؟ وقد تقول: إن هذا راجع إلى إرادة الإنسان، وحسن امتثاله وصبره، والتزامه بطريق الخير، فنقول: لماذا لم يخلق الله هذين الرجلين بإرادة واحدة متساوية؟ ولماذا استطاع هذا أن يتحكم في إرادته ويوجه همته نحو الخير، وذاك لم يستطع أن يفعل ذلك؟ A أنا معك أنني سأجيبك كما قلت، وسأقول لك: إن سألتني: لماذا اختار هذا طريق الخير، والآخر اختار طريق الشر؟ ولماذا ذهب هذا إلى طريق أهل اليمين، وهذا إلى طريق أهل الشمال؟ فسأجيبك بأنه فعل ذلك باختياره، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قدر ذلك عليه وشاءه، لكنه ذهب وفعل ذلك بكامل إرادته واختياره. وإن قلت: لِمَ لمْ يخلق هذان الرجلان بإرادة واحدة متساوية؟ فسأقول لك: هذا السؤال لم يعد متوجهاً إليَّ؛ فالسؤال الأول من حقك أن توجهه إليَّ؛ لكن إذا وصلنا إلى أنه لماذا كان اختياره هكذا؟ ولماذا أعطي هذا الاختيار؟ فهذا السؤال لا يتوجه إلا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن ذا الذي يستطيع أن يسأل الله: لماذا يا رب جعلت هذا يتوجه إلى الخير وهذا يتوجه إلى الشر؟ قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] كما قال عمران لـ أبي الأسود. فإذا جاء هذا الإنسان يوم القيامة وقال: يا رب! لم اسمع بنبي ولا برسول قط، وقد قال الله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فلا يظلمه الله ولا يؤاخذه، مع أن الفطرة موجودة لكن الله لا يؤاخذه إلا بما بلغه. ولو جاء يوم القيامة، وقال: كنت مجنوناً، أو كنت صغيراً، أو كنت هرماً، أو كنت أبكم، فلم أسمع شيئاً من الدين؛ فكيف تحاسبني يا رب؟! فإن الله لا يظلم الناس شيئاً أبداً. إذاً: لو جاء في يوم القيامة هذا الذي اختار طريق الشر فهل يستطيع أن يسأل هذا السؤال، ويقول: ظلمتني يا رب! فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاك القدرة وأعطاك الاختيار وأنت اخترت؛ فلهذا لا يقول ذلك أحد؛ إنما الفلاسفة والمتكلمون استشكلوا هذا في رءوسهم، ولقنوا ذلك لغيرهم وهذه من شبهات الشيطان. ونوضح المسألة أكثر: إذا قلت لأحد من الكفار لم يسمع بهذه الشبهة، ولم يلقنه إياها الفلاسفة: يا أخي في الإنسانية! هل أنت مسلم أم كافر؟ فسيقول لك: كافر. فإذا قلت: ولماذا لم تسلم؟ يقول: لا أريد أن أسلم، تقول له: الإسلام هو الدين وهو طريق الجنة، والكفر يؤدي إلى النار، فيقول: لا. أنا لا أريد الإسلام، فإذا قلت له: أنت مجبور على الكفر وإلا لكنت الآن مسلماً، عند ذلك يضحك منك، ويقول: لا. لم يجبرني أحد! -وهو يضحك منك- ومن الذي يجبرني؟ فلو أريد الآن أن أسلم لأسلمت. فإذا سألته: هل تتحمل مسئولية هذا الكفر الاختياري؟ فسيقول: نعم. هو كافر باختياره وهي مسئوليته؛ وهذا ما قاله كفار قريش ويقوله كل كافر: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32] أي: ليس ذلك عندهم قضية أنهم مجبورون بل يقولون: لا يمكن أن يكون حقاً؛ وإن كان حقاً فأمطر علينا حجارة. فهذا الكافر يقول: نعم. أنا مستعد أن أتحمل تبعة هذا الكفر حتى ولو كان إلى النار؛ فهذا ليس مجبوراً أبداً؛ ولهذا فهو محاسب يوم القيامة على كلامه، وهو فعلاً مختار، وأنه لو شاء لأسلم في هذه اللحظة. وليس لنا وراء الخوض في هذا الموضوع إلا الاعتراض على الله عز وجل، ولا يمكن أن تصل العقول البشرية إلى إدراك ذلك، والتحدث والخوض في هذا الموضوع يؤدي إلى الضلال عن الصراط المستقيم.

القدر الإبليسي

القدر الإبليسي Q إن هناك شاباً يقول لي: إني أحس أن هناك يوماً سوف أهتدي فيه، ولا يزال على عصيانه، فهل هذا من القدرية الإبليسية؟ A نعم. هذا نوع من القدرية الإبليسية، فالذي يقول: أنا أحس أنه سيأتي يوم أهتدي فيه، وهو ما يزال -الآن- على المعصية ما موقفه لو جاءه الموت الآن؟! ومن أين جاء هذا الإحساس، ومن قال له: إنك سوف تعيش، فضلاً عن أنك سوف تهتدي؟! فهذا من تسويف الشيطان -نسأل الله أن يعافينا وإياكم- فعلى العبد أن يبادر بالتوبة والعمل؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اعملوا فكل ميسر لما خلق له} فبادر بالتوبة، وبادر بالعمل.

الأفكار الشيطانية

الأفكار الشيطانية Q الإنسان تعتريه بعض الأفكار الشيطانية: في أنه كيف يعلم الله كل شيء في آن واحد؟ وهل علم -مثلاً- من في المملكة، ومن في أمريكا في وقت واحد؟ A هذا أظنه لا إشكال فيه، والذي أنصح إخواني ونفسي أولاً: ألا نسترسل وراء الخواطر الشيطانية، فيأتيك الشيطان فيقول لك كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يأتي الشيطان أحدكم يقول: من خلق كذا، من خلق كذا حتى يقول له: من خلق الله؟ فقل: آمنت بالله}. قال المتكلمون: إذا جاءك الشيطان وقال لك: كذا، فقل له: إن التسلسل ممنوع، وهذا من التسلسل الممنوع. ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: لا تسلسل -والتسلسل ممنوع أصلاً- لكنه قال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل: آمنت بالله. فالشيطان إذا جاءك بهذه الشبهة البسيطة، وأنت المؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنت المصلي والحاج والمعتمر المطيع لله ورسوله، وأنت ترى آثار علم الله عز وجل، وآثار حكمة الله، وآثار رحمة الله، وترى عجائب فعل الله بالعصاة، وعجائب نصرة الله وتوفيقه للطائعين؛ فكل هذه الحقائق عندك ملء السمع والبصر، ثم يضحك عليك الشيطان بشيء بسيط كهذا! ولهذا ما علينا عند هذه الخواطر إلا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ونقول: آمنا بالله، فلا نحتاج إلى أن نبحث ونرد أو نضع جواباً مقنعاً. فالذي ينكر الشمس، وينكر أن هذا الشعاع يأتي من الشمس وهذه الحرارة، هو يحس بها هذا لا يستحق الرد؛ والحرارة سببها الشعاع، والشعاع من الشمس وصحيح أنه لا يوجد دليل؛ لكنه في الحقيقة استدلال على شيء ظاهر وبارز. ولهذا السلف الصالح من الصحابة لم تأتهم مثل هذه الأسئلة؛ بل حتى الأعرابي الذي جاء وقال: من خلق الله؟ ثم جاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال له: صدق خليلي رسول الله، فهو أعرابي من الباديةوهذا هو حالهم: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]. فدرجة هذا الأعرابي من العلم مثل درجة أي واحد في آخر الزمان؛ لأن القضية ليست مجرد العصر، بل هو العلم. فالمقصود أن الإنسان الذي أنار الله تعالى قلبه لدلائل الإيمان، لا يسترسل وراء هذه الأفكار، ونحن نعيب على المتكلمين، وعلى غيرهم من المتفلسفين، ونقول لهم: كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينطق بالحق، وتريدون أن نتبعكم في أدلة عقلية قد تضعف وقد تقوى؟! فنحن عندنا براهين أقوى من ذلك، وأنتم تريدون إثبات أن الله تعالى موجود، وهذا الجهد لا نحتاج إليه؛ لأن هدفكم في غير طائل فمن الذي أنكر وجود الله؟ وهل نحتاج نحن المسلمين أن نكرر أن الله موجود؟! بل نحن نحتاج أن نكرر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده المعبود والمألوه والمطاع والمتبع، هذا هو الذي نحتاجه. وهكذا من أمثال هذا السؤال.

قدرية اللون الأسود

قدرية اللون الأسود Q أرجو ألا يُفهم كلامي خارجاً عن إطار المرجع، وأنا أعلم أن المقياس الرباني للعباد للكرم والمفاضلة هو التقوى، وحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا فضل لعربي ولا أعجمي إلا بالتقوى} إلى آخر الحديث، ونحن نعلم أن اللون الأسود مضطهد إلى يومنا هذا، وأنت تعلم ما يحدث في عالمنا اليوم من تفريق إلى سادة وعبيد، والسؤال: لماذا قدر هذا الاضطهاد على اللون الأسود؟ وهو سبحانه كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [لأنبياء:23]؟ A الأخ جزاه الله خيراً قد أجاب، لا يسأل عما يفعل. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان من طين من الأرض، فقدَّر الرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدْر كل شخص في الأرض؛ فكان الناس معادن في طباعهم وفي ألوانهم وفي أصالتهم. فنجد أن الناس فيهم مثل الذهب نفيس جداً، ونجد أن فيهم مثل التراب والحجارة التي لا قيمة لها، ونجد أن فيهم الأبيض والأحمر والأسود، فيخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يشاء. ولما جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه المعايير -كما تفضل الأخ وأشار إليها- جعل هنالك ابتلاء، فالناس مبتلون؛ فهناك من يعيرون بألوانهم وهناك أناس يعيرون بنسبهم، ومنهم من يعير بجنسه وعنصره وكذلك بدينه. فالأنبياء والرسل الكرام عيروا بالإيمان، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66] أي نراك في ضلالة، إلى آخر ما عيّر به الأنبياء؛ فكيف نستغرب أن يعير الإنسان بنسبه أو بلونه أو منزلته الاجتماعية وغير ذلك. فهذه الأخطاء يقع فيها الناس إذا انحرفوا عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الانحراف الذي يقع من الناس لله تعالى فيه حكمة؛ فيكون هذا الذي عيّر -إن عير في نسبه أو لونه أو عنصره أو في حرفته، أو أي شيء- فصبر فإن له في ذلك أجراً. إذاً: هذا نوع من أنواع الابتلاء، ومن الأمور التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحكمته مكاناً لتغاير الأفهام، وليحكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، وفي اختلافهم في هذه المعايير.

حديث السبعين ألفا

حديث السبعين ألفاً Q حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وذكر منهم أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون، هل معنى هذا أن التداوي ينافي القضاء والقدر؟ A التداوي لا ينافي القضاء والقدر، بل هو دفع للقدر بالقدر، فهو من القدر؛ لكن السبعين ألفاً هؤلاء ترفعوا عن نوع معين فقط؛ وهذا من كمال التوحيد؛ لكنه لم يقل: لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يتعالجون ولا يأخذون الدواء، ولم يأمر بالصبر مطلقاً في كل مرض. فالذهاب إلى الطبيب للتداوي والأخذ بالأسباب المشروعة لا يُنزل الإنسان عن تحقيق التوحيد؛ لكن طلب الرقية هو الذي يؤثر. فإذاً: النص محصور فقط فيمن ورد فيه النص، ولا يتعدى ذلك إلى غيره، جعلنا الله وإياكم من هؤلاء السبعين ألفاً.

عمود القدر لكل ما يحدث

عمود القدر لكل ما يحدث Q هل جميع ما يحدث للإنسان خيره وشره من القدر؟ A نعم، علمه الله كله وكتبه، وشاءه، وخلقه، حسب المراتب الأربعة

[ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك]

[مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] ما معنى قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]؟ A هذه الآية مما أشكل على القدرية وضل فيها المتكلمون وتاهوا، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رد على المنافقين فقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78 - 79]. فالآية بحمد الله ليس فيها إشكال على مذهب أهل السنة والجماعة، وكما فسرها علماء السلف؛ لكن الحيرة جاءت من أنه كيف ينكر الله عز وجل على المنافقين قولهم: إن ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة فهي من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ثم بعد ذلك يقول: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك. إذاً: كيف ينفي كلامهم بقوله قال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78] ثم بعد ذلك هو يقول: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. والجواب: أن المقامين مختلفان، فالكافر والمنافق والعاصي والفاجر ما أصابه من حسنة فهي من الله فضلاً تفضل الله تعالى بها، وما أصابه من سيئة فهي من نفسه -أي: بسبب نفسه- أي: عقوبة، والحال أن الخير والشر كله من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وكذلك -إذا نظرنا- لما قالوا: ما أصابنا من حسنة فمن الله، هذا حق، وما أصابنا من سيئة يقولون: هذه من عندك -يقصدون الرسول- أي: يا محمد! أنت السبب في هذه المصيبة، فنقول: لا. ما أصابكم من حسنة فهي فضل من الله؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو عن كثير، وإلا فالمصائب بسبب الذنوب، لكن يعفو عن كثير، وما أصابكم من سيئة فهي ليست بسبب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل بسبب معصيتكم وذنوبكم أنتم، فلذلك وضح الله ذلك في كتابه بما لا شبهة فيه، فقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] فلم يقل: إنها من المنافقين، لكنهم قالوا: من محمد وأصحابه. فإذاً ما يصيب الإنسان من خير، فمن الله فضلاً، وما يصيبه من شر فمن الله عدلاً، سواء كان هذا الإنسان صالحاً أو طالحاً. وأما أن يُجعل غير الله هو الذي يصيب فلا؛ لكن! حتى وإن كان السبب من غيرك؛ فبالحقيقة أنك أنت السبب؛ فمعصيتك هي التي جعلت هذا الإنسان يسلّط عليك. وهذه حقيقة واضحة عند المؤمنين جميعاً، فقد كان من السلف الصالح من يبتلون حتى من الكفار، ومع ذلك يؤمنون أن هذا من عند الله؛ حتى لما ابتلوا يوم أحد كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فتسليط الكفار عليهم بالقتل هذا من عند أنفسهم، أي: بسبب ذنوبهم، وليس مجرد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أراد هذا لمجرد عذابهم.

نظام الحسبة في الإسلام

نظام الحسبة في الإسلام جاء ديننا الحنيف بالحفاظ على الكليات الخمس: الدين، النفس، العقل، المال، النسل. ويُعد الأمن سمة بارزة ناتجة عن المحافظة عليها. وطبيعة المجتمع الإسلامي تفرض على أفراده التناصح والتعاون على الحفاظ على أمن هذا المجتمع، وكل مسلم على ثغر من ثغور هذه الأمة، ويتوجب عليه القيام بما عليه لحماية مجتمعه المسلم، ومن الأنظمة التي استحدثت في العصور المتقدمة للدولة الإسلامية نظام الحسبة، ويعد المحتسب من أقرب أجهزة الحكم في الدولة إلى العامة، وهو الأقدر على تلمس مشاكلهم وإيصالها إلى الحاكم الذي يغيب عنه الكثير من مثل هذه الأمور. ونظام الحسبة يشابهه في حاضرنا نظام الشرطة، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولاية الحسبة

ولاية الحسبة إنِّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فحديثنا سوف يكون عن أمر عظيم وجانب مهم من جوانب هذا الدين، وشعيرة كبرى من شعائره، وولاية عظمى من ولاياته، ألا وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاصة ولاية الاحتساب، وولاية الحسبة: إحدى الولايات المهمة التي تقوم عليها الدولة الإسلامية. ولا يخفى على أحد منكم عِظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الله تبارك وتعالى قد جعله شعاراً لهذه الأمة المصطفاة المجتباة حين قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال تبارك وتعالى حاثاً الأمة عليه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] وبيَّن -عز وجل- في كتابه أن هذا العمل هو عمل الدولة المسلمة ووظيفتها، كما قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]. إلى غير ذلك من الأدلة التي ليس المقام مقام ذكرها، وبيان فضله، وعِظم شأنه.

تاريخ نظام الحسبة

تاريخ نظام الحسبة إنما المقصود كيف عِمل المسلمون بهذا الأمر؟ وكيف طَبقت الأمة الإسلامية هذه الآيات والأدلة الأخرى؟ وكيف أقامت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في واقع حياتها؟ وكيف استطاعت هذه الأمة أن تتطور إدارتها وولايتها لهذا المنصب العظيم والوظيفة الدينية، وأن تتكيف مع تغير الأحوال والأزمان؟ إلى أن جاء زمن السوء وزمن الفتنة المتأخر الذي كاد أن يُطمس فيه نور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إنه لم يبق في أكثر بلاد الإسلام وظيفة ولا ولاية ولا شعيرة تحمل هذا الاسم، وبقي في هذه البلاد -والحمد لله- ما سمي بـ"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ممثلة لولاية الحسبة المعروفة في التأريخ الإسلامي، إلا أنه اعتراها ما اعتراها من ضعف ونقص وتقليص في الصلاحيات وغير ذلك مما يجب مراجعته، والاعتناء، والاهتمام بتكميله وتحصيله على ما سنبين إن شاء الله تعالى.

الحسبة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم

الحسبة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه هذا القرآن الكريم وهذا الذكر الحكيم ليبينه للناس، فبين بعمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتوافر في حياته كلها: كيف أنه جاء حقاً يأمر العالمين بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويُحلُّ لهم الطيبات، ويُحرِّم عليهم الخبائث. فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما كانت دعوته من أولها إلى آخرها إلا أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. وبهذا نفهم المعنى الواسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ كل ما أمر الله به فهو معروف، وأعظم المعروف هو توحيد الله عز وجل؛ لأنه أعظم مأمور به، وكل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه إما إلزاماً أو كراهية -على التعريف الأصولي- فهو أيضاً منكر، وأكبر منكر هو الشرك بالله عز وجل.

الحسبة في عهد الخلفاء الراشدين

الحسبة في عهد الخلفاء الراشدين جاء بعده صلوات الله وسلامه عليه: الخلفاء الراشدون، فكانوا -رضي الله عنهم وأرضاهم- أعظم القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة، ولهذا لا نجد في أيام الخلفاء الراشدين وظيفة تسمى "وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أو "ولاية الحسبة" لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك هو أعظم واجباتهم، وكانوا قائمين به حقيقة: ظاهراً وباطناً، وفي الأمصار والبوادي، والعواصم والأقاليم.

الحسبة في عهد عمر بن عبد العزيز

الحسبة في عهد عمر بن عبد العزيز ومن أعظم من أحيا هذه الشعيرة بعد الخلفاء الراشدين: الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ فإنه جاء بعد أن اندرس جانب من هذا الشأن، فأحيا هذا الأمر، ومن جملة ما أحيا أنه جلس رضي الله عنه لرد المظالم بنفسه، التي كان بنو أمية اغتصبوها وأخذوها بغير حق، وأعانه على ذلك وزراء الخير وجلساء النصح ممن كان لديه من علماء، ومن هنا عُرف في الأمة ما يسمى بولاية المظالم.

الحسبة في عهد الدولة العباسية وما بعدها

الحسبة في عهد الدولة العباسية وما بعدها ثم تطور الحال حتى خُصِّصَ للمظالم ولاية مستقلة في أيام الدولة العباسية، وكذلك للقضاء -وولايته واضحة معروفة- وكذلك للحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم أخذت هذه الصلاحيات تتقلص أو تكثر بحسب اختلاف الدول، فمن الدول كما بين شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- من توسعت في مفهوم ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى شملت أموراً عظيمة جداً. ومنها ما كان أقل من ذلك بحيث إنه أعطى بعض صلاحيات ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما لولاية القضاء، أو لولاية المظالم، أو للشرطة أو لغيرها.

دواوين الدولة الإسلامية

دواوين الدولة الإسلامية في عموم التأريخ الإسلامي يمكن أن نعدد الولايات إلى الولايات التالية: ولاية الوزارة، وولاية القضاء، وولاية المظالم، وولاية الحسبة، فكانت ولاية الحسبة هي الركن الرابع من أركان الدولة الإسلامية، لأن الشكل الإداري للدولة الإسلامية لم يكن كما هو الحال عليه في الدول المعاصرة، عشرون وزارة أو أكثر، وإنما كانت دواوين، والغالب أن الدول كلها لا تخرج عن هذه الدواوين الأربعة: ديوان الوزارة أو الحجابة، وديوان القضاء وما يتعلق به، وديوان المظالم، وديوان الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوف نرى أننا إذا وزعنا صلاحيات المؤسسات الحكومية والوزارات، أن هذا يمكن أن يطبق في جميع العصور وأن هذه الدواوين الأربعة تشمل كل الوزارات والمصالح والمؤسسات الحكومية في وضعنا المعاصر.

الغرض من الدواوين

الغرض من الدواوين قبل أن نفصل الكلام في هذه الولايات، ينبغي أن نربط الموضوع بأصله المهم جداً، كما فعل شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- وهو: أن نتحدث عن الغرض من هذه الولايات، ومن الحكومات، ومن الدول، ومن الإدارات قبل أن نتحدث في تفصيل هذه الولايات، لئلا يظن ظانٌ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، محصور في هذه الولاية وفي هذا الديوان -ديوان الحسبة- وأن ما عداه فإنه خارج عن ذلك؛ فشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بدأ كتابه الذي سماه قاعدة في الحسبة بعد خطبة الحاجة والمقدمة بتأصيل وتقعيد هذا الأصل العظيم الذي يجب علينا أن نعيه، وأن لا ننساه أبداً. فقال رحمه الله تعالى: قاعدة في الحسبة: أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون، قال الله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] '. إلى آخر ما ذكر -رحمه الله- من الآيات والأدلة، ثم بعد أن بين أن الناس لا بد أن يجتمعوا، وأن الإنسان مدنيٌ بطبعه، وأن الشرائع التي أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما هي أمر ونهي، والناس في أي بيئة، وفي أي زمان وفي أي مكان يجتمعون لا بد لهم من أمر ولا بد لهم من نهي، وهذا من حكمة الله في خلقه. ثم قال بعد ذلك: 'وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هي أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعث الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو النهي عن المنكر -إلى أن قال- وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'. جميع الولايات، والمناصب، والوظائف، والإدارات، والأعمال إنما المقصود منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكما يتعين على كل فرد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب حاله وبحسب استطاعته، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصيغة العموم لأي منكر: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} فكذلك أيضاً -وهو على سبيل الإلزام- الولايات، والإدارات، والسلطة. قال -رحمه الله-: 'سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة' يعني من أكبر الولايات والوظائف والمناصب في الدولة، فقد كانت أكبر الوظائف في أيامه: ولاية النيابة -نيابة السلطنة- والغالب أنه يكون بمثابة ما يسمى الآن رئيس الأركان، أو القائد العام للجيوش. وكان من أشهر أولئك الذين كانوا كذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، فقد كان قائداً لجيوش نور الدين السلطان العادل صاحب السيرة المحمودة رحمه الله تعالى، ثم بعد ذلك صار صلاح الدين هو السلطان وتولى بنفسه الجهاد، كما هو عادة السلاطين أن منهم من يتولى بنفسه الجهاد، ومنهم من يكون نائب السلطنة هو المتولي لذلك. فتلك الولاية هي أعظم ولاية بعد الخليفة، فالخليفة عمله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولايات التي دونه والتي تتفرع عنه، كما ذكر الماوردي، وأبو يعلى، وابن خلدون، والأزرقي، وغيرهم ممن كتب في السياسة الشرعية وفي الأحكام السلطانية كـ ابن حزم -له مؤلف في ذلك- فكلهم جعلوا هذه الولايات فروعاً من الولاية العظمى التي هي ولاية الخليفة أو الإمام، فيتفرع عن منصب الإمام هذه الدواوين أو المناصب؛ فجميعها كما قال شَيْخ الإِسْلامِ يقصد بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك الولاية الكبرى مثل نيابة السلطنة أو غيره. ثم قال رحمه الله: ' والصغرى مثل: ولاية الشرطة، وولاية الحكم، وولاية المال -وهي ولاية الدواوين المالية- وولاية الحسبة'. إذن: فكل الولايات وكل الدواوين إنما غرضها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والغرض من السلطة في الإسلام يختلف عنه في القوانين الوضعية والمذاهب الأرضية، وهذه حقيقة مهمة يجب أن تعلم؛ لأن المذاهب والقوانين الوضعية عندما تكثر من العساكر، أو الشرطة، أو الحرس أو غير ذلك؛ إنما مقصودها حفظ النظام، وضبط الناس، وحفظ الأمن، ولا زيادة على ذلك. وهذا ما احترز عنه شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- فقال في موضع آخر غير ما ذكر في هذه القاعدة: ' ليس المراد من الشرائع مجرد ضبط العوام'. أي: حتى يعلم الوالي أياً كانت ولايته ووظيفته في الدولة الإسلامية، أنه ليس الغرض أنه مجرد أن يضبط العمل الإداري أو يضبط الأمن فقط. يقول رحمه الله: 'ليس المراد من الشرائع التي أنزلها الله مجرد ضبط العوام، بل المراد منها الصلاح باطناً وظاهراً'. والقوانين الوضعية لا تفكر في شيء اسمه الصلاح الباطن، فهذه يعتبرونها مبادئ أخلاقية، والمبادئ الأخلاقية عندهم من شغل الفلاسفة الأخلاقيين، فلا تعنيهم، إنما يعنيهم الانضباط الظاهري فقط، وهذا مفرق عظيم بين شريعة أحكم الحاكمين التي جاءت لإصلاح القلوب ومداواة أمراضها، وبين ما يضعه الجاهليون بأهوائهم وآرائهم وتخرصاتهم من الشرائع الوضعية. ثم قال: 'بل المراد منها الصلاح باطناً وظاهراً للخاصة والعامة -للحاكم وللمحكوم وللمدير وللمدار، وللرئيس وللمرءوس- في المعاش والمعاد'. أيضاً الشرائع الوضعية إن ضبطت شيئاً فتضبطه في المعاش-في الدنيا- لكن في المعاد -في الآخرة- لا تضبطه ولا تتدخل فيه؛ فهكذا تظهر وتتضح عظمة وسعة مفهوم الولاية في دين الله تبارك وتعالى. ثم احترز حتى لا يقول قائل: والعقوبات التي شرعها الله تعالى لضبط الناس وردع من يرتكب المحرمات، أليست لضبط العوام؟! فقال: 'لكن في بعض العقوبات المشروعة في الدنيا ضبط للعوام' نعم. بعض العقوبات هي لضبط العوام كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: [[إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن]] فلا بد من هذا كجانب من الجوانب التي تكون الولاية فيه تحت التشريع، وقد أنزل الله تعالى في هذا الشرع ما يكفي، ولا بد أن يندرج أيضاً تحت السلطة التنفيذية فيكون المقصود منه الضبط.

أقسام الدواوين وعلاقة بعضها ببعض

أقسام الدواوين وعلاقة بعضها ببعض بعد هذا نذكر أقسام الدواوين وعلاقة بعضها ببعض. الديوان الأول: فأما "ديوان التنفيذ" أو "ديوان الحجابة" أو "ديوان السلطنة": هكذا كان يسمى سابقاً بينما يسمى في وقتنا الحاضر "رئاسة الحكومة" أو "الحكومة" أو "الوزارة" فرئيس الوزراء والوزراء معه هؤلاء يسمّون "الحكومة" أو "الوزارة"، أو "السلطة التنفيذية" بالمصطلح السياسي القانوني -وهذه ليست موضوع حديثنا- ويتبعها الجند والعسكر لأنهم ذراع تنفذ بهم السلطة ما تريد، فهم تبع لوزارة من وزاراتها وهي التي تسمى في وقتنا الحاضر "الوزارة الحربية" أو "وزارة الدفاع". الديوان الثاني: هو ديوان المظالم: والفرق بينه وبين القضاء وبين الحسبة هو: أن المظالم يكون فيها المدعى عليه أو صاحب المنكر المراد تغييره، إما السلطة أو من يمثل السلطة، فإذا كان المدعي يدعي على إدارة حكومية، أو على السلطة، أو على من يمثل السلطة في وظيفته وفي عمله، فهذه تعتبر من قضايا المظالم؛ لأن الذي يقوى على إعطاء المظلوم حقه من هذه الإدارة أو من صاحب المنصب الحكومي هو هذا الديوان الذي اختصاصه هذا، وعلى هذا درجت الدول والممالك الإسلامية منذ أن تصدى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لهذا الموضوع الجلل بنفسه، وإن كان ذكر عن عبد الملك بن مروان أنه جعل أيضاً يوماً للمظالم -لكن كما ذكرنا- أن الخلفاء الراشدين كانوا يتولون ذلك كله بدون تفريق؛ لأن الذي كان يهمهم هو الحقائق، فكانت بغير الأسماء والأقسام الشكلية التي وضعها من جاء بعدهم. لكن فيما بعد درجت الدول الإسلامية على اعتبار ديوان المظالم هو الذي يبتُّ ويفصل في كل من يدعي مظلمة ضد الدولة، أو ضد السلطة، أو ضد من يمثلها من الموظفين. الديوان الثالث: ديوان القضاء أو ولاية القضاء: وهي معروفة للجميع، وموضوعها هو الفصل بين الخصومات، وبين المتداعين من الناس، وهذه لها جانب عظيم في حياة الأمة، ولها اختصاص معروف في القديم والحديث. الديوان الرابع: وهو الذي يهمنا الآن، وهو الحسبة أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذا كانت الدولة لا تشمل إلا هذه الدواوين الأربعة في أغلبها، فلنا أن نتصور سعة الصلاحيات بالنسبة لعصرنا الحاضر عندما قسمت الصلاحيات إلى عشرين وزارة مثلاً أو ثلاثين أو عشرين مؤسسة وأكثر من ذلك مثلاً من الإدارات، فكل هذه الوزارات لا بد أن نقسمها، لتندرج تحت هذه الدواوين؛ لنعرف ماذا كانت عليه ولاية الحسبة، وماذا كانت قيمتها عند الأمة وكيف كان ذلك.

الفرق بين الحسبة والقضاء

الفرق بين الحسبة والقضاء فصَّل الإمام الماوردي الفرق بين الحسبة والقضاء تفصيلاً لا بأس أن نورده هنا، يقول: 'إن ولاية الحسبة تقصر عن ولاية القضاء من وجهين: الوجه الأول: قصورها عن سماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات، من الدعاوى في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فليس من وظيفة الحسبة أن تسمع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات' أي: أن القضايا الحقوقية المتنازع عليها لا تدخل في هذه الشئون التي هي من شئون القضاء، لكن عملها في منكر ظاهر فتزيله، أو في حق ثابت فتؤديه، أما ما يحتاج إلى دعاوى وما هو موضع تجاحد وتناكر بين الأطراف فهذا يرجع فيه إلى القضاء لسماع البينات والحكم فيما بين الخصوم، لكن إذا كان حقاً ثابتاً فإنه يملكه المحتسب. 'الوجه الثاني من الفرق بين الحسبة والقضاء: أن موضوع الحسبة هي الحقوق المعترف بها، فلا يدخل فيها ما يتعلق بالتجاحد والتناكر '. ثم قال: 'أما زيادتها عن القضاء فمن وجهين أيضاً: الوجه الأول: التعرض لتصفح ما يؤمر به من المعروف ويُنهى عنه من المنكر، وإن لم يحضره خصم يستدعي' بمعنى: أن القاضي لا يبحث عن أية قضية إلا إذا جاءه من يقول: أنا أدعي عندك على فلان، فهذا عمل القاضي، أما المحتسب فهو الذي يبحث بنفسه ويتعرف ويتفحص، فإذا علم أن رجلاً ظلم بناته فلم يزوجهن -مثلاً- فإنه يحتسب وينكر عليه. وإذا علم أن رجلاً قصَّر في حق يتيم ولم يقم بحق الكفالة فإنه يذهب ويحتسب عليه، فضلاً عما هو من صلاحياته الأساسية، مثل: المعاملات في الأسواق وغير ذلك مما سنوضحه إن شاء الله. والمقصود هو: إيضاح الفرق، فالقاضي إذا لم يأته المدعي لا يتدخل، هذا بعد أن تقسم الدواوين، لكن المحتسب يتعرض ويسأل وينقب؛ يشم رائحة ويقول: ربما كان هذا مصنع خمر فيذهب ويستكشف ويغير المنكر يمشي في الليل فيسمع صوت طنبور أو مزمار، فيقول: هذا منكر ويغيره. يرى آلات ملاهي فلا بد أن يكسرها يرى تماثيل لا بد أن يحطمها، وهذا له أصل عظيم جداً، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما مر بالسوق فوضع يده في الطعام فوجد البلل، فقال: {ما هذا يا صاحب الطعام؟! من غش -وفي رواية من غشنا- فليس منا}، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك ويدور في الأسواق، ويتعرض، ويرى، فهذه وظيفة المحتسب لا وظيفة القاضي. ثم قال: 'الوجه الثاني: أن للمحتسب من السلطة ما ليس للقضاء؛ لأن الحسبة موضوعه على الرهبة، والقضاء موضوع للمناصفة' هكذا تعبيره ونقلها ابن خلدون عنه حرفياً. فالحسبة موضوعه على الرهبة، فهي سلطة تنفيذية ترهب صاحب المنكر، أما القضاء فليس فيه إرهاب من القاضي، بل هناك مناصفة، وعنده ميزان، يسمع من هذا كما يسمع من هذا، ثم يحكم بالحق. أما الوالي أو المحتسب -عموماً- فإن موضوع عمله هو الرهبة، وكأنه في هذه الحالة قاضٍ وزيادة، فمجرد ما يسمع من أحد الأطراف أنه يشتكي أن منكراً وقع عليه، ينكر ويغير باليد في آنٍ واحد معاً، هذا من جهة التفريق بين ولاية الحسبة وبين ولاية القضاء من الناحية الفقهية.

الفرق بين المحتسب والمتطوع

الفرق بين المحتسب والمتطوع فرق المؤلفون في الأحكام السلطانية الإسلامية بين المتطوع وبين المحتسب، فأوردوا تسعة فروق، لكن يمكن أن نوجزها فنقول: المتطوع: هو كل مسلم متطوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى أنه ينكره تطوعاً لا وظيفة، فليس المقصود أن الإنكار لا يكون واجباً عليه. لكن المتطوع هو من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من تلقاء نفسه من غير ولاية رسمية، يتعرض للواجب، ويتعرض للمكروه وغير ذلك، ويتحمل الأذى في سبيل هذا، فهذا لا يأخذ أجراً من بيت المال، ولا يمكنه أن يقيم الحدود، ولا أن يعاقب، ولا أن يعزر إلا في حالات معينة؛ كأن يرى رجلاً يعمل الفاحشة -والعياذ بالله- أو يغتصب مالاً حراماً أو ما أشبه ذلك من الأمور التي لا يمكن التباطؤ فيها، ولا يمكن تأجيلها. أما المحتسب فهو صاحب ولاية، وصاحب سلطة وتنفيذ، فله أن يفعل ذلك وزيادة.

الفرق بين سلطة المحتسب وسلطة القاضي

الفرق بين سلطة المحتسب وسلطة القاضي ولاية الحسبة عموماً من أهم صلاحياتها ومن أوسع اختصاصاتها: العقوبة، فتمتاز عن القضاء بالعقوبة الفورية، ولا بد أن تؤديها، وعلى هذا نص شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله فقال: 'الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور ' لكن من العقوبات ما تسمى بالعقوبات المقدرة، وهي الحدود التي قدَّر الله تعالى عقوباتها، فهذه يتولاها القضاء. أما المحتسب فكل أعماله داخلة في باب العقوبات الغير مقدرة؛ أي: التعزيرات من توبيخ، أو تسفيه، أو ضرب، أو حبس، أي: قد يتطور الأمر حتى كان للحسبة في بعض الدول سجون، ولها معاملات، ولها ضبوط، وشهود، وأمور عظيمة جداً، بحسب أحوال الدول وقربها من الاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإحياء هذه الشعيرة العظيمة.

صلاحيات المحتسب

صلاحيات المحتسب لعلنا نتعرض فقهياً بإيجاز لبعض أنواع العقوبات ودرجاتها، ثم نتعرض للصلاحيات التي يتمتع بها هذا الديوان في الحكومة الإسلامية.

النوع الأول: إتلاف المنكر

النوع الأول: إتلاف المنكر وأعظم هذه العقوبات التي يمكن أن يقوم بها رجل الحسبة هي: إتلاف المنكر بعينه، كالأعواد وآلات اللهو، وأعظم من ذلك الأصنام، فلو علم أن بعض القبائل أو بعض المناطق في البادية أو ما أشبه ذلك تعبد أصناماً، أو تقدس حجارة أو أشجاراً وتتبرك بها، فيجب على المحتسب أن يقطعها، وعلى ولاية الحسبة إزالة هذه الصخور وتدميرها وإتلافها بالكلية وقطع الأشجار، فهذه أحد الأمور التي هي من الوظائف الأساسية لعمل الحسبة: أن يقضي على المنكر ويغيره. ومع تطور الحياة والحضارة في الأمة الإسلامية، تفرعت قضايا أخرى، وتكلم الفقهاء فيها، فمثلاً قالوا: ما حكم اللبن المغشوش، هل يدخل فيما يتلف؟ فقال بعض العلماء: يتلف، واستدلوا على ذلك بأن عمر رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش، فمن عمل المحتسب أن يمر بالأسواق فإذا رأى لبناً مغشوشاً يتلفه، وقال بعض الفقهاء: لا يتلف وإنما يتصدق به، وليس هناك كبير خلاف إن شاء الله لو نظرنا من جهتين: - من جهة أن هذا اللبن المغشوش لا يباع ويجب أن يعاقب صاحبه بإتلافه، وهذا ما نظر إليه من قال: يراق، وقال: هذا من التعزيرات المالية، وهي حق ولها أصل شرعي في عدة أحاديث ليس هذا مقام التفصيل فيها، وقال: هذا من إتلاف عين المنكر، وهذا منكر يتلف بعينه، عقوبة لصاحبه حتى لا يعود إلى الغش. - والذي قال لا يراق: نظر إلى أنه لبن قد يشرب، وبعض الناس قبل أن يشرب اللبن يضع عليه ماء، فقال: إذن لا يراق وإنما يتصدق به. فأنا أقول: يمكن أن يعاقب صاحب اللبن هذا أو ما أشبهه -فاللبن كمثال- بأن يؤخذ منه هذا الشيء، ويأخذه المحتسب ويتصدق به على الفقراء. ومثل: صاحب الفاكهة المغشوشة أو صاحب الطعام المغشوش أو ما أشبهه، يصادر منه، ويعطى للفقراء تحت نظر ولاية الحسبة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ولو أن ثوباً نسج من الحرير هل يتلف، أم يتصدق به؟ الأرجح أن مثل هذا يتلف، والخمور تتلف مع أوعيتها، وآلات اللهو هل يقول قائل: إنه يمكن أن تغير ويستفاد منها أعواد (خشب آخر؟) فنقول: هذا قد قيل في بعض المذاهب والأولى والأرجح أن تتلف إلا أن تؤخذ وقوداً، أو توضع في نار للتدفئة. فمن عمل المحتسب أنه إذا رأى طنبوراً أو مزماراً أو طبلاً إلى آخر آلات اللهو أتلفه بعينه ولا ينظر إلى كونه ذا ثمن أو قيمة مهما كان ارتفاع ثمنه، ومن ذلك الآن ما يسمى في أيامنا هذه -مع الأسف- الذهب الرجالي!! فإذا ذهب أحداً إلى سوق الذهب، وقال: أريد ذهباً، فيقال له: رجالي أو نسائي، سبحان الله!! أيوجد ذهب رجالي، كيف وهو حرام على الذكور؟! فيقال لأهله: الحكم فيه الإتلاف، فإذا حولوه أو صاغوه بطريقة معينة بحيث يصبح مما يحلى به للنساء، فلا بأس. أما إذا كان الثوب مغشوشاً، بأن كان يعرض على أنه من القطن (100%) وليس فيه إلا (30%) أو (20%) من القطن، فيكون مثل اللبن المغشوش، هل نقول: يحرق عقوبة لصاحبه؟ قال بذلك بعض العلماء، والبعض قال: يتصدق به. المقصود أنه يعاقب صاحبه؛ لئلا يغش بعد ذلك فهذه من جملة صلاحيات المحتسب، وتكلم فيها الفقهاء؛ لأنها كانت أمراً واقعاً تعيشه الأمة الإسلامية، ورجل الحسبة يقوم بهذه الأعمال، هذا أمر عادي وطبيعي في المجتمع، وما كانت هناك صحافة في تلك الأيام تحارب المتدينين وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسبهم وتحقرهم ولا كان هناك مجالس غيبة ولا نميمة، ولا مجالس فجار وسكارى يشتمون رجال الدعوة ورجال الهيئة، والأمة كلها تعرف أن هذا من عملهم ومن شأنهم، وليس لأحد الحق أن يتدخل فيه إلا أن يفتي العلماء أن هذا مما لا يجوز لكم -مثلاً- أو لا تتلفوا ذلك الشيء أو افعلوا به كذا؛ لأنهم منفذون لما يفتي به العلماء.

النوع الثاني: تغيير المنكر مع بقاء عينه

النوع الثاني: تغيير المنكر مع بقاء عينه وذلك مثل القرام الساتر الذي كان في بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان فيه صور، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسمها وسادتين توطآن، وهذا حديث عظيم رواه الإمام البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وجعله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- من الأصول في هذا الباب. وفيه {أن جبريل لما أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فامتنع أن يدخل البيت، فقال: إنه ما منعني أن أدخل عليك البيت إلا أن فيه تمثالاً} وكان فيه أيضاً القرام الساتر الذي فيه الصور وكان فيه -أيضاً- كلب، فكيف عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وكيف غير؟ أما التمثال فقطع رأسه حتى أصبح كهيئة الشجرة، وأما القرام فإنه قطعه وسادتين توطآن. إذن: فالصور الممتهنة المحتقرة التي لا يؤبه لها في الفرش قد عفي عنها، وقد ابتلينا في هذا الزمن بصور لا عد لها ولا حصر في كل شيء. وأما الكلب فإنه يُخرج؛ لأنه ذات منفصلة. فهذا الحديث أصل في أنواع التغيير، فلم يجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكم واحداً، بأن يحطم الصنم، ويحرق الستار، ويقتل الكلب -مثلاً- إنما هذا له معاملة، وهذا له معاملة، وهذا من حكمة التشريع الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- وهو أحكم الحاكمين جل شأنه. فالمنكر إما أن يتلف وإما أن يغير. أما التلفاز وأشرطة الأغاني وأشرطة الفيديو، فهذه لها حالتان بحسب المصلحة: إن كانت المصلحة أن يعاقب صاحبها، فإنها تحرق وتتلف، ولا سيما إذا كانت فيها صورٌ فاحشة أو أغانٍ ماجنة، فهذه لا بد أن تتلف وأن تحرق، وإن نظر ناظر أنه يمكن أن يستفاد منها، فيسجل عليها مادة علمية مفيدة، ثم يستفاد من الشريط، فلا بأس، وهذا يدخل فيما سبق، فالأمر واسع، فهو بحسب ما يراه المحتسب، وللمجتهد أو المفتي أو العالم أن يفتي فيما يراه أنه الأرجح لديه، ولا بأس في ذلك، فهذا أمر يرجع إلى المصلحة. - ما هي اختصاصات المحتسب من حيث العمل؟ وما ميدانه؟

اختصاصات المحتسب

اختصاصات المحتسب

ردع المتخلفين عن الصلاة

ردع المتخلفين عن الصلاة هل عليه أن يمر بالسيارة وبالميكرفون ويقول: صلوا!! هل هذه هي ولاية الحسبة؟! وهل هذا عمل المتحسب؟! لا. فهذه وظيفة أي واحد منا، فكل واحد منا في حيه لا بد أن يمر على ما لديه من دكاكين ومن جلسات ومن أناس وينبههم على الصلاة كل يوم، حتى تصبح إذا مررت في إحدى الممرات، وأنت لا تدري أأذن أم لا، وليس من قصدك أن تقول: صلوا، فإذا بهم يقولون: توكلنا على الله؛ ويذهبون إلىالصلاة!! لأنه قد ترسخ في أذهانهم أنك لا تمر إلا وتذكرهم بالله وبإقامة شعائر الله. إذا عودنا الناس على هذا الأمر ربما إذا نصحتهم أنا وخافوا مني ثم جاء شخص آخر وما كان قصده أن يأمر أو ينهى، أو أنا جئت وليس من قصدي أن آمر أو أنهى، تكون قد ترسخت في أذهانهم الصورة الأولى، فبمجرد رؤيته يقولون: أبشر يا شيخ، أبشر!! فتستغرب ولا تدري أن شخصاً قد أنكر قبلك!! فإذا أحيينا هذه الشعيرة في المجتمع، أصبح لطالب العلم مكانته بمجرد أن يرى لأنه يمثل دين الله ويسعى لإقامته ولإعلاء كلمته. فهذا التذكير بالصلاة يجب أن يشارك فيه كل مسلم، أما المحتسب فعليه العقوبة، فإذا حضرت الصلاة وشخص لم يغلق دكانه، نصحناه بالحكمة وبالأسلوب الطيب وأعطيناه فتوى الشيخ عبد العزيز أو فتوى الشيخ ابن عثيمين، أو غيرهما، فإذا لم يستجب فهنا ننادي المحتسب: يا محتسب! تعال، فإن هذا الرجل عاص، والمحتسب يتفاهم معه إما بالموعظة الحسنة أو بالقوة، فهذا عمله بالنسبة للصلاة. أما ما يحصل الآن من أنه يدور فقط وينادي: صلوا، والأندية والدكاكين كلها مفتحة ولا يمر إلا على خمسة دكاكين إن اتسع الوقت، فتقام الصلاة ولم يصنع شيئاً! ومع هذا فإن بعض الناس يقول لهم: عندما تمر علينا، فكلمنا بلطف!! وكأن هذا من الغلظة ومن العنف الذي يرتكب، وهو لم يقم ولا بـ (1%) من عمل المحتسب، وإنما هذا من عمل أي شخص منا مما يجب أن نقوم به. فمن أعمال المحتسب ردع المتخلفين عن الجمع والجماعات؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأمرت بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم} هذا وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحريص عليها، الذي حَرّضنا على الصف الأول وعلى تكبيرة الإحرام، يأمر بالصلاة فتقام حتى لا تؤجل فلا يضيَّع ولا يؤخر الذين في المسجد من أجل المتخلفين، ثم يخالف إلى أقوام لا يحضرون الجماعة فيحرق عليهم بيوتهم، فعمل المحتسب أن يعاقب أولئك الذين يتخلفون عن الجماعات وعن الجمع، حتى ذكر العلماء صلاة العيدين والاستسقاء وغير ذلك مما يدخل ضمن ولايته، وإن لم يكن واجباً فليحث عليه الناس حثاً.

الإشراف على التجارة والأسواق

الإشراف على التجارة والأسواق ومن ذلك -وهذا كان يمارس في الدولة الإسلامية- الإشراف الكامل على التجارة والأسواق، فكان الناس في جميع الولايات الإسلامية كـ الأندلس ومصر وبغداد وخراسان وكل الولايات، يعرفون أن السوق كله تحت نظر المحتسب؛ الغش في المعاملات، التطفيف في المكاييل والموازين، مراقبة الجودة والنوعية، حتى في الدراهم كان لديهم ضبط، حتى الكيماوية فـ ابن تيمية -رحمه الله- في الحسبة يقول: 'يراقب الكيماوية الذين يقلبون -زوراً- الخسيس من المعادن إلى نفيس' وكانت عندهم ضوابط من مختبرات للجودة والنوعية، وهيئة المواصفات والمقاييس -كما تسمى الآن- وكل ذلك يندرج تحت الحسبة، وكذلك مراقبة الأسواق، ومراقبة الشوارع العامة، من ناحية الاختلاط، ومراقبة مواضع الريب، فعليه أن ينظر إلى مواضع الريب، فيتتبعها ليزيل الريبة، أيما رجل رآه مع امرأة في مكان فيه ريبة -مثلاً- أو أي عمل من الأعمال المشبوهة والمريبة فكان كل ذلك تحت ولايتهم، وهذا باب واسع، ولكم أن تتصوروا كم يدخل في هذا من أحكام!!

صيانة المدن والطرقات والقناطر

صيانة المدن والطرقات والقناطر ومما كان ضمن ولاية الحسبة -أيضاً- ما يتم به إصلاح المدن، والطرق التي هي تحت ولايتهم، فالمتعدي على طرق المسلمين لا يردعه القاضي، فالقاضي يحكم بين الناس، ولا الشرطة كذلك فهذا ليس من شأنهم، بل كل ذلك يدخل ضمن ولاية الحسبة؛ كالتعدي في الطرقات، أو التعدي في أراضي الغير، كالذي يبسط بسطة في السوق، أو كما في عهد الإمام أحمد كانوا يتحيلون على الشارع ليضيقوه، فيبنون المسجد ثم يبنون على صفه، فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: ' يُزال؛ لأنهم ما أرادوا به الصلاة، إنما أرادوا التحيل به ليصفوا على منواله'. ومراقبة المدينة، حتى قالوا: لو أن الأسوار تهدمت، أو أن الثغور ضعفت لكان من وظيفة المحتسب أن ينبههم إلى ضعف الأسوار والثغور!! وكذلك القناطر والجسور كل ذلك يدخل ضمن ولاية المحتسب ويتنبه له ويحث الناس عليه، ولهذا سنفصل فيما بعد ما هي الولايات والإدارات التي يمكن أن يقوم المحتسب بها في مقابل الإدارات المعاصرة.

منع المعاملات المحرمة

منع المعاملات المحرمة يدخل كما نص عليه شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- في ولاية المحتسب، كل أنواع المعاملات والعقود، فتصحيح العقود الشرعية، ومنع المعاملات الربوية كل ذلك داخلٌ ضمن ولاية المحتسب، فعليه أن يمنع أكل الربا، وأن يهدم بيوته وأوكاره وأن يبيدها وأن يردع المتعاملين به؛ لأن المتعاملين بالربا غالباً ما يقعون فيه رضاً لا اغتصاباً. فالغالب أن يكون الربا بالتراضي بينهما، فهل هناك أحد من الناس من يأتي ويشتكي ويقول: أخذ مني ربا؟!! فالمحتسب يبحث ويتحرى، وحتى المعاملات المحرمة الأخرى، كالنجش -والنجش هو الزيادة بغير قصد الشراء- كمعارض السيارات، فالميكرفونات من العصر إلى آخر الليل تصيح، وكله نجش إلا ما رحم الله، فهذه من وظيفة المحتسب. وكذلك تلقي الركبان عندما يأتيون الآن الحلقة، ويكون فيها من الغش ما فيها، فهذا أيضاً من وظيفة المحتسب. إذن كانت أعمال عظيمة جداً، نص شَيْخ الإِسْلامِ عليها وتكلم الفقهاء كلهم فيها. وقال بعضهم: من ولاية المتحسب ضبط الأسعار وهذه مسألة فقهية خلافية والخلاف فيها كبير، هل يسعر أو لا يسعر؟ إنما يدلكم هذا إلى أن كل النواحي المالية والتجارية والمعاملات تحت نظر وإشراف رجال الحسبة ودواوين الحسبة. في كل سوق، وفي كل حي مركز أو مقر لرجال الحسبة، وهم موجودون -دائماً- فيها لأن هذا شأنهم وهذه وظيفتهم، فلا يمكن أن يتخلفوا أو يتأخروا عنها. هكذا كان وضع جميع الدول الإسلامية على مدار التاريخ إلى أن حصل ما حصل كما تعلمون.

هيئات الحسبة في الحكومات الجديدة

هيئات الحسبة في الحكومات الجديدة بقي أن نقول: ما هي الهيئات والإدارات الحكومية في عصرنا الحاضر التي تقابل ديوان الحسبة، بحيث إذا أنشئ ديوان للحسبة وأعطيت صلاحيات لهذا الديوان على الحقيقة، فما هي الإدارات التي يمكن أن تندرج ضمنه أو تتفرع عنه؟ بعد أن رأينا ما كتب الفقهاء، وما هي أقسام الدواوين الأربعة -كما ذكرنا- نجد أشياء قد لا تتخيلونها.

الرقابة العامة

الرقابة العامة منها على سبيل المثال: كثير من اختصاصات ديوان المراقبة العامة، كهيئة الرقابة، وهيئة التحقيق، وهيئة التأديب، وهذه الهيئات بدرجة وزارة، ولها صلاحيات في الرقابة المالية، وفي التحقيق، وفي التأديب إلى غير ذلك، وهذه في واقعنا الحالي كأنه لا علاقة لها بالأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، هي إدارية بحتة، وربما كان كثير من أنظمتها مأخوذ من القوانين أو الأنظمة المستوردة مع أنها من ضمن ما يدخل في ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحسبة. ولكم أن تتصوروا لو أن هذه الوظائف فعلاً أدرجت على أنها وظائف دينية احتسابية، وأنها عملٌ يراد به وجه الله، كيف سيكون حالها وحال الأمة التي تكون فيها هذه الوظائف جزء من ولاية من ولاياتها؛ وهي ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحسبة؟!

الشرطة وإدارة الحقوق المدنية

الشرطة وإدارة الحقوق المدنية وكذلك بعض اختصاصات إدارات الشرطة في عصرنا الحاضر، وبالذات ما يسمى بإدارة الحقوق المدنية؛ لأن الأصل في وظيفة الإدارة المدنية هو الحقوق الثابتة لا الحقوق المتخاصم عليها. فالحق الثابت الذي يلزم صاحبه أن يؤديه هو من اختصاصات المحتسب، فكيف لو ضمت هذه الإدارات وضم رجال الشرطة الذين يقومون بها إلى ديوان الحسبة، وأصبحوا تابعين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح عملهم ليس مجرد أي عمل إداري، وإنما عمل ديني احتسابي يقومون به وفق النظم والضوابط الشرعية الفقهية، وتحت ولاية الإفتاء وما يفتي به العلماء. كيف تتخيلون أن تكون حالة الأمن؟ من المؤكد أنه سيعم ويسود الأمن، وتقل الجرائم أو تنعدم -بإذن الله تعالى- لأن رهبة الناس من التداعي ستزول، وأي إنسان له حق ثابت سيذهب مطمئناً إلى رجال الحسبة فيعطى حقه، وأي إنسان مماطل فإنه سيخاف، وقد نص العلماء في كل الكتب -تقريباً- على أن من عمل المحتسب أخذ الحق من الغني المماطل. هذا الذي تقوم به الآن إدارات الحقوق المدنية -وهذه تسمية مستوردة- والقضية ليست قضية الأسماء، فالحق أن هذا من عمل وديوان الحسبة.

البلديات

البلديات عندنا البلديات والتي تشرف على الجسور، والطرق، والرقابة على الأسواق، وكل هذه في الحقيقة تتبع الحسبة، فالإدارات التي تتبع البلدية الآن وهي في كل حي، لو أنها تتبع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخضع للإفتاء وللضوابط الشرعية الفقهية، لرأيتم حال الأمة كيف يتغير إلى الصلاح والخير، ورأيت أن ذلك أردع وأبعد عن الرشاوى وعن المشكلات التي لا نريد الدخول في تفاصيلها، فكل واحد منا يعلمها. وأكثر الناس يعرفون البلديات ويعانون منها خيرها وشرها، كأنها عند الناس لعبة، لكن لو كانت البلدية قائمة على أساس شرعي لرأيتم الإنصاف، ورأيتم الخير يعم المجتمع، فما تقوم به البلديات من إصلاح الطرق والجسور، ومنع التعديات، ومراقبة البضائع، وإتلاف المغشوش، هو مما نص الفقهاء على أنه من ديوان الحسبة.

وزارة التجارة

وزارة التجارة كذلك وزارة التجارة، وما يتبعها من إدارات كإدارة مكافحة الغش التجاري، والتفتيش على المحلات من الناحية التجارية، كله داخل -كما رأينا في كلام الفقهاء- ضمن عمل الحسبة، فلو ضممنا فروع التجارة، وجعلناها تحت ولاية الحسبة، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأدرجت ضمن الولايات الشرعية وتحت الأحكام الشرعية، فسوف تضبط هذه الأمور ويكون فيها الخير والصلاح بإذن الله. وهذا لا يعني أنه لا يوجد في البلديات، أو الشرطة، أو في الحقوق، أو في التجارة من هو على خير وعلى صلاح، ومن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ولا يرتشي، ولا يغش، فالحمد لله بعضها فيها خير كثير، ولكن المقصود من هذا الكلام ليس الأفراد، بل المقصود أصل الولاية. وفرق بين أن أشعر أني في الهيئة، فأرى أنني أمثل الشرع، وأمثل الدين في حركتي، وكلامي، وفي ذهابي إلى عملي، وأتقيد في أعمالي كلها بأحكام الشرع، وبين أن أشعر أني مجرد موظف إداري، أعمل طبق ما يأتيني من تعليمات، وأخالف فيها ولا أرى أنني آثم، وأزيد عليها ولا أرى أيضاً أنني قمت بما لا يجب، ولهذا بدأنا الموضوع ببيان أن المقصود من الولايات -كلها- أن يكون الدين كله لله، وأن يؤمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر.

الدفاع المدني

الدفاع المدني الدفاع المدني بجميع فروعه نص الفقهاء في كل كتب الأحكام السلطانية على أنه من اختصاص الحسبة، فالدفاع المدني يفتش المحلات حتى لا يندلع حريق، ويفتش على أسلاك الكهرباء، على الطفايات -مثلاً- وهذه مذكورة بحسب عصرها من ضمن ولاية المحتسب، فإذا حولنا هذه الطاقات وما يتبعها من المعدات والسيارات إلى الهيئة!! فبعض محلات الدفاع المدني تمر شهور -والحمد لله- لا حريق ولا شيء، فترى الجنود والموظفين جالسين إما للعب أو لذكر الله إن كانوا ممن يذكرون الله، والهيئة تحتاج إلى الجندي الواحد فلا تجده!! لماذا لا نجعل هذا الشخص العاطل عن العمل في هذه الجهات أو الذي عمله شبه ضعيف، لماذا لا نجعله في جهاز عامل يحتاج إلى طاقة؟ ورواتبهم إنما هي من أموال المسلمين فلا فرق. وعندما نأخذ بطبيعة التقسيم الشرعي إلى ولايات، نجد أن هذا يريحنا من أمور كثيرة جداً، وتستقيم أحوال الناس وما يتعلق بشأن الدفاع المدني من الإنقاذ، ومن مكافحة الحرائق، ودرء أسباب الدمار والخراب، كل هذا يقوم به ديوان الحسبة أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوضع الطبيعي الصحيح للدولة الإسلامية.

مكافحة المخدرات

مكافحة المخدرات كذلك مكافحة المخدرات، والمخدرات كانت معروفة كالحشيش، لكن الآن الفرق أن الصناعة الآن أمريكية متحضرة!! والمفسدة كانت واقعة وموجودة، وكانت بطبيعة الحال من اختصاص رجال الحسبة، فأيضاً تدرج مكافحة المخدرات بأجهزتها ومكافحتها ضمن الهيئة في ديوان الحسبة، فتنقلب -أيضاً- إلى جهاز أكثر نفعاً، وأكثر عملاً، وأجدى في المكافحة، وأردع وأجدر عند الناس؛ لأنها أصبحت ولاية شرعية تتبع الأحكام الشرعية، وتتبع ما يقوله العلماء وتقوم بواجبها خير قيام.

وزارة الأوقاف

وزارة الأوقاف بعض صلاحيات وزارة الأوقاف كما يسمى حالياً منصوص عليه في كتب الأحكام أنه من صلاحيات رجال الحسبة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ومن أهم ذلك أن الإمام المبتدع لا يولى إمامة المسجد، فيحتسب رجال الحسبة ويبعدون هذا الإمام المبتدع أو الزنديق ويؤتى بالإمام الصالح. وكذلك الوعظ فهو -أيضاً- جانب وعمل من جوانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بناء المساجد والاهتمام بها ورعايتها {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: ترفع حساً ومعنىً، ترفع معنىً في قلوب الناس، فترتفع وتصبح أقدس ما عند الناس، وأعظم ما عندهم، وأهم ما في الحي المسجد، فما نريد العشرات من الفلل الفخمة تحيط بمسجد متهدم مكسر، دورة المياه فيه لا يستطيع أحد أن يتوضأ فيها!! فهذا المسجد ما رفع حساً ولا معنىً، {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] حقيقة ومعنىً، وكذلك حساً؛ بأن ترفع فلا تعلوها هذه البنايات الشاهقة، وأسوأ من ذلك أن تعلوها بنايات مما حرم الله، كالبنك السعودي الفرنسي فهو أعلى من المسجد!! ومصيبة أن تعلو المنكرات على المساجد، ولما لم ترفع ولم تعظم شعائر الله حتى كان الحال كما نرى!! وكذلك حفظ الأوقات من تعدي الناس عليها، والاهتمام بها، ومراعاتها، كل هذا يدخل ويندرج شرعاً وعملاً -خلال القرون الإسلامية- تحت ولاية المحتسب وديوان الحسبة.

الشئون الصحية

الشئون الصحية نص العلماء على أن من عمل ديوان الحسبة، مراقبة الأطباء ومعرفة الخبير من غير الخبير، ومنع الذي لا يجيد الطب من التطبيب، حتى القوابل للولادة والتنبيه عليهن، وفصل الرجال عن النساء، وكل ما نعتبره الآن نحن من الرقابة الطبية فقد تكلم فيه العلماء وجعلوه ضمن ولاية المحتسب. وكذلك منع التطبيب بالسحر والشعوذة والكهانة، هذه من أعمال المحتسب، فيبحث، ويستمع، وإذا رأى أن الناس يذهبون إلى رجل فيتتبع ذلك الموضوع؛ فإن كان ساحراً فيقام عليه الحد. وكل هذه مندرجة تحت ولاية المحتسب، فجانب من جوانب الشئون الصحية في أيامنا الحاضرة هو من اختصاص هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوضع الطبيعي في الدولة الإسلامية.

الشئون التعليمية

الشئون التعليمية كذلك يراقب رجل الحسبة وضع التعليم، فيذهب إلى المدارس ويتتبع ويرى ماذا يفعل المعلمون، حتى قال العلماء: إذا كان بعض المعلمين يأخذ أجراً أكثر على غير فائدة أو من غير تعليم فإنه يعاقب، وإذا كان يضرب التلاميذ أكثر مما ينبغي، فإنه يعاقب ويعزر، المهم: أن يكون وضع التعليم تحت إشراف الحسبة. ونحن لا نقول: كل وزارة المعارف تنتقل، لكن جانباً مهماً يظل خاضعاً لها، وهم الآن إذا أريد إلقاء محاضرة، قالوا: لا نقدر أن نسمح بمحاضرة في المدارس، سبحان الله! لماذا كلما أريد فتح توعية إسلامية في المدارس، يقولون: لا نستطيع، ولا نقدر، والوقت لا يسمح؟! فجزء عظيم من صلاحية إدارة التعليم، هو أصلاً خاضع للهيئة، وعندما تعطى هذا الصلاحية للهيئة التي هي ديوان الحسبة، ويخضع التعليم لرقابتها فإننا نرى أن التعليم يصلح بإذن الله. كيف لا وقد وصلت الأمور إلى حد أن بعض المدرسين -والعياذ بالله- قد يرتكبون الفاحشة مع الطلاب في المدارس، ويفعلون أموراً أخرى، ويتكلمون بألفاظ بذيئة، ولا أحد إلا وهو يعرف هذا، ولا نحتاج إلى أن ندخل في هذه الموضوعات، فمن يعالجها ومن يصلح الأمور؟! أليس هذا من عمل الحسبة، ولا بد أن يقوم به رجال الحسبة؟! - مدرس يأتي المدرسة سكران، ماذا يقول له المدير، يقيم عليه الحد، أو يحوله إلى الشرطة؟! هذا من عمل الحسبة أيضاً. - مناهج فيها بدع وضلالات وخرافات، تحال للحسبة، وهذا من صلاحيات واختصاصات ديوان الحسبة، ولا نكاد الآن نشعر أنها من صلاحياتها، فعمل الهيئة عندنا الآن هو المناداة للصلاة فقط، وما عدا ذلك فكأنه ليس من عملها، وهذا الكلام كما قلت: مضغوط وموجز، لكن لو أردت دليلاً على كل شيء فعليك بكلام العلماء في الأحكام السلطانية وكتب الفقه ومنها ما ذكره شَيْخ الإِسْلامِ في قاعدة في الحسبة.

مؤسسات الرفق بالحيوان

مؤسسات الرفق بالحيوان ومن العجيب أن العلماء قد نصوا حتى على الاحتساب لمصلحة الدواب!! انظروا دين الرحمة، دين الإحسان، حتى لمصلحة الدواب، فمن عمل المحتسب أن ينظر إن كان صاحب الدابة يعذبها ويحملها ما لا تطيق؛ فيحتسب عليه ويأمره وينهاه. وهذا منصوص عليه، وهذا من كمال حكمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الظاهرة في هذا التشريع وهذا الدين، الذي لما تركناه، تغير حالنا تهدر حقوق الآدميين في مجالات كثيرة، وفي الغرب يقيمون جمعيات للحيوان -سبحان ال-هـ! هذه عندنا من ضمن أعمال رجال الحسبة، وكان هذا في الأمة أمراً معروفاً؛ فكانوا يمشون في الأسواق، فإذا رأوا دابّة عليها حمل ثقيل، أوقفوا صاحبها وأنزلوا من فوقها بعض الحمل، وقالوا: احمل هذا أنت أو استأجر دابة أخرى ولا تحملها ما لا تطيق. فكانت الأمة تشعر أن عليها رقيباً، ولهذا كانت أقرب إلى تقوى الله؛ ولهذا كانت تقاوم إذا ما تعرضت للغزو الخارجي، فقد جاء الصليبيون فقاومتهم، وجاء التتار فقاومتهم؛ لأن فيها حياة وفيها نبض. لكن انظروا إلى واقعنا الميت المؤلم، لماذا؟! لأننا قد أميتت فينا الشعيرة التي من شأنها أن تحيي قلوبنا وأن تحيينا كخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

وزارة المواصلات، والمؤسسة العامة للموانئ

وزارة المواصلات، والمؤسسة العامة للموانئ أيضاً مما نص عليه العلماء: أن على رجال الحسبة تفقد المراكب، من أدوات النقل والسفن، وأن ينظروا إلى ما في حمولة السفن، وحتى قال أبو يعلى رحمه الله في أحكام السفن: 'يتفقد المحتسب السفن، فيضع أماكن للرجال وأماكن للنساء، ويضع مكاناً لقضاء النساء للحاجة غير ما هو مُعدٌّ للرجال'. هذا ضمن السفن، إذن كل هذا يندرج ويدخل تحت أعمال الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مصلحة المجاري والمياه

مصلحة المجاري والمياه مما نص عليه العلماء من الشعائر التي يجب على رجل الحسبة أن يحييها ويهتم بها: موضوع الطهارة، فالطهارة أصل ديننا كله، فديننا دين الطهارة الحسية والمعنوية، الظاهرة والباطنة، فإذا تُرك كل واحد ينزل النجاسات كما يشاء، وينزل المياه الملوثة، أو يفعل كذا أو كذا، فإنه قد يسد المجاري أو يلوث مياه الشرب مثلاً، فما يتعلق بالمياه ونقاوتها من الطهارة ومن الخبث ومن الأمراض أيضاً يندرج تحت الحسبة، فلا يدخل هذا ضمن مصلحة المياه والمجاري أو ضمن وزارة الصحة والطب الوقائي مثلاً أو غير ذلك؛ لأن كل هذا من أعمال رجل الحسبة التي نص عليها العلماء رحمهم الله تعالى كما قلنا.

إدارة شئون الموتى

إدارة شئون الموتى مما يراقبه -أيضاً- رجال الحسبة: المقابر وكيف يدفن الميت، وكيف يغسل. فترتكب أعمال فظيعة، وكثير من الناس لا والي له، كيف تكون الحال والإدارة هذه، مجرد أناس موتى يدفنون موتى؟! لا يهتمون ولا يأبهون بإقامة دين الله في هذا الشأن ولا يأبهون بالمقابر، ولو تركت المقابر من غير اهتمام ومن غير متابعة، لبني عليها!! وقد يبنى عليها ملاعب أو أي شيء آخر!! ولا يبالي الناس إذا قست قلوبهم عن ذكر الله وغفلوا عن الآخرة، لا يبالون حتى بحرمة المقابر، وهذه الأمور مما يتعلق بالموتى والمقابر هي من عمل رجال الحسبة أيضاً.

الجمارك

الجمارك وعندنا هنا في المملكة قبل خمس عشرة سنة أو ما يقرب من ذلك كان في كل مطار أو مدخل: رجل الهيئة مع رجل التفتيش في كل شيء، ثم تقلصت الصلاحيات وقلل العدد. من أهم الأعمال: إدارة الجمارك، ولا نعني جانب الضرائب والجبايات فهذه لها تفصيل، وهي أعمال إذا دخلت في المكس فهي من أعظم الذنوب والكبائر، لكن نتكلم في الجمارك من جهة أنها تضبط ما يدخل إلى البلد من الممنوعات، هذا العمل هو من عمل رجال الحسبة.

المراقبة الإعلامية

المراقبة الإعلامية ومن ذلك كثير من أعمال وزارة الإعلام، مثل المراقبة الإعلامية، من يحكم على المجلة، أتدخل أو لا تدخل، الآن أحياناً تأتيك مجلة مصور فيها امرأة عارية، فيطمسون الثدي وحدود العورة، ويبقى الصدر والشعر! وكأنه ما بقي شيء، فمن قال: إن هذا حرام وهذا ليس بحرام؟! وبأي معيار طمست هذا وتركت هذا؟! والحمد لله أنها تطمس، ولا نقول: لا تطمس، لكن لو راعينا الأصول الشرعية، وجعلنا هذه الأجهزة مرتبطة بإدارتها الشرعية التي جعلها الله لها، لرأيت أنه لا يتجرأ أحد على أن يدخل دواعي الرذيلة، والزنى، والفاحشة إلى البلد المسلم، لعلمه أن هناك إدارةً واعيةً، وشرعيةً، وحذرةً، ومتنبهةً، تتلف كل ما فيه محرم. ومراقبة الفيديوهات وما يتعلق بها -أيضاً- فيدرب موظف إداري ليراقب، ويعطي التصاريح، والرقابة الإعلامية معروفة أنها على المجلات، والفيديوهات ومحلات الأغاني، ولا نقول: لا يوجد عليها رقابة، بل هناك رقابة، ولكن هناك بعد عن الحكم الصحيح، فمثلاً: ما يتعلق بالأغاني، القضية ليست قضية رقابة بأن يمر ويراقب، لكن الحقيقة أنه لا يجوز شرعاً، ولا يحل أن يرخص لمحل أن يبيع الأغاني أو الأفلام الفاسدة مما هو موجود الآن، والترخيص بها حرام، وعملها كله حرام، وما يربحه مما يسمى المكاسب أو الدخل فهو خسارة، وسحت لا يجوز؛ ولذلك لو وضعت في الموضع الشرعي الصحيح وأحيلت إلى الولايات الشرعية، فالحكم فيها هو الإلغاء فوراً. وقد تعرضنا لذكر بعض الإدارات وبعض الصلاحيات هنا لنعرف من خلال كلام الفقهاء -رحمهم الله- سعة وصلاحيات ديوان الحسبة وهيئة ديوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما نسميها نحن الآن.

موقف المسلم من الحسبة

موقف المسلم من الحسبة بقي أن نقول: ما الواجب علينا في هذه الأمة؟ الواجب المتعين علينا أن نعيد الأمر إلى نصابه، وأن نتعاون جميعاً لأن تعود لهذا الجهاز أهميته، وقيمته، وصلاحياته التي كانت في ظل المجتمعات والحكومات الإسلامية السابقة، وأن يُدعم بكل الطاقات وبكل الوسائل الممكنة. ولا مانع أن تدمج بعض الإدارات في بعض كما تفكك، كما كانت البلديات -مثلاً- جزء من وزارة الداخلية وغيرها، ثم فصلت، ثم قسمت البلدية إلى بلديات، وزارة المواصلات -مثلاً- فصل منها وزارة البرق، والبريد، والهاتف إلى آخره؛ فالدمج والفصل وارد لمجرد المصلحة الإدارية، فكيف إذا كان يتعلق بمصلحة شرعية ضرورية لإحياء هذه الشعائر. وبدلاً من أن نقول: الهيئات ليست لديها وظائف، ولا عندها وسائل، ولا نستطيع أن نحدث وظائف جديدة، فلندمج هذه الأجهزة في جهاز واحد أو ولاية واحدة أو كما اقترح بعض الإخوة: أن تحول إلى وزارة، فلا يوجد مانع، المهم أنه بشكل ما، أو بصورة ما أن تدمج أو تعود على ما كانت عليه سابقاً، ونحن الآن نقترح المبدأ، أما التفاصيل فدعوها لأهل الاختصاص بحيث يحصل الهدف وهو: أن يعود إلى ديوان أو وزارة الحسبة اختصاصها الشرعي الواسع، وصلاحيتها الواسعة، وجنودها ورجالها في كل منطقة وفي كل مكان؛ فإن الأمة أحوج ما تكون إلى هذا النوع من الولاية في هذا الزمن وفي كل زمان.

الأسئلة

الأسئلة

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقوق الدول

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقوق الدول Q ما علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقوق الدول؟ A إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل كل دولة تتخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتؤيد المنكرات والفساد ساقطة هالكة، والتاريخ شاهد بذلك {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59]، {وَمَا كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]. كل القرى التي ظلمت بالذنوب والمعاصي وارتكاب المحرمات، ولم يكن فيها مصلحون وتركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنها تعاقب بالهلاك والدمار، دمار اقتصادي بالغلاء، ودمار بالحروب، ودمار بانتهاك الأعراض وارتكاب الجرائم والفساد، ودمار بالزلازل والبراكين، وبما يشاء الله من عقوبات، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينزلها على من يستحقها، ولا يظلم ربك أحداً.

كيفية إعادة الصلاحيات للحسبة

كيفية إعادة الصلاحيات للحسبة Q كيف يمكن إعادة الأمر إلى نصابه بإعادة صلاحيات الحسبة؛ لأن الأمر أصبح لا يطاق؟ A المهم نحن، فإذا أردنا ذلك وطالبنا، وأنشأنا الدراسات لهذا الموضوع، فإن ذلك سيكون بإذن الله تبارك وتعالى، وما ضاع حق وراءه مطالب، لكن كل منا مطَالبٌ بأن يكون مُطِالباً، بأفضل أسلوب للمطالبة، كتابة، ومناصحة، ومشافهة، وكتابات علمية موفقة، كتابات فقهية تأصيلية، ونتعاون في كل ذلك بحيث إننا نعيد لهذه الشعيرة ولهذا الديوان صلاحياته وأهمياته.

التهكمات الصحفية

التهكمات الصحفية Q ما قولكم في الصحفيين وتهكماتهم على الهيئة ورجالها؟ A ليست القضية قضية الصحفيين، حتى في المجالس كثير من الناس يتهكم ويسخر من الهيئة ومن الملتزمين!! ولا يدري أن الأمر هو كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الرجل قد يقول الكلمة من سخط الله أو من غضب الله لا يلقي لها بالاً؛ تهوي به في النار سبعين خريفاً} والعياذ بالله!. والذين ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كفرهم في سورة براءة، وهم الذين استهزءوا وسخروا، ولذلك كفَّرهم الله تعالى، فهم لم يستهزءوا بالدين، ولم يستهزءوا بنص القرآن، ولا بألفاظ الحديث، إنما استهزءوا بالقراء من الصحابة، ومع ذلك يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فجعل الاستهزاء بمن يقوم بالعلم أو الدعوة أو مثلهم ممن ينكرون المنكر، جعله استهزاءً بالله وبآيات الله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] فالمسألة كفر، وليست شهوات، وفكاهات، وتندرات في المجالس. ثم اعلموا أنه لا يطعن في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أحد رجلين: - إما رجل جاهل بقيمتها وأهميتها للمجتمع ولا يعلم شيئاً؛ فهو أمّيٌّ يكاد يكون في حكم من هو ليس محلاً للخطاب ومرفوع عنه القلم، لجهله لما خلقه الله من أجله وبعمل هذا الجهاز، وهذا -إن شاء الله- قليل في الأمة. والثاني: صاحب فحشاء ومنكر وفساد، إما قد قبض عليه أو يخشى أن يقبض عليه، فلا بد أن يحتاط لنفسه فيسب ويتكلم!! وابحثوا وفتشوا فلن تجدوا أحداً يخرج عن هذا أبداً، لكن من يعرف دين الله، ويعرف حدود ما أنزل الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو بريء من هذه المنكرات، ويتقطع قلبه لها فلا بد أن ينكر. راجعوا: كتاب الاختيارات العلمية لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في باب حكم المرتد، فإنه يذكر من أنواع المرتد من يكفر بالله ورسوله أو يجحد شيئاً من الدين، وقال: 'ومن لم ينكر المنكر بقلبه' هذا نص عليه كثير من الفقهاء، فمن لم ينكر المنكر بقلبه بحيث رضيه 'صار كافراً مرتداً' فكيف من يتندر ويتفكه بمن ينكر المنكر؟! هذا ليس براضٍ فقط!! بل هذا معبر عن الرضا في أجلى صور التعبير، وهي المزح والضحك والسخرية!! فقد يكفر الإنسان وهو لا يعلم، نسأل الله العفو والعافية! والصحفيون إنما يتجرءون؛ لأنهم يخدمون أغراضاً خبيثة، وأهدافاً خبيثة يخطط لها أعداء الله في خارج هذه البلاد من اليهود والنصارى؛ والصحافة الأمريكية شاهدة على هذا، وإذاعة لندن، وصوت أمريكا شاهدة على هذا، فمن هناك ينصبَّ الكلام ويلفُّ ويدور حول الطعن في هذه الصحوة، واتهام هذه الصحوة، وضرب هذه الصحوة. حتى قال بعضهم: حزب الصحوة الإسلامية فهل هناك شيء اسمه حزب الصحوة؟! لأن كلمة الصحوة دارجة على ألفاظ الخطباء، فقالوا: هؤلاء اسمهم في السعودية حزب الصحوة. كلنا -والحمد لله- ننتمي إلى هذه الصحوة، والحمد لله ليست حزباً، وليست معارضة سياسية، كما يحاولون أن يصنفوها؛ فهم يريدون أن يصنفوا الدعاة، ويصنفوا الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر على أنهم معارضون سياسيون يريدون الحكم، الله أكبر! ليست الكراسي التي يبحثون عنها؟! أيريدون أن يكون أحدهم وزير تخطيط، وآخر وزير زراعة؟! إنهم لا يفكرون بهذا الكلام. ووالله إن هذه المناصب في مقابل ما أعطى الله تعالى الدعاة والعلماء من الإيمان بالله ومعرفته، والتوقيع عن رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والقيام مقام الأنبياء والله لا تساوي شراك نعل الداعية. وليسمع هذا من يسمع، والله مالها أية قيمة للذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أبداً إلا إذا كانت وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقوم بها من يقوم -ولا أزكي نفسي ولا إخواني من الدعاة- لكن لا أعلم أحداً يقبل لو عرض عليه منصب من هذه المناصب حتى لو كان في منصب ديني ومفيد، أبداً والله؛ فمن أين جاءت التهم ولا أحد في مجتمعنا يتهم الدعاة إلا مغرض خبيث مخبث. لكن هذه أصداء لكلام الصحافة الغربية والإعلام الغربي الخبيث، الذي يريد أن يفسد وأن يطعن في هذه الأمة، وأن يفرق ما بينها، ويضرب بعضها ببعض، فهذا الذي يريدون. ولذلك يأتي هؤلاء مثل صاحب جريدة السياسة وأمثاله المعروفة علاقتهم وارتباطاتهم وولاؤهم للغرب ولأمريكا، فيتهكمون ويسخرون من الدعاة، حتى يقول أحدهم: أتاني واحد لحيته مثل التيس!! ويمر هذا الكلام، ويطبع في هذه البلاد، وينتشر، ويوزع، ولا عقوبة ولا رادع لاستهزائه بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ولو كان استهزاءً بشخص، أو رجل، أو واحد منا لاحمرت العيون وورمت الأنوف، ورأينا كيف تكون العقوبات، وكيف يكون النكير، ويكتب أكبر عالم في هذه البلاد وأقوى سلطة علمية فيها، وهو سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله، ويكتب ويكرر الكتابة لمعاقبة هذا الرجل، وحتى الآن لا أدري لماذا لم يعاقب!! فهؤلاء الصحفيون المجرمون ممن ينتمي إلى هذه البلاد ومن كان من خارجها، ومن يطبع هنا، ومن جاء ليدخل صحيفته إلى هنا، وكل من يكتب ضد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هؤلاء صدىً لأعداء الله، ولا يتكلمون من عند أنفسهم، إنما أنا أقول: من يتكلم من أهل هذا المجتمع عن هذا فهو لا يخرج عن الحالات التي ذكرت.

الحسبة وبعض الصلاحيات

الحسبة وبعض الصلاحيات Q لماذا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأمر بشيء وتتغاضى عن شيء آخر؛ مثلاً: أمرت بمنع وضع الكراسي في المحلات في سوق الخيمة، لتجلس عليه النساء الكبيرات في السن، وتشتكي وتقول: على ماذا تقعد؟! لأنها لا تستطيع المشي -أقول: من قال لك أن تذهبي إلى السوق يا جدتي؟! - مع أنها لم تأمر بإغلاق أو حتى منع بيع الأفلام والأغاني، مع أن هناك حكماً بتحريمها مع الدخان، فأين الإنصاف في ذلك؟ A الأغاني والفيديو يقال لهم فيها: إنها ليست من اختصاصهم بل من اختصاص وزارة الإعلام!! ولهذا كانت المحاضرة، لتبين أن هذه من اختصاصات الحسبة.

عمر بن عبد العزيز ومعاونوه

عمر بن عبد العزيز ومعاونوه Q ذكرتم أن عمر بن عبد العزيز عمل بالحسبة بنفسه مع بعض وزرائه وجلسائه، نرغب بذكر بعض أسماء وزراءه وجلسائه إكراماً لهم، وليعلم جيل اليوم من الشباب المسلم من هؤلاء الرجال رحمهم الله؟ A لن أجيب بل أريد كل واحد منكم أن يحضر لهذا الموضوع من سيرة عمر بن عبد العزيز به، والكتب عن عمر رضي الله عنه مشهورة موجودة، فلماذا لا تكتبون بحوثاً حتى نعلم من هم هؤلاء الرجال وأدوارهم، وننشرها بين الناس؛ لأن الأمة الآن لا تعرف إلا الممثلين، والمطربين، والراقصين، بل والأمريكيين منهم، فهؤلاء رجال الأمة. ممثل هندي زار مصر فاحتشدت -كما قرأت في الصحف المصرية- الآلاف المؤلفة لتراه وهو هندي. مَن مِن الناس يعرف وزير عمر بن عبد العزيز؟ كم من الناس يعرف من هو العالم الذي أشار على سليمان بن عبد الملك أن يولي بعده عمر بن عبد العزيز؟ كم من شبابنا يعلم ماذا كان عمل ابن عمر بن عبد العزيز مع أبيه؟! لا أحد يعلم، لأننا انشغلنا عن رجالنا وعن قادتنا بهؤلاء الأرجاس الأنجاس.

التنصل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة وجود الحسبة

التنصل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة وجود الحسبة Q ما رأيكم في كثير ممن يرون المنكرات وإذا قلت له: لماذا لا تنكر المنكر؟! قال: إنه من شأن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! A هذه قضية نرجو ألا نسمعها -إن شاء الله- وألا تتكرر!! فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من رأى منكم منكراً} فكل واحد يجب عليه أن ينكر بحسب الاستطاعة، إلا إذا كانت شيئاً عملياً تنفيذياً فنعم، لكن هل معنى ذلك أني أقول: إن هذا يحتاج إلى تنفيذ وإلى عمل من اختصاص الهيئة فأسكت!! لا. بل أخبر الهيئة، وأكتب، وأبين لها.

تعديل نظام الشركات

تعديل نظام الشركات Q كثير من الأسئلة عن موضوع ما صدر بخصوص إلغاء بعض مواد نظام الشركات؟ A الحقيقة أنا من النوع الذي لا يسمع الإذاعات نهائياً، فاليوم في الصباح جاءني أحدهم وقال: الجرائد فيها كلام عن نظام الشركات وأحضر لي الجريدة، وإذ مكتوب فيها إلغاء بعض مواد نظام الشركات، لكن لم أتمكن من مراجعتها وهل هي التي تعرضنا لها في المحاضرات الماضية أو غيرها. وعلى كل حال نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفق هذه الأمة عامتها وخاصتها للرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يريهم الله الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، ويريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه. ونرجو -إن شاء الله- أن تكون هناك خطوات لإصلاح نظام الشركات بأكمله، ولإلغاء كل ما يخالف الشريعة في النظام الاقتصادي كله، وهو أوسع من الشركات، وأيضاً إلغاء كل ما يخالف ديننا، وشريعتنا في جميع مجالات الحياة صغيرها وكبيرها بإذن الله.

احتساب رجال الهيئة

احتساب رجال الهيئة Q كثير من الإخوان كتبوا عما يتعرض له رجال الهيئة؟ A نوصي إخواننا في الهيئة أن يحتسبوا الأجر عند الله، فزيادة على احتسابهم قلة الرواتب، والتعب المضني، والسهر المتواصل؛ فنوصيهم أن يحتسبوا ما يقال فيهم؛ فالمسألة احتساب، وصبر، وجهاد لوجهه تعالى، حتى تلقوا ربكم عز وجل.

العاصي بين الستر والعقوبة

العاصي بين الستر والعقوبة Q إذا وجد من يشرب الخمر أو يعمل معصية من المعاصي، وهو يستتر به، فهل يجوز تعزيره وتشهيره، أو ينصح ويستر عليه؟ A أما إن كان من الجيران ومن الزملاء في العمل فالأصل أن ينصح وأن يستر عليه، وأما من كان شره متعدياً، كأن يعلم أبناء الحارة كيف يصنعون الخمر، فلا يجوز السكوت عنه؛ والتفصيل لا يتسع الوقت له، إنما المقصود إذا كان يدخل في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما في الحديث من كلام {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} ذوي الهيئات ليسوا العلماء، وليسوا أهل الخير والصلاح -كما فسرها بعض الفقهاء- إنما هم أهل الحسب أو النسب أو من له مقام، أن يقال عثرته كأن يخطئ فيفعل شيئاً، فلو عزر وفضح لكان ذلك فضحاً عاماً، فهو ليس مثل أي إنسان عادي يفضح. ويقاس على ذلك الوالدين، أو الجار، أو الصديق؛ فالأولى والأصل هو النصح، بأن ينصح ويستر عليه. فإذا تعدى ضرره أو كان ممن لا يرتدع، لأن من الناس من لا يرتدع وخاصة في الخمر، فهي إدمان، والإدمان حتى من الناحية الطبية قد يصل صاحبه إلى أنه لا يمكن أبداً أن يقلع عن شربه، ولهذا قال بعض العلماء: حديث {وإذا شرب الرابعة فاقتلوه} يعمل به في مثل هذه الحالات، أي في حالة المدمن الذي مهما نهيته فلا بد أن يشرب، فهذا يقتل؛ لأنه قد فسد بالكلية، فليس فيه خير.

إدارة المباحث تدخل ضمن الحسبة

إدارة المباحث تدخل ضمن الحسبة Q هل إدارة المباحث يمكن أن تندرج تحت الحسبة؟ A المباحث الجنائية تطلق على الشرطة، وقطعاً يمكن أن يندرج عملها في الحسبة، إذا ضبطت الأمور ضبطاً شرعياً وأصلت تأصيلاً شرعياً، ولا نعني التجسس الذي نهى الله عنه، لكن بعض ما تقوم به المباحث، من تحريات وملاحقة المجرمين وما أشبه ذلك، وما يسمونه علم الجريمة، وما أشبه ذلك، هذه كلها من عمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء أدرجت في عصرنا الحاضر ضمن المباحث، أو ضمن الشرطة، أو ضمن المباحث الجنائية، أو أي اسم من الأسماء.

حكم مصادرة البضائع

حكم مصادرة البضائع Q مصادرة البلدية للبضائع هل هذا عمل صحيح؟ A إذا كان لسبب شرعي فهو صحيح، وإن كان لسبب غير شرعي فهو غير صحيح، وهو من الظلم الذي لا يقر، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن قيل وقال وإضاعة المال، فإضاعة المال وإتلافه من غير مصلحة شرعية لا تجوز، وينكر على البلدية أو على غيرها لكن بطريقة الإنكار الشرعية الصحيحة. ونسأل الله أن يكتب لكم الأجر والثواب، والحمد لله رب العالمين.

الخلاف في أهل الوعيد

الخلاف في أهل الوعيد نفى الشيخ حفظه الله عن المرجئة أنهم يقولون: (إن الإيمان لا يضر معه ذنب)، وبين أن عقيدة الإرجاء من العقائد التي ظهرت في عصور الإسلام المتقدمة، وقد قال أوائل المرجئة بعدم دخول أهل الكبائر النار. كما بيّن وجوب اقتران المحبة بالخوف والرجاء، موضحاً خطر عبادة الله بالمحبة وحدها؛ لأنها تؤدي إلى الزندقة، وخطر عبادة الله بالخوف وحده؛ لأنها تؤدي إلى الغلو في الدين، وخطر عبادة الله بالرجاء وحده؛ لأنها تؤدي إلى الإرجاء.

موقف الفرق الإسلامية من أهل الكبائر

موقف الفرق الإسلامية من أهل الكبائر الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول ابن أبي العز -رحمه الله- في شرح العقيدة الطحاوية: وأراد المصنف رحمه الله بقوله: [ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله] مخالفة المرجئة وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك؛ فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] فلما ذُكِرَ ذلك لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـ قدامة: [[أخطأت استُك الحفرة، أما إنك لو اتقيت، وآمنت، وعملت الصالحات، لم تشرب الخمر]] اهـ. الشرح: قال المصنف -رحمه الله-: وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: "ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، مخالفة المرجئة ". لكن هذا القول لم يثبت عن قائل معين من المرجئة أنه يقول: ' لا يضر مع الإيمان ذنب ' كما ذكر ذلك شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، ولكن الثابت من مذهبهم هو مسألة حكم أصحاب الوعيد والكبائر، فإن المرجئة أو طوائف منهم يرون أنه يجوز ألا يدخل النار أحدٌ من أهل الكبائر، فما كان دون الشرك فإنه يجوز أن يغفره الله تعالى للناس كافة، فلا يدخل النار أحد من أهل الكبائر، وإنما الذي يدخلها فقط هم أهل الكفر والشرك، وفي معتقدهم هذا يقابلون الخوارج حيث تقول الخوارج: إنه لا يدخل أحد من أهل الكبائر الجنة، وجعلوهم خالدين مخلدين في النار كالكفار المشركين بالله تعالى، أما المرجئة فوصفوا أهل الكبائر بالإيمان والتوحيد، وقالوا: حاشا الله أن يجعل المسلمين من المجرمين والموحدين كالكافرين؛ فلذلك يجوز ألا يدخل النار أحد من المسلمين ولو كان عاصياً. وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التفريط وأهل الإفراط، وأهل الغلو وبين أهل التقصير، فقالوا: يدخل النار قطعاً بعض أهل الكبائر من أهل التوحيد، ويغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن شاء منهم فلا يدخلونها، وكل صاحب كبيرة عليه أن يخاف وأن يتوقع أنه ربما يكون ممن لا يُغفر له، لكن النهاية لا يمكن أن يخلد أحد من أهل التوحيد والإيمان في النار، وإنما الخلود فيها لأهل الكفر والشرك، فأهل النار الذين هم أهلها كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الجهنميين هم أهل الشرك والكفر، وأما من دونهم فإنهم يخرجون منها. ويدل على ذلك ما تقدم في موضوع الشفاعة من أحاديث كثيرة، ولذلك فـ الخوارج ينكرون الشفاعة؛ لأن هذا الإنكار مبني على مذهبهم الخبيث في مرتكب الكبيرة، فالأدلة الدالة على الشفاعة كثيرة جداً، ومنها حديث الجهنميين الذين يخرجون بشفاعة الشافعين، وكلها برحمة الله وفضل منه، فيخرجون من النار بعد أن لبثوا فيها ماشاء الله أن يلبثوا. أيضاً هناك كثير من الأحاديث الصحيحة الثابتة في دخول أهل المعاصي النار، ومن ذلك الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج وفي رؤيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث رأى الزناة، وأكلة الربا، والذين يأكلون لحوم الناس وغير ذلك. والمقصود هنا هو إجمال المذاهب الثلاثة، وأن فيها طرفين ووسط، وأن أهل السنة والجماعة هم المذهب الوسط، وأما المرجئة فيلزم من قولهم أن من كان من أهل التوحيد فلا يضره ذنب؛ لأنه لن يدخل النار فليفعل ما يشاء.

تأويل الصحابة للنصوص

تأويل الصحابة للنصوص ثم قال: وشبهتهم -شبهة أن الإيمان لا يضر معه ذنب- كانت قد وقعت لبعض الأولين ممن ليسوا من المرجئة، واتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [المائدة:93]. هذه قصة عظيمة وعجيبة، وفيها كثير من العبر والأحكام العقدية والفقهية؛ حيث إن قدامة بن مظعون وهو رجل من الصحابة ومن السابقين، وقد جاء في سيرته أنه هاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً وسائر المشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي سنة (36هـ). وكانت هذه الشبهة العظمى التي وقعت له في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان له صلة بـ عمر رضي الله عنه فإنه خال حفصة وعبد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخوه هو الصحابي المعروف بـ عثمان بن مظعون الذي دعا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برفع الدرجة، حيث قال: {أما عثمان فقد أتاه اليقين من ربه}. فهذا قدامة رجل من السابقين والمهاجرين، ولكنه وقعت له هذه الشبهة، وهذا يدل على أن الشبهة العلمية أو الاعتقادية تعرض -مثلما تعرض الشهوة النفسية والجسدية- لأهل الفضل والخير والسابقة، والمعصوم من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه القصة أوردها كثير من العلماء منهم: عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة، والحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (12/ 70)،. والقصة مذكورة في كتب الفقه عامة كـ المغني وغيره، والمقصود أن هذه الحادثة حادثة عزيزة، حيث ذكر العلماء أن رواية ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: شرب قوم من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية بن أبي سفيان، وقد كان والياً لـ عمر رضي الله عنه على الشام، وكان قدامة ومن معه يسكنونها، فقالوا هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93]. فكتب يزيد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيره في شأنهم، فأشار عليه رضي الله عنه وسائر الصحابة بأنهم يستتابوا، فإن تابوا جلدوا ثمانين جلدة -وهي حد الشرب- وإن لم يتوبوا قتلوا؛ لأنهم استحلوا المحرم القطعي، ولذلك نجد عبارة المصنف: ' اتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك '؛ لأن القصة اشتهرت عندهم، واستدعاهم عمر -رضي الله عنه- واستشار فيهم الصحابة، وعَلِمَها كافةُ الناسِ وأهلُ الشورى وأهلُ الرأي، واتَّفَقَ رأيهم على هذه الفتوى، فأصبحت كأنها إجماع.

كيفية معاملة المتأول والمستحل

كيفية معاملة المتأول والمستحل وهذا يدل على كيفية معاملة المُتَأَوِّلِ والْمُسْتَحِلِّ، فأما المتأول فتكشف شبهته، وكل من استحل محرماً أو وقع في شرك أو بدعة أو محرمٍ بشبهة، فتكشف -أولاً- الشبهة، ويناقش مناقشة علمية، والناس في هذا على نوعين والوسط هو الحق والعدل، فبعض الناس إذا رأوا من فعل ذلك، قالوا: هذا من أهل العلم، أو إمام مشهور، أو صحابي جليل، فلا يفعل هذا الشيء إلا وهو محق، فيقلدونه. وبهذا التقليد ارْتُكِبَ كثيرٌ من المحرمات -نسأل الله العفو والعافية-، وهذه الشبه تقع كثيراً، حتى في موضوع الخمر، فأهل الكوفة وفقهاء العراق يرون أن الخمر المحرم هو ما كان من العنب إذا غلى وقذف بالزبد، وأما ما عداه فهو لا يقاس عليه. ولهذا روى البخاري رحمه الله أحاديث كثيرة عن أنس رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة أنهم قالوا: نزلت آية الخمر وما في المدينة زبيبة؛ إنما كان فيها التمر ولم يكن يصنع الخمر بـ المدينة من العنب، لكن وقعت هذه الشبهة. فالمقصود أن من الناس من إذا وقعت مثل هذه الفتنة اتبعوا من فعلها، وقالوا: هؤلاء أئمة، وفي المسألة خلاف، ولم يكن الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- على هذه الحالة، ولو أن الإنسان تتبع أخطاء العلماء وتأويلات المتأولين لكان مصيره كما قال بعض العلماء: من تتبع رخص الفقهاء تزندق. فيأخذ من هذا شيئاً يتعلق بالوضوء، ومن آخر شيئاً في الصلاة أو الزكاة أو الصيام، ثم يجمعها؛ فلا يبقى لديه من الدين شيئاً صحيحاً، فيصبح زنديقاً مارقاً، كما ذكر أبو نواس الشاعر الماجن الخبيث لما قال: أجاز العراقي النبيذ وشربه فقال الحجازي كلاهما خمر قال: وقال الحجازي: الشرابان واحد فحلت لنا من بين قوليهما الخمر فيقول: إن فقهاء العراق يقولون: إن النبيذ حلال، وفقهاء الشافعية وأهل المدينة يقولون: قال الحجازي: الشرابان واحد فحلت لنا من بين قوليهما الخمر فهو أخذ من هذا ومن هذا، فقال: بما أن النبيذ حلال كما يقول أهل العراق، ولا يقولون إذا أسكرت حرام، فأخذ منهم أن النبيذ حلال، وأخذ من قول أهل الحجاز أنهما واحد فحكمهما سواء، ثم توصل إلى أن تكون الخمر حلالاً والعياذ بالله، فلا شك أن من تتبع رخص العلماء تزندق واستحل المحرمات. ومن ذلك من يسمون بفقهاء الحيل الذين ابتدعوا الحيل الشرعية، وهي ليست من شرع الله ولا من دينه، كنكاح التحليل وأشباهه مما أطال فيه العلماء، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان، فذكر كيفية تلبيس الشيطان على أصحاب التحليل والحيل، فهؤلاء هم الطائفة الأولى. وأما الطائفة الأخرى فما أن يقع من عالم زلة وإن كان صحابياً أو تابعياً، فإنه يسقط من أعينهم بالكلية، ويشنعون عليه، ولا يحفظون له قدراً ولا مقاماً، وهذا جور وظلم وإجحاف.

حكم الصحابة على المتأولين للأحكام

حكم الصحابة على المتأولين للأحكام وأما الصحابة -رضوان الله عليهم- فإنهم تعاملوا بالعدل الذي أمر الله تعالى به فقالوا: تكشف شبهتهم، وتقام عليهم الحجة، ويُوَضَّحُ لهم الْحَقُّ، فإن استجابوا وعادوا فإنهم يجلدون الحدَّ، وذلك ردعاً لهم ولغيرهم؛ حتى لا يتأول أحد فيما أحل الله أو فيما حرم الله، فيعلم أنه بسبب شربه الخمر لابد أن يجلد، وإن أصر على ذلك بعد أن تقام الحجة وتكشف الشبهة، فإن حكمه في هذه الحالة هو القتل؛ حتى لا يأتيَ أحدٌ فيفتريَ على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويشرع في دين الله ما لم يأذن به الله، وهذا مما اتفق عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- عليه بالنسبة للفرد. وكذلك الطائفة: إذا كانت طائفة أو قبيلة أو مدينة أو إقليم أو دولة اتفقت وتواطأت على شيء من هذا، فهذه تسمى الطائفة الممتنعة، ينظر فإن كانت لديهم شبهة كشفت وبينت، وإن لم تكن فإنهم يقاتلون على ما استحلوا مما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد جاء في المسند: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبر عن وفد اليمن أو بعض قبائل من أهل اليمن أنهم لا يتركون الخمر فقال: إن تركوها وإلا قاتلوهم}. فلو أن طائفة أو قبيلة أبت أن تترك شرب الخمر، فإنها تقاتل حتى تتركه، وكما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله حيث يقول: اختلف العلماء فيمن ترك بعض السنن المؤكدة مثل صلاة الخسوف، فلو تواطأت قرية أو قبيلة، وقالوا: نترك صلاة الخسوف أو صلاة الاستسقاء أو ركعتي الفجر، فهؤلاء قد اختلف فيهم العلماء، فما كان من الواجبات الظاهرة كالأذان لو ترك، أو كان من المحرمات الظاهرة كاستحلال الخمر أو الربا فإنهم يقاتلون. وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ أنه ورد في بعض السير -أن قبيلة ثقيف أرادت أن تَسْتبقِيَ الرِّبَا، ولا تُحَرِّمَه بالتحريم الذي وصفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الوداع، وكان الربا من آخر ما نزل من الأحكام، وآياته من آخر ما نزل من القرآن، فتجهز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقتالهم. فالمقصود أنه إذا أَصَرَّت على ترك الواجب الظاهر من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو ارتكاب المحرم الظاهر في التحريم، فإن حكمها هو الاستتابة، وتقام عليهم الحجة العلمية؛ فإن لم يتوبوا فإنه يجب قتالهم، فهذا الذي اتفق عليه الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- بشأن هؤلاء كما يقول المصنف: فلما ذكر ذلك لـ عمر رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب. لأنه استشاره بذلك ' وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـ قدامة: [[أخطأت استك الحفرة]] وفي هذا كناية عن الخطأ في الرأي، ويقصد أنك أخطأت في هذا الرأي، حيث فهمت استحلال الخمر من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [المائدة:93] فقال له: [[أما إنك لو اتقيت، وآمنت، وعملت الصالحات، لم تشرب الخمر]] لأن شرب الخمر يتنافى مع الإيمان والتقوى والعمل الصالح، فكيف تجمع بين هذا وهذا؟!

سبب نزول قوله تعالى: [ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح]

سبب نزول قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ] ثم بين المصنف رحمه الله سبب نزول هذه الآية، فقال: وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد، فقال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان مِنْ أمرِ استقبال بيت المقدس حيث إنه لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} [البقرة:144]. وبعد أن صلّى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ثمانية عشر شهراً تقريباً إلى بيت المقدس، وكانوا في حرج شديد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حرج من ذلك، ويريد أن يستقبل الكعبة فنزلت هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] فتحول الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- وحولت القبلة إلى الكعبة، وكان ذلك أحد العلامات الفاصلة بين المسلمين وبين أهل الكتاب، فأصبحنا لا نستقبل قبلتهم ولا هم يستقبلون قبلتنا، ولا نتبعهم ولا يتبعوننا، فلما حصل ذلك جاء السؤال من بعض الصحابة وقالوا: كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ هل تقبل منهم صلاتهم أم لا تقبل؟ فإن الناس كانوا حديثي عهد بالنسخ، ولم يتعودوا أن ينزل أمر من أمور الدين ثم ينسخ، وخاصة مثل هذا الأمر الظاهر المعلوم لدى كل فرد من المسلمين، فقالوا: إذا كانت الصلاة لا تقبل إلى بيت المقدس، فما حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إليها؟ فأنزل الله تبارك وتعالى تطميناً لهم فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فصلاتكم إلى القبلة المنسوخة باقية، ولكم عليها أجر كبير؛ لأنكم أطعتم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في استقبالها، وفي تركها واستقبال القبلة التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وبهذا يتبين أن من حكم النسخ العظيمة الابتلاء والامتحان للمؤمنين. فالعبد المؤمن دائماً يقول: سمعنا وأطعنا، ولا يقول كما قال أهل الكتاب من قبلنا: سمعنا وعصينا، وهكذا كان حال السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم-، ومن حكم النسخ تحقيق العبودية، فلو أعجبتك طاعة من الطاعات، لكن الله تعالى يأمرك في وقت معين بطاعة أخرى غيرها لسبب من الأسباب الشرعية، فلا تذهب إلى ما تميل إليه نفسك، بل تتعبد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فتفعل ما أمر الله به وما أمر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالمقصود أن الموضوع الأول هو موضوع القبلة، والموضوع الآخر هو موضوع تحريم الخمر؛ لأنه كما جاء في الصحيح: {مات قومٌ يوم أحد والخمر في بطونهم} وهم من أفاضل الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فاستشهدوا في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والخمر في بطونهم، فجاء هذا السؤال مرة أخرى عند الصحابة الكرام، فقالوا: ما حال إخواننا الذين ما توا وهم يشربون؟ وروى الحاكم وغيره أن هذا السؤال أثاره اليهود، وهذا لا يستبعد. فتحريم الخمر ليس حدثاً هيناً، بل هو أمر عظيم جداً، فقد أنزل الله تحريمها، وبَلَّغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك للمؤمنين، فجرت بها سكك المدينة وطرقها، وقال الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قالوا: انتهينا، وكلٌ أراق ما عنده، فأصبحت الخمر تجري في طرقات المدينة، كأنها السواقي أو الأنهار الحمراء من هذا الشراب الخبيث؛ وانتهوا لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم بذلك، فحسدتهم اليهود، وقد حسدوهم عندما تحولت القبلة، فقال اليهود: حرمت عليكم الخمر؟ قالوا: نعم؛ قالوا: فكيف حال إخوانكم الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية تطميناً لهم.

التوبة والمغفرة بين المعتزلة والخوارج وأهل السنة

التوبة والمغفرة بين المعتزلة والخوارج وأهل السنة فلما علم قدامة ومن معه أنهم ارتكبوا حراماً، وانكشفت لهم الشبهة، قالوا: الخمر كبيرة، ولن يغفرها الله، فأيسوا من التوبة والرحمة، لأنهم تصوروا الأمر بهذه الفظاعة، والبشاعة، والمؤمن وسط بين الحالين، فلا يستهين بالمعاصي والذنوب، ولا يقنط من رحمه الله تبارك وتعالى، ولهذا لما ندموا ووصل بهم الحال إلى أن يئسوا من التوبة قال: ' [[فكتب عمر إلى قدامة يقول له: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذي الطول} [غافر:1 - 3] ما أدري أيُّ ذنبيك أعظم، استحلالك المحرم أولاً؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً]] '. فكتب له هذه الآيات من صدر سورة غافر، التي بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها هذه الثلاث الصفات، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب؛ وهناك فرق بين معنى غافر الذنب ومعنى قابل التوب، فغافر الذنب: هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر الذنب لمن يشاء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فمن لقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو مذنب، ولم يتب فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر لمن يشاء، وأما قابل التوب: فإنه يقبل توبة من تاب وأناب حتى ولو كانت من الشرك، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المشركين في صدر سورة (براءة): {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وفي الآية الأخرى {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]. فالتوبة تكون من جميع الذنوب، أما المغفرة فلا تكون للمشرك أبداً، فإن من مات وهو مشرك فلا يغفر الله تعالى له أبداً، وأما من مات وهو مرتكب ذنوباً من دون الشرك، فهو إلى رحمة الله ومشيئته: إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، كما هو فهم أهل السنة والجماعة، أما المعتزلة والخوارج فإنهم قالوا -حتى يُخَرِّجوا الآية على أصلهم الفاسد-: إنما يغفر الذنوب لمن تاب فَيُرَدُّ عليهم، ويقال: إن الله تعالى وصف نفسه بوصفين مختلفين: غافر الذنب وقابل التوب، فكيف يكون غافراً فقط لمن تاب؟! وهذه الثلاثة الأوصاف لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو يغفر الذنب لمن يشاء مالم يك مشركاً، ويقبل التوبة من كل من تاب من أي ذنب. وهو شديد العقاب؛ حتى لا يقول أحد من الناس: (إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غافر الذنب وقابل التوب، وبناءً على ذلك سأفعل ما أشاء) وهذا من فقه عمر رضي الله تعالى عنه، فقد كتب بهذه الآية إلى قدامة، ولو أنهم في البداية تذكروا أن الله شديد العقاب، وأنه قد حرم الخمر وسيعاقبهم بها لما شربوها واستحلوها، ولو أنهم في النهاية علموا أنه غافر الذنب وقابل التوب لما قنطوا ويئسوا من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الانحراف في العبادات

الانحراف في العبادات فهذا دليل على أن المؤمن لابد أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، كما قال عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه وغيره من السلف: "الخوف والرجاء كجناحي الطائر للمؤمن" وللسلف عبارة مأثورة في هذا، قالوا: " من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري ".

من أسباب الزندقة

من أسباب الزندقة فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق. حتى إن بعضهم يسميه العشق الإلهي، كما يقولون عن رابعة العدوية: شهيدة العشق الإلهي، كما ذكر عبد الرحمن بدوي وأمثاله، فهؤلاء يعبدون الله تعالى بالحب فقط، ويقولون: لا نعبده طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، إنما نعبده محبة لذاته حتى ولو كان مصيرنا إلى النار، عياذاً بالله! ويبنون على هذه المحبة أن الله لا يعذبهم، ويقولون: إن الحبيب لا يعذب حبيبه!! وهؤلاء كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمن قبلهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] فدعوى أن الإنسان إذا أحب الله فإن الله لا يؤاخذه هي دعوى الزنادقة الذين كانوا في القرن الثاني وأول القرن الثالث، ومن تتبع وقرأ سير أئمة التصوف الكبار والمشهورين كـ الجنيد، أو النوري، أو الكرخي، أو ذي النون المصري، لوجد أنهم كانوا متهمين بالزندقة -والعياذ بالله- سواء صحت أم لم تصح؛ لأنهم كانوا يتدينون بهذا الدين، وهو من بقايا الرهبانية النصرانية، وهي مأخوذة عن رهبانية الهندوس، الذين غلوا في المحبة، وادعوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحبهم ويحبونه، وإذا فعلوا ذلك فلا حرج عليهم كما ينسبون إلى رابعة: أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك فينقلون هذا الكلام عن أولئك العباد الذين اتهموا بالزندقة كما قال أبو داوود رحمه الله قال: ورابعة رابعتهم في الزندقة، وكان قد ذكر جابر بن حيان ورياح بن عمرو القيسي وكليباً ً ثم قال: ورابعة رابعتهم على الزندقة، والمقصود أن من عبد الله بالحب وحده أو ادعى ذلك أو زعمه، فإنه زنديق. ومن اعتقد ذلك فقد أزرى بالأنبياء، وقد أزرى بالصحابة الكرام الذين كانوا يعبدون الله خوفاً وطمعاً، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما روى عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وهو من أكثر الصحابة خلطة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كان أكثر دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}، والله تعالى يقول عن أولئك الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا} [الأنبياء:90] وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]. وتفسيرها هو أن أولئك المدعوين والمعبودين الذين يدعوهم المشركون هم عباد يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبتغون هم أنفسهم إلى ربهم الوسيلة، ويرجون القرب، ويرجون رحمة الله ويخافون عذابه سواء كانوا من الملائكة أو من الأنبياء أو من الصالحين، فإذا كان هذا حال المدعوين؛ فكيف يكون حال الداعين؟! فيجب عليهم أن يتوبوا وأن يستغفروا الله تبارك وتعالى؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم} [آل عمران:31]. فمن ادعى محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجب عليه أن يطيعه باتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي آية الامتحان كما قال بعض السلف: [[ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية الامتحان {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]]] فهذا جواب الشرط المقترن بالفاء "فإن كنتم تحبون الله فاتبعوني"، ثم جعل جواب الشرط شرطاً له جواب آخر حيث قال: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. فالمقصود أن محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا تعطى لكل من زعم أنه يحبه، وإلا فعبّاد الهندوس يحبون الله، وعباد النصارى يتقربون ويدعون ويبكون ويخشعون ويقولون: (نحب الله)، لكن هل الله يحبهم؟ هذا هو الأهم. شرط حصول محبة الله أن يكون العبد متبعاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومؤمناً به، فمن كان كافراً به، ومن كان يدعي الانتساب إليه أو أنه من أمته ولكنه لا يعبد الله كما شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالدعوى باطلة.

منشأ الغلو في العبادة

منشأ الغلو في العبادة ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري. وهذا هو حال الخوارج، نسأل الله العفو والعافية! فإنهم ضيقوا على أنفسهم، وأخذوا من الدين جانب الرهبة والخوف والترهيب والإشفاق والحذر، وقد تقع شبهتهم لبعض العُبَّاد وإن لم يكونوا على مذهب الخوارج، كعُبَّاد البصرة وغيرهم ممن ذكرهم في كتاب حلية الأولياء أو صفوة الصفوة، حيث كان بعضهم يغلو غلواً شديداً في الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مما يؤدي إلى اليأس من رحمة الله. وهذا النوع دخل فيهم أهل التصوف حتى أفسدوا عليهم عبادتهم!! وهذه من الحكم التربوية العظيمة، وهي أن الإنسان إذا غلا في الخوف والرهبة، فإنه قد يؤدي به ذلك إلى الوقوع فيما هرب منه، وحتى يعلم الناس أن الحق مع السنة التي لا غلو فيها ولا جفاء، كما قال الحسن -رحمه الله- في أهل السنة: [[إن أهل السنة لم يذهبوا مع أهل الغلو في غلوهم، ولا مع أهل الترف في ترفهم، وإنما هم وسط بين ذلك]]. فلو رأيت إنساناً مشدداً على نفسه وعلى أتباعه في أمور كثيرة، بحيث يجعل المستحبات واجبات والمكروهات محرمات، فاعلم أنه سيقع في استحلال المحرمات؛ لأن من خرج عن المنهج الصحيح في تهذيب النفس وتقويمها، فإنه لا بد وأن يقع في ضده، فـ الخوارج أول ما ابتدءوا، ابتدءوا بهذا الغلو الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديث صحيحة متواترة حيث قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم} وبعد ذلك جاءهم أناس فناقشوهم، وقالوا لهم: هذه سورة يوسف ذكر فيها العشق، وذكر فيها أن امرأة العزيز راودت نبياً من الأنبياء، وغلقت الأبواب، فقالوا: هذه ليست من القرآن! فكفرت طائفة منهم بسورة يوسف. ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كُلَّه، وكَفَّروا الصحابة الكرام، وكانوا بذلك كفاراً، وأدى بهم الغلو إلى أنهم كانوا يقعون فيما كانوا ينفرون منه، كاغتيابهم الصحابة، بل واستحلوا دماءهم، فقتلوا عبد الله بن خبيب وبقروا بطن جاريته، وهو ابن الصحابي الجليل خبيب بن عدي، ثم وجدوا نصرانياً في الطريق فقالوا: لا تخفروا ذمة نبيكم!. ووجد أحدهم تمرة سقطت من نخلة فأخذها، وذهب إلى الأمير وقال: هل يجوز أن نأكلها؟ ففكر وقال: قد تكون من نخل الخراج أو من نخل الصدقة، قد تكون لا، لا، اتركها، فهذا الغلو شر، فالمقصود أن من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري.

الإرجاء في عبادة الله بالرجاء

الإرجاء في عبادة الله بالرجاء ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ. وهو ما حصل لأمثال هؤلاء في القديم والحديث، حيث يعبدون الله تعالى بالرجاء وحده، وهذه ظاهرة عامة عند أكثر المسلمين، فتجدهم يُغَلِّبون الرجاء، لأن النفوس بطبيعتها مجبولة على ترك الواجبات وترك الالتزام بالحلال والحرام؛ لأنها تحب الحرية وارتكاب الشهوات، وقلة من النفوس التي تحب أن تتقيد وهنا يقع الغلو عند هذه النفوس التي تحب القيود والالتزام بها؛ ولذلك تجد أن الناس إذا ذكِّروا بالذنوب والمعاصي والنار، قالوا: نحن برحمة الله، والله غفور رحيم، فهذا مذهب الإرجاء. والمقصود: أن من استحل شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة كالمحرمات المعلومة التحريم من الدين بالضرورة، أو من حرم شيئاً مما أحل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأصر على ذلك فإنه يكفر، كما جاء في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم قال: {وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم، وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم}. فتحريم الحلال كتحليل الحرام كما نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، لأنه لا يُحِلُّ ولا يُحَرِّمُ إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إما في كتابه وإما على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] ومن فعل ذلك فإن كان فرداً فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كانت طائفة فإنها تقاتل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بَيَّنَ في كتابه حالَ المشركين الذين وقعوا فيما وقعوا فيه من تحريم أو تحليل بغير ما شرع الله وبغير ما أذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بالنسبة للأنعام والحرث والبحيرة والوصيلة والحام وغيرها.

أولياء الله وأولياء الشيطان

أولياء الله وأولياء الشيطان بدأ الشيخ حفظه الله بالكلام عن حقيقة الولاية لله عز وجل وبيّن الفرق بينها وبين الولاية للشيطان، ثم أوضح من هم أهل ولاية الله تعالى، مبيناً حالهم من حيث الدعوة والعلم والعمل، وتحمل الأذى في سبيل هذه الدعوة في أي زمان ومكان.

حقيقة الولاية

حقيقة الولاية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ وسلم عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فنسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول. إنَّ أولياء الله عز وجل هم كما قال الله تبارك وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فلا يكون الكافر ولياً من أولياء الله، فالكافر هو عدوٌ لله وهو الطاغوت ووليه الشيطان وهم حزبه وجنده وأعوانه، وكذلك لا يكون المجنون أو من يعتريه الجنون في حال جنونه ولياً لله -تبارك وتعالى- كما يزعم ذلك الصوفية الضلال وأمثالهم، وكذلك بالنسبة للصبي ومن لم تبلغه الدعوة. فنقول: إن المقصود والمراد من الآية هو الرد على من يظنون أن لله تبارك وتعالى أولياء من غير المسلمين، قد يزارون أو يقصدون في بلاد نائية، أو جبال بعيدة، أو مغارات يذهب إليها بعض الناس، فيجدون بعض العباد والزهاد، ويظنون أنهم أولياء لله وهذا من تلبيس الشيطان وتلاعبه بعقول كثير من الناس سواء من الصوفية أم غيرهم نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يثبتنا وإياكم على الحق والإيمان والسنة إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

عوام أهل السنة والجماعة هم من الأولياء

عوام أهل السنة والجماعة هم من الأولياء Q هل من الممكن أن يكون عوام أهل السنة والجماعة من أولياء الله، أم لا بد أن يكونوا علماء أو طلبة علم؟ A الحمد لله، من خلال ما تقدم نعلم الجواب إن شاء الله، وهو: أن أولياء الله -تبارك وتعالى- لا يشترط فيهم أن يكونوا علماء أو طلبة علم كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله. فالأولياء هم من عموم هذه الأمة، فمنهم: التجار، ومنهم الصناع، ومنهم الزراع، ومنهم المجاهدون، ومنهم القراء، ومنهم العلماء، فالولاية: هي إيمان وتقوى {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فكل من حقق الإيمان والتقوى فهو ولي لله تبارك وتعالى بالمعنى الخاص، وكل من آمن بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو ولي لله بالمعنى العام؛ لكن تنقص ولايته بمقدار ما يكون فيه من تقصير أو ارتكاب لما حرم الله، أو تفريط فيما أوجب الله تبارك وتعالى. والعلماء إنما يفضلون على بعض العوام بأنهم يعلمون ما جاء عن الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتفصيل، وإلا فقد يوجد في بعض العوام من قوة الإيمان والصدق والإخلاص واليقين والرغبة والرهبة والإنابة وكل الأعمال الإيمانية الظاهرة أو الباطنة كما عند العلماء، أو ما هو أكثر من بعض العلماء؛ لكن المزية: أن العلماء يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله تفصيلاً، وهذه لا شك أنها مزية، ولكن لو تجرد العلم من التقوى لم ينفع صاحبه. وكذلك العامي لو عبد الله تبارك وتعالى بغير علم بل على جهالة ولم يسأل عن دينه في ضرورات الدين لكي يتعبد بها فإنه لا ينفعه ذلك، فلا بد للعامي من العلم ولو كان عن طريق السؤال كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، والعالم لا بد أن يعمل، وإن لم يعمل بعلمه فلا خير فيه، بل هو كما ضرب الله تبارك وتعالى المثل له بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5]، وهذا من أسوأ الأمثلة. وفي مثل آخر في آية أخرى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] هذا إذا لم يعمل العالم بعلمه ولم يؤد به علمه إلى تقوى الله عز وجل، كما قال الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. فالعلماء هم الذين يخشون الله أكثر خشية من غيرهم؛ لأنهم يعلمون ويعرفون عن الله عز وجل ما لم يحط به غيرهم. إذاً: عوام أهل السنة والجماعة هم من الأولياء، ونستطيع أن نوضح هذا بشكل أكثر فنقول: إن المؤمنين هم الأولياء، وكلمة الولاية من الألفاظ الشرعية؛ فإذا قلنا: الأولياء أو الأبرار أو المتقون أو المهتدون أو المستقيمون أو أهل الجنة أو أتباع السنة أو أي اسم من هذه الأسماء أو الأوصاف الشرعية فالمعنى واحد. إذاً: فالأولياء فيهم العامة وفيهم الخاصة، والمتقون والصالحون والمهتدون منهم العامة ومنهم الخاصة، وهكذا هذه الأوصاف الشرعية تترادف، فعلى ذلك يكون عوام أهل السنة والجماعة من عوام الأولياء، وعلماء أهل السنة والجماعة -أي: العلماء العاملين- هم من خاصة الأولياء أو من علماء الأولياء، ولا إشكال في هذا إن شاء الله.

لمز الملتزمين بالدين بالجنون

لمز الملتزمين بالدين بالجنون Q جاء في كتاب كنز الدعاء أن أناساً ذهبوا يستسقون وهناك شخص يقولون: إنه مجنون، فقالوا له: ادعُ لنا، فقال لهم: أتيتم بقلوب أرضية أم بقلوب سماوية، ودعا لهم فنزل المطر! فما التعليق على ذلك؟ A عبارة [يقولون: إنه مجنون] إذن لم يجزم القائل -بغض النظر عن صحة الرواية من عدمها- بأنه كان مجنوناً، ومن يقال له: إنه مجنون، قد يكون من أعقل الخلق، بل إنَّ الملاحظ الآن والمشاهد أن كثيراً من الناس يطلقون على الشباب المتدين المتمسك المستقيم الذي يترك الحرام ويبتعد عن الشبهات والشهوات، ويخاف الله عز وجل ويقف عند حدوده يسمونه مجنوناً، ولا غرابة فقد قالوا ذلك للأنبياء وحتى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهكذا قالت كل أمة لنبيها إنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون إلى غير ذلك؛ فإطلاق مجنون قد يكون تهمة، فربما يكون هذا الشاب أو هذا الرجل من أولياء الله الصالحين المستقيمين قد اعتزل ما عليه أهل هذه القرية من ظلم، وفساد، وفجور، وانحراف فسموه المجنون، فلما أرادوا الاستسقاء والدعاء، قالوا له: ادعُ الله، فدعا الله فمطروا، ولا غرابة في ذلك. فهذا هو الاستسقاء المشروع: أن يدعو من يرى الناس أنه خيرهم أو أبرهم، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو ثم بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي زمن عمر رضي الله تعالى عنه لما خرجوا يستسقون أمر عمر رضي الله تعالى عنه العباس عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو، ثم في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه وفي جميع عصور الإسلام من السنن المتبعة أن يكون الداعي ممن يرى أنه من خير الناس وأفضلهم وأتقاهم فيستجيب الله تبارك وتعالى دعاءه، ويمطر ويسقى القوم جميعاً، فهذا لا غرابة فيه إن شاء الله. إذاً: لا تعارض مع ما تقدم من أن المجنون لا يكون ولياً؛ لأن هذا قيل: إنه مجنون وليس مجنوناً على الحقيقة، ودليل ذلك: أنه ذهب معهم ولا بد أنه تطهر وصلَّى ودعا فهذا لا يكون مجنوناً؛ لأن المجنون غير مكلف ولا يعي ولا يستطيع أن يقوم بهذه العبادات.

المفاضلة بين أهل السنة وأهل البدع

المفاضلة بين أهل السنة وأهل البدع Q ذكر شَيْخ الإِسْلامِ في بعض كتبه: أن علماء أهل السنة أفضل من علماء غيرهم، ومتكلميهم أفضل من متكلمي غيرهم، وصوفيتهم أفضل من صوفية غيرهم، أو كما قال رحمه الله تعالى، فماذا كان قصده بذكر متكلمي أهل السنة وصوفيتهم وجزاكم الله خيراً؟ A كلام شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله هذا كان في مقام المفاضلة، وليس في مقام الثناء على المخالفين، فهناك فرق بين مقام الثناء على المخالفين للسنة -فهؤلاء لا يثنى عليهم ولا يمدحون- وبين مقام المفاضلة، ويشرح هذا الكلام أنه قال رحمه الله: كل خير عند أهل الكتاب أو بقية الأديان ففي هذه الأمة منه أكثر، وكل شر في هذه الأمة أو من المنتسبين لهذه الأمة ففي أهل الكتاب والملل الأخرى منه أكثر ثم نأتي إلى هذه الأمة منها أهل السنة ومنها أهل البدع، فأي شر قد يكون في أهل السنة فهو في غيرهم أكثر منهم، فلو قارنا بين أهل السنة والرافضة الشيعة وهما القسم الأكبر في الأمة، ولهذا يقال الآن: المسلمون سني أو شيعي، ولكن القسمة في الحقيقة ليست هكذا، وإنما هي قسمة بين السنة وأهل البدع، وأهل البدع فرق كثيرة منها الخوارج والمرجئة والصوفية، والفرق هي الاثنتان والسبعون فرقة فلماذا يقال: سني أو شيعي؟ وذلك لأن تخصيص الشيعة بهذا الوصف لكثرة شرهم وفتنهم وبلائهم على الأمة، فجرى العرف على أن الأمة لا تخرج عن أحد هذين الوصفين، ولهذا لا تصلح كلمة سني في مقابل الشيعي، ولا تكون بهذا مدحاً لأنه قد لا يكون شيعياً، ولكنه على بدعة أخرى، وكذلك قد يكون صاحب معاصٍ وفجور وإن كان منتسباً لـ أهل السنة. فاصطلاح أن كلمة سني مقابل كلمة شيعي؛ هذا اصطلاح في الكتب وفي الواقع، فإذا قارنا بين أهل السنة وبين الشيعة؛ فإن عند الشيعة كل ما عند الطوائف من الأوصاف فـ الشيعة فيهم المتكلمون، وفيهم الصوفية وفيهم العباد إلى آخره، وكذلك السنة بهذا المفهوم، فـ أهل السنة بمعنى الذين ليسوا شيعة نجد أن عبادهم خير من عباد الشيعة، وأن متكلمي أهل السنة خير من متكلمي الشيعة، وإن كان أهل الكلام من أهل السنة يعدون مبتدعة. لكن بما أنه ليس متكلماً شيعياً وإنما هو متكلم سني بالمفهوم العام فهو أفضل، فكل طائفة من أهل السنة وإن كان فيها ما فيها من خطأ أو انحراف أو بدع، فهي خير من أهل الرفض والتشيع مهما زعموا ومهما ابتدعوا، فهذا هو المقصود. فمصطلح أهل السنة يطلق بمعنيين: المعنى العام: وهو كل من ليس رافضياً، وقد يقال أحياناً في مقابل أيضاً من ليس معتزلياً محضاً، أو خارجياً محضاً، يعني المتمحض بالبدعة بالكلية، فمن كان على شيء من البدعة أو مقابل هؤلاء يقال: إنه من أهل السنة وإن كان متلبساً ببدعة. أما أهل السنة بالمعنى الخاص وهم الممدوحون والمفضلون، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؛ فهم الذين لم يتلبسوا بهذه البدع، ولم يكونوا على منهج اعتقادي بدعي، وإن وقع منهم شيء من ذلك فيقع على سبيل الخطأ لا على سبيل المنهج المتبع، وإنما يقع منهم خطأ؛ لأنه ليس شرطاً ليكون الرجل من أهل السنة أن يكون معصوماً، فقد يخطئ، لكن هناك فرق بين من يخطئ فيوافق كلاماً لأهل البدع، وبين من يتبع أهل البدع في منهجهم الذي يعلم أنه مخالف لمنهج أهل السنة. هذا الذي يحمل عليه مثل هذا القول، أما أن يفهم منه بعضهم أن أهل السنة فيهم الصوفية وفيهم المتكلمون، وهم يقرون على ذلك وهم ممدوحون وهم من الفرقة الناجية والطائفة المنصورة فهذا فهم خاطئ، وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله بل كل واحد وليس فقط شَيْخ الإِسْلامِ لا بد أن تضم بعض كلامه إلى بعض، فلو أخذت جانباً من كلام أي واحد، فقد يظهر لك أنه خطأ أو تحكم عليه بالخطأ، لكن إذا ضم الكلام إلى بعضه فُهِمَ المقصود. فلو جئت إلى كلام شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في مواضع أخرى يتكلم فيها عن المتكلمين وعن الصوفية وما فيهم من الضلال والبدع فإنه ينتقدهم ويذمهم، ويعيبهم، ويبين ضلالهم، وانحرافهم وإن كانوا ليسوا من الشيعة، وإن كان بعضهم يدعون أنهم من أهل السنة، فلا بد للحكم على أي إنسان أن تضم كلامه بعضه إلى بعض، وأن ترد المتشابه من كلام أي أحد إلى المحكم، وهذا عام حتى في غير القرآن أو السنة، فالكلام المحكم الجلي بمعنى القطعي وهو النص تحاكم إليه ما قد يشتبه عليك، أما أن تأخذ المتشابه من كلام أي أحد، فبهذا ضل النصارى والعياذ بالله، ويمكن أن يضل به -أيضاً- أي إنسان أو يجور في حكمه على من يقرأ كلامه أو يستمع إليه.

صبر الصحابة

صبر الصحابة Q ذكرتم أن الصحابة كان عندهم قوة في تحمل الواردات، كما كان لديهم من الله فتح ما لم يكن لمن كان بعدهم، ولكن كما تعلمون قصة وقوع عمر بن الخطاب مغشياً عليه من إحدى الآيات التي كان يقرؤها في الصلاة فكيف توجهون ذلك؟ A هذا لا إشكال فيه، وإنما المقصود أن من تقرب إلى الله تبارك وتعالى وقرأ القرآن وأكثر من تلاوته وأكثر من ذكر الله عز وجل فإن الله يفتح عليه معاني الإيمان، وتجِدُّ على قلبه حقائق إيمانية، فإذا سمع الآيات من القرآن ازداد إيماناً ويقيناً، وفتح له أمور أو حقائق قد لا يستطيع أن يعبر عنها أكثر الناس، لكنه يجدها في نفسه. وهكذا كلما تفكر المسلم في خلق الله، وكلما ذكر الله، وكلما تذكر الآخرة والموت، وما أعد الله، ازداد إيماناً، وتجلت له حقائق ومعانٍ عظيمة، فمن الناس من يحتملها لقوة أعطاها الله إياه وهم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- الذين كانوا في جاهليتهم لا يُذكرون ولا يُعدون شيئاً؛ فلما هداهم الله تعالى للإيمان، أحيا الله قلوبهم بهذا القرآن فأصبحت ينابيع الحكمة تتفجر في قلوبهم، ويظهر ذلك في أقوالهم وأعمالهم وسمتهم وهديهم ودلّهم، بما لا يشك عاقل أن هذا من أثر النبوة ومن أثر القرآن. ولهذا لما رآهم أهل الكتاب في دمشق ومصر وغيرها، قالوا: نشهد أنَّ هؤلاء يتخلقون بأخلاق الأنبياء الذين يقرءون عنهم، وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، أن كانت لهم هذه المعاني وهذه الحقائق، فالصلاة -مثلاً- في مظهرها الخارجي يصلونها مثلنا ركوعاً وسجوداً، والقرآن يقرؤنه كما نقرؤه نحن إن كان مجرد أداء حروف، لكن الحقائق الإيمانية التي هي الأساس تختلف عندهم. فإذن أوتوا مع ذلك قوة التحمل، وجاء من بعدهم من التابعين فكانوا إذا وردت عليهم بعض هذه الواردات لا يتحملون، فتجد أن المعنى نفسه لو ورد على قلب أحد التابعين لسقط -مثلاً- مغشياً عليه، أو تأثر، أو قد يصاب بعضهم بشيء؛ لأن بعض الناس قد يصاب بما يشبه الجنون، أو لا يستطيع أن يتحمل، ليس لأنه مجنون، لكنه ما استطاع ذلك، وقد يعتريه ما يفقده صوابه من شدة استشعاره لهذا المعنى. فمثلاً: الوقوف بين يدي الله عز وجل خمسين ألف سنة فيقف يتذكر هذا اليوم وهذا الهول، فما يستطيع أن يتحمل، كما نشاهد في واقعنا العادي أن بعض الناس قد لا يتحمل أن يرى -مثلاً- منظر قتل أو حد قصاص يقام يوم الجمعة فيسقط، وبعضهم يراه فلا يتأثر، فالله أعطى النفوس قدرات مختلفة في التحمل. فالمهم أن أكمل الناس تحملاً في الجملة هم الصحابة ومن جاء من بعدهم؛ ولا نقول: إنهم أكملهم تحملاً للواردات، ولكن لَوْ ورد شيء مما يرد على الصحابة عليهم، لما استطاعوا أن يكونوا أكمل تحملاً، وعلى سبيل المثال ما نقل عن عمر -رضي الله تعالى عنه- إن ثبت أنه مرض أو حُمَّ أياماً لأنه سمع آيات من سورة الطور أو غيرها -مثلاً- هل هذا يناقض ذلك؟ نقول: لا، لأن هذا حالة عابرة عارضة، وإنما كان كلامنا على العموم، فالإنسان القوي الشديد قد يغلب أحياناً، وقد يضعف أحياناً ولاينافي ذلك وصفه بالقوة والشدة والتحمل. لكن الأصل في ذلك ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعامة الصحابة، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، كأنه القدر الذي يغلي من شدة ما يفتح الله عليه من معارف وعلوم وأسرار، نحن لا نستطيع أن نعبر عنها بالألفاظ التي نستخدمها، إنما ثمرة قراءة الآيات وتأملها وتفكرها وتدبرها تعطي الإنسان مثل هذه الأمور، ومع ذلك فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسقط ولم يغم عليه من أجل آية من الآيات، أما الصحابة فقد وقع ذلك لبعضهم -أحياناً- ولا ينافي الحالة العامة، أما في التابعين فكثر ذلك، ثم في من بعدهم. وهذا المشاهد في الصوفية، فقد أصبح الواحد منهم يسقط إذا سمع -مثلاً- آية، أو إذا سمع كلاماً عاماً، بل حتى صار بعضهم من شدة ضعف احتماله ورقة حسه، إذا سمع بيتاً من الشعر يسقط مغمياً عليه، يتذكر الأحباب أو الأوطان أو كذا، ويقول: أنا تذكرت الجنة، أو ينوي بهذا البيت الجنة أو دار المقام هناك؛ فيسقط. وينبغي لنا أن نقتدي بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان عليه الصحابة بقدرما نستطيع فنتفكر في آيات الله وفي ملكوت السماوات والأرض، ونكثر من ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ملأ أو خالين مع أنفسنا، وفي الحديث: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فهذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ففضل عظيم أن نذكر الله وحدنا، وفي الحديث: {إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه}. فيجب أن نقتدي بهؤلاء، ومع ذلك نقتدي بهم في قوة التحمل، فإذا قرأت آيات من كتاب الله عز وجل وحصلت لك هذه المعاني الإيمانية، فاحمد الله واثبت، ولا تضعف واجتهد أن تكون كذلك من باب: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبه بالكرام فلاح وإلا فلن نحصل على ما يرد على قلوبهم من المعاني الإيمانية العظيمة ولن نكون مثلهم في التحمل، لكن فليكونوا هم قدوتنا الذين نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحشرنا أتباعاً لهم، وفي زمرتهم إنه على ذلك قدير.

دخول الكفار إلى بلاد المسلمين

دخول الكفار إلى بلاد المسلمين Q ما رأيكم فيما ظهر في الأسواق مؤخراً من ألعاب وصور تحمل شعارات الكفر والصلبان والنجمة السداسية وغيرها؟ A لو كنا ندعو إلى الله عز وجل كما ينبغي لأسلم العالم كله إلا من كتب الله عليه الشقاوة، ومع ذلك كما ترون يأتينا دائماً من يذكرنا بعمل أعداء الله مثل هذه المسألة البسيطة -عند الكثير- هذه نجمة سداسية ملونة بعضها حمراء تأتي في بكلات الشعر، وفي الملابس، يريدون أن يغزونا، إن لم نجاهر بالكفر، فهؤلاء الكفار قبحهم الله، يرضيهم منا أن نتزيا بزي أهل الكفر، وأن نلبس شعار أهل الكفر من صلبان ونحوه، فنحن الآن مغزوون، وأصبحنا مستهدفين من هؤلاء الكفار حتى في الشعائر الظاهرة. وهذه ألعاب على صورة ملونة وجميلة من الممكن أن يجعلها الذي لا يدري بروازاً، ويعلقها، مع أنها وهي صورة كنيسة، والصليب واضح فيها ومع ذلك تدخل البلاد وتنتشر. وأنا أكرر وأقول: لا نقول المؤاخذون هم الجمارك فقط، أو الرقابة فقط، فهؤلاء جزء منا، فالتقصير عام، ويجب أن نعلم ذلك جميعاً. وهناك دعاية واضحة للكنيسة الألمانية الغربية، -فلم يخفوا حتى الكتابة؛ لأنهم أمة تدين بهذا الدين- جعلوا شعارهم الكنيسة، وكتبوا ذلك، فهي بضاعة لها شعار مقصود ومتعمد أن يكون رمزاً لدعوة كنسية، فهل اللوم على صاحب الدين الذي يريد أن ينشر دينه؟ أم اللوم على أهل الإيمان وأهل التوحيد الذين طمع فيهم الطامعون، وجعلوهم هدفاً لنشر دينهم وملتهم؟ ومثل هذه النجوم السداسية التي تأتي على الملابس وتوضع في بكلات الشعر وتوضع في أي شيء فيجب أن نحذر منها؛ لأنهم يبدءون بالشعار ثم ينتقلون إلى الشعائر بعد ذلك. كذلك جاءتني هذه الرسالة وتحتوي على صورة، وعلى رسالة، وهذه الصورة يزعمون أنها للمسيح عليه السلام، وأتوا بكلام من الكلام الذي نقرأ منه أحياناً -كما لا يخفى عليكم- تقول الرسالة: يا ابني الحبيب الغالي، سلام مني، أنا ملك السلام، أنت لا تعرف اسمي، هذا هو اسمي: عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، أنا الرب. ولو تتبعتم بشائر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأناجيل لوجدتم أنه هو الذي يدعى مشيراً وعجيباً. لكنهم جعلوا هذه الصفات للمسيح، وأدخلوا معها كلمات إلهاً ورباً وقديراً إلى آخره، وآخر التوقيع بالخط الكبير أنا الرب يسوع المسيح، تعالى الله عما يصفون كما قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] الإله يأكل الطعام! ومن أكل الطعام فإنه يحتاج إلى الخلاء! لا يمكن ذلك للإله أبداً، ولذلك أول ما أنطقه الله قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] لا ألوهية فالله تعالى بيَّن لنا هذا، ولكنهم يزعمون ذلك. والمهم أن ذلك مما في الرسالة ولا نطيل بقراءتها، فالأربع صفحات منها تشتمل على تعليمات، مفادها في آخرها أن يؤمن العبد بأن الرب هو يسوع المسيح، ملك الملوك، ورب الأرباب، خالق الكل تعالى الله عما يشركون، ما أضل عقول النصارى وما أسفه أحلامهم!! وذكر ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان أن أحد ملوك الهند قال: إن النصارى سُبَّةٌ وعار على الإنسانية عموماً، مع أنه من حكماء الهند وما كان على دين كتابي؛ لكن العقل يرفض أباطيلهم وخرافاتهم فكيف يقولون إنه هو الله والرب، ثم يقولون: إنه ولد ونشأ طفلاً ثم في النهاية صلب وقتل، ويرضى أن أعداءه يتسلطون عليه ويصلبونه. وبعد ذلك يقولون: إنه وهو على الصليب قال: إيلي إيلي لماذا سبقتني؟ ومعناها: إلهي إلهي لم تركتني، لم تخليت عني؟ إذاً هذا عبد مخلوق؛ يقول: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ على كلامهم وإلا فعيسى عليه السلام لم يصلب، كما قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، والذي صُلب هو رجل شبه لهم أنه المسيح؛ لأن جند الرومان ما كانوا يعرفونه، فلما رفع الله المسيح وألقى شبهه عليه قالوا: هذا هو المسيح فذهبوا به، فهو عبد كأي عبد لله وهو يتأوه على الصليب وعند ما أرادوا قتله كان يقول: يا آلهي لماذا تركتني؟ يدعوا الله كأي إنسان حتى لو كان كافراً يدعو، فهذا الذي يقول: إلهي إلهي لم تركتني؟ يقولون: إنه رب الأرباب وخالق الكل، وأعداؤه سلطوا عليه وقتلوه! تعالى الله عما يصفون! وبعد ذلك يقول: وضعوه في القبر ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام خرج، سبحان الله! من كان يدبر أمر السماوات والأرض ويرزق ويعطي ويمنع، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، في خلال هذه الثلاثة الأيام، وهو في القبر وهو فوق الصليب يشكو، سبحان الله عما يصفون!! فالمقصود أن هؤلاء النصارى لا يتورعون، ويرسلون هذه الأوراق إلى أي أحد، وأرسلوا -أيضاً- مع هذه الصورة صورة آخر اللحظات عندما كانوا يضعون الصليب ليصلبوه، وجاءوا بكلام من الإنجيل في ظهرها. وطباعتها طباعة أنيقة كيف أنه في "لوقا" قال المسيح: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك. وكيف أنهم لما سألوه: احضروا شهود الزور، قال رئيس الكهنة: هل أنت المسيح ابن الله؟ فأجابه: نعم، فحكموا عليه بالموت، فيقول: تفرست جارية في بطرس، فقال: إنك مع يسوع، فخاف بطرس، فأنكر يسوع ثلاث مرات. فانظر سخافة العقول، بطرس كبير الحواريين باتفاق جميع طوائف النصارى، ورئيس الحواريين وأكثرهم التصاقاً وقرباً من المسيح عليه السلام فينكر معرفته به ثلاث مرات ويتنكر له، ويقولون: إن المسيح قال له قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات فوقع ذلك، فهم يستدلون بذلك على أن المسيح يستطيع أن يعرف أو يعلم ما سيكون أو أخبر بشيء فوقع، ولكن ما هو الذي وقع على فرض أن هذا وقع؟ يقول: لكبير حوارييه وأصحابه قبل أن يصيح الديك تنكرني وتتبرأ مني، فالنتيجة أن هذا لا يصلح أن يكون حوارياً، ولا يصلح أن يكون من المقربين لدى عيسى عليه السلام، بغض النظر عن قضية دعوى الألوهية. فهذا طعن إذاً في الحواريين؛ لأنه أنكر علاقته به خوفاً من أن يصلب، وقال: لا أعرفه، فهذا ليس من مقامات المدح بل هو في مقام الذم والطعن والتنقص، لكن هؤلاء لا عقول لديهم، إنما القضية عندهم تقليد واتباع، فإذا كانوا بهذه المنزلة وبهذه العقلية وطمعوا فينا، فمعنى ذلك أنهم يتصورون أنه ليس لنا عقول لو آمنا بهذا الكلام الذي لا يقبله عقل. فلهذا قال لهم زويمر: لا تطمعوا أن تخرجوا المسلمين من الإسلام فتدخلوهم في نور النصرانية فهذه درجة عظيمة لا يستحقها كثير من المسلمين، لكن يكفيكم أن تخرجوهم من دينهم، وأن تجعلوا المسلم بلا دين فإن عمل فلشهواته، وإن جمع المال فلشهواته، وإن رضي فلشهواته، وإن غضب فلشهواته في كل شيء، فيكون مسلماً بالاسم لكنه بلا دين. فيكفي من المنصرين هذا العمل وهذه المرحلة الأولى التي يراها المنصرون أكثر ما يُعمل، وهي إخراج المسلم من دينه، والمرحلة الثانية: إدخاله في النصرانية، هذه مرحلة لاحقة فيما بعد. فهم إذن يحقروننا، ولا يرون لنا عقولاً وإلا لما كان سفهاؤهم هؤلاء يطمعون في أن ينصرونا، ولذلك هل طمعوا فينا أيام قوة عقيدتنا وإيماننا؟ والله ما طمعوا بهذا الشكل أبداً.

نظرة الغربيين للإسلام

نظرة الغربيين للإسلام هذا أحد الإخوة الغيورين نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يبارك فيه، وأن يكثر من أمثاله من المقيمين في فرنسا، كتب هذه الرسالة المطولة عن نظرة الغربيين للإسلام، وما جمعه من حقائق حول ذلك، منها: السعي الغربي لتذويب المسلمين فيه باسم الاندماج، ومنها مظاهر العنصرية الدقيقة جداً، وعلى أبسط صورها، ومنها: الجار الغربي واختلافه عن الجار العربي، أو أسلوب التعليم إلى آخر الأشياء التي جمعها جزاه الله خيراً، وتدل على ما يكنه هذا الغرب للإسلام والمسلمين. ولا يخفى عليكم الآن، وكلنا نعلم ذلك أن الغرب الذي يفتخر أنه عرف العدالة والحرية، والمساواة، ومعاني الإنسانية، الآن من إيطاليا إلى أسبانيا إلى فرنسا إلى بريطانيا يغيرون قوانين الهجرة وقوانين الإقامة ليضيقوا على المسلمين، وليسلموا المسلمين إلى من يطلبهم من حكوماتهم، كيف يسلم فلان من أمريكا؟ وكيف يسلم فلان من ألمانيا؟ والقانون لا يسمح، فليغير القانون، فالغرب الذي يفتخر بأنه قانوني أو نظامي وأنه لا يتعدى القوانين والأنظمة، وأنه لا أحد فوق القانون، ولا شيء فوق القانون -كما يزعمون- لكنه يغير القانون، إذا كان في تغييره تحقيق مضرة بالمسلمين أو بمسلم أو بداعية من دعاة الإسلام {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] والأخص منهم المتسلطون وأصحاب الرأي وأصحاب القرار، وإلا ففيهم لا شك من ينكر ذلك، لكن الأغلب وأصحاب القرار والمتنفذين هم بهذه الصفة كما نسمع هذه الأيام. ومن تشنيعهم وتشهيرهم أنهم ينشرون مثل هذه الصورة المزرية، صورة نوع من القردة، وهو لابس عقالاً عربياً وبيده خرطوش الأنبوبة (البنزين)، يعني أن العربي عندهم وفي نظرهم قرد كالح الوجه يلبس هذا العقال الذهبي، ورأس مالهم هذا البترول، وطبعاً رأس الأنبوبة ليس بنزيناً، إنما هو عملات ورقية، أي: أن أكثر الفئات قيمتها عشرون دولاراً، أو خمسون، فالمهم أن هذا هو العربي أو هذا هو المسلم في نظر الغربيين. فهذه الصورة صورة عادية عندهم، ونجد الآن في المكتبات لديهم أنها تباع ككروت مراسلات طريفة، فيمكن اختيارها وإرسالها إلى زميل، ليضحك إذا رآها ويرفه عن نفسه، وأن هؤلاء هم العرب وهؤلاء هم المسلمون، وقد قرأنا قبل فترة في إحدى الجرائد المحلية مقالاً بعنوان "عاصمة النور" وإذا به يتكلم عن باريس عاصمة النور -كما يسمونها- وهي بلاد الفسق، والدعارة، والكفر، والظلمات، والفجور، فهذه هي عاصمة النور!! فأي نور جاءنا من الغرب؟! ومتى؟ وفي أي مرحلة من تاريخنا جاءنا النور من الغرب؟ ما جاءتنا إلا الحروب الصليبية، وما جاءنا إلا الاستعمار القديم، والآن يأتينا الاستعمار الحديث وهو أخبث الثلاثة، أما النور فما رأينا أي نور على الإطلاق جاء من الغرب، وإنما يسمي الغربيون باريس عاصمة النور في نظرهم، لأن الثورة الفرنسية قامت ونادت بأن الناس سواء، وأن لهم حقوقاً متساوية، وألغت بعض الظلم الموجود، وهذا أمر معلوم عندنا. فحتى العرب في جاهليتهم لم يكن عندهم صورة من المظالم، كتلك التي كانت في أيام الإقطاع في أوروبا، بل كان العربي يأنف أن يستعبده أحد، أو يذله، ويقاتل عن حريته إلا إذا أُسِر فهذا مغلوب على أمره، فالنظام الإقطاعي البغيض الفظيع بمظالمه وظلماته التي كانت في أوروبا، لم نعرفه في جاهليتنا، فما بالك بعد أن منَّ الله علينا بالإسلام، وأنار قلوبنا، وحَرْرْنا العالم بالإسلام، والحمد لله. ولو أنصفوا لعلموا أن الثورة الفرنسية التي لم يمر عليها إلا 200 سنة وقليل من السنوات، إن كانت دعت إلى خير أو إلى مساواة أو إلى عدالة، فهي جزء من تأثرهم بالإسلام، ولا شيء غير ذلك، والمسلمون علموهم ذلك، لكنهم ينكرون ويجحدون كل فضل، ويصورونا بهذه الصورة الشنيعة. وحتى لا نظلمهم، فهل يقصدون بهذه الصورة الشنيعة صورة الإنسان المسلم دائماً وأبداً؟ لا ندري ولا نجزم، لكنهم يقصدون أقرب شيء يحتجون به على الإسلام أو على المسلمين وهو واقع المسلمين المعاصرين الآن، فلا نقول: إنهم يريدون بهذه الصورة الصحابة أو الجيل الأول أو الثاني ولا نستطيع أن نجزم، لكن الجيل الحاضر الآن هو الذي تنطبق عليه الملامح وتنطبق عليه الملابس التي صوروها وجعلوها. ولنا دور كبير جداً، في الإساءة إلى أنفسنا وإلى ديننا، وكما قال الشاعر: ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل هكذا قالت العرب في حكمتها: ذموه بالحق وبالباطل؛ لأنه دعا الناس إلى ذمه، فمن يذهب إلى تلك البلاد -وهم كثير خاصة في هذه الأيام، وقد قلنا: ذكِّروا الناس وعِظُوهم من السفر إلى بلاد الكفر- فإنه يدعو الناس إلى أن يذموه، وأن يذموا بلاده، دينه وحضارته وتاريخه بما يفعل من موبقات. إن سكر الغربي قليلاً فيسكر هذا أضعافه، وإن زنا الغربي أحياناً، فهذا لا يذهب إلا ليزني -والعياذ بالله- ولا نتكلم عن الأخيار الذين يذهبون لغرض شرعي محدود، وهذا قليل، ولكن أقصد من ذهب وهذا حاله فهم يتفننون؛ بل نقول: يخرجون عن الحدود المألوفة حتى في الفجور والفساد، والفسق، والكفر، ولدى كل واحد منهم مجموعة من الشيكات أو حزمة من الدولارات، وينفق ويبذِّر ويتلاعب كما شاء، والعالم المتحضر حين يرى هؤلاء تتحسر قلوبهم. ولذلك لا نقول: أين الضمير الغربي عندما يرى أموالنا تهدر، وعندما يأخذ خيراتنا، ويسيطر على كل مقوماتنا، لا نقول: أين ضمائرهم؟ لأننا -يا أخي- نحن سلبناه ضميره، فأي ضمير عنده؟ لو رأيت مجنوناً أو طفلاً أو عابثاً يرمي الذهب ويكسره، أو يقطع الريالات ويرميها، لقلت: أنا آخذها وأستفيد منها، أو أعمل بها مشروعاً خيرياً، أو أي شيء أحسن من هذا العابث اللاعب، فأعمالنا وتصرفاتنا هنالك تغريهم بأن ينسوا ضمائرهم وأن يتخلوا عنها. ثم أي ضمير يبقى مع الحقد الذي تؤججه وسائل الإعلام ليلاً ونهاراً؟ وأي ضمير يبقى مع الدعاية الصهيونية والصليبية العريضة التي تلبس كل جريمة ثوب الإسلام؟ فإذا قبض على مجرم في نيويورك أو في أي مكان قالوا: متطرف إسلامي. فكم مجرماً سمعتموهم قبضوا عليه ونسبوه إلى دينه؟ قبضوا على بعض المجرمين في مصر، مع أنهم جاءوا إلى مصر في عمل تنصيري خبيث، وكان من جملة ما يعملون، أنهم يوزعون مصاحف محرفة فيها تغيير الآيات التي فيها المسيح وغيره، ليوافق دين النصارى ويوزعونها بين الجهال في مصر، واكتشفوا القضية ثم سفروهم وانتهى الأمر؛ وكأنه لم يحدث شيء. ولم يقولوا: إنهم كفار بروتستانت أو نصارى أو كذا، وإنما: مجموعة من الأمريكان، وكانوا كذا، وانتهى الأمر، سبحان الله! حتى الجرائد التي نشرت هذا الخبر ليست من الجرائد الرسمية إنما هي إحدى الجرائد المعارضة -كما يسمونها- الوفد أما نحن فنلبَّس ذلك. حتى إن واحداً منهم في إحدى المجلات الإسلامية انتقد هذا، وكان عنده شيء من العدل، وقال: إن تحميل المسلمين لحادث تفجير المركز التجاري العالمي -جميع المسلمين- ذلك يشبه كما لو أن كوروش حمل النصارى جميعاً ما عمله، وقال: لماذا نحمّل الإسلام؟ ليس من العدل. فهكذا هم، ونحن الذين دعوناهم إلى مثل ذلك، ونشكر الأخ الذي أرسل هذه الرسالة، ونرجو إن شاء الله أن يوافينا بالمعلومات الأكثر؛ لأننا في حاجة أن نعرف هؤلاء ونعرف كيف نقاومهم، وكيف نجابههم، خاصة من فرض عليه أن يقوم هنالك؛ لأن الإخوة هنالك يقولون: كيف نعمل؟ وكيف يمكن أن نقاوم هذا؟ ونحن يجب علينا أن نمدهم بأي شيء نستطيعه، ليدرؤا الشر هناك في منابعه، وليروهم صورة الإنسان المسلم الطاهر التقي العفيف الورع الحكيم الذي لا يسرف في نفقته، وفي ماله، وفي مظهره ولا يقتر، نريد أن يروا الصورة الحسنة للإنسان المسلم، فيسلم منهم كثير بإذن الله، وهذا شيء طبيعي جداً أن يتقبل كثير منهم بإذن الله الإسلام، إن رأوا هذه الأخلاق -أخلاق النبوة-، فمن الواجب أن يكون بيننا هذه الصلة وهذا التعاون.

تسلل الصليب إلى أطفالنا

تسلل الصليب إلى أطفالنا نشرت جريدة المدينة يوم الخميس 25/ 1 / 1414هـ مقالاً بعنوان " الصليب يتسلل إلى أطفالنا " ونقول: الحرب ضد الإسلام والمسلمين تزداد عنفاً، والأعداء لم يتركوا وسيلة إلا واستخدموها لهدم عقول المسلمين في كل مكان، حتى الأطفال لم يسلموا من هذا الغزو، فشعار الصليب كما هو واضح تم إقحامه على لعب الأطفال في أسواقنا. إن الأمر يحتاج إلى وقفة صادقة لمعرفة المسئول عن هذا التهاون. وهو كما ذكرت، ونشكر الجريدة والأخ المحرر الذي اهتم بهذا، ويجب أن نعلم أن مهمة الإعلام هي حماية العقيدة أولاً، ثم حماية الخلق وحماية كل مصالح الناس أيضاً بعد ذلك، لكن الأساس هو العقيدة.

تنمية المواهب والقدرات

تنمية المواهب والقدرات Q لماذا لا يكون هناك محاضن ومراكز تهتم بأصحاب المواهب والقدرات وتنميها كما هو الحال عند الغرب؟ A أنا أشكر كل الإخوان الذين يتقدمون باقتراحات أو آراء حتى إن بعض الإخوان أحياناً يتقدم باقتراحات ليس لي دخل فيها ولا أستطيعها، فمثلاً: قد يكون هناك اقتراح تعنى به -مثلاً- شؤون الحرمين أو أي إدارة أخرى، فالمهم أن الذي يفكر ويهتم بالإصلاح هذا فيه خير. ولعل هذا الاقتراح إن شاء الله يصل إلى من يهمه الأمر، فينفع الله به، وإن كان -مثلاً- غير عملي أو لا يمكن فعله فأجر من قدَّمه وأيضاً من قرأه يكتب إن شاء الله، فمثل هذا الأخ اقترح اقتراحاً -جزاه الله خيراً- في تخصيص محاضن تعتني بأصحاب المواهب، ويريد تنمية أصحاب المواهب والقدرات، وكيف أن هناك في الغرب الكافر المتمرد على الله، ويرى تكريمهم لأصحاب القدرات وأصحاب المواهب، ونحن أولى بالتكريم منهم، والحكمة ضالة المسلم فأنَّى وجدها فهو أحق بها، فهو يقترح صورة معينة وقد تكون هناك صور أخرى حول قضية كيف نستفيد من هذه المواهب. ولا توجد أمة في العالم لديها من المواهب والطاقات العقلية ما لدى هذه الأمة، وإن شئتم أن أضرب مثلاً على ذلك، فلنفرض أننا وهم سواء -ولا أقصد العنصرية- من الناحية الجسدية والتكوينية، فإننا سنتميز عليهم لأننا لسنا مثلهم لأن الخمر والزنا وفقدان الأم والأب تأخذ من عقولهم وأفكارهم كثيراً جداً، فالطفل عندهم ينشأ بلا تربية أسرية سليمة وبلا تربية اجتماعية قويمة، ثم يدمن على الزنا والعياذ بالله، والفسق، والفساد، والمخدرات، والخمور لسنوات من شبابه، وقليل منهم من يسلم من هذا، أو يسلم له عقله. إن هذا الذي يشتغل بنصف عقل أو بربع عقل وبهذه التربية المنحرفة أنّى يكون أفضل من أمة لديها -والحمد لله- تربية قويمة مهما كان عندنا من خلل، فنحن أفضل منهم من جهة التربية، ومهما كان عندنا في التربية الأسرية من انحرافات أحياناً، فنحن أفضل منهم على أية حال وعلى أية صورة، نحن أفضل من الغرب في الجملة، لا نعني آحاد الناس، ونحن -والحمد لله- نخطط ونفكر بعقل كامل، فكيف يغلبنا هؤلاء. المشكلة أننا نملك طاقات مهدرة ضائعة فمن ينميها ويربيها ويكتشفها؟! هذه هي المشكلة، فالنابغ مظلوم، وأحياناً نقول بلسان الحال إن لم نقل بلسان المقال: لا نريد النبوغ، فلنأخذ مثالاً صغيراً محدوداً: فمثلاً المدرسة أحياناً يكاد المدرس يقول: لا أريد أن يكون من طلابي من يرد عليَّ ويصحح أخطائي، أنا لا أريد طلاباً نابغين، بحيث إنه يكتشف أخطائي ويلاحظ علي، وكلما كانوا وسطاً أو أغبياء كانوا أحسن لي، والمدير -أيضاً- يريد أن يكون المدرسون كلهم -أيضاً- أغبياء أو وسطاً، حتى لا يكون هناك من هو أفضل منه. وكذلك -مثلاً- رئيس إدارة أو شركة لا يريد أحداً أن يأتي برأي أفضل من رأيه، فكأننا نقول: لا نريد النبوغ والنابغين! فيأتي أحدهم برأي جديد كتطوير فكرة معينة، فيقال له: هذا كلام فارغ ولا يصلح! ودع كل شيء مثلما هو! إياك أن تطور شيئاً! وإياك أن تُبدع، أو تفكر، أو تقترح، اتركه كما هو، ودع الأمور تسير مثلما هي، مهما كان فيها من الأخطاء! هذه مشكلة ولا يمكن أن تنهض الأمة وهذا حالها، وهذا شأنها، أما لو فتح المجال للإبداع وللفكر، وقيل لصاحب الفكرة نشكرك يا أخي الكريم مثلاً أو يا بني، أو يا تلميذي، أو يا أخي، أو يا زميلي في العمل على الفكرة، لكن -مثلاً- لا نستطيع أن ننفذها لهان الخطب، لكن مع هذا، فينبغي أن تشكره لأنه فكر. فنحن من ضيق أفقنا، وضيق تفكيرنا أصبحنا نضيق وننفجر بالضحك بمجرد معرفة الاقتراح وأنه لا يوجد بل ولا نريد تغيير، بل ربما يصل الأمر إلى الاتهامات وتركب على الشخص ألف تهمة، فنقول لهؤلاء: إن لم يعجبك الاقتراح -على الأقل- فلا توجد مشكلة، اسمعه وافتح صدرك له ولغيره من الناس، وفكر بعقل غيرك لا بعقل واحد تريد أن تسيِّر عليه كل الإدارة. ولذلك الغرب الخبيث الكافر المارد، وبالذات أمريكا تفوقت على غيرها لأنها لا يهمها أن يأتي هذا العقل من أي بلد، اذهب إلى مستشفياتهم ومؤسساتهم، تجد الصيني والهندي، والأفريقي، والمصري، والتركي، والياباني، والألماني، وكل جنس تجده في أمريكا في الأمور المهمة الحساسة القوية العميقة، سبحان الله! لم يُنَمِّ المواهب التي عنده فقط، بل يشتري العقل من أي مكان، ويغريه بأعظم الإغراءات، وأي طالب يأخذ الامتياز، ويتخرج بدورة الامتياز، فيحق له أن يأخذ الإقامة الدائمة، ويبقى عندهم لأنه أخذ الامتياز. ونحن نستغرب من تلك الأمة تريد أن تتفوق، وتحرص على الامتياز، وعندها من أبنائها من يكفي ومع ذلك أعطت المجال لقير أبنائها أيضاً، لأنها تريد أن توظف هذه الخبرات لها في باطلها وفي كفرها وفي كبريائها وفي تسلطها على عباد الله، فنحن أولى بذلك. فالمهم أنه اقتراح جيد ونشكر كل أخ يحاول أن يقترح ليطور الدعوة، ويحرك التطوير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي النواحي العلمية، وفي المجالات التربوية، وأكثرنا له علاقة بالأمور التربوية إن لم يكن مدرساً فبدعوته، فكل داعية هو مربٍ إلى أن يطور فكره لكي يعمل أفضل. والحكمة ضالة المؤمن فعسى أن يفتح الله تبارك وتعالى عليك بأمر، وكم من أفكار عظيمة تتبناها مجالس عليا أو قيادية انبثق أصلها من فكرة إنسان عادي جداً طورها ونقحها، ثم قدمها إلى من أضاف إليها أو عدل فيها حتى صار لها قيمة وفائدة.

وثيقة جون ميجور

وثيقة جون ميجور هذه الوثيقة لـ جون ميجور تكلمنا عليها فيما مضى، فالنص الإنجليزي موجود، ولا نجزم بالنص، ويمكن أن نقول: إن الوثيقة مزورة، فنحن لا يهمنا أن نجادل أنه كتب هذا الكلام أم لا، لكن هل لهذه الحقائق واقع أو لا؟ هذا الذي يهمنا. ما قيل في هذه الوثيقة هو حقائق واقعية وهذه مجلة المجتمع وغيرها نشرت هذا وهو منشور أصلاً في صحيفة ليليان البسنوية، والمصادر التي نسبت إليها هي مصادر إسلامية استطاعت أن تصل إلى هذه الوثيقة، فعلى أي حال هذا جزء مما تحدثنا عنه آنفاً في أن العدو عدو ولا تلمه. وهذا عمر أبو ريشة عندما قال: لا يلام الذئب في عدوانه إن يكنِ الراعي عدو الغنم وهي قصيدة معروفة بعد الهزيمة التي يسمونها النكسة أو النكبةومطلعها: أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم فلا تلمِ الذئب؛ لأن الذئب إنما خلقه الله، وكانت له تلك الأنياب والمخالب ليفترس، وإنما المشكلة فينا نحن أننا فرطنا، وجعلنا أمتنا فريسة لهؤلاء في البوسنة أو في أي مكان.

القرارات الدولية والكيل بمكيالين

القرارات الدولية والكيل بمكيالين وفي الصفحة الأخرى من مجلة المجتمع نقرأ تأديب عيديد وتدليل كراديتش. وهذا شيء عجيب جداً أن نتعاطف مع عيديد، وعيديد علماني مهما قال: الإسلام أو الجهاد، فالمصلحة بالنسبة له هي نفعية، ولكن حتى على معيارهم هم، لماذا هذه المعاملة غير المتوازنة؟ فهذا يجب أن يقبض عليه ويؤدب وأن يفعل به وهو في بلده، وأما ذلك فيخالف القرارات الدولية، والشرعية الدولية والإجماع الدولي ويتحدى الجميع، ويدلل، فكل مرة تأتي خطة أفسد وأضعف مما قبلها، وتعطي الفرصة. لكن قضية المسلمين في البوسنة والهرسك تثير العجب، ولو تأملت أي نشرة أخبار أو تصريح غربي، أو أي كلام على ما سوف يفعلونه، لوجدت فحوى الكلام دائماً كالذي يقول: أيها الصرب عجلوا عجلوا ما فعلتم شيئاً، انتهوا سوف نعقد مؤتمراً، نجعل كذا، ونجمع كذا، ونقرر. كل هذا وكأنهم يقولون للصرب: هل انتهيتم من المسلمين؟! فيقولون: ليس بعد، فيقولون: حسناً نغير الخطة، ويدعون المسلمين إلى خطط أخرى ومؤتمرات، ثم يقولون بلسان حالهم: هل انتهيتم منهم أيها الصرب، فيقولون: تبقَّى القليل، فيدعونا الغرب من جديد إلى مؤتمرات وحلول وخطة أخرى وهكذا، ونحن المسلمين لا نعمل شيئاً إيجابياً. إن مشكلتنا من أنفسنا، والله تعالى قال عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فمشكلتنا في البوسنة والهرسك من عند أنفسنا. وليست المشكلة وليدة الآن، فعندما دخلت الجيوش التركية فاتحة، وفتحت تلك البلاد، بدأ الخطأ من تلك الأيام، فالحرب بين الصرب والترك قديم، وتدخل الإنجليز والأوربيين فيه قديم، ولو قرأنا تاريخ البوسنة فسنجد العجب كله، وإن ما يدور الآن هو صفحة من ماض، على وتيرة واحدة، وعلى منوال واحد، وعلى منهج واحد، والسبب فيه هو نحن أصلاً. فلم يدخل العثمانيون والأتراك فاتحين مسلمين بالمعنى الكامل الصحيح، إنما كانوا يقاتلونهم فإذا غلبوهم دعوهم في الجملة إلى الإسلام، وإلا بقوا مسيطرين عليهم بالقوة، ويقي أولئك على دينهم. وإلا فـ اليونان والبلقان ويوغسلافيا هذه الجمهوريات وما حولها وجزء كبير من الدول الشرقية ورومانيا كلها دخلها العثمانيون فاتحين، فلو نشروا العقيدة الصحيحة واللغة العربية وأدخلوا الناس في دين الإسلام، لكانوا مسلمين جميعاً. حكومة مسْلِمة تحكمهم (400) سنة ثم تخرج عنهم، فإذا بالمسلمين أقلية!! نحن أصلاً ما كنا حملة عقيدة، ولا حملة رسالة بوعي. صحيح أن الدولة العثمانية كانت دولة قوة وجهاد لا ينكر ذلك أحد، والحمد لله أنها دفعت شر أوروبا فحولت المعركة من بلاد الشام ومصر، إلى أن صارت المعركة في قلب أوروبا نفسها، وهذا لا شك عمل كبير. لكن المشكلة أن الجهاد بلا عقيدة ولا علم ولا فقه لا يصلح، لا للأمم ولا حتى للأفراد. فالجهاد لا بد أن يكون على عقيدة وعلى علم، وعلى معرفة تفصيلية بما أنزل الله تبارك وتعالى، كما جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد أصحابه، فيفتحون البلاد وإذا بهذا البلد المفتوح، يفتح الله قلوب أهله، فيدخلون في دين الله أفواجاً، ويأتون إلى هؤلاء الرجال الأخيار يتعلمون منهم الدين، ثم ينشرون هم الدين، ويصبحون مجاهدين ولكن قوة الحديد والنار والسيطرة العسكرية وحدها لا تدوم إلى الأبد، وهذا ما وقعت فيه الدولة العثمانية من خطأ كبير. فلما جاءت الشيوعية وجاء تيتو صديق العرب!! وانظروا من أصدقاؤه من العرب: جمال عبد الناصر، وحزب البعث، وأمثالهم ممن بعضهم باقٍ وبعضهم أهلكه الله. وتيتو هو الذي قتل المسلمين في يوغسلافيا، ومحا معالم الإسلام أيضاً. كوشيجين وخرباتشوف واستالين الذين فعلوا بالمسلمين ما فعلوا في روسيا. ونيريي الذي قتل المسلمين في زنجبار، ونهرو الذي فعل بالمسلمين في الهند وما حولها ما فعل، ومكاريوس الذي قتل المسلمين في قبرص، وأعداء الإسلام جميعاً كانوا كلهم أصدقاء للقومية العربية. فالمقصود من الحديث أن ما بنا فهو من عند أنفسنا فعلاً، فقد صادق القوميون العرب أعداء الإسلام، وأعانوا على قتل إخوانهم المسلمين، وأمدوهم بالمال وبكل أنواع العلاقات. وأبيد من المسلمين من أبيد، وفرقوا ومزقوا، ثم لما ذهبت الشيوعية وتهاوت -لا ردها الله- وأخذ المسلمون يبحثون عن الذات، والعالم كله بدأت فيه عودة إلى الدين، أراد المسلمون أن يرجعوا إلى دينهم، وقامت لهم دولة اعترف بها العالم، فكانت المأساة وبدأنا ندفع ضريبة قرون وعقود من المآسي والجهل والانحراف والضياع. وأحدنا يتعجب من الكروات! لم يصمدوا أمام الصرب ولا ساعات، والمسلمون الآن سنة وهم صامدون شيء عجيب، وهم بهذا الضعف وفيهم هذا الانحراف وهذا الخلل، وهذا القصور، وهذا التمزق، فلو أننا أمة مؤمنة حقاً، لكان من يقاتل الآن في البوسنة في إمكانه أن يهزم أكبر جيش أوروبي، وأن يفتح أوروبا بإذن الله؛ لأن قوتنا نحن في عقيدتنا وفي إيماننا، كما قال عمر رضي الله عنه: [[إنما يغلب المسلمون أعداءهم بتقواهم وإيمانهم، وبكفر أعدائهم، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم فضل علينا في القوة]]. فسبحان الله! انظروا هذا الصبر العجيب للبسنويين الآن وهذا الصمود وأحياناً تتحقق لهم انتصارات، وهم في أول طريق العودة والأوبة إلى الله، وهذا هو السر المزعج الذي يزعج الغرب، ويجعله يفقد توازنه. فنجد أن كراديتش مجرم الحرب قد قتل من جنود الأمم المتحدة قرابة (50) فرداً، ويمنع قوافل الأمم المتحدة من المرور ويطلق عليها النار كل يوم، ومع ذلك يتنقل بين عواصم العالم ويستقبل كزعيم يقابله الممثلون الدوليون وكأن شيئاً لم يكن. وهذا عيديد عندما قتل مجموعة من الباكستانيين، هرب الأمريكان، فصار المسلم يقتل المسلم ولم نستفد شيئاً، لكن مع ذلك لم يقتل عيديد جنود الأمم المتحدة، فإذا به يضرب ويُدمر، وأصبح يُقْتل حتى العوام في الصومال، وحتى المستشفى يدمر؛ لأن النار أطلقت على جنود الأمم المتحدة، والذين في البوسنة أليسوا جنوداً للأمم المتحدة، فانظر كيف المعيار. إن أعداء الدين يعرفون خطر هذا الدين، وأن خطره عليهم يكمن في العقيدة وفي الجهاد وما يسمونه الأصولية والتطرف، فعندهم هيبة ورعب يقذفه الله تعالى في قلوبهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} وهذا ليس لشخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسب بل لجيوشه ولكل من يدافع لنصرة دينه، وذلك مثل ما جاء في الحديث {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً}. هذا أيضاً من آيات الله ومن فضل الله ومن مزايا هذه الأمة وتفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو له ولهذه الأمة كلهم. والمقصود أن هذا جانب من جوانب الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الأعداء. كما أنهم يمتلكون قوة حقيقية غريبة لا يستطيع الكفار أن يواجهوها، وإلا فلماذا يذهب الشاب المسلم إلى أمريكا ويدعوا إلى الله على نافلة الوقت، ولا يرجع بإذن الله إلا وقد أسلم على يديه مجموعة من هؤلاء، وعن رضا وطواعية واختيار ومحبة في للدين، ويصبح قلبه وولاؤه إسلامياً، سبحان الله! وهم يبعثون آلاف المنصرين من أجل هذا، ومن تنصر فهو لجهله صحيح أنهم ينصرون بالملايين ولا نقلل من أهميتهم، لكن لا يستطيعون أن يملكوا قلبه وشعوره ولبه، فسبحان الله! فرق كبير بين الأمرين، وإن كان في الظاهر أن هناك نجاح. إذاً هذا الدين سره العجيب أنه حق، وأنه من عند الله عز وجل، وأنّ الله عز وجل تكفل أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. ولكن مهما أيقنوا أن الله مظهر دينه فإنهم لا يكفون عن محاربته بأنفسهم أو بعملائهم أو بأجهزتهم، فأي شيء أنت تراه عادياً جداً يخيفهم؛ لأن أهل الباطل دائماً يخافون من الحق. فلو أن عصابة اجتمعت من أعتى الدهاة فكرياً وسرقوا مالاً لأحد، ورآهم طفل، لظلوا يخافون من هذا الطفل الصغير أن يتكلم عليهم ويدلي بأوصافهم لأنهم على فجور وباطل، وذلك الطفل على حق، فلذلك نحن مهما كان ضعفنا؛ فإنهم يخافون من أي عمل نعمله، ويخافون من أي داعية يدعو، ومن أي كتاب، ومن أي فكرة وإن كانت صغيرة، يخافون منها؛ لأنها حق، وهم يعلمون أنهم على باطل. فمن هنا نعرف أن أول وأهم غرض يجب أن نسعى إليه هو أن نزرع هذه العقيدة والإيمان والولاء والبراء في نفوس هذه الأمة، فالعقيدة ليست كلاماً مجرداً ونظريات مجردة. بل لا بد أن تظهر العقيدة عملياً في صورة الولاء والبراء، بأن توالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعلن ذلك وتجتهد فيه. ومن هنا يجب أن نعلم أن أي حدث يقع في أي بلد من بلاد المسلمين لا يصح أن يفسر بأي تفسير، ولا ينبني إلا على أصل العقيدة والطاعة والمعصية. والقاعدة التي علمنا الله تبارك وتعالى إياها في كتابه وعلمناها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه المصائب، وهذه المحن وتسليط أعداء الله علينا، لا تفسر إلا بمعصيتنا لله لنرجع إلى الله، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا تبايعتم بالعينة واشتغلتم بالزرع وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا

النقل الجماعي والشريط الخبيث

النقل الجماعي والشريط الخبيث Q نرجو من فضيلتكم توجيه نصيحة لشركات النقل الجماعي التي توظف عمالاً أو سائقي باصات من النصارى، وقد وجد مؤخراً شريط يباع في عدة تسجيلات يحمل الكثير من الخبث ويباع بريال واحد؟ A هاتان قضيتان الأولى تتعلق بشركة النقل الجماعي، وقد بلغنا أن بعضاً من الحافلات قد يكون السائق فيها نصرانياً، ويفتح المسجل ويضع فيه شريطاً تنصيرياً. وبعض الحافلات على الطريق الطويل فيها تلفزيون أو فيديو وتعرض أفلاماً غير لائقة، فهذه بعض الملاحظات على النقل الجماعي، نرجو التأكد منها والتثبت من ذلك، وعلى أية حال فالمهم أن التناصح واجب بيننا وبينهم. وأنصحهم بنصيحة أخرى وهذه منذ زمن وأنا أتحين الفرصة لها، أن شركة النقل الجماعي توظف في بعض ورشها، أو في كثير منها النصارى، وأسوأ من ذلك أن بعضهم إذا أسلم، فإنه لا يعامل المعاملة اللائقة، فلعل هذا الصوت يصل إليهم إن شاء الله، ولعل من فيه غيرة منهم -ونرجو أن يكونوا كثيرين إن شاء الله- أن يهتم بهذا الموضوع. والموضوع الآخر يقول الأخ: إن هذا الشريط كما ترون وهو شريط مغلف وملون بشكل جميل، يبدو أنه باللغة التركية -والله أعلم- يقول: وهذا الشريط يباع بريال واحد في تسجيلات -ذكر اسمها- وهو من أقبح الأشرطة، وهو وسيلة لمحاربة دين الله. علماً بأنه لا توجد أي تسجيلات إسلامية تبيع بهذا السعر، كيف يعقل أن تكلفته وتسجيله ريال واحد؟! إذاً الأشرطة مدعومة، ولها أغراض خبيثة، أو وراءها ما وراءها، وإلا كيف يكون بريال واحد لاغير؟ كل واحد يحللها بما يشاء. والمقصود هذا الخبث والخلاعة، والفجور، والتنصير وبريال، هذا ريال للمفرد، والذي يأخذ بالجملة، فبكم سيكون؟ معنى ذلك أن هناك أيادٍ خبيثة تريد أن تهدم الإسلام والعقيدة الصحيحة، ولنفرض أنه لا يشتريه أو لا يسمعه إلا من يفهم هذه اللغة -إن كانت تركية أو أي لغة- أليس من الواجب علينا- وهؤلاء بين ظهرانينا- أن نعلمهم العقيدة الصحيحة وندعوهم إلى الله. كم عندنا من الدروس باللغة التركية في جدة؟، لا أعرف درساً، مع أن الأتراك في جدة بالآلاف، فانظروا المطاعم، وهناك شركات كثيرة وغيرها ولا يوجد درس واحد لهم! إذاً فنحن قد تركناهم فريسة لهؤلاء، فيأتي هؤلاء بهذه الأشرطة، وأشرطة الفيديو أخبث، ومجلات تأتي من تركيا أخبث، وليست تركيا وحدها، هذا مثال فحسب، وهناك أيضاً الفلبين وتايلاند وعندك من هم أشد، ونحن المقصرون في هذا الواجب، نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يوفقنا لتلافي ذلك، وأن لا يجعل حديثنا دائماً على سبيل أن نلوم أنفسنا أو بعضنا يلوم بعضاً، نريد أن يدفعنا كل ما يأتي من هذه الأمور للعمل، فلنفكر جميعاً على الأقل فيما نستطيع. أنا آخذ كتيبات باللغة التركية، وأعطي صاحب المطعم الذي بجواري في الحي، واشتري منه، إن كان يفهم اللغة العربية أيضاً أكلمه بها. وبالمناسبة -أيضاً- لو كان عندكم بعض الكتب عن الرافضة أو عقائدهم فاعطوهم إياها؛ لأن كثيراً من الأتراك المتكلمين باللغة العربية، والذين يعملون بالمطاعم والمسالخ هم نصيرية علوية، فهم من أقبح أنواع الرافضة من جنس النصيرية الذين في سوريا. إذاً لا بد أن ندعوهم إلى الله ونعرفهم العقيدة الصحيحة، وإلا حرمت ذبيحتهم علينا وأكلهم وطبخهم، ولا ندري فهم -أيضاً- يتعمدون أن يفسدوا علينا شيئاً من ذلك. وللأسف أن المرء منا يأتي بالعمال أياً كانوا، فيهمه أنهم متميزون في نظره ويقومون بالواجب في الشغل، ولا يسأل عن دينهم ولا عن عقيدتهم، وأيضاً الزبائن من أمثالنا، يهمه أن يشتري ويمشي، ولا يفكر كيف يدعوهم، وهكذا نصبح نحن المقصرين بكل حال، ونحن مسئولون بأي حال. هذه العبر سواء ما يتعلق منها بالواقع العالمي، أم بالواقع المحلي، أم ما نراه من مثل هذه النشرات والأشرطة والدعايات والبضائع، وكل هذه تذكرنا أن عقيدتنا مستهدفة، وأن الواجب علينا أن نحافظ عليها، ولا يكفي أن نقول -الحمد لله- نحن مسلمون وطيبون وموحدون ونحن ما قلنا: إننا مشركون، لكن قد ننسى هذا ونضيعه، وقد نصير إلى حالة، كما ذكرها الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] شَعَرَ أو لم يشعر. تنتشر شعائر الكفر وتنتشر معالمه وتنتشر دعاياته، ويحبب إلى نفوس الناشئين من الأجيال، غير ما في البث المباشر ومصائب الدشوش وغير ما في الصحف وغير ما في الإعلام الذي أصبح مفتوحاً للعالم كله، ونحن ما قمنا بالواجب لا في المسجد، ولا في الإدارة، ولا في العمل الذي نعمل فيه. فبارك الله فيكم اجتهدوا في هذا، ولا تملوا أن يكرر عليكم هذا الكلام؛ لأن الأعداء يستفزوننا كل حين، والشيطان عدونا يعمل كل حين، فيجب أن نذكر أنفسنا أيضاًَ، ونعمل كل ما نستطيع، ولا يقول الواحد منا: إنه لا يستطيع أن يتكلم أو يعظ. فمثلاً خذ كتاباً أو نشرة أو شريطاً وأعطه من يستفيد منه. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من الدعاة إليه على منهج رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

لماذا نستدعي أمريكا؟

لماذا نستدعي أمريكا؟ تحدث الشيخ حفظه الله عن الحرب المستعرة في الخليج العربي، ذاكراً الأسباب المؤدية إلى ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها، مبيناً واجب الأمة الإسلامية في ظل هذه الأحداث، ثم ذكر مخططات الغرب واستعداده وجمع جيوشه وحشوده الهائلة لهذه الحرب، وتحدث عن استمرار الحروب والعداوة مع الروم إلى قيام الساعة، موجهاً نداءه لشباب الإسلام داعياً إياهم إلى إخلاص التضرع واللجوء إلى الله، والإعداد الصحيح لمواجهة الأعداء.

مفاجأة الأحداث

مفاجأة الأحداث الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]، والقائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، واشتغلتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم}، وعلى آله وأصحابه والتابعين، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، ولم تأخذهم في الحق لومة لائم، أما بعد: أهمية الموضوع: فيأتي هذا الكلام، في ظروف حرجة، وفي أزمة صعبة تعيشها الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أدناها، وفي فتنة تدع الحليم حيران، ولكن ماذا عسى أن يفعل المؤمن؟ وماذا عسى أن يفعل طالب العلم وطالب الحق إذا عرف شيئاً من الحق وفتح الله بصيرته له؟ ليس إلا أن يبلغه؛ ليكون من الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحداً إلا الله؛ وذلك عملاً بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة}، وكما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايع أصحابه؛ فقد بايعه جرير بن عبد الله رضي الله عنه {على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم}. إذاً: فلابد أن تقال النصيحة، ولابد أن تقال كلمة الحق لهذه الأمة التي غرقت في شهواتها وملذاتها؛ إلا من رحم الله تبارك وتعالى؛ فلابد أن تقال النصيحة، فإن قبلت فذلك ماكنا نبغي، وإن لم تقبل فكم رُدَّ من نصائح من قبل، وفما كان منها من صواب فهو من الله، وما كان من خطأ فمن النفس والشيطان، أعاذني الله وإياكم من شره. إننا نعيش هذه الأيام أزمة ونريد وقفة، بل إنه نحتاج إلى وقفات عاقلة، متأنية، بعيدة عن العواطف؛ لننظر في هذه المصيبة الراهنة، وما الذي أوصلنا إليها؟ وكيف آل بنا الحال إلى هذا المآل؟ وماهي الأسباب وراء ذلك؟ وهل من سنن لله تبارك وتعالى في تغيير هذه الحال؟ وماذا نفعل؟ وماذا يجب علينا -نحن طلبة العلم بالأخص- أمام هذه المواقف العصيبة؟ أقول: إن الأحداث التي حدثت فاجأتنا جميعاً، وسر المفاجأة عندي يكمن في عنصرين: الأول: غفلتنا إلا من رحم الله تبارك وتعالىعن قراءة سنن الله في الكون، وفي الأمم قبلنا، مع أنها في كتاب الله واضحة كل الوضوح، وكذلك غفلتنا عن قراءة تاريخنا الإسلامي، وماذا يكتنفه في كل صفحة من صفحاته من العداء ومن البلايا والمحن؟ فقد عشنا حقبة من الزمن في هذه البلاد في ترف ونعمة ورخاء، وماكنا نحسب أن هذا الحال قد يتغير أو يتبدل أو يهتز، فكأننا قد أمنا عقاب الله، وأمنا مكره {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] نسأل الله العفو والعافية. وكأننا قد أخذنا من الرحمن موثقاً أن لا يعذبنا؛ وإن ارتكبنا ما ارتكبته الأمم قبلنا فعذبت به، وكأننا ينطبق علينا ما ذكره الله تبارك وتعالى عن بعض كفار قريش، فقال: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:78]، لا والله لا نعلم الغيب، فالمستقبل محفوف بالمخاطر، وينبغي أن نتوقع ذلك، ولا عهد لنا من الله، إذ ليس بين الله تعالى وبين أحدٍ من خلقه نسب إلا التقوى، وإنما عهد الله وتأذن بالنصر والتمكين لمن شكر النعمة، أما من كفرها وبطرها وبدَّلها كفرًا؛ فإن مصيره كما ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم في آيات كثيرة. الثاني: الذي جعل المفاجأة بهذا الشكل: هو أننا لا نقرأ ما يقوله أعداؤنا؛ بل لا نحاول أن نتعرف عليه، ومن هنا وقعنا في خطأ كبير أدى إلى هذه المفاجأة وهذا الذهول، وقد صدق وهو كذوب من قال: 'إن العرب لا يقرءون، والمشكلة أنهم إن قرأوا فإنهم لا يحللون ولا يفهمون، وإن فهموا فإنهم لا يعملون، وإن عملوا فإنهم لا يصيبون ولا يسددون ماداموا عرباً" أي: ما دامت الرابطة والجامع هو العروبة، ومادام الاسم ليس اسم الإسلام، وليست رابطة الإسلام. في الواقع أن هذه الأحداث التي نراها هذه الأيام ليست بجديدة ولا غريبة على من تتبعها، أو على من يتتبع ما يقال وما يكتب، فضلاً عمن يقرأ ما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أحوال الأمم قبلنا حين عصت الله. فإن زوال النعم متوقع، وإن نقص الأموال والأنفس والثمرات، هو الذي يجب أن يتوقع؛ لأننا لسنا على مستوى من الإيمان، والتقوى والصبر الذي يؤهلنا لدفع هذا العذاب عنا، إلا أن نكون مجاهدين بدلاً من أن نُغزى في عقر دارنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أما الجانب الأول من الأعداء -وهو الذي هزنا جميعاً وفاجأنا- هو حزب البعث، ذلك الحزب الملحد المرتد الكافر. إني أقول بكل أسف: كنا نعلم أنه حزب مرتد كافر -أعني: من يعلم ذلك منا- ولكن ذلك لم يُبَيَّن، ولم تُقَلْ كلمة الحق كما ينبغي؛ ونحن الدعاة أول المسئولين في هذا الجانب، فقد قصَّرنا كثيراً في توعية الأمة بحقائق هؤلاء القوم، ثم إننا نسينا أنه حزب صليبي، وأن الذي أسسه رجل صليبي ومايزال الرجل الثاني -تقريباً- فيه صليبي، فكان ينبغي لنا أن نعلم ذلك. وقد ذكر لنا ربنا عز وجل أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، وأنهم صليبيون يأتوننا بأسماء أو شعارات عربية، ويأتوننا بوجوههم الكالحة المكشوفة في العالم الغربي، وكلهم عداوتهم للإسلام واضحة. ولن أطيل في ذكر الحديث عن هذا الحزب وكفره وضلاله، ولا عن هذه العداوة التي يكنها للإسلام والمسلمين، ولا عن هذا الهجوم الذي أراد أن يُباغت به المسلمين، وأن يكتسح به ديارهم، فذلك معلوم معروف، وقد ظهر الآن، ولكني أحب أن أعرج -ما أمكن- على الجانب الآخر من العداوة. وهو: جانب اليهود والنصارى والغرب، إذ يخشى الإنسان في زحمة الأحداث، ومعتركها أن يضيع أمراً وجانباً عظيماً من جوانب العقيدة، وهو: الولاء والبراء، ويخشى أن يؤدِّي ماحصل من أحداث إلى أن يكون في قلوبنا مودة للذين كفروا وهم أعدى أعدائنا، نسأل الله العفو والعافية. فمن هنا لما رأيت الخطر محدقاً على إيماني، وعلى إيمان إخواني المسلمين فيما يتعلق بموالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين، والموقف من اليهود والنصارى، وأن الاستثناء ربما أصبح عندنا قاعدة عامة، قلت: لابد أن أبين لإخواني هذه الحقيقة، وأن أعرفهم بخطر هذا العدو الآخر مهما يظهر لنا من أوجه أو تقنع بأقنعة؛ فإنه عدونا إلى قيام الساعة، وكما قلت: إن البعثيين هم أعداء ساعة، وما هي إلا نطحة أو نطحتان -كما جاء في الحديث عن فارس- ثم يذهبهم الله عز وجل كما يشاء، ولكن العدو الأبدي الذي هو عدونا إلى قيام الساعة كما أخبر النبي الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم هؤلاء الروم (الغرب) الذين تكالبوا علينا من كل جهة، وجاؤونا من كل فج عميق. إذاً يجب أن نُقدِّر الضرورة بقدرها، ولكن علينا مع ذلك أن نُقدِّر أسباب هذه الهجمة، ولماذا جاءوا؟ وماهي العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن وجودهم بيننا؟ ولنكن في كل أمورنا ملتزمين بأمر الله، وبشرعه، وبدينه؛ ولا مانع أن يذكر بعضنا بعضاً بما نسينا أو غفلنا عنه في هذا الجانب.

احتلال الخليج والإعداد الأمريكي المسبق له

احتلال الخليج والإعداد الأمريكي المسبق له تبتدئ مشكلة ما يمكن أن يُسمى الوجود الغربي في الشرق الأوسط -كما يسمى- منذ عهد الرئيس نيكسون بعد مرحلة من مراحل الوفاق الدولي، والتي لم تتم كاملة مع الاتحاد السوفيتي. وقد ذكر الرئيس نيكسون في مذكراته -وهي مطبوعة ومترجمة إلى اللغة العربية- وكذلك في كتابه الحرب الحقيقية، فألمح إلى ضرورة وجود أمريكي في المنطقة في منابع النفط، وعلل ذلك بتعليلات يهمنا منها أنه ركز على قوة العراق وهيمنتة وخطره، أو أن يُتخذ أداة من قبل الاتحاد السوفيتي، أو من قبل زعامات إقليمية فيكتسح منابع النفط ومناطقه، فمن هنا كان لابد من تفكير وعمل جاد لردع هذا العدوان المتوقع. ثم أعقب ذلك قراراً أصدره الرئيس كارتر في (18 أغسطس عام 1977م) أي: قبل (13 سنة) من طرح الموضوع وتضمن القرار أنه لابد من وجود حماية عسكرية لمصالحنا في الخليج، وكان ذلك بعد تمثيلية الرهائن الذين كانوا محتجزين في طهران، وبعد الحدث الرهيب الذي هز الأمة الإسلامية جمعاء: وهو احتلال الاتحاد السوفيتي الشيوعي لأرض أفغانستان المسلمة المجاهدة، الذي كان بعد عملية الرهائن بستة أسابيع، ثم اتخذت الاحتياطات العملية للتنفيذ، وبُدِئُ في تشكيل هذه القوة أول عام (1980م) أي: أن هذا الأمر قد رُتِّب له في أواخر السبعينيات، ثم بدأ في أوائل الثمانينات، فقد شكلت أو عينت الفرقة التي سوف تقوم بالعمل، وهي الثانية والثمانين التي نفذت عملية الرهائن.

كتاب قوة الانتشار السريع وتوقعاته للأحداث

كتاب قوة الانتشار السريع وتوقعاته للأحداث ولكي نأتي ببعض الأدلة على هذا ولكي يتضح الواقع بالبينات المقروءة حسياً، فهذا كتاب من الكتب قوة الانتشار السريع والتدخل العسكري الأمريكي في الخليج الذي صدر سنة (1983م- 1403هـ) أقرأ لكم بعض الإثباتات منه. وهذا الكتاب عبارة عن تقرير أُعدِّ ونُشِرَ في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، وهو تقرير أمني، ومع ذلك نشر وترجم إلى اللغة العربية، وصدر وطبع عام (1403هـ) كما ذكرنا. يبدأ التقرير بذكر التهديدات التي يُمكن أن تجتاح منطقة الخليج، وذكر ثلاثة منها: أولاً: عدوان سوفييتي مباشر على المنطقة كما حدث في أفغانستان. ثانياً: العدوان بواسطة قوات إقليمية أخرى ضد دولة منتجة للنفط. ثالثاً: الإرهاب أو التمرد أو الثورة داخل الدول المنتجة للنفط. لكن التقرير -نفسه- يستبعد الاحتمال الأول، ويقول: إن الاتحاد السوفيتي لم ولن يفعل ذلك. وقد تأكد ذلك بعد الوفاق الدولي الذي تم في أيام جورباتشوف. أما الاحتمال الثاني: وهو القوة الإقليمية فهو الذي ركز عليه كثيراً في هذا التقرير. يقول التقرير: إن إمكانية بروز العراق كقوة عسكرية مهيمنة على شبه الجزيرة العربية يشكل تهديداً محتملاً وتحدياً عسكرياً لمصالح الولايات المتحدة في الخليج، واحتمال وقوع هجوم عراقي على الكويت أو العربية السعودية، احتمال يستحق اهتماماً خاصاً للأسباب الآتية:- أولاً: كان هذا الاحتمال وارداً حتى قبل الحرب العراقية الإيرانية، ومؤثراً على التخطيط للقوات الأمريكية اللازمة لمواجهة احتمالات خارج دائرة اختصاص حلف شمال الأطلسي. ثانياً: القوات المسلحة العراقية ذات التسليح السوفيتي هي الأكبر بين القوات المسلحة لـ دول الخليج. ثالثاً: كون حقول النفط الرئيسية في الكويت والسعودية قريبة -نسبياً- من الحدود الجنوبية للعراق. ثم يُذَكَّر أنه قد حاول العراق غزو الكويت في عام (1961 - 1381هـ) ولم يردعه إلا القوات البريطانية وقوات الجامعة العربية. ويقول التقرير: هذه العداوات تُشكل عامل تفجير محتمل في المنطقة -خصوصاً- إذا أخذنا في الاعتبار الضعف العسكري النسبي لجيران العراق. ثم يقول أيضاً: لا جدال في أن استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية لصالح دولة مهددة من قِبَلِ العراق ينبغي أن يستند إلى طلب أكيد للمساعدة من جانب الدولة المهددة؛ إلا أن المشكلة تكمن فيما إذا كان من الممكن ورود مثل هذا الطلب قبل أن يبدأ القتال؛ لأن وصول القوات الأمريكية المقاتلة قبل الحرب -إلى أراضي الكويت والسعودية - سوف يُعرض شرعية حكومتيهما للشبهة في أعين شعبيهما وفي أعين العالم العربي ككل، ناهيك عن أن مثل هذا العمل قد يُتَّخذ ذريعة لوقوع الغزو الذي جاءت هذه القوات لمنعه. ثم يقول التقرير بعد ذلك: إن الحساسيه السياسية التي تشعر بها الدول التي يمكن أن تكون دولاً مضيفة تجاه أي وجود عسكري أمريكي -دائم- على أراضيها أمر مفهوم؛ لإن مثل هذا الوجود سيكون بمثابة إثبات لصحة الانتقادات التي يوجهها الثوريون العرب إلى دول الخليج المحافظة عن التزلف للإمبرياليين، ومن ثم زيادة الاضطراب الداخلي الذي يشكل أهم التهديدات المحتملة. ثم يؤكد على أن العديد من دول الخليج مازالت تعتبر دعم الولايات المتحدة لإسرائيل أكثر تهديداً لأمن العالم العربي، مما يُؤدِّي إلى احتمال ظهور أفغانستان أخرى في شبه الجزيرة العربية؛ بل وإن بعضها يشك في نوايا في الولايات المتحدة، ويرى أنها طامعة في حقول النفط في الجزيرة، ويذكر التقرير أمثلة على ذلك قائلاً: يبدو هذا الشك واضحاً في التصريح التالي للشيخ صباح الأحمد الصباح وزير خارجية الكويت؛ ثم ذكر تصريحين: الأول: للسفير الكويتي في أمريكا، والثاني: لـ صباح الأحمد الصباح وزير خارجية الكويت هذا قبل عشر سنوات من الموضوع- عندما عرضت أمريكا عليه إفساح المجال لإعطاء تسهيلات في المنطقة، وخوفهم من أن العراق سوف يهاجم الكويت. فكان جواب وزير خارجية الكويت يقول: الدفاع عنا ضد من؟! من الذي يحتلنا؟! إننا لم نسأل أحداً أن يدافع عنا، ورغم ذلك نجد كل هذه السفن حولنا تطلب تسهيلات إن المسألةً -كلها- تبدو وكأنها جزءٌ من فيلم لمخرجين اثنين هي (روسيا والولايات المتحدة) ولكن كيف ستكون نهاية هذا الفيلم؟ ربما باتفاق القوتين العظميين على أن يقولوا هذا النفط لنا، وتلك لكم، وسوف نقسم المنطقة من هنا إلى هناك. وعن ذلك أجاب السفير الكويتي بهذا القول عندما قيل له: العراق قد تهاجمكم، قال: لن تهاجم إخوانها. فقيل: قد يقوم ضدكم بعض المقيمين من بعض الشعوب في الكويت؟ قال: هؤلاء إخواننا ونشأوا في عطفنا وفي رعايتنا، ولا يمكن أن يكونوا علينا؛ ولكن أنتم بصدد إخراج فيلم، وسوف تخرجونه إن طلبنا وإن لم نطلب. والعجيب! أن الفيلم كان قد أعد -فعلاً- وبالتقرير -أيضاً- ما يدل على ذلك وليس غريباً، بل مذكور أنهم عمدوا إلى أنواع من الإجراءات -كما يسمونها: السيناريو- (بدائل) عن كيف يمكن أن يكون الإخراج، وكيف يمكن أن تكون العملية؟؟!! فقد ذكر التقرير ص (143) [في عديد من سيناريوهات الطوارئ المحتملة في العالم الثالث أنه: سيكون على سلاح مشاة البحرية أن يواجه عدواً متفوقاً بالعدد والعدة، وربما كانت قوته بالعدة نوعياً وكمياً معاً. فعلى سبيل المثال: إذا تصورنا إمكانية تدخل سلاح مشاة البحرية لمساعدة السعودية ضد هجوم عراقي، فسنجد أننا بإزاء جيش عراقي مؤلف من (180 ألف) مقاتل -هذا ما ذكروه قبل هذه السنوات- مقابل جيش سعودي مكون من (80 ألف) فقط بما في ذلك الحرس الوطني السعودي، وأن الجيش العراقي يضم أربع فرق مدرعة وفرقتين ميكانيكتين ومن ضمن معداته دبابات ( emx) ثلاثين، والعربات المدرعة ( bmb) وراجمات صواريخ متعددة الأنابيب، إلى آخره، وأن الجيش تسانده قوة جوية مكونه من (339) طائرة قتال من بينها طائرات (ميج23 وسوخوي 20، وميراج ف1) بينما نجد أن ما لدى السعودية من معدات حديثة أقل بكثير مما لدى العراق، وقد تكون فعالياتها العملياتية أقل أيضاً]. ذكر هذا -كما قلنا- منذ عشر سنوات، ثم لم يبق الأمر عند ذلك.

التقرير الأمني السنوي للكونجرس الأمريكي

التقرير الأمني السنوي للكونجرس الأمريكي ولم يكتفوا بهذا؛ بل إنهم في القريب الذي ليس ببعيد، أي: منذ أربعة أشهر وفي شهر شعبان الماضي -قد نشروا التقرير الأمني السنوي للكنجرس الأمريكي ومجلس الأمن القومي الأمريكي- وذكروا فيه أموراً لاداعي للتفصيل فيها الآن؛ إنما من جملة ما ذكروا: لأن المصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الأوسط تستحق وجوداً عسكرياً فعلياً، وأنه لابد للقوة التي أنشئت أن تبدأ عملياً في البحث عن حل لإيصالها إلى المنطقة. ويقول: [وتوقف التقرير أمام العنف الناتج عن صراعات دينية في الشرق الأوسط، والذي يحظى باهتمام مسئولي السياسة الأمريكية، الذين يعتقدون بأن التطرف الديني الذي سيستمر في تهديد حياة السكان الأمريكيين، والدول الصديقة هي من الشرق الأوسط والتي يعتمد العالم الحر على مصادر الطاقة فيها]. وقد تكرر هذا الكلام في عدة تقارير أن الغرض أمران: الأول: حماية منابع النفط والمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية. والثاني: القضاء على التطرف الديني الذي يريد أن يهدد وجود إسرائيل، ووجود الولايات المتحدة، وذلك بتقوية الدول أو بدعمها أو بالقضاء على التطرف قضاءً مباشراً إن خشي عليها من هذه الدول أو هذه المجتمعات. هذا التقرير نشر في (26 شعبان 1410هـ) في جريدة الحياة، وقد نشر أيضاً قبله بـ (3 أيام) في جريدة الحياة في (23 شعبان) تقرير آخر بعنوان (القوات الأمريكية تعيد تنظيم تشكيلاتها للتدخل الطارئ) وتفصيلات عسكرية كثيرة ليس هناك حاجة لها، إنما الجديد فيها أنهم ذكروا أن عدد القوات (197 ألف) من الرجال والنساء، وقد يساندهم -أيضاً- (100 ألف) من الاحتياطي، وأنهم مجهزون بوسائل خفيفة وثقيلة إلى آخر ما ذكروا من أمور عسكرية. وكلنا يعلم أنه في ذلك الظرف بالذات: تم توقيع إتفاقية الحدود بين المملكة والعراق، ولا شك أنها كانت خطوة وقائية جيدة وفي محلها، ولكن حزب البعث لم يكن ليرعوي -أبداً- لأن الإخراج أكبر من أن يردع باتفاقية إذ كانت المسألة مبيتة، والغدر لا يمكن أن يتأخر، بل إن الغدر هو: سمة من سمات هذا الحزب أصلاً.

جدية الأمريكان في الإعداد لحرب الخليج

جدية الأمريكان في الإعداد لحرب الخليج ثم بعد ذلك حصل إنزالان إمريكيان: الإنزال الأول: في غرنادا. والثاني: في بنما، وقد صرحت الأجهزة الأمريكية المسئولية، وكذلك بينت الصحافة أن هذا الإنزال في بنما إنما هو عبارة عن نموذج أو (بروفة) للإنزال في الخليج، وهذا قبل بضعة أشهر. وذكروا في جملة ما ذكروا أيضاً: أن الإنزال في بنما تم بإنزال (10 آلاف) جندي في 8 ساعات، أما إذا كان يُراد إنزال (200) أو 250 ألف) جندي في الخليج فإنه قد يستغرق مدة (21 يوماً) باعتبار المسافة والبعد، فتُستكمل التجهيزات في خلال (21 يوماً). ومن الأمور التي يجب أن نعلمها: أن الإعداد كان جاداً وكان صادقاً؛ فقد تم تدريب هذه الفرقة الـ (82) وغيرها في صحراء نيفادا وهي صحراء أمريكية في أجواء مشابهة لأجواء الشرق الأوسط، ولصحرائنا العربية! وأكثر من ذلك أنهم اختاروا نوعية المجندين والمجندات، من الجنس القريب للجنس العربي -أي: من الجنوبيين- ومن الأصول الأسبانية في جنوب أمريكا وأمريكا الوسطى؛ وأكثر من ذلك أنهم علموهم اللغة العربية -وباللهجة البدوية- وكيف يعيش أحدهم في الصحراء، ويتكلم اللغة العربية، ويلبس اللباس العربي؛ وقد نشر في ذلك عدة كتابات صحفية كان من آخرها ما نشر في جريدة عرب نيوز من أن أحد هؤلاء -الذين يجيدون اللغة العربية في الجيش الأمريكي- دخل في بعض المحلات في الظهران أو الخبر وتكلم معهم باللهجة البدوية، واشترى وخرج ولم يعرفوه، بل ظنوا أنه عربي بدوي مقيم في تلك المنطقة. والقضية التي -حقيقة- تستحق أن نقف عندها، لننتقل إلى الحل وإلى العلاج بعد ذلك، وهو المهم جداً -أن هؤلاء الناس- مهما قلنا عن الضرورة التي جاؤوا من أجلها، أو المبرر الذي جاؤوا من أجله، وأن الموقف لم يكن يحتمل إلا ذلك؛ فكل هذا شيءٌ ندعه جانباً، ولكن الشيء الذي أصبح واقعاًً ملموساً بين أيدينا هو: ماذا يجب علينا أن نفعل إزاء هذه المشكلات؟ بدايةً يجب أن نشير إلى ما نشر في الصحافة الأمريكية وفي غيرها؛ عن بعض المخاطر التي يجب أن نتنبه لها في هذا المجال. ومن ذلك: ما نشر في جريدة عرب نيوز نقلاً عن محلات لبيع أدوات التجميل وكريمات ودهانات الحرارة بعنوان: (صفقة سماوية) يقصدون بذلك تضخيم صفقة البيع، لمجمع تسويق (كيمارك). وهي عبارة عن: طلبات نسائية -طلبتها المجندات اللاتي سيذهبن إلى الخليج - وتحتوي على (5500) زجاجة من كريم منعم للجلد، و (2400) علبة لطرد الحشرات، و (5500) أنبوبة مرطب شفائف، و (5500) علبة بودرة أقدام، و (5500) زجاجة لكريم الجلد ضد الشمس. ولا يخفى على أحد منكم لأي شيء سوف تستخدم هذه، وفي أي مكان يمكن أن تستخدم. وهناك قضية أخرى لابد أن نعيها جانباً وأن نحذر فيها، فالله تعالى أمرنا أن نأخذ حذرنا، وأمرنا أن لا نركن إلى الكفار وأن لا نصدقهم وأن نحتاط منهم- وهي أنه ظهرت عدة تصريحات -غريبة في الواقع- ونشرتها الصحف الأمريكية -وبعضها موجود لدي على قلة تتبعي، وضعفي جداً في هذا المجال، لكنها في أعداد الأسبوع الماضي وما قبله- عن أن هذه القوات سوف تقيم طويلاً إن خرجت من بلادها. وأما الرئيس بوش بنفسه فقد صرح الأسبوع الماضي: 'بأن وجود القوات الأمريكية رهن باستقرار الأوضاع في المنطقة'. وهذه عبارة لا يمكن أن يفسرها إلا هم (فمتى تستقر الأوضاع؟) لا ندري، فهم الذين يحكمون بأنها استقرت أو لم تستقر. فأما وزير الدفاع الأمريكي في المقابلة التلفزيونية -أيضاً- والتي نشرت صحفياً، فإنه يقول: " لسنا على استعداد أن نرجع كل عشر سنوات إلى هذه المنطقة المتفجرة من العالم " وكذلك هناك تصريحات وكتابات أخرى مثل ما نشر في التايمز العدد 35 الثلاثاء الماضي 1990م.

موقف المسلم من أحداث الخليج

موقف المسلم من أحداث الخليج إذاً: فهؤلاء اليهود والنصارى والبعثيون كلهم أعداءٌ للإسلام، وكلهم أعداءٌ لهذه الأمة، ولا يؤمنون بأي حال من الأحوال؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حذَّرنا وبيَّن لنا عداوتهم في الكتاب كما بينها لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة وفي واقعه العملي، ولكننا نذكر بعض الدلائل الواضحة، التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن تكون عامل خير لهؤلاء الشباب في أن يعرف واجبه، ولا نعني بمعرفة الواجب: الثوران العاطفي، الذي لا يؤدي إلى نتيجة، والذي أتعب الدعوة في كل مرحلة من مراحلها؛ وإنما نعني: أن نعي واقعنا، وأن ندرس بحكمة وبأَناة: كيف نتصرف مع هذا الواقع، وكيف نعتذر إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن نعيش هذه الأزمة، بل وأكثر من ذلك: أن نراجع ديننا وإيماننا، وعقيدتنا وثقتنا وتوكلنا بالله عز وجل، فهذا أهم عندنا من أي شيء آخر. يقول في التايمز: الولايات المتحدة يجب عليها أن تعتبر أن وجودها دائمٌ في المملكة فعلى أية حالة! الوجود كان دائماً أو غير دائم؛ فهو موجود بأعدادٍ كبيرة، وهو لا يخفى عليكم الآن. يجب أن نعلم أموراً مهمة، ولابد من تذكير بها وهي: أنه عندما يأتي هؤلاء القوم يأتون بعاداتهم، وبدينهم وبما يحملونه من مبادئ. فقد كنا نشكو في الرياض وفي جدة وفي غيرها من أعمال هؤلاء الكفار مع ضعفهم النسبي قبل هذه الأيام، ومع قلة عددهم أيضاً، وقبل أن يكثروا بهذه الكثرة، ومع كل هذه الأمور وكل هذه الاعتبارات، كنا نشكو، والهيئات، والجيران، والمجمعات السكنية كلها تشكو مما يحدث فيها ولا غرابة! فهؤلاء الكفار هذه حياتهم؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أعمى بصائرهم عن الآخرة؛ فهم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7]، فهذا حالهم قال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]، فهل يريد أحدهم أن يقاتل وأن يموت في سبيل الله؟ لا والله، وهل يريد أن يموت ليدخل الجنة؟ لا. فلم يخطر ذلك على باله؛ ولذلك لا نعجب أن تُعجل لهم حسناتهم في هذه الحياة الدنيا من شهوات وملذات، فإذا وقع وأتوا إلينا فماذا سنفعل؟ إن مثل هذه الصفقات من الكريمات والدهونات والتعري، لابد أننا سنلمس لها أثراً واقعياً عند وجود هذا العدد بأجياله. وكما تعلمون أن هؤلاء القوم فيهم المتدينون، ففي موجز التاريخ الأمريكي الذي أصدرته السفارة قريباً يقول: ' إن الشعب الأمريكي فيه عاطفة دينية وفيه رغبة دينية '. فإذاً يجب أن نتوقع وجود كنائس، أو حمل للصلبان، أو حمل لأي شعارات أخرى غير إسلامية معادية لديننا وإيماننا وعقيدتنا، حينها لا نضع رؤوسنا في الرمال. هذه حقائق يجب أن نقولها، وأن نتحدث بها، وأن نفكر كيف نعالجها العلاج الصحيح؛ وذلك بالتعاون مع من يمكن أن يساعدنا على ذلك -إن شاء الله- ممن بيده الأمر. فهذا واجبنا نحن الدعاة، ولا يجوز لنا أن نتخلى عنه بأي شكل من الأشكال. فقد جاءوا بالخنازير كما كتب لي أحد الإخوان، وكما ذكر لي أخ آخر بأن بعض المطابخ جيء إليها بالخنزير، وقيل له: اذبح لنا، نريد أن نأكل ولا غرابة! لأن هذا أكلهم، وهذه حياتهم: الخمر، والخنزير، والزنا، والمخدرات وغيرها من الأمراض الأخرى التي نتعفف أن نذكرها، فكان لابد من أن نتوقعها؛ لأنهم لابد أن يأتوا بها فلا تكفي -أبداً- الأوامر أو الاحتياطات أو القرارات؛ فالأوامر والتعاهدات قد أخذت على المسلمين أنفسهم فلم يلتزموا بها ولم ينفذوها، وترون ما ترون من المدرسات، وقد أخذت عليهن التعهدات الوثيقة، ومن المضيفات والممرضات، وقد أخذت عليهن أقوى التعهدات.

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله لابد من الدعوة إلى الله، لأنها هي الحل في هذه المجتمعات التي في دور الإسلام وكذلك في قلب المجتمع الإمريكي. وإن مما يجب أن نقوله: إن الشعب الأمريكي في الغالب هو شعب حر -لا سيما في التدين- وإن كثيراً منهم إذا عرض عليه الإسلام فإنه يسلم، فبعض الإخوان في أمريكا قد أخبرونا أنهم لا يستيطيعون أن يستوعبوا الداخلين في الإسلام من كثرتهم -والحمد لله- لأن الإسلام دين الفطرة؛ ولأنهم يعيشون في ضنكٍ، وضيقٍ لا يعلمه إلا الله، وهذه الأمور لمستها ولمسها كل أخ زار تلك البلاد بنفسه وبأم عينيه. فالواجب إذاً هو على الدعاة في مثل هذه الأحداث، فهؤلاء سيأتوننا بكل المفاسد، ولا نتوقع إلا ذلك، ولا يجوز لدعاة الإسلام أن يضعوا رءوسهم في الرمال، ويتناسوا هذا الخطر المحدق، أو أن يغفلوا عن هذا الواجب، فلن يقوم به إلا أنتم أيها الشباب، وأنتم أيها الدعاة، فاتقوا الله فيما حملكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من هذا الواجب، وادرءوا عن الأمة هذا الخطر بقدر ما تستطيعون.

الرجوع إلى الله وقول الحق

الرجوع إلى الله وقول الحق هناك أمور يجب أن تكون نصب أعيينا ونحن نتحدث عن هذه المشكلة، وعن هذه الأزمة الخطيرة، وهي: أن ما أُصِبنَا به وما خطط له الأعداء، وما جاءوا به؛ فإنما هو بسبب ذنوبنا، وتفريطنا في أخذ العدة والاستعداد لمواجهة أعداء الله وأخطارهم، أي: لأننا عصينا الله وخالفنا أمره، كما قال أبو الدرداء لما بكى -رضي الله عنه- عندما رأى أسرى قبرص فقال: 'ما أهون الخلق على الله إذا خالفوا أمره' فبينما هم ملوك في بلادهم، إذا هم أسارى في أيدي المسلمين. إن ما حل بنا يجب أن نفكر جدياً في أسبابه، ثم نتخذ الحلول ولا بأس أن نتخذ وجهة نظر واحدة والكل يعرفها، وكلنا -إن شاء الله- متفقون على أكثرها، وهي: أولاً: يجب علينا أن نعيد النظر في حياتنا جميعاً، ولا أعني الأوضاع العامة، بل حتى في أوضاعنا الخاصة؛ فكلٌ منا ينظر في خاصة نفسه، كيف ذنوبي؟ وكيف أعمالي؟ وكيف علاقتي وصلتي بالله عز وجل؟ ولماذا سُلِّطُ علينا أعداؤنا؟ فكل منا يفتش عن نفسه، لأن من مصائبنا -مع الأسف- أن الذنوب والمعاصي تقع، ولكن سرعان ما تعلق بمشجب معين، فيقال مثلاً: التقصير من الحكومة، أو من الشعب، أو من العلماء، أو من الفرقة الفلانية، لأنها ما أخذت موقعها. ودائماً نحن في جميع أمورنا نحاول أن نجد مشجباً فنعلق عليه كل الأخطاء، وهذا غير صحيح، فمن سنة الله تبارك وتعالى أن كل واحد منا مسئول عن ذنوبه، ويلحقه شيء من هذه المصائب، ويعفو الله تعالى عن كثير، كما ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك بقوله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15] فنحن بضعفنا وبأعمالنا استجلبنا ذلك. ما الذي غيَّر فينا دخول هذا الهجوم البعثي؟ ثم ما تلاه من تكالب صليبي؟ ما الذي غيرّ فينا، وما الذي جعلنا لا نرجع إلى الله تعالى ولا نرجع إلى ديننا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالأمر والحال كما ترون. فكل تبرج أو فسق أو استهتار في الأسواق أو في المجلات الداعرة أو في الكتب أو في الشعر الماجن أو في الأغاني الخليعة أو في محلات بيع الفيديو أو وسائل الإعلام نفسها، كل ذلك لا يزال كما كان ولم يتغير. فأي بنك ربوي أغلق بعد أن جاء الهجوم؟ وإنما قلنا: يجب أن نرجع إلى الله، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، فنحن نحارب الله أم نحارب هؤلاء. لم يقع شيءٌ من ذلك؛ بل إننا نحاول أن ندعم هذه البنوك؛ لأن الناس بدأوا يسحبون الأرصدة منها، فيجب أن ندعمها لكي لا تتأثر. فنحن بهذا قد تشبهنا بالكفار في حياتنا وسلوكنا ومعاملاتنا، فهل تغير هذا؟ وهل قلنا: كيف نتشبه بأعدائنا في الشعارات التي كنا نرددها مثل الأمة العربية، والقومية العربية، والواجب العربي، وما أشبه ذلك، هل تركنا ذلك؟ وهل نسخناه من صحافتنا التي كانت قبيل فترة تقول: الحملة الظالمة على العراق فكانت الصحافة الغربية تذكر شنائع حزب البعث وأنه دَّمر المسلمين والأكراد وأحرقهم بالغاز السام؟ فتقوم الصحافة العربية كلها وتقول: هذه حملة ظالمة على العراق يشنها الغرب، ونحن نعلم أن الأمر كذلك، والآن اعترفنا بأنه كذلك؛ فلابد أن نلغي هذه الشعارات؛ لأننا أمة الإسلام أمةٌ واحدة كالجسد الواحد، فلا نؤمن بمبادئ القومية، ولا الوطنية، بل كلها عصبية جاهلية وضعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت قدميه. فنحن لا نحب إلا في الله ولا نبغض إلا في الله، ولا نوالي إلا في الله، ولا نعادي إلا لله؛ وإن أعطينا فلله وإن منعنا فلله، فهذا هو الواجب الذي ينبغي أن تكون عليه حياتنا وسياستنا وخططنا، فيذكر به بعضنا بعضاً إذا غفلنا؛ أما أن نستمر في هذه الشعارات، وفي قرارات وأمور اتخذناها، فكان من شأنها الحد من الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو الحد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا والله هو الوقت المناسب للسماح للدعاة إلى الله بأن ينطلقوا لأداء واجبهم، فنحن الآن أحوج ما نكون إلى دعاة يصدعون بكلمة الحق؛ لأن أعداءنا -من غربيين وبعثيين وغيرهم- إذا رأوا أن في الأمة من يصدع بهذا فإنهم يخافون منا، ولا مانع من أن نظهر -إن كان على سبيل الإظهار- في وجه الأعداء بأننا طائفتين: طائفة تسكت، ولكن هناك طائفة تنكر؛ فنكسب الموقف بالاختلاف بين هاتين الطائفتين مثل ما يفعلون بنا إذا كان على سبيل التخطيط. فالأمريكان إذا طلبوا من الإدارة الأمريكية شيئاً اعتذرت بأن الكونجرس يرفض. لماذا؟ نحن لا نقول: إن العلماء والدعاة يرفضون، ولكن لماذا لا يكون لنا نفس الشيء؟ فنكسب مصالح لأمتنا قبل أن تأتي الطامة الكبرى التي لا علاج بعدها نسأل الله العفو والعافية. فأقول: إننا لم نغير في هذا الواقع أي شيء، فمدارس تحفيظ القرآن وغيرها من المدارس -مثلاً- كيف رضينا أن تتقلص أعدادها إلى هذا الحد وبالمقابل يتم فتح ثانويات وكليات كثيرة جداً ومعاهد متنوعة؟! لماذا التقليص فقط لمدارس تحفيظ القرآن؟! المدارس التي كانت نور ومشعل للهداية، فلابد أن نُعيد النظر -أيضاً- في هذه الأمور، ثم لابد أن نعيد النظر في علاقاتنا، وفي صداقاتنا؛ ماذا أجدت بنا هذه الصداقات، فكل دولة وقفت ضدنا أو تحفظت على قرارات نرى أنها من صالحنا؛ فهي دولة أعطيناها أبلغ العطاء، فـ العراق نفسه أعطيناه أبلغ العطاء. ومما يدل على هذا الأمر قول الرئيس المصري: بأن العراق كان يريد أن يقدم له رشوة قبل سنتين. إذاً فالأمر كان مخططاً لاحتلال الكويت برشوة قدرها (25 مليار دولار) فَمِنْ أين كان سيدفعها صدام؟! إذاً يجب أن نعيد النظر فيما نعطي وفيما نمنع، وأن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك.

الصدق في التوكل على الله

الصدق في التوكل على الله علينا أن نراجع أنفسنا في مسألة الاعتماد والتوكل على الله والأخذ بالأسباب، ويجب علينا أن نراجع قلوبنا ونعيد الإيمان الصادق والتوكل في قلوبنا؛ فنقول ونحن صادقون: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فلا نستعين إلا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا نستعين على أعدائنا بأعداء الله نتيجة تفريط منا، فنحن كنا السبب فيه، وأن نكون صادقين مع الله في الاستعانة به والتوكل عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فلو أخلصنا أعمالنا لله وصدقنا في التوكل عليه لنصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقال أيضاً: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، وقبل ذلك يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]. فلابد أن نكون متوكلين على الله وحده، معتصمين بحبل الله وحده، مؤمنين بالله وحده، ثم إن علينا أن نأخذ بالعلاج القرآني؛ العلاج الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مانعاً لوقوع العذاب إذا أدرك أمة من الأمم، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:42 - 45]، ويقول تعالى في سورة أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف:94]، فيريد الله -عز وجل- منا في هذه الآيات الضراعة واللجوء إليه، وأن نعلم أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه؛ وأنه لن ينصرنا إلا هو، وأن بيده كل شيء، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] وهو خالق كل شيء، وخالق الأسباب والمسببات، وهو الذي إن شاء سلط على الكفار عذابًا من عنده أو بأيدينا؛ فهو يدافع عنا إذا كنا صادقين معه بما يشاء وكما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن! أين نحن من هذا؟! قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99]، فقد أصبح حالنا -مع الأسف- مثل الذين قال الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52]. فوالله لو صدقنا مع الله ونصرنا دين الله، وأعززنا كلمة الله، ورفعنا شأن الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونشرنا الخير في مجتمعنا، وقضينا على بذور الشر، وحذرنا من هذا العدو بجبهتيه وكلا طرفيه وانتبهنا له، وقاومنا شره وفساده عسكرياً وأخلاقياً؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يخذلنا ولن يتركنا أبداً، وإن كان غير ذلك نحشى -وهذا أخشى ما أخشاه- أن تكون هذه بداية الملاحم.

عداوة الروم المستمرة للمسلمين

عداوة الروم المستمرة للمسلمين الملاحم مع الروم مستمرة إلى قيام الساعة، بل قد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح البخاري فقال: {اعدد ستاً قبل قيام الساعة: أولهن موتي، وهدنة ثم هدنة ثم هدنة، ثم يكون بينكم وبين بني الأصفر فينزلون فيأتونكم تحت ثمانين غاية - أي: راية- تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً}، أي: (تسعمائة وستين ألفًا) وفي حديث ضعيف لكن يعتضد بكثرة رواية هذا الحديث وبكونه صحيحاً، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثم تأتيكم الروم بألف ألف، خمسمائة ألف بالبر، وخمسمائة ألف في البحر}. فالفتن والحروب والملاحم مع الروم ستستمر إلى قيام الساعة، ولن تنتهي؛ حتى يظهر الدجال وعيسى بن مريم عليه السلام، ثم لا يكون بعد ذلك إلا العلامات الكبرى، ونهاية الوجود فيظلون حرباً علينا. ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بشر بالنصر عليهم 0ولله الحمد والمنة- فقال: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تغزون فارس فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الروم فيفتحها الله لكم}، ولكن غزو الروم وحرب الروم بعيد المدى، كما جاء في الحديث -أيضاً- وإن كان فيه ضعف، ولكنه يستند إلى أحاديث الملاحم الكثيرة؛ فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فارس نطحة أو نطحتان، ثم يفتحها الله لكم}، (فارس نطحة أو نطحتان) أي: (القادسية ثم نهاوند) وهي قادسية سعد بن أبي وقاص لا قادسية المجرمين المشركين، فقال: {القادسية ونهاوند، ثم يفتحها الله} -فالحمد لله- قد قضي على ملك كسرى.

نبذة عن الحرب مع الروم

نبذة عن الحرب مع الروم أما الروم ذات القرون، فكلما هلك منهم قرن ظهر قرن آخر، ولذلك حاربونا أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، ثم حاربونا في أيام أبي بكر وكانت اليرموك وما بعد اليرموك؛ ثم جاءوا في الحروب الصليبية وحاربهم نور الدين وصلاح الدين -رضي الله عنهما ورحمهما- على ما بذلا؛ لأنهما أعطيانا العبرة والقدوة في حالة الضعف. فكيف يمكن أن ننهض -كما هو حالنا الآن، من هذا الذل والضعف والهوان الذي نسأل الله أن يرفعه عنا؟! ثم جاءوا في حروب الإستعمار -كما سمي-، ثم جاءت هذه الهجمة التي لا يعلم عاقبتها إلا الله، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تكون نهايتها للمسلمين، ولكن بالشروط التي ذكرناها، إن شاء الله تعالى. فالروم ذات القرون كلما هلك منهم قرن ظهر آخر؛ فقد أهلك الله الإنجليز الذين كانوا يخافون أشد الخوف ويخشون أشد الخشية من دعوة التوحيد في هذه الجزيرة؛ وأي مسلم -والحمد لله- يطلع على التاريخ الحديث المتخصص يجد في الوثائق البريطانية العجب العجاب!! فهناك دراسة عن الدولة السعودية عند أول نشأتها الأولى ثم الثانية ثم الثالثة؛ وهذا يدل على خوفهم ورهبتهم من وجود هذه الدعوة (دعوة التوحيد) فهذا قرن من قرون الروم، ظهر وحارب الإسلام والمسلمين طويلاً؛ فدمره الله، ثم جاء قرن آخر وهو الأمريكان، وقد يأتي قرن ثالث، والله أعلم كيف تنتهي الأمور. فهذا عدو أبدي مقيم لا تنتهي عداوته إلى قيام الساعة، ولابد أن تعد له العدة، ولا تكون هذه العدة أموراً أو تصرفات عجلة؛ أو عواطف تثار؛ لأنها حرب طويلة الأمد؛ فأول ما يجب أن نبدأ به الآن في مرحلتنا هذه هو نشر الدعوة إلى الله والضراعة واللجوء إليه، فنعلم أنفسنا وجميع الناس التوكل على الله وحده، وننشر مفاهيم عقيدة الولاء والبراء في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم تأتي مرحلة الجيل التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد آيات الولاية التي في سورة المائدة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:54] أي: حين يوالي الكفار، ويكون مثلهم، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] إذاً: هذا الجيل سيخرج -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولن يخرج إلا في مثل هذه المحن وهذه الفتن والشدائد؛ لأنه سيخرج صلب العود، قوي الإيمان متماسك البنيان؛ فعلينا أن نعد له العدة الآن وذلك بتمهيد ونشر عامٍ للعقيدة الصحيحة، ولكل المفاهيم التي سبق ذكرها؛ ثم تكون بعد ذلك الملاحم مع الروم التي ستطول، ولكنه قدرُ هذه الأمة فتنزل الروم بالأعماق بدابق اليهود كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسوف تكون معارك طويلة جداً؛ فإذا كنا مع الله وصدقنا؛ فسوف ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إذاً: فالأمر لن يكن مفاجأة، ولكنها عملية خطط ورتب لها، ولها أدلة كثيرة، والأمر -أيضاً- لن يكون بالسهولة التي نتصورها؛ بأن هؤلاء الأعداء لن يفعلوا ما يضيرنا؛ وسيرحلون بهدوء، فلا نقصد فقط أمتنا هذه، بل الأمة الإسلامية عموماً كلها، فهي تهمنا؛ لأنها أمة مؤمنة، فـ الكويت قد احتله العراق؛ ولكن مقابل هذا الاحتلال احتلت الأساطيل الغربية -وعلى رأسها أمريكا - المحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط والمنطقة بأكملها، وأصبحت تحت ولا يتها وهذا إحدى علامات ومصداقية وثمرات الوفاق الدولي الذي تريده أمريكا فـ الاتحاد السوفيتي -فعلاً- التزم بالقرارات الدولية؛ ولأنه جزءٌ من الغرب، داخل ضمن الهيمنة الأمريكية، فليس له رأي منفرد. -وكما سمعنا مراراً وتكراراً في الواقع- فلم يسبق للغرب في أي مرحلة من مراحل تاريخه أن توحد بمثل هذا الإتحاد إلا في الحروب الصليبية الأولى، ففي الحرب العالمية الثانية كان هناك محور شرقي ودول الحلفاء، أما الآن فقد توحد الكل؛ فها هي ألمانيا قد غيرت دستورها من أجل أن تشارك في هذه العملية. إذاً فالغرب قد توحد ولكنه لم يتوحد إلا لأهداف بعيدة المدى، وإنه يؤلمني جداً ويؤلم كل مؤمن أن تظل هذه الأهداف بعيدة عن كثير من الناس ولكن يعلم الله أني لو رأيت من يقول هذا الكلام ويوضحه؛ لما احتجت أن أقوله؛ لأنها أمانة يجب أن نقولها، فهؤلاء ما تألبوا ولا تكالبوا إلا لأمر عظيم.

نداء إلى شباب الإسلام

نداء إلى شباب الإسلام فيا شباب الإسلام! أَعدوا للأمر عدته، وأول هذه العدة الضراعة إلى الله قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] أي: أن قوم يونس خرجوا لما رأوا عذاب الله، قال بعض المفسرين: " خرجوا بنسائهم وأطفالهم ودوابهم وتضرعوا إلى الله" وقيل: إنهم بكوا أربعين ليلة حتى كشف الله عنهم العذاب والله سبحانه يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، فلما استكانوا وتضرعوا كشف الله عنهم العذاب، وفي هذه الآية يقول الحسن البصري لما جاءه القراء، وقالوا له: لماذا يا أبا سعيد لا نخرج على الحجاج ونقاتله-مع ابن الأشعث ممن خرجوا وهو من العلماء- فقال لهم: يا أهل العراق، يا علماء العراق. إن الحجاج عذاب الله سلطه عليكم بذنوبكم فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم وأرجلكم ولكن ادفعوه بالاستكانة والتضرع؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] وكذلك فإن هذا الحاكم المجرم في العراق ما هو إلا بذنوبنا ومخالفاتنا لكتاب ربنا، وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشريعته وسياسة الخلفاء الراشدين؛ فهذه هي نتيجتها، وهي عقوبة الله لنا، ونحن الذين بأيدينا دفعنا ثمنها. فنسأل الله عز وجل توبة وإنابة وتضرعاً يدفع به عنا هذا العذاب، فهو القادر على كل شيء، ونسأله عز وجل أن يبعث عليهم -الشرقيين والغربيين والبعثيين والصليبيين- عذاباً من عنده، وأن يقيظ لهم أمةً مؤمنةً مجاهدةً تشفي قلوب المؤمنين فيهم إنه على كل شيء قدير، وأحب أن أقف عند هذا الحد لأفسح المجال لأسألتكم. أيها الإخوة الكرام: كل ما قلته هو رأي أخ أحبَّكم في الله تعالى، وأحبَّ أن يُبرئ نفسه، لعله يصل إلى آذان صاغية -إن شاء الله- ولعله يكون منه حل وفرج قريب، وأوصيكم ونفسي بأن تلجأوا إلى الله تعالى دعاةً وأفرادًا، وأن يدعو كل منكم الآخر، فإنه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم} - فينفع الله به، أُوصيكم ألاَّ تنسوا دعاء الله عز وجل والضراعة إليه في جوف الليل، فمن قام فليقدر المصيبة التي وقعت فيها الأمة، وليعلم أن الدعاء واجب ولا أعني بذلك القنوت فقط، بل كل منا -وحده مع الله- يتوب ويستغفر ويلوذ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويلح بالدعاء، فإن الله قدير على أن يبصر هذه الأمة ويفتح لها باب كل خير، وأن يبرم لها أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

الأسئلة

الأسئلة

الولاء والبراء

الولاء والبراء Q بماذا تنصحون من يفرح بعد هذه الأحداث، ويقول: نريد أن تحتلنا أمريكا؟ A يكفيكم أن تسمعوا مثل هذا الكلام؛ لتعلموا أن الأمة بحاجة إلى العقيدة الصحيحة، وإلى بيان الولاء والبراء، وإلى بيان ما حذَّر الله تبارك وتعالى منه من عداوة الكفار وضررهم لنا، ونسأل الله لهذا الأخ الهداية والتوبة، ويجب عليه أن يتوب ويستغفر الله، وليعلم أنه قد قال قولاً عظيماً، نخاف على إيمانه والعياذ بالله.

مخالفة الشيخ لفتوى هيئة كبار العلماء وحجته في ذلك

مخالفة الشيخ لفتوى هيئة كبار العلماء وحجته في ذلك Q يقول بعض الإخوة: في شريطكم الأخير خالفتم بعض العلماء في جواز الاستعانة بالكفار، فما جوابكم حول بطلان بعض الأدلة التي طرحتموها؟ A بالنسبة لبيان هيئة كبار العلماء: لم يكن إلا في الضرورة، وأنا أقول: نعم! الضرورة تبيح أكل الميتة -نسأل الله العفو العافية- قد يكون هذا ضرورة، لكن أنا لا أتكلم عن الواقع، وهل الضرورة موجودة أم غير موجودة؟! وقد ذكرت ما سمعتَ حول الموضوع، لكني أقول: إذا بقي الاستدلال على الضرورة، فيبقى الخلاف في تطبيقها على الواقع، وهل هو ضرورة أو غير ضرورة؟ أما إذا استدل بأدلة غير صحيحة فيجب على الإنسان أن يتكلم. قد يقول الأخ: إن هناك بيان هيئة كبار العلماء؟ أقول: فليس في بيان هيئة كبار العلماء أي دليل، فقد ذكر بعض مشايخنا الأفاضل -الذين نُجِّلهم، بل وإن كان فينا خير فهو جزء مما تعلمناه منهم- فقد ذكروا أدلة لا أرى ولا أدين لله بأنها صحيحة مثل حديث خزاعة، وهي قبيلة مؤمنة مسلمة، يقول: رئيسهم عمرو بن سالم: هم بيتونا بالهجيع رقدا وقتلونا ركعاً وسجدا يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فقتلونا ركعاً وسجدًا، فهم مؤمنون يركعون ويسجدون؛! فدخلوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فحاشاه أن يستعين بمشرك، وقد صح عنه ذلك فقال: {إنا لا نستعين بمشرك} أي إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، فهذه قاعدة قالها على سبيل القاعدة العامة، ولم يثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان بكافر في أي غزوة من الغزوات. أما ما قيل من يهود خيبر، فالحديث في هذا مرسل، بل هو منقطع أيضاً. أوما قيل من حديث عبد الله بن أريقط من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذه في أحكام الإجارة، والإجارة غير الجهاد. فليعلم أن الإجارة شيء والجهاد شيء آخر. وهناك أدلة أخرى ليس المجال هنا لتفصيلها، أما كلامنا الماضي فما كان إلا مجملاً لكن لا مانع لديَّ على الإطلاق أن نتباحث في مسألة صح الاستدال بها مثلاً، وأعدكم أنه إذا صح لي الاستدلال بأي حديث منها أن أقوله ولا حرج في ذلك أبداً.

فتن المشرق

فتن المشرق Q ما هي الفتنة التي تخرج من نجد أو العراق؟. A هذه إحدى الفتن، أي: الفتن من قبل المشرق كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنه تأتي الفتنة ويراد بها جنس الفتن، فتكون من المشرق عموماً. انظروا إلى الجناح الغربي من العالم الإسلامي: كم ظهر فيه من الفتن في القديم والحديث؟ قليل، كفتنة ابن تومرت، وبعض الدويلات، وزيرة الخارجية التي قامت هناك فهي فتنة عادية. أما بالنسبة للشرق فكم وراءه من فتن؟! انتهينا من فتنة الخميني فجاءت فتنة البعثية، وقبلها وقبلها فتن دائمة، فمن قبل ذلك كانت الباطنية، ثم جاء جيش التتار من الشرق، فهي فتن عظيمة جداً، وهذه إحدى هذه الفتن نسأل الله أن ينجي بلادنا منها.

حديث: (لا يغلب اثنا عشر ألفا)

حديث: (لا يُغلب اثنا عشر ألفاً) Q نريد منكم شرح حديث لا يُغلب اثنا عشر ألف من قلة؟ A نعم، العبرة ليست بالعدد، فاثنا عشر ألفاً وليس فيهم تارك صلاة لا يغلبون من قلة؛ فإن غلبوا وهزموا فليست غلبتهم وهزيمتهم لقلة العدد، ولكن لسبب آخر غير القلة، وفي هذا بيان بأننا لا نحارب أعداء الله بعددنا، ولا بعدتنا، وإنما نحاربهم (بأننا مؤمنون وهم كافرون). كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى سعد بن أبي وقاص فقال: [[إنما يغلب المسلمون عدوهم بتقواهم لله ومعصية عدوهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة]] أي: في كثرة الدبابات أو كثرة المجندين إلى غير ذلك؛ إذا استوينا نحن وهم في المعصية والأمر الآخر أنه إذا عصى الله من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، وهذه سنة من سنن الله قد ذكرها الله في القرآن في أول سورة الإسراء عندما سلط بختنصر على بني إسرائيل فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً. فكذلك يسلط الله تعالى على المؤمنين إذا هم عصوه وخالفوا أمره، وألقوا كتاب الله خلف ظهورهم، ولم يحكموا دينه وشرعه فإنه يسلط عليهم الكافر المشرك الذي لا يؤمن بالله -أصلاً- عقوبةً وعذاباً لهم حتى يرجعوا إلى دينهم.

بين الإعداد والتوكل

بين الإعداد والتوكل Q ما حكم الاهتمام الزائد بتخزين الأقوات والأرزاق مع إهمال، ما هو أهم من ذلك هل ينافي كمال التوكل؟ A هذا ينطبق عليه ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أننا: ركنا إلى الدنيا وكرهنا الموت، وأخذنا بأذناب البقر، واشتغلنا بالزرع، وتركنا الجهاد، وأصبح همنا في هذه الدنيا: الطعام، والشراب. فقد كان العربي في الجاهلية يهجي: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي سبحان الله! ما كان يهجى به العربي في الجاهلية ويأنف منه الآن، فنحن الآن نفرح إذا بُشِّرنا بالطعام والشراب، قد كان هذا موجودًا في الجاهلية، لكن الإسلام ليس فيه إلا أن المؤمن يعلم أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأننا أمة جهاد، أمة شهادة. فهذا العمل من ضعف التوكل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلامةًً على ركوننا إلى هذه الدنيا، ومحبتنا وإيثارنا لها على الجنة. ولكن هذا لا يعني أن المسلم لا يأخذ بالأسباب في وقتها أو متى جاءت، ولكن الهلع عندما يدب إلى النفوس من قلة الأرزاق أو الغازات الكيماوية أو غيرها يجعلنا نتصرف تصرفات أشبه بالمعتوهين المذعورين، والأمر بعيد، وقد لا يصل إلى هذا الحد -والحمد لله- فسواحلنا ضخمة، موانئنا كبيرة وكثيرة على البحر، ومنافذنا كثيرة وواسعة، بل إن العالم يحتاج أن يبيع لنا. والذي يجب أن نكون عليه (الإيمان بالله، وأن نعد العدة لكي نجهاد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع أنه لم ينقصنا المال ولم تنقصنا التعبئة العامة. ففي أي بلد -في العالم- يواجه حالة حرب، فإن من بديهيات العمل العسكري أن التعبئة العامة تكون بجمع (10%) من السكان، والعراق لم يُعد (10%) -مثلاً- فنحن إذا أعددنا (10%) والله لن تقف أمامنا أي قوة؛ فالمال موجود ولسنا نحن فقط حتى الكويت وغيرها؛ لأن الحرب الآن ليست بكثرة البشر أو كثرة العدد أو الدبابات، بل إن المؤمن الصادق والجاد -وإن لم يكن مؤمناً كحال الدول الغربية عليه أن يعد العدة، فبالإمكان وضع حواجز رهيبة جداً، لا يمكن لدبابات صدام أن تتعداها. نعم! نستطيع فعل ذلك؛ لكن المشكلة ليست في العدد والعدة، ولكنها هل أردنا ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فنحن في عصرٍ إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، وهذا سعي العالم، ومن كان جاهلاً فليعلم أنه كلما قيل: ' إن هؤلاء إخواننا، وهؤلاء جيراننا، وهناك معاهدات! دولية بيننا وبينهم' وأمريكا وروسيا لن ترضيا، كله تبختر ساعة العدوان. إذاً ما الحل؟ الحل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} [الأنفال:60]. أبداً: لا يستطيع أحد بأن يفكر أن يعتدي عليك إذا علم أن لديك القوة الكافية الرادعة. ولله الحمد والمنة، الذي أعطانا إمكانيات بشرية ومادية وحدودية، فلو صدقنا مع الله، وأردنا الجهاد، والله إننا لنستطيعه وحدنا وبمفردنا، ولينصرنا الله، ولنفتحن البلاد -أيضاً- ولندخلنها تحت شرع الله، فإن أبينا فإن الله يقول: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

موقف إسرائيل من حرب الخليج

موقف إسرائيل من حرب الخليج Q لماذا إسرائيل الآن تلتزم الصمت هذه الأيام، مع علمي بدورها الأكيد في القضية؟ A لا يوجد ظرف مر على إسرائيل أفضل ولا أحسن ولا أنسب من هذا الظرف؛ فالتجمعات العربية تفككت وانهارت، والأمة العربية -كما تسمى- وليس في تاريخنا شيءٌ يسمى أمة عربية وإنما هي أمة إسلامية -لكننا نستخدم ما يقولون! - وإنما هناك مسلمون وهناك من انحاز مع غير المسلمين، فأي شيء تريده إسرائيل أعظم من هذه الفرحة، فإننا نسينا مشكلة اليهود المهاجرين. فمنذ الأحداث وأنا أقول -عن نفسي-: هل سمعتم من أعاد موضوع المهاجرين أو ذكره؟ فالانتفاضة تأتي الأخبار عنها قليلة وكذلك كانت الإمدادات الكبيرة للانتفاضة من الكويت ثم انتهت والله المستعان! فقد نسينا قضايا إسلامية كبيرة تهم أمريكا وتهم إسرائيل -أيضاً- بسبب هذا الحدث، فنسينا أفغانستان والفلبين وإرتيريا، نسينا مسلمي سرلنكا يقتلون هذه الأيام بالمئات، ونسينا أنهم يذبحون باكستان لأنها أقوى دولة إسلامية وهي التي يمكن أن تهب لنجدة المسلمين في هذه الظروف، فتسلط عليها الهند وقضية كشمير، وأما تركيا فقد جعلوها تابعاً لهم، ويريدون أن يستغلوا هذه الأحداث لضمها ضمن الحلف الأطلسي كاملة، وهو حلف قديم من شروطه: أن لا يكون فيه إلا دول نصرانية، واسمه (الحلف المقدس) الذي كان بضم الدول النصرانية فقط. وأما أكثر دولة عربية من الناحية البشرية: مثلاً مصر والتي يمكن أن تؤثر على إسرائيل وغيرها، فلو لم يكن عندها هذه المرة مشكلة، إلا الألوف الذين عادوا بدون أعمال، فكانت مشكلة على مشاكلها السابقة فنقول: من حيث النظرة القريبة أن إسرائيل هذا يوم فرحتها الكبرى، ومع ذلك فإنها قد تتدخل عسكريًا، وإذا تطورت الأحداث ربما تزال دولة الأردن. بحيث تهاجمها إسرائيل لدخول العراق، وهو تهديد قديم. فكل دولة في المنطقة قريبة من إسرائيل أو بعيدة إلا ولها -الآن- ما يشغلها عن إسرائيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

منكرات صاحبت الأحداث

منكرات صاحبت الأحداث Q بعد حدوث المصائب العظيمة مازالت المنكرات تعج بها أسواق المسلمين وبيوتهم، وكذلك وسائل الإعلام المسموعة والمرئية (من أغانٍ، ونساء متبرجات) فما تعليقك على هذا مع النصحية؟. A ليس أكثر من قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].

متابعة وسائل الإعلام أثناء الأحداث

متابعة وسائل الإعلام أثناء الأحداث Q ما رأيكم في من همه متابعة الوسائل والأخبار بدون تمييز ولا وعي، ودون الرجوع إلى الشرع أو إلى أهل العلم، نرجو منكم التوضيح مع الكلام عن ضرر كثير من وسائل الإعلام المضللة؟ A العجيب! فعلاً -وإن كان ما يبرره- من كان يعلم أن أخبار المسلمين تأتي من إذاعة لندن ومنتكارلو، أو غيرها، وقد رأيت في مجالس كثيرة عندما تأتي أخبار لندن ومعها منتكارلو فيسمع الشخص واحدة ويسجل الأخرى، ثم يسمعها بعد ذلك فهذه مشكلة! أن نأخذ أخبارنا من عدونا! لكن للمشكلة ما يبررها وهو: أننا لا نجد في إعلامنا الإسلامي أو العربي التحليلات!! فلا توجد إلا في الصحافة التي تأتي من الخارج فهي التي تعطي بعض التصريحات، (فمثل بعض التصريحات التي قرأتها لكم التي تأتي من صحف لبنانية ونصرانية). فعندما يكون الإعلام بهذا المنوال فمن الطبيعي جداً أن يسمع الناس؛ لأن عندهم حساسية مرهفة في سماع اللحظة الآنية، ولا يهمهم الأخبار الماضية؛ ولهذا تعجب عندما يقال: ما رأيك هل تُضرب العراق أم لا؟! فليست مشكلتنا أنها تضرب أو لا تضرب، بل إن المشكلة في الأسباب والعبر والنتائج ولهذا اضطررت أن أقول: لا أتوقع ضربة عاجلة؛ لأن هؤلاء يريدون أن يعززوا مواقعهم؛ لأن أي ضربة غير حازمة قد تفشل، ولذلك يقولون: الضربة ستكون في أكتوبر، وبعد ذلك يقولون: في يناير، ليست القضية الضربة وانتهت. وإنما القضية. لماذا جاءوا الإعلام؟ لا شك أنه مظلل ولا سيما الإعلام الخارجي، ويجب أن ننتبه لهذا الجانب ونصحح أوضاعنا الإعلامية، وأن يكون فيما حدث من قصور في إعلامنا نقول لها: إن ما حدث عظة وعبرة، ونوصي إعلامنا والمسؤولين عليه بأن يتقوا الله، وأن يكون الإعلام على مستوى الأحداث -إن شاء الله تعالى- ثم نحن شباب المسلمين أوقاتنا ثمينة، وقد فرطنا في طلب العلم هذه الأيام، وفرطنا في سماع المواعظ! فرطنا في أشياء كثيرة، وقد كان عندي بعض الموضوعات التي أريد أن أتكلم فيها؛ وإذا بالشباب والناس لا يريدون إلا أن أتكلم في هذا الحدث. لكن علينا أن لا نضيع أوقاتنا ويكفينا أن نقرأ تحليلاً أو تحليلات لنعرف ما وراءها، ولنعرف أن هذا الأمر مخطط له من قبل سنوات، وعلينا أن نأخذ العبرة منه ثم ننطلق إلى ما بعد ذلك من الدعوة إلى الله، والصدع بكلمة الحق.

دور العلماء في أحداث الخليج

دور العلماء في أحداث الخليج Q أين دور علماء المسلمين في توضيح حقيقة مثل هذه الأحزاب -قبل الأحداث- وأعمالهم الخبيثة؟، وما تفسير ذلك: أهو جهل بواقع الأمة أم ماذا، الذين تكلموا عنها قبل الأحداث فهم قليل وعلى رأسهم الشيخ عبد الرحمن الدوسري -رحمه الله- وكل ما نخشاه من سكوت العلماء أن تقع مصيبة ثانية، فما هي كلمتكم لعلماء المسلمين؟ A علينا أن لا نضع اللوم على جهة معينة، فما دورنا نحن إلا إمام المسجد أو مدرس أو زميل له زملاء في العمل أو على الأقل أب وله إخوة وزملاء أو أسرة فما دورنا؟! لماذا نجعل اللوم على جهة معينة، وخاصة الذي يعيش معتركاً أو ظروفاً معينة تحتم عليه مجاملات أو أوضاعاً صعبة، فنحن في بحبوحة في أن نقول الحق في بيوتنا ونتكلم عن أنفسنا وعن واجبنا. هذه الأحزاب لابد أن تفضح، ونعوذ بالله أن يأتي يوم ونصطلح فيه مع صدام، ثم يأتي إلى الديار المقدسة. وهذه مشكلتنا، فليس لنا ولاءً، ولا عداوة ثابته، لأن هذه سياسة الغرب الذين يقولون: لا نعرف عداوات ثابته، ولا صداقات ثابته، ولكننا نعرف مصالح ثابتة. نقول: لا، أما إن آمن ورجع إلى الإسلام {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، لكن: المشكلة أيضاً أن تصلح الأوضاع السياسية بالرجوع إلى الأخوّة العربية -ولا أحد يتكلم بعد ذلك- وهذا لا يصح؛ لأننا إذا أردنا ذلك يجب أن نضع أمام الناس المعايير العقدية الصحيحة في الولاء والبراء، ونعلمهم إياها وبذلك نفضح حزب البعث ذا الجناحين (أي: يحكم دولتين) وله أحزاب في دول أخرى، كل كلامنا الآن عن جناح واحد ودولة واحدة، وهناك جناح يجمع مصيبتين عقيدة كفرية وهذه العقيدة الجديدة وإلى الآن لم تتغير ولم تتبدل، أما الذين عداوتهم مكشوفة صريحة من يهود ونصارى، فعداوتهم هي الحد الأدنى الذي يجب أن نعلمه نحن المسلمين. وأقول: بكل أسف إننا لا نعلم عنهم إلا ما يعرض عن هؤلاء في حضارتهم واختراعاتهم واكتشافاتهم وتطوراتهم وتقدمهم، أما عداواتهم وخططهم فمبسوطة ومكشوفة في كتبهم، وهذه الكتب مطبوعة ومقروءة ومع ذلك لا نعرضها، فهذا الذي يجب علينا نحن الدعاة وطلاب العلم معرفته، وأن ننبه علماءنا إليه، ولا نقول: إنهم معصومون! لكن كفاهم أنهم أجهدوا أنفسهم في طلب العلم، وأعطوا الفتاوى في عباداتنا وفي عقائدنا وفي معاملاتنا، وهذه ثغرات لا نستطيع أن نسدها نحن: أقلُّوا عنهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سدوا من منا يسد مكان العلماء؟ والله لا أحد؛ لكن نقول: نعم، عندهم تقصير في معرفة الواقع ونحن نستكملها، ليس من فضلنا عليهم، لكن لأننا نعايش الأحداث، أما هم فما عاشوا هذه الأحداث؛ بحكم الزمن الذي عاشوا أو بحكم أوضاع أخرى، فنقول: العلماء جزاهم الله خيراً نحن نكملهم ونتممهم ونبين لهم أمر الواقع، ومع ذلك أقول: المسئولية الأساسية علينا نحن طلبة العلم بالدرجة الأولى، فَكرِّوا فيمن سوف يخلفهم فأن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً، ولكن بموت العلماء، حتى إذا هلكوا اتخذ الناس رؤساءَ جهالاً نعوذ بالله. فقد أصبحنا نسمع وفي أكثر من مكان من الرؤساء الجهال، فعلموا الأمة من الذي يمكن أن تسمع منه؟ إنهم أهل العلم والحق والفضل. وعلينا الآن أن نعد العدة لاستكمال واجب ودور العلماء من جهة؛ وفيمن يخلفهم -بإذن الله- في قيادة هذه الأمة عملياً من جهة أخرى. والحمد لله رب العالمين.

درجة الخوف من الله

درجة الخوف من الله تحدث الشيخ حفظه الله عن الخوف والرجاء ووجوب اقترانها لصلاح العمل، وبيّن الكيفية الشرعية للتوسل إلى الله تبارك وتعالى، كما أورد صوراً من التوسل عند المشركين والأمم السابقة وحذر منها، ثم وضح المراد من آية الوسيلة، وفسرها تفسيراً ذكر فيه أركان العبادة الثلاثة: الخوف، والرجاء، والمحبة، موضحاً بعض صور الخوف المحرمة، مع ذكر كلام ابن القيم في التفريق بين الخوف والخشية، والرهبة والرغبة، والهيبة والوجل، والإشفاق. مبيناً خلال ذلك أن الخوف ليس مقصوداً لذاته؛ بل هو مقصود لغيره، وهو وسيلة للانزجار عما نهى الله عنه.

التوسل

التوسل قال الإمام الطحاوي: 'ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم'. قال المصنف:- "وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن} [المائدة:44] ومدح أهل الخوف فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61]. وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: {قلت: يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه} قال الحسن رضي الله عنه: [[عملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءةً وأمناً]] انتهى. وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات، فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى وشرعه وقدره وثوابه وكرمه، ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مَغَلِّها ما ينفعه، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مَغَلِّها مثل ما يأتي من حَرَثَ وزَرَع وتعاهد الأرض، لَعّده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع! أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب علم وحرص تام! وأمثال ذلك، فكذلك من حَسُن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه' ا. هـ. الشرح: يقول المصنف رحمه الله تعالى: 'على المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ في حق نفسه وفي حق غيره' فذكر ما نعتقده في غيرنا من الناس، سواءً المؤمن منهم والمحسن، أم المسيء والفاجر، فيضيف المصنف ويقول: هذا ما نعتقده في حق أنفسنا وفي حق غيرنا، والإشارة ترجع إلى الخوف والرجاء وعدم الأمن وعدم القنوط، فنحن لأنفسنا نعتقد ذلك، فنخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونخاف ذنوبنا، ولكن نرجو رحمة الله ومغفرته، وإذا عملنا عملاً صالحاً نخاف أن لا يقبله، ولكن نرجو أن يتقبله؛ لأنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فيكون حالنا بين الخوف والرجاء.

التوسل عند المشركين

التوسل عند المشركين ثم ذكر الشيخ هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الإسراء:57] وفي قراءة لـ ابن مسعود: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ تَدْعُونَ)) فيكون الخطاب فيها للكفار والمشركين لأنهم هم الذين يدعون آلهة من دون الله، والخطاب فيها بصيغة الغائب، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الاسراء:57] ويوضح معنى هذه الآية الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56] فهي توضح أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لهؤلاء المشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يستطيعون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وهذه الأصنام والأرباب جميعاً -من حجارة أو من بشر- لا تملك رزقاً ولا أجلاً، بل لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، فهم من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يملكون الحياة والممات وتدبير الأمور والتقديم والتأخير والعطاء والمنع؛ بل هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، والنتيجة دعاء خاسر: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14] في الدنيا والآخرة ولكن تظهر عاقبته في الآخرة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166] وتَبَرَّأَ الكبراء من الضعفاء، والرؤساء من الأتباع، وكانوا بعبادتهم كافرين، وأصبحت المودة التي كانت بينهم في الحياة الدنيا عداوة يوم القيامة، ويتلاعنون في النار كما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أكثر من موضع، فهذا هو حالهم مع أولئك، فلا يرجى من وراء دعوتهم ودعائهم وعبادتهم إلا الخيبة والندامة والحسرة والخسران في الدنيا والآخرة، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى المثل للمشركين الذين يدعون غير الله، سواءً أكانوا ملائكةً أم جناً أم عباداً صالحين أم حجارةً فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فليس له من ينقذه أو ينجيه أو يتمسك به، فهذا هو حال أولئك المشركين. ثم جاء بهذا البرهان القاطع الجلي، وهو: أن هؤلاء القوم المدعوين والمعبودين سواءٌ أكانوا ملائكة أم جناً أم أمواتاً أم صالحين -وهذا التفسير كما فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره- الذين هم مؤمنون بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالملائكة فإنه لا شك في إيمانهم، وأيضاً مؤمنو الجن، وعباد الله الصالحون، كما جاء في الحديث عن الرجال الصالحين من قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فكل من كان عبداً صالحاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يجوز أن يُعُبد؛ لأنه هو يعبد الله ويتقرب إلى ربه كما تتقرب أنت إلى ربك، فكيف تعبده وحاله حالك، وافتقاره افتقارك، وذُلّة ذلك، وخضوعه خضوعك، ورجاؤه رجاؤك؟! (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة). وهذه الوسيلة قد ضل فيها من ضل من الناس، ولو قابلت من الروافض المشركين، أو عباد القبور الصوفية في كل البلاد لقال: نحن نعتقد أن الله هو الخالق الرازق، وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون، وإنما نحن نذهب إلى الحسين والبدوي وندعو يا عباس، أو يا علي، أو يا حسن، أو يا حسين، ويقولون: نقصد بذلك الوسيلة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فيقول: إن الله أمرنا أن نتخذ وسيلة وواسطة إليه، أما أنتم أيها الوهابية فتنكرون كتاب الله، وتعادون أولياء الله، وتكرهون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: لا نتخذ وسيلة إلى الله، فنقول: يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فهذه الآية تبين معنى الوسيلة وأنه وليس المقصود بالوسيلة الأشخاص والذوات، ولو كانت كذلك لما كان لهذه الآية معنى؛ لأن هؤلاء الأشخاص أو الذوات يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فهل هؤلاء الأشخاص ببتغون أشخاصاً آخرين، لا يمكن هذا؛ لأنهم هم الذين يُبْتغَون ويُعبَدون.

معنى الوسيلة

معنى الوسيلة فالوسيلة هي: القُربة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 8/ 397؛ حيث يقول: 'والمراد بالوسيلة القربة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن قتادة، ومن طريق ابن عباس أيضاً'. فالوسيلة هي: القربة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: ابتغوا إليه القربة، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] فكلمة أقرب توضح أن المراد هو: القربة، حيث إن كلاً منهم يريد القربة، فهم يتنافسون ويتسابقون أيهم أقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وأيهم أكثر ذلاً وخضوعاً وانقياداً واستسلاماً وعبوديةً ودعاءً وضراعةً ورغبةً ورهبةً وإنابةً، فهذا هو المعنى الصحيح. ولهذا ذكر الإمام البخاري رحمه الله بالسند المتصل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: [[كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم]] فهم في الجاهلية كانوا يعبدون الجن ويوم القيامة تشهد عليهم الملائكة بذلك، كانوا يعبدون الجن وأكثرهم بهم مؤمنون، فلما بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستمع إليه نفرٌ من الجن ولَّوا إلى قومهم منذرين، كما أخبر الله تبارك وتعالى، وكما جاء في الأحاديث الأخرى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب إليهم وعلمهم فآمنت الجن وكان ممن آمن منهم جنٌ كان يعبدهم المشركون من الإنس، فآمن المعبودون وظل العابدون على شركهم يعبدون من قد أناب وتاب وآمن، وهو يعبد الله ويبتغي إليه الوسيلة يرجو رحمة الله ويخاف عذابه.

التوسل الممنوع

التوسل الممنوع يقول الحافظ ابن حجر: 'وهناك رواية عن ابن عباس أن المقصود في هذه الآية هم: الملائكة والمسيح وعزير'. ولكن قال: إنها ضعيفة، والمعنى في هذه الآية واضح، وهو أن هؤلاء عباد صالحون الملائكة والمسيح وعزير منهم، وكذلك من ذكرهم عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فهذه أمثلة وأنواع فيمن يُعْبد من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو غير راضٍ بهذه العبادة. وهناك الآن من يعبد علياً رضي الله تعالى عنه والحسن والحسين وأمثاله من الصالحين كـ جعفر وعبد القادر الجيلاني، فهؤلاء كانوا يعبدون الله ويخافونه ويرجونه. ولكن الناس في الحاضر قاموا بعبادتهم، وهذه الحجة القرآنية قائمة على كل هؤلاء، فمثلاً البدوي وأمثاله لم يعرف عنهم صلاح وما جاء من أحوالهم يدل على أنهم زنادقة، مما يدل على أن الناس يتوسلون إلى الله بمن لا يؤمن بالله، كما كان بعض شيوخ الطرق الصوفية. فالناس يرونه يترك الجمعة والجماعات ويمشي وهو بادي العورة في الطرقات، ويفعل أقبح القبائح، ومع ذلك يعتقدون ولايته ويعبدونه، ويدعونه حياً وميتاً، فهؤلاء ليس لهم ولاية ولا مكانة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن يتقرب ويظن أنه يتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهم فهو واضح الخسارة والخيبة، وليس لديه عقل ولا فكر ولا رأي. وأما الذي يتوسل إلى الله تبارك وتعالى بالملائكة، ويقول هؤلاء ملائكة الله نتقرب إلى الله بعباده المكرمين، أو يتوسل إلى الله بأنبيائه أو بعباد الله وأوليائه وأصفيائه، ويقول: نحن نتقرب إلى الله بهؤلاء، فالجواب عليه واضح في الحجة القرآنية، وهي أن هؤلاء أنفسهم إنما يعبدون ويدعون ويتقربون إلى الله، فالواجب التقرب إلى الله كتقربهم ولا نجعلهم هم الوسيلة.

أركان العبادة في آية الوسيلة

أركان العبادة في آية الوسيلة وقد ذكر الله في هذه الآية المراتب الثلاثة، وهي: أركان العبادة الثلاثة: الحب، والخوف، والرجاء، ونستطيع أن نستنبط الحب من قوله: (أيهم أقرب) فعندما تقول فلان أقرب إليك أي: أن محبته لك أكثر، فالقرب هو لازم المحبة. وأساس كل الطاعات هي المحبة، وأساس الإيمان بالله تعالى هو محبته ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونستنبط الرجاء من قوله: (يرجون رحمته) والخوف من قوله: (يخافون عذابه) ولذلك حقيقة العبودية هي: كمال الذل والخضوع، مع كمال المحبة والإجلال. فإذا جردنا العبودية من المحبة، فإنها تصبح خوفاً محضاً، ولذلك نوضح بالأمثلة عبودية الأقوام السابقة، فالطواغيت نوعان في جميع العصور: إما طواغيت سلطان ورئاسة وعلو في الأرض، كما أخبرنا الله تبارك وتعالى، وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض، فهؤلاء طواغيت الرئاسة والحكم والسلطة والعلو يجعلون أنفسهم أرباباً وآلهةً من دون الله، ومن المعلوم أن من كره هؤلاء ومقتهم أنه غير عابد لهم، وإن كان مطيعاً لهم، فقد يكون من جنودهم وأتباعهم لكن ليس من عبادهم؛ لأن أساس العبادة هو: المحبة. والنوع الآخر من الطواغيت هم: طواغيت التدين والدين والخرافة والتبديل والتحريف، وهؤلاء لخطرهم ولضررهم هم الأكثر والتحذير منهم في القرآن أكثر، وأكثر شرك الناس بسببهم؛ لأنه لا يقترن بهم قوة ولا سلطان فإذا وجدت بين أهل مصر من يثني على فرعون، فيحتمل أنه يثني عليه خوفاً منه؛ لأنه الملك أو لمصلحة أو رابطة دنيوية ولا يكون عابداً له ولا مؤلهاً له، لكن من كان يحب البابا يوحنا أو شيخ الطريقة أو البدوي، فهذا لا سلطان له، وسبب محبته أنها محبة تَقَرُّب وتَنَسُّك وأنه يظن ذلك ديناً. والطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهؤلاء الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أول صفاتهم المحبة؛ لأنها الركن الأساس من أركان العبادة أو العبودية، والرجاء هو الركن الثاني، فبالإجلال والتقدير والمحبة تكون العبادة، فإذا اجتمع هذان أصبحت عبادة، وإذا انتفى أحد هذين لم تصبح عبادة.

الخوف من الله تعالى

الخوف من الله تعالى وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] أو {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] فهذه الآيات كلها في الخوف والرهبة والخشية. قال: 'ومدح الله تعالى أهل الخوف وأثنى عليهم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61] ' هذه الآيات من سورة المؤمنون آيات عظيمة ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وسياقها يبين ما جاء في تفسيرها، وأنه تفسير حق ودلالته صحيحة. وسياق الآيات هذه في بيان المحسنين السابقين كما ذكر في آخرها: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61] فالذي يسارع في الخيرات ويسابق هو في درجة الإحسان والتقوى، وأما حال الفريق الآخر فقال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54] وبين شعورهم ونظرتهم واعتقادهم فيما ينعم الله تبارك وتعالى به عليهم: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:55 - 56] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر صنفين: صنف معرض عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وغير مؤمن به، فهو في غمرة ولهو، وعندما يرزق ويعطى يظن أنه مسارعة من الله تبارك وتعالى له بالخيرات لفضله وخيره وصلاحه. والصنف الآخر: هم المؤمنون. وعندما يذكر الله تبارك وتعالى أحوال أهل الكفر مقابل أحوال أهل الإيمان فإنه يذكر أعلى صفاتهم، فعندما يذكر الكفار يذكر أعلى درجاتهم في الكفر، وكذلك عندما يذكر صفات أهل الإيمان يذكر أعلى درجاتهم في الإيمان، ولا يذكر ضعاف الإيمان في هذا المقام المقابل للكفر، إنما يذكر في مقابل الكفار أهل الإيمان وما هم فيه من الفضل والسابقة والمسارعة والخير، وفي هذا دليل على أن الآيات هي في هؤلاء، ولذلك ما جاء فيها من الحديث ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح في (8/ 299) أنه الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم، وسكت الحافظ رحمه الله تعالى ولم يشر إلى أن فيه انقطاعاً ما بين عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني وعائشة؛ ولكن التفسير صحيح قالت: {قلت يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ)) [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟}، فكان مقصودها رضي الله عنها أن هؤلاء العباد من إيمانهم وفضلهم وخيرهم إذا أتوا منكراً أو فعلوا فاحشة فإنهم يفعلونها وهم خائفون؛ لكن الأمر أجل وأعظم من ذلك، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه} فهم يؤتون ويعطون ويبذلون من القربات والطاعات وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، فلسان حاله يقول: نعم صمت وصليت وحججت واعتمرت وأحسنت إلى الفقراء والمساكين، وحفظت لساني عن غيبة إخواني المسلمين، وحفظت يدي عن حقوقهم، لكني والله لا أدري أتقبل مني هذه العبادة أم لا، وربما كان في الحج من الرفث واللغو والفسوق والجدال أو الرياء ما أحبط الحج، فلربما كان في الصلاة والزكاة ما يحبطها، وربما انتفت بعض الشروط أو بعض الواجبات، أو فسدت النية فلم تقبل هذه الطاعة، فالمؤمن يعمل الطاعة وهو يخاف أن لا تقبل منه. فهذه هي الدرجة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، لكن الواقع من كثير من الناس أنهم يعملون المعاصي، ويرتكبون المحرمات ولا توجل قلوبهم، ولا يخافون من الله، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] فالإنسان إذا عمل طاعةً أو معصيةً فعليه أن يتقي الله، ويشعر أنه راجع إلى الله، فإن كان ما عمله طاعةً فيخاف ألا تقبل وإن كان ما عمله معصيةً أو منكراً أو فاحشةً، فهو أحرى وأجدر أن يخاف الله، فليتب وينزجر عن معصية الله تبارك وتعالى.

الفرق بين الخوف والخشية

الفرق بين الخوف والخشية وابن القيم رحمه الله في الجزء الأول من مدارج السالكين صفحة (502) ذكر شرحاً لمنزلة الخوف، وكلام المصنف رحمه الله مأخوذ من كلام ابن القيم حيث ذكر آية {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] وآية: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن} [المائدة:44] وذكر أن الله مدح أهل الخوف. ثم ذكر الآيات من سورة المؤمنون، والحديث الذي ذكرناه آنفاً، ثم أتى رحمه الله بكلام نفيس في بيان الفرق بين هذه الألفاظ، مثل: الرهبة والوجل والخشية والخوف والإشفاق، والتفريق بينها من دقائق العلم التي لا يتفطن إليها إلا من وفقه الله، كما كان حال ابن القيم رحمه الله فيقول: 'الوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة ' قال: 'قيل: إن الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره، وقيل اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف'. وحقيقة الخوف واضحة، وإيضاح الواضح من المشكلات، فالخوف معروف، لكن نأخذ ما بعده ليتضح الفرق، ويقول رحمه الله: 'الخشية أخص من الخوف؛ فإن الخشية للعلماء بالله' وأخذ هذا من قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فالعلماء هم الذين يخشون الله؛ لأن الناس في هذا أنواع: فالنوع الأول: العالم بالله، والعالم بدين الله، فهم من يخشى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. النوع الثاني: عالم بالله غير عالم بدين الله، وهذا الذي وقع فيه كثير من العباد، فهو لديه حقائق الإيمان واليقين والإخلاص والرجاء والرغبة والخوف؛ ولكنه غير عالم بدين الله، فلا يعرف الحلال من الحرام، وربما وقع في البدعة فخرج عن طريق الإيمان والعلم، ولم يعد عالماً بالله. النوع الثالث: من ليس عالماً بالله ولا عالماً بدين الله، وهذا حال أكثر الخلق، نسأل الله العفو والعافية. يقول ابن القيم: ' فهي -أي: الخشية- خوف مقرون بمعرفة، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني أتقاكم لله، وأشدكم له خشية ' وفي رواية أخرى: إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية} فالخشية مقترنة بالعلم، ففيها زيادة العلم والمعرفة بالمعبود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبيَّن ابن القيم الفرق بينهما فقال: 'فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان: إحداهما: حركة للهرب منه وهي حالة الخوف. والثانية: سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه وهي: الخشية ثم قال: وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه -فالرهبة خوف؛ ولكن فيها زيادة إمعان في الهرب من المخوف منه وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه' فالرغبة زيادة عن مجرد المحبة، فالمحبة بلا رغبة لا يقترن بها الحرص والطلب، وأما الرغبة فيقترن بها العمل والحرص وطلب هذا المحبوب المراد، ثم يقول رحمه الله: 'وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى'. وهذه عادة لغة القرآن واللغة العربية.

الفرق بين الرهبة والرغبة والوجل والهيبة

الفرق بين الرهبة والرغبة والوجل والهيبة ثم قال: 'وأما الوجل فرجفان القلب، وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته، أو لرؤيته' فالوجل خوف؛ ولكنه من نوع خاص بالنسبة لشعور الإنسان عندما يرى من يجل أو من يخاف منه أو إذا ذكر عنده من يخافه، ثم قال: 'وأما الهيبة فخوف مقارن للتعظيم والإجلال' فالهيبة خوف؛ ولكنه ليس خوفاً مجرداً، إنما خوف مقترن به التعظيم والإجلال، كما قالت العرب: أهابك إجلالاً ومابك قدرة علي ولكن ملء عينٍ حبيبها قال: 'وأكثر ما تكون مع المحبة والمعرفة، والإجلال: تعظيم مقرون بالحب، -ثم قال- فالخوف لعامة المؤمنين' فكل مؤمن لابد أن يخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا الذي نعتقده، وكل مؤمن مطالب أن يخاف على نفسه وعلى إخوانه المسلمين، وأن يخاف الله تبارك وتعالى، فالمقصود أن الخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء، فالعلماء عندهم زيادة خوف مع علم فتصبح خشية، والهيبة للمحبين سواء كانوا من العلماء أم من غيرهم، وهذه ليست متعارضة بل يوجد بينها قدر مشترك قد تزيد صفة، أو جانب من الجوانب في فرد وجانب يزيد في فرد آخر، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم والسلف، فبعضهم يزيد عنده جانب الرجاء قليلاً، وبعضهم جانب الخوف، وبعضهم جانب الهيبة، وبعضهم جانب الخشية، فمثلاً أبو سليمان الداراني رحمه الله وعامر بن عبد القيس، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وسفيان الثوري، رحمهم الله غيرهم غلب عليهم جانب الخوف، وبعض العلماء يغلب عليهم جانب الهيبة والإجلال والمحبة، والله تبارك وتعالى جعل للنفوس التنوع في التعبدات؛ ليُعْبَد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل أنواع العبوديات، وهي في الأصل مشتركة ولها أصل مشترك بين جميع الناس، فيقول: 'الخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية}، وفي رواية {خوفاً} وقال: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى} فزيادة علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على معرفته بربه وهيبته له تبارك وتعالى، وإجلاله في قلبه، ومن معرفته لما أعده الله تبارك وتعالى للمؤمنين من الثواب، وللمجرمين من العقاب، ومعرفته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه بأيام الله وسنن الله في الذين خلوا من قبلنا. وهذه القلوب في مثل هذا تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً، وهذا هو موضع زيادة الإيمان ونقصانه وموضع التنافس: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ثم يوضح ذلك بقوله: 'فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب' فيهرب كلما رأى شهوةً دفعته إليها عينه أو أذنه أو قلبه، فعلم: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فيهرب من هذه المعصية ويخاف، وهذا هو حال المؤمن، ثم قال: 'وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم' الذي في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أضرار هذه المعصية، ومن فسادها، وأثرها على القلب، وعلى الحياة في الدنيا والآخرة، ولذلك صاحب هذا العلم تحصن بأقوى حصن، فلا يرقى إليه هذا الوحش، ولا يطمع فيه ولا يصل إليه؛ لأنه ليس مجرد هارب، فالهارب قد يُدْرَك؛ لكن الذي يعتصم بحصن حصين لا يُنَال -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فكذلك الإنسان يعتصم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعتصم بالإيمان بالله وبكتاب الله، وبالعلم الذي يقربه من الله ويعرفه بالله عز وجل فلا يأتي شيئاً مما حرم الله؛ لأنه عرف ذلك بما أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما وهبه من العلم بخطر الذنوب والمعاصي وآثارها وضررها على الإنسان.

علاقة الإشفاق بالخوف

علاقة الإشفاق بالخوف يقول ابن القيم في صفحة (514): 'والإشفاق: رقة الخوف' الاشفاق خوف مع رقة، ثم يقول: 'وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه' وأرق الخوف هو الإشفاق والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك في القرآن، حيث ذكر أن أهل الجنة يتذكرون ما كانوا فيه من الدنيا، فقالوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، وقال في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28] وقال في سورة فاطر: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34]، فكانوا في الدنيا مشفقين، وكان الحزن في قلوبهم؛ لأنهم لا يعلمون كيف يلقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الذين كانوا في دنياهم فرحين بطرين، فإنهم يفاجئون يوم القيامة بأهوال لم يكونوا يتوقعونها. وأما المؤمنون فقد ذكر الله تعالى حالهم في الخوف فقال عنهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:10 - 11] فهذا جزاء الخوف والحزن ولهذا قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35] فكانوا يعانون في الدنيا التعب والألم والأحزان والمصائب، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} فالمسجون -دائماً- خائف ومشفق حزين؛ لأنه مسجون، ولكن من الناس من يكون مطمئناً كما كان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله لما وضع في السجن قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] فالجنود والسلاطين الذين يقفون في الخارج في العذاب، وهو في الرحمة بالمقارنة لما أعده الله في الآخرة، فالمؤمن مسجون في الدنيا مع طمأنينته وفرحه بفضل الله قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فهو مع فرحته وطمأنينته وسعادته بذكر الله مسجون؛ لأنه لم يدخل الجنة ولم ير وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا الحور العين، ولم يلتقِ بإخوانه المؤمنين على سرر متقابلين. وأما الكافر فقد يكون في الدنيا في منتهى الرفاهية والتنعم والتلذذ، ولكن هذه جنته بالمقارنة لما ينتظره هنالك من العذاب، ففي الآخرة ليس له جنة، حيث يقول تعالى للكافرين: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16] فجنتهم في الدنيا مع ما فيها من الشقاء والنكد والتنغيص، ولكن لأنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار فإن جنتهم في الدنيا. ويُضرب مثل رائع لمقدار التمتع بالدنيا، فالحاكم عبد الرحمن الناصر حكم الأندلس خمسين سنة، والأندلس تسمى جنة الدنيا، ففي يوم من الأيام اجتمع في آخر ملكه مع بعض وزرائه، فتذاكروا هذا الأمر العظيم، وهل سبق أن أحداً حكم هذه المدة وهذه الجنة، وكعادة المنافقين من جلساء السلاطين في كل زمان ومكان أخذوا يمدحونه ويثنون عليه، ولكنه قال لهم: أتدرون كم أيام السرور في هذا الملك في الأندلس؟! قالوا: لا، قال: عددتها فإذا هي أربعة عشر يوماً! فالمقصود أنه لا بد للمؤمن من الخوف والرجاء والإشفاق والرهبة والرغبة والوجل.

الخوف والرجاء بين الإيمان والنفاق

الخوف والرجاء بين الإيمان والنفاق وكما قال الحسن رحمه الله فيما نقله عنه ابن القيم قال: قال الحسن: 'عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً' فإذا وجدت الخائف الوجل المشفق من عذاب الله، فتجد أن أعماله فيها الكثير من الخير والإحسان والفضل، وأما المطمئن فتجد فيه النفاق والبعد والمعصية، والعكس بالعكس، فالمؤمن يحسن العمل ولذلك أحسن الرجاء، وأما المنافق فإنه أمن من مكر الله ولم يخف الله ولم يبال بعقوبة الله؛ فلذلك اطمأن وعمل ما عمل، ولذلك إذا رأيت المؤمن شكا ذنوبه، وخاف من عدم قبول أعماله، ورأى ذنوبه كما جاء في الحديث: {المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يخشى أن يقع عليه، وأما المنافق فيرى الذنوب -جميعاً من شرور وخمور وفجور ولهو وإعراض وتهاون في طاعة الله وأكل لحقوق الناس- كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار} وإذا سألته وجالسته قال: نحن أحسن حالاً من غيرنا، ثم يذكر حسناته، أما المؤمن فلا يذكر حسناته لأنه يعلم أن هذا خطر عليه. لا بأس بذكر نعمة الله عليك؛ لكن مع شكر هذه النعمة، وأما في أمور الدين فينظر العبد إلى من هو فوقه في العبادة والإحسان، وأما في أمور الدنيا فينظر العبد إلى من هو دونه؛ لئلا يزدري نعمة الله عليه.

خوف يؤدي إلى الأمن

خوف يؤدي إلى الأمن وهنا فائدة عظيمة ذكرها ابن القيم رحمه الله حيث يقول: 'والخوف ليس مقصوداً لذاته بل هو مقصود لغيره، فأهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون' والمحبة مقصوده لذاتها، ولهذا نحب الله تبارك وتعالى في الدنيا، وإذا أدخل الله تعالى المؤمنين الجنة يظلون يحبون الله بل يزدادون حباً له؛ لأنها مطلوبة لذاتها، وأما الخوف فليس لذاته بل هو وسيلة للإنزجار عما حرم الله ونهى عنه، فإذا أمِن العبّاد وبشرتهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. زال الخوف، ولهذا قال تعالى في الجنة: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] فنفى الله تبارك وتعالى عنهم الخوف والحزن، فلا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما وراءهم؛ لأن الله تعالى يتولى المؤمنين والمتقين والصالحين، فلهذا يقول: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] فالخوف ليس مقصوداً لذاته، وإنما لما يترتب عليه من معرفة الله، ومعرفة وعد الله ووعيده، والانزجار عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، ثم قال: 'والخوف يتعلق بالأفعال، والمحبة تتعلق بالذات والصفات' فالخوف يتعلق بالأفعال، فتجد العبد يخاف من عذاب الله، والله تبارك وتعالى بين لنا أن العذاب فعله، وأن الرحمة والمغفرة صفته الذاتية، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] وهذا من كمال رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك نجد في الفاتحة قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] ورحمة الله سبقت غضبه، ولهذا جعل المحبة تتعلق بالذات والصفات، وأما الخوف فإنه متعلق بالأفعال؛ لأن عذابه هو من فعله، وأما محبته فهو يُحَبُّ لذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه غفور رحيم ودود كريم، فاسم الله الودود يشعر بمحبة خاصة جداً. ولو تأمل الناس في صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لعرفوا الله، وإذا عرفوه حق المعرفة وعرفوا أنه ودود وغفور ورحيم، أحبوه فلم يعصوه، وإذا انزجروا عن معصيته -لأنهم يؤمنون بأنه الرحمن الرحيم الغفور الودود- لكانوا من أهل الهيبة والإجلال، وهذا أفضل من أن يكونوا من مجرد أهل الخوف كما بين ابن القيم رحمه الله. والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

نظرات في التربية الحديثة

نظرات في التربية الحديثة تكلم الشيخ حفظه الله عن العلاقة بين التربية والتوحيد، وأن من حِكَم البعثة النبوية: التربية والتزكية، ثم تحدث عن شمولية التوحيد لكل جوانب الحياة، على عكس اعتقاد الغرب الذي يفصل بين الدين والحياة، بل بين الإنسان والروح، ثم أورد آخر بحوثهم التي أثبتت تكامل أوجه الحياة، مع إثباتها لأمور غيبية كانوا ينكرونها، ووصولهم إلى بطلان النظريات المادية الحيوانية التي كانوا يؤمنون بها ويروجون لها.

النظريات التربوية في ميزان التوحيد

النظريات التربوية في ميزان التوحيد الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد إمام الموحدين وقائد الغر المحجلين. وبعد: فنبرأ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من طولنا وقولنا إلى حوله وقوته، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. أما بعد: فموضوع التربية الحديثة موضوع مهم وضروري لنا في الحياة، ولكن الموضوع أكبر من أن تحيط به محاضرة أو كتاب، بل لو صنف فيه مجلدات لكان محتاجاً لذلك، ولكن لعلنا نتناول هذا الموضوع من زاوية مهمة -هي أهم زاوية من زواياه- وهي: زاوية التوحيد. فللتربية علاقة كبيرة بالتوحيد، إذ أن النظريات التربوية والإنسانية بعامة لا نستطيع أن نفصلها عن التوحيد، لأن التوحيد هو الدين، والدين يشمل كل نواحي الحياة كما قرر ذلك الله تعالى لما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره قائلاً: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] فالتوحيد ليس ما يقوله علماء الكلام الذين جردوه عن حقيقته، فجعلوه مجرد اعتقاد الوحدة -أي أن الله ليس اثنين ولا ثلاثة- نعم. إنه تعالى ليس اثنين ولا ثلاثة، بل هو إله واحد. ولكن حقيقة التوحيد هي: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، فلا بد أن يوحد الإنسان عبادته لله، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي ليوحدون، ونحن في كل ركعة من ركعات صلاتنا نقرأ سورة التوحيد -الفاتحة- ونقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فديننا هو دين التوحيد، ولا يصح أن ننظر إلى أية قضية من قضايانا إلا من خلال التوحيد، ولا سيما إذا كانت القضية تتعلق بأعمالنا وسلوكنا وتصرفاتنا، وهذا هو مضمون التربية. والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم والبيهقي وغيرهم يقول: {إني لخاتم النبيين وآدم منجدل في طينته، وأول ذلك دعوة أبي إبراهيم- عليه السلام - وبشرى عيسى بن مريم ورؤيا رأتها أمي} فدعوة إبراهيم هي الدعوة التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت، إذ قال الله حاكياً قولهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]. فلاحظ أن الدعوة تبتدئ بقوله: {يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) وهذا لا شك فيه، فقد جاءنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذكر الحكيم. ثم ثنَّى بقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ثم قال: {وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} فلما استجاب الله تبارك وتعالى لدعوة إبراهيم عليه السلام قدم التزكية على التعليم كما بين ذلك في سورة البقرة فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151] وفي سورة آل عمران: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. وفي آية الجمعة قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] فقدمت التزكية على التعليم، لأن المهمة الأساس في دعوة الرسل وكل داعية هي التزكية قبل التعليم، والتزكية هي التربية -كما نسميها نحن- لكن لفظة (التزكية) أدل وأدق على المعنى من التربية.

معنى التزكية وحقيقتها

معنى التزكية وحقيقتها التزكية كلمة أبلغ من أن تشرح أو تفصل بكلمة أخرى، فهي تعني: التطهير من الأدناس، والأرجاس في القلب، والجوارح، والمشاعر، والفكر، والعقل، وفي كل شيء. فالله -تبارك وتعالى- بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مزكياً لهذه القلوب من خلال التوحيد، فالتزكية بالتوحيد تعني: التخلص من الشرك، والذنوب، والمعاصي، والشهوات، والشبهات، وكل أدران النفس الإنسانية في اعتقادها، وسلوكها، وأعمالها، وتصوراتها، وقيمها، فحينما نشهد أن لا إله إلا الله، ونعبد الله، ونفرده بالعبادة، ونزن كل أعمالنا وأمورنا بمقياسٍ ومنهج ومعيارٍ واحد، وبقيمٍ واحدة، هي ما جاء بها محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهكذا كان الجيل الأول: السلف الصالح ومن اتبعهم، كل أمرٍ في حياتهم كانوا ينظرون إليه من زاوية ما قاله الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من زاوية العقيدة، ومن باب الإيمان بالله تعالى، ومن باب هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واليوم نرى بعض المتخصصين في مجالٍ ما لا يخضعون هذا العلم للعقيدة، ويقولون: لا وصاية لعلمٍ على علم، لا وصاية لأناس على أناس، ولا كهنوت في الإسلام، ولا رجال دين في الإسلام. نعم. لا كهنوت ولا رجال دين، بل حتى ولا وصاية، ولكن شهادة أن لا إله إلا الله التي بعث بها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أن يكون شعورنا وموازيننا، وقيمنا وعلومنا، وحركة فكرنا، ونشاطنا كله مأخوذٌ مما جاء به محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس أحد في هذا بأولى من أحد، ولهذا فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن التربية دون أن نتكلم عن علم الاجتماع، أو علم النفس، أو علم السياسة، أو علم القانون أو التشريع، أو الاقتصاد، لا يمكن ذلك حتى في الدراسات الجامعية، إذا درست التربية وأصولها تجدهم يبدءون من التربية عند القدماء -الرومان واليونان مثلاً- ثم التربية في العصور الوسطى، ثم التربية عند علماء المسلمين، ثم التربية الحديثة، ثم المعاصرة، فإن كان الطالب في الاقتصاد -أيضاً- فإنهم يبدءون بالسلسلة نفسها: الاقتصاد عند أرسطو -مثلاً- واليونانيين، ثم العصور الوسطى، ثم يتعرضون لنظريات هوبز، أو جان جاك روسو مثلاً، إلى آخره، وكذلك في علم الاجتماع يبدءون بنفس السلسلة، علم الاجتماع عند أرسطو، ثم أفلاطون، ثم هوبز، وروسو، وديكارت إلى آخره، الشيء نفسه في كل علم يبدءون بهذا.

شمولية التوحيد

شمولية التوحيد ونستنتج من هذا أن طبيعة ديننا هو دين التوحيد، والنظرة فيه واحدة شاملة، وكذلك هذه العلوم إذا نظرنا فيها نجد أن الأصل والمنبع واحد، فأي نظرية أخلاقية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وأي نظرية اجتماعية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وأي نظرية اقتصادية يمكن أن تكون نظريةً تربوية، وأي نظرية سياسية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وبالتالي نستطيع أن نقول: إنه لا يمكن أبداً أن توجد وأن تنبثق نظرية تربوية إلا من عقيدة. وبالمعنى الأعم نستطيع أن نقول: ما من حضارة إلا من واقع. فالحضارة هي عبارة عن الواقع أو الجانب التطبيقي والواقعي للعقيدة التي تدين بها هذه الحضارة أو ذلك الشعب أو تلك الأمة التي صنعت الحضارة.

ظلمات النظريات القديمة والحديثة

ظلمات النظريات القديمة والحديثة وبين يدي الآن كتاب مهم جداً، هو كتاب: العلم في منظوره الجديد، حبذا لو تصفحناه قليلاً، فإنه يفند النظريات القديمة، النظريات التي تجزئ النظرة إلى الإنسان، وتفصل ما بين الإنسان والدين، ومؤلفاه كاتبان غربيان لا يؤمنان بالإسلام، ولكنهما أثبتا فشل وبطلان كل النظريات الحديثة والقديمة والمعاصرة، في نظرتها إلى الله وإلى الدين وإلى الأخلاق والقيم، وأثبتا أنه لا بد أن يكون التصور الكلي الموحد. ونحن في غنى -والحمد لله- عن هذا، فنحن نعلم ذلك، لكن لكوننا نوجه الخطاب إلى إخوة لنا في الدين، خدعوا بتلك النظريات وغرتهم وأخذهم بهرجها، وربما كان للتخصص دوره المؤثر، فنخاطبهم بذلك لعلهم يضمون هذا إلى ما يستذكرونه من حقيقة عقيدتهم وإيمانهم -بإذن الله- فتنجلي الحقيقة. يقول المؤلفان في أول الكتاب ص15: 'لكل حضارةٍ من الحضارات تصور كوني للعالم -أي: نظرة يفهم وفقاً لها الكون ويقيم عليها حياته، إذاً: لا بد من تصور أي نظرة كونية يفهم كل شيء ويقيم كل شيء من خلال هذه النظرة- والتصور السائد في حضارة ما، هو الذي يحدد معالمها ويشكل اللُحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها، وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة، والمقياس الذي تقاس به، وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث أنا لا ندرك أن لدينا تصوراً ما، إلا حين نواجه تصوراً بديلاً إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول، والحضارة الغربية ما برحت منذ عصر النهضة تخضع لسلطان العلم الجريبي، بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين' عصر النهضة -الذي تحدثنا عنه- يمكن أن يكون القرن الثالث عشر، أو الرابع أو الخامس عشر، على تفاوت في التقدير والمقصود هو عصر الاحتكاك بالحضارة الإسلامية في الأندلس، وإيطاليا، وجنوب أوروبا عموماً، وبداية تسلم للقيادة العلمية، وبداية بواعث الانبعاث في الغرب إذاً: هم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يقولون: إنها تواجه تحدياً من العقيدة، أو من الإيمان الحق، لا، ولكن من علم القرن العشرين تبطل كل تلك النظريات، ويقول: 'الأمر الذي يفضي إلى وجود نظريتين علميتين متنافستين' وعلى حد تعبير أحد مؤرخي الحضارات وهو تومس بري، يقول: 'القضية كلها قضية نظرة ونحن الآن بالذات نواجه مشكلة' وهو يتكلم عن واقع الحضارة الغربية، 'لأنه ليس لدينا نظرة مقبولة، فلا النظرة القديمة تؤدي دورها على الوجه السليم، ولا نحن تعلمنا النظرة الجديدة' سبحان الله! هذا ما يعترفان به! إذاً هم لا يزالون يعيشون في تخبط وفي ظلمات نتيجة هذا السيل المتدفق من النظريات الحديثة، أو نظريات عصر النهضة، كما تسمى.

أصل النظرية التربوية الغربية

أصل النظرية التربوية الغربية لو استعرضنا التربية الحديثة من خلال النظريات الكونية والعلمية، لوجدنا أن أصل النظرة في العالم الغربي النصراني- قبل دخول الدين النصراني كانت نظرة وثنية- وهذه النظرة النصرانية التي فرضت على الناس، هي: اعتقاد أن رجال الدين، هم كلمة الله المقدسة التي لا يجوز لأحد أن يخالفها بأي حال من الأحوال. والتربية الكنسية النصرانية كانت أول وأهم ما تفترضه أن تقتل في الإنسان مواهبه، ومشاعره، وتطلعاته إلى الأفضل في هذه الحياة الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] ابتدعوا الرهبانية التي تقتل في الإنسان أي تطلع للعيش في هذه الحياة الدنيا كما أمر الله، وكما يريد الإنسان أن يعيش بحكم الفطرة التي فطره الله عليها.

الكنيسة والعلم

الكنيسة والعلم ثم أضافت الكنيسة إلى قتل هذا التطلع وهذه المواهب أمراً آخر مهماً: وهو أنها حاربت العلم والعلماء، فأول النظريات التي اصطدمت بالكنيسة هي النظريات الكونية التي جاء العلم ليثبت صحتها بالجملة، مع أن النصرانية يوجد فيها بعض الحق في بعض الجوانب الأخلاقية من تربية الإنسان على: ألا يرائي، وألا يغش، وألا يكذب، وأن يتحلى بالأخلاق، فهذه موجودة في النصرانية المحرفة. واصطدمت النصرانية بما فيها من حق بالنظريات التي ثبتت صحتها أول الأمر، فاصطدمت بنظرية كوبر نيكوس في الكون وفي المجموعة الشمسية، وكذلك نظرية جاليليو في دوران الأرض، ثم نظرية نيوتن في الجاذبية أو الأجرام السماوية، وهي امتداد لنظرية كوبر نيكوس، لما اصطدمت هذه النظريات بالكنيسة، وأثبتت علوم الرياضيات والتجربة الحسية صحتها في الجملة، هزمت الكنيسة بحقها وباطلها في هذه المعركة، فظهرت بعد ذلك النظريات الإنسانية -التي ثبت زيفها وبطلانها- وقاس الناس النظريات الإنسانية على النظريات الكونية، فقالوا: العلم على صواب دائماً، والكنيسة والدين على خطأ دائماً.

ظهور النظريات المادية

ظهور النظريات المادية أهم نظرية في هذا المجال هي نظرية داروين، وتفرعت وتشعبت منها النظريات النفسية والاجتماعية والتربوية الكثيرة جداً، ومن أهم النظريات التي انشقت من الداروينية، النظرية المادية التي طغت على فكر القرن التاسع عشر، فظهر كارل ماركس وقال: لا تؤمنوا بالغيب، وآمنوا بالمادة وبالشيء المحسوس الذي لا يكلفكم شيئاً، أما عالم الغيب الذي تقوله الكنيسة فلا دليل على إثباته، وكله أساطيره، وهذا امتداد لنظرية هيجل وغيره، ثم ظهرت النظريات في التربية مثل نظرية التحليل النفسي، التي قال بها اليهودي فرويد، الذي فسر الدوافع الإنسانية بأن الإنسان بكامل نشاطاته، وبكل آماله، وأحلامه، وتطلعاته، وحضاراته، وبنائه، وتراثه، دوافعه في كل ذلك غريزة واحدة من غرائزه، هي الغريزة الجنسية! هكذا فسرها فرويد. ثم جاء ما هو أدهى من ذلك وأطم، المدرسة السلوكية التي تفسر الإنسان تفسيراً حيوانياً وآلياً معاً، أي التي لا تجعل للعقل أي دور، وإنما التحكم والتوجيه للغريزة الحيوانية البحتة، فهربوا من الإيمان بالغيب، والإيمان بإله الكنيسة، وأثبتوا أن الإنسان حيوان! فخططوا ونظروا على هذا الأساس، فكثير من علوم النفس، والتربية، والاجتماع، وعلم النفس التكويني تطبق النظريات الحيوانية على الإنسان، فتطبق التجربة على الكلاب، أو القرود، أو الفئران، أو الأرانب، والنتيجة تطبق على الإنسان، فيغفل جانب عظيم جداً، وجانب مهم وهو: إنسانيته، وروحه، وقلبه، وتبقى الأمور متعلقة فقط بالأعصاب، والميكانزم العصبي، وبالنواحي العضوية، الفسيولوجيا العضوية البحتة، وليس للروح ولا لعالم الغيب أي دخل أو مجال فيها. وهكذا توسعت النظريات على اختلافها، وإذا بنا نجد أن الإنسان لا يشكل إلا كومة من اللحم والدم والعظم يوضع على منصة التشريح، ثم يراد أن يخطط له اجتماعياً، وسلوكياً، وأخلاقياً، حتى الفنون وحتى الآداب أريد لها أن تنتكس لتخضع لكل تلك المعايير السابقة، ولا شك أنها نكسة كبرى ابتليت بها الإنسانية.

سقوط الشيوعية لتنكرها للدين

سقوط الشيوعية لتنكرها للدين إن الفنون وحتى الآداب أريد لها أن تنتكس لتخضع لكل تلك المعايير السابقة، ولا شك أنها نكسة كبرى ابتليت بها الإنسانية، ومن فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن إحدى النظريتين الغربيتين الكبيرتين قد انهارت وهي النظرية الشيوعية الماركسية فعندما كنا نتحدث عن هذه النظرية قبل سنوات، قبل ظهور جورباتشوف والبروسترويكا، كنا نحتاج أو نضطر أن نتكلم عن خلل وفساد الشيوعية، ومنافاتها للفطرة، وأنها لا تصلح أن تكون نظريةً اقتصاديةً، ولا اجتماعيةً، ولا تربوية، فضلاً عن أنها تصلح أن تكون عقيدة كما أراد أصحابها، أو نظرية في الأدب والفن اللذين هما أعمق وأعقد من أن تدخلها أي نظرية تجريبية عادية، كنا نحتاج إلى ذلك، وإذا بنا نرى انهيارها. فالثورة الشيوعية قامت وحكمت روسيا في عام (1917م)، والبروسترويكا -أي إعادة البناء- أعلنت في عام (1985م)، فهذه المدة في عمر الأمم قليلة جداً، مثل أي دولة من الدويلات التي قامت في تاريخنا الإسلامي استمرت ستين أو سبعين سنة لا يكاد يؤرخ لها، أو لا تذكر إلا عرضاً، وإن كنا نحن الآن نرى الشيوعية بهذه الضخامة لأننا نعيش في الواقع، لكن بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة، سيقال ظهرت في القرن العشرين أو في أوله نظرية، وفي الربع الأخير منه سقطت، وكان اسمها الشيوعية. فـ الشيوعية سيطرت وكادت أن تتحكم في ثلث البشرية تقريباً، وجعلت نفسها عقيدة عامة في التربية وفي كل نواحي الحياة، لكنها سقطت، وهذا السقوط نتيجة لافتقارها للإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وستسقط أكثر فأكثر، ولن ينفعها أي إصلاح أو ترقيع إلا بأن تعود إلى الله، وتؤمن إيماناً حقيقياً، لا كما عبر جوربا تشوف وقال: 'الحل بالعودة إلى تراثنا وإلى مسيحيتنا' فنقول له: إن مسيحيتك هي التي فررت منها أولاً والتي فر منها كارل ماركس، عندما كان يقول: 'المادة هي هذه الأشياء'.

العلم يثبت الغيب

العلم يثبت الغيب وعلق على تلك النظريات العلماء -علماؤهم الآن- وقالوا: هذا كلامٌ مضحك، لأنهم اكتشفوا أن هناك موادَّ غير محسوسة، واكتشاف أن الذرة ليست أصغر شيء في الكون، وإنما الذرة عبارة عن: نواة ويدور حولها إلكترونات سالبة وبروتونات موجبة، عالم غريب جداً، إنهم يتكلمون عن الطاقة والحركة، وهي أمور غيبية والقضية الآن هي في عالم الغيب، فلم يعد الكلام عن الملائكة، ولا عن الجنة، ولا عن النار، ولا عن ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل الآن عالم الغيب بالنسبة لهم هي هذه المادة، فهم يبحثون عن سرها وتركيبها وتكويناتها، بل يقولون: لو أخذت أي جزيء من هذه الجزيئات في أي شيء وكبرته تكبيراً كبيراً جداً، لوجدت نفسك ترى فراغات هائلة ولا ترى المادة، فدفعتهم هذه الاكتشافات للعودة مرة أخرى للإيمان بالغيب من جهة أخرى. فالطلاب في كلية العلوم وغيرها يدرسون النواة، والذرة، والإلكترونات السالبة والبروتونات الموجبة، فيؤمنون بها دون أن يروها أو يحسوها، إذاً: فالقضية أصبحت قضية إيمان بالغيب، وإن كانوا في الأصل هربوا منه، لكن الفطرة أعادتهم. وهناك حقيقة لاشك فيها، وهي: أن ترك التوحيد هو وراء كل انحسار لأي مذهب من المذاهب. ونذكر قصة للرئيس الأمريكي جورج بوش، عندما كان سفيراً لدولته في الصين -في الحقيقة أنه كان جاسوساً كما يبدو- وكما عبر في كتاب التطلع إلى الأمام، فذكر قصة طريفة في كتابه الذي صدر حديثاً يقول في (ص195) معبراً عن لقائه هو وكيسنجر، وووستن لورد مع ماوتسي تونغ -الزعيم الشيوعي الكبير- بعد أن ضعف وأصبح صنماً مهترئاً لا قيمة له، ولكن الصينيين يقدسونه ويعبدونه، حتى إنه كان لا يتكلم إلا بإشارات خفيفة , وتتقطع منه الكلمات من كبر سنه، يقول بوش عن ذلك اللقاء: 'مع مرور وقت الاجتماع ظهر أن ماو أصبح أقوى وأكثر تيقظاً، أشار بيديه مراراً، وحرك رأسه من ناحيةٍ إلى أخرى، وظهر بأن الحديث يحفزه' أي: ينشط مع انفعالات الحديث مع أنه لا يقدر أن يتكلم ولا يعبر، قال: 'واستمر يشير في أحاديثه إلى الله' هذا ماو، والراوي جورج بوش فالسند عالي!! يقول: 'إذ علق مرةً قائلاً، لـ كيسنجر وبوش: إن الله يبارككم ولا يباركنا، إن الله لا يحبني لأنني قائد عسكري وشيوعي -يقول عن نفسه- كلا إنه لا يحبني، إنه يحبكم أنتم الثلاثة، وأشار برأسه إلى كيسنجر، وووستن لورد، وإليَّ' هكذا يقول الرئيس بوش عن ماو الذي كان في تلك الأيام، في عالمنا الإسلامي، بل في جزيرة العرب هنا وفي إحدى الدول التي قدّر لنا أن نذهب في رحلة جامعية إليها تخرج مظاهرة، ويقولون: لا إسلام بعد اليوم، ماو رب الكادحين -تعالى الله عما يقولون! - هذا المسكين الذي يحاول أن يعبر لـ بوش أنكم طيبون أنتم يا أمريكان لأنكم نصارى، أما هو يقول عن نفسه: إنه شيوعي فلن يباركه الله! ونحن نعرف أنه لا بارك لا في بوش ولا ماو، ولكن بالنسبة لـ ماو يعتذر لـ بوش أنه صاحب دين فهو خير منه، فهذا هو قائد نصف العالم الشيوعي في زمنه، وهذا تعبيره، وهذه حسرته، حسرة الكافرين في الدنيا، فما بالكم بحسرتهم يوم القيامة، بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! هذا التحسر على هذا العمر الذي ضاع على نظريات قتل من أجلها الملايين في الصين وفي الاتحاد السوفيتي وخاصة من المسلمين، قتلوا من أجل هذه النظريات، ثم تكون النتيجة بعد هذه التضحيات، وبعد إهدار الطاقات، وبعد الجهود الكبرى تكون النتيجة والنهاية أن هذا الزعيم يتحسر ويتمنى، كما قال الله عنهم: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] الله أكبر!! سبحان الله! كيف تستيقظ الفطرة ويستيقظ نداؤها؟!

الغرب والدين

الغرب والدين أما في الغرب فيمكن أن نقدم نصاً واحداً فقط يبين لنا نظرتهم في مسألة الإيمان بالله، وحجمها في الحكمة الغربية أو في الفلسفة الغربية، ثم بعد ذلك أنقل لكم بعض نصوص ما قاله هذان المؤلفان. يقول هان ترينج في كتابه: الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (ص38): 'يتميز موقف الفيلسوف على خلاف موقف الديني' فانظروا الفصل هنا فيلسوف وهنا ديني، أي: أنّ أيَّ مفكر عندهم يستخدم عقله في التفكير مجرداً عن الدين يعتبرونه فيلسوفاً، فكأنه من المستحيل أن يكون مفكراً دينياً، فيقول: 'يتميز موقف الفيلسوف على خلاف موقف الديني بأنه موقف نظرٍ وتجردٍ خالص'. أي يتجرد بالكلية عن دينه وهو الأساس، وإن كانوا -أيضا- يقولون: وعن مشاعره، لكن لا يمكن أن يكون هناك تفكير موضوعي بحت على الإطلاق، ثم يقول: فهو يرى أن مسألة الله تبارك وتعالى بأسرها من حيث وجوده وطبيعته هي مسألة مفتوحة تماماً، فالفلسفة لا تعرف أموراً مقدسة لا يمكن الاقتراب منها، والمفكر الميتافيزيقي -أي الذي يبحث في عالم ما وراء الطبيعة- لا يشعر عند لمعالجته لمفهوم الكائن الأسمى -أي: الله تبارك وتعالى- بخشوعٍ يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى، فهو عندما يتكلم عن الله لا يوجد أي خشوع، فهو يتكلم عن الله، أو عن الإنسان، أو عن القذر، أو الأميبيا، أو أي شيء آخر لا فرق عنده؟ نعوذ بالله! انظر مضادة ومحادة الفطرة، إلى أن يقول: 'وكما يقال أحياناً على سبيل المزاح: حتى الله نفسه ينبغي أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدخل مدرج الفلسفة' تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!! فلا شيء عندهم إلا ويخضع للعلم في نظرهم، وللفلسفة، وللبحث، فليس هناك شيء مقدس -لا نص مقدساً، ولا نظرية مقدسة، ولا رجال مقدسين- بل كل شيء يجب أن يخضع في نظرهم للعلم، وفصلٌ تام بين هذا العلم وبين الإيمان الديني. وهذا الكلام وإن كان يقال على سبيل المزاح، وإن كان يقوله بعض المنتمين للإسلام أيضاً! ولكن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66]. فعندما يتعلق الأمر بالله تبارك وتعالى، وبصفاته، وبالدين، وبالإيمان؛ فإن المسألة جدٌّ كلها ولا حاجة للمزاح، ولا يمكن أن تعتبر من المزاح.

ظهور الحق على لسان الغرب

ظهور الحق على لسان الغرب أحد الباحثين المعاصرين اسمه بنفيل -وهذا مشهور في أمريكا - اشتغل بالبحث يقول: 'طوال حياتي العلمية سعيت جاهداً -كغيري من العلماء- إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل' فهذا أساس من أسس التربية: أن الدماغ هو الذي يفسر العقل، أي: أن الجانب العضوي في الإنسان هو الذي يفسر الفكر والجانب التجريبي أو النظري. ويقول: 'غير أن الأدلة في آخر الأمر بعد البحث الطويل أوصلته إلى الإقرار بأن العقل البشري والإرادة البشرية حقيقتان غير ماديتين -ويعلن هذا فيقول- يا له من أمر مثير أن نكشف أن العالِم الآن يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح' فهذا هو العالم عندهم وليس رجل الدين. بل ذكر أن أحد الكتاب الموافقين لـ بنفيل في النتيجة نفسها قال: 'الإنسان في النظرة الجديدة ليس رزمة من ردود الفعل أو الدافع أو الآليات النفسية' وهذا تعريض بالنظريات والتربويات السلوكية والتحليلية وأمثالها. يقول: 'ولا هو نتاج فرعي لقوىً خارجية فالنظرة الجديدة' أي: نظرة النصف الثاني من القرن العشرين المبنية على الفيزياء، هذه النظرة الجديدة إلى الكون انبثق منها تصور في التربية، والأخلاق، والسلوك، والقيم، حتى في علم الجمال والفن والأدب، انبثاقاً كلياً يغاير النظرة القديمة التي قالها فرويد ومنها السلوكية، وكل النظريات التي لا تزال -مع الأسف- إلى الآن تدرس وتقرر في العالم الإسلامي. يقول: 'النظرة الجديدة تنشد نموذجاً إنسانياً لدراسة الإنسان، نموذجاً لم نستطع من دونه أبداً أن نمد يد العون للمحتاجين -ويحذرنا فرانك قائلاً:- لن نستطيع فعلاً أن نغيث الإنسان في ورطته إذا كنا نصر على أن تصورنا للإنسان ينبغي أن يصاغ على نمط نموذج الآلة، أو نموذج الجرم' أي: إما الميكانيكية: وهي النظرية البحتة التي تجعل الإنسان كالآلة، وإما النظرية الحيوانية، التي تجعل الفأر، أو الأرنب، أو الكلب، أو أي حيوان آخر؛ هو النموذج التي تقاس عليه الدوافع والسلوك الإنساني. ويقول الكاتبان: 'لو كان الإنسان مجرد كائنٍ مادي -كما تزعم النظرة القديمة- لو كان كذلك لكان من المعقول أن نتخذ أشياء مادية أبسط كالآلات نماذج للسلوك البشري، فلكل آلةٍ دافعةٌ تشغلها كالبخار، أو الكهرباء، أو الاحتراق الداخلي -مثل السيارة لها احتراق داخلي- وعلى ذلك كان أهم عنصر في الإنسان وفقاً لعلم النفس في النظرة القديمة هو قوته الدافعة' أي: الغريزة في عمومها، أم غريزة معينة كما تصور فرويد، أو أي أمر آخر. ويقول: 'والقوة المادية في الآلة الإنسانية تتخذ شكل غرائز وانفعالات هي مصدر جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان، أما العقل فلا يملك زمام الأمر؛ لأنه نتاج ثانويٌ للمادة -فبعد أن يتحدث عن فساد هذه النظرة، قال:- في أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثير من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاء العقل -كما هو الحال في السلوكية- قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته في علم النفس، معتبرين أن هذا موقفاً لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرسًا لخدمة الجنس البشري'. وقد عبر عن ذلك ركس كارل، وليكون نيوث في كتابه: مصير الإنسان، قال: 'إن الجبهة المادية من الحضارة تتقدم، وأما الجبهة الإنسانية فإنها في تأخر وتقهقر وتراجع كبير -ويقول:- وأخيراً التحمت في الخمسينيات من هذا القرن قوة ثالثة في علم النفس إلى جانب القوتين الأخريين: التحليل النفسي والسلوكية، هذه الحركة أتباعها لا يتكلمون بصوت واحد، ولا يشكلون مدرسةً فكرية مستقلة، ولاهم متخصصون في أي مجال ذي مضمون محدد' أي: بدأنا نرجع إلى مسألة التوحد، فالتفرق الشديد يرجعهم في النهاية إلى الوحدة، إذاً القضية أصلها التوحيد، فهم يتشعبون ثم يرجعون إلى شيء واحد، وهم مختلفون جداً، ولكن يقول: 'إن كل ما يجمع بينهم هو الهدف المشترك المتمثل في أنسنة علم النفس' أي: أن يصبح علم النفس علماً إنسانياً، فهو إلى الآن ليس إنسانياً بل حيوانياً أو آلياً، وبناءً عليه فكل النظريات التربوية تدرس الإنسان من زاوية الآلة أو الحيوان. ثم يقول: 'وفي اجتماع وطني للرابطة الأمريكية لعلم النفس، عقد في (1971م)، قررت هذه الحركة الجديدة أن تطلق على نفسها اسم: علم النفس الإنساني' فانظر متى اكتشف الغرب أنه لا يملك علم نفس إنسانياً، ولا رابطة لعلم النفس الإنساني، وأنه في حاجة أن يتخلص من الورطة -كما يعبرون- وأن يبحث في ضوء جديد وعلم جديد، عرفوا ذلك عام (1971م).

أثر التربية الغربية على المسلمين

أثر التربية الغربية على المسلمين كل النظريات التي ندرسها نحن في العالم الإسلامي، كانت كلها قبل هذا العام بسنوات في الغرب، ونحن لا نزكي هذه المدرسة الأخيرة لكن نضرب مثالاً على أننا نلتقط ما رماه الغرب في نفاياته وما تجاوزه، بينما نحن ما نزال نعيش ونقتات عليه -مع الأسف- إلا القلة المؤمنة المخلصة في بعض الجامعات الإسلامية الذين بدءوا ينظرون إلى كل شيء من زاوية التوحيد والإيمان والدين، الذي لا يجوز أن ننظر إلى أي شيء إلا من خلاله. ثم يقول: 'قررت هذه المدرسة أن تطلق على نفسها اسم: علم الإنساني، وهذه هي سيكيولوجيا النظرة العلمية الجديدة'. ثم أخذ يتحدث عن أحد الأسباب الرئيسة في ذلك، فيقول عن أحدهم وهو أوبن هايمر يقول: 'إن أسوأ ما يمكن تصوره من حالات سوء الفهم هو أن يتأثر علم النفس تأثراً يجعله يصوغ نفسه على غرار فيزياء لم يعد لها الآن وجود -فيزياء القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين- فيزياء عفَّاها الزمن، وأعتقد أن هناك إجماعاً في الرأي على أن هذا هو الطريق الذي قادتنا إليه السلوكية الوضعية المنطقية ' يعني أنه يقول: ويجب أن ننسى كل تلك النظريات؛ لأنها بنيت على فيزياء القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين الذي قد تغيرت تغيراً تاماً.

التربية الحقيقية

التربية الحقيقية التربية الحقة هي التي تمتلك التصور الكوني الكلي للوجود، التي تحدد فيها صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحدد فيها صفات الرسل وواجباتهم وأعمالهم، وما ينبغي لهم وما يجب علينا نحوهم، وتحدد فيها وظيفة الإنسان ومصيره، من أين جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وكيف يعمل ويعيش؟ ومحددةٌ فيها كل جوانب النفس الإنسانية بحيث يجد الإنسان أنه في اقتصاده، واجتماعه، وآدابه، وأخلاقه، وسلوكه، يجد نفسه شيئاً واحداً لا تتعاوره الاتجاهات المتناحرة، وهذا لا يوجد في أي نظرية أو مبدأ أو دين إلا في الإسلام، حتى الإنسان الأوروبي لا يملك هذا التكامل على الرغم من وجود هذه المدارس وأمثالها التي بدأت تظهر، إلا أنه في تاريخه الطويل ألف المتناقضات والتناحرات، فكان يخضع لقيصر فيما كان لقيصر، ويخضع للكنيسة فيما كان لله، كما هي نظريتهم الباطلة التي تقول: 'دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! '. ألفرد نورث وايتد عالم رياضي كبير إنجليزي يقول: 'مشكلة المشاكل التي يعيشها الإنسان والتي يعيشها العلم الحديث هي تجزئة الطبيعة' نقول: هذا جانب ديني، وهذا علمي، وهذا تربوي، وهذا اقتصادي، وهذا سياسي، ولو دقق الإنسان لوجد أن هذه الجوانب جميعاً لا يمكن أن تنفصل على الإطلاق، فلا يمكن أن نفصل بين دين الإنسان وبين أخلاقه -كما هو الحال في الغرب- أو بين أخلاقه واقتصاده، فالذي يتعامل بالربا من جهة لا يقول: أتحلى بالأخلاق من جهة أخرى، لا يمكن أن نفصل بين السياسة والأخلاق وبين الدين! ولكن الإنسان الغربي، تعود الفصل بين الأنا والعالم، بين الله والإنسان، بين الإنسان والطبيعة والعالم، بين الرجل والمرأة، صراع فاصل كبير وعنيف، صراع بين ما للقيصر وما للبابا، فالحياة الغربية تقوم على التناقضات والصراعات. أما دين الإسلام فهو دين التوحيد، تتجه النفس الإنسانية اتجاهاً واحداً، ومستمداً من شرعٍ واحد، كما ذكر الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] قال: أهواء؛ لأنها مختلفة، وقال أيضًا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] أي: صراط واحد، وأهواء مختلفة، وأرباب متشاكسون متناحرون على هذا الإنسان، ماذا كانت النتيجة لهذا الإنسان؟

من نتائج الانحراف في التربية

من نتائج الانحراف في التربية ظهرت مدارس اليأس والقنوط نتيجة هذه التربويات والنظريات، فـ الوجودية -كما عبر عنها سارتر أو ألبير كاميو وأمثالهم- يقولون: 'لا حل إلا اليأس' أي: اليأس من الوصول إلى المعرفة، اليأس من أن الإنسان يعرف الحكمة من وجوده أو من أين جاء؟ أو إلى أين يذهب؟ لأنهم قالوا: لا يمكن أن تصل الإنسانية إلى معرفة هذه الحقائق، فخير لنا أن نريح أنفسنا من هذا، وأن نعيش الحياة العبثية. وهذا ما قرره كانون -الفيلسوف الفرنسي الشهير- بقوله: 'لو كنت شجرة بين الأشجار أو قطاً بين الحيوان لكان لهذه الحياة معنى، أو على الأصح لما كانت المشكلة مطروحة -لم تكن عنده مشكلة في: من أنا؟ وإلى أين أذهب؟ - لأنني أكون منتمياً إلى هذا العالم الذي أقادمه الآن بكل إدراكي'. فالصراع سببه الضلال عن الهدى، ونحن نذكر قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أحد جبل يحبنا ونحبه} جبل! سبحان الله! بل نحن نعلم أن كل هذه الموجودات تسبح الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. فالمسلم عندما يصلي، ويذكر الله وهو خالٍ في طريق، أو يتأمل وهو يسير، ثم يتذكر هذه النجوم والشمس، والكون كله يسبح الله، لاشك أنه لا يشعر بعداوة مع الموجودات؛ لأن الكل يعبد الله ويسبحه، ولكن كلٌ على طريقته، والله قد علم صلاته وتسبيحه. أما أولئك فيقول أحدهم: 'إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني متضاداً مع كل الموجودات' سبحان الله! بل أوردوا على اليأس أدلة ليصححوا نظريتهم الجديدة، فقد قال الفيلسوف فريدرك نيتشه: 'إن الفلسفة الحديثة بكاملها تنحصر في نظرية عن المعرفة، وهي فلسفة لا تستطيع أن تتخطى عتبة ذاتها، وقد حرصت كل الحرص على إنكار حقها في الدخول، هذه بالتأكيد فلسفة تلفظ أنفاسها الأخيرة، إنها نهاية واحتضار، وشيء يثير الشفقة' يقول: الآن الحضارة والفلسفة مفلسة، فليس لديهم أي شيء، لا قيمة ثابتة ولا معيار صحيح. ثم يقول الكاتبان: 'إذاً: فكسوف العالم في الفلسفة المعاصرة كسوفٌ كاملٌ ومطلق، إن البذرة شديدة الضآلة، البريئة في الظاهرة التي زرعها بيكون وجاليليو في القرن السابع عشر، قد استغرقت نيفاً وثلاثمائة عام لتثمر في عصرنا هذا ثمرة اليأس الفكرية المرة والعدمية، وانفصام الإنسان عن العالم' أي: فبعد ثلاثمائة سنة من تركهم للدين، وقولهم إننا نسير على مقتضى العلم كانت الثمرة هي اليأس الفكري، والعدمية، وانفصام الإنسان عن العالم يقول: 'هذه هي المحصلة النهائية للفلسفة في إطار النظرة القديمة، وهذا يستتبع بالضرورة أنه إذا كنا لا نستطيع أن نعرف شيء عن العالم، فسنون أيضاً قد خسرنا العلم'. فبعد جهد ثلاثمائة سنة، يتضح لهم أن حقائقهم ومعرفتهم بالعالم والإنسان صفر! فقد خسروا العالم وخسروا العلم، وصدق الله إذ يقول: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، وهؤلاء هم الذين ليسوا بخاسرين، فحصيلة أكثر من ثلاثمائة سنة من التجربة، والنظريات، والكد الذهني في الجانب الإنساني، لو أنها كانت على إيمان ودين؛ لأعطت البشرية علوماً عظيمة، وأنجزت لها إنجازات، وأرباحاً هائلة، ولم تكن هذه الخسارة التي يعترفون بها الآن. لكنَّ العجب ممن يتبع الخاسرين! وممن يعيش في النور ثم يتبع السائرين في الظلمات! من الذي ينتمون إلى هذه الأمة العظيمة المجتباة المصطفاة، التي أورثها الله تعالى الكتاب والحكمة ثم يعيشون في ركاب هؤلاء المخدوعين، والتائهين، والحيارى!

الحكمة بمفهومها العام

الحكمة بمفهومها العام إذا عدنا إلى بداية الكلام وتطرقنا إلى معنى كلمة الحكمة التي آتاها الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الآيات السابقة لعرفنا أن السلف فسرها بالسنة -وهي حق- والسنة كلها حكمة، ولكن أيضاً نلحظ أو نلمح معنى آخر لا يتعارض مع ذلك، وهي أن ما يسميه الغرب فلسفة ومنه اشتقت كل النظريات التربوية، والاجتماعية، والنفسية، يسميها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة، لأن الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء ابتدأ آيات عظيمة بقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، ثم استمرت الآيات تتحدث -بعد الكلام عن الوالدين- عن الإحسان إلى الأقربين، وعن ترك التبذير، وعن الاقتصاد في النفقة، وعدم قتل الأولاد، وعن ترك الزنى، والقتل، والتحذير من هذه الجرائم البشعة، وعدم أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وعن الوفاء بالكيل والميزان والعهود، ونهى الإنسان عن أن يقول ما لا يعلم، ونهاه عن الكبر ثم قال بعد ذلك كله: ((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)) ثم عقَّب بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:39] فأول شيء بدأت به الحكمة هو التوحيد بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23]. وآخر وصية ختمت بها الحكمة التوحيد في قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الإسراء:39] فالتوحيد أساس كل حكمة، وأساس الحكمة العملية الحقيقية هي هذه الوصايا، هي ترك ما حرم الله من: الزنى، والقتل، والإسراف، والتبذير، والإفساد، واقتفاء ما ليس للإنسان به علم، والاستقامة على أمر الله ودينه، ثم القيام بالإحسان إلى الوالدين وإلى الأقربين، والاقتصاد في النفقة، هذه هي الحكمة القرآنية، والحكمة الحقيقية، وهذه هي التي بعث الله بها محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومرجعها في أول الأمر وفي آخره إلى التوحيد، إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلنكن -إن شاء الله- جميعاً موحدين مؤمنين، في أي علمٍ ومجال وميدان، أياً كانت المسميات: اقتصاداً أو سياسة أو اجتماعاً، أو أموراً عسكرية، أو داخلية، أو علاقات أسرية، أو اجتماعية- أياً كانت يجب أن نكون موحدين مستمدين كل المعايير والقيم والأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي حقيقة التوحيد. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المؤمنين الموحدين، وأن يمنَّ علينا بفضله وجوده وكرمه، إنه سميعٌ مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

الموقف الصحيح من المعلومات الخاطئة التي تدرس في الجامعات

الموقف الصحيح من المعلومات الخاطئة التي تدرس في الجامعات Q طلاب التربية يتلقون كثيراً من الأحكام العلمانية التي تتعارض مع مبادئ الإسلام. فالسؤال: ما موقف المسلم نحو هذه المعلومات، وكيف تكون دراستها والاختبار فيها وخاصة وهو يعلم خطأها، وحبذا لو كانت كلمة توجه لمن بيده وضع المناهج والكتب؟ A ليس المقصود بالتربية الذين يدرسون في كلية التربية! وإنما حياتنا جميعها هي التربية، أياً كانت التربية، لكن عموماً نوجه النصح لأنفسنا ولإخواننا جميعاً بأن تكون قيمنا، ومعاييرنا، وعلومنا، ومناهجنا كلها متفقة مع ديننا، والحمد لله قد تهيأ لنا -وبالذات في جامعة الإمام محمد بن سعود كما أعلم ولا أزكيها- وجود نخبة طيبة بدأت بل قطع بعضهم شوطاً في أن يؤصلوا هذه العلوم وفق المنهج الإسلامي، وهذا أمر يستحق التشجيع من جميع الأقسام، والكليات، ومن الإدارة، ومراكز البحث لتنمو هذه المجالات بإذن الله. أما المناهج فلها شأن آخر، فبالنظر إلى بعض ما اطلعنا عليه من المناهج كان عجباً، ولا أظنكم نسيتم قبل سنتين أو ثلاثاً في هذه القاعة، وكان معالي مدير الجامعة موجوداً فقام أحد الطلبة وجاء بكتاب مقرر -ولا أدري من قرره عليه- وفيه أن التربية الاشتراكية هي أفضل أنواع التربية! وهذا الكتاب كتب في أيام دعوة جمال عبد الناصر للاشتراكية وقرر أو ذكر كمرجع، والطلاب يدرسونه هنا، وبعد ترك الاشتراكيين للاشتراكية، وهلاك عبد الناصر، وخيبة كل هذه النظريات ما يزال يدرس أن النظرية الاشتراكية هي أفضل أنواع التربية، فالله المستعان! فيجب في الحقيقة إعادة النظر في هذه المناهج، وهذا واجب على الجميع وليس على واحد أو قسم بعينه.

التبعية للغرب وآثارها

التبعية للغرب وآثارها Q إن كثيراً من النظريات الاجتماعية والسلوكية والأخلاقية عند الغرب التي ربما صرح بعضهم ببطلانها ما زلنا نحن ندرسها في مواد التربية وبعض المواد العلمية، وكذلك تدرس في كليات التربية لبناتنا على أنها مسلَّم بها، مع العلم أنه لا يدرس في هذه الكليات مقرر مستقل لتعليم القرآن الكريم، فما هو تعليقكم؟ A الله المستعان! نحن في الحقيقة ما زلنا نعيش في التبعية للغرب، ونخشى -لا قدر الله- أننا في بعض الجوانب تزداد هذه التبعية، وإن كانت الصحوة قد بدأت في جوانب أخرى، فالتبعية للغرب هي مشكلة المشاكل، وبهذا أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن -أو لتركبن- سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟}. فنحن لا نزال على خطاهم، خاصةً أننا أخذنا هذه العلوم عنهم، والإنسان عدو ما جهل -وإن كان دينه- والذي لا يدرس دينه وإنما درس هذه النظريات هنا، ثم ابتعث هناك لاشك أنه سيعطي مما درس! وإن كان يوجد فيهم من فيه خير ويحاول أن يجتهد، لكن هذا نتاج فساد خطتنا التعليمية في الماضي، وفساد توجيهنا التربوي، وتقصير القائمين على شئون التربية التي لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن الدين، فعندما ينحصر الإسلام في مجالات معينة، ويقال: الإفتاء لهيئات الإفتاء فقط! أو هو لكلية الشريعة، أو لكلية الدعوة، فهذه علمانية موضوعية وإن لم تكن علمانية واضحة وصريحة، فقد يظهر من يرى أن علم النفس، أو التربية، أو الاجتماع، أو حتى الأحياء والفيزياء تدرس بمعزل عن الدين، وهذا الذي نلمسه، ندرس النظريات التي قال عنها الغربيون: قد عفّاها الزمن وقد انتهت، وأصبحوا الآن يرون ضرورة تمحيص العلوم من كل ما فيه إنكار لله أو للروح أو لعالم الغيب!

التخلص من انحراف النظرية التربوية

التخلص من انحراف النظرية التربوية Q تعلمون أن معظم الجامعات في البلاد الإسلامية تقوم على تدريس مناهج التربية الحديثة مع ما فيها من انحرافٍ شديد، فما هو الحل المناسب للتخلص من ذلك الانحراف الخطير؟ A أول ما يجب علينا جميعاً أياً كان موقع الإنسان منا وعمله، هو: أن نتعرف على ديننا الحق، فما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مزكياً ومربياً بمفهومنا وبتعبيرنا المعاصر، فنتعرف على تزكية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه، ولأهل بيته، وللأمة والمجتمع كما قال الله تعالى. ثم نتعلم منهم طرق تزكية العالم كله، وهي تزكيةٍ عظيمة موجودة نستطيع أن نقرأها، لأن مراجع التزكية عندنا هي كتاب الله، ثم صحيح البخاري -مثلاً- أو زاد المعاد، أو نحوهما من الكتب، فـ زاد المعاد -مثلاً- يحدثك عن كل شيء من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في لباسه، وآدابه، وصلاته، ومعاملاته، وفي حربه وسلمه، فما التربية إلا هذا، وهو نموذج حي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا أسوة حسنة، ولهذا لا نجد في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي جانب غامض لا نعرفه عنه، بعكس أكثر عظماء العالم المتبوعين في أقطار الأرض من سياسيين ومفكرين وغيرهم، تجد جوانب كثيرة في حياتهم غير معروفة، فقد نعرف أن لهم نظريات كذا أو كذا، ولكن لا نعرف حياته الأسرية، ولا زواجه، ولا علاقاته. أما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلأنه القدوة لنا جميعاً، فإن سيرته كلها أمامنا، حتى قسمته بين زوجاته، واغتساله من الجنابة، وكل شيء أمامنا واضح، فالذي أرسل إلينا هذا الرسول يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، هذه المنة لا نجحدها، ولا ننكرها، بل نتبعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونتأسى به، وهذه مصادر التربية الحقيقية أياً كان المجال.

مقياس التمييز الوظيفي بين التربوي وغير التربوي

مقياس التمييز الوظيفي بين التربوي وغير التربوي Q نرجو أن توجهوا كلمة إلى المسئولين عن التربية والتعليم في هذا البلد الخير بسبب التمييز بين من يدرس المناهج التربوية الحديثة، ومن لا يدرسها في التعيين والمرتب- أي: تربوي وغير تربوي؟ A الحقيقة أن الإنسان يمكن أن يدرس التخصص في أي مجال حتى ينهيه، ثم يأخذ فصلاً في كيفية طرق التدريس ووسائل التربية بعيداً عن النظريات التربوية، وإنما كوسائل تطبيقية عملية، ثم إن كان يريد التدريس درس، وإن كان لا يريده فليذهب، وهذا ليس من عندي وحدي، بل شاركني فيه كثير من الإخوة الأفاضل في عدة كليات، لكن عقبات النظام والتطبيق واختلاف الكليات إلى آخره حالت دون هذا، وإلا فإن هذا هو الصحيح، فإن أراد الإنسان التخصص البحت يستمر، وإن أراد أن يكون مدرساً فله ذلك. ولا غضاضة بعد ذلك أن يكون أخوك الذي درس سنةً زيادة عنك أن يكون أعلى منك في المرتبة، النفوس جميعاً تجد أن هذا عدلاً، لكن أن يكون هذا يعمل (140) ساعة، وهذا (140)، ثم تجد هذا في المرتبة السابعة، وهذا في المرتبة السادسة، وهناك مستويات، لا شك أنه يبقى في النفوس حرج، وخاصةً إذا كان المتخصص الدقيق يشعر أنه قد أفاد فائدة علمية كثيرة، بينما نجد ثلاثين ساعة أو نحوها درسها ذلك الآخر أكثرها لا خير فيها، إذا وجد هذا الشعور فتكون المصيبة مضاعفة على هذا المسكين!

التربويون في الجامعات

التربويون في الجامعات Q نرجو أن نعطي أساتذة التربية الذين يفخرون بعلماء التربية الغربية ونظرياتهم المخالفة لديننا الإسلامي نصيحة بربط التربية بمفهومٍ إسلامي، وتنبيه أن تلك النظريات يجب أن يعلم أنها فاشلة ولا خير فيها. A لا أظن أنه يوجد -إن شاء الله وخاصةً عندنا في جامعاتنا- أحد يمكن أن يثني على هذه النظريات أو أنه يفخر بها وهي مخالفة لديننا، وإنما يحدث ذلك نتيجة للجهل بالدين، وعدم المعرفة به، كما كان المتكلمون يقولون: الكتاب والسنة هذه كلها نقل، أي: نقليات أو سمعيات، أما العقل فهو كذا وكذا تعظيمًا له، مع أنهم لو قرءوهما لوجدوا العجب العجاب حتى في التربية. السؤال: وهذا مثال آخر يقول الأخ: إن بعضهم عندما يتكلم عن المربين القدماء مثل أرسطو وأفلاطون؛ يمجدونهم وكأنهم هم الذين أسسوا الأخلاق والتربية على مر العصور، ونسوا خير مربٍ للبشرية محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل هذا قادح من قوادح العقيدة؟ الجواب: لا يوجد شك في أن هؤلاء من الذين سماهم الله تبارك وتعالى في كتابه، حيث يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] فهؤلاء ليسوا حكماء، وليسوا أدلاء على طريق الخير، وإنما هم مضلون أضلوا الإنسانية، واليونان أنفسهم كان لديهم ميراث من ميراث النبوة، أضلهم عنه هذا الوثني المشرك أرسطو، الذي كان مع ذا القرنين المشرك -وليس ذا القرنين الذي ذكره الله تعالى في القرآن- وكان وزيراً له، فكان مشركاً، وكتبه تنضح بالشرك، هؤلاء مضلون: أرسطو وأفلاطون وأمثالهم إلى كانت وديكارت، وهؤلاء غاية ما فيهم أن الإنسان منهم كان يؤمن بوجود الله، وهذا هو كل ما عندهم، أما غير ذلك فهم يعيشون في ظلام وضياع، وفي تخبط. فتمجيد هؤلاء والثناء عليهم، لا شك أنه خطأٌ وخطرٌ على العقيدة كبير؛ لأننا نستمد قيمنا من عقيدة التوحيد، ومن التوحيد أن نوحد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته بالاتباع، بمعنى أن أي شيء يخالف سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مردود مرفوض -كما نقرأ في شرح الطحاوية - فهما توحيدان لا بد للعبد منهما: توحيد المرُسِل -أي شهادة أن لا إله إلا الله- وتوحيد متابعة الرسول الذي هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

رواد العلوم الإسلامية

روَّاد العلوم الإسلامية Q بماذا نرد على مدرسي المواد التربوية الذين تخرجوا من مدارس داروين وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، وهم يقولون: إن قسم العقيدة في الجامعة يعطي للطلاب معلومات خاطئة، فهم يكفرون ابن سينا مع العلم أنه هو رائد المسلمين في علم النفس والطب وغيره؟ A هذه قضايا متداخلة بالنسبة لـ ابن سينا، أو أبي زكريا الرازي، أو أمثالهما، ليسوا رواد علم التربية الإسلامية، أو الفلسفة الإسلامية، أو علم النفس الإسلامي! وهذه حقيقةٌ ذكرت في مقدمة ابن خلدون بل حتى علم السحر والسيمياء ذكرها ابن خلدون وفصل فيها، وإنما اعتبروا روادًا لأن الغرب اعتبرهم رواداً، ونحن نقلنا هذا من عند الغرب. حيث إن الغرب تعرفوا على أرسطو وأفلاطون من ترجمة ابن رشد لكتبهما، ولهذا يعتبر الغرب العصر الحديث أو عصر النهضة يبتدئ بالدقة وبالتحديد من عام (1210م)، لأنها السنة التي وصلت إلى أوروبا ترجمة ابن رشد لكتب أرسطو، فتاريخهم الحديث يبتدئ بحصولهم وعثورهم على كتب أرسطو ترجمة ابن رشد، وتعليقات من ابن سينا فأخذوا إلحادهم القديم -مع الأسف- عنا عمن ينتسب للإسلام. فاعتبروا المعلم الأول أرسطو، ثم الذين أسهموا بعد ذلك في هذا الدور هم ابن سينا وأبو زكريا الرازي لأن له كلاماً في هذا، والفارابي، والكندي، وابن رشد، لأنه في الخط نفسه. حيث أخذوا من هذا المعلم -معلم الضلالة الأول- وزادوا، وشققوا، وفرعوا، واستدركوا، ثم نقلت ترجمته إلى أوروبا، ومنها انتقلت النهضة الأوروبية الحديثة -كما يزعمون- فأخذنا هذا عنهم، وهذه من تلبيساتهم، حتى إنهم يقولون: إن أول من ألف في العقيدة هو أبو الحسن الأشعري! وهذا كلام غير صحيح، لأن القرآن هو كله كتاب الإيمان والعقيدة، ومحمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي جاء بهذه العقيدة، والقضية نفسها في التربية، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن إلا معلمًا، ومزكيًا، ومربيًا، فليس ابن سينا أول من جاء بعلم النفس، وإنما أخذنا ذلك من الغرب، ولأن الغرب لا يعتبرون الإسلام إلا وثنية كله، إلا من كان على منهجهم وعلى وثنيتهم، وهم هؤلاء الذين نقلوا إليهم هذه العلوم. وإنما يزكى ويعظم الرازي الطبيب، وابن سينا وأمثالهما؛ لأن بعض المسلمين عاطفيون، يتأثر بالعاطفة أكثر من الحقائق العلمية، فالجانب العاطفي هذا جعلنا نقول: إن تاريخنا مقدس، لما رأينا الغربيين يهاجمون تاريخنا، يقولون: إن تاريخ المسلمين فيه سفك للدماء، فيه كذا، قلنا نحن: لا، تاريخنا ليس فيه شيء مذموم، نحن أمة العدل، فإن لم نعدل نحن فمن الذي يعدل؟! والحقيقة: نحن لماذا نقدس تاريخنا؟! والأصل أننا إنما نقدس الدين المعصوم، وهو ديننا الذي جاء في الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح وأجمعت عليه الأمة، أما ما عدا ذلك اجتهاد قد يخطئ وقد يصيب، لكنا كردة فعل لاحتقار الغربيين لعلمنا جئنا نحن فقدسنا ابن سينا والفارابي وأمثالهما، ونريد أن ندافع عنهم. فإذا تكلم أحد عن عقائدهم الكفرية والإلحادية، قيل له: اسكت، أنت لأنك مثل الغربيين تشوه تاريخنا، فلما أخذنا تاريخنا من الغربيين، ورجالنا ورواد حضارتنا من الغربيين، وجدنا أن الرواد هم هؤلاء القائمة الملحدة، فإذا طعن في أحدهم قلنا: أنت تطعن الآن في علماء الإسلام، وفي بناة الحضارة الإسلامية، أنت تسيء إلينا، إذا كان الغرب يعترف بفضلهم، وبعظمتهم وأنت تطعن فيهم، إذاً أنت تكفيري ليس عندك إلا التعقيد وهذا الخطأ نشأ عن الخطأ الأول! والخطأ الثاني: أننا ندافع عن تاريخنا دفاعاً مطلقاً عاطفياً، وهذا خطأ، مثلما قام الغرب يحط من قيمة الدولة العثمانية، قمنا نحن ندافع عنها، ونزكيها، ونبرئها، بالعكس: لو كانت كما نزكيها تماماً لانتصرت، لكن فيها عوامل الخلل والضعف، والمقصود: هو أن نكون من أهل العدل. وبعض الإخوان في التربية يقررون تفاسير كمراجع كـ تفسير المراغي والواضح والألوسي والقاسمي، وخيرٌ من هذه جميعاً تفسير ابن كثير، وهو الأصل والمتن، فهو خيرٌ منها جميعاً، وبعضها عليه ملاحظات أساسية وبعضها لا يخلو من أخطاء.

ضرورة الثبات والتغيير

ضرورة الثبات والتغيير Q بعض مدرسي التربية جعل نفسه عالماً في الجرح والتعديل، فأخذ ينتقد العلماء الكبار، وأخذ يقول: إن العدد اثنين في العصر الحاضر يختلف عنه في عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما رأيكم؟ A هذه نظرية جديدة طبعاً، وإلى الآن لم تسجل براءة اختراع، إلا إن كان الأخ لم يفهمها، وصدق من قال: علم الخراب. وعلى كل حال هذا أمرٌ لا بد منه، والتصحيح طويل المدى، والتغيير والتصحيح سيطول مداه، المهم أن نصدق فيه وأن نستمر إن شاء الله.

من وسائل التربية الإسلامية

من وسائل التربية الإسلامية Q ما هي أهم وسائل التربية الحديثة التي تعالج في الإنسان روحه ووعيه بطريقة إسلامية بحتة؟. A أهمها إيجاد المحاضن الإسلامية، فيعاد دور المسجد -كما كان- فمحاضن التربية الإسلامية مثل: المسجد وحلقات العلم، كما كان السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم يربون في الإنسان أخلاقه وسلوكه، وليس مجرد مسائل علمية، أو خطبة جمعة وينتهي الأمر، ولنتذكر فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل، فتعاد المحاضن الإيمانية والتربوية أو التزكوية وأهمها المسجد، وارتباط الناس بالعلماء، وارتباط الناس بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، صباح مساء، وأن تُصَحَّحَ وسائل الإعلام التي أهلكتنا بالانحلال، والفساد الخلقي والعقائدي، بل وفي كل جانب، ولابد أن نكون كما يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منا أن نكون، وأن تخاطب الأمة الإسلامية من خلال كتاب ربها وسنة رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهنا ملاحظة أحب أن أنبه عليها، وهي: أننا لا نعترض على الوسائل أو عن التجارب البشرية التطبيقية البحتة في علم التربية، أو النفس، أو الاجتماع وغير ذلك، فهذه جهد إنساني بحت ومشترك، ويمكن لكل إنسان أن يفيد غيره، بل يجب علينا نحن أن نفيد غيرنا من أفضل الوسائل التربوية من ناحية الوسائل والتطبيق والأمور العملية، المهم أن الهدف عندنا يظل هو الهدف، فالنظرية نرفضها، لكن التطبيقات المادية أو العلمية أو التجريبية البحتة نحن أولى بها، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أيٍ كان.

معنى قول: لا أزكيه

معنى قول: لا أزكيه Q قلت أن التزكية بمعنى: التربية والتطهير من كل دنس، ما الفرق بينها وبين كلمة متداولة بيننا عندما يقول فلان لشخص: إن فلاناً طيب ولا نزكيه على الله، وما معنى قوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32]؟ A أي لا تنسبوها إلى الزكاة، ولا إشكال فقوله: لا أزكيه، الفعل المتعدي يقتضي معنى النسبة، أي لا أنسبه إلى الزكاة.

حكم من يقول: إن التربية الإسلامية تعقد الطفل!

حكم من يقول: إن التربية الإسلامية تُعَقِدُ الطفل! Q يقول بعض المتخلفين: إن الالتزام بالتربية الإسلامية للطفل قد يؤدي إلى تعقيده منذ الصغر، فما رأيكم في ذلك؟. A حقيقة يؤسفني جداً، ويضحكني -وشر البلية ما يضحك- ونحن في هذا الزمن ابتلينا ببلايا كثيرة حتى أصبحنا كما قال المتنبي: تكسرت النصال على النصال. فنقرأ من يقول: لا تدرسوا سور القرآن التي فيها -مثلاً- (تبت) أو آيات (الذي يكذب بالدين) أو فيها ذكر النار، لا تدرسوها للصغار لأن الطفل يخاف ويتعقد، نعوذ بالله! انظروا كيف أثر هؤلاء حتى في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريدون أن ينتقوا منه، وأن يخضعوه لهواهم، يقول لك: لا تذكر الطفل بالنار حتى لا يخاف. سبحان الله! لو أن الطفل أخذ القلم أو السجارة منه، لقال له: أحطمك أو أدمرك أو أنسفك، يخوفه بشيء، لكن أن يتلو عليه -أحيانًا- من القرآن مثل ذكر النار، أو ذكر جهنم فلا. وهذا خطأ! بل لابد أن يقرأها الأب ويكررها حتى يسأله عنها الابن، فيقول له: يا أبي ما هي الجنة وما هي النار؟ وينبغي للمدرس أن يتكلم عن الجنة وأنها للمتقين، والمؤمنين، والمهذبين، والطيبين، والنظيفين إلى آخره، وأن النار والجحيم هي للأشرار الفجار. فهذه المعاني تحدد له معالم الطريق في حياته، فسر يا بني على طريق الجنة، واجتنب طريق النار. ويذكره بمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة منهجه وسيرته، ومعاداة من عادى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم أبو لهب وامرأته. كيف نتجرأ على كتاب الله بالحذف أو بالتعديل؟! إن هذه من الغرائب! بل يقول بعض الناس: لابد من ديمقراطية التربية، فلا تستخدم العصا ولا ترهب الطفل! ورب العالمين -أحكم الحاكمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هذه الحدود والعقوبات فيها الصلاح. سمعت تصريحاً لأحد رؤساء الدول العربية، التي أقيم فيها حد الإعدام على قاتل أطفال، فيقول: 'مع أنني شخصياً لا أؤمن بحكم الإعدام لما فيه من البشاعة، لكن هذا الرجل بالذات يستحق أن يعدم لأنه قتل أربعة عشر أو ستة عشر طفلاً' وفي الوقت نفسه لجنة حقوق الإنسان والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في دولة أخرى يتكلمون ويقولون: نحن ألغينا حكم الإعدام في هذه الدولة! أعوذ بالله! إلغاء الحدود جرأة على الله، وعلى أحكامه -أو ما يسمى بالعقوبات عندهم- وهذه حكمة من الله أنه يعطى الإنسان حق التأديب، فالرجل يؤدب زوجته بالضرب، وهذا في كتاب الله، حتى الطفل كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر}. فهذه التربية بالعقوبة، أو بالحد، بمعناه العام لا بالمعنى الفقهي الضيق، المعنى العام للحد وهو المعاقبة بالتعزير أو التأنيب، أو أي نوع من أنواع العقوبة، هذه سنة من سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الذي هو أعلم بنا، فهو القائل: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] والقائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فهو أعلم بما يصلحنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولا يمكن أن أحداً يطبق النظرية الديمقراطية في التربية مهما تشدق بها، لأننا إذا قلنا: لا نستخدم العقوبة مع الطالب، ولا نستخدم العصا في المدرسة، فيتمرد الطالب إذا لم يؤدب، فلابد أن يعاقب؛ لأنها طبيعة وفطرة، حتى الزوجة لو قلنا: لا تعاقبها إذا أخطأت، واصبر ثم اصبر، لا شك أن هذا يمكن أن يتلفها بالكامل، فيقتلها. وهكذا النفوس لا بد أن تُضبط فتكون كما أمر الله أو تكبت فتؤدي في النهاية إلى انفجار لا يحده أي حد، فلا بد من إعادة العقوبة، ورحم الله تلك الأيام التي كنا بعد الدراسة في العصر أو المغرب إذا رأينا المدرس في آخر الشارع ونحن نلعب الكرة هربنا واختفينا، لأننا نخاف منه وله رهبة، أما الآن تجد الطلبة في الفصل ومعلمهم فيهم يصيح عليهم اهدءوا! اسكتوا! اجلسوا! فلا يسمع له؛ لأنها ديمقراطية التربية. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

كيف نحيا بالقرآن؟ (ندوة)

كيف نحيا بالقرآن؟ (ندوة) نقل مقدم الندوة مقطعاً من كلام ابن القيم رحمه الله عن حياة القلب بالاستجابة لله وللرسول. ثم تحدث الشيخ سعيد شعلان عن القرآن مبيناً أنه مادة حياة، ومدللاً على ذلك بآيات من القرآن الكريم. ثم تكلم الشيخ سفر عن أحوال السلف مقدماً لذلك بذكر حالة العرب قبل الإسلام والتغير الشامل الذي أحدثه الإسلام في حياتهم، كما أشار إلى أحوال سائر الأمم، موضحاً أسباب حياة القلوب عند السلف، مؤكداً أن المخرج من الأزمة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم هو العودة إلى القرآن. ثم تحدث الشيخ سعيد عن الوسائل الصحيحة لتهيئة النفوس للانتفاع بالقرآن، مركزاً على أهمية التدبر في آياته، والتخلص من مفسدات القلوب، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي.

كلام مقدم الندوة

كلام مقدم الندوة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: أيها الإخوة: أحييكم في هذه الأمسية المباركة التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلها أمسية خير لنا ولكم، وأن نتعلم فيها كيف نحيا على كتاب ربنا استجابةً لأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا بالاستجابة له ولرسوله الكريم، وقبل أن نبدأ موضوعنا فإني رأيت كلاماً نفيساً قيماً لابن القيم يتعلق بتفسير هذه الآية، وفي بيان أن القرآن مادة حياة للناس. يقول ابن القيم في تفسير هذه الآية: 'إن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة هو أكملهم استجابة لدعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كل ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'. ثم بين ابن القيم ما ذكره المفسرون في معنى قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] يقول: 'يعني للحق. ثم قال: وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والحكمة في الدنيا والآخرة'. وهذا هو موضوع ندوتنا لهذه الأمسية: كيف نحيا بالقرآن؟ ويحدثنا الشيخ سعيد شعلان في بيان أن القرآن مادة حياة كما قال ابن القيم، وكما قال قتادة في ذلك.

القرآن قوام الحياة

القرآن قوام الحياة يقول الشيخ سعيد: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداًَ عبد الله ورسوله خاتم النبيين وأشرف المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فإني كما يعلم الله تبارك وتعالى لم أكن أحب أن أكون مبتدئاً بالكلام في هذه الندوة، ولا أن أكون مستأثراً بأكثر الكلام فيها، وحاولت مع فضيلة الشيخ سفر -حفظه الله تعالى وجزاه الله خيراً- أن يأخذ نصيباً أوفر من الكلام، لكنه رأى أن هذا التنظيم جيد ومناسب، فأرجو المعذرة للحيلولة بينكم وبين الاستماع إليه فترة طويلة من هذه الندوة، وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع، على أي لسان كان هذا الكلام، طالما كان كلاماً مستنداً إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما رآه السلف الصالح في تفسير هذا الكلام وشرحه وبيانه والله المستعان.

القرآن طريق للحياة الطيبة

القرآن طريق للحياة الطيبة لا شك أننا جميعاً نريد لأنفسنا وللمسلمين -كافة- حياة طيبة في الدنيا والآخرة، ولا شك أن الرائد إلى بيان كيفية هذه الحياة هو كتاب الله عز وجل، وفي كتاب الله عز وجل دلالة على كيفية حصول هذه الحياة، فالله تعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] والحياة الطيبة المذكورة في هذه الآية هي الحياة في الدنيا، وإلا لو كانت حياة الجنة لكان قوله تعالى -كما قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى-: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] من قبيل التكرار، فالدنيا فيها حياة طيبة لمن جعل القرآن رائده وقائده وإمامَه. وهذه الحياة الطيبة تكون بأن يوفق الله العبد للطاعة، وللعمل بها، وبأن يشرح صدره وقلبه لها، وأن يرزقه العافية والرزق الحلال في هذه الدنيا، كما قال أهل العلم في بيان هذه الحياة الطيبة، وقصدي من ذلك أن أقول: إن القرآن الكريم مشتمل على مادة الحياة الطيبة، وقد بين أن العمل الصالح مع الإيمان يمكن أن يؤدي بالعامل المؤمن إلى ما يريده لنفسه ولأهله وعشيرته وأهل دينه من الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.

الأدلة على أن القرآن طريق للحياة الطيبة

الأدلة على أن القرآن طريق للحياة الطيبة إن اشتمال القرآن الكريم على مادة الحياة يمكن أن أستدل له بموضعين من كتاب الله عز وجل، وأتبع كل موضع بما يشهد له من الآيات، وأرجو أن لا أطيل في ذلك: - الدليل الأول:- أول الموضعين هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، هذه الآية تبين اشتمال القرآن على مادة الحياة، فماذا قال العلماء في تفسيرها؟! وهل بينت كيف تكون الحياة طيبة، كما دلت هذه الآية عليها؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:57] أي: تعظكم وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله تعالى المقتضية لعقابه، جاءتكم موعظة من ربكم في هذا الكتاب العزيز، وهذه المواعظ في الكتاب العزيز من عناصر مادة الحياة مع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتذكير، والعلم اليقيني، وما إلى ذلك مما سيأتي بيانه، تنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، فإذا اجتنبتموها حييتم حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وفزتم؛ وعادت لكم كرامتكم التي كانت أوفر ما تكون لـ سلفنا الصالح في قرون الخير والإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذه الموعظة تحذركم من المعاصي ومفاسدها وتبين لكم آثارها {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي أن هذا القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن عدم الانقياد للشرع، فهذا القرآن يشفيها إذا كانت قلوباً قابلةً واعيةً راضيةً بهذا الكلام ساعيةً إلى الانتفاع به، مؤمنةً به مصدقةً عازمةً على العمل فهو شافٍ لما في هذه الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن عدم الانقياد للشرع. وفيه شفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني بألوهية الله، وربوبيته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، واستحقاقه بعبادة عباده له سبحانه وتعالى، وأن يفردوه -وحده- بذلك دون غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى غير ذلك، فالقرآن شفاء لما في الصدور من هذه الأمراض؛ أمراض الشبهات التي تحول بين العبد وبين أن يحقق في نفسه عبودية صحيحةً لله عز وجل، فإن في هذا القرآن من المواعظ والترغيب والترهيب ما يوجب للعبد رغبة في الخير ورغبة عن الشر، هذه عناصر مادة الحياة: مواعظ، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير والرغبة عن الشر؛ يرغب في فعل الخير، ويرغب عن فعل الشر فلا يفعله، إذا وجدت فيه هاتان الرغبتان ونمتا -أي: زادتا وعظمتا- على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن؛ أوجب ذلك للعبد تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يُرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه. وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرَّفها الله غاية التصريف وبينها أحسن بيان، براهين على وحدانيته، وعلى قدرته على البعث؛ والأدلة على قدرته وعظمته التي صرَّفها في القرآن غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبهة القادحة في العلم اليقيني، ويزيل كل شهوة تخالف أمر الله عز وجل. وإذا صح القلب من مرضه ورفل بأثواب العافية تبعته الجوارح كلها؛ فإنها تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، وما الذي يصلح هذا القلب؟! لا يصلحه إلا ما في هذا القرآن: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57]، وهذا الشفاء الذي تضمنه هذا القرآن عامٌ لشفاء القلوب من الشبه، والجهالة، والآراء الفاسدة، والانحراف السيئ، والمقاصد الرديئة، فإنه مشتمل على العلم اليقيني الذي تزول به كل شبهة وكل جهالة، ومشتمل على الوعظ والتذكير الذي تزول به كل شهوة تخالف أمر الله عز وجل، وهذا الشفاء أيضاً عامُّ لشفاء الأبدان، ففي القرآن شفاء للقلوب من الشهوات والشبهات، وشفاء للأبدان من الآلام وأسقامها بالرقى. {وَهُدىً} في القرآن من عناصر مادة الحياة هدى، فما هو الهدى؟ هو: العلم بالحق، والعمل به. {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57] والرحمة هي من عناصر مادة الحياة وهي: ما يحصل من الخير والإحسان والثواب العاجل لمن اهتدى بهذا القرآن، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب. وما في هذا القرآن من الأسباب والوسائل التي يحث عليها متى ما فعلها العبد فاز بالرحمة، والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل، ولكن هذا الهدى وهذه الرحمة لا تكون ولا تحصل إلا للمؤمنين بهذه الآيات المصدقين والعاملين بها؛ كما قال الله تبارك وتعالى في أول سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، فمفهوم ذلك أن من لم يكن متقياً لم يكن له في هذا الكتاب هدى. وقال تعالى في موضعين من سورة المائدة: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة:64] فيزيد غير المؤمنين القرآن طغياناً وكفراً، ويقول تعالى في سورة التوبة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]، وقال تعالى في سورة الإسراء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82]، فلعدم تصديق الآيات ولعدم العمل بها لا تزيد الظالمين آيات القرآن إلا خساراً، إذ بها تقوم عليهم الحجة، وقال تعالى في سورة فصلت: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]، وإذا حصل الهدى، وحصلت الرحمة الناشئة عنه؛ حصلت السعادة والفلاح والربح والنجاح والفرح والسرور. - الدليل الثاني:- وأما الموضع الثاني فهو: قوله تعالى في سورة الأنعام: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122]، أو من كان من قبل هداية الله له في ظلمات الكفر، والجهل، والمعاصي فأحياه الله بالقرآن، وبنور العلم والإيمان، والطاعة، ووفقه لعبادته، واتباع رسله، فصار يمشي بين الناس في نور، متبصراً في أموره، مهتدياً لسبيله، عارفاً للخير مؤثراً له، مجتهداً في تنفيذه في نفسه وفي غيره، عارفاً بالشر مبغضاً له، مجتهداً في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره، هل يكون هذا كمن هو في ظلمات الكفر والجهل والبغي، والمعاصي ليس بخارجٍ منها، ليس له منفذٌ ولا مخلصٌ من هذه الظلمات هل يكون مثله؟! لا، فهذا قد اختلطت عليه الطرق، وأظلمت عليه المسالك، وحضره الهم والغم والحزن والشقاء. فنبه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العقول بما تعرفه وتدركه من أنه لا يستوي هذا ولا هذا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والظل والحرور، والأحياء والأموات. ومن أمثال هذه الآية الكريمة في سورة الأنعام، قوله تعالى في سورة البقرة: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقوله تعالى في سورة هود: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} [هود:24] أي: المؤمنين والكافرين: {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [هود:24]، ومنها قوله تعالى في سورة النمل: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِى الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:80 - 81] وقوله تعالى في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]، ومنها قوله تعالى في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17]، أي: حان وآن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لأجل ذكر الله، وما يتكرر على قلوبهم من زواجر ومواعظ القرآن وما يرد إليها منه. والخشوع: خشية من الله تداخل القلب، وتظهر آثارها على الجوارح بالسكون والانخفاض والطمأنينة، حان للمؤمنين أن يكونوا كذلك وألا يكونوا كالذين: {أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. ثم نبه الله تعالى بهذه الآية: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] على أنه كما يحيى الأرض بعد موتها بالمطر، كذلك يحيى القلوب بهذا القرآن، وبنور العلم والإيمان والطاعة. جعلنا ا

السلف والقرآن

السلف والقرآن والآن أيها الإخوة ننتقل إلى النقطة التي بعدها وهي كيف حيَّ أسلافنا بالقرآن، لفضيلة الدكتور: سفر الحوالي. يقول الشيخ سفر: الحمد لله الذي أنزل الكتاب على خير خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، الذي جاهد في الله حق جهاده، فكانت رسالته رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الذين حيَّت قلوبهم بالإيمان والقرآن، فنشروا العدل في الدنيا وهي ظالمة، ونشروا النور فيها وهي مظلمة، فاستضاءت بالنور، ونعمت بالعدل، حتى شاء الله تبارك وتعالى أن يعود الأحفاد إلى شبه الجاهلية الأولى فعادت الظلمات وعاد الظلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

حال العرب قبل الإسلام

حال العرب قبل الإسلام وبعد: فإن الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]. فالله تبارك وتعالى يمتن على المؤمنين بما أنعم به عليهم، ويبين حالهم قبل أن ينزل عليهم القرآن، وقبل أن تحيا به قلوبهم وتتنور، كيف كانوا، ثم ماذا صاروا من بعد، وقد بيَّن ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بيَّنه جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- عند النجاشي، وبينه المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري في أول كتاب الجزية والموادعة لما قابله رسول كسرى، وقد أوضح في ذلك وأكثر في وصفه الإمام التابعي قتادة رضي الله عنه الذي قال في تفسير هذه الآية: [[كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاهم عيشة، وأبينهم ضلالة، وأعراهم جلداً، وأجوعهم بطوناً، معكومون على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم]]، أي: كانوا محبوسين مضطهدين كأنهم على رأس حجر بين الدولتين الكبريين الأسدين: فارس في الشرق، والروم في الغرب، يقول رحمه الله: [[لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يُحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات رُدي في النار، يُؤكلون ولا يأكلون]] كانت تحكمهم الملوك المناذرة، وهم عملاء لكسرى، والغساسنة وهم عملاء لقيصر وما عداهم ضياع وشتات، القبائل متحاربة متطاحنة، شعارهم من عزّ بزّ ومن غلب فلج. لا يعرفون الله ولا اليوم الآخر، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ولا ينصرون مظلوماً ولا ينجدون مكروباً، بل كان من أقوالهم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وإن لم يجد من ينهب إلا أخاه فلينهبه، كما قال قائلهم: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا ويقول: [[لا والله ما في بلادهم يومئذٍ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظاً وأدق فيها شأناً منهم]]، أي: أضأل وأتفه الأمم؛ كانوا قبائل متصارعة يقول: [[حتى جاء الله -عز وجل- بالإسلام فأورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرفق، وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا نعم ربكم، إن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك]]. وكما قيل: الشعر ديوان العرب، فكيف كانت هذه الأمة -فضلاً عن فارس والروم وما شابهها ممن يعيشون في أحط ما يمكن من الحياة قبل أن يشرق عليهم نور القرآن، وقبل أن يحييهم الله بهذا الكتاب العظيم؟ - كيف كان العرب وهم أقرب الأمم إلى الفطرة؟ ثم كيف حولهم القرآن؟ كما عبر سيد قطب رحمه الله 'أمة تنبثق من الكتاب!! ' كيف انبثقت هذه الأمة وقادت العالم بأحكام هذا الكتاب ومن الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه؟! كيف كانت أحوالهم؟ الحروب الطاحنة كحرب البسوس التي دامت بين بني ربيعة: تغلب وبكر، وتطاحنوا وتقاتلوا، حتى هلك معظمهم من أجل ناقة!! وكحرب داحس والغبراء وهما فرسان تسابقا، وللرياضة ماضٍ قديم في تفتيت الناس وفي تجهيلهم وإبعادهم عن القرآن!! فرسان تسابقا: إحداهما: داحس، والأخرى الغبراء، فتناكر صاحباهما وتجاحدا أيهما الأسبق، فتقاتلت القبيلتان قتالاً مراً حتى بادت خضراؤهم وهلك معظمهم إلى أن أصلح الله -تبارك وتعالى- فيما بينهم على يد رجلين، من اللذين خلد ذلك لهما الشاعر زهير بن أبي سلمى حين قال: تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم هذا حالهم! أما السلب والنهب فحدث ولا حرج، من الذي كان يأمن من العرب أن يمشي ومعه أخته أو زوجته أو أمه، ويأمن ألا يسلبها أحد؟! فلذلك كان من عظمائهم الكبار ومن سادة غطفان وبني تميم قيس بن عاصم وأد بضع عشرة بنتاً من بناته، لماذا وأدها؟! لأن إحدى بناته سبيت، فخيرت بين السابي والأب، فاختارت سابيها على أبيها، فأقسم أبوها ألا تولد له بنت إلا ويئدها في التراب! وتعلمون حكم ذلك، عياذاً بالله! هكذا كان قادتهم وسادتهم، وهكذا كانت حياتهم: امرؤ القيس الشاعر المشهور الذي تضرب به الأمثال في القديم والحديث؛ كان عربيداً سكيراً يعاقر الخمر والفجور، كما ذكر في معلقته، فبلغه أن أباه قد قتل؛ فقال: اليوم خمر وغداً أمر. وقال في شعره: بنو أسد قتلوا ربهم ألا كل شيء سواه جلل فماذا فعل؟! أراد أن يثأر لأبيه، فجاء من بلاد بني أسد من وسط الجزيرة، إلى ذي الخلصة، وهو طاغوت دوس، صنم قبيلة دوس في الجنوب ليستشيره وليستنصحه، ليقول: كيف أقاتل من قتل أبي؟ ماذا أصنع؟ كيف آخذ بثأري وَمنْ أَقْتُل في أبي؟ فلما استقسم بالأزلام فخرج الذي يكره، وبزعمه أنه نهاه الصنم أن يأخذ بثأره، فرماه، وقال: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا يوماً وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا وذهب يلتمس الحل؛ من أين يلتمسه؟ ذهب يلتمسه كما نلتمسه اليوم بعد أن ابتعدنا عن حياة القرآن وعن الحياة في ظلاله، ذهب إلى الروم إلى ملوك الأرض حينئذٍ؛ ولذلك يقول: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا وقد هلك ولم ينل الملك، ولم يعذر! والقصص كثيرة عن حالهم.

حال العرب بعد الإسلام

حال العرب بعد الإسلام فكيف أصبحت هذه الأمة بعد نزول القرآن؟! لقد نوَّر الله -تبارك وتعالى- قلوبها بالإيمان، وبهذا الذكر {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، أحياهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالقرآن، وهو مادة الحياة العظمى، فانقلب حالهم بعد الذل عزاً، وبعد الهوان رفعة، وبعد الهزائم نصراً، وبعد الخوف أمناً، وبعد الظلم عدلاً. أصبحت هذه الأمة هي الأمة التي أورثها الله تبارك وتعالى الكتاب {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، اصطفاها وأورثها هذا الكتاب الذي به حيَّت الأمة التي يقوم علماؤها مقام أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم قوامون بالقسط شهداء لله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما جاء في القرآن، الأمة التي يفزع العالم إلى عدلها، ليتفيأ بظلاله من ويلات الظلم والجور. دخل قتيبة بن مسلم بلاد سمرقند، بعد أن صالحهم مراراً وهم ينقضون العهد، فصالحهم مرة وغدر بهم ودخل المدينة انتقاماً من غدرتهم السابقة، فذهب منهم وفد إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقالوا: بلغنا أنكم أمة الحق والعدل، وهاهو ذا قائدكم يصالحنا ثم يغدر، فأمر عمر -رضي الله عنه الإمام العادل- بأن يخرج الجيش من المدينة؛ لأنهم أعطوهم عهد الله ورسوله، ثم غدروا بهم، فأمر عمر بن عبد العزيز الجيش فخرج، وعند ذلك دخلوا في دين الله جميعاً عن حق ويقين ولم يغدروا بعدها أبداً.

حال سائر الأمم قبل الإسلام وبعده

حال سائر الأمم قبل الإسلام وبعده هذا بالنسبة إلى حال العرب، وماذا نقول في الروم وماذا نقول في الفرس؟! أولئك الذين كانوا يعبدون النيران، وكانوا يعيشون في ظلمات الكفر والجهل، أكانت تنقصهم الحكمة كما يفعل الناس اليوم؟! يأتون بالحكم ويأتون بالأمثال ويأتون بالقصص؛ أكان ينقص العالم حِكَماً أو عبراً وقصصاً؟! لا والله! كان بيدبا الفيلسوف الهندي الذي ألف كليلة ودمنة، وكان بزرزمهر -وهو فيلسوف الفرس- معروفاً لديهم، وكان عند الروم أرسطو وأفلاطون وسقراط وأمثالهم؛ فوالله ما صنعوا شيئاً، ولا أخرجوهم من الظلمات إلى النور؛ وإنما أخرجهم المؤمنون بكتاب الله وبهدى الله الذي أنزله الله عز وجل بهذا الوحي الخالص {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]، أخرجهم الله تبارك وتعالى بهذا القرآن، فاحتكموا إليه ورضوا به؛ حتى إن أهل الذمة الذين لم يدخلوا في الإسلام نعموا بالحياة الطيبة المطمئنة في الدنيا، وإن كانوا محرومين من الجنة عند الله تبارك وتعالى في الآخرة. لكن الحياة التي عاشوها في الدنيا لم يجدوا لها نظيراً، ولن يجدوا لها نظيراً أبداً في ظل ملوك من النصارى كانوا يحكمونهم، ولا سيما إذا كانوا مخالفين لهم في الدين.

القرآن حياة القلوب

القرآن حياة القلوب نزل هذا القرآن فتفجرت ينابيع الحكمة في قلوبهم، فلو أنَّا قارنَّا كلام حكماء اليونان والهنود والرومان والصابئين بنتف من كلام أبي الدرداء، أو بعض من كلام معاذ أو ابن مسعود الذين كانوا يرعون الشياه، والذين كانوا كما ذكر قتادة وغيره في شأنهم؛ لما كانت نسبة ذلك إليهم شيئاً مذكوراً. هؤلاء القوم الذين كانوا رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، الذين عملوا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العصر إلى المغرب على قيراطين قيراطين، في حين أن اليهود عملوا إلى الظهر، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط قيراط. هذه الأفضلية إنما جاءت لأن هذا القرآن الذي هو مادة الحياة صادف محلاً قابلاً، وهنا نأخذ العبرة والعظة، مهما كانت البذرة طيبة ومهما كان نباتها طيباً، إن لم تكن الأرض والمحل الذي تزرع به قابلاً فإنه لا يمكن أن تكون هناك حياة! ضع هذه البذرة على صخرة أتنبت؟! لا، ولكن ضعها في طينة مناسبة، في أرض طيبة، تجد أن نباتها يخرج طيباً بإذن ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكذلك الإيمان صادف تلك القلوب التي اصطفاها الله تبارك وتعالى وطهرها، فقبلت هذا الإيمان، وتشربت هذا الدين، وآمنت بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتخذته وحده مع سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهاجاً وشرعةً وسبيلاً، فتركوا كل ما وجد عند الأمم السابقة. كُتب إلى عمر -رضي الله عنه- عند فتح بلاد فارس: [[إنا قد وجدنا من كتب القوم حمل وقرين أو ما أشبه ذلك، وفيها من الحكمة وفيها من العبر، فما رأيك فيه؟ فكتب -رضي الله عنه-: أن أحرقها جميعاً، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أغنانا بالقرآن]] لا نحتاج إلى حكمة، ولا نحتاج إلى منطق، ولا نحتاج إلى فلسفة، ولا إلى دراسات اجتماعية، ولا إلى دراسات نفسية، ولا إلى ما يقال وما يسطر، لا نحتاج إلا إلى أن نؤمن بكتاب ربنا تبارك وتعالى وكأني بـ عمر رضي الله عنه في هذه الحالة، وقد استحضر قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له لما أن رآه وفي يده صحيفة من التوراة، قال: {يا عمر، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي} هذا هو النور، وهذا هو الهدى، وهذا هو الخير كله، وجماع العزة والنصرة والرفعة، آمن به السلف الصالح رضوان الله عليهم كما أمرهم الله عز وجل، كانوا يقرءون الآية الواحدة منه، فتقع وتستقر في أعماق قلوبهم! هؤلاء شعراؤهم، كما كان لبيد الشاعر الجاهلي المشهور لما قرأ القرآن توقف ولم يقل شعراً، حتى قيل: إنه لم يقل إلا بيتاً واحداً في الإسلام بعد أن كان من شعراء المعلقات في الجاهلية وهو قوله: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالاً لم يقل غير ذلك؛ لأن القرآن أبهره، وملأ قلبه، فأخرج ما في قلبه من الشعر ومن حب الشعر.

القرآن هو المخرج من المآزق المعاصرة

القرآن هو المخرج من المآزق المعاصرة إذا عادت الأمة إلى الشعر -ونعني بالشعر ما صد عن كلام الله- وإلى قرآن الشيطان إلى الغناء،، إذا عادت الأمة إلى لهوها ولعبها وفرقتها، إذا عادت الأمة إلى ضلالها وظلماتها وجاهليتها فلن ترى خيراً، فالحل وحده هو العودة إلى القرآن والارتواء من معينه الصافي، والاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في ذلك، ليحيوا مرة أخرى، وليُحْيُوا هذا العالم، فإن العالم لم يكن يوماً من الأيام بعد مبعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحوج إلى أن يحيا بالقرآن منه في هذا الزمن، وكأن الزمان قد استدار كهيئته ومبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدولتان العظميان كما تسميان إحداهما في المشرق والأخرى في المغرب، والأمة التي تنتسب إلى دين الإسلام معكومون على رأس حجر، بل معكومون في هوة سحيقة يحيط بها هذان الأسدان الجاثيان اللذان {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]. فالله الله يا أمة الإسلام، ويا إخوة الإيمان!! العودة إلى كتاب الله! نتلوه آناء الليل وآناء والنهار ونتدبر آياته ومواعظه ففيه والله الكفاية والغنى، ونقرأ صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي وصفته بها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهو الوصف الجامع المانع {كان خلقه القرآن}، ونقرأ سير الصحابة الكرام جند الإيمان والتوحيد الذين كانوا بهذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متأسين ومقتدين، تشبهوا به واقتدوا بسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنالوا شرف صحبته. وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يلحقني وإياكم بهم، وأن يحيي قلوبنا بالقرآن، وأن يوقظ غفلاتنا بالإيمان إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

كيفية التأهل للانتفاع بالقرآن

كيفية التأهل للانتفاع بالقرآن النقطة التي ننتقل إليها هي: كيف نكون أهلاً للانتفاع بالقرآن الكريم؟ قال الشيخ سعيد شعلان: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، سبق أن ذكرنا اشتمال القرآن إلى مادة الحياة، وعرفنا كيف حي أسلافنا بالقرآن، والقرآن بين أيدينا، فلماذا وجدت فينا هذه الأمور التي حالت بيننا وبين أن نكون بالأثر وعلى الدرب؟! هل عزف المسلمون عن قراءة القرآن وأعرضوا عن ذلك؟

التدبر وأثره

التدبر وأثره الواقع أن المسلمين ما زالوا يقرءون القرآن؛ ولكن مما لا شك فيه أن قراءة القرآن وحدها ليست كفيلة بأن نكون أهلاً للانتفاع به، وبأن نكون أهلاً لأن نحيا به، فلا بد أن نُتْبَع القراءة والتلاوة بالفهم والتدبر والتعقل وبأمور أخرى سيأتي بيانها، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تدبر القرآن -ما هو التدبر الذي هو من أعظم الشروط التي تؤهلنا للانتفاع بالقرآن؟ - قال: 'هو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهذا هو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى في سورة النساء: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقال الله تعالى في سورة المؤمنون: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة ص: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وقال تعالى في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24] '. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [[نزل القرآن ليتدبر وليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً]]. ثم يقول رحمه الله تعالى -والكلام ما يزال لابن القيم أثابه الله وجزاه أحسن الجزاء وأجمله-: 'فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب في نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما' هذا هو أنفع شيء للعبد في معاشه ومعاده، وهو أقرب شيء إلى نجاته؛ أن يتدبر القرآن، وأن يطيل التأمل فيه، وأن يجمع الفكر على معاني آياته. وماذا يستفيد العبد إذا تدبر وأطال التأمل وجمع الفكر على المعاني؟ هذه الأمور إذا فعلها العبد، يقول: ' فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما ' أي: مآل أهل الخير والشر، ما الذي يطلعك على ذلك؟ إنه تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته. وماذا تفيدك إطالة التأمل مع التدبر والتعقل وجمع الفكر؟ يقول: ' وتتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة -ومعنى (تتل في يده) تلقى في يده توضع في يده- هذا كله بالتدبر والتعقل وجمع الفكر، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره بمواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه سبحانه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة والنار، وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه، وبالجملة تُعَرِّفه ستة أشياء: تعرفه الرب المدعو إليه المدعو إلى عبادته سبحانه والإقبال إليه وما إلى ذلك مما ينبغي ألا يكون إلا لله وطريق الوصول إليه إلى رضاه وإلى جنته، وإلى رؤيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما له من الكرامة إذا قدم عليه، وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، وطريق الوصول إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب إذا قدم عليه فهذه ستة أمور لا بد للعبد من معرفتها، ومشاهدتها، ومطالعتها '

الانتفاع بالقرآن ومفسدات القلوب

الانتفاع بالقرآن ومفسدات القلوب ينبغي لكي نكون أهلاً للانتفاع بالقرآن، أن نتجنب مفسدات القلب الخمسة، وذكرها ابن القيم أيضاً في كتابه مدارج السالكين ومنها: 'كثرة الخلطة، والتعلق بغير الله عز وجل، والشبع، وكثرة النوم' كثرة الخلطة مع غير الأخيار والصالحين، من غير دعوتهم، وبيان الحق لهم، وعرض محاسن الإسلام عليهم، والرضا بأحوالهم ومجالستهم على ما هم فيه من غير سعي إلى تغيير هذه المنكرات والأحوال السيئة، هذه مفسدة للقلب، فمهما قرأت فلا تنتفع بشيء. التمني، أي: تمني الأمنيات: نتمنى ونتمنى وأحلام يقظة من غير حركة ولا فعل ولا نشاط ولا عمل ولا دعوة، فقط نتمنى؛ وكذلك التعلق بغير الله عز وجل يفسد القلب أيما إفساد.

أثر الذنوب على الانتفاع بالقرآن

أثر الذنوب على الانتفاع بالقرآن وينبغي أن نخاف ذنوبنا ومعاصينا، فإن لها من الآثار السيئة على القلوب والحيلولة بين القلوب والفهم والوعي والتدبر والتأثر ما لا يخفى على أي عاقل لبيب.

نماذج للخوف من الذنوب

نماذج للخوف من الذنوب ولا حاجة بي إلى أن أعيد ذكر الذنوب -التي ذكرها فضيلة الشيخ في كلمته- الذنوب التي حطت من قدرنا، وعطلتنا عن اللحاق بمن سبقنا، وأخرتنا أيما تأخير. هذه الذنوب يجب أن نخافها أشد الخوف ويكفي في الدلالة على ما ينبغي من خوف الذنوب أن أذكر مثالاً على ذلك وهو: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- والذي ذكر فضيلة الشيخ أنه ممن تفجرت ينابيع الحكمة في قلوبهم وعلى ألسنتهم لَمَّا انتفعوا بهذا القرآن العظيم. كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام، وكان من المحببين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأذكر في فضله ومكانته عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود نفسه قال: {لما نزل قوله تعالى في سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ ابن مسعود: قيل لي: أنت منهم، أنت منهم} هذا في صحيح مسلم وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي مسعود البدري وأبي موسى [[أنهما بعد وفاة ابن مسعود -رضي الله عنه- جلسا فقال أحدهما للآخر: أتراه ترك بعده مثله؟ -أي: هل بقي مثل ابن مسعود بعد وفاته- فقال الآخر: لأن قلت ذاك، لقد كان يؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا]]. أي: ومن منا مثل ابن مسعود، كان يؤذن له في الدخول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا، ولقد دخل ابن مسعود على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد مرضه الشديد وامتناعه من الخروج للمسلمين في يوم الخميس، وقبل وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأذن له بينما لم يؤذن لكثير من الصحابة في ذلك الوقت. وأيضاً في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: {قدمت أنا وأخي في قدوم الأشعريين فمكثنا زمناً لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكثرة دخولهم وخروجهم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}، هذا في مكانة ابن مسعود، وفي هذه المكانة حديث آخر أخرجه الإمام أحمد وغيره، عن ابن مسعود وعمر بن الخطاب، أما عمر بن الخطاب فلما بلغه وهو بعرفة -رضي الله عنه- أن رجلاً بالكوفة يملي المصاحف عن ظهر قلب، غضب وارتعدت فرائصه، ولم يسر عنه إلا لما عرف أن ابن مسعود هو الذي يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: ومن أحق منه بعد. أي: ومن أحق منه في هذا الوقت؟ فليس أحد أحق من ابن مسعود. لقد كنا عند أبي بكر في سمرٍ، وعنده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا، وخرجنا فأتينا المسجد فوجدنا رجلاً قائماً يصلي فاستمعنا إليه، فلما كدنا أن نعرفه -وعرفوا أنه ابن مسعود - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر وعمر: {من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد. ثم انتهى ابن مسعود وشرع في الدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام وابن مسعود لا يشعر: سل تعطه، فدعا ابن مسعود وقال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد في أعلى جنان الخلد، قال عمر رضي الله عنه: فقلت في نفسي لأبشرنه إذا غدوت عليه، فلما أتيته لأبشره وجدت أبا بكر سبقني، فقلت له: إنك لسباق إلى الخير}. هذا بعض ما يمكن أن يروى في مكانة ابن مسعود وفضله. إذا انتبهتم إلى هذا وتأكدتم منه ووقفتم عليه، تعالوا إذن نرى كيف كان هذا الصحابي الجليل يزري على نفسه ويهضمها، ويخاف الذنوب، لنعرف أين هم وأين نحن؟! وإلى أين وصلوا هم؟! ولماذا وقفنا ولا حراك لنا؟! ولا نأمل ونحن على ما نحن عليه من هذه الأحوال السيئة أن ندرك هذا الركب حتى نقلع عن هذه الذنوب والمعاصي، وحتى نحييَّ قلوبنا بهذا الهدى، وهذه الرحمة التي في القرآن. عن إبراهيم التيمي عن أبيه بإسناد صحيح -كما أخرجه الذهبي في سيرة ابن مسعود في المجلد الأول- قال: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: [[لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان، ولحثيتم التراب فوق رأسي، ولوددت أن الله غفر ذنباً من ذنوبي وأني دعيت عبد الله بن روثة]]، وددت أن الله يغفر لي ذنباً من ذنوبي حتى وإن كانت القربان إلى ذلك والشيء الذي يقدم ليغفر ذنباً من الذنوب أن أدعى يا عبد الله بن روثة؛ وتعرفون معنى الروثة! هذا إزراءٌ على النفس وتواضع، وإلا فهم السابقون السابقون رضي الله عنهم وأرضاهم. ويقول أبو سليمان الداراني معلقاً على كلام لابن سيرين بكلمة أختم بها هذه الفقرة في التحذير من الذنوب ومن عدم الخوف منها، فنرى ابن سيرين رحمه الله تعالى، تدين بدين كبير عظيم جداً حبس بسببه، فحاسب ابن سيرين نفسه فقال: [[إني عيَّرت رجلاً من ثلاثين سنة فقلت له: يا مفلس، وهذا هو أوان عقابي وجزائي بهذا الذنب، فبماذا علق أبو سليمان الداراني؟ قال: قلَّتْ ذنوبهم فعرفوا من أين أُتوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نُؤتى!]]. إذا حصلت لأحدهم مصيبة والله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] إذا أصابه ذنب وبلاء عرف أن الذنب هو الذي تسبب بهذا البلاء، يعرفه؛ لأن ذنوبهم قليلة فلا يحتاج إلى كثير بحث، أما نحن فإذا أصبنا ببلاء لا نستطيع أن نرد السبب إلى ذنب معين؛ لأنها ذنوب كثيرة وعظيمة. ولقد قال أنس -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري لمن أدركهم من التابعين: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات]] يعني: المهلكات، ومعنى قوله: أنتم تعملون أعمالاً تعتبرونها في نظركم وحسبانكم دقيقة كالشعر ونحن كنا نعدها؛ أي: نعد هذه الذنوب التي تستهينون بها على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات [[قَلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين أُتُوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتى]]. فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا وإياكم إلى تحقيق هذه الشروط التي تجعلنا أهلاً للانتفاع بالقرآن، والتي تؤهلنا لأن نحيا بالقرآن، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

منهج دراسي للمبتدئين

منهج دراسي للمبتدئين Q فضيلة الشيخ سفر يقول السائل: أنا تائب جديد فهل تنصحني في بداية توبتي بالتركيز على قراءة القرآن وتفسيره، حيث إنه من عوامل التثبيت كما سمعت من طلبة العلم؟ أم أنوع القراءة في مختلف العلوم من فقه وعقيدة وحديث؟ A الحمد لله وبعد: كلنا -أيها الإخوة في الله- نحتاج للتوبة، ونسأل الله أن يجعلنا من التائبين الأوابين. وقد ذكرنا حال الأمة عندما تابت والعرب جميعاً لما تابوا، على أي شيء تربوا؟! وكيف حيت قلوبهم؟! وكيف ساروا؟! القرآن هو الركن الركين والأساس في التزكية والتربية، وكل العلوم فرع عنه، فالسنة شرح وتفسير له، وبيان لمجمله، وتخصيص لعمومه، وتقييد لمطلقه، إلى غير ذلك. وعَمَلُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترجمة له، وعَمَلُ الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- تطبيقٌ وتنفيذٌ له، فالقرآن هو الأساس، فكل علم يخالف هذا الكتاب فلا خير فيه، وكل خير في علم آخر فأصله من هذا الكتاب لاستمداده منه، ولذلك فإن أوجب ما يبدأ به الإنسان تائباً أو غير تائب هو: الإقبال على كتاب الله عز وجل؛ إقبالاً فيه التدبر، وفيه التفكر. ثم بعد ذلك ينوع من العلوم بقدر لا يزاحم به كتاب الله، فإذا خَصَّصَ جزءاً مهماً أساسياً لحفظ القرآن وتدبره والاطلاع على كتب التفسير، فلا بأس أن يجعل بعد ذلك من العلوم المشتقة منه، والمكملة له، ولا سيما ما هي تطبيق وتنفيذ للقرآن، مثل: تعلم أحكام العبادات من صلاة وزكاة وصيام، لأنه بذلك يطبق القرآن، ويمتثل أمر الله في القرآن، بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهكذا. ولا يشغل نفسه بعلوم أبعد من ذلك، تبعده عن التدبر والعمل في القرآن وإن كانت حقاً، كما يشتغل بعض الشباب فيبدءون عقب توبتهم بالاشتغال بالرجال والنقد (نقد الرجال) والجرح والتعديل! ليست هذه البداية الصحيحة لطالب العلم، وبعض الإخوة يشتغل بالإكثار من الفروع الفقهية والخلاف بين العلماء، وبعضهم يبدأ بأصول الفقه، وبعضهم يبدأ بقراءة الفلسفة أو المنطق!! أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من الخطأ في طريق العلم، فالقرآن هو الأساس فقد جاء عن بعض الصالحين أن رجلاً صالحاً لم يستطع أن يحفظ القرآن لشغله عنه، فأرسل ابناً له ليحفظ القرآن، وليتعلم القرآن فرجع الولد فقال أبوه: يا بني، لماذا رجعت؟ قال: يا أبتِ: حفظت سورة أرى أنها قد كفتني، قال: وما هي؟ قال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8]. أقول: بمثل هذا التدبر يجد الإنسان أن السورة الواحدة إذا حفظها وتدبر معانيها وتفقه فيها، أنها تغنيه عن علم كثير مما فيه جفاء عن القرآن، أو جفاء في القلب، كالدخول في الخلافيات وما أشبه ذلك، مما هو شأن العلماء المجتهدين المتعمقين الذين استكملوا -إن شاء الله- حظاً وافراً من الإيمان، ثم تفقهوا وتوسعوا في العلم، وكان ذلك فرضاً متعيناً عليهم، لأن الأمة بحاجة إلى علومهم، أما نحن طلبة العلم، فنحن أحوج ما نكون أولاً وبادئ ذي بدء إلى إصلاح قلوبنا وتزكيتها بهذا القرآن، والبعد عما يشغلنا عنه وإن كان حقاً، لكنه حقٌ مفضول. بهذا أنصح نفسي أولاً، وإخوتي الكرام أثابهم الله، وأقول ذلك لأننا في عصر اشتبكت واختلطت على الإخوة فيه السبل الصحيحة لطلب العلم ولمعرفته، وأصبح -ربما أكون مبالغاً وأرجو أن أكون كذلك- الهضم والإجحاف بالقرآن: تلقياً وحفظاً وتعلماً مقابل علوم أخرى، ما كان فيها من خير فإنما هو من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

من أخطاء بعض القراء

من أخطاء بعض القراء Q فضيلة الشيخ سعيد شعلان: مجموعة من كبار القراء الذين اشتهروا في العالم الإسلامي ظهرت أخبارهم في وسائل الإعلام وكأنهم لا يحيون بالقرآن، واستطاع الإعلاميون استغلالهم، فمنهم من استضيف في حفل مسرحي، ومنهم من استضيف في افتتاح مباراة كرة، ومنهم من اجتمع في لقاء صحفي يذكر فيه أنه يرى التلفاز والتمثيليات ويسمع الغناء، فنرجو من الشيخ أن ينبه القراء إلى خطورة ما يحاك لهم من الإعلاميين بهذا الصدد؟ A الحمد لله، تعلمون جميعاً أن الله عز وجل أنزل كتابه المبارك لهداية الناس إلى مصالح الدنيا والآخرة، ولم ينزل هذا الكتاب ليقرأ في المآتم، أو على القبور، أو في افتتاح الحفلات، أو ليوضع مهجوراً بين دفتين عظيمتين من الأصناف الغالية الثمن، وما إلى ذلك، لا، بل هو كتاب هداية وما مضى الكلام على ما فيه من مادة الحياة وكيف حيَّ به أسلافنا، وكيف يتدبر، يغني عن إعادة الكلام عن الهدف الذي من أجله أنزل الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب العزيز المبارك، ويكفيني أن أرد هذا العمل -على من قام به من القراء ولو كانوا من المشاهير- بكلام من سبقهم في قراءة القرآن وتعلمه، وتعليمه ولن يكون هؤلاء القراء مهما بلغت شهرتهم حجة على هذه الفعال بإزاء القراء الأولين المفكرين، الفاهمين، المتدبرين، المتعقلين، جامعي الفكر على معاني آيات القرآن الكريم، لن يكونوا مثلهم، ولن يُحتجَّ بهم ويُتركَ الاحتجاجُ بهؤلاء الأولين رضي الله عنهم. لقد ذكر النووي رحمه الله تعالى في التبيان في آداب حملة القرآن آثاراً عن ابن مسعود رضي الله عنه والحسن والفضيل بن عياض رحمهم الله تعالى، أكتفي بذكرها وفيها ردٌ كافٍ على هذه الأعمال وعلى هذا السلوك، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون -إذا نام الناس قام هو- وبنهاره إذ الناس مفطرون -يعني: بصيامه- وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون]]. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [[إن من كان قبلكم -يقول للتابعين في زمانه وأتباعهم- رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار]]، أي: يعملون بها في النهار. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: [[حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن]]، لا ينبغي أن يشارك في اللهو والسهو واللغو تعظيماً لحق القرآن، لأنه من حملته وسيكون حجة لغيره إذا ما رآه على هذه الأمور أن يفعل مثله. أما إذا كان هو يبرر هذه الفعال ويحكم بجوازها وصحتها، ويتفضل بافتتاح هذه الحفلات بأن يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54] ولست أقول: إن المصيبة في أن يقرأ هذه الآيات، لكن المصيبة في المشاركة والحضور في هذه الحفلات، ولو قرأ أي آية من كتاب الله -عز وجل- لأنه يجلس مع قوم فارغين، لا هم في أمر دنياهم، ولا هم في أمر آخرتهم، كيف ذلك؟! يجلس مع قوم لا يصلحون دنياهم، ولا يصلحون آخرتهم! فهذا هو الذي ينبغي لحامل القرآن من الآداب، وبهذا القدر كفاية والله تبارك وتعالى هو المسئول أن يهدينا، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يختم لنا بخير، وأن يجعل عواقب أمورنا إلى خير.

حكم التداوي بالقرآن من المس

حكم التداوي بالقرآن من المس Q فضيلة الشيخ سفر: هل يجوز التداوي بالقرآن الكريم وإخراج الجني من المريض بقراءة، القرآن جزاكم الله خيراً؟ A الحمد لله، أقول: لا ريب أن القرآن شفاء للقلوب وللأبدان -كما تفضل الشيخ فذكر الآيات في ذلك- والتداوي بالقرآن حق، ومن تداوى به كما شرع الله وكما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يغلُ ولم يبتدع، وكان محله قابلاً للعلاج القرآني، شفي بإذن الله -تبارك وتعالى- فالشفاء موجود ولكن قابلية المحل أيضاً شرط لوقوعه، غير أني أريد أن أنبه إلى ما هو أهم، لنأخذ العبرة من حالنا ومن واقعنا. عندما عظمنا الدنيا ونسينا الآخرة، أصبحنا نحتاج القرآن لنداوي به أجسادنا، ونسعى إلى ذلك، ونبذل المال والجهد، ولكننا لا نسعى ولا نجتهد، لأن نعالج قلوبنا بالقرآن، فلو قيل لنا: إن شيخاً أو عالماً واعظاً سيعظنا الليلة بشيء من كتاب الله -تبارك وتعالى- يرقق به القلوب، ويذكرنا بالله عز وجل، ويربطنا بهذا الكتاب المهجور، كم يجتمع له؟! كم يحضر لديه؟! أما لو قيل إن رجلاً ما قد ظهر في منطقة نائيةٍ بعيدة يعالج الناس بالقرآن، ويخرج الجان، ويفك المسحور، وأمثال ذلك مما يتلذذ به العامة؛ لشدت إليه الرحال وضربت إليه أكباد السيارات! سبحان الله!! أليس هذا دليلاً على أنا عظمنا الدنيا ونسينا الآخرة؟! إذا كان الحسن البصري -كما سمعتم من الشيخ حفظه الله- قال رحمه الله: [[إن هذا القرآن أنزل ليقرءوه وليعملوا به فجعلوا قراءته عملاً]] سبحان الله! يلوم الذين جعلوا قراءة القرآن علماً دون العمل به، فكيف بالذين جعلوا القرآن تكسباً للدنيا؟! وكيف بالذين جعلوه فقط لعلاج أجسادهم؟! فإذا صح الجسد وتعافى، استُخدِمَ في معصية الله -عز وجل- شُفيت العين فنظرت إلى ما حرم الله، وشفي العقل فتفكر وتأمل فيما حرم الله، وشفي اللسان فنطق بما حرم الله، هذه والله كارثة! أن يكون هذا حظنا من كتاب ربنا وإن كان العلاج به حقاً لا ريب فيه. إخوتي في الله! إن الله تبارك وتعالى رحيم كريم ومن رحمته عز وجل أنه جعل ما يقيم حياة الناس لضروراتهم، جعله متيسراً لهم بقدر ضرورته لهم؛ فهو بقدر الحاجة أو الضرورة يكون تَيَسُّر ذلك الأمر. فلما كان الناس بحاجة إلى الهواء لا يستطيع الإنسان أن يعيش إلا إذا تنفس الهواء جعله الله مجاناً، ولو كان الهواء يباع لاختنق أكثر الناس؛ لأنهم فقراء ولاحتكر التجار الهواء ولكن رحمة الله منعت ذلك. وكذلك الماء؛ لأن الناس يحتاجونه ولا يستغني عنه أحد جعله الله تبارك وتعالى موفراً بين أيديهم ولله الحمد والمنة. والملح؛ لأنه لا قوام للطعام إلا به هو من أرخص ما يباع في الأسواق في كل مكان ولله الفضل وله الحكمة البالغة عز وجل، ومن ذلك أنه لما علم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو العليم بكل شيء شدة حاجتنا إلى القرآن وضرورة تحصننا به من الشيطان وأن عدونا ماكر خبيث ممكن له فينا، ويجري منا مجرى الدم أعطانا الله عز وجل العلاج مجاناً. فكل إنسان كل مؤمن والحمد لله يستطيع أن يقرأ المعوذتين، ويقرأ آية الكرسي، ويقرأ آخر آيتين من سورة البقرة ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في اليوم إلى غير ذلك مجاناً، فلا تحتاج أن تذهب إلى شيخ أو تسأل عنها عالماً، ولا أن تبذل مالاً قل أم كثر. فإنك إن قلتها حفظك الله تبارك وتعالى بها من الشيطان بإذن الله فلا تصرع ولا يأتيك الجان ولا يتلبس بك ولا يؤذيك السحر بإذن الله تبارك وتعالى؛ إلا ما قدره الله، وقَدَرُ الله عز وجل كائن. {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} هل تشق على أحد؟! أم تلك الرقى البدعية والقراءات الطويلة ويصحبها من الباطل أقل ما يقال فيها: أنها لم ترد مرفوعة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان أكثرها لم يعملها الصحابة أو أحد من السلف؛ بل بعضها وقد رأيناها مشتملة على شركيات وعلى توسلات بغير الله عز وجل، ويقولون: هذا قرآن هذه آية الكرسي. لكن اقرأ ما في الأطراف تجد أرقاماً وكتابات لا معنى لها، هذه توسلات شركية، ولهذا يقولون يوم القيامة عندما يسألهم ربنا تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] هذا يستمتع به بما يقدم له من شركيات، وذاك يستمتع بما يعطيه، وكأنه يظهر على يديه الكرامات أو الخوارق! فيا إخوتي في الله، الوقاية خير من العلاج! فلنعالج قلوبنا أولاً، ونقيها الشبهات بالقرآن، ثم بعلاج أبداننا أيضاً نتخذ من هذا القرآن وقاية للحفظ من الشيطان، فنقرأ هذه الآيات الميسورة المتوفرة -والحمد لله- ونداوم على هذه الأذكار صباحاً ومساءً وقبيل النوم، كما وردت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبذلك يكون لنا الشفاء -بإذن الله تبارك وتعالى- في قلوبنا وأبداننا، أسال الله تبارك وتعالى أن يشفينا جميعاً وأن يعافينا من كل داء ظاهر وباطن إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

التضرع إلى الله

التضرع إلى الله إن من أعظم ما شرعه الله جل وعلا على العباد دعاءه والتضرع إليه، والتذلل بين يديه؛ لما في ذلك من إثبات العبودية والخضوع لله سبحانه وتعالى، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ حفظه الله عن الدعاء والتضرع، مبيناً أهميته، ومحذراً من خطورة الأمن من مكر الله، ثم ذكر أمثلة من حياة الأنبياء عليهم السلام والتي توضح منهجهم في الدعاء وحرصهم عليه.

مغبة ترك الدعاء

مغبة ترك الدعاء الحمد الله القائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] والقائل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {إن الله حيي رحيم كريم يستحيي أن يرفع العبد يده إليه ثم لا يضع فيها خيراً}، وصلى الله وسلم وبارك على صحبه الكرام، والتابعين لهم بإحسان، الذين تعرفوا إلى الله تبارك وتعالى في الرخاء، فتعرف الله إليهم في الشدة، الذين سنوا لنا كيف نتضرع إلى الله، ولا نغفل عنه، ولا ننسى ذكره في أي وقت وعلى أي حال. أما بعد: فما منا أحد اليوم إلا وهو يسمع ويجالس ويرى ويستشعر في كل حين هذه الأحداث، التي تمر بأمة الإسلام في كل البلاد، وفي هذا البلد خاصة، الذي كان أهله يحسبون أنهم سيظلون في منأى عن الفتن والأحداث، حتى جاءتهم. مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يجامل في سنته ولا يحابي أحداً، فله سنن ثابتة لا تتخلف، وقد ابتلانا قبل ذلك بالنعماء وبالسراء، ثم هاهي قد بدأت طلائع البأساء والضراء -ونسأل الله العفو العافية- وليست المشكلة في أن البلايا تقع، أو أن العذاب يقترب، أو أن الفتن والمحن تموج، فهذا تاريخنا الإسلامي حافل به. ولكن المصيبة والمشكلة في غفلتنا عن أسباب الوقاية، وفي بعدنا عن الرجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والأخذ بموجب التقوى والإيمان، الذي يدفع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به العذاب، ويكشف عنا به البلاء، والله عز وجل رحيم وكريم وهو الغني الحميد، ومن رحمته بهذه الأمة -وهو الذي أنزل إليها الكتاب رحمة وبعث إليها نبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن بين لها كيف تتقي عذابه؟ وكيف تتجنب سخطه؟ وكيف تأخذ بأسباب النجاة في أمر ديننا ودنيانا؟

النجاة من عقوبة الله تكون بالدعاء والتضرع

النجاة من عقوبة الله تكون بالدعاء والتضرع وإن مما شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجعله سبباً -بل هو من أعظم الأسباب- لاتقاء عذابه وسخطه، دعائه والتضرع إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والتوبة والاستغفار والإنابة، فنحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إليها، وإن كنا محتاجين إليها في كل وقت وفي كل حين؛ لكن مع هذه الفتن ومع هذه الأحداث فنحن أحوج ما نكون إلى أن لا ننسى ذلك. ولا سيما أن الذين أخاطبهم جلهم من طلبة العلم -ولله الحمد- وفيهم الدعاة والأئمة والخطباء، وبهم تتأثر الأمة -إن شاء الله- وينتشر الخير فيها، فيجب أن ننشر هذا الحق وهذا الخير، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وأن نجتهد في دفع هذا البلاء عن الأمة ببيان أسباب الوقاية منه -بإذن الله تبارك وتعالى- وهذا من أعظمها كما بين الله عز وجل ذلك، بل إن الله تبارك وتعالى جعل التضرع غاية كما ذكرنا في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] وفي الآية الأخرى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]. إذاً: فالأخذ بالبأساء وهي: الحروب والضراء، وهي تعم الفتن والجدب والقحط وكل ما من شأنه أن يضار الناس، الغاية منها لعلهم يضرعون -أي: كي يضرعوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن الناس إن لم يعرفوا الله تبارك وتعالى في الرخاء فلا بد أن يتعرفوا إليه في الشدة، وإن من أعظم وأكثر الناس قسوة وأعظمهم غفلة الذين لا يتضرعون إلى الله لا في الرخاء ولا في الشدة، ولهذا قال عز وجل في الأنعام: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:43 - 45]. فانظروا إلى إمهال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للأمم السابقة ففي أول الأمر أخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلما لم يتضرعوا وقست قلوبهم حلت ووقعت عليهم العقوبة، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، استدراجاً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم. ومن هنا قال لنبيه وللمؤمنين: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] لأن هذا فتح من الله؛ يفتح الله عليهم أبواب كل شيء ثم في النهاية {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] فيأخذهم بغتة؛ لأنه قد أنذرهم وقد خلت من قبلهم المثُلات وقد جاءتهم النذر، ولكنهم أعرضوا ونسوا ما ذكروا به، فعند ذلك يقطع دابرهم بأليم عقابه، نسأل الله العفو والعافية.

حال المتضرع وحال المعرض

حال المتضرع وحال المعرض {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فلو أنهم تضرعوا إلى الله لكشف عنهم السوء، ولهذا استثنى الله تبارك وتعالى من الأمم قوم يونس يقول الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]. فذكر المفسرون من السلف رحمهم الله في هذه الآية أن قوم يونس خرجوا إلى الصعدات، وجأروا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخرجوا بأطفالهم ونسائهم ودوابهم، وقيل: إنهم ظلوا على هذه الحالة أربعين ليلة وهم يستغيثون ويتضرعون ويدعون ويبكون ويستغفرون فكشف الله تبارك وتعالى عنهم العذاب في هذه الحياة الدنيا، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن سعة رحمته. أما الذين يصرون ويعاندون ويستكبرون على الله ولا يتضرعون إليه ولا ينيبون؛ فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا ما بينه في سورة الأنعام وكما بينه أيضاً في آيات الأعراف السابقة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96]، فهناك ذكر أنهم {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] وقال هنا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] وليس أبواب كل شيء؛ ولكن بركات، والبركة في أي أمر حلت فهي خير، أما الذي لا بركة فيه فلا خير فيه. وإن كان كثيراً {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].

عقوبة الأمن من مكر الله

عقوبة الأمن من مكر الله ثم قال عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97 - 98] أي: ما المانع وما الموجب وما المقتضي للغفلة والإعراض وقسوة القلب وعدم اللجوء إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتضرع إليه، أهو الأمن؟! فكيف يأمنون والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر! والله تبارك وتعالى قوي! والله تعالى عزيز ذو انتقام! كيف يأمنون أن يأتيهم بأس الله بياتاً وهم نائمون! وكم من أمةٍ جاءها ذلك البأس فأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصبحين، كما أخذ الله قوم لوط {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} [الحجر:83] أو (مُشْرِقِينَ) هكذا أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيراً من الأمم، أخذهم بياتاً أو مع الإشراق {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98]. وقد أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً أمماً أخرى وأهلكها، وعذبها وهي ترى العذاب، ومن ذلك ما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم عاد {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]-نعوذ بالله من القسوة ومن الغفلة- حتى لما رأوا العذاب قالوا: هذا عارض ممطرنا، فما ظنوه إلا استمراراً لهم في الخير واستمراراً للعطاء والنعمة، وما ظنوه إلا سيستمر، وهم لا يحسبونه استدراجاً {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] فكانوا بعد ذلك {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]. وهكذا كل أمة يجب عليها ألا تأمن من مكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100] لا يصح ولا يجوز لأي أحد أن ينسى، أو يغفل، أو يكف عن التضرع إلى الله والتوبة إليه، والأخذ بالأسباب الواقية من عذابه، والمؤدية إلى النجاة من انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهكذا يجب على الناس أمماً وأفراداً. أما من كان حاله غير ذلك، فإنما مثله مثل الذي قال: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم:77] فرد الله عليه: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:78]. ألم نقل في هذه الأيام بصريح الحال أو المقال: إننا في رخاء مستمر، وإن الأمان مستمر، وإن الأموال متنامية، وكل شيء في نمو {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:78] هل اطلعنا على الغيب فوثقنا أن حالنا سيظل كذلك؟! لا والله ولم نطلع عليه، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] وكذلك هل أعطانا الله تبارك وتعالى عهداً وميثاقاً أن يعذب الأمم ويبتليها ولا يبتلينا؟ لا والله، ومن أين لنا ذلك؟! فقد رأينا عِبَرَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورأينا أيام الله التي فعلها بالأمم التي قبلنا، ورأينا ما حدث في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وسمع الناس بذلك. أقول: الأمة في مجموعها علمت بذلك، ثم رأى الناس ما حل بأهل لبنان مع ما كانوا فيه من الرخاء والنعمة، لكن لما طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد صب الله عليهم سوط عذاب، وجعل الفتنة فيما بينهم، وكان الهرج -القتل- حتى أن القاتل لا يدري فيما قَتل ولا المقتول فيما قُتل، ولا يخفى ذلك على أحد. ورأينا ما فعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بـ إيران بعد أن كان عرش الطاووس تخاف منه العروش، وتهتز له الملوك، وكان يريد أن يكون ثالث قوة في العالم، أسقطه الله وأذهبه، وجاءت الحروب، وجاءت الفتن، حتى أصبحوا في أسفل سافلين في كل جانب من جوانب الحياة، وكذلك أمم ودول أخرى من حولنا.

الدعاء مجلبة للخير مدفعة للضر

الدعاء مجلبة للخير مدفعة للضر ثم جاءتنا مصيبة تستوجب أن نرفع أكف الضراعة إلى الله في كل حين أن يرفع هذه المصائب عن الإسلام والمسلمين، وأن يجعل عاقبتها خيراً، ولن تدفع هذه المصائب، ولا ما هو أعظم منها -إذ لا ندري ما يخفي لنا القدر- إلا بضراعةٍ إلى الله، وبإخلاصٍ لله وتوبةٍ وأوبةٍ ورجوعٍ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإن الله عز وجل يريد منا قلوباً مؤمنةً {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم} فيريد الله منا قلوباً مؤمنة خاشعة مخبتة منيبة، وإن كانت العبادة قليلة، لكن هذه الأمور في ذاتها أعظم عبادة. وأساس كل عبادة أن يكون هذا القلب متصلاً بالله، وأن يرى آثار الأمم السابقة فيعتبر بها، وأن يرى آثار نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيحمد الله ويشكره عليها، ويدعو الله أن يديمها عليه. وقد ضرب سبحانه تعالى لنا الأمثلة الكثيرة، وعامة القرآن في قصصه إنما هو من أجل ذلك، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * وكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:42 - 46] فنعوذ بالله من عمى القلوب، ومن قسوتها. ففي مثل هذه المواضع ذكر الله سبحانه تعالى قسوة القلب كما في سورة الأنعام، وعمى القلب كما في سورة الحج، فالقلوب إذا قست، وإذا عميت، لم تعتبر بما ترى، وأما المؤمنون فإنهم يعتبرون ويتعظون، فإذا اعتبروا واتعظوا؛ كان التضرع، والدعاء، والاعتبار، والاتعاظ خيراً لهم، حتى إن تلك المصيبة مهما عظمت تكون خيراً، ويفرح المؤمنون بما نزل في قلوبهم من إيمان، ويعلمون أن تلك المصيبة كانت خيراً، إذ ردتهم إلى الله وأرجعتهم إلى الإيمان به، وذكرتهم بأيامه، فتنقلب المصيبة والضراء والبأساء إلى نعماء وخير وبركة؛ لأنهم تابوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتضرعوا إليه. والدعاء والتضرع سبب عظيم من أسباب الخير، في كل أمر وفي كل وقت، كما يجب علينا أن نعلم أننا لا نستغني عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من دعائه: {يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين} ولهذا قال المفسرون والعلماء: 'إن خير الدعاء وخير الضراعة والتضرع، هو ما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. وقالوا: إن الصحيح في تفسيرها أنه ليس مجرد مزيد الهداية، أو الاستمرار في الهداية، بل الحكمة من تكرارها في كل ركعة، أن الإنسان يحتاج بعد أن هداه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هداية عامة ومجملة، وهي: معرفة الحق والإيمان به، والتمسك بالدين والإيمان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحتاج مع ذلك إلى الإيمان التفصيلي، والمعرفة التفصيلية، فهو في كل يوم وفي كل لحظة تعرض له مشاكل وأمور وأحداث يحتاج أن يهديه الله تبارك وتعالى فيها الصراط المستقيم'. فهو أعظم دعاءٍ، وناسب أن يكن في كل ركعة، وفي أعظم سورة، وأفضل سورة أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولذلك نحن في كل يوم، وفي كل وقت، وفي كل طرفة عين، نحتاج أن ندعوا الله وأن نتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونعلم أنه كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17] فنحن الذين نحتاج إلى أن نتضرع إليه، وأن ندعوه؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تعبَّدَنا بذلك، كما في الحديث -الذي هو حسن بشواهده- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من لا يسأل الله يغضب عليه} وقد نظم هذا بعض الشعراء فقال: الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضب فالله يغضب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إن تركنا سؤاله، ويحب أن نتضرع إليه وندعوه ونرجوه ونطلبه.

أدعية مستجابة

أدعية مستجابة قد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا أمثلة ممن دعوه فاستجاب لهم كما بين الله لنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قصص أنبيائه.

أعظم أنواع الدعاء ما قاله يونس عليه السلام

أعظم أنواع الدعاء ما قاله يونس عليه السلام في قصة يونس عليه السلام لما دعى الله تعالى بدعاء عظيم، وهو في ظلمات البحر وفي بطن الحوت، دعا الله ونادى في الظلمات {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. وهذا من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت) وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة. ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه. ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].

دعاء أيوب عليه السلام

دعاء أيوب عليه السلام وكذلك في دعاء أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فما ألطف هذا الدعاء، وما أرقه، وما أخشعه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع أن الجمل قليلة!! ولكن القلوب إذا دعت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن صدق، وإخلاص، وإن قلت العبارات، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستجيب لأولئك: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84] وهكذا غيرهم.

يجيب المضطر ولو كافرا

يجيب المضطر ولو كافراً وقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يغيث الكفار إذا تضرعوا إليه، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله كما في كتاب الفوائد: 'التوحيد مفزع أوليائه، ومفزع أعدائه' أي: التوحيد يلجأ إليه أولياؤه، ويفزعون إليه، وكذلك يلجأ إليه أعداء الله، فهو حصن منيع ومعتصم النجاة.

رحمة الله بالكفار

رحمة الله بالكفار كما أن الذين يوحدون الله ويدعونه، يتوسلون إليه بالتوحيد لينجيهم، فكذلك المشركون إذا ركبوا في الفلك، وجاءهم الموج من كل مكان، وأحاطت بهم الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين، ولهذا يقول عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] هل أحد غيره؟ هل إله غير الله يفعل ذلك؟ لا والله.

التوبة إلى الله من الذنوب

التوبة إلى الله من الذنوب وإنه لجدير بكل مؤمن مع هذه الأحداث والفتن والمحن والبلايا، أن يراجع نفسه مع كتاب الله، وأن ينظر فيما ابتلى الله تبارك وتعالى به الأمم من قبل، والشعوب من حولنا، وأن نعلم جميعاً أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفزع من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا إليه، فلنكن صادقين في قولنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ولنكن صادقين في توكلنا على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في اعتصامنا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في دعوى أننا نسير على عقيدة السلف، وعلى منهج السلف الصالح، وأننا متمسكون بعقيدة الحق وشريعة الحق، ولنصدق الله؛ يصدقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنتب إلى الله ولنجعل ما جاء أو استشرف أو استجد من الفتن سبباً لأن نكف عما حرم الله، وأن نتوب عما أجرمنا، وعما أسلفنا دولاً وأفراداً وجماعات، فهذا واجبنا جميعاً أن نعلم أن هذه المصائب والفتن والمحن، نذير من الله تعالى، فإن تبنا واستغفرنا وأصلحنا، دفعه الله تبارك وتعالى عنا بما يشاء. وإن اعتمدنا على الأسباب المادية، وركنا إلى خلق من خلق الله مثلنا، بل ربما كانوا أقل منا، فلربما سلط علينا من غير أهل ملتنا، وهم غير أهل لأن ينصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولكنه يبتلي البعض بالبعض ويولي بعض الظالمين بعضاً بذنوبهم جميعاً، فيقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]. فنقول: إذا اعتمدنا على هؤلاء الكفار، واعتمدنا على نصرتهم ومعونتهم، ولم نوثق الصلة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونتوكل عليه وحده، ونعتمد عليه وحده، فإن العاقبة ستكون وخيمة، ونكون كمن أراد أن يفر من عقوبة الذنب، فوقع في ذنب أكبر وأعظم -نسأل الله العفو والعافية- فالأمة قد تحتاج، وقد تضطر إلى أي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب، وهو من الدين، وهو من التوكل ولا ينافيه، لكن فرق بين أن نأخذ بالأسباب، ونحن على إيمان ويقين وإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى توبة صادقة مع الله، وبين أن نركن إلى الأسباب، ونغفل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونعلق آمالنا بهذه الأسباب، نسأل الله العفو والعافية. وإن هذه الأحداث ليس فيها جديد بالنسبة إلى سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكلها تجري وفق سنن دائمة، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولكننا نغفل، ولا ننظر إلى مرادها، ولا نتأمل كتاب الله، ثم ننظر إلى واقعنا، فلا ندري أيكون الابتلاء بهذا أو بذاك، لمن نراه صديقاً أو نحسبه عدواً، فيجب أن نتوقع الابتلاء والعذاب والمصيبة، ما دمنا في هذه الذنوب والمعاصي، التي لا أرى حاجة لأن أعددها وأذكرها فهي ملء السمع والبصر ولا تخفى على أحد منا، فذنوبنا هي السبب، فما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، كما أن أسباب النجاة بين أيدينا، وأن رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين -ولله الحمد- غير غائبة عنا، ولكن علينا أن نأخذ بهذه الأسباب، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

معنى التضرع إلى الله وأسبابه

معنى التضرع إلى الله وأسبابه Q ما هي أسباب التضرع إلى الله؟ A ذكرنا أن الإنسان في كل وقت محتاج إلى أن يدعو الله، وأن يتضرع إليه، ولعلنا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي للتضرع لأفادنا في معرفة المعنى الشرعي، فالتضرع: كلمة اشتقت من الضَرع، والضَرع معروف لذوات الخف من الحيوان، كالإبل والبقر التي يكون فيها ضَرع. والتضرع أن يأتي صغير هذه الحيوان فيرتضع ويلتقم هذا الثدي، فتراه عند ارتضاعه يلح ويرتفع ويحاول بكل قوته أن يجذب هذا اللبن الذي لا يمكن أن يعيش إلا به، نعمة من الله وفضلاً، ففي هذه الصورة البيانية مثل هذا الضرع، من جهة أن أصل خروج المولود هو من هذه الأم، كما أن أصل نموه -بإذن الله تعالى- ناشئ عن هذه الأم، ثم هو لهذا لا يمكن أن يستغني عنها، فلو قطع عنه اللبن لما أمكن أن يعيش أبداً بهذا الشكل. وكذلك أيضاً أصل الإنسان وجوده، هو من رحمة الله وفضله، ثم هو لذلك يحتاج أن يرفع يديه وأن يتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويلح في الدعاء، ويجتهد بحرص على ما يقيم حياته ويدفع عنه الشر والسوء، كما يجتهد ويلح ويحرص ذلك الحيوان عندما يرتضع من الثدي أو الضرع، ففي كل وقت وفي كل لحظة، نحن لا نستغني عن الله، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بقوله: {ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين}. فانظر إلى هؤلاء الكفار الذين وكلهم الله إلى أنفسهم -قديماً وحديثاً- واستدرجهم بالنعم فظنوا أنهم أقوى ما يكونون، فعندها يخذلهم الله عز وجل، فيفقدون قواهم ويكونون أحوج ما يكونون إليه، فيسقطون وإذا بهم لا شيء، وتذهب كل قوة إلا من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحفظه بقوته، فأسباب التضرع كامنة في كل حركة من حركاتك، فأنت في كل يوم تحتاج إلى أن يرفع الله عنك البلاء، وأن يرزقك وأن يعطيك الصحة والعافية، وأن يوفقك لطاعته، فعليك أن تتمسك بدينه وألا تستغني عنه لحظة، ولذا فأسباب التضرع والدعاء قائمة.

الصدقة من أسباب رفع البلايا

الصدقة من أسباب رفع البلايا Q نلاحظ في هذه الأيام قلة التصدق على الفقراء، ولم تعد هناك أموال تذهب إلى المسلمين في إفريقيا وأفغانستان وغيرها، فهلاَّ ذكَّرتم الناس بالتصدق؟ A إن من أعظم ما يدفع الله تعالى به العذاب الصدقة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتقوا النار ولو بشق تمرة} وهي من أفضل الأعمال، فإنها تطفئ الخطايا، ويدفع الله تعالى بها البلايا، ولا شك أننا في بلد أنعم الله علينا فيه بنعم عظيمة، ولو تذكرنا حال الأمم والشعوب الأخرى لعجبنا، فنحن هنا لا نتضرع، وقليل من الناس من يتضرع إلى الله كل يوم أن يطعمه الله أو يسقيه، فنحن لا نسأل الله ذلك؛ لأن الطعام والشراب والأكل متوفر عندنا، وقد يوهمنا الشيطان أننا لا نحتاج إلى الله -تعالى الله عن ذلك- فلوفرته فهو مثل الهواء مع أنه حتى الهواء نحتاج أن ندعو الله أن يحفظه لنا، وفي كل شيء نحتاج أن ندعو الله. ولنضرب لكم مثلاً مما نعيشه، فنحن لا يهمنا مسألة الطعام والشراب، وإنما أكثر الناس همومهم في العمارات وفي غيرها، وفي أرزاقهم ووظائفهم وفي زيادة مالٍ في كذا وكذا، وأكثر من نصف الشعوب في العالم -كما في تقارير الأمم المتحدة- تعاني من سوء التغذية، فهي تحتاج أن تأكل أكلاً سليماً، وتحتاج أن تشرب ولكنها لا تجد!! فانظروا كيف هذا الحال الذي نعيش فيه، وكيف تعيش تلك الشعوب والأمم، الواحد منا لو سافر إلى تلك البلاد ومعه الأموال -والحمد لله- قد لا يجد أكلاً نظيفاً يأكله، وقد لا يجد ما يريد من الفاكهة وإن وجد فقد يجد نوعاً رديئاً في حالة يرثى لها، بينما هنا الفاكهة تداس وترمى، وتورد بملايين الأطنان، فنحن نعيش في بحبوحة ورخاء وسراء، ثم نغفل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وانتقامه وسريع غضبه، ولا نفطن لأحوال إخواننا المسلمين الذين يحتاجون إلى ذلك. فأقول: يجب مضاعفة النقود في التصدق لمنفعتها، بل لمنافعها العظمى التي منها أن يدفع الله تبارك وتعالى عنا العذاب ويرفعه.

اختلاف العقائد سبب في اختلاف الحكومات والشعوب

اختلاف العقائد سبب في اختلاف الحكومات والشعوب Q ما سبب اختلاف الدول العربية فيما يتعلق بقضية العراق؟ وهل ينطلق هذا الاختلاف من منطلق سياسي, أم من منطلق عقدي؟ A الدول التي لم تصوت مع الإجماع الذي وقع في جامعة الدول العربية, أو الدول التي رفضت القرارات هي الدول البعثية, أو الدول التي للبعث فيها وجود قوي, أو تتأثر بآراء البعث من قريب أو بعيد. إذاً القضية قضية عقيدة, ونحن في هذه الأيام وبناء على هذه الوقائع بدأنا نتكلم عن هذا الحزب ونتعرف على الحكم الشرعي له، إننا إنما نتكلم عن جناح من أجنحته, أو عن زعيم من زعمائه, فيما الزعماء الآخرون وهم بعثيون مثله فإننا لا نتكلم عنهم. مشكلتنا أننا كما عبر ذلك اليهودي الخبيث بقوله: إن العرب لا يقرءون, وأخشى أننا نقول: لا؛ نحن نقرأ, ولكن ماذا نقرأ؟ كثير من الناس يقرءون ولكن لا يقرءون ما يهم الأمة وما يجب أن يعلموا, ووسائل إعلامنا تزيد الطين بلة, فهي لا تعرض علينا شيئاً مما يمكن أن نعرف به هذه الأحزاب الفاجرة. إلى ما قبل هذه الأحداث كان بعض الإخوة يذهلون إذا ذهبوا للعراق , ويقول بعض الإخوان الذين يذهبون إلى العراق في رحلة علمية: ما كنت أصدق ما يقال عن العراق حتى رأيت واقع الحال!! إذ أنني كنت لا أستطيع أن أصلي, ولا أجد الكتب الإسلامية النافعة, وأجد عوضاً عن ذلك الشعارات الملحدة المعلقة في كل مكان! والتعظيم لهؤلاء الطواغيت في كل مكان! وأجد مظاهر الانحراف والانحلال والتفسخ!! أمور عجيبة؛ لأنه كان يظن أن حال المجتمع العراقي كمجتمعنا؛ لأن العراق غير بعيدة عنا, فيفاجأ الذي يذهب إلى هناك -وهم غالباً من الطبقة المثقفة- بواقع الحال, لماذا؟! لأن الإعلام قد جعل هذه الحقائق غائبة عنا, لم يعرفنا بأعدائنا, إعلام المسلسلات والأغاني والمقابلات والتراث الشعبي والعرضات إلخ, ونشرات أخبار عادية جداً لا تسمن ولا تغني من جوع. هذا ليس هو الإعلام الذي يجب أن يكون في أمة تعاني من أعداء يحيطون بها من كل جهة. أمة تحارب من أجل عقيدتها, ويتكالب عليها الشرق والغرب من كل مكان, يجب عليها أن تعرف عقيدتها أولاً, ثم تعرف هذه العقائد الباطلة وتعرف أصحابها. ثم فوجئ -كما ذكر بعض الإخوة- بأنه يوجد فروع أو أعضاء من حزب البعث في السعودية , نعم؛ أعندنا عهد من الله ألا يكون فينا شيوعي؟! أعندنا عهد من الله ألا يكون فينا بعثي؟! من أين لنا ذلك ونحن في خواء عقدي كما ترون؟! بعضكم قد سمع ولا شك -ممن يتابع الدروس عندنا- كيف أن بعض الأساتذة في بعض الجامعات يقولون كلاماً في منتهى الإلحاد, وهم يدرسون عندنا, ومن أبناء جلدتنا, ويتكلمون بلغتنا, منهم البعثي, ومنهم الشيوعي, ومنهم العلماني الذي ينهج الطريقة الأمريكية, ومنهم الديمقراطي ومنهم ومنهم فكيف يكون حال أبنائنا حينما يصل الواحد منهم إلى الثانوية وهو خواء, ليس لديه من الإيمان شيء, فكيف لا يكون هذا الانفتاح على العالم كما يسمونه ويطالبون به, وإن آخر ما طالب به هؤلاء قناة ثقافية تختص بنقل الموروثات الثقافية الغربية؛ وذلك لتكون وسلة مباشرة لإيصال الثقافية العالمية إلينا, سبحان الله! حتى هذا الذي يبحث عن الانفتاح الثقافي, فنسأله قائلين: ما الذي سوف يأتينا من ثقافة الغرب أو الشرق؟! كيف تتحصن كل دولة من دول العالم بالمحافظة على لغتها وعلى تقاليدها وعلى عاداتها, حتى على مستوى دول صغيرة مثل: هولندا , والدنمارك وغيرها, هذه الدول لها لغات محلية لا يتكلم بها إلا أهلها, وهم يجاورون فرنسا من جهة, ويجاورون إنجلترا من جهة, وهاتان الدولتان من أعظم دول العالم, وأوسع اللغات انتشاراً في العالم الإنجليزية والفرنسية, وهي أوروبية ونصرانية وتتفق مع أولئك في سياستها وفي أمورها كلها, وسوف تتوحد معهم أيضاً وتكون دولة واحدة ومع ذلك يحرصون ألا تتسلل إليهم الأفلام الإنجليزية أو الفرنسية, أو أن تؤثر فيهم الثقافة الفرنسية والإنجليزية ليحتفظوا بلغتهم وآدابهم وتاريخهم وهم عدد محدود جداً, فيا سبحان الله! هذا حالهم وهم على دين واحد! أما نحن فالأبواب مشرعة لكل لغة, ولكل ثقافة, ولكل من هب ودب, وقل أن تجد في صحفنا اليومية صفحة من صفحات الأدب أو الفكر إلا وهي تترجم لشعراء أو لأدباء أو مفكرين على شتى المبادئ, ومن مختلف البلدان!! ثم بعد ذلك نستغرب أن يوجد بيننا بعثيون, بل إنهم موجودون, والحزب قديم, وأنا أحيلكم إلى كتب الشيخ أحمد محمد باشميل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم له بالخاتمة الطيبة, كان يطالع ويجول وحده في الميدان, ولم يكن معه إلا الله سبحانه وتعالى, وله كتب جلها تتكلم عن البعثيين المجرمين, ويذكر عن بعضهم أنهم كانوا يبثون فكرهم هنا, وكانت لهم بعض الصحف تصدر في المملكة , فنقول: نعم لهم وجود, وكان لهم بعض المدارس المشهورة في الرياض , وأذكر عندما كنا في الرياض وأنا في الإبتدائية كنا نعلم أن إحدى الثانويات في الرياض بعثية التوجه والعقيدة, وكانوا يحاولون أن يخرجوا منها مظاهرات, بل قد أخرجت مظاهرات في فترة ما في شركة أرامكو في الظهران , وأنا أذكر تلك الأيام أيضاً في المنطقة الشرقية. ثم فيما بعد قرأت عنها بشكل أوسع, فكانت هذه الأحزاب موجودة في هذه البلاد, ومن أهم هذه الأحزاب: البعثية والناصرية , وكلهم يدعون القومية العربية وما الحداثة عنكم ببعيد, كل فكر يمكن أن ينشأ إذا غابت العقيدة الصحيحة, والإيمان الصحيح, والتمسك الصادق بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا نستغرب وجودها والله المستعان!!

دور الشباب المسلم في الأزمات

دور الشباب المسلم في الأزمات Q ما هو دور الشباب المسلم في هذه الأحداث، وماذا يفعل؟ A أولاً: يجب أن نعلم ما هو أصل الداء، إن كل داء يصيبنا فهو بسبب ذنوبنا وتقصيرنا في حق الله، فيجب أن نعلم ذلك وأن نرشد الأمة إليه، وأن نعرف حقيقة أعدائنا على الواقع ولا نكتفي بإخبارنا عنهم من مجرد كلام عام في وسائل الإعلام وغيرها، بل نعرف معرفة تفصيلية بحسب الإمكان ماذا يريدون؟ ولماذا جاءوا؟ فحقيقة الأمر أننا لوكنا ندرس ونقرأ ما ينشر، لكنا قد أخذنا الحيطة والحذر، ولكنا نعلم أن ما وقع سيقع، أو قريباً منه، ولعلنا في درس قادم نأتي ببعض البراهين أو البينات على ذلك -إن شاء الله- فيجب أن يكون عندنا قراءة واطلاع واسع على الواقع بحقيقته، وواقع هذه الأحزاب الكافرة، وواقع الدول المجرمة -أيضاً- في الشرق والغرب، وماذا تريد لنا؟ وماذا يفعل الكفار؛ وماذا يخططون لتحقيقه في بلادنا؟ لنكون على بصيرة من ذلك وأن نبين الحق للناس، ولا تأخذنا في الله لومة لائم، بل نقول ونوضح ذلك للكل. ومشكلة المسلمين اليوم أن الخطيب يوم الجمعة إذا خطب، أو الواعظ إذا وعظ، أوالمحاضر إذا حاضر، أو المذكِّر إذا ذكر، وتكلم عن الذنوب والمعاصي، أن كل إنسان يظن أن غيره هو المعني بهذا الخطاب، وهذه مشكلة!! فإذا قيل: المجرمون الظالمون المفسدون المقصرون في طاعة الله، فأكثر الناس يتصور أن المقصود غيره، والحقيقة أن المفروض أن كل إنسان منا عندما يقرأ كتاب الله أو يسمع الواعظ أو المذكَّر، أن يقول: إني أنا المخاطب بهذا، وأول ما يتأمل ويتفحص ذنوبه وعيوبه، وأن يعرض نفسه وأعماله على كتاب الله وعلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو بدأ كل إنسان بذلك ثم ثنىّ بمن يستطيع من إخوانه وأقربائه، لوجدنا الخير ينتشر بإذن الله، أما أن نجعل المسئولية كما يجعله بعض الناس، على أناس معينين، فناس يقولون: على الحكام، وناس يقولون: على العلماء، وناس يقولون: على هؤلاء المجرمين، ففعلاً إن المجرمين في هذه البلاد كثير، ولكن لماذا لا تنظر لنفسك؟! فلربما كنت أنت -أيضاً- فيك تقصير، ولربما يكون بالنسبة إلى ما تعلمه أنت عن الله، وما تعرفه من دين الله وما ترتكبه من ذنوب هو مثل ما يرتكبونه هم، لأنهم بعيدون عن الله، ولا يعلمون عن الله، ولا يعلمون من أمر الله مثل ما تعلم، فلماذا لا يكون ذلك؟ أقول: فهذا مما يجب أن نحاسب أنفسنا عليه، وأن نقول كلمة الحق، وأن نبين ذلك للناس، أعني أن على كل واحد منا أن يجعل الأمر متعلق بنفسه، فإذا أصلحنا أنفسنا؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيدفع عنا هذا البلاء بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالواجب كبير وهذه الأحداث هي التي تربي الشباب المسلم الحق، وهي التي تظهر الرجال، لأنه لا يقف لمثل هذه المواقف، ويقول كلمة الحق، ويعرف كيف يقولها، وأين يقولها، إلا الرجل الحق -فالحمد لله- أن الشباب المسلم كثير، وأرجو أن يكونوا -إن شاء الله- جميعاً رجالاً صادقين مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعرفوا الحق، ويعرفوا كيف يبلغونه للناس، ويقولونه ولا يخشون في الله لومة لائم.

التوجه الديني عند النصارى في الأزمات

التوجه الديني عند النصارى في الأزمات Q يقول الأخ: الرجاء التعليق على ما يلي: جاء في التلفزيون الأمريكي في الأسبوع الأول من الأزمة أن بوش ذهب إلى الكنيسة للدعاء في هذه الأزمة، وورد توجيه من كبار رهبان وقسيسي الكنيسة إلى عامة الناس أن يتجهوا ويدعوا في الكنيسة، وهذا الأخ يقول: إنه شاهد بعينه ذلك، ويقول: وكذلك رأيت هنا في الأخبار أن تتشر كانت في الكنيسة ثم عمل لها لقاء صحفي وقالت بشدة: إن صدام ديكتاتور يجب أن نتخلص منه؟ A لا غرابة في ذلك، فكما ذكرنا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يستغني أحد عنه، وكل من يريد أن يحقق أملاً أو مأرباً فإنه من الطبيعي أن يلجأ ويتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى أيام الحرب العالمية الثانية، كان يُضطر الانجليز وحلفاؤهم من الأمريكان عندما خافوا من هتلر خوفاً شديداً إلى أن يقيموا القداسات -كما يسمونها- على ظهر البوارج -السفن- مع أنهم أصلاً لا يتعبدون ولا يدعون إلا في الكنائس. وأما نحن فبفضل الله تعالى علينا خصَّ به نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله صلى الله عليه وسلم: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} أما هم فلا يصلون إلا في كنائسهم، ومع ذلك قالوا: نصلي على ظهور البوارج والبواخر ونتضرع وندعوا الله، حتى يكشف عنا عذاب هتلر، ففي هذه الأزمة -أيضاًَ- وقع منهم ذلك ولا يستغرب، بل الغريب الذي يجب منا أن نستغربه حقاً أننا نحن لم نتب ولم نتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهم غاية ما عندهم من الدين كما يزعمون أن المسيح عليه السلام قال: 'دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله' فهم يرون أن ما لله هذا هو الدعاء أو العبادة أو الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، والباقي لقيصر، فيظنون أن هذا هو الدين. أما نحن فنعلم أننا عبيد لله في كل وقت، وفي كل مكان، ولن ننتصر إلا بعبوديتنا لله، ولن نوفق إلا بعبوديتنا لله، ولن نستديم النعم إلا بالعبودية لله، والمساجد مفتوحة في آناء الليل والنهار، ومع ذلك انظروا كم من الناس -حتى لا ننفي نفياً عاماً- من لجأوا إلى المساجد وبدأوا يصلون صلاة الجماعة بعد هذه الأحداث، بعد ألم يكونوا يصلوا من قبل؟! كم من متبرجة كانت تتبرج في الأسواق، فلما جاءت الفتنة تركت التبرج وتابت وبدأت تصلي وتتحجب؟! كم من آكل للربا كان يأكله فلما جاءت هذه الفتنة تاب وأقلع عن أكله؟! كم ما أظن أن ذلك كثير والله أعلم، بل إن وجد فهو قليل، ولو كان كثيراً لدفع الله عنا العذاب، لكن هذه الأمة -إن شاء الله- آخذة في طريق النجاة. أما الواقع فهو كما ترون: الغفلة هي الغفلة، والتقصير هو التقصير، والمعاصي هي المعاصي، فهذا الغريب فينا نحن، أما هم فلا يذهبون إلى الكنيسة ولا يدعون الله إلا في مثل هذه الحالة، والله تعالى ذكر أن الكفار يدعونه في حال الشدة.

من لوازم التضرع الابتعاد عن المعاصي

من لوازم التضرع الابتعاد عن المعاصي Q هل ينفعنا التضرع الآن ولا تزال المنكرات بيننا لم تتغير؟ A هذا من ذاك، نريد أن نغير المنكر لا أن ندعوا الله ونُصِر على المنكر، لكن التضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستلزم الإقلاع عما نحن فيه من المنكر، ولا شك أن من يدعو الله صادقاً بقلب خالص، ويبتعد ويتجنب معاصي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يقرب منها أن الله يستجيب له؛ لأن التضرع إلى الله لا يقصد به مجرد الدعاء فقط، بل يقصد به -أيضاً- الإقلاع عن الذنوب وترك المعاصي. يجب أن نصلي الصلوات الخمس جماعة حيث ينادى بهن، وأن نتلافى التقصير، ونقبل على قراءة كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن ننكر المنكرات، بل يجب أن نحيي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيننا، في مجتمعاتنا وفي أسواقنا وفي مجالسنا وفي كل مكان.

من التضرع القنوت في الصلاة

من التضرع القنوت في الصلاة Q هل يكون التضرع أيضاً في القنوت في الصلوات كما قنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ A نعم، القنوت من التضرع، ولا بأس به -إن شاء الله- فإذا لم يُفعل جماعةً فنستطيع أن نفعله فرادى، والدعاء فرادى وفي جوف الليل والإنسان خال بربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أرجى أنواع الدعاء، وكل منا يدرك ذلك -ولله الحمد- فافعلوه، وهل يضيرنا في شيء؟! بل هو والله خير لنا في الدنيا والآخرة، فهذا الدعاء خير لنا في معادنا وفي مآلنا بل نحتاجه، ونؤجر عليه، ونثاب عليه، كما في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن نُعطى ما دعونا أو نعطى من الخير مثله أو يُصرف عنا من الشر مثله، فالدعاء كله خير، وكله بركة، فإذا دعونا الله فلنستحي بطبيعة الحال أن نعصيه، بل يجب أن يجدنا حيث أمرنا، وأن لا يجدنا حيث نهانا، والله المستعان.

كيفية إنكار المنكر

كيفية إنكار المنكر Q يواجه كثير من الدعاة حرج شديد عند رؤية المنكر التي تكون المرأة طرفاً فيه، كأن يرى امرأة متبرجة وهناك من يسير خلفها من أهل السوء إلى آخر المشاهد السيئة، فكيف يكون إنكار هذه المنكرات بالطريقة الصحيحة؟ A مع أننا نقول بضرورة المبادرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه من أعظم أسباب الوقاية من العذاب، فإن ذلك لا يعني أن نتسرع في أي منكر فننكر بأي إنكار وبأي وسيلة، لكن كل شيء لابد أن نأخذ له أسبابه وطريقه الصحيح، ونعالجه بالحكمة، فالحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، ومن ذلك أن نفكر في أسباب صادقة وجادة وبعيدة المدى في إنكار هذه المنكرات، فليس بالضرورة أن تستثار أعصاب الشاب أو حمية الغيرة لهذه المرأة بالذات، لكن يمكن أن نفكر كيف نقضي على هذا المنكر من مصابَّه ومنابعه. فأمامنا منكر عظيم جداً يجب أن نتنبه له، ألا وهو: التبرج والتعري الذي في أسواقنا مع قلة عدد الكفار الموجودين بالنسبة إلى مجموع السكان الآن، وسيكثر لمجيء هؤلاء مما قد يسهل لهم المجيء إلى بلادنا أكثر، فأقول: ستنفتح أبوابٌ للمنكرات أكثر، فلتكن نظرتنا أبعد من مجرد أن ننكر على هذه المرأة في السوق، وإنما نفكر كيف يمكن أن نغير هذا المنكر من أساسه، ولا سيما الإخوة الدعاة الذين لديهم الفكر وبُعد النظر، ولا يقصد بذلك أننا لا ننكر على أي امرأة بمفردها، فلنجتهد في ذلك، وعلى أية حال لا بد أن أتوقع الأذى {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17]. ولا بد من الصبر؛ لأن الصبر مقرون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا بد أن نؤذى، فليس من الشرط أننا لا نخطئ فقد نخطئ وقد نؤذى ونحن لم نخطئ، فلابد من أن نؤذى في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولنتحملْ ذلك، وإذا قمنا به ونحن كثير -والحمد لله- فإن هذا سيدفع الشر -إن شاء الله- وسيقلل من المنكر، ولو لم يكن فيه إلا الإعذار إلى الله لكان ذلك أمراً عظيماً وخيراً كثيراً.

آثار أحداث الخليج على الصحوة

آثار أحداث الخليج على الصحوة Q ما أثر هذه الأحداث في الخليج على مسيرة الصحوة الإسلامية؟ وهل هناك من إيجابيات نأخذها من هذه الأحداث؟ A أعداء الإسلام لا شك أنهم يريدون أن يقضوا على هذه الصحوة، وأن يذلوها ويستفردوا بها عن الأمة، ولذلك فلنتوقع ضعفاً ولو مؤقتاً، لمسيرة الشباب للإرباك الحاصل بين الشباب، والخلاف والحيرة الدائرة بينهم في التعامل مع هذه الأحداث، فكل ذلك مما يعيق مسيرة الصحوة، وقد يكون الأمر أكبر من ذلك أيضاً وقد يؤذى بعض الدعاة عموماً على مستوى الأمة، نسأل الله لنا ولهم العفو العافية. وأما الإيجابيات، فأنا أرى أنها أكبر وأعظم من السلبيات، بشرط أن يعرف الدعاة موقعهم في الأمة، وأن يتقوا الله ويقوموا بالواجب الذي أمرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، وأن لا يتخلوا عن واجبهم ومسئوليتهم، وعن ما يجب عليهم ويكلوه إلى غيرهم، فإذا أحسنا التعامل مع الأحداث والاستفادة منها فأنا آمل خيراً كثيراً فيها، لأنه ما من حدث وقع في الأمة الإسلامية من قديم، إلا وكان فيه خيراً لها والحمد لله. وإليكم على ذلك مثالاً: لمَّا جاء التتار كان فيه خيراً، فـ شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، ومن كان معه من أهل الخير والعلماء وأهل السنة جميعاً، لم تظهر قيمتهم وفضلهم والتفاف الناس حولهم، إلا لما جاءت فتنة التتار، وجاهدوا في الله حق جهاده، فقد كان لهم خير وفضل، ولكن أقول: إن ذلك مما أظهرهم الله تعالى به. ومثال آخر: نور الدين وصلاح الدين -رحمهم الله- وأمثالهم، ما ظهروا في هذه الأمة إلا لما اشتدت الأزمات، فظهر أولئك الرجال الذين توكلوا على الله، وجاهدوا في سبيل الله ونصرهم الله، ونحن نتوقع أنه كلما اشتد الظلام فالفجر قريب، والآن نحن على الأقل في بداية الظلام الحالك، ولا يعلم مصيره إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكن نقول: إنه بإذنه تعالى سوف ينبثق من هذه الأمة شباب يؤمن بالله، ويجاهد في سبيل الله، ويعيد الحق إلى نصابه، ويكون لهم النصر على الكفار، مهما تألبوا وتكالبوا بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا لا شك لدينا، وهو مصداق ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما وعد الله تعالى به الطائفة المنصورة.

الاهتمام بأحداث الخليج لا يمنع من الاهتمام بكل الأحداث

الاهتمام بأحداث الخليج لا يمنع من الاهتمام بكل الأحداث Q نلاحظ أن هم الناس ينصب على قضية العراق والكويت، ونسوا قضية أفغانستان وفلسطين بعد ما كانت همهم الأكبر؟ A نحن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فلا ينبغي أن تشغلنا قضية عن قضية، وإن كان بعضها أهم من بعض بلاريب، ولكن لضعفنا وتفرقنا وقلتنا، والقلة لا نعني بها الغثاء، فالغثاء كثير، لكن قلة من لديه البصيرة، كان هذا سبباً من أسباب أن الأمة تشتغل فتُلهى بقضية عن قضية، ولذلك أصبحت كالكرة يتراماها الأعداء، وكل ما انصرفوا إلى قضية شغلوهم بقضية أخرى، فلا شك أن ما نراه في الكويت أمر كبير وخاصة لأنه قريب منا، وأن تعطُّلَ الدعوة في الكويت، وتعطل منابع للخير فيها يؤثر على الدعوة في عامة العالم الإسلامي، ولا شك في ذلك، وهي جديرة أن يهتم بها، لكن لا يعني ذلك أن ننسى القضايا الأخرى. وانظروا إلى أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هؤلاء الذين لا تلهيهم قضية عن قضية؛ لأن لديهم التخصصات والاستشارات والدراسات الوافية عن كل مشكلة، وكل موضوع، وانظروا إلى الحرب النفسية التي يجعلوننا نعيش فيها، فرئيس الدولة في إجازة ونائبه في إجازة ووزير الدفاع في إجازة. شيء عجيب جداً!! لماذا مع هذه الأحداث؟ وخاصة أن عندهم في الداخل مشاكل وعندهم في أماكن كثيرة أمور لم تحسم ولم تحل ومع ذلك فإنهم بهذا الحال، لأنهم حقيقة أخذوا بسنة الله في التخطيط والدراسة والشورى، ولذلك لا تأتيهم الأمور صدفة، ولا تأتيهم قضية تشغلهم عن القضايا الأخرى. الجوانب الاقتصادية لها حسابها، والجوانب العسكرية لها حسابها، والجوانب السياسية لها حسابها، والمواطنون في إرتيريا لا ينسون ولا يغفل عنهم من أجل المواطنين في العراق، ووحدة ألمانيا والوحدة الأوروبية، ومشاكل كثيرة تُدرس وكلها على مستوى واحد وتنال حظاً من الاهتمام، وإن كانت لا ينالهم من الإعلام لأنه يستأثر بآخر القضايا. لكننا مع الأسف إذا جاءتنا قضية شغلتنا عن الأخرى. وخير مثال -والأمثلة توضح ذلك- ما ذكره مالك بن نبي رحمه الله عندما ذكر أن حال هذه الأمة، مثل مصارعة الثيران، فالأمة فيها قوة ومقاومة، فالغرب جعلها كالثور الذي يصارع تلك القطعة الحمراء من القماش، فيتلاعب به كما يشاء، وينهك جهده ويذهب قوته دون أن يثمر شيئاً، فيطعنه في الأخير ويخر صريعاً ويموت، وهكذا يفعلون، يرون أننا نستنكر وأن مشاعرنا تثور وعواطفنا تستنفذ فيجعلون أمامنا قضية تستهلك كل قوانا. وإذا جاء أحد يذكرنا بغيرها لا يُنظر إليه مطلقاً مع أنه لا ينسينا إياها. تذكرون أيام الجهاد الأفغاني كان بعض الإخوة، وبعض الدعاة يقولون: لا تنظروا فقط إلى أفغانستان فالقضايا كبيرة والأخطار محدقة والمصائب من كل جهة، اهتموا ببناء قاعدة للإسلام في هذا البلد، وهو الأساس وهذا هو المنطلق، وما كان يُسمع إليه، وربما يتهم بأن هذا تثبيط أو تخذيل، فلما وقعت الواقعة هنا وإذا به يقال: كل الذي هناك يأتون إلى هنا، وننسى أولئك، فلا هذا ولا هذا. يجب أن تكون مواقفنا دائماً متزنة ومحسوبة ومدروسة -والحمد لله- فالمال وفير فنستطيع أن نعطي هنا وهناك، والإعانات والإغاثة كذلك، والطاقات -والحمد لله- لو وجهت ونظمت ورتبت فهي كثيرة، وأقول بهذه المناسبة: جزيرة العرب كانت معروفة بقلة سكانها وقلة مواردها سابقاً، أما الآن فعلى العكس فالموارد بها من أغنى بلاد العالم. لكن من ناحية العددية والطاقات الذهنية، هي هي في جميع القرون، هي التي أخرجت الصحابة الذين فتحوا فارس والروم، وهي التي قاومت الصليبين، فما هناك نقص في العدد بل هناك زيادة في المال، والعدد هو هو، فلو وجهت الطاقات والجهود في هذه الأمة في داخل الجزيرة، بل لا نقول في جزيرة العرب كلها، بل فقط المملكة، وأصبحت مسخرة لوجه الله في الإعلام والجيش وفي كل القطاعات من الرجال المؤمنين، توبة صادقة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واستقامة صادقة على أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والكف عن كل ما حرم الله، وتوعية مستديمة وشاملة في العقيدة الصحيحة، وفي الإيمان الصحيح، وعن أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لغَيَّرنا والله العالم كله، وهزمنا العالم كله بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فليست هي قضية عجز؛ لأن فينا من الطاقات -ولله الحمد والفضل والمنة- معدن الخير ولا ينضب في جميع العصور، ولا نعدم الخير في هذه البلاد. أما الغفلة التي أكثر الناس غارقون فيها، فهي العائق أمام استغلال هذه الطاقات الهائلة لهذه الأمة، ومع ذلك توجهت بعض طاقات من شباب هذه الأمة إلى بعض المجالات، فتفوقت على أهل تلك البلاد في عدة مجالات، في الاكتشاف والبحث العلمي، وكذلك لما توجهت إلى بعض المجالات الجهادية فعلت ما لم تفعله أي بلاد أخرى، ولما توجهت إلى مجالات علمية أنتجت ما لم تنتجه أي بلاد أخرى، فهذه من رحمة الله ونعمته وفضله على هذه البلاد، ولكن نحن نتغافل عن هذه النعمة بالركون إلى الشهوات وملذات الدنيا، مما أورث لدينا الوهن {حب الدنيا وكراهية الموت} كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الفتنة في الفن لا التطرف

الفتنة في الفن لا التطرف Q في جريدة الشرق الأوسط في عدد يوم السبت الماضي ذُكر موضوع وخبر صغير ما معناه أنه قام كثير من الفنانين في مصر بـ القاهرة بعمل فيلم يتكلم عن الأزمة وعن السبب التي قامت من أجله هذه الأزمة وهو التطرف؟ A سبحان الله! بدلاً من التضرع، أو من الكلام على التضرع، كان الكلام عن التطرف!! لكي يزيدوننا خسارة ووبالاً، ولا شك أن الأعداء يستغلون مثل هذه الأشياء، ويقولون: من أسباب المشاكل هو: التطرف، ومن عجيب ما بلغني أنه لما طُلب من بعض المستشارين أو بعض الناس، أن يكتب عن كثرة انتشار جرائم قطع الطريق، جعل من ضمن الأسباب التطرف الديني، فسبحان الله! فهم أعداء هذا الدين، وأعداء للدعوة، ويريدون أن ينتهزوا أي فرصة لإدخال هذا الشيء الذي يرون أن الناس يستنكرونه ويستفظعونه بحيث إنهم يضعون هذا العدو اللدود من ضمنه أو من أحد أسبابه. وليس بغريب على الفنانين الذين هم سبب المصائب، وسبب كل بلاء، بما أشاعوه في الأمة من الفحشاء واللهو والغفلة عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التلفزيون وفي الصحافة والمجلات، واستأثروا بحديث المجالس كما قال بعض الشعراء من الوزراء، يقول: ' أصبح الحكام يغبطون الفنانين ولاعبي الكرة على هذه المكانة التي يحصلون عليها عند الناس '، ومع ذلك فهم الذين يرسخون جذور الفتنة والبلاء وأسباب النقم والعذاب في الأمة، ثم بعد ذلك يقولون: إن التطرف هو السبب، وإذا أتوا عند التطرف لا يقولون: تطرف حزب البعث، أو تطرف المفسدين في فسادهم، لا، بل يعنون به وجود هذا الشباب المؤمن الطيب الذي أكثره -كما هو الحال في بداية التمسك- إعفاء اللحية ورفع الثوب قليلاً عن الكعبين'.

تركيز النصح والإرشاد على من نزلت بهم المحنة

تركيز النصح والإرشاد على من نزلت بهم المحنة Q إن الكثير من التذكير والنصح والإرشاد لوحظ أنه مقتصر على طلبة العلم والإخوة في الله وهذا شيء طيب، ولكن من حلت بهم المحنة أحق بأن يركز الدعاة في دعوتهم إلى التوبة والإنابة في كل حرب، ولأن وَقْع التذكرة في هذه الظروف أجدى من أي وقت آخر، ويا حبذا من توجيه هذه الدعوة إلى طلبة العلم الحضور، لكي يتوجهوا إلى الأماكن التي يوجد بها الإخوان الكويتيين ونصحهم؟ A المحنة هي للجميع، فلا نتكلم نحن عن الكويت فقط؛ لأن المصيبة دائرة بالجميع وأحاطت بالكل، وإنما هؤلاء الذين أحاطت بهم المحنة هم أحق بأن تركز الدعوة عليهم، وبالنسبة لإخواننا الكويتيين في جدة فهذا شيء ضروري جداً، ولا يجوز أن نتخلى عنه من ناحية إغاثتهم بما يحتاجون من لوازم الحياة، ومن ناحية إغاثتهم مما هو أهم وأحوج، وهم أحوج ما يكونون إليه، وهو الإيمان والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والحمد لله هناك جهود رتبت لهذا الشأن، نسأل الله أن تأخذ دورها في التنفيذ - بإذن الله تعالى- من محاضرات، ومواعظ وغيرها، ولا شك أن هذا واجب علينا، ونؤكد عليه بدورنا.

طلب الدعاء

طلب الدعاء Q الأخ يرى أن ندعو الآن؟ A ما أرى أننا ندعو الآن، فأنا أقصد بالتضرع إلى الله أنها حالة دائمة، وإن كان لا مانع أن ندعو الآن جميعاً، لكن أقول: يجب أن نجعل هذه الحالة دائمة، فالتضرع نجعله حالة دائمة في كل الأحوال، ونحن بحاجة إلى الله في كل الأحوال، فنحن مذنبون في كل الأحوال ومقصرون، فلا نستغني عن الدعاء الآن وفي كل حين، ونسأل الله الإجابة، والله المستعان.

تعليق على صور للنساء في مجلة تايم

تعليق على صور للنساء في مجلة تايم Q هذه صور من مجلة تايم، وغيرها من المجلات، كما أشرنا وتشتمل على صور المجندات والنساء اللاتي قدمن مع هذه القوات؟ A هذه من المصائب، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرفها ويدفعها عنا، هذا بلاء على بلاء، فوجود وقدوم هؤلاء لا شك أنه بلاء خصوصاً النساء بالذات، لأنه كما تعلمون، وكما هو واقع في وجود القوات الأمريكية دائماً في أي بلد، في بانكوك وفي أيام حرب فيتنام وفي غيرها. فأنا أقول: يجب أن نعرف هذا لأنه من الأمور البدهية وما ينازعنا فيها أحد إلا من كان مكابراً في البديهيات، أن الإنسان الأمريكي مستحيل أن يستغني عن الخمر والزنا والمخدرات فحياتهم هي هذه، وهذه هي متعتهم، وهذه هي شهوتهم، وهذا هو إيمانهم، فهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يحسبون لها أي حساب، فلا نستغرب أن ينزلوا إلى أي بلد إلا ومعهم الخمر والنساء، وما يسمونه الترفيه، كما قرأتم في الجرائد عن الآلاف من الكريمات والدهانات الحرارية التي وصلتهم حتى يدهنوا أنفسهم بها، فهذه هي حياتهم، وهل تظنون أنهم جاءوا من أجل سواد عيوننا أو تقديراً أو احتراماً لنا أو لديننا أو لتقاليدنا؟ طبعاً ما جاءوا من أجل ذلك، كما أنه أيضاً هل تظنون أنهم من أجلنا يتركون هذه الشهوات وهم لا يرجون عند الله شيئاً والله يقول: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] فأي شيء يرجون غير هذه الدنيا فقط؟! {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7]. لكن نحن علينا واجب كبير، وواجب عظيم، كل واحد منا بما يستطيع، وهو أن ننبه وندعو ونطالب ونذكر بأي أسلوب نراه، وبكل مكان بحسَبِه، أن هذا البلاء إن لم يرفع كله فعلى الأقل أنه يُحد إلى أقصى حد، فهذا واجب، وإن لم نفعل ذلك فلا شك أننا أغضبنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذه الصور المعروضة في المجلات مثلاً من شواهداً لحال، والصور في الواقع أكثر من ذلك. وتكلم بعض الإخوان، وكتبوا لنا بما هو أعظم من ذلك، وهذه المصيبة نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يدفعها، ويرفعها عنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

موقف الفكر الإسلامي من العلمانية

موقف الفكر الإسلامي من العلمانية في هذه المادة تحدث الشيخ عن العلمانية مبيناً أصلها الناشئ من الخرافة والشرك، وأنها نشأت منذ العهد الأول بعد رفع المسيح، وذلك نتيجة التحريف وسيطرة الكهنوت على الدين والناس؛ حتى صار الأحبار والرهبان أرباباً يشرعون للناس من دون الله، ووضّح دور اليهود في نشأة العلمانية وانتشارها، كما وضح نشأة العلمانية الحديثة مع بداية النهضة الصناعية والثورة الفرنسية، وبين حفظه الله أن الإسلام دين عام وشامل لا تناقضه الكشوف العلمية ولا الحقائق الجديدة؛ لأنه دين الحق، كما بين أن نهضة أوروبا العلمية مستقاة من المسلمين، ولذلك فتاريخهم العلمي بدأ منذ الفتح الإسلامي للقسطنطينية.

العلمانية خرافة يدمغها الحق

العلمانية خرافة يدمغها الحق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قبل أن نبدأ في الموضوع أريد أن أنبه على بعض الأشياء وقد تكون شكلية، ولكن نحن المسلمين يجب ألا نفرق بين الشكل والمضمون، بل لا بد أن نلتزم ما أمكن بهما معاً. فالعنوان (موقف الفكر الإسلامي من العلمانية) ولنبدأ القضية من العنوان نفسه. فاختيار العنوان لا يقصد به عقد مقارنة بين فكرين متقابلين، لكن لعل هذا يشعر بذلك. إن موضوع الفكر الإسلامي ينبغي أن نطرحه دائماً على أنه وحي أنزله الله تبارك وتعالى، وعلى أنه أمر ممن لا يضل ولا يخطئ، أنزله الله الذي يعلم السر في السماوات وفي الأرض، وبلغه الأنبياء المعصومون عن الخطأ في التبليغ عن الله عز وجل. يقابل هذا الوحي: الهوى والجهل والخرافة والأساطير، وما شئت من مسميات! فلتكن بأي شعار، وبأي اسم، وفي أي زمان، وفي أي مكان، فما لم يكن من الوحي فهو هوى وجهل وخرافة، إلا فهماً يؤتاه المؤمن من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولو نظرنا إلى العلمانية من هذه النظرة، لوجدنا أن القضية قضية توحيدٍ دعا إليه الرسل جميعاً ونزلت به الكتب جميعاً، يقابله شركٌ وجهل وجاهليةٌ وخرافات وردود فعلٍ بشرية، جاءت في فترات معينة في قومٍ معينين، لا يصلح بأي حال أن يكون مبدأً أو منهجاً يسير عليه البشر جميعاً في كل مكان، ولا سيما من كان الوحي النقي بين أيديهم وفي متناولهم، ويقرءونه ويتلونه ليلاً ونهاراً، فمن هذه القضية يبدأ الموضوع. إن الله عز وجل إنما أرسل الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذكر الله عز وجل في كتابه أن الأنبياء جميعاً بعثوا ليقولوا: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وفي الآيات الأخرى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فمعنى (لا إله إلا الله) عبادة الله واجتناب الطاغوت، وهي التي ذكرها الله تعالى أيضاً عقب آية الكرسي: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] فهذه كلها تدل على معنى شهادة (لا إله إلا الله) التي جاء بها الأنبياء جميعاً، فأي مجتمع يؤمن بها ويقيمها ويعرف معناها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مجتمعاً علمانياً، أو أن يقبل العلمانية، لأن القضيتين متضادتين متناقضتين، لايمكن أبداً أن تتفقا. إنها ظروف تاريخية وملابسات معينة لا أطيل بشرحها، ,إنما أختصرها في كلمة واحدة، وهي الخرافة، فالخرافة هي سبب العلمانية، سواء في أوروبا أم في بلاد المسلمين! وأعني بالخرافة أن يختلق البشر صورةً يتزينون بها من البدع ومن الضلالات غير ما شرع الله عز وجل، فعندما تنتشر الخرافة في أي مجتمع؛ فإن هذا المجتمع يقبل العلمانية، ويمكن أن يتحول إلى علمانية جزئية أو كلية بحسب تقبله للخرافة أو مقاومته لها. والعلمانية إذا حددت بالاسم وقيل: العلمانية فإنها تعني: المذهب الفكري المعروف، وهو مذهب نشأ في أوروبا وهي قارةٌ مظلمة، ولم ولن تخرج من الظلمات أبداً وهم يطلقون على فترة من تأريخهم قرون الظلمات، وكأنهم الآن في النور، والواقع أن أوروبا لم تخرج من الظلمات مطلقاً ولن تخرج منها إلا إذا آمنت بالله وحده، واتبعت دينه الذي هو الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، فـ أوروبا تتخبط من جهلٍ إلى جهلٍ، ومن ظلمات إلى ظلمات، وعندما نشأت فيها هذه الفكرة، ما كان ذلك نتيجة تفكير منطقي علمي مجرد، كما يوهم الاسم أو يشعر، ولا يمكن على الإطلاق أن يكون العلم الحقيقي أو التفكير الحقيقي مضاداً لما أنزل الله تبارك وتعالى، وإنما نشأت كردود فعلٍ طويلة ولو حاولت أن أعرضها عليكم، لكان معنى هذا: أن نعرض تاريخاً طويلاً يمتد من سنة (325م) على الأقل إلى الآن، أي منذ أن اعتنقت الامبراطورية الرومانية ما يسمى بالمسيحية وحتى الآن.

عوامل نشأة العلمانية في أوروبا

عوامل نشأة العلمانية في أوروبا لقد نشأت أوروبا في الخرافة وعاشت فيها، ومن هنا اتجهت إلى خرافة العلمانية.

دور العلمانية في الفكر النصراني

دور العلمانية في الفكر النصراني أرسل الله عز وجل عيسى عليه السلام بما أرسل به الأنبياء جميعاً، كما قال تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ولا يمكن أن يدعو نبي إلى الشرك أبداً، فكيف نشأ الشرك في دين النصارى؟ أول ما حدث في دين النصارى أن عيسى عليه السلام رفعه الله تعالى إليه قبل أن يقيم مجتمعاً إسلامياً، فقد بُعِثَ عليه السلام في فلسطين، وهي جزء من مستعمرات الامبراطورية الرومانية الكبيرة، وكانت الامبراطورية الرومانية لا تريد أن تتدخل في قضية العلاقة بين المسيح وبين المجتمع اليهودي الذي بعث فيه، لأن القضية قضية داخلية، والامبراطورية تحرص على أن توحد الأمة أو الولايات تحت حكمها، وهذا رجل جاء في ولايةٍ جزئية بدعوةٍ داخليةٍ محددة إلى بني إسرائيل. ومن هنا نشأت قضيتان: القضية الأولى: قضية أنها لم تقم دولة، وهذا ما جعل العلمانية تبدأ جذورها وبذورها في فكر القوم، فعندما لم يقم المسيح عليه السلام دولة منفصلة مستقلةٍ جهادية كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانت هذه بذرة تلقائية للعلمانية بلا شعور؛ أي: يمكن أن يوجد الدين ولا دعوة له ولا جهاد فيه. والقضية الأخرى: أن تتحول هذه الديانة من قضية دعوة محلية لقومه خاصة، إلى دين الامبراطورية تحكم شعوباً كثيرة، وهي ربما كانت أكبر امبراطورية آنذاك في الأرض، هذه النقلة بعيدة جداًَ؛ لأن قومها الذين بعث فيهم المسيح لم يقيموها في أنفسهم، فكيف تقوم على مستوى أكبر من ذلك؟! فلا بد أن يضيق نطاق التشريع والأحكام عن استيعاب الأحكام في العالم، والله اختص محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن دينه هو الدين الذي يهدي العالمين جميعاً، فالاعتراض ليس على كون الإنجيل لم يأت بأحكام للبشرية جميعاً، ليس هناك اعتراض على هذا إطلاقاً، ولكن أهل الإنجيل محددون بأنهم هم أهل التوراة نفسها -أي اليهود- ومع هذا كله لم يصل الدين -كما هو في الإنجيل الذي أنزله الله- إلى أوروبا، فحصل أيضاًَ خطأ أكبر.

التحريف والتلفيق في الديانة النصرانية

التحريف والتلفيق في الديانة النصرانية وكان سبب تحريف الدين هو بولس، ولذلك نجد المؤرخين الغربيين يعرفون المسيحية فيقولون: إنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المسيحية اليسوعية، أو مسيحية يسوع أي: عيسى عليه السلام، ويقولون: بدأت عام كذا وانتهت عام كذا بالتحديد، وهذه مسيحية مستقلة. القسم الثاني: المسيحية الرسمية: سميت بالرسمية لأن قسطنطين تبناها وجعلها ديناً رسمياً للدولة، وبولس هذا رجل يهودي على الأرجح، اسمه اليهودي شاول، دخل في النصرانية ليفسدها، وكان هو -كما في رسالة أعمال الرسل المطبوع مع الأناجيل- يعذب المسيحيين -أي: المؤمنين بالمسيح- الموحدين عذاباً شديداً، ثم انقلب فجأةً، وأعلن أنه كان سائراً إلى دمشق لتعذيب المسيحيين، وإذا بالنور يخاطبه من السماء -وهي خرافة- ويقول له: أنا ابن الله أو نحو ذلك، فكيف وإلى متى تضطهد أتباعي؟! قال: فعرفت أنه المسيح، فرجعت وآمنت. وبدأ يدعو إلى المسيحية، فانقسم الناس تجاهه إلى قسمين: أما المضطهدون ففرحوا لأن الاضطهاد رفع، فهذا المضطهد تحول إلى معين وإلى داعية، فكان هذا شيئاً رائعاً بالنسبة لهم، وأما الذين هم على العقيدة الصحيحة، فتعجبوا أن هذا الرجل يرى هذه الرؤية-كما يزعم- من السماء، وأصبح يدعو إلى دين كامل، ليس هو الذي عرفوه عن المسيح ولا الذي في الإنجيل، فبدأ يبرمج ويمنهج، ويشرع تشريعاً من عنده، فيقول: هذا يجوز وهذا لا يجوز، وأخذ يرسل الرسل الذين يسمونهم رسلاً في الإنجيل (العهد الجديد)، فبعث هذا إلى الحبشة، وهذا إلى قبرص، وهذا إلى الإسكندرية، وبدأ ينظم لهم الدعوة بشكلٍ عجيب!! كيف هذا؟! ومن أين أخذ هذا الدين؟! ومن أين جاء به؟! وهكذا ظلت المعركة قائمة على أشدها. ثم كُتبت الأناجيل، وأقدم نص موجود للإنجيل كُتب عام (209م) وإذا كان المسيح عليه السلام رفعه الله عز وجل، وهو يبلغ الثالثة والثلاثين -كما يقولون- ولعلها تكون فوق الأربعين والله أعلم. المهم أنه بعد المائتين كُتب أول إنجيل، وهو عبارة عن سيرة رآها صاحبها، قال: عندما رأيت الناس يكتبون عما سمعوا عن الكلمة -أي المسيح- فأحببت أن أكتب إليك ياعزيزي ساوفيلد بما رأيت وبما سمعت وبما بلغني من الناس الذين عاشروا الكلمة -أي المسيح- فكان مؤلف الإنجيل يقول: 'أنا إنسان أكتب أشياء بلغتني سمعتها عن المسيح' وما قال: إنها كتاب الله، ولا أنزلها الله أبداً. وهذا موجود الآن بنصه في مقدمة الإنجيل. وفي القرن الثالث -حوالي الثلاثمائة- كتب إنجيل يوحنا وهو أخطر الأناجيل، ونُص فيه بصراحة على أن الآلهة ثلاثة! أي: عندما تبنت الدولة رسمياً عقيدة بولس، وضع إنجيل يوحنا الذي يتبنى أيضاً بشكلٍ قطعي أن التكليف هو الشرك والعبادة، ثم استمرت البدع والانحرافات طويلاً. وكانت ديانةٍ -كما سماها الغربيون- تركيبية، ركبت من فلسفات عديدة لا مجال للتفصيل فيها، أخذت الثالوث من الأفلاطونية الحديثة، وأخذت قضية الصليب الذي يصلب فداءً عن غيره من المسرائية وهي دين وثني كان يدين به بولس، وأخذت أيضاً من التوراة المحرفة بعض الأمور، وهم يرجعون إليها كشريعة لهم، وهكذا تجمعت خرافاتٌ وأفكارٌ وأراءٌ فلسفيةٌ، وسمي الدين الرسمي للدولة باسم المسيحية. وأكبر رجل -كما قلنا- بولس اليهودي ومن جاء بعده، واعتنقت أوروبا هذا الدين، واستمرت عليه. ثم بُعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب -كما نعلم- كتابه إلى هرقل عظيم الروم، وذكر فيه الآية من سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]. وأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] وأنزل الله عز وجل أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]. وكثير من الآيات؛ وخاصةً في سورة آل عمران التي نزل فيها أكثر من ثمانين آية في شأن نصارى نجران، وهي تعالج قضية انحراف النصرانية. وعندما بُعِثَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت أوروبا مشركة؛ لأنها لا تقيم حكم الله ولا دينه، فهي تعبد المسيح وهو بشر وليس إلهاً، وتعبد الأحبار والرهبان، وذلك شرك في الاتباع، وكانت تتبع القوانين الرومانية التي سنها جوستنيان وغيره، بل كانت مشركة في كل أمورها حتى في قضايا الأخلاق، فكانت حتى الأخلاق مستمدة من الأعراف، أو مستمدة مما يضعه الأحبار والكهان ورجال الدين.

بدعة الرهبنة

بدعة الرهبنة ومن البدع الشديدة التي ظهرت في المسيحية، وهي كثيرة -كما ذكرت-: بدعة الرهبنة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:27] هذه الرهبانية تفصل علنياً وواقعياً بين الدين والواقع، وبين الدين والحياة، فوضعت المسيحية المحرفة الجزئية الإنسان بين طريقين لا خيار له فيهما: إما أن تدخل في ملكوت الله، فتذهب إلى الدير تتعبد عبادة صارمة مقننة، يشرف عليها رجالٌ غلاظٌ شداد، يبتدعون ما شاءوا، ويفرضونه بالقوة: كذا كذا ترنيمة، وكذا كذا ترديده، وكذا من العشاء الرباني إلخ! وغيرها من الخرافات التي يُملُونها على دينهم إملاءً، ومن أراد الدنيا فليطرد من ملكوت الله؛ لأنه يريد الدنيا -ويريد التزوج، وهو أمرٌ ترفع عنه المسيح ويترفع عنه رجال الكنيسة- ويريد أن يحرث الأرض -كما كان حال الشعوب الأوروبية- وهذا شغل دنيوي حقير، فالرجل الذي يعبد الله يأتيه الرزق وهو في الدير، تأتيه الهبات، وتأتيه الصدقات، وليس محتاجاً إلى أحد، فهي جبرية بالمعنى الإسلامي، فالكنيسة شرعت مع الرهبانية جبريةً معينة.

ركود الحياة الأوروبية

ركود الحياة الأوروبية ظلت الحياة الأوروبية راكدة قروناً طويلة؛ العمال يعملون للنبيل، والنبيل يجمع الأموال ويعطي الخدم، والنبيل يجهز من الخدم -من الرقيق- جيشاً للحملات الصليبية التي كانوا يشنونها علينا، يجهزها ويعطيها للامبراطور، والامبراطور يرى أنه مادام النبيل أرسلها إلى مسئول الإقطاعية، فالوضع ثابت، والامبراطور أسرته ثابتة تتوارث الملك، والكنيسة نظام ثابت يتوارث أصحاب المناصب والكراسي في ترقٍ هرمي، فكل أسرة ثابتة في عمل ما تتوارثه، هذا في الدير، وهذا في المزرعة، وانتهت القضية. ومرت قرون والحياة ثابتة راكدة، ومرت على أوروبا فترة ظلمات أشد عندما جاء ما يسمى النورمانديون -شعوب الشمال- وكلها شعوب همجية، فاحلتوا روما، أي احتلوا الكنيسة الغربية ونقضوها، وأما الكنيسة الشرقية في القسطنطينية فبقيت نصرانية، أما الكنسية الغربية ودولها مثل إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا؛ فبقيت قروناً طويلة لا تعرف كتابةً ولا علماً على الإطلاق، وكل رأس مالها من العلم كتب كتبت قبل الغزو، يقرؤها بعض الآباء (الكرادنة) فقد كانت مفلسةً تماماً من العلم. ويعتبر الأوروبيون بداية التاريخ الحديث هو فتح القسطنطينية، لماذا؟! هل ذلك يعتبر لنا نحن لأننا فتحنا القسطنطينية؟! لا!! إنما لأنهم يقولون: إنه عندما فتحت القسطنطينية، وأعطى محمد الفاتح الأمان لمن فيها من النصارى، هاجر العلماء الذين كانوا موجودين في القسطنطينية إلى روما وإلى الكنيسة الغربية، واستبشر أصحاب الكنسية الغربية بالقضاء على الكنيسة الشرقية، وإن كان المسلمون هم الذين أخذوها، فانتقلوا إلى هناك، فقالوا: بدأ العلم وبدأت الحضارة، والحقيقة أن أوروبا تريد ألا يكون لنا فضل عليهم. وهناك قضية انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عبر الأندلس، وعبر إيطاليا، وكانت جامعات إيطاليا تدرس باللغة العربية، وكان فريدريك الثاني أكبر امبراطور في العصور الوسطى الأوروبية -كما هو معروف- وهو الذي كان في عصر الكامل الأيوبي، وجاء إلى الكامل الأيوبي، وتقابلا في فلسطين وتخاطباً باللغة العربية الفصحى بدون مترجم، لأن فريدريك تعلم اللغة العربية، وكان من المفروض أن أي مثقف لا بد أن يتعلم اللغة العربية، وإلا فلا يعتبر مثقفاً، فكان جنوب إيطاليا مركزاً لانتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا. ومع ذلك لا تعترف أوروبا بهذا، ولا يهمنا أن تعترف، فهو أمر طبيعي، لكن الشيء العجيب أن أوروبا جاءها الإسلام بحضارة كاملة، وتراث علمي كامل، فاختارت رجلاً هو الآن عندهم أعظم رجلٍ في فكرهم من غير الأوروبيين، وهو ابن رشد الذي يسمونه أَفِيروس، وكيف لا وهو الرجل الذي جاء بكتب أرسطو وترجمها؟!! فهذا هو الانتقاء الذي انتقته أوروبا، ونحن أخذنا علمانيتها كاملةً ولم ننتق! وبدأ عندهم ما يسمى بالعلوم الإنسانية، والتسمية نفسها -مع الأسف نحن نقلناها- سميت لأن العلم كان من وضع رجال الدين، كانوا يضغطون على العلماء، ويتحكمون في كل شيء، وكان العلم هو ما يقوله رجل الدين، سواء حدثنا عن الأرض أم عن الكون أم عن التشريع، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فكل ما يقوله الحبر أو الكاهن فهو الدين والعلم. أما الذين ارتدوا إلى الجاهلية الإغريقية فقد جاءوا بالفكر الإنساني كمقابل للفكر أو العلم اللاهوتي، وقالوا: هذا فكر إنساني، وهو يطلق على علم الاجتماع، وعلم النفس. وهذه العلوم -حتى هذا الوقت- لا تزال في أوروبا وقد استوردناها منهم، وفي كثير منها نظريات تتصادم مع الإسلام، وفي الغالب لا نجد كُتَّاباً مسلمين متخصصين يكتبون هذه القضايا من خلال الإسلام. وبدأ ما يسمى بعصر النهضة وبدأ الصراع بين الدين وبين الفكر الإنساني كما يسمونه.

الصدام بين العلم والكنيسة

الصدام بين العلم والكنيسة ننتقل إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة العلم التجريبي الذي استفاده علماء أوروبا من المسلمين، وبدءوا يجربون وينظرون للكون نظرة تجريبية، ومن حكمة الله عز وجل وقدره أنَّ النظريات الكونية سبقت النظريات الإنسانية. فإن مجال النظريات الكونية هو العقل، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} [يونس:101] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام:11] والآيات كثيرة ومعروفة. فالنظر في الكون هو من شأن الإنسان ومن شأن العقل، ولكن النظر في الإنسان ونفسه واجتماعه وتشريعاته، فهذا ليس من شأن البشر، فقد قدر الله عز وجل أن أول ما يصطدم مع خرافات النصارى هو النظريات الكونية، فظهرت التجارب العلمية قليلاً قليلاً، كان منهم جاليليو الذي قال -وهذه كلمة ليست سهلة عندهم-: (إنَّ الأرض تدور) فيترتب على ذلك مصائب كثيرة جداً. وحتى ندرك الفرق بين النظرية ذاتها في الإسلام -صحت أم لم تصح- وبينها في دينهم، أنه إذا بطلت الخرافة؛ فمن الطبيعي أن ينتهي الدين الذي يحمل هذه الخرافة، لكن دين الله عز وجل وحي منزل كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] والجانب العلمي البشري منه متروك للإنسان، فليخطئ الناس إذا قالوا: تدور مثلاً، أو قالوا: لا تدور، فهذا لا يمس الدين نفسه، لكن رجال الكنيسة شعروا بأنَّ مجرد أية نظرية تخرج عن غير ما قرروه هم، أنَّ هذا بداية الخروج على الكنيسة، ولو خرج الآن شبراً، فسيصل بعد ذلك إلى ذراع، ثم سيكون الخروج الكلي وهو ما حصل فعلاً! فبدءوا بتعذيب جاليليو، حنى قتلوه في الأخير. ثم جاء رجل كان له دور أخطر وهو كوبرنيك وقال: 'إن مركز الكون هي الشمس، وأن الأرض تدور، وهي كوكبٌ تابعٌ للشمس' وهو قد قرأها في كتب قديمة، وطالع فيها كثيراً عن علماء المسلمين حيث ذكروا حجم الشمس وأنها أكبر من الأرض -وهذا معروف ولا مجال الآن لذكره- المهم أنَّه قال هذه الحقيقة، فقال أعضاء الكنيسة: لو قلنا: إن الأرض كروية، لكان الناس الذين في النصف الثاني من الأرض يمشون وأرجلهم فوق، وهذه أفكار شيطانية! الغريب أن كوبرنيك نفسه كان قسيساً! وكذلك نلاحظ أن أبطال أوروبا في الفكر أكثرهم كانوا قسيسين وأبناء قساوسة؛ وذلك لأن السيطرة العامة على أي شيء اسمه العلم أو الكتابة كانت بيد الكنيسة، ولذلك لا يتخرج إنسان متعلم إلا وهو قد تربى في دير أو في كنيسة. ولم يكتفوا بذلك؛ بل جاءوا بهذا القسيس العاق كوبرنيك فهددوه بالتعذيب والقتل فاعترف أمامهم بأنَّ هذه فكرة أوحى له الشيطان -لعنه الله- بأن الشمس مركز الكون، وإنما الشيطان هو الذي سوَّل له فكتب ما كتب! ولا زال هذا الكتاب محفوظاً وهو علمي على قدر عصرهم، هكذا اضطر أن يعترف في المحضر: أن الشيطان جاءه في النوم وأوحى إليه بذلك وها هو يتوب ويعود إلى الإيمان والدين! فهذه كانت مرحلة مهمة، ثم تتالت بعدها المراحل فتطور الأمر -لأن الخرافة لا تثبت- بعد كوبرنيك، وجاء نيوتن، ونظريته بسيطة وهي: نظرية الجاذبية، وهي مبسطة ومعروفة لنا جميعاً بأن الكائنات أو الكواكب جميعاً تتماسك بفعل الجاذبية، فهذه نظرية ليس فيها إشكال، ولا يترتب عليها أية إساءة للدين، وهو تفكير عقلي وطبيعي، فنظرية نيوتن نظرية بشرية لا إشكال فيها، إلا أن الكنيسة اعتبرت هذه خارقة أعظم من مصيبة كوبرنيك، وأعلنوا في منشورات وزعوها في طول أوروبا وعرضها أن هذا ملحد وكافر الخ. بينما هو يعلن أنه مؤمن بالله وأن هذا لا يتعارض مع الإيمان، المهم أنه أعطى ما يسمى تفسيراً فهو لاحظ أنَّ الكون متناسق ومستقيم بطريقة ميكانيكية.

الاستغلال اليهودي للصراع بين العلم والكنيسة

الاستغلال اليهودي للصراع بين العلم والكنيسة هذه النظرية -نظرية نيوتن - أوحت إلى أناس متربصين بالدين وهم اليهود باستغلال هذه الفجوة بين العلم وبين الدين، فظهرت نظريات تقول: ألا يمكن أن يأتي مقابل الميكانيكا الكونية ميكانيكا بشرية، بحيث تسير حياة الإنسان وفقاً للعلم أو لنظريةٍ ما؟! هذه القضية شغلت كثيراً من علماء أوروبا الهاربين من الكنيسة، فبدأ الهجوم على الدين ولكن بطريقة الهجوم على رجال الدين، فإنه لم يكن بإمكانهم في ذلك الوقت أن يهاجموا الدين، أي أن يهاجموا الإنجيل. ومعروف في الأدب الأوربي أن القصص والأعمال الأدبية كثيرة وموضوعاتها تتمحور في أمرين: الأمر الأول: رجل الدين الذي يتظاهر بالدين والخشوع في الدير، ويبكي ويقرأ الإنجيل، ولكنه في السر يرتكب الفواحش، ويزني مع الراهبات، ويأكل الربا، ويفعل الموبقات إن عادة الناس أنهم يقرءون الأدب لأنه يثير النزعة الإنسانية -كما يسمونها- فيقرءون الأعمال الأدبية، فتعطي ردة فعل وتصوراً معيناً -لكن ليس تصوراً علمياً ضد الدين- وإنما هو ضد رجال الدين. الأمر الثاني: العطف على البغايا! وهذا أصبح منهجاًَ معروفاً في الأدب الأوروبي، فهناك أعمال أدبية كثيرة معروفة موضوعها المرأة البغي التي لجأت إلى البغاء، نتيجة ظروف اجتماعية قاهرة وأوضاع سيئة ومشاكل، لكن مع أنها بغي وأنها تضحي بعرضها وشرفها لمن شاء، لكنها محترمة لأنها لا تسرق، وأخلاقها ومعاملاتها طيبة، وكذا وكذا، هذه الصورة تعرض مقابل ما يعلمه الناس جميعاً -وأولهم الكرادنة والقساوسة- عما يدور في الأديرة من الفواحش ومن الموبقات! والذين درسوا الأدب الإنجليزي والعربي من مُجَّان شعراء العرب كانوا يدخلون الأديرة فيجدون هناك الملذات والشهوات والمحرمات والموبقات والعياذ بالله! وكذلك في أوروبا عندما جرت حروب بين البروتستانت والكاثوليك كان البروتستانت يدخلون إلى بعض الأديرة ويخرجون منها رفات وعظام أطفال الزنى -المولودين بالزنى- الذين رمتهم الراهبات والقساوسة تحت الأرض، فأخرجها البروتستانت ليبرهنوا على انحراف الكاثوليك، وكأنهم هم ليسوا منحرفين! فالعطف على البغايا أيضاً كان اتجاهاً في هذه المرحلة ومن أشهر هذه الأعمال كتابات الرجل الأوروبي ديجرو الفرنسي الذي كتب دائرة المعارف لتحل محل الإنجيل، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، وأما من مضى فكتبوها دائرة معارف عامة ليستغنوا عن علم اللاهوت بها، وديجرو هذا له قصة كبيرة جداً اسمها الراهبة، وسميت بعد ذلك المتدينة، وهناك أعمال كثيرة من هذا القبيل. فهناك الاتجاه الإنساني أو الأدبي أو الاجتماعي يسير مع الصراع العلمي بين العلم وبين الكنيسة، حتى جاءت الثورتان المتقاربتان: الثورة الفرنسية وهي ثورة بالمعنى الصحيح، والثورة الصناعية.

الإعلان الرسمي للعلمانية

الإعلان الرسمي للعلمانية الثورة الصناعية هي عبارة عن تحول اجتماعي كبير، نشأ بظهور الآلة واستخدامها، وأدى إلى تحولات وفجوات وخلخلة كبيرة جداً في التاريخ الأوروبي، وهذه الفجوات وهذه الخلخلة أدت إلى نجاح الأفكار التي كان العلم يدعو إليها قديماً، والثورة الفرنسية هي التي أوجدت أول ثورة علمانية بالمفهوم المعاصر للعلمانية، وإلا فالشرك قائم وقد وقع منذ قوم نوح عليه السلام، لكن بالمفهوم الذي يردد الآن أن أول دولة علمانية كانت فرنسا وذلك بالثورة الفرنسية، وخرجت الجماهير تهتف وتصرخ وتقول: 'اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس' أي تدلل على الاقتران والتعاون على الظلم الذي حصل بين رجال الدين وبين الأباطرة، ورجال الدين كانوا أشداء حتى على الملوك، وقضاياهم في التاريخ معروفة ومنهم - أي: الملوك- من ذهبوا إلى البابا يستعطفونه، ومشوا على الحجارة أياماً وليالي، ووقفوا لابسي الخيش في البرد الشديد، يستعطفون البابا ليرحمهم، لكنه الاستغلال الذي كانت تمارسه الكنيسة، فقد غيرت دين الناس وحولتهم من دين إلى بدع، وغيرت الملوك، وحرقت العلماء، ودمرت الحياة تدميراً كاملاً، وأخذت العشور من الناس، بل وأكثر من العشور في كل ما يزرعونه وما ينتجونه، ومن جهة أخرى كان كل ما يمكن أن يرتكب من الموبقات فعله رجال الدين، فالثورة الفرنسية خرجت وهتفت باسم هذا المبدأ، وأعلنت أنها دولة لا دينية وأن الجميع فيها سواسية فلا دين ولا غيره يفرقهم، وكان اليهود هم الأكبر ربحاً من هذه القضية. وكان عند رجال الدين أن أي شيء يخالف الوحي فهو خرافة، فخرافة دارون هذه جاءت نتيجة -كما ذكرنا- ما قاله نيوتن، وهي أن دارون جاء بنظرية ميكانيكية عن الكون، فهل نستطيع أن نأتي بنظرية ميكانيكية عن الإنسان؟ قد يقول قائل: نيوتن فسر كيفية أن الأجرام تتناسق في السماء، ولا يمنع أن يكون الذي جعلها على هذه الكيفية هو الله، فلماذا لم يقل النصارى: إن الله خلق الإنسان كما أراد، لكن عملية خلق الحيوانات جميعاً أو السجل الجيولوجي كله من أوله إلى آخره، أراد الله أن يكون الخلق متطوراً بهذا الشكل -مثلاً- في داخل نطاق النظرة الأوربية، لِمَ لَمْ يحصل هذا؟ نأتي هنا إلى قضية هامة وهي أن في الإسلام، أن آدم عليه السلام أول الخلق، وأن جميع الأنبياء هم من ذريته، ولا إشكال في هذا الموضوع، لكن عند الكنيسة هذه القضية خطيرة جداً، لماذا؟ لأن الدين النصراني عندهم فقط قضية الصلب والفداء التي سببها خطيئة آدم، والخطيئة أنه أكل من الشجرة، ولكن الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- ضحى بابنه الوحيد ليكفر عن الجنس الذكري من هذه الخطيئة، فأنزل ابنه وقتل -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- لكن إذا قلنا كما تقوله نظرية دارون: أن الإنسان تطور تطوراً طبيعياً، وظهر ووجد بشكل تلقائي من الخلية إلى الكائنات العضوية واللافقاريات إلى القرد إلى شكل إنسان، كما تقول النظرية حلقة مقطوعة، كان الإنسان على هذا الكلام ليس هناك آدم، وإذا لم يكن هناك آدم فالمصيبة أنه إذاً: ليس هناك خطيئة، وليس هناك صلب، وليس هناك فداء. إذاً: فمن حق الكنيسة -من وجهة نظرها- أن تستميت الاستماتة الكاملة في دفع النظرية -نظرية دارون - لأنها تهدم بها المسيحية هدماً تاماً، فإن الاعتقاد بأنه لم يوجد آدم معناه أنه لا يوجد مسيح ولا يوجد صلب ولا يوجد فداء، إذاً: ما بقي من الدين -دين النصارى- شيء. فترتب على هذا أن الكنيسة قاومت نظرية دارون مقاومة شديدة، وجاء الصحفيون والهدامون والعلمانيون من كل ناحية، وأشاعوا نظريته بشكل رهيب لم يحلم به دارون، وربما لم يخطر له على بال، والعجيب أن لامارك وبوتيه وعدة علماء أو باحثين -كما يسمون- حاول كل واحد منهم أن يأتي بنظرية قريبة من نظرية دارون أو مؤدية إلى نظريته إلا أنه لم يكتب لها الشيوع، لأنهم أشاروا أو ذكروا أن الله اقتضت حكمته هكذا حتى لا يفاجئوا أن يصدمهم المجتمع أو تصدمهم الكنيسة. ونظرية التطور اعتنقتها أوروبا وعممتها على كافة الحياة؛ لأنها استندت على فكرة التطور العلمي، التي جاء بها أوجوف كوم قبل دارون بأكثر من ستين سنة، في مطلع القرن التاسع عشر، جاء وقال: ' إن العلم البشري مر بثلاثة مراحل: مرحلة الخرافة والشعر، ومرحلة الدين، ومرحلة العلم'. هذا التطور إذا نظرنا إليه بالنظرة المنطقية، وجدنا أنه: بدأ بمرحلة الحيوان، ثم مرحلة الدين، ثم مرحلة العلم، فهذا التطور الفكري الذي تخيله أوجوف كوم، أصبح حقيقة دعمتها التجربة ودعمها المعهد، ونعرف جميعاً ماركس كيف ركب نظرية المادية من نظرية التطور لدارون وقال: بأن المجتمع يتطور من خلال مراحل الاستكش -المراحل الخمس- الشيوعية. والشاهد أن الديمقراطية والإنسانية ونظريات علم النفس ونظريات الاجتماع كلها ركبت على هذه الخرافة، ومن هذا أن التجارب تجري على الكلاب وعلى القرود وعلى الفئران وعلى أي حيوان، ويراد أن يفعلَ بالإنسان ما طبق على الفأر أو القرد أو الضفدعة! هكذا وصل الأمر إلى انهيار معنى الإنسانية، وهبوط هذا المعنى، وظهرت الديمقراطية نتيجة للاحتكاك الذين أحدثته الثورة الصناعية وهذه الأفكار، ونحِّي الدين تنحية كاملة، ونحيت النفس الإنسانية، وأقيمت الدولة العلمانية على منهج بشري، أي: على منهج الهوى والخرافة كما قلنا.

علاقة العلمانية بالخرافات والخزعبلات

علاقة العلمانية بالخرافات والخزعبلات ولو نظرنا كيف دخلت العلمانية إلى العالم الإسلامي، لعلمنا أن السبب هو الخرفة والجهال، وهو نفس السبب الذي أدخل العلمانية إلى أوروبا، ولو كان المسلمون مسلمين حقاً، لما دخلتها العلمانية، ومن أسباب دخول الخرافة إلى التصوف، أن التصوف هو صورة أخرى للرهبانية النصرانية التي تعني الانعزال عن الدنيا، وأن تذهب للاهتمام بالدين كما يقولون. وأول من بنى رباطاً للصوفية هو أمير الرملة، وهو أمير نصراني راهب، بناها على طريقة أديرة الرهبان، فهو نصراني بنى هذا الرباط، وبعد أن كان التصوف في أشخاص أصبح الآن في رباط يجتمع فيه أناس، ومن هنا دخلت الصوفية إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الرهبانية النصرانية، ونظرت إلى الحياة نظرة مقت وازدراء، وأخذت الجبرية التي أخذتها الكنيسة، وبدأ هذا الانحراف في القرن الرابع بوضوح، والصوفية بدأت بالزنادقة الشيعة، أناس تستروا بالتشيع وأناس تستروا بالتصوف. والشيعة حققت نجاحاً كبيراً؛ لأنهم دخلوا باسم حب آل البيت، والصوفية دخلت بحب الرسول، فكان تأثير الشيعة محدوداً في الشعوب الشرقية، مثل الفرس وأمثالهم، أما الصوفية فكانت أعمق وأخطر في الهدم؛ لأنهم أخذوا شخصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلوا عليه صفات الألوهية التي قالها النصارى في عيسى إلا أنهم لم يقولوا: إنه ابن الله، فهم أعطوه علم الغيب وبهذا قضوا على مصدر التلقي، ونحن نقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت الصوفية: لا، أنتم تأخذوا علمكم من ميت عن ميت، تقولون: حدثنا فلان عن فلان، أي: ميت عن ميت، ونحن نأخذ عن الحي الذي لا يموت، العلم المباشر، فإذا أراد الإنسان أن يعرف هذا الحكم، هل هو صحيح أو غير صحيح، فإنه لا يقرأ صحيح البخاري ولا يقرأ صحيح مسلم، بل يصلي على رسول الله كذا ألف مرة، ويذكر الورد الفلاني، وينام ويرى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم إذا كان من السالكين، أما الواصلون فإنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فيقول له: يا فلان افعل كذا، تزوج فلانة، وهذا حلال وهذا حرام، فإذا اعترض عليه أحد بأن هذا حرام، يقول: أنت تتكلم بعلم مأخوذ من ميت عن ميت، ونحن نأخذ العلم مباشرة، فكيف تعترض علينا؟! ومعروف عندهم الكشف والفتح، وأشهر ما يذكر في تاريخ التصوف، أن الإنسان يدخل الخلوة ويبقى فيها عشرين سنة لا جمعة ولا جماعة ولا اغتسال وهم في الحقيقة يرتكبون الشرك، وتأتيهم الشياطين بالأخبار، فيأتي الناس يكلمونه، وهو في الخلوة، فيقولون للشخص: أنت فلان وجئت من أجل كذا، فيصدقه الناس ويؤمنون بأن هذا كشف وفتح. فأصبح التدين في أعين الناس هو هذه الطريقة، وليس هو عبادات بمعناها المعروف، بل هذا هو الدين عندهم، وما عداه فدنيوي، وهي الترجمة الحقيقية لكلمة علمانية. فلما جاء الغزو الفكري الحديث، وجاء لمهاجمة المسلمين، كان المسلمون أمة غارقة في الخرافات والجهل، كما كانت النصرانية. فدخلت الأنظمة والقوانين من هذا الطريق، من طريق أن الدنيا ننظم لها ونشرع لها، ونجعل الدولة إما ديمقراطية أو نجعلها اشتراكية أو غيرهما وما المانع فهذا تنظيم حكم لا تشريع دين! أما الدين فالدين هناك في المسجد، في الزاوية عند المتصوفة، لذلك لم يقم ولن يقوم أي تعارض بين أي حاكم يحكم بغير ما أنزل الله، أو مع ملحد يؤلف الكتب ضد الإسلام، لا تقوم بينهما عداوة بل يبقى التقارب والاقتران بينهما، كما كانت الاتفاقية المشهورة بين رجال الدين في أوروبا، وبين الأباطرة في تلك المرحلة. لأن تطبيق غير شرع الله عز وجل، أو التحاكم إليه لا يمكن أن يعترض عليه رجل لا يرى الدين إلا الذكر والأوراد، ولو أتاه أكبر مجرم فأخذ منه الورد، فهذا كل ما يريد، وإن جحد بعد ذلك، أو نَحَّى شرع الله، أو لم ينحَّه، وصلى أو لم يصلِ، فهذه قضية لا تهمه، والقضية عنده هي الانتماء إلى طريقته لا إلى طريقة غيره.

ترجمة أحد الصوفيين الخرافيين

ترجمة أحد الصوفيين الخرافيين أحببت أن آخذ ترجمة لأحد هؤلاء المتصوفة حتى نعرف أثر الخرافة في انتشار العلمانية في العالم الإسلامي، فنأخذ ترجمة أحد زعماء التصوف، وهو أحمد الرفاعي: وهو من المعروفين، وقد ناظرهم شَيْخ الإِسْلامِ، ومن خلالها نعرف أشياء عجيبة، ونرى بها وجه التطابق بين كلامه وبين خرافات الكنيسة: يقول أحمد الرفاعي: ' إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله تعالى، فصارت همته خارقة للسبع السماوات، وصارت الأرضون كالخلخال في رجله، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا، لا يعجزه شيء، وصار الحق تعالى يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، ويدل لما قلنا أنه ورد في بعض الكتب الإلهية يقول الله: يا بني آدم أطيعوني أطعكم، واختاروني أختركم، وارضوا عني أرض عنكم، وأحبوني أحبكم، وراقبوني أراقبكم وأجعلكم تقولون للشيء كن فيكون '. فهذه كرامات منبعها كلها كن فيكون، فالله أعطاها للأولياء، كما يزعمون! ويقول الشعراني: ' وكان إذا جلس على ثوبه جرادة وهو مار في الشمس وجلست على محل الظل -ظله- يمكث لها حتى تطير، ويقول: إنها استظلت بنا، وكان إذا نامت على كمه هرة، وجاء وقت الصلاة يقطع كمه من تحتها ولا يوقظها، فإذا جاء من الصلاة أخذ كمه وخاطه ببعضه، ووجد رضي الله عنه مرة كلباً أجرب أخرجه أهل أم عبيدة -القرية التي كان فيها- إلى محل بعيد فخرج معه في البرية، فضرب عليه مظلة، وصار يطليه بالدهن ويطعمه ويسقيه، ويحك الجرب منه بخرقة، فلما بَرأ أخذ ماءً مُسخناً فغسله، وقد كلفه الله تعالى بالنظر في أمر الدواب والحيوانات، وكان إذا رأى فقيراً يقتل قملة أو برغوثاً، يقول له: لا رحمك الله! شفيت غيظك بقتل قملة، وسمع مرة رجلاً يقول: إن الله له خمسة آلاف اسم، فقال له: إن لله تعالى أسماء بعدد ما خلق من الرمال والأوراق وغيرها، وكان يبتدئ من لقيه بالسلام حتى الأنعام والكلاب، فكان إذا رأى خنزيراً يقول له: أنعم صباحاً، فقيل له في ذلك، فقال: أَعَوِّد نفسي الجميل ' فإن كان كلباً أو بقرة فيقول له: السلام عليكم، أما الخنزير لأنه محرم أكله فيقول له بتحية الجاهلية: أنعم صباحاً، لأنه متمسك بالدين! ' وكان رضي الله عنه إذا صعد الكرسي لا يقوم قائماً وإنما يتحدث قاعداً، فكان يسمع حديثه البعيد مثل القريب، حتى إن القرى حول أم عبيدة كانوا يجلسون على سطوحهم فيسمعون صوته، فيعرفون جميع ما يتحدث به، حتى كان الأطرش والأصم إذا حضروا يفتح الله أسماعهم لكلامه، وكانت أشياخ الطريقة يحضرون ويسمعون كلامه، وكان أحدهم يبسط حِجره، فإذا فرغ سيدي أحمد رضي الله عنه ضموا حجورهم إلى صدورهم وصفوا الحديث إذا رجعوا إلى أصحابهم على جليته. وكان يوماً جالساً في القرية فمد عنقه، وقال: على رقبتي، فتعجب الحاضرون، قالوا: ما هذا؟! قال: الشيخ عبد القادر الجيلاني، الآن في بغداد، قال: قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله -لأنه ولي الله، وقدم الشيخ على رقبته- فأرخى جالساً وكان كذلك، وكان جالساً وحده فنزل عليه رجل من الهواء، وجلس بين يديه، فقال الشيخ: مرحباً بوفد المشرق، وقال له: إن لي عشرون يوماً ما أكلت ولا شربت، إني أريد أن تطعمني شهوة، فقال: ما شهوتك، قال: فنظر إلى الجو وإذا خمس أوزات، فقال: أريد إحدى هؤلاء مشوية، ورغيفين من بر، وكوزاً من ماء بارد، فقال له الشيخ: لك ذلك، ثم نظر إلى تلك الوزات، وقال: عجل بشهوة الرجل، قال: فما تم كلامه حتى نزلت إحداهن بين يديه مشوية، ثم مد الشيخ يده إلى حجرين كانا إلى جانبيه، فوضعهما بين يديه -الحجرين وضعهما مع الوزة- فإذا هما رغيفان ساخنان من أحسن الخبز منظراً، ثم مد يده إلى الهواء وإذا بيده كوز أحمر فيه ماء، قال: فأكل وشرب، ثم ذهب في الهواء من حيث أتى، فقام الشيخ رضي الله عنه وأخذ تلك العظام، ووضعها في يده اليسرى، وأمرّ يده اليمنى، وقال: أيتها العظام المتفرقة والأوصال المتقطعة اذهبي وطيري بأمر الله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم، قال: فذهبت أوزة سوية كما كانت وطارت في الجو، حتى غابت عن منظري! ' فهذا الراوي يقول هذا الكلام! وهنا شيء آخر لطيف، وهي أن صكوك الغفران التي عملها النصارى وكانت من أكبر العوامل التي جعلت أوروبا تثور على الدين، لأن رجل الدين كان يكتب صكاً من فلان إلى فلان، ويعطي هذا أرضاً في الجنة، وما أشبه ذلك، والعاقل يرفض مثل هذه النزاهات، حتى رفضها الفكر الغربي رفضاً شديداً، وهذه الصورة الغريبة -أيضاً- وقعت في التاريخ الإسلامي. فقد ' كتب الرفاعي صكاً لأحد الناس، حيث أنه جاء وطلب منه بستاناً، فأخذ الشيخ البستان، وقال له الرجل: تعطيني في الجنة بستاناً مقابله؟ قال: لو أردنا أن نعطي السماوات والأرض لكان ذلك، وهذا بسيط جداً. قال: اكتب لي بذلك صكاً، فكتب الرفاعي هذا الصك: بسم الله الرحمن الرحيم هذا الذي اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ضامناً له على كرم الله تعالى، قصراً في الجنة، تحفه أربعة حدود: الأول: إلى جنة عدن، الثاني: إلى جنة المأوى، الثالث: إلى جنة الخلد، الرابع: إلى جنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه، وأسرته، وأنهاره، وأشجاره، عوضاً عن بستانه الذي في الدنيا والله له شاهد وكفيل، ثم طوى الكتاب وسلمه إياه ' وهذه في جامع كرامات الأولياء للنبهاني. الشاهد من هذا: أن الخرافة التي وقعت فيها أوروبا ومنها جاءت العلمانية وقعت فيها الأمة الإسلامية في أردى صورها، ونتيجة لهذه الخرافة، ونتيجة ابتعادنا عن الله عز وجل، ونتيجة فهمنا بأن الدين له علاقة فردية محدودة، وكما تصور المتصوفة؛ جاءتنا كل هذه الأفكار، وكل هذه العقائد وغيرها فقبلناها ومنها العلمانية. ومثلاً: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لماذا كانت في عصر الانهيار الشديد وعصر الضعف الشديد؟ ومع ذلك فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ذكر في أنواع الطواغيت الخمسة: الشيطان، والحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والحاكم الجائر المغير لأحكام الله، وذكر الذي يدعي علم الغيب، وذكر من يدعي عبادة نفسه. ففسر الطواغيت الخمسة، وهذه العلمانية هي من الحكم بغير ما أنزل الله من ناحية، ومن ناحية أخرى هي تدعي علم الغيب عندما تشرع للإنسان، وقد كان ادعاء الغيب هو الذي كان فاشياً باسم كرامات التصوف، فعندما تصح العقيدة فإنها لا تقبل العلمانية على الإطلاق، مهما كان مستواها في الحياة الدنيا. ولكن عندما تفسد العقيدة، وعندما تصاب بالخرافة، تأتينا هذه العلمانية بكل أشكالها، وبكل مذاهبها سواء ما كان منها في النظم أم في الحكم أم في الاقتصاد، وغير ذلك. أو ما كان منها في مناهج التربية والتعليم، أو منها في الحياة الاجتماعية أو ما كان بأي اسم، عندما وصل فهم المسلمين إلى أن الدين هو ركيعات تؤدى في المسجد أو أذكار وأوراد، وأما الباقي فلا شأن لله فيه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ولا يحق لك أيها المسلم أن تعترض عليه؛ لأنه ليس من شأنك. وهنا نجد الأساس الذي هو: أننا عندما نريد أن نعرف حكم أي شيء، فلننظر إلى العقيدة الصحيحة وبما حكمت عليه، وعندما نريد أن نتخلص من أي داء، فلنتداوى بالعقيدة الصحيحة وبما أنزله الله عز وجل على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحيين الكتاب والسنة وما سار عليه علماء الإسلام كالأئمة الأربعة وكلهم ولله الحمد كانوا على عقيدة واحدة، وعلى العقيدة الصحيحة، فهم علماء الأمة الأفاضل، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، قياماً بحجة الله على العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

بعض الكتب التي ترد على الأفكار الهدامة

بعض الكتب التي ترد على الأفكار الهدامة Q نرجو إرشادنا إلى الكتب التي ترد على الأفكار الهدامة؛ لكي نكون على بينة منها وبالأخص العلمانية. A الأول: كتاب الله عز وجل، فإن فيه كل خير وهدى، وكل بدعة جاءتنا من داخل المجتمع الإسلامي أو من أوروبا فهي مرفوضة لأنها بدعة، وليست من عند الله ولا من عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهناك كذلك ممن كتب عن الغزو الفكري منهم: أبو يعلى الجويني، ومحمد قطب، وسيد قطب، ومحمد محمد حسين، وهناك كتاب كثيرون كتبوا في هذا الموضوع، أيضاً والفكر الغربي نفسه لمن قرأه وهو يعرف حقيقة الإسلام سوف يكتشف بنفسه أي نظرية هدامة، فأي نظرية قرأها سوف يكتشف أنها منافية للإسلام. والحمد لله أنهم في أغلبية الجامعات بدءوا ينحون اتجاهاً إسلامياً، وبدأت الاتجاهات في أن تجعل هذه العلوم إسلامية، وأصبحت كتابة هؤلاء العلماء الرواد هو مما يرجع إليه.

آراء حول العلمانية

آراء حول العلمانية السؤال الثاني: هناك تأويلات كثيرة للعلمانية في هذا العصر تحت عدة شعارات، منها وجود أكثر من دين واحد في بلد ما، ومنها: حكم الشعب نفسه بنفسه وغيرها، فما رأيكم في ذلك؟ ومن هم أشهر الحكام الذين أدخلوا العلمانية في هذا العصر؟ وما هي أبرز شعاراتها الآن؟ A تعدد الشعارات لا غرابة فيها، لأن الباطل دائماً متعدد: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. أما الديمقراطية أو حكم الشعب فهذه خرافة. أما الحكام الذين أدخلوا العلمانية: فقد كانت تركيا هي أول دولة إسلامية طبقت العلمانية، ومعروف ما فعله هذا الحاقد اليهودي المجرم أتاتورك فإنه قد قضى على اللغة العربية، وجعل الأذان باللغة التركية، وفعل أشياء لا يمكن أن تخطر على البال. فلا نتصور أن القضية نتيجة علم أو علمنة فالقضية قضية حقد وعداوة ودسائس ومؤامرات، بسبب أنهم وجدوا أمة خاوية من عقيدتها الصحيحة وغارقة في الشركيات وفي الخرافات، فاستطاعوا أن ينشروا تلك العقائد والأفكار الهدامة فيها. أما خرافة أن الشعب يتكون من دينين فكيف نطبق الإسلام؟ نقول: أولاً يجب أن نفهم الإسلام في شموله، فـ العلمانية: منهج شامل للحياة - كما يدعي أصحابها -ما عدا العلاقة الروحية بالله، والإسلام أنزله الله شريعة عامة في كل المجالات، وليس في قضية الحكم فقط، وهي إحدى هذه القضايا وإن كانت هي من أهمها. فكون أن عندنا في الدول العربية نصارى -مثلاً- مليوناً ونصف أو مليونين كما في لبنان والشام، أو حوالي أربعة ملايين في مصر، لكن بما في الإسلام من العدل والسماحة، جعلناهم يعيشون بيننا وضربنا عليهم الجزية، وهذا أيام الخلفاء الراشدين، وهو حكم فرضه الله في كتابه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحقوقهم، ومعاملتهم بالمعروف. وكون وجود هؤلاء الناس لا يبرر ولا يعني إطلاقاً أن نأتي نحن فنتخلى عن شرع الله عز وجل ونكفر بآيات الله؛ لأن من كفر أو من بدل شرعاً غير شرع الله وحكمه، فهذا ردة وكفر، وهذا اعتراض على كتاب الله، فمن أجل هؤلاء الذين هم وضع استثنائي لا يد لنا فيه، نغير شرع الله! الله عز وجل هو الذي شرعه ولو شرع الله عز وجل أن نمضي السيوف في رقابهم لكان أمضاه الخلفاء الراشدون ولم يترددوا، إنما الله هو الذي شرع لهم هذا الوضع الاستثنائي، فإما أن يبقوا عليه وإلا فالعهد منقوض، وقد نقضوه منذ أن تعاونوا مع كل أعداء الإسلام، في التاريخ الإسلامي الماضي فهؤلاء الناس إن أرادوا الحقوق التي نكفلها لهم -لأن الله أمرنا أن نكفلها لهم- فإننا نكفلها لهم، وإن أرادوا أن يتعدوا ذلك إلى أن نغير ديننا، ونكفر بالله عز وجل من أجلهم فهذا لايمكن أن يخطر على بال مسلم، وإلا فلماذا نطبق نحن علمانيتهم، وقد جاءوا بها إلى بلادنا ونحن الأكثرية وهم الأقلية؟! لأنهم ليس لديهم شرع نتحاكم إليه! فالقضية: قضية من الذي يملك شرع الله، فمن ملك شرع الله؛ فليحكم، ليضرب الرقاب بهذا الشرع، فمن ملك النور المبين؛ فليقاتل الناس عليه. هاتوا ما عندكم: إن كان هو الوحي الذي أنزله الله، فقاتلونا عليه فنحن نستحق الموت؛ لأننا مخالفون لأمر الله، وإن كانت الخرافات التي كتبتموها بأيديكم وقلتم هذا من عند الله، فمن حق من يملك وحي الله وكلمة الله المحفوظة أن يقاتلكم وأن يرغمكم إما على الإسلام، وإما أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون. ولا مجال أن نجعلهم مقابل الإسلام، ونكفر بالله عز وجل من أجل أن نرضي هؤلاء، لا يمكن هذا أبداً!

حقيقة الصوفية والتصوف

حقيقة الصوفية والتصوف Q من الذي يدعم التصوف، كما أعرف أن أمريكا واليهود خاصة والكفار عامة يدعمون التصوف، ويدرسون التصوف في بعض جامعاتهم ويسمونه الإسلام الحقيقي، هل هذا يدل على أن أمريكا واليهود آمنوا بالله عز وجل حق الإيمان؟ أم عرفوا أن هو حرب الإسلام عن طريق المسلمين الجهال، فلهذا دعموا التصوف بكل إمكاناتهم وقدراتهم؟ A السائل سأل وأجاب، وقضية دور أمريكا ودور اليهود والمستشرقين في دعم التصوف وفي فرق الباطنية، هذا شيء معروف، فقد حققوا الكتب وأنشئوا أقساماً للدراسات، واستماتوا في الدفاع عن الحلاج، كاستماتتهم في الطعن في عثمان ومعاوية رضي الله عنهما. وقضية موقفهم واضحة، وهذا عدوك فلا تتوقع من عدوك إلا أن يفعل هذا، ولو استطاع أن يفعل أكثر لفعل، ولكن ماذا فعلنا نحن؟ هل حاربنا الخرافة؟! كما ذكر استغلال جهال المسلمين، ما دام الجهل فاشياً والعقيدة الصحيحة غير موجودة عند المسلمين فهي مباحة لمن جاء من دجال وكذاب. الجديد في التصوف هو أنه أصبح جزءاً من الغزو الفكري الحديث، والتصوف كما قال أحمد الرفاعي، قبل أن تخلق أمريكا وغيرها، وأحمد الرفاعي مثله كثير: شاذلية، وقادرية، وتيجانية إلى آخرها. كان هناك قبل وجود أمريكا خرافات، وكان هناك شر وبلاء، لكن هذا الغزو الفكري قديم، دسه الزنادقة في الإسلام، فالآن أصبح التصوف جزءاً من الغزو الفكري الحديث، لماذا؟ لأن اتجاه الشباب عندما كانت العلمانية -كما في تركيا وغيرها من الدول- تطالب الناس بالكفر بالله عز وجل علناً، أي أن هذه من الخطورة ومن العداوة فظهر بسببها دعوات إسلامية، فقالوا: هذا لا يمكن، إذن الحل أن نأتي بشيء بديل منحرف، نأتي بـ الصوفية على أنها بديل للتدين الصحيح، ولنأتي بترقيعات في الاقتصاد، وترقيعات في التعليم، وترقيعات في السياسة ونقول هذا تطبيق للشريعة، حتى لا يطالب أحد بالعودة إلى الكتاب والسنة وأخذها كاملاً من جميع جوانبها وهكذا. فتحولت الصوفية من غزو قديم موروث إلى غزو حديث مدعوم ضمن المخطط الكافر الآثم الذي لا يزال يحارب الإسلام.

الصوفية الموجودة شرك وزندقة

الصوفية الموجودة شرك وزندقة Q هل الصوفية تشبه العلمانية، إذ أنها عقيدة ربانية ثابتة ولو كانت تميل إلى الانحراف، وفي نفس الوقت العلمانيون في معنى المفهوم العام اللادينيون، فأرجو التوضيح؟ A العلمانية تقول: لا علاقة للدين بالحياة، والصوفية -في واقع الحال- تقول: لا علاقة للدين بالحياة، فالالتقاء بينهما واضح، فلا يأتي اللبس في قضية إنسان زاهد متأثر أراد أن يترفع عن شهوات الدنيا، أو أن يعتزل سواء كان على سنة أم على بدعة، فنقول الصوفية هي هذه، ولا يدخل أو يشتبه أحد في كلامنا هذا، فإذا كان يراد الصوفية: الذين عندهم العقيدة وعندهم الإيمان، لكنهم منعزلون لا يحبون الدينا، ولا المال ولا المناصب، فهذه نعالجها داخل الصف الإسلامي نفسه، أما أولئك زنادقة التصوف الموجود عندهم الآن شرك وزندقة، فعندما نرى رأس الحسين يعبد في أكثر من موضع في العالم، ويتمسح به، فهل نقول: إن هذه عقيدة ربانية؟! أين العقيدة الربانية في هذا؟! عندما نجد أن هؤلاء يشرعون للإنسان حتى إباحة المحرمات، ونجدهم أنهم قد ارتكبوا أشد الموبقات كالزنى واللواط باسم العبادة، ويستحلون الغناء، بل إن الغناء هو مادتهم وهو قرآنهم والعياذ بالله! فأين الربانية في هذه حتى نقول: إن ما عندهم دين، إن كان عندهم دعوى أنهم على الإسلام، فقد كان عند أتباع الكنيسة دعوى أنهم على المسيحية، وهذه الدعوى ليس لها دليل والله عز وجل يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] ليس دعاوى ولا أماني. أما إن كانت فعلاً عندهم عقيدة وعندهم مجملات منها ولكن عندهم أخطاء وبدع وانحرافات فهذا ليس الذي نتكلم عنه، وهذا يشبه العلمانية من وجه، لكن لا نقول: هو الذي يدعمها، وهو الذي يشبهها تمام الشبه.

أعمالهم كسراب بقيعة

أعمالهم كسراب بقيعة Q ما رأيكم بمؤلفات الروائي الأمريكي آرنت همنجواي أمثال الشيخ والبحر، ووداعاً أيها السلاح من وجهة النظر الإسلامية، خاصة وأن هذه الكتب تقابل بإعجاب كبير، وأن مؤلفها نال جائزة نوبل للأدب، نرجو توضيح ذلك خاصة وأنكم عشتم مع العلمانية في صراع دام أربع سنوات؟ A همنجواي مثله كمثل أي عالم وأي إنسان غربي لا يؤمن بالله عز وجل، فالله عندما أنزل آدم عليه السلام إلى الأرض، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] المعيشة الضنك لمن لم يقبل شرع الله في أي زمان وفي أي مكان. فـ همنجواي، أو غيره، أو أي أحد ممن ضل عن هذا الدين فهو في شقاوة وضنك، فـ همنجواي نهايته أليمة حيث وجد منتحراً ببندقية صيد وضعها على دماغه وانتحر، وأعماله الروائية المشهورة تعبير عن قلقه، وأعظم رواية التي أخذ عليها جائزة نوبل هي رواية الشيخ والبحر رواية تافهة تباع بأربعة ريالات في أي مكتبة. مدار القصة أن رجلاً مسناً كبيراً ركب في البحر وكان يصارع الموج، فاصطاد سمكة كبيرة من أعماق المحيط، وكان يصارع الموج ويعود بجهد جهيد، ويأتي عليه الليل والنهار وهو ما نام ولا ارتاح، ثم يخرج إلى الشاطئ وهو مطمئن وهو يجر السمكة التي اصطادها فإذا هي عظام لا لحم فيها؛ لأن أسماك القرش أكلت اللحم كله. فمدلول هذه الرواية -حتى تأخذ جائزة نوبل - أنها تعبر عن الضياع، والله عز وجل قد ذكر الشقاء وذكر الخسران لمن ضل عن سبيله فهذه هي الخسارة، في الدنيا قبل الآخرة، فإنه يكتب عن الخسارة وأوروبا تعيش الخسارة، وكل خاسر فهو رائد في أوروبا لأنه يتكلم بشيء هي تعيشه، ويقولون: بأنه صور المعاناة الإنسانية والتجربة الإنسانية في أجلى مظاهرها، أن الإنسان يعيش ثمانين سنة يكدح ويجمع المال من حلال ومن حرام، وفي الأخير يموت ويتحول إلى عظام والرصيد في البنك، ما هي الفائدة؟! صور واقعهم الذي يعيشونه، فقالوا: هذا رجل عظيم، فأعطوه جائزة نوبل، ولذلك هو طبق هذه القصة وقتل نفسه، وكانت النهاية الخاسرة كما ذكرها في روايته.

واجبنا أمام العلمانية

واجبنا أمام العلمانية Q ما موقفي أنا الشاب المسلم أمام الأفكار العلمانية، وكيف أحاربها؟ A نعود إلى قضية الأساس وهي أن موقفنا تجاه هذه الأفكار هو أن نؤمن بالله عز وجل، وأن ندعو الناس إلى ذلك، وأن نفرح ونحمد الله، لو علمنا نعمة الوحي التي بين أيدينا لقدرناها حق التقدير، ولكنا فعلاً كما قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110]. تجربة بسيطة عشتها مع هذا الفكر وهي عن أناس يتخبطون في الجهل والوهم والظلمات، ما كنا نشعر بأن جيلنا هذا -مع أن القرآن بين أيديهم- يبحثون في قضايا منتهية بالنسبة لديننا، ويضيعون الأعمار والجهود بحثاً عن غاية هم يعيشون من أجلها، ولما انتشرت الصوفية الغربية نفسها كـ الماريشي وأمثاله، فإذا أردت أن تجتنب العلمانية بل أي فكر وأي ضلال؛ فعليك بكتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح. وأن نأتمر بأمر الله، وأن نجتنب نواهيه، وأ، ترتاح قلوبنا، بذكره عز وجل، وأن نقرأ القرآن ما أمكن، وأن نحضر مجالس الذكر، وأن نجتنب مجالس اللهو والمعصية، وأن نخالط الأطهار ونجتنب الفجار، فهذه كلها تحصن الإنسان من شياطين الإنس وشياطين الجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. إذا ربينا أنفسنا ونصحنا إخواننا وذوينا فإننا قد حصناهم ضد العلمانية، إن استطعنا أن ننصحهم ونوجههم بالأسلوب وبالإقناع العلمي، فهو أفضل فإنه قد تفشى في الأمة وصار إنكار المنكر هو المنكر، فلا بد أن نرد بأسلوب علمي ضد أي شبهة وهذا من التحصين ضده.

استيراد الأفكار العلمانية

استيراد الأفكار العلمانية Q ألا ترى أن كثيراًُ ممن تلقوا تعليمهم في أوروبا جاءوا يحملون الأفكار العلمانية ويريدون فرضها على المجتمع الذي يعيشون فيه؟ A لا أريد أن ندخل الآراء في القضايا، فإن الآراء تتضارب وتختلف، ولكن أقول: نحن عندنا الوحي: القرآن والسنة، اسأل: ما حكم السفر إلى بلاد المشركين؟ هذه قضية شرعية: اسأل عنها أي شخص تثق في دينه فهو سيخبرك، فهذه قضية شرعية ولا بد أن تكون جميع القضايا مرتبطة بالشرع. فانظر إلىحكم الله تعالى في هذه المسألة، وحكم الله في هذه القضية معروف، فمهما بلغ الحال من العلمانية في ديار المسلمين إلا أنك تستطيع أن تصلي وتسمع الأذان، وتقرأ القرآن، ولا ترى دور عراة، فهذه نعمة، فالسفر منها إلى بلد فيه الفحشاء والبذائيات والبلايا هذا لا يفعله مسلم إلا في حالات الضرورة، أما مجرد شهادة، ومجرد أشياء دنيوية فهذه أنا لا أقطع فيها حقيقة، ولكن أي عالم تثق في دينه، اشرح له وضعك واسأله. وإذا كانت الأمة منحرفة، ثم ذهب الشاب ولم يرجع إلا بانحراف فيزداد الانحراف انحرافاً، لكن مع ذلك يجب علينا أن نظل على الحق، وأن ندعو إليه، لو أقمنا حكم الله في حكم الابتعاث لأمكننا أن نحد من هذا الشر إن لم نجتثه.

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم Q أجريت عملية في أمريكا بتبديل قلب بنت بقلب قرد، هل يريدون بذلك دعم نظرياتهم أن الإنسان أصله قرد؟ وما رأيك في من يقول: إن الإنسان حيوان ناطق؟ A البنت ماتت بعد أسبوعين، وقضية إثبات نظريتهم هذه لا ندري، ونحن لا نفترض في الكفار إلا الشر، ولا نؤول كل شيء يفعلوه أنهم يريدون به كذا، وما يراد به كذا، ولكن العملية هي عملية طبية عادية. يوجد دكتور في جدة سعودي يعمل مثل هذه العمليات، فلا نقول: إن العملية عملت من أجل كذا. لكن هل هناك إيحاء بهذا الشيء؟ نعم، وليس هناك غرابة. فليس هناك غريب فإن هذا من عمل الطبيب، فهو يُشَرِّح جثة مقابل جثة، فلا يتدخل هو بالروحانيات، فتأخذ أنت منه ما هو الأصلح لك. وقضية من يقول: إن الإنسان حيوان ناطق: هذه القضية مرفوضة، وهي من علم المنطق، المنطق كله مرفوض كمبدأ، لكن بعد أن دخل المنطق في بعض العلوم واستفادت منه في بعض الأشياء -ولا أريد أن أتكلم عن المنطق بذاته- أقول: القضية قيلت، وأصل المنطق وضعه رجل يوناني، ويمكن أن يضع الفكر كما تصوره، فلا تجعل موضوع الكلمة هو المشكلة، لكن نحن نقول: لا تليق بنا هذه الكلمة، وقد نقول: الإنسان حي ناطق، وكلمة (حيوان) معناها: الحي، إذا قالوا: معناها الحي، نقول: حي ناطق. وما وُضع المنطق إلا من أجل التعريف، فهل تُعِّرف الإنسان، وتعلم ولدك وطفلك تعريف الإنسان، وهل يوجد أحد يجهل الإنسان؟! والمنطق إنما وضع مقابل فكر خطأ ينكر الموجود المحسوس، فأتى المناطقة وقالوا: نحن نرد عليهم بإثبات المحسوس. فالمنطق جاء رداً على السفسطة، وليس لنا علاقة بهذا، نحن عندنا شهادة أن لا إله إلا الله فلا ندخل بهذه البلايا والمصائب، فتجد أصحاب الفكر الأوروبي رفضوا المنطق رفضاً مطلقاً، ونحن مازلنا نجعله -ولسنا نجعله من فروض العلم- لكن نجعله من أصل العقيدة والدين، هذا هو العجيب! فهذه الكلمة جزء من بحر مرفوض عندنا بالكلية.

ولاية الفرق الكافرة لبعضها

ولاية الفرق الكافرة لبعضها Q هل توجد علاقة بين العلمانية والماسونية، وإن وجدت فما العلاقة بينهما؟ وما العامل المشترك بينهما؟ A العلاقة موجودة، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]. الكفار دائماً بينهم علاقة، والمسلم لا بد أن يعلم أن كل كافِرَين على وجه الأرض فبينهما علاقة بالنسبة لك، ولو اختارا أن يقتتلا أو يتحاربا لاتفقا أولاً على حربك، ثم يتحاربان بينهما، هذه قضية. والماسونية: هي حركة هدامة داخل المجتمع الأوروبي تسعى لهدمه، وهي تهدف إلى هدم الأديان والبشرية جميعاً لمصلحة اليهود، فكل من يدعو إلى العلمانية: فهو يدعو إلى هدم الدين. إذن: فهو يسهم بالنصيب الأكبر في تحقيق أهداف الماسونية، والماسونية باعتبارها حركة سرية لا تقوم بالعلن، فلها عمل خاص سري لا يمكنني أن أتكلم عنها كمبدأ ولكن كأثر فإن أثرها يتفق مع هذه الفكرة الهدامة. فلا يمكن أن ينضم إلى الماسونية رجل مؤمن؛ لأنه أول ما يبدأ يخلع إيمانه ودينه عند العتبة قبل دخوله الماسونية. فالتوافق موجود بين هذه الملل والنحل جميعاً، فهم متفقون على قضية واحدة وهي أنهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.

الاحتفال بالمولد النبوي بدعة العبيديين

الاحتفال بالمولد النبوي بدعة العبيديين Q هل الاحتفال بالمولد النبوي يؤدي إلى العلمانية؟ كيف هذا؟ A الاحتفال بالمولد أحدثه العبيديون ويدخل فيهم المتصوفة وهو شراك المصيدة، ولا يجوز أن تذهب وتأكل من اللحم والرز، ثم تقول: اللهم صلِّ على محمد، فلم يرد هذا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أصحابه من بعده. فقضية الدخول في عملية المولد هي عملية جديدة ترضي العقل وتترك السنة، فإنه بداية الانحراف وهو من هذا الشراك، فإنه أولاً يدخل دخولاً عادياً ثم يدخل إلى الحضرة، ثم يرى روح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، ثم في اليقظة، ثم يصل إلى مرتبة اليقين، ثم يتكلم من تحت العرش، وترفع عنه الصلوات الخمس، من أين أتى هذا؟! من تلك الليلة التي تعشى وصلى على محمد، فذكره الله! من هذه الليلة بدأ الانحراف، لا نتوقع أن أحداً يأتي ويقول لنا: اكفروا بالله، ولو جاء شيعي فقال: الصحابة كفار، والقرآن كذا، فلا أحد يصدقه، ولكن يقول لك: أحب علياً، ثم أحب الحسن، والحسين ثم فاطمة، ثم تكون نصيرياً، ثم تكون أركان الإسلام الخمسة هي علي والحسن والحسين وفاطمة، فهؤلاء كذلك يقولون: أنت تحب الرسول؟ تقول: نعم، فيقولون: تَعشَّ معنا الليلة وصل على رسول الله، هذه هي البداية، ومنها يستمر إلى أن ينتقل إلى منهج آخر، فبداية المعاصي هكذا، أسأل الله أن يجنبنا المعاصي والبدع.

دور المرأة في بناء المجتمع

دور المرأة في بناء المجتمع إن للمرأة دورها الهام والخطير في بناء المجتمع المسلم، فهي حاضنة الأجيال ومنشئة الأبطال، ولقد كرم الإسلام المرأة، وأعطاها من الحقوق والميزات ما لم تتحصل عليه في شريعة من الشرائع، ولا أمة من الأمم. وعلى قدر صلاح المرأة تصلح المجتمعات، ولقد أدرك المفسدون من اليهود والعلمانيين خطورة دور المرأة فأجلبوا عليها بقضهم وقضيضهم ليخرجوها من خدرها، وليهتكوا عنها سترها، مستهدفين بذلك إفساد دين الأمة، وتقويض دعائم المجتمع المسلم.

قضية المرأة

قضية المرأة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أتوجه إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالدعاء أن يجعل هذا الدرس في ميزان أعمالنا يوم نلقاه، وأن يثيبنا عليه بخير الثواب، وأن يكتب لنا أجر ما نقول وما نعمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، إنه على ما يشاء قدير. إن مما يجب علينا أن نعلمه: أن أعداء الله يخططون ليل نهار للقضاء على هذا الدين، ويسعون لإطفاء نور الله بأفواههم، ويجتهدون ويدأبون من أجل أن يبذروا في هذه الأمة بذور الشر والخلاف والفرقة؛ ليبعدوها عن الصراط المستقيم، وليمزقوها وليدمروا فيها القلوب والعقول؛ لكي تصبح الأمة الإسلامية أمةً ذليلةً منقادةً لشهواتها، فيقودونها كما تقاد الدابة من شهواتها إلى ما يريدون، وكما خطط لها الأعداء المتربصون بالإنسانية جميعاً. هذه قضية يجب أن نعلمها، وأن نعدَّ العدة لنقاوم هؤلاء الأعداء، ونعلم مداخلهم التي منها يدخلون إلى مجتمعنا ليخربوه. إن موضوع المرأة لمن أعظم ما ينبغي أن نعلمه وأن نعرفه.

قضية المرأة بين الماضي والحاضر

قضية المرأة بين الماضي والحاضر كانت القضية المتعلقة بالمرأة فيما مضى من العصور، قضية آداب وأخلاق وحياء، وهي قضية من قضايا الإيمان الواجب؛ بمعنى: أنه عندما كان العلماء والخطباء والوعاظ يتحدثون عما نسميه نحن اليوم موضوع المرأة- ولم يكن بهذا الاسم- كانوا يتحدثون من أجل الآداب والأخلاق في المجتمع المسلم، لكي لا تنتهك ولتبقى متماسكة. ولكن الذي حصل في هذا الزمان، أن القضية لم تعد بهذه المثابة فحسب، وإنما هي قضية دين أو لا دين، بمعنى: هل نتبع القرآن كلام الله عز وجل ونتبع هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أم نتبع ما عليه اليهود والنصارى، ونقول: إن ما جاء به القرآن قد عفا عليه الزمن ومضى وانتهى؟ فالقضية ليست قضية خلل في الأعمال، أعمال الإيمان، إنما هي خلل في أصل الإيمان، فقضيتنا قضية إيمان وعقيدة، وإن كانت في ظاهرها قضية اجتماعية؛ فالفتاة التي تتحجب في هذا الزمن، تتحجب عن إيمان ودين واعتقاد بأنها تطيع الله عز وجل وهذا هو الحق وأن ما عداه هو الباطل، لا ينظر إليه ولا يؤبه له. وأما التي تتهتك، أو من يكتبون دعوات التهتك والتبرج والسفور، فإنهم -جميعاً- يقولون بلسان المقال أو بلسان الحال: إن هذا الدين قد استنفد أغراضه وقد عفا عليه الزمن، وقد ذهب إلى غير رجعة، وإنما الأمر اليوم أمر متابعة الغرب، وتقليد تلك المجتمعات المتطورة المتقدمة. وكون القضية بهذا الشكل يجعلها أخطر مما يظن بعض المربين أو بعض الآباء أو الأمهات، عندما يظنون أن البنت وإن تحررت وإن تهتكت أو تبرجت، فإنها سرعان ما تعود بعد حين كما كانت النساء من قبل، فالفتاة قبل سن النضج ربما فعلت شيئاً من ذلك، ولكنها سرعان ما تعود. والحقيقة أن الأمر بخلاف ذلك؛ لأن الأمر -الآن- موجه توجيهاً فكرياً يقصد به تحطيم هذه الأمة بتحطيم القاعدة الأساسية التي هي منبع التربية، والتي لا تكون العقيدة والأخلاق والفضيلة إلا من نبعها لأنها هي الأم، وإن مما يثيرونه ويبلبلون به أفكار الشباب قولهم: إن المرأة المسلمة ممتهنة أو مظلومة أو عاطلة عن العمل، وما أشبه ذلك من الدعاوى التي نراها على صفحات الجرائد والمجلات، وفي المحافل وفي كل مكان يستطيعون فيه أن يقولوا أمثال هذا الكلام. فماذا يريدون به؟ أيريدون إنصاف المرأة؟! أيريدون أن يرفعوا عنها الحيف والخوف؟! أيريدون أن ينزلوها المنزلة التي تليق بها؟! فلننظر إلى حال المرأة في ظل هذا الدين، وإلى حالها في ظل غيره.

مكانة المرأة عبر التاريخ

مكانة المرأة عبر التاريخ لسنا بحاجة إلى أن نستعرض قضية المرأة عبر التاريخ، ولكن يكفي أن نعلم أنه إلى القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا كان من حق الرجل أن يبيع زوجته، وقد حصل ذلك، ولم تكن المرأة تملك شيئاً حتى القرن العشرين، وإلى هذه اللحظة لا تزال دول أوروبية معروفة إلى اليوم بأنها لا تعطي المرأة حق الانتخابات، فهي ليست محسوبة من ضمن الشعب الذي يحق له أن ينتخب، وإلى هذه اللحظة لا تملك المرأة أن تستقل باسمها، وإنما بمجرد أن تتزوج أي زوج فإنها تصبح تابعة له بالاسم، وفي كثير من الدول لا يحق للمرأة أن تتملك شيئاً أبداً، فضلاً عن أنهم كانوا على حال أشد من ذلك فيما هو ثابت في نظرياتهم الفلسفية منذ عهد اليونان، فقد كان فلاسفة اليونان يكتبون -وكتاباتهم موجودة إلى اليوم- ويتساءلون هل المرأة إنسان أم لا؟! وهل للمرأة روح أم ليس لها روح؟! أما رهبان الكنيسة فحدث ولا حرج، فقد كانوا يرون أنها شيطان رجيم، وأنها منبع الخطيئة، ومصدر الشر، وأن من خطرت في قلبه صورة امرأة أو تعلق بها أو اشتهاها، فإنه قد يطرد من ملكوت الله؛ لأنه بذلك يفكر في الدنس والخطيئة، وذلك بسبب ما قررته التوراة المحرفة -كما في سفر التكوين عن قصة آدم وحواء عليهما السلام- من أن المرأة هي التي أغرت الرجل بأن يأكل من الشجرة. ومن المعلوم أن مسألة الخطيئة -بالنسبة لنا نحن المسلمين- مسألة عادية مثلها مثل أي ذنب، حيث أن آدم عبد من العبيد أخطأ وأذنب ثم تاب، كما قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122] فآدم عليه السلام اقترف معصية ثم أعقبتها توبة، وعَقِبَ التوبة حَصَلَ الاجتباءُ من الله تبارك وتعالى وانتهى الأمر. ولو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أتاه العبد بقراب الأرض خطايا، ثم استغفره، لغفر له، لكنها في ذهن النصارى تختلف تماماً، لأنهم يقولون: إن المسيح عليه السلام هو ابن الله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وأن الله ضحى بابنه ليصلب من أجل أن يخلص الإنسانية من خطيئة الأكل من الشجرة، فالخطيئة عندهم من صلب العقيدة، والمرأة هي التي أوقعت الإنسانية في الخطيئة، وتركتها في هذا الدنس إلى الأبد! هذا أحد الأسباب التي تجعلهم ينتقصون المرأة، وليست امرأة واحدة بل نوع الأنثى بكامله، فأينما وجدت المرأة بأي اسم وبأي شكل فإنها ممقوتة، وهي مصدر الشر ومصدر اللعنة على البشرية، لأنها هي التي أدت إلى هذا الجرم العظيم. وبالرغم من أن هذا المعتقد زال نظرياً إلى حدٍ ما، نظراً لتحول أوروبا من النصرانية إلى العلمانية اللادينية، ولكن بقاياه النفسية ونظرته الاجتماعية لا تزال باقية، بل -كما أشرت من قبل- أن له بقايا في النواحي التنظيمية والقانونية أيضاً؛ لأن الإنسانية أو المجتمعات بأكملها تشبه الأفراد، ومن الصعب على الفرد مهما تقدم في العمر، ومهما ازداد من الثقافة أن ينسى ما كان في أيام طفولته من أحداث ووقائع ارتبطت بأمور معينة، ولذلك يصعب إلى اليوم أن نقتلع من أذهان الغربيين ما استقر فيها عن وضاعة المرأة. ولهذا قامت في الغرب الحركة النسائية وتزعمتها عدة فئات منها هدامون يعملون في الظلام، وهدفهم تحطيم هذه الإنسانية بتحطيم الدين النصراني، وهؤلاء هم أتباع التلمود من اليهود، والذين يريدون أن يدمروا أديان البشرية جمعاء، ولا سيما أعدى أعدائهم وهم النصارى؛ المسيح وأتباعه، كما ينص عليه التلمود. والآخرون أرباب شهوات، يريدون أن يتمتعوا ويستلذوا بخروج المرأة وبتبرجها وتهتكها، وللشهوة عندهم معنى غير معناها عندنا نحن المسلمين، وكل النفوس البشرية تشتهي المرأة، وكل رجل يشتهي الأنثى، فطرة كتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك وخلقه وقدره في كل فطرة. إن الميل من الذكر إلى الأنثى أمر طبيعي في بني الإنسان، لكن هذا الميل عند الغربيين يأخذ شكلاً آخر، وهو الشكل المحرم والممنوع والمحظور والمدنس حتى وإن حصل عليه؛ ولذلك فإن الأمم الأخرى -جميعاً- وليس المسلمون فقط، إذا احتاج الواحد منهم إلى الزواج تزوج، فإذا تزوج شعر أنه قضى وطره وانتهى الأمر، إلا الغربيين من النصارى أو من اتبعهم من رهبان البوذيين؛ لأنهم ينظرون إليها نظرة الدنس والاحتقار والخطيئة، فحتى وإن تزوج، فإنه كان يُنْظَر إليه -في العصور الوسطى على الأقل- أنه اقترف الدون، وفعل غير الصواب الذي هو أقل درجة، وإن لم ينظر إليه على أنه أخطأ خطأً محضاً، لكنه لم يأت بالأولى والأفضل، وهو أن يكون كالمسيح عليه السلام الذي ذكر أن الرهبان هم خصيان الملكوت، الذين يدخلون الجنة؛ لأنهم خصوا أنفسهم عن هذا العالم، كما تنسب إليه الأناجيل المحرفة ورسائل بولس. إذاًَ: عند الغربيين وإن تزوج وتمتع بالمرأة بأي شكل من أشكال التمتع حلالاً أو حراماً، وإن تهتك وابتذل وأَسَفْ حتى أصبح كالبهيمة فإن هذا السعار لا يخبو؛ لأن لهذا السعار عمقاً نفسياً آخر، وهو أنه يريد أن يعوض ما استشعره في قرون طويلة تجاه هذه الشهوة وهذه اللذة، فهو يعض ويعض، ومع ذلك يستشعر في نفسه أنه لم يستكمل لذته بعد، لأنه يعوض ما افتقده في القرون الماضية. ومن المعلوم أن الغرب لم ينظم حياته -أصلاً- وفق القوانين الحديثة إلا بعد أن وضع أول قانون في أوروبا في القرن التاسع عشر عام (1804م)، وهو قانون نابليون، ثم بعد ذلك أخذت بقية الدول تشرع القوانين وتضع الأنظمة. وفي ذلك الوقت وضعت وشرعت القوانين التي تنظر إلى المرأة نظرة إجحاف وكأنها من سقط المتاع، إلا أن أولئك الهدامين أخذوا ينشرون هذه الأفكار بغرض إثارة المجتمع بعضه على بعض، لغرض التجارة المحرمة؛ لأن كثيراً منهم كانوا يتاجرون في هذه المتع المحرمة، ولا سيما اليهود، وهذا أمر معروف عنهم إلى اليوم، فهم ملوك البغاء في الأرض -كما يقال- لأنهم يتاجرون بالعرض، وهم -أيضاً- ملوك التجارة والمال، فيهمهم أن يتاجروا بجسد المرأة، وأن يعرضوا كل سلعة من السلع على جسد المرأة، فيمتهنونها بهذا الامتهان لكي يروجوا لبضائعهم، فإن كانت المرأة يهودية، فإنهم يحتسبون ذلك لها، كما احتسبوه لـ إستير تلك التي جعلوا لها سفراً في التوراة، وذلك عندما أسر اليهود إلى بابل، في بلاد الفرس، فأقامت تلك الداعرة الفاجرة العلاقة مع ملك الفرس، واستطاعت أن تحرر شعبها بتلك العلاقة نتيجة إغرائها لملك الفرس بحمالها، وسطَّروا ذلك في التوراة، وجعلوا لها سفراً فيها، ويقولون: إن كانت المرأة يهودية وخدمت مصالح اليهود ولو بعرضها فهذا يحتسب لها، وإن كانت نصرانية أو أممية من الأمميين، فهؤلاء كالحيوان بل أحط من ذلك، فلا نظر ولا اعتبار لأعراضهم ولا لما هو مقدس عندهم. ولكن من المؤلم أن تنقل هذه الصورة بحذافيرها إلى المجتمعات الإسلامية، وينقلها دعاة الضلالة وهم {دعاة على أبواب جهنم فمن أجابهم إليها قذفوه فيها} كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قوم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا فهم ينقلون تلك الآفات والأدواء والعلل إلى هذه البلاد الإسلامية، ونحن لا ننكر أن المرأة في بعض البلاد الإسلامية، وفي بعض البيوت قد تظلم، ويحاف ويجار عليها، ولكن كل ما يقع من ذلك، فهو انحراف عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعن كتاب الله الذي رفع الله به الإنسانية جمعاء، وجعله رحمة للعالمين، وليس ذلك -فقط- للمسلمين؛ بل رحم الله به الأقباط، ورحم الله به نصارى الشام، ورحم الله به نصارى بيزنطة، ورحم الله به أمماً في الهند والصين كانت مسحوقة مركولة، يستعبدها الكبراء والطواغيت من دون الله، ورحم الله من لم يسلم منهم بأن يدفعوا الجزية ويتحرروا من الطواغيت، ويعيشوا عيشة الإنسان في ظل الدولة الإسلامية، فضلاً عمن أسلم منهم. يريدون أن ينقلوها إلى هذا المجتمع الذي يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] فجعل الله تبارك وتعالى الحياة الطيبة -وهي الحياة في الدنيا- لمن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى، فالرجل والمرأة كل منهما مكلف بعبادة الله، ومأمور بطاعة الله، ومسئول بين يدي الله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها}. فهذه المرأة التي كانت في الجاهلية توأد، وكانت تباع في بلاد الروم والإغريق ولا قيمة لها، فيأتي هذا الدين -دين الرحمة- فيجعلها في تلك المنزلة، ويجعل من المرأة العربية التي لم تكن شيئاً مذكوراً، والتي كانت تورث كما يورث المتاع، فجعل منهن النساء العالمات، كأمهات المؤمنين -رضي الله تعالى عنهن- وكأولئك الصحابيات، والنساء الطاهرات، الذي لم يشهد تأريخ الإنسانية -قط- أمثالهن في الطهارة والعفة، أولئك اللاتي نزلت آية الحجاب فأصبحن كالغربان، أولئك اللاتي كنَّ المثل الأعلى لنساء البشر جميعاً في حسن الخلق وفي بر الزوج وطاعته، وفي بر الوالدين، وفي تربية الأبناء على الخلق القويم، وفي كل فضيلة من الفضائل، وبقي هذا الإرث لنا، وبقيت هذه الأحكام ملزمة لنا نحن المسلمين. وهذا كتاب ربنا بين أيدينا، وهو أوضح وأجلى من أن يقال أو يتحدث فيه، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فمما هو أقوم أن تأخذ أحكام الله في الطلاق، وفي موضوع المرأة والحجاب، وفي كل شيء.

دعاة تحرير المرأة

دعاة تحرير المرأة لما نقل دعاة تحرير المرأة هذه القضية إلينا -كما قلت- لم ينقلوها على أنها قضية مظلوم يُنتَصَرُ له، بل نقلت على أنها قضية امرأة مقابل رجل، وقضية ذكر مقابل أنثى؛ وهكذا استطاعوا أن يمزقوا المجتمع وأن يوجدوا هذه الفرقة بينه ليتمزق، فأي مكان للرجل فيه موضع قدم قيل: وأين مكان المرأة؟! وقيل للمرأة: وأين دورك؟! وأي مكان للمرأة، يقال للرجل: لماذا يترك المكان للنساء فقط؟ وهكذا حتى تتناحر المجتمعات، والمجتمعات الغربية من المعلوم أنها مجتمعات متفككة لا روابط فيها، فإذا بلغت الفتاة الثامنة عشرة تطرد من بيت أهلها، وتعيش كما تشاء وأينما تشاء مع من تشاء، وكذلك الحال مع الشاب من الذكور، وومن هنا فإن كل جماعة وفئة في المجتمع تحتاج إلى تكتل تنظم تحت لوائه لتنتصر إذا ظلمت من قبل الآخرين، ولذا نجد العمال لهم تكتلات مقابل أصحاب رءوس الأموال، والطلاب لهم تكتلات مقابل الجامعات، النساء أيضاً لابد أن يتكتلن وإلا ضِعْنَ، فتتكتل النساء ويجتمعن وينشئن الجمعيات. لأن المرأة إن لم تكن في جمعية فلن تجد من يطالب بحقها؛ لأنها ستكون ضائعة في حكم القانون!! فلا بد أن تتكتل، ومن هنا تكونت الحركات والجمعيات النسائية وما أشبه ذلك. وجاءوا إلينا -نحن- في بلاد الإسلام وهي البلاد التي لا تعرف هذه الفرقة -أصلاً- والتي يجب فيها على المجتمع ككل ألا تضيع فيه امرأة، ولا طفل، ولا إنسان، فإن لم يكن لها أب أو أخ يحميها، فلا بد أن يتولى القاضي الوصايةَ عليها، أو يقيمَ وصياً عليها أو يزوجها أو ينفق عليها أو يحفظها في دور للرعاية، فهي مصونة مكفولة، ويكفي أن تذهب إلى القاضي، وتقول: إنني لا عائل ولا محرم لي، وعندئذٍ تصبح في كفالة ولي الأمر، وحق عليه أن يفعل ذلك. وهذا لا يوجد -أصلاً- في أي نظام من الأنظمة، فمثلاً: الشيوعية تحاول أن تدعي شيئاً من ذلك، ولكن لا وجود له. أما المجتمعات الإسلامية فإن الرجل قد لا يبالي لو ضاع منه عشرة أبناء، ولكن لو فقدت منه ابنته يوماً واحداً، لاسوَّدت الدنيا في عينيه ولكأنها قامت القيامة. ثم يؤتى إلى هذا المجتمع ويقال للمرأة فيه: تكتلي أيتها المرأة، طالبي بحقك، اخرجي، لماذا الرجال لديهم المناصب والجامعات؟! لماذا لديهم الوظائف الفلانية؟! فأصبحت القضية قضية رجل وامرأة. ولو نظرنا إلى مطالبة المرأة لحقوقها في الغرب -كما أشرت- فلا يوجد من تطالبه؛ لأنه ليس لها روابط، فلتطالب بحقوقها في هذه الحالة، أما في المجتمع المسلم، فإن الزوجة تطالب زوجها، والأخت تطالب أخاها، والأم تطالب ابنها، ثم تأتي كاتبة في جريدة تقول: لتنتصف لأمي مني، أو لزوجتي مني! فلنفرض أن امرأة تعمل، ثم إن مديرها ظلمها، هل يمكن أن يقال: إن مديرها ظلمها، لأنه ذكر وهي أنثى؟! إن هذا لا يخطر إلا على عقول المجانين، فالمسألة ليست كذلك، فهو قد يظلمها، والظلم الإداري قد يقع على الرجل أو على المرأة؛ ولو وقع الظلم، فإن الذي ينتصف لها هو رجل آخر كالأخ، أو الزوج، أو الأب. وهناك مثال آخر وهو: أن رجلاً تزوج زوجتين، فظلم الأولى منهما -كما يحدث غالباً-فيقولون: الرجل ظالم! ولو تأملنا من هو الظالم؟ هل هو الرجل أم الزوجة الثانية؟ لعلمنا أن القضية ليست قضية رجل فقط، ولكن القضية أن الظلم من شيم النفوس، كما يقول المتنبي: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لم يظلم نحن نقول: إن لم يوجد التقوى فلا بد من الظلم؛ لأن الذي يحجز الإنسان عن الظلم هو التقوى، ولن يحجزه عنها كاتب في جريدة.

محاولة إفساد المرأة

محاولة إفساد المرأة أثيرت قضية المرأة كما أشرت بغرض الإفساد وللإفساد فقط، ولهذا يأتون إلى أحكام قطعية مما يتعلق بالمرأة، كحكم خروجها من البيت لغير حاجة ولا ضرورة، فيجعلونه على أحسن الأحوال -إن لم يطالبوا بالخروج- موضع تساؤل ونقاش فيقال: ما رأيكم؟ هل ترون أن المرأة تخرج أو لا تخرج؟ وهكذا. وكأننا كالغرب الأمة الضائعة التي لا تسنُّ فيها القوانين إلا عن طريق استطلاع الآراء العامة. فيأتون إلى الناس في مسألة تعدد الزوجات -مثلاً- ويجرون مقابلة مع رياضي، أو مع فلاح، أو مع رجل كبير في السن يحدثهم عما قبل خمسين أو سبعين سنة، فيقال لهم: ما رأيكم في تعدد الزوجات؟ وربما يجعلون العنوان الرئيسي (فلان تزوج اثنتين) أو (لم أتزوج إلا واحدة) ومن العجب أن يكون هذا عنوان عريض في بلد الإسلام، وما الغرابة في أن يتزوج الرجل اثنتين أو ثلاثاً أو واحدةً، ولكن لأن لهذا الأمر أهميته في الغرب أتوا به إلينا. وهذه القضية كثيراً ما تثار، وليس في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يحرِّم أن يتزوج الرجل من زوجتين أو أكثر، أقصد بدين الله الذي أنزله على أنبيائه ورسله، وليس فقط دين الإسلام؛ فإن دين الأنبياء جميعهم في التوحيد واحد، ولكن الشرائع تختلف. وأما مسألة تعدد الزوجات فكانت موجودة حتى في الشرائع السابقة، فهي موجودة في التوراة، فقد ذكر في التوراة أنه كان لدى سليمان -عليه السلام- سبعمائة امرأة، والمسيح عليه السلام لم يتزوج، ولكن لأنه كثيراً من الأنبياء جمعوا بين زوجتين فأكثر فإن ذلك يدل على وجود التعدد في الشرائع كلها، بل إن مما يتعجب له، أن الكنيسة الباباوية - الكاثوليكية - قالت: لم لا نتراجع عن النظر إلى الزواج في إفريقيا بالذات؟ لأن الأفارقة -بطبيعتهم- يحبون التعدد؛ فإذا علموا أننا نحرم التعدد، لم يدخلوا في النصرانية!!! فنقول: إن كان هذا من دين الله الذي أنزل، فلماذا تجانبون شرع الله؟ وإن كان هذا مما لم يشرعه الله، فيجب عليكم ألا تفعلوا؛ وذلك لأنهم ليس لديهم قاعدة مطردة في هذا، إنما يشرعون من عند أنفسهم لمصلحة الشهوة والهوى. فأتوا إلى المجتمعات الإسلامية -كما قلت- وأفسدوها بالمجلات النسائية التي لا تتحدث إلا عن هذه القضية، وأفسدوها بالأفلام، وتجد أن المرأة لها دور أساسي من أول المسلسل إلى آخره، والغالب -كما يلاحظ- في المسلسلات أن موضوعها واحد ومكرر، فيجعلون لكل رجل امرأتين: إحداهما زوجة، والأخرى عشيقة، وفي الأخير تنتصر العشيقة دائمة، ويقولون: لو وضعوها زوجتين لما نجح الفيلم، ولا المسلسل، ولم يستقم الموضوع، فلا بد أن يوضعوا حلال وحرام، وفي النهاية ينتصر الحرام. فهناك تخطيط، وإفساد متعمد، منذ أن جاءت حملة نابليون إلى العالم الإسلامي، وجاءت ببغاياها ورفعت شأن البغايا اللاتي كن موجودات ومروراً بالنوادي والصالونات إلى ثورة سعد زغلول عام (1919م)، وخروج المرأة وقولهم: إنها تحررت، إلى الجمعيات التي أنشئت، والأحزاب النسائية التي أسست. وقد نشر هذا مؤخراً مع كثير من الوثائق، بأن حزب فتاة النيل، وحزب آخر من الأحزاب النسائية في مصر، كانت تشرف عليها وتمولها زوجة الرئيس الأمريكي روزفلت، وأما هدى شعراوي، وسيزا نبراوي ونظيراتهن، فهن من أعضاء الاتحاد العالمي النسائي، الذي كان يخطط لإفساد المرأة المسلمة -ولا يزال إلى الآن- ولن نتكلم أكثر من هذا، لأنها بمثابة كلمة للمداولة والمناقشة في كيفية مواجهة هذا الغزو وهذه الهجمات الخبيثة التي اقتحمت علينا بيوتنا، والتي لا يصح بأي حال من الأحوال أن نَغَضَّ الطرفَ عنها، وندفن رءوسنا في الرمال؛ ولأنها قضية يجب أن يكون لكل أب وأخ، ولكل مسلم ومسلمة موقِفُهُ، منها الذي يَصدق فيه مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والذي يعمَل فيه جاهداً من أجل أن يحق الحق الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبطل الباطل الذي يريد أولئك أن يروجوه.

الأسئلة

الأسئلة

دور الشباب في إيجاد المرأة المسلمة

دور الشباب في إيجاد المرأة المسلمة Q ما هو دورنا نحن الشباب في إيجاد المرأة المسلمة التي تقوم بدورها في بناء المجتمع؟ A دور الشباب أن يتزوجوا الفتاة الصالحة، ويكوِّنوا الأسرة الصالحة، وأن يقوموا بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في بيوتهم، وفي حدود ما يستطيعون من إيصال الحق إلى المرأة. وقد هيأ الله لنا من وسائل إيصال الحق إلى كل بيت ما لم يكن فيما مضى، فلنجعل للمرأة جزءاً من اهتماماتنا وندعوهن إلى الله، وكما قلت وأكرر: لا انفصام -أصلاً- بين المرأة والرجل، ولا بين الذكر والأنثى، وإنما ندعوهن إلى الله بالوسائل الشرعية المعروفة، وفي حدود ما نستطيع من هذه الوسائل. ويجب علينا أن ننشر الوعي في مدارسهن وأقسامهن في الجامعات، عن طريق الكتاب أو الأشرطة أو المحاضرات، حتى يعرفن أن لهن دوراً عظيماً يجب عليهنَّ أن يحققنه.

حكم كشف الوجه للمرأة

حكم كشف الوجه للمرأة Q هل كشف الوجه واليدين في المرأة من الحجاب الإسلامي؟ A إنني لن أحدثكم عن كشف الوجه واليدين بسرد الأدلة من الكتاب والسنة، وإنما سوف أناقشكم أو أسألكم بأمر، تعرفون من خلاله الحكم في ذلك، ولا سيما وأنتم تعرفون أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما شرع هذا الدين -وبالذات الأحكام والآداب- من أجل الطهارة، والتزكية للنفوس والقلوب. فنسأل ونقول: ما هو الشيء الذي يتغزل فيه الشعراء ويتغنى به المجَّان من المرأة؟ أهو وجهها أم أقدامها؟! ومن نظر إلى دواوين الشعر من الجاهلية إلى الإسلام -وحتى هذا العصر- فسيجد القصائد الغزلية -كما تسمى- وأحياناًَ كل قصيدة، كما قال المتنبي: فهل كل من قال المديح متيم ومن أي قصيدة حتى في المديح فسيجد فيها عشرة أبيات -على الأقل- في المرأة، وفي وصف العينين والخد، وأحياناً في وصف الخصر والرجلين، لكن الأصل في القصيدة هو وصف الوجه؛ لأنه محط النظر، ولذلك تجد اللقطات الخبيثة الفاجرة، التي يأتي بها هؤلاء الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فيعرضونها في الأفلام وفي المجلات، ولكن الذي يهمهم أن يبرزوه وأن يفتنوا به الناس هو الوجه، ولا نقصد -بطبيعة الحال- العورة، لكن نقصد الشعر والعيون والشفتين والأنف وما أشبه ذلك وكلها في الوجه. فهذا هو موضع الفتنة، فهل يظن أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما شرع الطهارة والعفة والحجاب للمسلمات، لتستر المرأة شعرها ونحرها ورجليها، ويبقى موضع الفتنة؟! وأنا قلت لكم: إنني لن أذكر الأحاديث الصحيحة لأنكم تعلمونها، لكن أعرج على حديث واحد -فقط- لتعرفوا هذا الحكم، وهذا الحديث في صحيح البخاري في أكثر من موضع، وكذلك في غيره: {خرجت أم المؤمنين سودة في الليل لقضاء حاجتها، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد نزول الحجاب فقال: قد عرفناك يا سودة، فانكفأت وانصرفت رضي الله عنها ولم تقض حاجتها، وجاءت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يده عرق من اللحم يتعشى، فسألته عن ذلك: فتغشى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرحضاء، فلما أفاق منه قال: إن الله قد أذن لكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن}. ومن تأمل كيفية فهم الصحابة للحجاب، يجد أن الصحابة كانوا يظنون أن الحجاب معناه ألا تُعرف المرأة أبداً ولو من بعيد، فأذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تخرج المرأة لحاجتها وإن عرفت، فليس الغرض أن تعرف أو لا تعرف، والتفسير الصحيح لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] هو أن المرأة إذا كانت نحيفة، فقد تكون جميلة في عيون بعض الناس، لكنها لا تستطيع أن تخفي ضعفها إذا خرجت لضرورة، وأما إذا كانت سمينة -وبعض الناس والعرب عموماً يعجبهم أن تكون المرأة سمينة- فإنه مهما تحجبت يظهر أنها سمينة فتفتن، فهذا مما ظهر منها، ولا تملك أن تخفي سمنها، فهذا الذي عفي عنه للمرأة. والمقصود: أن الصحابة فهموا من الحجاب ألا تُعرف المرأة، فلو أن المرأة لا تغطي وجهها، هل يحتاج أن يقال عرفناك؟! لو قيل ذلك لاعتبر من العبث في القول، لأن الإنسان إنما يعرف بوجهه، وهذا أحد الأدلة، بالإضافة إلى أن معنى الخمار نفسه في لغة العرب: هو ما كان مرادفاً للنصيف وهو ما خمر وستر وغطى، والنصيف في لغة العرب، ما يغطي النصف الأعلى من الجسم، كما جاء في الحديث الصحيح من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الحور العين: {نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما عليها}. فمن ناحية الأدلة الشرعية، ومن حيث الوضع والعرف المشاهد والحس، ومن حيث اللغة نجد أنه لا بد أن تغطي المرأة وجهها وكفيها.

حكم كشف المرأة نفسها للطبيب

حكم كشف المرأة نفسها للطبيب Q إن بعض النساء إذا مرضن يذهبن إلى الأطباء من الرجال فيكشفوا عليهن، فما حكم ذلك؟ A المشكلة ليست أن المرأة تضطر فتذهب إلى الطبيب، ولكن المشكلة أننا أمة مسلمة تعرف أحكام الحجاب، وتعرف قيمة المرأة، وتعرف ما يجب عليها من هذه الأحكام، ومع ذلك لا يوجد في البلاد الإسلامية مستشفيات عامة كبرى مخصصة للنساء. فإذا وجد هذا الاختلاط في الغرب، فذلك دينهم وحياتهم؛ أما في أمة الإسلام فالمستشفيات موجودة ويعمل فيها الجنسان من الرجال والنساء فلم لا يكون لدينا مستشفيات كبرى خاصة بالمرأة، كما أن لدينا جامعات خاصة بهن؟! ولخطورة هذا الجانب تجد أن بعض الناس يضطر إلى أن يذهب بأهله إلى طبيبة، وإن كانت عامة غير متخصصة، لكيلا يذهب إلى طبيب، وقد يضطر للذهاب إلى الطبيب، وعليه فإنه يجوز أن تكشف المرأة للطبيب عند الضرورة. ولكن لماذا نلجئ أنفسنا إلى ضرورة نحن افتعلناها، وصنعناها، ولماذا لا توجد مستشفيات مستقلة ومتخصصة؟ هذا الذي يجب أن نسعى إلى إيجاده. أين أغنياؤنا وأثرياؤنا وأموالنا التي تهدر في شراء المنتزهات في أوروبا وأمريكا؟! لماذا لا تستغل في هذا الشيء؟ والذي أتوقع وأجزم أنه سيحقق ربحاً كبيراً جداً؛ لأن مجتمعاتنا في جميع البلاد الإسلامية، رغم ما فيها من انحراف، فإن الرجل لا يريد أن يكشف على زوجته -وبالذات على عورتها- إلا امرأة. ولكن هذا من جوانب التقصير، وما أكثر جوانب التقصير في حياة الأمة الإسلامية!

إنشاء مصنع نسائي

إنشاء مصنع نسائي Q نسمع في الجرائد رغبة بعض النساء والرجال في إنشاء مصنع نسائي، فما رأيكم في هذا؟ A أنا قرأت في إحدى الجرائد خبراً غريباً أنه يوجد عندنا مصانع تملكها نساء، ولماذا لا تكون العاملات فيها من النساء؟ فتعجبت وضحكت وقلت: سبحان الله! غريب أن يوجد عندنا مصانع تملكها نساء، وغريب أن المرأة تملك مصانع حتى ولو كانت في أوروبا؛ لأن القوانين -كما أشرت- تمنع ذلك، ولكن نحن لو مات عندنا رجل من كبار الأثرياء وترك بنتاً وابناً، فنصيب البنت الثلث من التركة، ولو كان نصيب البنت الثلث مصنعاً، فليس هذا غريباً أن ترث البنت مصنعاً، أو أن تملك مصنعاً، أو أن تملك أراضي، أو تملك عقاراً، فهذا لا إشكال فيه بالنسبة للملكية في الإسلام. لكن قالوا: ما دامت بعض النساء تملك مصانع، فلتكن نسائية جميعاً، فالقضية ليست قضية أن المرأة تعمل في مصنع أو لا تعمل، إنما القضية أن نعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق المرأة لتكون مربية للأجيال، تنتج أعظم إنتاج وهو الرجال، ولعلي أستعرض لكم بعض الأمور -بإيجاز- وبالذات فيما يتعلق بالسكان: في جميع الدول الأوروبية تأخذ الأسرة إعانة من الحكومة مقابل كل وليد؛ فيأخذ الطفل الأول خمسين، والثاني سبعين، وإذا جاء الثالث تأخذ الأسرة مائة وعشرين، وفي إيطاليا التي تعتبر من الدول الفقيرة نسبياً في أوروبا تعطي إعانات مماثلة وأكثر، وأما فرنسا فإنها تدرس الموضوع على مستويات عظيمة لأن الأمة التي لا تنتج رجالاً فهي أمة عقيمة؛ لأن الشباب -الذي تراه اليوم- وإن كان عدده كما في أمريكا ثمانين مليوناً -فرضاً- فبعد عشرين أو ثلاثين سنة سيصبح الثمانين مليوناً هرمين لا شباباً. ولذلك ففي أمريكا رفعوا سن التقاعد -لأنهم نظروا إلى أن الشباب قد تناقصوا- ليعمل الكبار أكثر وأيضاً- لأن خبرتهم أكثر، سبحان الله هذا في الغرب! ونحن -هنا- نقول: لماذا لا تتوظف المرأة؟! وتتخرج الفتيات، فيكتبن في الصحف: لماذا لا تتوظف الفتيات ولا تجد من يكتب: لماذا لا يتزوجن؟ فمثلاً: إذا تخرج خمسون ألفاً -كما يقال- أو أربعون ألفاً، فإن عشرين ألفاً هم الخريجون من الذكور وعشرين ألفاً هن الخريجات من الإناث، ولا يوجد إلا عشرين ألف وظيفة، فما هو الحل؟ الحل أن نزوج العشرين الألف من الذكور بالعشرين الألف من الإناث، ونوظف الرجال، وانتهت المشكلة. أما أن نوظف خمسة عشر ألف بنت وخمسة عشر ألف شاب، ويبقى عندنا خمسة آلاف امرأة قاعدات يأتين بالمصائب في البلد، وخمسة آلاف رجل عاطل يأتون لنا بالمصائب. فكل مخالفة لأمر الله، لا بد أن ندفع ثمنها من أمننا ومن راحتنا، ومن استقرارنا ومن كل شيء، وكل طاعة لله تحقق لنا -بإذن الله- الخير والسعادة والرفاهية في الدنيا والآخرة. فالمرأة إذا تخرجت من الجامعة وعمرها عشرون سنة فعملت؛ فإنها بعد عشرين سنة تصبح هرمة، وعطاؤها في العشرين سنة لا يعادل عطاء رجل مهما كان؛ لأن عندها آلام الدورة الشهرية، وعندها من الكبت والمشاكل الكثير، لكن لو أنها تزوجت لأصبح عندنا بعد عشرين سنة، شاب منها عمره ثمانية عشر سنة، والآخر بعده عمره خمسة عشر، وبعده ثلاثة عشر، وبعده عشر، وبعده ثمان إلخ، ولأصبح عندنا جيش من العاملين، ثم إن أولئك يتزوجون فينتجون -أيضاً- وهؤلاء يعملون وفي الجانب الآخر ينتجون رجالاً، فتستمر الأمة شابة فتية. لكن الغرب هذا حاله، ولو فعلنا مثلما فعل، لأصبح حالنا كذلك، فسوف نستورد الأيدي العاملة من الرجال من أجل أن نخرج النساء. وأما استيراد النساء، فالأدهى أن تُستورد المربية والخادمة من أجل أن تعمل وتتوظف المرأة، ثم تتقطع العلاقات بين الرجل والمرأة؛ لأن المرأة تعاني من حالات نفسية في العمل، وأيضاً- تنقطع العلاقات بين المرأة والأبناء؛ لأن الأبناء ربتهم الخادمات، فلم يعرفوا هذه الأم، فتكون التربية مختلة وفاسدة ومنحطة -غالباً- وذلك من أجل دريهمات معدودة أو من أجل الاستجابة لدعاة الشر، فمن أجل عمل المرأة، خسرنا المجتمع كله.

النساء ناقصات عقل ودين

النساء ناقصات عقل ودين Q فضيلة الشيخ: نريد منكم أن توضحوا مقولة: (النساء ناقصات عقل ودين)؟ A قد وضحها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه من الحديث {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم منكن} ثم وضحه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {أما نقصان عقلها فلأن شهادة المرأتين كشهادة الرجل} كما قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:282] فهذه هو نقصان عقلها، أي: إذا أدت شهادة، وأما نقصان دينها فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الدين قول وعمل، فأعمال الجوارح من الدين كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم} [البقرة:143] أي: ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس، فإيمانها ناقص؛ لأنه قد يمضي عليها عشرة أيام أو سبعة أيام من الشهر ولا تصلي؛ وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بقوله: {فإنها إذا حاضت لم تصم ولم تصل} فهذا نقصان دينها وذاك نقصان عقلها، ولا حاجة لتفسير أحد من الناس بعد تفسيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

نصيحة لباعة المجلات

نصيحة لباعة المجلات Q كيف ننصح الذين يبيعون المجلات التي تحتوي مقدمتها على صور نساء خليعة؟ A ننصحهم كما ننصح غيرهم، كما أمر الله تعالى بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] هذا من أعظم المنكر؛ لأنه منكر ظاهر، والحمد لله فإنه قد منع ثلاث وعشرون مجلة من هذه المجلات الخبيثة، وبقي الكثير فنرجو من الله تعالى أن يوفق المسئولين للتنبه إلى ذلك. لكن واجبنا -نحن- أن نبين لصاحب البقالة أو المكتبة أو المحل الذي يبيع هذه المجلات فنبين لهم أخطارها وأضرارها وأن بيعها حرام، ولا سيما المجلات المتخصصة في هذا الشأن، فلا شك في حرمتها لأن غرضها المتاجرة بالشهوات -فقط- وأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والحمد لله أن ربحها محدود، ولو سألت أي صاحب محل، فسيقول لك: الربح في هذه المجلة قرشين، وفي الآخرى نصف ريال، سبحان الله! فلماذا تحرصون عليها وربحها محدود؟! فنأخذهم بالحكمة وباللين، ونبين لهم خطرها وضررها، ونرجو أن الذي منع تلك أن يمنع الباقي، فلعلهم يهتدون ولعلهم يرجعون. وكذلك نبين للمشتري إذا رأيناه يشتري أو من رأيناه قد اشترى، أو من نتوقع أن يشتريها، نبين له خطرها وضررها، وكذلك الأفلام وكل ما أشبهها من وسائل الفساد.

حكمة توريث المرأة نصف الرجل

حكمة توريث المرأة نصف الرجل Q لماذا تأخذ المرأة نصف الرجل في الإرث؟ A إن كان يراد من جهة السؤال سؤال الله عز وجل عن ذلك، فإن هذا حكم أنزله الله، والله تعالى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولا أظن أحداً منكم يقصد ذلك، لكن لا بد أن نوضح ونعلم أن الله لا يسأل لماذا على سبيل معرفة السبب أو المحاجة أو المعاندة لله عز وجل، فلا اعتراض على أمر الله، ولكن هل في ذلك حكمة نتلمسها، نقول: نعم، الحكمة ظاهرة وجلية. فالرجل يجب عليه أن ينفق على المرأة لأن الرجل قوَّام، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] فهو القوَّام وهو المنفق، وإن لم ينفق على أخته، أخذ الثلثين وأخذت الثلث، لأنه سيتزوج وينفق على أسرته من الثلثين، وهي إن تزوجت فسيأتي من ينفق عليها وعندها الثلث، فهذا هذا هو غاية العدل. لكن كيف لو كان الميراث سواء -كما في غير دين الإسلام- ثم تزوج الرجل -الأخ- لأصبح ينفق على عشرة أطفال وأمهم أو ثمانية أو خمسة، وهي تزوجت وينفق عليها زوجها وفي نفس الوقت لديها هذا الرصيد الكبير، فنقول: هذا ليس من العدل. فتقسيم الميراث شرع أحكم الحاكمين، وليس شريعة نابليون ولا شرائع المجرمين المضلين من الطواغيت الذين اتخذهم الناس أرباباً من دون الله، لما شرعوا لهم هذه القوانين الوضعية.

دور الشباب تجاه تبرج النساء في الأسواق

دور الشباب تجاه تبرج النساء في الأسواق Q رأينا كثيراً من النساء في الأسواق متبرجات، فما دور المسلم تجاه ذلك؟ A المتبرجات، هن أخوات أو بنات أو أمهات أو جارات أو قريبات للرجال، والواجب هو علينا جميعاً بأن نتعاون على البر والتقوى، فنحن كمجتمع وكأفراد، يجب علينا أن نقوم بواجبنا، وكذلك على ولي الأمر -المسئول من الهيئة أو غيرها- أن يقوم بواجبه وهو الردع، وكذلك على أصحاب المحلات أن يقوموا بواجبهم، وأن يتقوا الله عز وجل فلا يفتحوا المجال لهؤلاء النساء، فلا بد أن يحاصر كل منكر ينتشر في المجتمع من جميع الجهات، فلا تكفي جهة واحدة، ولا يكفي أن تقف الهيئة في السوق فتمنع المتبرجات، والبيوت تقذف بهن إلى الخارج، بل يجب أن يمنعن من البيوت ويمنعن في الأسواق، ويجب أن تمنع البضائع التي يتهافتن عليها كما يتهافت الذباب، وذلك لأن المرأة بطبيعتها تحب الحلية كما قال تعال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]. فلماذا نفتح المجال لأن تصبح أكثر الدكاكين والمحلات في بلادنا محلات للأزياء كأزياء باريس، أو أزياء بانكوك، أو إيطاليا، وألمانيا وفرنسا؟ مع أن أكثرها لا يليق بنا. وأنا أتعجب حتى عندما أرى الصغار -ولا تنظروا إلى الكبار- كيف يُنَشَّأْنَ على ذلك، فترى في المسجد الحرام فتيات صغيرات بتقبيعات أمريكية وفرنسية كما نرى في الشارع الأوروبي وهُنَّ في الحرم!! والأم متحجبة لكن البنت تنشَّأ على هذا، فمن أين جاءتنا هذه التقبيعات وهذه الصرعات؟! إنما جاءتنا من جهلنا بديننا؛ ولأننا فتحنا قلوبنا ومجتمعنا للغزو، فغزونا هم، وأتوا إلينا، فيجب أن نحصن أنفسنا ومجتمعنا.

منع مفاسد التلفزيون عن المرأة

منع مفاسد التلفزيون عن المرأة Q ما هي الطريقة المثلى التي يستطيع بها الشاب المسلم منع المشاهد المعروضة في التلفزيون، والتي تسبب فساد المرأة؟ A إن التربية الإسلامية لا تقوم في الأصل على المنع، وإنما تكون التربية على الإيمان، وتزكية النفس بالإيمان، فالرجل إذا زكى أسرته بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورغبهم في الآخرة، وبين لهم حكم من يعصي الله؛ وكيف يكون شقاؤه في الدنيا وعذابه في الآخرة، وجَعلَهم دعاةً وهداةً، يعلمون قيمة الطاعة وثمرتها وفضلها، وشر وسوء عاقبة المعصية، فحينئذ لا نحتاج إلى المنع إلا في حالات معينة. فأول أساس نبدأ به هو التزكية والإصلاح.

المؤامرة على الإسلام

المؤامرة على الإسلام الصراع بين الحق والباطل سنة كونية أزلية، وإن العداوة بينهما مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فما إن يظهر نور الحق والخير حتى تشرئب إليه أعناق الباطل والضلال محاولة إطفاء نوره وطمس آثاره. وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن المؤامرات التي يحيكها أعداء الله لكيد الإسلام والمسلمين على مر العصور، مبيناً قدم هذا الصراع، وموقف الدولة الإسلامية في صدر الإسلام من هذا الصراع، والوسائل التي اتبعتها لإحباط مثل هذه المؤامرات.

منشأ الصراع بين الحق والباطل

منشأ الصراع بين الحق والباطل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وبعد: المؤامرة على الإسلام قديمة قدم الحق والباطل، وكلكم تعلمون أول صراع نشأ بين الحق والباطل، وقد حدثنا الله -تبارك وتعالى- عنه في كتابه العزيز، وكان هذا الصراع منذ نشأة الجنس الإنساني، منذ أن خلق الله - تبارك وتعالى- آبانا آدم عليه السلام، وقام الشيطان بمعاداته، وكان الصراع بين الحق وبين الباطل، وأهبطوا إلى الأرض. ومن هناك استؤنفت العداوة من جديد، وظهر منهجان متعارضان: نور وظلام، فحيثما فقد النور وجد الظلام، وكلما اشتد النور وقوي كلما ضعف الظلام أو اضمحل، ولابد أن يظهر أحدهما، ولا يمكن أن توجد حالة لا نور فيها ولا ظلام! أو لا حق فيها ولا باطل! ولا يمكن أن يوجد قلب بشري إلا وهو إما على حق وإما على باطل، ولا توجد أمة من الأمم إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل، ولا توجد عقيدة من العقائد إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل وهكذا إلى الأبد. فهي عداوة أزلية كونية جعلها الله -تبارك وتعالى-. وهي أيضاً مستمرة أبدية بين الحق وبين الباطل، وكلما قويت شوكة الحق؛ كلما كانت عداوة أهل الباطل أكثر، وتعاونهم أعظم لإبادته.

ظهور الحق

ظهور الحق وتعلمون أن أعظم ظهور للحق هو ما كان على يد سيد ولد آدم ورسول الله إلى العالمين كافة محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا النبي العظيم الذي أظهر الله -تبارك وتعالى- به الدين، ونصر به الأنبياء السابقين أجمعين، وأبان الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- برسالته أن كل من سبقه من الأنبياء ومن دعوات الحق؛ أنها فعلاً على الحق، وأن كل من عادى الحق؛ فإنه مخذول مرذول إلى أن تقوم الساعة. هذا الرسول العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جرت عليه وعلى دعوته تلك السنّة الكونية -العداوة بين الحق وبين الباطل- أي أن أهل الباطل لم يقفوا مكتوفي الأيدي لمواجهة هذا الرسول ودينه الجديد الذي جاء به، بل حاربوه أشد الحرب وأشد الأذى مما تعلمونه جميعاً، آذوه واتهموه بأشنع التهم، وحاصروه في الشعب هو وأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، بل أرادو قتله. لم يتخلوا عن وسيلة يستطيعون أن يؤثروا بها عليه إلا استخدموها لكبت هذا الدين ولغمط هذا الحق، حتى الترغيب استخدموه: إن كان يريد ملكاً ملكناه! وإن كان يريد امرأة زوجناه! وإن كان مريضاً عالجناه! عرضوا عليه جوانب الترغيب مع جوانب الترهيب، كل ذلك ليطمسوا هذا النور الذي جاء به هذا النبي العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتآمرت قوى الشر منذ عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك.

أعداء الإسلام في العهد النبوي

أعداء الإسلام في العهد النبوي وتعلمون جميعاً سيرته الزكية الطاهرة - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعلمون ما وقع في يوم الأحزاب ونقوله لأن السنة فيها أوضح الدروس والمثال فيها أظهر، واجتمعت الطوائف الشريرة الثلاث التي ما فتئت إلى يومنا هذا تكيد للإسلام، وهي هي التي تكيد له هذا اليوم، اجتمع حقد المشركين وتألب عباد الأصنام والمشركون من قريش وغطفان، ومن استجاب لهما من قبائل العرب، فجاءوا إلى المدينة، وتعاون معهم الحقد اليهودي والضغينة اليهودية التي تمثلت في بني قريظة، وتعاون معهم ما يسمى في العرف السياسي أو الحربي المعاصر -الطابور الخامس- ونعني به المنافقين الذين هم أعداء هذا الدين في كل زمان ومكان، والذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتخلص هذا الدين من عداوتهم بالكلية، ولكنه إذا ظهر وقوي خف أمرهم، وإذا ضعف أمره؛ ظهروا وأظهروا تعاونهم مع أعداء الله تبارك وتعالى. والنفاق باب واسع، ضعوا تحته ما شئتم من فرق النفاق، ومن طوائف الضلال، وكل من انتسب إلى هذا الدين ظاهراً وهو يعمل لهدمه باطناً، ولكن الله تعالى أظهر دينه، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، وكفى الله المؤمنين القتال. ولكن أعداء الله لم يسكتوا إلى الأبد، بل استمرت السنة الكونية، فبعد أن أظهر الله -تعالى- نبيه ودينه في جزيرة العرب أجمع، حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاد الجيش بنفسه إلى تبوك لمنازلة أعظم قوى الأرض وهي الامبراطورية الرومانية، وقبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أكمل الله له الدين، وأقام به الحجة، وترك خلفه الرجال الذين تربوا بتربيته النبوية الكريمة الطاهرة، وزكاهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتربية القرآنية، وأصبحوا أهلاً لأن يحملوا هذا الدين وأن ينشروه للعالمين، وحدثت المؤامرة وبرزت رءوسها من جديد بوفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ حصلت ردة جماعية، ونجم النفاق والكفر، وظهر من جديد في جزيرة العرب، ولم يبق على الإسلام إلا المدينة ومكة والطائف وبنو عبد القيس في البحرين وبعض القبائل، وظهر المتنبئون الكذابون، وظهرت العداوات والأحقاد الكامنة في قلوب كثير من الناس، والضغائن التي لم يخفها إلا الخوف من قوة الإسلام وبطشه.

جهود الخلفاء الراشدين في ردع الحاقدين على الإسلام وأهله

جهود الخلفاء الراشدين في ردع الحاقدين على الإسلام وأهله وقاد الصديق -رضي الله عنه- الحرب من جديد، وخرج أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة بجيوش متعددة، كل منها إلى جهة من الجهات، ونصرها الله -عز وجل- وأخضعت تلك القبائل والمناطق جميعاً، ولم تقف عند ذلك، بل انطلقت شرقاً إلى الامبراطورية الفارسية، وغرباً إلى الامبراطورية الرومانية. وجاء الفاروق عمر رضي الله عنه فأكمل فتح البلاد، وكان مما عمله ذلك العمل الجليل العظيم وهو من أجل أعمال الفاروق -رضي الله عنه- أنه أجلى يهود خيبر لما رأى منهم العداوات والضغائن، فأجلاهم إلى أطراف الشام وإلى حيث شاءوا. وهنا بدأ المكر يتجمع من جديد، فإن هذا الدين الذي نشره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على أيدي هؤلاء الرجال؛ قد قوض الشرك وأقام لواء التوحيد، وهدم البدع والضلالات والخرافات، وأقام السنّة على المحجة البيضاء، وهدم عروش الظلم والطغيان والفساد، وأقام حكم الله عز وجل حكم العدل والإنصاف، وهدم مجد طواغيت الشر في العالم، من القياصرة والأكاسرة، ومن دجاجلة الأديان وكهنوتها، الذين كانوا يفرضون على الناس باسم الدين التحكم في أموالهم وأعراضهم، بل وفي قلوبهم، فيملون عليهم مايريدون أن يعتقدوه. وهدم العقائد جميعاً: اليهودية والنصرانية والمجوسية وهي أشهر وأوضع العقائد، وما تفرع عنها، وهنا كان لابد أن تكون المؤامرة، ولابد أن تتحرك الأفاعي الشريرة في الظلام، وكان مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بيد أعداء الإسلام، وأعداء الدين أولئك يرتكبون خطأ يكررونه دائماً ولا يتعظون منه، فهم يظنون أن هذا الدين مرتبط بشخص ما، قالوا: إذا قتلنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب الدين، ولهذا وضعت اليهودية له السم -كما في الحديث الصحيح- وظنوا أنه إذا مات سيموت دينه، بعد ما حاولت بنو النضير اغتياله، وغير ذلك من المحاولات. ولما أن فتحت تلك البلاد في عهد الفاروق عمر، ظن أعداء الإسلام من فرس وروم ويهود ونصارى ومجوس وجميع تلك النحل أنه إذا قتل الفاروق انتهى الدين، وهكذا دائماً، كل من يرونه يحمل لواء الدين ولواء السنة يظنون أنه إذا حورب في ذاته انتهى الأمر، ونحن نعلم جميعاً أن هذا النظر خاطئ تماماً، إن الأمر أمر الله عز وجل والدين دينه عز وجل وماهؤلاء الرجال إلا أناس اصطفاهم الله تعالى بالقيام بأمر دينه، فهم ينالون الشهادة، ويخلف الله بعدهم من يقوم بهذا الدين، لأنه قد وعد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل دينه، وتوعد أعداءه بأن يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون ولو كره الكافرون.

مقتل الفاروق عمر رضي الله عنه

مقتل الفاروق عمر رضي الله عنه فكيف قتل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ الثابت في مقتله أنه كان بمؤامرة مجوسية نصرانية، ويقال إن لليهود ضلعاً في ذلك، ولكن الثابت أن جفنة النصراني شاهده بعض الصحابة هو وأبا لؤلؤة المجوسي، الذي تولى عملية القتل، رأوهما ليلة اغتيال الفاروق وهما واقفان في الظلام، ولم يشعرا إلا وهؤلاء الناس يمرون عليهما، فسقط من بين أيديهما نصل عريض له حدان. وفي صباح تلك الليلة يغتال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإذا بذلك النصل نفسه هو الذي نفذ الجريمة الشنعاء في أمير المؤمنين رضي الله عنه وبضعة عشر نفراً من الصحابة في الصلاة، طعنهم هذا الفاجر المجرم يميناً وشمالاً لكي يهرب، فمنهم من استشهد ومنهم من جرح وأصيب، وكانت هذه مؤامرة، وكان هناك طرف ثالث هو الذي حرك أبا لؤلؤة وهو الهرمزان وكان ملكاً من ملوك الفرس، جيء به إلى المدينة فأظهر الإسلام، وأراد أن يهدمه، وهو الذي لقن أبا لؤلؤة المجوسي، واتفق معه على مقتل الفاروق رضي الله عنه ولهذا قتل الهرمزان فوراً حال مقتل الفاروق رضي الله عنه.

الفتوحات في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان

الفتوحات في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان فإذاً المؤامرة أرادت بقتل عمر رضي الله عنه أن يزول الإسلام وأن يمزق شمله. ولكن الذي حصل أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جمع الأمة من جديد، وفتح في عهد عثمان رضي الله عنه -وهو الخليفة الراشد الثالث- فتحت من بلاد المجوس -هؤلاء- أفاقاً وبلاداً بعيدة حتى وصلت الفتوحات إلى قريب من بلاد ما وراء النهر، مما زاد الضغينة وزاد الحقد في قلوب أولئك الكفرة ضد الإسلام.

عبد الله بن سبأ اليهودي ومشابهته لبولس

عبد الله بن سبأ اليهودي ومشابهته لبولس وحينئذٍ ظهر عبد الله بن سبأ الذي حذر عنه الإمامُ الشعبيُّ رحمه الله مالكَ بنَ مغول كما ذكر ذلك ونقله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في أول كتابه منهاج السنة النبوية. ظهر ذلك الرجل اليهودي الماكر وقد سمى نفسه: عبد الله بن سبأ، والذي أراد أن يهدم دين الإسلام كما هدم بولس دين النصرانية. مختصر قصة بولس أنه رجل يهودي، كان يعذب النصارى أتباع المسيح عيسى -عليه السلام- تعذيباً شديداً، فلما رأى أن تعذيبهم لا يزيدهم إلا إيماناً!! قال: لا بد من حيلة، فتحايل عليهم بالمكر اليهودي المعروف، وقال: إني كنت ذاهباً إلى دمشق وإذا بصوت يناديني من السماء، ويقول أنا: المسيح، أنا ابن الله، أنا كذا، لماذا تضطهد شعبي، ولماذا تضطهد أهل ملتي؟ ادخل في ديني، فقال: أنا دخلت الآن وأصبحت في دين المسيح، ودخل في دينهم، وأخذ يهدم دينهم من الداخل، فقال: إن المسيح إله، وقال: إنه ابن الله، وأمثال ذلك من الكفر، حتى خرب دين النصارى. وهكذا عبد الله بن سبأ هو الذي قام بدور بولس في هذا الدين، كما أثبت ذلك الشعبي وبينه من بعده، وأضافوا إليه، ثم -أيضاً- شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وضحه، والتاريخ واضح في ذلك، عبد الله بن سبأ هذا: تآمر مع غيره؛ فخرجت في آن واحد رءوس الشر، جاءوا من مصر والكوفة واليمن، وجاءوا من عدة جهات إلى المدينة النبوية إلى حيث الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وما زلوا يتآمرون عليه -كما هو معلوم في التاريخ- حتى قتلوه رضي الله عنه.

خلافة علي بن أبي طالب وما فعله اليهودي عبد الله بن سبأ

خلافة علي بن أبي طالب وما فعله اليهودي عبد الله بن سبأ وبعد ذلك لما تولى الخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل عبد الله بن سبأ في جيشه هو وأصحابه، وأظهروا أنهم يحبون عليّاً، وأنهم يريدون أن يعطوه حقه وقدره الذي هضمه وظلمه الثلاثة الخلفاء الراشدون الأولون، وهذا هو المدخل الذي أرادوا منه أن يشعلوا الفتنة، وكانت معركة الجمل، وقد ثبت أن من قتل فيها من كبار الصحابة كـ طلحة والزبير إنما كانت تلك الفتنة وتلك المعركة بتحريش من السبئية من أصحاب الفتنة، أمثال هذا الرجل. ثم لما أن ظهر أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- على الكوفة وعلى العراق جاء أولئك وأخذوا يبثون في صفوف أتباعه تلك العقيدة، وحصل من بعضهم ما عرف وكشف وهو أنهم جاءوا إليه رضي الله عنه وهو خارج، فلما رأوه سجدوا له، وقالوا: أنت هو؟! قال: من هو؟ قالوا: أنت الله!! يقولون هذا لـ علي رضي الله عنه فتعجب كيف يوجد مسلم أو إنسان يظن أن الله هو أحد البشر!! فغضب وأمر أن تحفر الحفر وأوقد فيها النيران وأحرقهم فيها، فلم ير لهم من عقوبة أزجر من ذلك، ولم ير أن يعاقبوا بأقل من ذلك، لشناعة وفضاعة ما يقول هؤلاء، كيف يعتقدون أنه إله! ثم أراد أن يقتل عبد الله بن سبأ ولكنه نفاه إلى بلاد فارس ليتقي شره، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور الفتنة؛ لأن أصحاب الفتنة متوافرون في جيشه، وهو يريد أن ينهي الأمر مع أهل الشام، وحصل ما أراده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لحكمة يعلمها، وهو أنه في تلك البقعة التقى الحقد اليهودي الذي يمثله عبد الله بن سبأ مع الحقد المجوسي الذي كان كامناً ومستقراً في قلوب أولئك، لأن الإسلام قد هدم ملكهم، وشل عروشهم، ومزق حضارتهم وبلادهم، وهم المجوس الفرس، وكما تعلمون أن اليهود يعيش منهم طائفة كبيرة في تلك البلاد، فمن علامات صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل ما نراه من سيرته فهو دليل على صدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه لا ينطق عن الهوى- أنه قال كما في الحديث الصحيح: {يتبع الدجال سبعون ألفاً من يهود أصفهان -أو أصبهان- عليهم الطيالسة} هذه المدينة فيها أكثرية يهودية وفيها أيضاً من نواح أخرى يهود، هؤلاء اليهود هم كهنة ذلك الدين الذي نشأ ليطعن دين الإسلام وليدمره تحت ستار التشيع. فـ عبد الله بن سبأ وجد في الحقد المجوسي بغيته، وأخذ ينشر فيهم هذه العقيدة الضالة الفاسدة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا حباً وتعظيماً لـ علي ولكن لغرض هدم الإسلام، ودخل هو واليهود الذين معه، وأدخلوا معهم هذه الأمة التي كانت جاهلة وحاقدة، إلا من اهتدى منهم. ونحن لا نتكلم على من اهتدى، وقد اهتدى منهم كثير -ولله الحمد- لكن حصل أن هؤلاء جميعاً دخلوا في هذا الدين الذي يسمى دين التشيع، ومنذ ذلك الحين ابتدأت الأمة الإسلامية في حرب لا هوادة فيها مع هؤلاء المجوس المتسترين. وعندما يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمراً فإنه يهيئ له أسبابه، وكان مما أراده الله سبحانه وتعالى أنه لما جيء ببنات كسرى سبايا فتزوج بعض آل البيت منهن، وكان من ذلك أن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- تزوج إحداهن، وأنجبت له زين العابدين علي بن الحسين، فكان علي بن الحسين أمه فارسية بنت كسرى، وأبوه الحسين بن علي بن أبي طالب فكان هذا سبباً رئيسياً في أن يعتقد عوام هذه الأمة أنه فعلاً أحق الناس بالخلافة هم هؤلاء آل البيت، ولا يوجد عندهم خليفة أو إمام إلا وهو من ذرية هؤلاء. يقولون: إن الإمام علي هو الأول، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم من بعده من ذريته زيد بن علي بن الحسين إلى أن يصلوا إلى الإمام الحادي عشر الإمام الحسن العسكري، ثم الثاني عشر الذي اختفى في السرداب كما يزعمون، هذه الخرافة التي لا يصدقها عاقل لا في القديم ولا في الحديث.

مؤامرة يهودية على الإسلام باسم آل البيت

مؤامرة يهودية على الإسلام باسم آل البيت وحصلت مؤامرة كبرى على الإسلام في القرن الأول، فخرج المختار بن أبي عبيد، وخرجت طوائف أخرى كثيرة بقصد تقويض هذا الدين، لكن تحت شعار أن هذا الحكم مغتصب لحق آل البيت، وكان آل البيت: محمد بن الحنفية كمثال، وهو محمد بن علي بن أبي طالب وسمي بـ ابن الحنفية تمييزاً له عن السبطين الحسن والحسين؛ لأنه ليس من ذرية فاطمة رضي الله عنها إنما هو ابن امرأة من بني حنيفة، وهو يعلن جهاراً نهاراً أن هؤلاء الذين يدعونني لست منهم في شيء، ولا أعرفهم، وليس لي أي صلة بهم، وتبرأ غيره كثير من أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين كانوا جزءاً من هذه الأمة الإسلامية، ولا يزالون -ولله الحمد- إلا من انحرف أو ضل؛ يتبرءون منهم وأولئك يعملون لهم. واستمرت المؤامرة تحت شعار آخر، وهو لما قام العباسيون الأولون بمحاولة السيطرة على حكم بني أمية، وانتقال الخلافة من بني أمية إليهم، فدخل أولئك في خدمة بني العباس، وأرادوا أن يقيموها دولة عباسية، ويسمونها دولة بني العباس في الظاهر وتكون في الحقيقة دولة مجوسية.

تنبه خلفاء بني العباس لمكر المجوس

تنبه خلفاء بني العباس لمكر المجوس وحصل أن قوض أبو مسلم الخراساني ملك بني أمية، فقام وأنشأ الدولة، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي تكفل ببقاء هذا الدين، وهو الذي وقف بالمرصاد لأعداء دينه، فيسر بأن تنبه خلفاء بني العباس لهذا الأمر.

الخليفة أبو جعفر المنصور

الخليفة أبو جعفر المنصور فكان الخليفة أبو جعفر المنصور -الخليفة الداهية- فطناً ذكياً، فاستدعى أبا مسلم وقتله وقتل وفرق أتباعه، وأعاد الدولة على المنهج الصحيح، وكانت دولة سنَّية، ولم تكن كما أرادوا مجوسية تتستر بالتشيع. فأخذ أولئك المجوس يكيدون من جديد للدخول في الدولة ولو من طريق آخر، فانتشرت في عهد المهدي الفتنة التي تعرفونها جميعاً وهي فتنة الزندقة، حيث كثرت الزندقة وانتشرت داخل الدولة العباسية، يريدون أن يقوضوا الإسلام! وأن يهدموا القرآن والسنة! ومما أوجدته الزندقة: وضع الحديث؛ فكانوا يضعون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المئات والألوف من الأحاديث، وكان المهدي ثم الرشيد ومن بعدهما يقتلون أولئك الزنادقة ويحاربونهم. ثم جاءت البرامكة وهم طائفة من المجوس فجاءوا من باب آخر، من باب الكرم، فكانوا ينفقون من مال بيت المسلمين ولا ينفقون من أموال كسرى، ولكن يتظاهرون بالكرم؛ فأغدقوا على الشعراء، وعلى أصحاب المصالح الدنيوية، والمطامع الرخيصة، أغدقوا عليهم الأموال، وأولئك يطرونهم ويثنون عليهم ويمجدونهم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان لهم بالمرصاد، حيث كشف نواياهم وخباياهم، حتى قال فيهم الشاعر: إذا ذكر الشرك في مجلس أضاءت وجوه بني برمك وإن تليت عندهم آية أتوا بالأحاديث عن مزدك ومزدك هذا -المجوسي- هو الذي نشر الشيوعية في أيام الدولة الفارسية القديمة.

الخليفة هارون الرشيد

الخليفة هارون الرشيد ولما حج هارون الرشيد رحمه الله -وكان يحج سنة ويغزو سنة- وكان يرى هذه الطائفة، ويرى ما تعمل، وعرف خباياها ونواياها، حتى هيأ الله -تبارك وتعالى- في تلك الحجة أن اكتشفهم يقيناً، وذلك عندما قال له البرامكة: يا أمير المؤمنين إن هذا البيت معظم، وإن الخلفاء يعظمونه، وخير ما يخلد به اسمك في التاريخ أن تأتي بمجامر كبيرة، وتضعها حول الكعبة وتجعل فيها أفضل أنواع العود والروائح الطيبة، ولا تزال توقد -دائماً- فيكون لك من الذكر ومن الفخر ما لا يكون لأحد من الخلفاء، فشكرهم على هذا، وفطن للأمر وشاور فيه بعض العلماء، فقالوا: هذا رأي مجوسي -يا أمير المؤمنين- من نصحك وأشار عليك بهذا؟ هؤلاء مجوس يريدون أن تعود نار كسرى إلى بيت الله الحرام، ولكن تحت ستار المجامر والطيب والعود، فما إن عاد هارون الرشيد إلى بغداد حتى قضى على هذه الأسرة وأبادهم، وكفى الله تعالى شرهم.

الفتن في عهد المأمون

الفتن في عهد المأمون ثم كان عهد المأمون، وكانت الفتنة من نوع آخر، حيث ابتلي المأمون بفتنة الاعتزال والتفلسف، ونتيجة لذلك كان العذاب الشديد على الأمة، التي منها -كما تعلمون- الإمام أحمد ومن معه، وكان من آثار ذلك على المأمون أنه أعلن الخلافة لـ علي الرضا -وهو من أئمة الرافضة الاثنى عشر كما يزعمون- فأراد أن ينقل الخلافة النهائية من بيت بني العباس إلى ذلك الرجل الذي يتستر أولئك القوم وراء الدعوة له وإلى خلافته، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحبط كيدهم، وكان في تدبيرهم تدميراً لهم، وجاء النصر للسنة. وظهر أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على يد المتوكل، وقضي على تلك الفئة واندحرت، وبعد ذلك النصر الذي حصل، وبعد وفاة الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بحوالي أكثر من أربعين سنة، ظهرت في أطراف الكوفة الباطنية وظهر القرامطة الأولون، ولم ينتصف القرن الرابع حتى ملأ الرفض الدنيا شرقاً وغرباً، كما قال الإمام الذهبي رحمه الله. فكانت الخلافة كما تسمى العبيدية الفاطمية تحكم بلاد المغرب ومصر، كما كان القرامطة يحكمون شمال الجزيرة العربية وشرقها، ويقطعون الطريق على الحجاج، وكان بنو بويه في بغداد وشرقي العالم الإسلامي وهم -أيضاً- من الرافضة. ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً لم يجعل على أيديهم طمس هذا الدين، ولن يكون ذلك، وإنما استمرت الحرب سجالاً بينهم وبين المسلمين، على جميع المستويات الحربية والعلمية، حتى جاء أواخر القرن الخامس وجاء الصليبيون. وبمجيء الصليبيين يدخل طرف ثالث خطير في المؤامرة على الإسلام، وذلك أن الصليبيين لما جاءوا كانت أهدافهم وأطماعهم متركزة حول بيت القدس، ومنه ستنطلق خططهم لهدم الإسلام والقضاء عليه.

مكر الرافضة بالإسلام

مكر الرافضة بالإسلام فكان التواطؤ والتعاون بين الرافضة والباطنية، الذين كانوا يحكمون بلاد مصر والشام وبين الصليبيين، فسهلوا لهم دخول بيت القدس، ولم يكن بينهم أي حرب، وإنما دخلوه وانتهكوا حرمته، وقتلوا سبعين ألفاً من المسلمين حتى غاصت خيولهم في دماء المسلمين إلى الركب، واحتلوا القدس، وبقي في أيديهم وانتشروا في بلاد الشام، وكما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية والذهبي وابن كثير وكل المؤرخين الثقات وعلماء الإسلام: كان التعاون الشديد والقوي بين هذه الطوائف: الباطنية والمجوسية وبين الصليبيين على أوضح وأجلى ما يكون. ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً قد مكن للمسلمين فجاء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وكان صلاح الدين من فضل الله وتوفيقه له أنه فهم أصل القضية، وفهم من أين يبدأ الحل، وهذا هو الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تعرفه دائماً، من أين تبدأ الحل في أي أزمة؟ جاء صلاح الدين والأمة الإسلامية يحكمها الصليبيون، ويحكمها هؤلاء الباطنيون الروافض المجوس، والخلافة في أشد ما تكون من الضعف، فمن أين يبدأ الإصلاح؟! بدأ صلاح الدين من النقطة الصحيحة وهي أن يجتمع المسلمون أهل السنة على العقيدة الصحيحة على الكتاب والسنة، وأن نطهر الصف الداخلي من المجرمين، ومن المنافقين، ومن أهل الضلالات، ثم ننطلق لمحاربة الأعداء الخارجيين، ثم بعد ذلك يكون النصر بإذن الله تعالى ولهذا ترك صلاح الدين الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين، وذهب إلى بلاد مصر فقضى على الفاطميين -وهم في الأصل عبيديون- قضى على ملكهم، وقضى على رفضهم وتشيعهم، وأحل السنة محلها، ووحد الله به أكبر قوتين في العالم الإسلامي وهي قوة الشام شرقاً، ومصر وغرباً، فتوحدت الأمة الإسلامية على السنة، ثم انطلقت بعد ذلك فكان النصر المبين بفضل الله تعالى على الصليبيين.

دور ابن العلقمي في سقوط بغداد

دور ابن العلقمي في سقوط بغداد وفي أثنائها كان التتار قد بدءوا يغزون العالم الإسلامي من الشرق -كما تعلمون- وأخذوا يتقدمون ويزحفون إليه شبراً فشبراً، حتى شارفوا بغداد، وفي ذلك الوقت كان الخليفة هو المستعصم بالله، وكان وزيره من أولئك الروافض وهو المشهور بابن العلقمي، وكان أيضاً من كبار المقربين إليه أو الذين يسمون علماء الدولة، الذي يسمى الخواجة نصير الدين، وهو نصير الكفر الطوسي، كما يقول ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم، فاتفق ابن العلقمي وابن أبي الحديد وأمثالهم وذهبوا إلى هولاكو الوثني الزنديق، الذي لا يؤمن بأي دين ويعبد النار لأنه مجوسي واتفقوا معه على أن يدخل بغداد بالقوة، وزينوا له ذلك وهو يتردد ثم يتردد، حتى تم الصلح بينه وبين الخليفة وكأن الأمر قد عاد إلى وضع طبيعي لا حرب معه ولا شيء. وإذا بأولئك المجرمين يخططون لمؤامرة كان منها أنهم فتحوا الأنهار والسدود على جيوش الخليفة المستعصم، فأغرقوهم بعد أن سرّحوا أكبر قدر منهم، وذهبوا في نفس الليلة إلى هولاكو، فقالوا له: إن ذلك الرجل قد ضعف، وإن ملكه قد ذهب، وإن جنوده قد غرقوا، وهذه من كراماتك فادخل إلى بغداد وأعمل فيها بالسيف، وكان أولئك -أعداء الله- يظنون أنه سيقظي على ملك أهل السنة، ثم يولِّيهم هم فيصبحوا هم الحكام. إن أعدى عدو لهم هم أهل السنة والجماعة، هذا أعدى عدو لأهل المؤامرة قديماً وحديثاً، وتردد هولاكو وقال: بلغنا أن من أراق قطرة من دم أحد من آل محمد فإن ملكه يتمزق وينتثر، فقالوا: نحن نأتيك بالفتوى؛ تقتل الخليفة دون أن تراق قطرة واحدة من دمه، قالوا: نلفه في الخيش ونضربه بالهراوات حتى يموت، فوافقهم هولاكو، ودخل إلى بغداد فجأة، وقبض على بني العباس، أليسوا من آل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أين محبة آل البيت لمن يزعمون أنهم يريدون إعادة مجد آل البيت! أو حكم آل البيت! أو محبة آل البيت! حتى ذكر المؤرخون -كما في البداية والنهاية وغيره- أنه أخذ من بيت الخلافة ألف عذراء، أخذها أولئك الأنجاس المشركون الوثنيون، واغتصبوهن!! وكثير منهن من آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من بني العباس، وقتلوا الخليفة على الصفة وعلى الفتوى التي أفتاهم بها أولئك الروافض. ثم انتهكوا حرمة بغداد وحصلت مذبحة عظيمة جدا، ً حتى أن أقل الأرقام التي قيلت في الذين قتلوا أنهم ثمانمائة ألف!! لأن بعضهم قالوا: أنهم مليونان (ألفي ألف). ودخل الناس كما يقول المؤرخون ومنهم ابن الأثير وابن كثير، وحتى دخل الناس في الكنف في (المجاري تحت الأرض)، ليهربوا من سيف التتار فكان الوباء العظيم، حتى بعد أن انتهت المجزرة خرج أولئك فمنهم من مات، ومنهم من بقي على الحياة ثم خرج فكان من نتن الجيف الوباء الذي قضى على البقية، فكانت مذبحة على مذبحة ومصيبة على مصيبة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان لهم بالمرصاد أيضاً، فإنّ أولئك القوم أذلوا ابن العلقمي وأهانوه ولم يقدروا أنه فعل هذا الفعل، بل اعتبروه خائناً، وبعد بضعة أشهر فطس وذهب إلى حيث يستحق من عند الله عز وجل وكذلك فُعِل بـ نصير الكفر الطوسي وأمثالهم. وكان بعد ذلك المرحلة الأخرى التي أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبتلي فيها الأمة الإسلامية بهؤلاء التتار، ثم انهزم التتار، ثم ظهر الحق جلياً وساطعاً، حيث إنه في تلك الفترة كان قد ولد شَيْخ الإِسْلامِ المجدد تقي الدين أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى- فأظهر الله تعالى به الدين، وكان أكبر الملوك -ومنهم الناصر قلاوون وأمثاله- ممن وقفوا معه في كثير من الأمور، وهو الذي حرك العلماء وحرك الأمة، فحاربت التتار وهزمتهم وكذلك حاربت الصليبيين، ثم تحقق بعد ذلك بعث جديد للإسلام بفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

المؤامرة على الإسلام في عهد الخلافة العثمانية

المؤامرة على الإسلام في عهد الخلافة العثمانية والمؤامرة أحبطت أو كادت أن تحبط وتدمر، وبعد ذلك انتقلت المؤامرة على هذا الدين إلى نطاق أوسع، حيث أظهر الله -تبارك وتعالى- الدولة العثمانية -هؤلاء الأتراك- وكان فضل من الله -عز وجل- أن يظهروا، وتقدم زحفهم إلى داخل أوروبا، وفتحوا معظم بلاد جنوب شرق أوروبا، بل وشرق أوروبا. حتى أنهم كما تعلمون دخلوا بولندا وحاصروا فيينا لمدة سنوات، فأرعب ذلك أعداء الإسلام رعباً شديداً، كيف أن هذه الدولة الفتية تتغلب على روسيا، وتتغلب على دول شرق أوروبا وغربها، وعجزوا عن مقاومتها، فكان الحل! وهو أنهم استعانوا بتلك الطائفة الحاقدة -وتكونت المؤامرة من جديد- حيث كان في شرق العالم الإسلامي في بلاد الفرس الدولة الصفوية فجاءت هذه الدولة، فكان كلما تقدمت الدولة العثمانية في أوروبا تقدم الصفويون في داخل البلاد العثمانية، فاحتلوا العراق ودخلوا إلى بلاد تركيا نفسها، وهكذا كانوا كلما زحف الإسلام في أوروبا، يأتون فيطعنونه بخنجرهم المسموم من الخلف، فتضطر الدولة العثمانية أن تسحب جيوشها من أوروبا، فتقضي بها على الصفويين في المشرق. وهكذا أكثر من قرنين أو قرابة ثلاثة قرون من الزمان حتى تم إنهاك الدولة العثمانية، ولم تستطع أن تقاوم تلك الغزوات من الخلف ومن الأمام. ونحن الآن لسنا في قضية تقييم الدولة العثمانية، لكنها بلا شك لم تكن تملك مقومات البقاء الحقيقي، ولهذا حصلت المؤامرات عليها. وانتقلت المؤامرات بعد ذلك في صورة جديدة، حيث إن أوروبا نهضت النهضة القوية التي تعلمون، في ميدان الحياة، وفي الصناعة، وفي كل أمور الحياة المادية الدنيوية، وبذلك بدأت المعركة تأخذ طابعاً جديداً، وألف أحد الوزراء الأوروبيين كتاباً مشهوراً مائة مشروع لتقسيم تركيا، ذكر فيه بالتفصيل أن أوروبا بالتعاون مع الصفويين المجوس أعدت مائة مشروع لتقسيم العالم الإسلامي -الذي كانت تسميه تركيا، لأنها كانت تحكمه بأجمعه تقريباً- ويفشل المشروع تلو المشروع، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، فتحقق نجاح المشاريع، وقضي على تلك الدولة، واقتسم الاستعمار الشرقي والغربي الدول المستعمرة، كما في إتفاقية (سايكس بيكو) التي قسموا العالم الإسلامي فيها وأخضعوه. ومن هنا بدأت المؤامرة في مرحلة جديدة، وفي حرب جديدة، وهي الحرب الفكرية والمعنوية للقضاء على الإسلام، لأنهم جاءوا إلى الأمة الإسلامية وهي ممزقة، وهي ضعيفة منهكة مرهقة، وهم جاءوا بحضارات علمية وبتقدم مادي، ومعهم أيضاً خططهم الفكرية، وخطط أخرى عقلية رهيبة، فأخذوا يدبرون ويحيكون المؤامرات للقضاء على الإسلام من خلال وجودهم وقوتهم العسكرية في هذه البلاد. الأمة الإسلامية إذا واجهت مواجهة عسكرية حربية، فإنها مهما طال الزمن فإنها ستنتصر، وهذه حقيقة أصبحت لا شك فيها في تاريخ الأمة الإسلامية، فقامت في كل بلد تقريباً ثورات ضد هؤلاء المستعمرين الصليبيين الجدد، وكانوا في الخفاء يبيّتون لإنشاء الدولة اليهودية. وهذا ما يدلنا على أن المؤامرة ثلاثية الأطراف: صليبية ويهودية ومجوسية، ففي عام (1917م) أو حوله صدر "وعد بلفور " بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منه هو إعادة بلاد فلسطين إلى ملك اليهود، أي إنشاء وطن قومي لليهود في قلب العالم الإسلامي وفي أرض الإسراء، وهذا ما مهدت له قوى الشر والمؤامرة جميعاً، وأخذ ينفذ بالتدريج، فكانت الحرب على جميع المستويات: منها حرب لأولئك المقاومين الذين قاوموا الاستعمار، وحرب أعظم وأشرس منها لهدم الإسلام من الداخل.

من محاولات الهدم للإسلام

من محاولات الهدم للإسلام ومن أعظم الأمور التي استهدفت المؤامرة للقضاء على هذا الدين: أولاً: القضاء على العقيدة الصحيحة؛ لأنهم يعلمون أنها هي الأساس، فإذا ذهبت ذهب الإسلام، وكادوا لهذا الدين أعظم الكيد في كل مجال، وكما تعلمون أنهم أغروا الدولة العثمانية -نتيجة اشتغالها وانغماس كثير من أئمتها وعلمائها في الخرافات والضلالات- بالقضاء على الدولة التي قامت بفضل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي قامت على التوحيد، وهي الدولة السعودية الأولى، فإنهم قضوا عليها، وقضت عليها مؤامرة الشر تلك. واغتيل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، الذي كان معاصراً للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والذي كان إماماً في العلم والتقوى والجهاد فوق كونه إماماً في الحكم، اغتيل على يد رافضي من أولئك المجوس، جاء إليه واغتاله كما اغتيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن هذا الإمام هدم النجف وكربلاء، وهدم تلك البقاع التي يشركون ويعبدون غير الله -تعالى- فيها. ثم صفا لهم الجو بعد القضاء على هذه الدولة، وأخذوا يمزقون العالم الإسلامي كما يشاءون، حتى أنهم أحدثوا طرقاً صوفية جديدة، وأحدثوا فرقاً جديدة؛ وجاءوا على فرقة من بقايا المجوس، وهي الفرقة التي كانت تسمى العلي إلهية وكان الأتراك يسمونها العلي إلهية ومعناها الذين يؤلهون علي بن أبي طالب فسموهم العلوية وأخذوا يمهدون لهم لكي يمكنوهم في بلاد الشام، وأخذوا في كل مجال يهدمون العقيدة. والمقصود أن الأساس الأول الذي أرادوا أن يهدموه هو العقيدة الصحيحة ويحلوا محلها الخرافات والضلالات، ولذلك فإن جميع الطرق الصوفية ومشائخها كانوا محل الاحترام من قبل المستعمرين. حتى إن نابليون عندما قدم إلى مصر جمع مشائخ الطرق، وأقاموا المولد وحضر معهم واحتفلوا، وقال: أنا صرت واحداً منكم، وهذا دين عظيم، وهو دين تسامح ومحبة وأخلاق، لأنه لا يزعج أحداً لا مستعمر ولا عدو، وإنما فيه موالد ورقص وتسابيح وأذكار، وكلها ضلالات لا تقبل عند الله -عز وجل- وفي الوقت نفسه لا تضر أحداً من الأعداء، فكان الأعداء حريصين على أن يظل مثل هذا الدين موجوداً. وفي الوقت نفسه حاربوا الإسلام الحقيقي والدعوة الحقيقية، وأخذت جميع الدول الاستعمارية تذكي في نفوس الناس، أن من يدعو إلى الكتاب والسنة فإنه وهابي، وأن هذه الوهابية فرقة خارجة عن الإسلام، ويجب على جميع المسلمين أن يحاربوها، فكل من دعا إلى الكتاب والسنة وإن كان لا يعرف شيئاً عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سموه وهابياً تشنيعاً لمن يدعو إلى الكتاب والسنة، وتأييداً لأصحاب الضلالات والخرافات والبدع، فكان هذا هو الهدف الأول. والهدف الثاني: أنهم قالوا: المرأة المسلمة هي الأساس، وهي التي تربي البيت المسلم والطفل المسلم على العقيدة الصحيحة، فلا بد أن نخرج المرأة المسلمة، فإذا أخرجناها فإنا نكون قد قضينا على هذا الدين، وقضينا على الإسلام، ومزقنا كيانه الاجتماعي، ومن هنا عملوا وبذلوا الجهود في تأسيس الجمعيات -أو الأحزاب كما كانت تسمى سابقاً- والمجلات النسائية، وأخذوا يفسدون المرأة المسلمة وينشرون الفساد في كل مكان لإخراجها، وينشرون السموم التي تدعوها إلى أن تطالب بحقها من الرجل، وأن لا يظلمها الرجل، وأن لا يمتهن كرامتها، وأنها جديرة بأن تقاوم، وجديرة بأن تحقق وبأن تفعل كذا حتى قضوا على الحجاب في أكثر البلاد التي دخلوها مع أنهم لما دخلوها كان لا يوجد فيها امرأة مسلمة لا تغطي وجهها، ولم يخرج المستعمرون إلا وأكثر البلاد لا توجد امرأة مسلمة تغطي وجهها إلا القليل النادر، وكان هذا بخطة ومؤامرة ذكية. أيضاً هناك جانب ثالث قالوا: لا بد من الطمس والقضاء على الشريعة الإسلامية، وعلى الأحكام الإسلامية، ليحل محلها القوانين الوضعية، ففي الجانب الاقتصادي قضوا على الشريعة الإسلامية التي فصلت الأحكام في الربا، وفي الصرف، والرهن، وفي الوكالة، والكفالة، وفي القروض، والمساقاة، وفي المزارعة وفي كثير من الأحكام المذكورة في كتب الفقه. وقالوا: الإسلام لاينظم الجوانب الاقتصادية، فجاءوا برباهم، وببنوكهم الاستعمارية، ونشروها بين المسلمين، ثم قضوا على الحدود، وقالوا -مثلاً-: الزاني كيف يرجم، أو يقتل، لكن قانون نابليون يقول: "إن كان الزوج راضياً فلا شيء على المرأة، لأن هذا حق شخصي للزوج يطالب به في المحكمة، وهناك عقوبة إما الغرامة وإما سجن مدة من الوقت" فغيروا -أيضاً- أحكام الشريعة، وأحلوا محلها قوانينهم الوضعية الإباحية الانحلالية. هناك أيضاً جانب آخر -قد يغفل عنه الكثير، ولكنه مهم بالنسبة للأمة الإسلامية- وهو أنهم خططوا للقضاء على اللغة العربية، ونحن المسلمين لدينا استهانة عجيبة باللغة العربية، فلا نبالي حتى من كان منا على مستوى كبير في الثقافة أو في المنصب لا نبالي بما نلحن وما نخطئ في اللغة العربية، بينما الواحد منا إذا تعلم اللغة الإنجليزية مثلاً: لا يمكن أن يضع أي فعل من أفعال التكوين بدل الآخر، وإلا ضحك عليه زملاؤه، فأي شيء بسيط لا يمكن أن يكسره في اللغة الإنجليزية -مثلاً- لكن في اللغة العربية يكسر ما شاء، ويقول ما شاء، ولا رقيب ولا حسيب عليه، وهذا من قلة اهتمامنا بها ومن عدم معرفتنا لأهميتها. فإنه عن طريق فهم كتاب الله وفهم سنّة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعبد الله عز وجل على بصيرة، ولا يمكن أن نفهمهما إلا باللغة العربية، ففصلوا بين المسلمين وبين اللغة العربية، ونشروا اللغات الأوروبية نشراً قوياً، حتى أصبح الإنسان كأنه لابد في أكثر البلاد الإسلامية أو كلها حتى الدكان الصغير الذي لا يمر عليه أي أوروبي، ولا يشتري منه أي أوروبي ولا أمريكي أن يكتب بالعربي ويكتب بالإنجليزي، هذه الازدواجية هم الذين سعوا إليها وأرادوها، وأخذناها ببساطة وبغفلة شديدة. ومن جانب آخر أحيوا اللهجات المحلية والتراث المحلي، ونبشوا الأصنام القديمة وأظهروها، ونبشوا الحضارات القديمة، وقالوا: هذه حضارتكم فجعلوا لكل قطعة من بلاد العالم الإسلامي حضارة مستقلة، فجاءوا إلى مصر -وهي ركن قوي في جسم الأمة الإسلامية- قالوا: أنتم فراعنة، وحضارتكم تمتد سبعة آلاف سنة، وجعلوا الفتوحات الإسلامية بأسماء غربية فقالوا: الغزو الفارسي، والغزو العربي، والغزو العثماني، هؤلاء كلهم غزاة غزو مصر. وأحيوا الفينيقية، والآشورية، والبابلية، وفي كل بلد أحيوا الحضارات القديمة الوثنية، والتي يعود بعضها إلى آلاف السنين لينسى المسلمون أنهم أمة واحدة، وأنهم كالجسد الواحد، وأن تاريخنا قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظلام، وفوضى، وهمجية، وانحطاط، ويجب علينا أن نستحي أن نذكره، ولا نذكره إلا على سبيل الاستهجان، كما بين ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النجاشي وقالوا: 'كنا نأكل الميتة، ونقطع السبيل' نفعل ونفعل، تاريخ أسود لا يجوز أن يذكر، ولا ينبغي لعاقل أن يفتخر به. فجاءوا، وقالوا: لا بد أن تفتخروا بذلك، ولا بد أن تعملوا حفريات في الصحاري البعيدة لتجدوا مدينة عمرها أربعة آلاف سنة، وإذا أخرجوا من الحفريات شيئاً بسيطاً كإناء مكسور ضخموا هذا الاكتشاف، وتضيع فيه الملايين، وتضيع فيه الجهود، والهدف هو أن تنقطع صلة الناس بهذا الدين وبلغته وبتاريخه ويصبح تاريخاً جاهلياً، وأيضاً عملوا على إحياء اللغات المحلية والحضارات القديمة، وهدفهم من ذلك تقطيع أواصر هذا الدين، وتقطيع أواصر هذه الأمة حتى لا يجمعها أي شيء، وكان هذا -أيضاً- باباً من أبواب المؤامرة على الإسلام في هذا العصر، وهي مؤامرة -كما قلنا- مستمرة بدأت من الصراع بين آدم عليه السلام وإبليس وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

التخطيط للقضاء على الصحوة الإسلامية

التخطيط للقضاء على الصحوة الإسلامية لا نستطيع أن نفصل أكثر من ذلك فيما يتعلق بمحاور الغزو الفكري الحديث، والذي نستطيع أن نقوله: إن المؤامرة نجحت فيها، لكن ننتقل إلى ما بعد ذلك وهو: كيف خطط الأعداء للصحوة الإسلامية المعاصرة؟ أولاً هم وجدوا أنه منذ عشرين سنة بدأت في العالم الإسلامي صحوة، ويقظة، ونهضة، وعودة إلى الكتاب والسنة، على أيدي الشباب الذين بدءوا يفقهون ويتلمسون الطريق، فكان لا بد من اتخاذ طريقة جديدة وخطوة جديدة، وهي: أن يعاد في هذه الأمة بعث تلك الفرق القديمة، لأن شباب العالم الإسلامي -الواعين منهم- أخذوا يتحصنون ضد كل ما هو غربي، فـ الماسونية والشيوعية وكل الأحزاب والفرق الأخرى أصبحت الأمة في ملل منها بعد معرفتهم بحقيقتها، فقالوا: لا بد أن نحيي ونبعث الفرق الضالة. أيضاً الحضارات الوثنية القديمة لم تؤد الدور المطلوب، ولم يستجب لها الكثير، إذاً بعث الديانات القديمة هو الذي يمكن أن يستوعب هذه الصحوة، ويفرقها ويمزق شملها، ومن هنا أعادوا مجد الرافضة بالحدث الذي تعرفونه، وأعادوا -أيضاً- مجد غيرها من الفرق عن طريق البحث والتحقيق. وإذا قرأتم -مثلاً- معجم المستشرقين أو الكتب التي تحدثت عنهم، فانظر ماذا يحقق المستشرقون من الكتب، هل لديهم أي اهتمام بنسخة من صحيح البخاري أو نسخة من مسند الإمام أحمد قديمة؟! لكن انظر بأي شيء يهتمون؟ تجدها عقائداً منحرفة وفرقاً قديمة، يهتمون بها ويحققون كتبها ويطبعونها وينشرونها حتى تملأ الآفاق، وما ذاك إلا لتمزيق هذه الأمة، وهذه الصحوة الإسلامية التي بدأت -ولله الحمد- تفرض نفسها في الواقع، فهم يريدونها إذا أرادت أن تعود أن تحتار!! أي إسلام تعود إليه! تجد في المكتبة الواحدة: كتب رافضة، وكتب سنة، وكتب خوارج وكتب معتزلة كتب فرق كثيرة، فلايدري إلى أين يتجه، وأيضاً يجد كتباً تطعن في كتب السنة، وكتباً أخرى تطعن في القرآن وهكذا. فهذا الغزو الفكري أصبح يمر بمرحلة خطيرة ودقيقة جداً، يتطلب من جميع المسلمين -وخاصة الشباب- أن يكونوا على وعي وبصيرة بما يراد لهذه الأمة، وهذا أحدث ما يمكن أن نقول، أن الاستعمار أو التخطيط أو التآمر اليهودي الصليبي المجوسي يعمل ضد هذه الأمة، وبدأ يتتبع هذه الصحوة، يحاول أن يوجه -هو- مسيرتها وأن يمزقها ذات اليمين وذات الشمال، ويبعدها عن منهج الكتاب والسنة الذي يجمع الله به هذه الأمة، والذي يظهر الله به هؤلاء الشباب، وهؤلاء العلماء الذين هم قائمون عليه، والذي يعيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، بإذن الله تعالى من قوةٍ وعزٍ وتمكينٍ للإسلام.

وسائل النصر على الأعداء

وسائل النصر على الأعداء وكما لاحظنا في كل مرة فالمؤامرة في النهاية تنهزم، لكن تنهزم بقوة إيمان صادقة، وبعودة إلى الحق، ولهذا لا بد أن ننتبه إلى أمرين مهمين ويجب أن ننبه الإخوان عليهما: 1 - أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من قبل نفسها، حتى في غزوة أحد ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القائد وأصحابه هم الجيش، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فلا تصيبنا مصيبة في أي مرحلة من مراحل تاريخنا إلا بذنوبنا، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا تركتم الجهاد، واشتغلتم بالدنيا، وأخذتم بأذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم} وهذا يعني أننا إذا اشتغلنا بالدنيا، فاهتم -مثلاً- كل إنسان بوظيفته، وماله، وأسرته، وبيته، وتنمية موارده، واشتغل كل المسلمين بذلك؛ فإننا نكون لقمةً سائغةً لأعداء الله، وإذا اهتممنا بالآخرة وبديننا نصرنا الله كذلك، إذا أصلحنا ما بيننا وبين ربنا -عز وجل- وإذا تركنا الربا والزنا والفساد، وبذل أموالنا لدعم الشر -كما يحصل الآن للمسلمين- يشترون الأفلام والمجلات الخليعة، ويدعمون الشر بأموالهم، ويذهبون إلى بلاد الكفر فيصبون أموالهم هنالك على الفساد والمعاصي، فيعطونهم مالهم وينسلخون عن دينهم ويعودون، وهكذا. المقصود أننا أمة لا تؤتى إلا من قبل نفسها، كما كتب ذلك عمر -رضي الله عنه- إلى سعد بن أبي وقاص وإلى جيش المسلمين، الذين واجهوا أعتا أمة على الإطلاق، وهي أمة الفرس المجوس قال: [[ولذنوب الجيش عندي أخوف عليهم من عدوهم، فإن الله إنما ينصرنا بطاعتنا له ومعصيتهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة]] وهذا واقع في كل وقت أن أعداء الإسلام أكثر منا، ولا يوجد مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي إلا وكانت الجيوش الإسلامية أقل عدداً من محاربيها، ومع ذلك ينتصرون إذا كان الإيمان بالله عز وجل، فهذه القضية الأولى: أن نحاسب ونراجع أنفسنا قبل أن نلقي اللوم على أعدائنا الذين يتآمرون علينا. 2 - الأمر الآخر: أن نعرف عدونا، وأن نعرف مكره وخيانته ومخططاته، وأنهم كما بيّن الله تبارك وتعالى من عداواتهم أنهم يظهرون لنا العداوات وهي ظاهرة وواضحة ولكن ما تخفي صدورهم أكبر وأعظم وأشد، وأنهم لا يألون جهداً ولا يرقبون فينا إلاً ولاذمة، وأنهم لا يريدون ولا يرضون منا إلا أن ننسلخ عن ديننا، وأن نصبح عبيداً رقيقاً لهم، سواء كانوا في الشرق أم في الغرب، من المنافقين أم من الأعداء الخارجين، فإذا عرفنا عدونا فإننا حيئنذ -بإذن الله- مع إيماننا بالله عز وجل ومعرفتنا له وطاعتنا له؛ نستطيع أن نقاومهم، أما إذا بقيت الأمة الإسلامية في غفلة عن معرفة أعدائها ومن هم، فإن هذا مما يعيبها ويشينها ويجعلها لقمة سائغة لهم، والمشاهد والملاحظ في الأمة الإسلامية -وللأسف- أنها إذا ضربت أفاقت، وتبقى إفاقتها مادامت الضربة حارة ساخنة، فإذا بردت تعود إلى النوم فتأتي ضربة أخرى وهكذا، وهذه من الأخطاء التي حلت بالأمة الإسلامية، فيجب أن تكون دائماً مستيقظة، وحذرة؛ لأن الأعداء لا ينامون ولا يغفلون.

الأسئلة

الأسئلة

أحوال الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

أحوال الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم Q عندما ارتد معظم أهل جزيرة العرب عن الإسلام في عهد أبي بكر رضي الله عنه هل هذا إشارة إلى أن إسلامهم في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تحت قوة السيف أو لأطماع أخرى، ولم يكن رغبة في الإسلام ذاته؟ A هم أصناف: منهم من دخل في الإسلام أو أظهر ذلك وهو كاذب، ومنهم من لم يتلق التربية الكافية في أن يكون مؤمناً حقاً، ومنهم من ظنَّ أنَّ المسألة حدث من الأحداث العادية: رجل تغلب ثم مات، ومادام أنه قد مات فإن أمره قد انتهى، فهم أصناف متفاوتة في ذلك، لكن الطابع العام أو العبرة العامة التي يجب أن نأخذها، هي أن الإنسان الذي لم يتلق التربية الإيمانية الكافية هو عرضة للانحراف وأن يرتد إذا وجد المؤثر، فإنه بلا شك أن وجود المجرمين المتنبئين الدجالين ماكان ليظهر لولا أن صدقهم أولئك الذين كانوا حديثي عهد بإسلام، وضعاف الإيمان، ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، كما ذكر الله تعالى ذلك عن الأعراب، فمعظمهم على هذه الشاكلة، بخلاف مكة والمدينة، والبلاد التي كان الإسلام فيها قديماً، كبني عبد القيس فإنها ثبتت لأن الإيمان قد ثبت وتأصل في النفوس.

كيف تواجه عدوك

كيف تواجه عدوك Q لاشك أن أعداء الإسلام يجتهدون في الليل والنهار لهدم هذا الدين، فما الطريق الذي يجب أن يسلكه الشباب المسلم لمواجهة هؤلاء الأعداء؟ A قد اختصرنا الإجابة عليه في أمرين:- الأول: أن نكون نحن أهلاً لنصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وذلك بتقوى الله وبطاعته الله، وبالتزام أوامره، وبالتمسك بهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته، وترك جميع البدع والمعاصي والشركيات، لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فإذا صبرنا واتقينا؛ فإن كيد المؤامرات لا يضرنا أبداً -بإذن الله- ولكن إذا لم يكن فينا شيء من ذلك، أو ضعف فينا الصبر والتقوى، فإننا نكون عرضة لذلك. والأمر الآخر -كما أشرنا- أن نعرف أعداءنا، وأن نجتهد مثلما يجتهدون {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] فهم يبذلون الجهود والأموال والتضحيات ليل نهار ومصيرهم إلى النار، فكيف لا يبذلها من مصيره -بإذن الله تعالى- مع إخلاص النية وصدق العمل إلى الجنة، هذا هو المهم.

يطلع قرن الشيطان من المشرق

يطلع قرن الشيطان من المشرق Q ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال عن جهة المشرق عندما ذكر أهل الشام واليمن بالخير، قال عن المشرق: هناك قرن الشيطان، هل الذي ورد صحيح، وهل توضحوا لنا ذلك؟ A نعم الحديث صحيح {ويطلع من هاهنا قرن الشيطان، وأشار بيده إلى المشرق أو نجد} وفيه دلالة من دلائل النبوة على صدق نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الإنسان إذا كان في المدينة -كما تعلمون موقعها- وأشار إلى جهة المشرق أو إلى جهة نجد، فإن الفتن تكون من هنالك، فمعنى ذلك أنه الجناح الشرقي من العالم الإسلامي، وأوضح مثال لذلك بلاد الفرس وما حولها، تكون مصدر الفتن للإسلام، وهذه حقيقة، فإن الإنسان إذا قارن ما ظهر من الضلالات، ومن الفرق، ومن الطوائف، ومن الكيد للإسلام من المشرق بما ظهر في المغرب؛ لوجد النسبة ضئيلة جداً لا تكاد تذكر، حتى أن العبيديين الذين حكموا مصر وبلاد المغرب أصل تربيتهم كانت في الكوفة في المشرق، فهذا إشارة إلى أن أعظم من يكيد للإسلام، وسيظل يكيد له إلى قيام الساعة هم أمة المجوس الفرس، إلاّ من هداه الله تبارك وتعالى منهم ودخل في الإسلام، ولو استعرضتم وقرأتم كتب الفرق -أي كتاب من كتب الفرق- كـ الملل والنحل، والفرق بين الفرق، والتنبيه والرد وأي كتاب آخر تجدون أن حوالي (80%) أو (90%) من الفرق ظهرت من تلك البلاد بالفعل، فهذا تصديق لما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

تشويه الصحابة

تشويه الصحابة Q من مؤامرات أعداء الإسلام إدخال الدسائس في التاريخ الإسلامي، وذلك بتشويه حياة الصحابة والتابعين وغيرهم وتصويرهم بأنهم خمارون وعشاق، فحبذا أن تبين لنا قليلاً في هذا الموضوع؟ A نعم هذا من أهدافهم؛ لأن القدوة التي يقتدي بها المسلمون ليعودوا إلى دينهم الحق هم هؤلاء الرجال، فإذا تشوّهوا فإنّ القدوة تكون مفقودة، ومالنا نقول شوهوا الصحابة والتابعين، وقد شوهوا سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! انظروا إلى الذين كتبوا عن سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموجودة في القرآن وهو المصدر الأول لها والسنة الصحيحة، انظروا إلى الذي كتب على هامش السيرة وأدخل في السيرة من اختلاقه المحض، الذي لا وجود له لا في كتب المسلمين ولا اليهود ولا النصارى، وفيه روايات طويلة وحب وغرام وأشياء أخرى، وغيره أيضاً، ماذا كانوا يريدون؟ ثم جاء بعدهم من يكمل المؤامرة، فيقول: نحول كتاب على هامش السيرة إلى مسلسلات في رمضان، لأن هذا كتاب عظيم والمؤلف قدير ومشهود له، فيزداد البلاء بلاءً، كان الواحد يقرأ أن فلاناً أحب فلانة ويأتي وإذا به يشاهد مشهد حب علني واضح أمامه وباسم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظروا إلى أي حد يصل الامتهان والاحتقار لهذا الدين ولرسوله العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي حد تكون غفلتنا! فشوهوا سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشوهوا تاريخ الصحابة. أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما نطق بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يفتح الله على يديه بلاد الشام، يكتبون عليه في كتبهم وفي مسلسلاتهم أنه فتح بلاد الشام عن طريق العشق والحب!! الذي وقع بينه وبين بنت هرقل، أمين هذه الأمة عاشق خائن، فبالله من هو الأمين فينا إذاً؟! هل فينا إذاً أحد أمين؟! إذا كان أميننا بهذا الشكل؟! وهكذا يريدون أن يشوهوا خالد بن الوليد، كما كتبوا: يقاتل المرتدين لأن مالك بن نويرة لديه زوجة جميلة ويريد أن يتزوجها، وفي معركة واحدة تكسرن عشرة سيوف في يد خالد بن الوليد أمام الفرس، وشهد لهم بأنه مارأى أمة أقوى منهم. ووصل إلى المدينة من سبايا الأمم ما عجز الناس عنها، حتى أصبحت أجمل بنات الفرس والروم من بنات الملوك تباع بدينار وبدينارين، فهل هؤلاء ناس يريدون الشهوات؟! يتركون هذا البيع المعروض ويذهبون إلى تلك البلاد، ويموتون على أسوار القسطنطينية وعلى حدود الصين وفي الأندلس وهدفهم البنات -سبحان الله! - ولو قيل لأحد منا -وعلى ما في إيماننا من ضعف وعلى ما فينا من ذنوب- أن هدفك من هذا العمل بنت تراها وتحبها، والله لا يرضى، وسيغضب ويقاتل، ويطالب بحقه، وكلنا لا نرضى بهذا، ويكتب عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبرمج ويوضح علانية عنهم أو عمن بعدهم ولا نكاد نتأثر -سبحان الله! - هذا دليل من الأدلة على الحال التي وصلت إليه هذه الأمة.

أسباب الحقد على الإسلام

أسباب الحقد على الإسلام Q لماذا هؤلاء الحاقدون على الإسلام يريدون تدمير هذا الإسلام الحنيف؟ A الشرك يريد أن يدمر التوحيد، والبدعة تريد أن تدمر السنة، والمعصية تريد أن تدمر الطاعة، والشيطان يريد أن يدمر الإنسان التقي النقي الصالح، فكيف لا يقع هذا العداء، ولم نعجب منه؟! {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] فهذا الشيطان، وهؤلاء أذنابه وأذياله وأتباعه، فهم أعداء حسب السنة الكونية التي جعلها الله تبارك وتعالى حينما أهبطهم منها جميعاً -أي الشيطان وآدم عليه السلام- فإن العداوة لا بد أن تستمر، وكيف لا يعادينا اليهود وقد قتلوا وطردوا من بلاد الإسلام؟! كيف لا يعادينا المجوس وقد دخل المسلمون بلادهم، وهدموا عروشهم، ودمروا دينهم، واحتلوا كافة ممتلكاتهم؟! كيف لا يعادينا النصارى ونحن نعبد الله، وهم يعبدون المسيح، ويعبدون الصليب، وقد دخل أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعز وأعظم ممتلكاتهم، وهي الشام ومصر وشمال أفريقيا، وأخذوها وغزوهم في عقر دارهم؟ هذه سنة الحياة، ولا بد من الصراع بين الحق والباطل، حتى وإن تهاونّا نحن غزونا في عقر دورنا، فلا غرابة إذاً في هذه العداوة.

كتاب منهاج السنة النبوية

كتاب منهاج السنة النبوية Q سؤال عن كتاب منهاج السنة النبوية؟ A منهاج السنة النبوية كتاب ألفه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وجدير بكل مسلم من أمثالكم أن يشتريه، وقد طبع سابقاً في أربعة أجزاء في مجلدين، وعلى حاشيته جزء من كتاب درء التعارض، وقد طبع مؤخراً الكتاب بتحقيق محمد رشاد سالم في تسعة مجلدات، وكل من كتب عن الروافض فإنّه عالة على هذا الكتاب، وفي الكتاب تحقيق للأحاديث وللقضايا التاريخية، وتمحيص للقضايا الفقهية التي يعارض فيها أولئك، وأيضاً فيه بحوث عميقة وأصيلة، في كل قضية تعرّض لها أولئك، وهذا من نعمة الله على هذه الأمة أن هيأ لهم مثل هذا الرجل وأن ألف مثل هذا الكتاب. وأصل قصة هذا الكتاب أن أحد ملوك التتار أراد أن يدخل في الإسلام وكان نصرانياً، لأن دينهم لا يقبله العقل، فتقدم إليه أحد الروافض ويدعى ابن مطهر الحلي، والذي يسميه علماء الجرح والتعديل ابن منجس لأنه أبعد شيء عن الطهارة، فكتب كتاباً من خمسين صفحة تقريباً عنوانه منهاج الكرامة جاء فيه بأدلة وبراهين على أن دين الرافضة أفضل الأديان، من أجل أن يدخل هذا الملك في دين الرافضة، فجاءه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية يرد عليه ويقول: قال الرافضي: البرهان الأول ويمسك على هذه الكلمة -أحياناً- مائة صفحة على سطرين أو ثلاثة، وينقدها نقداً أحياناً من ثلاثين أو عشرين وجهاً، أو أكثر من الوجوه العقلية، بحيث لو قرأها يهودي أونصراني أو مشرك بعيد كل البعد عن السنة والشيعة، لكنه عاقل منصف، لأيقين أن هؤلاء أهل السنة على حق أبلج واضح، وأن الروافض على فساد وعلى ظلام وضلال، وهذا من فضل الله أنه قيض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكتاب، حتى أنه أثار عليه حسد الحاسدين، مثل السبكي -غفر الله له وكان من العلماء الكبار- أثار حسده هذا الكتاب على شَيْخ الإِسْلامِ، وقال: إن الرافضة لا يحتاجون إلى أن يرد عليهم، وما استطاع أن يقول شيئاً -تقريباً- لأن الرفض مشهور ومعروف أنه باطل، والناس في غنيةٍ عن رد مذهبهم إلخ.

مؤلف كتاب البداية والنهاية

مؤلف كتاب البداية والنهاية Q سؤال عن كتاب البداية والنهاية؟ A الكتاب لابن كثير، وهو كتاب معروف في التاريخ.

التسمية بعصر الانحطاط

التسمية بعصر الانحطاط Q نحن نسمع عن عصر الانحطاط، وفي هذا العصر ظهر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وظهرت الحركات الإصلاحية، فما رأيك في هذه التسمية؟ A الأمة الإسلامية -بلا شك- مرت بعصور انحطاط، ومنها عصرنا هذا الذي نعيش فيه، لكن الحقيقة التي نقولها نحن ونؤكد عليها: إن كل عصر انحطاط فيه حركة تجديد وفيه دعوة، وهذا فضل من الله لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو الذي لا ينطق عن الهوى- صح عنه من طرق عديدة عن عدد من الصحابة أنه قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} وفي رواية: {يقاتلون على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله} والمقصود بأمر الله ما وضحته الروايات الأخرى أنه الريح الطيبة التي تأتي قبيل قيام الساعة فتقبض أرواح المؤمنين، ثم يبقى الأشرار وعليهم تقوم الساعة. فلا ضير أن نقول: عصور انحطاط، ولكن نقول: ولله الحمد كلما انحطت هذه الأمة فإن الله يبعث من يجدد لها دينها، أما الإسلام في ذاته فلا ينحط أبداً، ولم ولن ينحط، ولن يستطيع أحد أن يحط من شأنه، لأنه دين الله عز وجل وأي أمة أو دولة تقوم بهذا الدين فإن الله ينصرها ويظهرها، فإن تخلّت عنه فإنه يستبدل قوماً غيرها ثم لا يكونوا أمثالها، أظهر الله تعالى صلاح الدين وأسرته بعد أن كانوا لا قيمة لهم تذكر، وبهذا الدين اعتلوا، ولما جاهد العثمانيون أظهرهم الله عز وجل، وتعلمون كيف بلغ ملكهم. أيضاً لما عاهد محمد بن سعود -رحمه الله- الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- على دعوة التوحيد، انظروا كم كان من الأمراء في ذلك العصر موجوداً، وكم كان من حكام، وكم كان من قبائل، وكان محمد بن سعود أميراً على الدرعية فقط، ولا أحد يعرف عنها شيئاً، وليست إلا قرية صغيرة، ولما قامت هذه الإمارة الصغيرة على التوحيد، انظروا كيف ظهر الملك لهذه الأسرة! وهكذا كل من قام على التوحيد فهو مؤيد منصور، والأمة الإسلامية إذا هي تخلت عن التوحيد، وعن العمل بالكتاب والسنة، فإنها تنحط؛ فيستبدل الله قوماً غيرها، فهذه سنّة جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن من نصر هذا الدين فإن الله ينصره، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله ليرفع بهذا الدين أقواماً ويضع به آخرين} فبحسب التمسك به يرتفع الناس. كان خلفاء بني أمية يحكمون العالم تقريباً، وبقية ملوك العالم يعطونهم الجزية، وكان الناس -أيضاً- يعظمون العلم والعلماء، فحج عبد الملك بن مروان وهو ملك الدنيا في عصره ومعه أولاده وحشمه وحاشيته، ومروا في موسم الحج وإذا بزحام شديد وعظيم، فتعجبوا من هذا الأمر! ومن هذا الرجل الذي يزدحم عليه الناس! وإذا به عطاء بن أبي رباح من التابعين قال عنه ابن كثير: كان عبداً أسوداً نوبياً أعمى أقطع، أوصاف كل واحدة منها كافية لكي ينفر منه الناس، وأيضاً كان هذا في عهد أواخر الصحابة، وفي حياة بعض الصحابة، ويكون بهذه الهالة وهذا الاجتماع العظيم وهذا الزحام الشديد على هذا الرجل؛ لأنه عالم أظهره الله {يرفع الله بهذا الدين أقواماً ويضع به آخرين} فهذا الدين وضع أبا جهل وغيره من كفار قريش، ورفع هذا العبد الأسود النوبي الأعمى الأقطع، ورفعه حتى حسده الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أبتاه ما هذا؟ قال: يا بني هذا هو الملك، لا ما نحن فيه، فإن من حولي وحولك لولا الملك ما اجتمعوا، وأما هذا فإنهم يأتونه راغبين. المقصود أن هذا الدين يرفع الله تعالى من تمسك به مهما كان، ومن تركه وتجافى عنه أذله الله -مهما كان-.

إحراق الإمام علي للروافض

إحراق الإمام علي للروافض Q أرجو أن توضحوا لنا كيف قام الخليفة الراشد علي بن أبي طالب بحرق أولئك الروافض، مع أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الحرق بالنار؟ A نعم، لو رجعت إلى صحيح البخاري لوجدت أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- على فقهه وعلمه اعترض على ذلك، وهو لم يعترض على معاقبتهم لأن عقوبتهم بلا شك يجب أن تكون بأعظم عقوبة -وهي القتل- لكن قال: لو كنت أنا لقتلتهم ولما حرقتهم، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يعذب بالنار. ومن الناحية الفقهية البحتة -لا شك- أن ما ذهب إليه عبد الله بن عباس هو الأرجح وهو الصحيح، فالذي يُفعل بهؤلاء الناس ليس الحرق وإنما هو القتل، فلا حرق ولا تعذيب بالنار في الإسلام. لكن لله في ذلك حكمة، وهذا أمر واجتهاد قد وقع، ومن خليفة راشد، حتى يبقى المسلمون يتذكرون هذه القضية أنه في الإسلام -تقريباً- ما أحرق إلا هؤلاء الناس، ويقال أن الفجاءة أحرق -الذي كان يعمل عمل قوم لوط- لكن هذه قضية مشهودة، مرئية، متواترة، لماذا أحرقهم؟! هل لأنهم قالوا: نحن نقاتلك! هل لأنهم كفروه؟! لا، لأنهم قالوا: أنت الله!! من شدة تعلقهم به، وهذا هو الذي يفعله هؤلاء الطائفة إلى اليوم، حتى يبقى في ذاكرة الأمة الإسلامية أنه قد يبلغ بالإنسان من شدة ما يرى من استحقاقهم للعذاب والألم، أنه قد يتجاوز الحد الراجح إلى الحد المرجوح أو غير الراجح، والموضوع من الناحية الفقهية فيه كلام.

حل مشكلة امتلاء المكتبات بالغث والسمين

حل مشكلة امتلاء المكتبات بالغث والسمين Q المكتبات مليئة بالغث من الكتب الغير النافعة لذلك تجد الشباب في حيرة في اختيار الجيد والمفيد، ما هو الحل لهذه المشكلة من تنظيف المكتبات من الغث والكتب الضارة؟ A الحقيقة أن أزمة الفكر والثقافة في الأمة الإسلامية أزمة رهيبة، هناك الآن غزو رهيب غير الكتب، وهي تتمثل في المجلات الفاسدة التي تتاجر بالصور الخليعة -وهذه مع الأسف- لم تعد مقصورة على المكتبات بل غزت جميع الدكاكين، الآن حتى البقالات موجودة فيها، ونخشى أننا لو سكتنا واستمر هؤلاء الناس أن يبيعوها في كل متجر وفي كل مكان، ولاشك أن لهم من وراء ذلك غرض لولم يكن منه إلا الربح المادي لكفاهم، وذلك أنك تأتي -مثلاً- بمائة نسخة من أي مجلة خبيثة في بقالة صغيرة، فتباع جميعاً في يومين أو ثلاثة أيام، وهذا شيء عجيب!! أموال الأمة تذهب في هذا الهراء، فهذا هو الجانب الأول الذي يمسخ الأخلاق والفضيلة في المجتمع. والجانب الثاني على المستوى الفكري البحت: أن المكتبات الآن تمتلئ بالكتب وبالمؤلفات ولكنها غثة. والحقيقة أن انتشار الكتب الغثة يعود إلى أمرين: 1 - ضعف المستوى العلمي عند الأمة، حتى أصبحت الأمة تقرأ الغث والسمين أياً كان، والنقد ضعف، فلا يوجد علماء نقاد، بل على العكس الآن لو أن أحداً كتب كتاباً فنقده آخر، لقالوا: هذا ما ينبغي، هذا تشويه، وهذا الكلام غير صحيح، فإن هذا أمر ينبغي علينا فعله، فلولا النقد لما توجهت الحركة العلمية والثقافية التوجه الصحيح، فهذا هو الأمر الأول. 2 - أن الناس أصبحوا يشترون أي شيء. وفي هذه المناسبة أنا أتعجب أنني أقرأ في الملاحق الأدبية دائماً أن الكتاب السعودي في أزمة والكتاب السعودي لماذا لا يكون عالمياً، والكتاب السعودي كذا، أنا أتعجب من هذا الكلام!! حقيقة أقول: هل هذا الكلام صحيح؟ إذا اعتبرنا الكتاب السعودي هو ما يكتبه الشعراء السعوديون والقصة القصيرة التي يكتبها الشباب الصغار، فصحيح أنها ليست رائجة ولا تملك الرواج العالمي، لكن كتب الخير رائجة -والحمد لله- خذوا كتب ورسائل الشيخ عبد العزيز بن باز وقد ترجمت إلى جميع لغات العالم، وهي موجودة في كل بيت مسلم الآن تقريباً فكيف تقول: أن الكتاب السعودي ليس منتشراً. نحن في ذهننا أن الثقافة مفصولة عن الدين، فلهذا نتحسر أنه تقام معارض في خارج المملكة، والكتاب السعودي ليس موجوداً بينما تجد في هذه المعارض أنه لا يمكن أن يقام معرض داخل المملكة أو خارجها إلا وعلماء هذه البلاد موجوده كتبهم فيها، والآن كما يقول بعض الإخوة: نادراً أن تجد مثقفاً في العالم الإسلامي -مثلاً- لا يوجد لديه كتاب التوحيد وكتاب فتح المجيد وأحد شروح كتاب التوحيد التي كتبها العلماء مثل الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أو أمثاله.

من مقتضيات التوحيد

من مقتضيات التوحيد تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن نعمة التوحيد، وحال الأمة قبله، ثم تحدث عن ضرورة تحقيق مقتضياته، وذكر من أهمها: الولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم نبه على صور من الولاء للكافرين، والتي يمكن أن يقع فيها المسلمون، مركزاً على أهمية متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في امتثال هذا الدين.

نعمة التوحيد

نعمة التوحيد الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد: فنحن أمة الإيمان، وأمة التوحيد، ونحن الأمة التي اصطفاها الله وفضلها وشرفها على سائر الأمم، وربط بين أفرادها وقلوبها برباط التقوى، وجمع بينها بجامع اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالحمد لله على ذلك، والحمد لله الذي هدانا لسنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والحمد لله الذي جعلنا ممن يحضر مجالس الذكر، ويحب الصالحين، ويجتنب مجالس اللهو والزور، ويكره العصاة والمفسدين والمجرمين. الحمد لله الذي علَّمنا قيمة التوحيد، وعرَّفنا أنه من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، وعرفنا أنه لا خير فينا، ولا في حياتنا، ولا في أي شأنٍ من شئوننا إلا بأن نكون على توحيد الله عابدين لله وحده لا شريك له، متبعين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمنا أننا نحب في الله، ونوالي في الله، ونبغض في الله، ونعادي في الله، ونعطي في الله، ونمنع في الله، فأعمالنا كلها لوجه الله تبارك وتعالى ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وعلى هذا نجاهد أنفسنا، وندعو الخلق أجمعين إلى أن هذا هو دين أنبياء الله المرسلين، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وكما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]، فهذا الدين العظيم هو التوحيد الذي ميزنا الله به عن سائر الأمم، فهو النعمة العظمى، والمنّة الكبرى من رب العالمين تبارك وتعالى، وهل يستوي عند الله من عرفه، ووحده، وعبده وحده لا شريك له، ومن أشرك معه غيره من خلقه؟ لا يستوون عند الله. التوحيد هو معقد النجاة في الدنيا والآخرة: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] فعلى هذا وإليه دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد في الله حق جهاده، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم}. نعم. من تشبه بقوم فهو منهم، فمن تشبه بأهل الإيمان والتوحيد والسنة والطاعة فهو منهم، ومن تشبه بأهل الكفر والنفاق والبدعة والعصيان فهو منهم.

توحيد الصحابة

توحيد الصحابة فمن أجل التوحيد جاهد الصحابة الكرام فخرجوا من هذه الجزيرة القاحلة في سبيل الله، وفي ذات الله، وانطلقوا شرقاً وغرباً يرفعون راية "لا إله إلا الله" فدانت لهم الدنيا وخضعت، حتى عجب المؤرخون وعجزوا عن تفسير هذه الظاهرة، هل في التاريخ كله من ظاهرة أعجب وأعيى للعقول منها؟ أمةٌ تنبعث من هذه الجزيرة -من هذه الصحراء- لم يكن لها حضارة، ولا علم، ولا تاريخٌ مجيد تفخر به، ولم تكن لها قيم إلا موروثات الجاهلية وعاداتها وتقاليدها، وتخرج لتدخل الناس في دين الله أفواجاً. كان الناس في بلاد الشام تحت حكم هرقل، وكان هرقل -والي الشام - على دين النصرانية الباطل المحرف -هذا مثال من الأمثلة- ولما دخل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمشق، لم يكن لهم فيها إلا مسجد واحد يجتمع فيه المسلمون، بقي فيه قلة، والبقية انطلقوا يجاهدون ويفتحون المدن الأخرى، وما تم لهذا الأمر إلا زمنٌ يسير حتى أسلم الناس كلهم، أهل دمشق ومن حولها، وبلاد الشام إلا من أعمى الله تبارك وتعالى بصيرته دخل الناس في التوحيد لما رأوا نور الإيمان، والتوحيد، ولما رأوا أخلاق النبوة ورأوا بيوت الله وكان فيها أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى رأسهم معاذ بن جبل في دمشق، ذلك الشاب التقي النقي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- كانوا يهدون الناس بنور وأخلاق النبوة، فلما رآهم نصارى بلاد الشام قالوا: والله ما الذين صحبوا المسيح عليه السلام -أي الحواريين- بأفضل من هؤلاء، رأوا الخلق ورأوا التواضع والزهد ورأوا إيثار الآخرة على الدنيا، ورأوا الإقبال على الله -تبارك وتعالى- وعلى تلاوة الذكر الحكيم وتعليم الناس هذا الدين العظيم، فدخلوا في دين الله أفواجاً منقادين راغبين غير راهبين.

وضوح العقيدة الصحيحة

وضوح العقيدة الصحيحة إن هذه العقيدة النيرة الخيرة ببساطتها، وبوضوحها فهي -والحمد لله- كالشمس في رابعة النهار، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تركتكم على مثل البيضاء -وهي الشمس- ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} إنها قد استحقت أن تنجذب إليها القلوب، وأن تتفاعل معها مشاعر الناس قديماً وحديثاً، فيدخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- أفواجاً.

التوحيد أولا

التوحيد أولاً إن العقيدة هي أعظم وأفضل ميراث ورثناه، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، ورأس العلم: العلم بالله وبتوحيده-تبارك وتعالى- كما قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد:19]. العلم بالله تبارك وتعالى أن تعرف الله كما جاء في حديث معاذ -رضي الله تعالى عنه- لما بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن قال: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا هم عرفوا الله فأبلغهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات} فمعرفة الله أساس كل شيء، يعرف أنه لا إله إلا هو -تبارك وتعالى- وأنه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريكٌ في الملك، ولا ولي من الذل، إنه العزيز الجبار المتكبر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي إليه المنتهى، وبيده خزائن كل شيء، وأنه بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو وحده الذي يُدعى، ويُرجى، ويُخشى، ويُخاف، ويُتضرع إليه، وهو حسيب المؤمنين وكافيهم في كل أزمة وفتنة ومحنة.

تجديد معالم التوحيد

تجديد معالم التوحيد وعلى هذه العقيدة استقامت وصارت الدعوات التجديدية، يبعث الله تبارك وتعالى على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكان من آخرها -كما نعلم جميعاً- تلك الدعوة العظيمة التي دعا إليها الإمام المجدد العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فجاء ليعيد لهذه العقيدة نقاوتها، وليعيد إلى هذه الجزيرة قيادتها، فحول التاريخ مرةً أخرى، فبعد أن كانت معاقل الإسلام، وحواضره، وعواصمه، هي: بغداد، أو دمشق، أو قرطبة، أو القيروان، عاد التاريخ مرةً أخرى إلى هذه الجزيرة الخيرة، عاد عبر التجديد الذي جعله الله تبارك وتعالى ميزة لهذا الدين فلا ينضب أبداً -بإذن الله تبارك وتعالى- لتنطلق من جديد بنفس النقاء، والصفاء، والوضوح، والاتباع، فالحمد لله على ذلك، وهذا من فضله، ومنِّه، وجوده، وتوفيقه.

بشائر التجديد

بشائر التجديد إنني لأبشر نفسي دائماً بأن هذه الصحوة الطيبة المباركة لا بد وأن تنتصر -بإذن الله- وإني لعلى يقين من هذا كما أننا موقنون أن الشمس سوف تطلع غداً؛ وذلك لأن الله تعالى هو الذي تكَّفل بنصر هذا الدين، ولأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أخبرنا بذلك. وسأذكر مثالاً واحداً من بشائر هذا النصر -لتعلموا أن ما قلته إنما هو عن حقٍ وحقيقةٍ بإذن الله- نحن نرى هذا الشباب المقبل على الله في كل مكان، نراهم إذا سمعوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً وصح عندهم عملوا به ودعوا إليه، واتبعوه ونشروه، فما معنى هذا؟ معنى هذا أن الصحوة قائمة على قاعدة الاتباع، ومن اتبع هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوالله لينال من النصر والتأييد والتوفيق بمقدار اتباعه له، فهذا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا حجته على خلقه، الذي جعل الله تبارك وتعالى محبته واتباعه معياراً لكل أحد من مدعي الإيمان: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] فالاتباع هو تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. فإذا قلت للأخ أو للأخت المسلمة: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال كذا، قالوا: سمعنا وأطعنا، فالحمد لله لم نعد كما كان الحال في السنوات الماضية نتبع مجرد أقوال أو آراء للعلماء منها الخطأ ومنها الصواب، وأعني بالعلماء: فقهاء الأمة الأربعة أو غيرهم، وإنما أصبحت الصحوة تتبع الدليل أينما كان، وللعلماء قيمتهم وكرامتهم ومنزلتهم، ولكن إذا صح الحديث فهو مذهب الجميع لا ينازع في ذلك أحد. ولهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله- عندما سأله الرجل عن أمرٍ فأخبره بالحديث، فقال: 'وأنت ماذا ترى؟، قال: أتراني في كنيسة؟! أترى عليَّ زناراً؟! أقول لك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: ما رأيك أنت؟ وهل لأحد من رأي بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ' وصدق الله إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].

أساس الدين وقاعدته

أساس الدين وقاعدته أبشروا -أيها الإخوان- ما دام هذا طريقنا، فأبشروا واستبشروا خيراً ونصراً وتوفيقاً بإذن الله تبارك وتعالى. وإن مما يجب أن نذكره -ولا يخفى على أمثالكم- في هذا الشأن أن دين الإسلام وقاعدته العظيمة مبنية على أصلين عظيمين معروفين: الأول: ألا يعبد إلا الله، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله. والأصل الثاني: ألا يعبد الله إلا بما شرع سواء في كتابه أو في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يعبد الله تبارك وتعالى بالأهواء والبدع، وبهذا نفترق عن طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، وهذا معنى الشهادة: بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذه الشهادة العظيمة إذا عقلناها وعرفنا معناها، وحمدنا الله تبارك وتعالى على ذلك، واقتدينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه، وأئمة الدعوة المجددين في فهمها وفقهها، والدعوة إليها ينبغي أن نعلم أن لها حقوقاً ولوازم ومقتضيات. والمقصود أن هذه الكلمة العظيمة تؤتي ثمارها كما ذكر الله تبارك وتعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25].

الولاء والبراء من أعظم مقتضيات كلمة التوحيد

الولاء والبراء من أعظم مقتضيات كلمة التوحيد إن شجرة التوحيد والإيمان -شجرة لا إله إلا الله- لا بد لها من أصول، وفروع، وثمار، ومن أعظم مقتضياتها وأوجب حقوقها ولوازمها أن يوالي العبد في الله، ويعادي فيه، وأن توالي المؤمنين، وأن تعادي الكافرين، فإن من والى عدو الله لا يمكن أن يكون محققاً لشهادة أن لا إله إلا الله، ولا آتياً لمقتضياتها، فالله تبارك تعالى قد بيَّن لنا أعداءه فيجب أن نعاديهم، وبيَّن لنا عداوة الشيطان، فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، هذا الشيطان عدو الله، فكيف نطيع الله أو ندَّعي أننا نطيع الله، ثم نطيع الشيطان ونتبعه ولا نعاديه! لا يمكن ذلك، فالله -تبارك وتعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ} [الممتحنة:1] انظر! كيف قال؟ عدوي وعدوكم -الله أكبر- وهل هناك أعظم فخراً من أن يكون اسمك مقترناً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيكون عدو الله عدواً لك، ويكون حبيب الله حبيباً لك، نعمةٌ عظيمة لأنك تعادي وتوالي فيه ولوجهه عز وجل. ومن هم أعداء الله؟ قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] نعم! هؤلاء هم أعدى أعداء الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الذي يجب أن يعاديهم المؤمن، وهذا ما بينه الله -تبارك وتعالى- بقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه} [المجادلة:22] فمهما كانت قرابتهم، فإنهم إن كانوا مؤمنين فلا بد أن ينابذوهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81] لا يمكن أبداً، فاليهود والنصارى والمشركون الذين يكيدون لدين الله -تبارك وتعالى- ويريدون أن يطمسوا ويطفئوا نور الله بأفواههم، لا يمكن أن يكونوا لنا أحبة ولا أن نودهم، بل لا بد أن نعاديهم ونبغضهم بكل أنواع البغض ابتداءً من الجهاد وانتهاءً بكراهية القلب. فهم الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وهل في إمكان أي مسلم أن يرغب عن ملة إبراهيم وأن يتبع ملة هؤلاء المجرمين المحرفين المبدلين، الذين جعلوا لله ولداً تبارك وتعالى والذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين في كل مكان، لا يمكن أبداً. إذاً لا بد أن نخلص قلوبنا فنحب من أحب الله، ونبغض من أبغض.

صور من الولاء للكافرين

صور من الولاء للكافرين المتأمل في حياتنا يرى أننا نعيش في حال يرثى لها من البعد عن هذه الأصول العظيمة، والمقتضيات الجلية الواضحة، فمن المسلمين مَن أحبوا أعداء الله، بل واتبعوهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} منهم من اتبعهم ومنهم من لم ينكر عليهم، ومنهم من كان خطؤه في أنه أحب أعداء الله؛ وزاد على ذلك ببغض أولياء الله، وهذا ضلال مبين، فلم يكتف بأن يوالي الكافرين، بل زاد على ذلك معاداة الصالحين والمؤمنين! وبعضهم يعكس المسألة، لا يستطيع أن يرتب ولاءه وعداءه، وهذه آفة عظيمة تعتري القلوب، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما رتب الأعداء يجب عليك أن ترتبهم في العداوة وكما رتب حب أوليائه كذلك يجب عليك أن تحبهم على الترتيب الإلهي والنبوي، فأكثر من نحب في هذه الأمة هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الصحابة، ثم السلف الصالح أصحاب القرون الثلاثة المفضلة؛ وهكذا بهذا الترتيب، فلا نحب أحداً ممن جاء بعدهم أكثر منهم، المحبة الإيمانية الدينية الشرعية، وكذلك في البغض، نبغض اليهود والمشركين والكافرين، ثم نثني ببغض أهل البدع والضلال والانحراف، ثم نثلث ببغض أهل المعاصي، والفجور، والفسق، والعصيان، وهكذا، فلو أننا عكسنا ذلك، بأن أبغضنا المسلم الذين فيه فسق ومعصية أكثر من اليهودي أو النصراني لكان ذلك خطأً بلا ريب، ووضعنا الشيء في غير محله، فكيف لو عكس الأمر فأصبح الواحد يبغض المؤمنين الصالحين، ولا يبغض أولئك الكافرين؟ هذا لا يمكن أبداً -ونعوذ بالله أن يكون فينا من يكون كذلك- لكن هذه الحقائق غائبة عن كثيرٍ من المسلمين لعوامل كثيرة مثل الضعف في النفوس، وقلة العلم، وقلة الدعوة وهكذا. والمقصود هو أن نعلم أهمية هذا الأصل العظيم وأن نجتهد جميعاً في إحيائه، واقعنا العملي يدعونا إلى ذلك، فمثلاً: ليلة رأس السنة الميلادي، عند النصارى، وعند الكفار، ما يسمونه بعيد ميلاد المسيح عليه السلام فيا سبحان الله! هل يجوز أن نحتفل نحن بميلاد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو أفضل من عيسى -عليهما السلام- والذي نحن من أتباعه، لا، والله لا يجوز ولا نرضى ذلك ولا نقره وذلك لأنه مُبتدع، مُحدث، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ونحن -والحمد لله- نعظم رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعزره ونوقره ونحبه؛ ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، فلا نحتاج إلى أن نبتدع في دينه، أو نأتي بيوم نحتفل فيه بعيد ميلاده، كما يفعل بعض أهل البدعة أو الجهالة. فإذا كان الأمر كذلك، فهل يجوز أن نحتفل بعيد النصارى؟! لا يجوز ذلك أبداً؛ لأن المسيح عليه السلام لم يحتفل بعيد ميلاده ولا دعا الناس إلى ذلك، ولا يستطيع أي نصراني في الدنيا -مهما كان- أن يأتينا بنص واحد عن المسيح عليه السلام ولا عن الحواريين-ولو كان محرفاً مبدلاً- أنه احتفل بعيد ميلاده أو دعا الناس إليه، ولو كان احتفالهم قراءة في الإنجيل! فهذا كله لم يرد. فكيف -وهو مُحدث مُبتدع في دينهم- نأخذه نحن في ديننا؟ فكيف وهم يضيفون إلى البدعة والإحداث في الدين الكفر بالله -تبارك وتعالى-؟ فيزعمون في هذه الاحتفالات أن لله ولداً -تبارك الله وتعالى عن ذلك- ويزعمون أن الله ثالث ثلاثة، ويدَّعون أن له الصاحبة، ويشركون به في صلواتهم ودعائهم، ويضيفون إلى ذلك شرب الخمر، والاختلاط، والأمور التي لا يرضاها ولا يقرها عاقل -لا منهم ولا من المسلمين من باب أولى- فهذا معيار من معايير الصدق في الاتباع وصدق شهادة أن لا إله إلا الله وتوحيد الله تبارك وتعالى. أمر آخر: كيف نرضى بأن يقيم أعداء الله بين ظهرانينا؟ كيف نستقدمهم؟ سواءً كانوا عمالاً، أو مهندسين، أو فنيين، أو خدماً، أو سائقين، أو أياً كانوا، يا سبحان الله! لو علم شخص أن قبيلةً من القبائل بلغ بها من العداوة لقبيلته أنهم يلعنون آباءه وأجداده ليل نهار، ويتهمونهم بكل مصيبة، أتراه يذهب إليهم، ويتعاقد ويتاجر معهم، ويحبهم، ويقربهم، ويدنيهم وفي إمكانه أن يأتي بغيرهم! لا والله؛ بل سيقول: كان ممن يسب قبيلتنا، ويسب آبائي وأجدادي، ويقول فينا هذا القول العظيم لا أحبه أبداً، هذا على الأقل من باب الغيرة القلبية، التي قد تكون مذمومة، وتكون محمودة، فإن لم تكن حمية لدين الله ولنصرته فهي مذمومة. فيكف بمن يدَّعي أنه يُحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ تجد أنه لو سئل مسلم أتحب رسول الله؟ يقول: كيف لا أحبه؟ فإذا قيل له اسأل هذا الذي عندك سواء كان مهندساً، أو فنياً، أو عاملاً اسأله عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ سيقول: دجال، كذاب ليس بنبي، أعوذ بالله! فكيف تؤوي وتنفق وتعطي المال من يعتقد في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الاعتقاد؟ أين إيمانك؟! أين محبتك له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! يدعي ويعتقد ليل نهار أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاذب مفتري، وأن القرآن باطل، وأن المسلمين هم أصحاب النار، ويدعو إليه، وينشره، ويجمع المال من هذه البلاد ويرسلها إلى إخوانه هنالك، كل هذا يقومون به ونحن نحترمهم، ونحبهم ونقدرهم ونستقدمهم ونتعاقد معهم! بل ربما تربي الخادمة أبناءنا على هذا! وقد نشرت صورة الطفلين الذَين كانا يسجدان أمام التنور -البوتجاز- يسجدان له؛ لأن الخادمة كانت مجوسية، فعلمتهما أن يسجدا ويركعا للنار؛ لأنها مجوسية والعياذ بالله. هذا دينهم وهذا اعتقادهم! فكيف نؤويهم وبيننا وبينهم فوارق كبيرة؟! نحن نقول: لا إله إلا الله، وهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة! هذا إذا كانوا نصارى، أما إذا كانوا من الهندوس فالآلهة عندهم بالآلاف أو بالملايين! كل شيء إله، يعبدونه -تعالى الله عما يصفون- هذه عقيدتهم. نحن نشهد أن محمداً رسول الله، وهم يشهدون في كل حين أنه كاذب، افتراءً على الله! وحاشاه من ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نحن نصلي الصلوات الخمس ونتوضأ لله كل حين، وهم لا يذكرون الله إلا على دينٍ باطل، ولا يصلون لله بل يستغيثون ويدعون غير الله سواء المسيح أو غيره، بل جعلوا عيسى عليه السلام هو الرب، وهو الذي قال لهم: اعبدوا الله ربي وربكم، سبحان الله! فهل بعد ذلك أحبهم وأشاركهم في العمل، ويكونوا معي في البيت، وأتعامل معهم بالتجارة وأنا أستطيع أن أستغني عنهم؟! لا والله، لا أتاجر معهم، ولا أشتري بضائعهم وأنا أستطيع أن أشتريها من مسلم، بل حتى في الطعام نحن نأكل الطعام الحلال الطيب، وهم يأكلون الميتة، والجيفة، والخنزير، ويشربون الخمر، سبحان الله! قذارة حسية، وقذارة معنوية، كفر، ذنوب مشينة، حياة نكدة، ومع ذلك نجد فينا من يحبهم أو يعظمهم أو يكرمهم أو يواليهم! سبحان الله العظيم! كيف يجتمع هذا وهذا؟!

مكر الكافرين بالمسلمين

مكر الكافرين بالمسلمين إن مكر الكافرين بالمسلمين عظيم وواضح، فإذا تأمل المسلم ماذا يريد اليهود في فلسطين؟ يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى وينشئوا الهيكل المزعوم! هيكل سليمان، ويريدون أن يستأصلوا المساجد، وبيوت الله، والقضاء على من يذكر الله ومن يقول: لا إله إلا الله في تلك الأرض المباركة. والنصارى في مصر ولبنان وغيرها يريدون أن يكون الحكم بأيديهم، أن يذلوا المسلمين به، وهذا بيَّنه أحد الذين هداهم الله من القساوسة وأسلم، إذ قال: إنهم يلبسون اللباس الأسود في مصر من بين سائر دول العالم، حداداً على هزيمة النصرانية ودخول الإسلام إليها، ولن ينزعوا هذا اللباس إلا إذا لم يبق في مصر مسلم واحد! ويُذكر أن الكنائس في مصر تعبّأ بالأسلحة! وقلاع لا يدخلها أحد، لا أمن مركزي ولا غيره، أما بيوت الله فهي التي تنتهك وتفتش! وهي التي يسحب الأئمة منها، ويوقفون ويمنعون بحجة أنهم متطرفون، أما النصارى، فيمكَّنون لكي يقيموا دولة الشرك والتثليث على أرض فتحها أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! بل حتى في البوسنة والهرسك فقد أعلنوا -بصريح العبارة مراراً-: لا يمكن أن نسمح بقيام دولةٍ إسلامية في وسط أوروبا، لأن أوروبا نصرانية. هذا في القرن العشرين وبعد الثورة الفرنسية المجيدة كما يزعمون، وبعد ظهور الديمقراطية، وبعد الحرية الدينية، كلها مزاعم، فهم لا يزالون يقتتلون! الكاثوليك والبروتستانت، والجيش الجمهوري الايرلندي والإنجليز، فأين هذه الحقوق التي يقولون ويتشدقون بها؟ لو كان شعب البوسنة كله من الكاثوليك أو البروتستانت أو الأرثوذكس لانضووا تحت حماية الدول النصرانية، أما وهم من المسلمين فليس لهم أحد فليستأصلوا، وليبادوا كما أبيد المسلمون في الأندلس، إذ قتلوا جميعاً ولم يبقَ منهم أحد! هكذا الحقد يبلغ بهم، ونحن لما فتحنا بلاد الشام، ومصر، وكان الأقباط والنصارى فيها لم نفعل بهم كما فعلوا بنا، بل لا يزالون فيها إلى اليوم، هذه السماحة التي وصفها الشاعر بقوله: ملكنا فكان العفو منا سجية ولما ملكتم سال بالدم أبطحُ نعم، فشتان ما بيننا وبينهم، وكل إناء بالذي فيه ينضح، هكذا نحن لأننا نهتدي بهدي الله، وبأخلاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما هم فهذا الذي يريدون. ومع ذلك نجد من يريد أن يجعل الوحدة الوطنية، أو الأخوة الإنسانية فوق كل اعتبار، أو فوق عقيدة التوحيد، عقيدة لا إله إلا الله.

التنصير

التنصير حتى في هذه الجزيرة الطيبة الطاهرة أراد صانعو الخيام أبناء بولس الذي علمهم أن يدخلوا إلى الأمم التي لا يستطيعون أن يجهروا فيها بـ النصرانية، أن يدخلوا وهم صانعو خيام! أي: امتهن أي مهنة وادخل من خلال المهنة والحرفة لتدخل الناس في دين بولس -أرادوا أن يدخلوا فيها- فقد كثرت في الآونة الأخيرة المؤلفات والمقالات عن التنصير في الخليج، مثل الكويت والإمارات والبحرين وبنيت الكنائس فيها في الميادين العامة، والدعوة فيها علنية، حتى المعابد الوثنية علنية، أمرٌ تشيب له قلوب المؤمنين، وأما في هذه البلاد فهم يتسترون، لما يعلمون -والحمد لله- من وجود بقايا من أهل الحق والخير لن يرضوا أبداً بهذا الكفر وبهذا الشرك، لكنهم يعملون في صمت، ويجتهدون ويخططون. وفي إفريقيا لهم مكر عظيم، فقد قال بعض الإخوان من الدعاة إلى الله ذهب إلى إفريقيا، قال: قلت في نفسي أذهب إلى قرية بعيدة لا أجد فيها أحداً من المنصرين، فلما دخل القرية، قال: هذه القرية لا يمكن أن أرى فيها أحداً، قال: وإذا بي أجد عجوزاً نصرانية قدمت إلى هذه القرية وهي شابة وضلت تدعو وتحاول التنصير حتى هرمت وشاخت وهي بتلك القرية في المناطق الحارة البعيدة، وقد جاءت من مناطق أوروبا هناك حيث الجو البارد الجميل، والترفيه، والحضارة. سبحان الله العظيم! كيف يخططون ويمكرون؟ وهم في هذه البلاد أشد مكراًَ، يعلمون أنه إذا كان الصوماليون، أو السودانيون، أو التشاديون، يرفضون التنصير فأهل هذه الجزيرة أكثر وأشد رفضاً.

تحرير المرأة

تحرير المرأة ولهذا فهم يتسللون إلينا من بعيد، وبحكمة -في نظرهم- ودهاء وخبث، فيتسللون عن طريق قضية تحرير المرأة، فجعلوا قضية المرأة قضيةً اعتقادية، وجعلوا من دينهم ومبادئ دعوتهم تحرير المرأة. نحن هنا ما عرفنا ولا عهدنا أن تخرج المرأة وتتبرج، فجعلوها كذلك، ومن هنا يجب علينا أن نجعل مقاومة ذلك ديناً وعبادة، المرأة إذا تحررت وخرجت واشتغلت بالزينة والمكياج لمن هب ودب، ولمن جاء وراح، وأخذت تذهب وتأتي في الأسواق، وتشتري الأفلام والمجلات، وتعمل مع الرجال، يتربى الأبناء وهم أكثر قبولاً للتنصير، أو لأي عمل يريدونه. المرحلة الأولى: هي إخراج المسلمين من دينهم، وهذه تتحقق لهم بوسائل، منها ما يسمونه: تحرير المرأة. المرحلة الثانية: ولو بعد جيل أو جيلين أن يدخل المسلمون في دينهم. هذا تخطيط ماكر خبيث، ولهذا نجد إندونيسيا ونيجيريا وبنجلادش حتى باكستان وأفغانستان تمتلئ -فضلاً عن شرق إفريقيا - بالمنظمات النصرانية التي لا تخاطب الناس -بالضرورة- من أول يوم بالتنصير، وإنما تعطي الطعام والدواء ووسائل النقل وكل شيء، حتى يأتي الجيل الثاني فتربيهم من الصغر على أن يكونوا نصارى والعياذ بالله. وهم الآن يخططون لهذه البلاد -ولدينا حقائق عجيبة من هذا- أصبحنا مثل الغنيمة الباردة! الروافض يعملون، والصوفية يدأبون ويعملون، والعلمانيون يعملون، والحداثيون يعملون، ولم يُكتفى بهذا، بل حتى اليهود والنصارى أصبحوا يعملون ويجتهدون، ونحن في غفلة كأننا مخدرون، وهمنا الدنيا والدرهم والدينار، بُنيت كنائس في الرياض، وفي جدة، والمنطقة الشرقية، وفي مناطق كثيرة، ولكنها لم تظهر بشكل بارز، لكن لو فتشنا لوجدناها توزع أناجيل بشتى اللغات، ونشرات، ومجلات، ودوريات، وكلها تريد أن تخرج هذه الأمة من دينها؛ لأننا لم نقم بمقتضى توحيد الله وشهادة أن لا إله إلا الله فنتبرأ منهم ونعاديهم ونطردهم ونخرجهم. أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يجتمع دينان في جزيرة العرب} فلما خالفنا هذا إيثاراً للدنيا، وقلنا: هذا مهندس، وهذا فني، وهذا خبير، وهذا لا شيء فيه، وخدعنا بهم، كان ما ترون ولا حولا ولا قوة إلا بالله. قد يقول قائل: لماذا نتحدث عن اليهود والنصارى وهم أمة قوية متحضرة؟! نحن نحتاج إليهم في بعض الأمور، نقول: نعم، ولكن كل شيء له ضوابط، لو أننا اكتفينا بالخبراء المتخصصين في أمور نادرة لهان الخطب، لكن حالنا اليوم عجيب، نستدعي سائقاً مجوسياً أو بوذياً أو هندوسياً؟ ألا يحكم السواقة إلا هؤلاء، ألا نجد حنيفاً مسلماً يقود السيارة؟ أو نستدعي خادمة، أو عامل نظافة، أو غير ذلك من المهن. فجاءنا عباد البقر، ورفعوا عقيرتهم، واستطالوا علينا -وهم أخبث الملل وأرذل النحل- لأننا كالغنيمة الباردة، انهب وكُلْ، وإلا فهي لغيرك! أمة غافلة، فيجمع الهندوس من هذه البلاد الأموال، حتى إنهم يفرضون ضريبة على العمال المسلمين من بلادهم، - (20%) الخمس-، يجمعونها ثم يرسلونها إلى الحزب الهندوسي المتطرف لكي يحكم الهند فيستأصل المسلمين بعد ذلك، الله أكبر، ونحن إذا قَبِلنا عاملاً منهم نحترمه ونبجله، ونعطيه المرتب، ونستقدمه، المسلم لديه الخبرة والاختصاص ولا يستقدم! إنه الهوان على الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. بل قد يقول بعض المسلمين: هذا الكافر أمين وطيب وصادق! أعوذ بالله! هل هو صادق حتى في قوله إن لله ولداً، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاذب ليس برسول؟! بل بعضهم يقول: المسلم يخسرنا بالصلاة والحج والعمرة أما الكافر فلا! وكأننا -والعياذ بالله- نقول: لا نريد المؤمن لإيمانه، ونحن نحب الكافر لكفره وهذا كفر صريح لو قالها، أو اعتقدها. نأتي بممرض من الممرضين، كم الأطباء المتخصصون في التوليد، زعموا؟! إن المتأمل في الوظائف التي يستقدم لها من غير المسلمين يجدها وظائف غير متخصصة، فإما خياط يقيس أفخاذ وأكتاف بنات المسلمين، أو طبيب في التوليد يُحدد من نسل المسلمين بعمليات لا ضرورة لها، ومع ذلك تجد من المسلمين من يرمي زوجته كأنها شاة، ثم يأتي يأخذها لا يدري ماذا صنعوا بها؟ ومن الذي ولدها؟ سبحان الله! أين الغيرة؟ أين الإيمان؟ لا يجوز للطبيب المسلم التقي أن يولِّد امرأة أجنبية إلا للضرورة القصوى! فكيف وهو كافر؟ فكيف وأفعالهم قد شهدت قديماً وحديثاً أنهم يبطنون الغدر والمكر والكيد للمسلمين؟ ثم يُؤتى بالممرضات، والمضيفات -الخادمات- فيكون بعدهن الفساد. تأتي ممرضة راتبها ألفان، وبعد أشهر تحول إلى بلدها ثلاثين ألف ريال! بل واحدة حولت مائة ألف ريال، كيف جمعت من ألفين ريال وألف وخمسمائة هذه المبالغ الكبيرة؟ من أين؟ أمن الراتب؟ لا والله بل ينشرن الرذيلة والدعارة والانحلال، وهذا مكر الكافرين جميعاً بالمسلمين!! فقد نشرت عكاظ، وغيرها من الجرائد أن اليهود أرسلوا البغايا إلى مصر لنشر الإيدز فيها؛ لأنهم يريدون أن يحطموا مصر، وكما أرسلوا -أيضاً- إلى بانكوك، حيث يذهب بعض الشباب من هذه البلاد إليها أو إلى مانيلا فيحمل تلك الأوبئة الخبيثة مثل: الإيدز، والهربز، ويأتي بالأمراض إلى هذه البلاد. هذه العداوة والمكر والتخطيط والخبث، ونحن في غفلة! وإذا أردنا البديل، قالوا: البديل أننا نُخرج الممرضة السعودية لتحل محلها، وكأنه لا بديل عن الفساد الخارجي إلا بفساد داخلي، فإما هندية، أو نصرانية فلبينية، أو تايوانية، أو سعودية، فهذه مغالطة: بل لا بد من معالجة المشكلة من جذورها واستئصالها من أعماقها؟ فكل هذه المشاكل لأننا لم نحقق مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن مقتضيات التوحيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف الأكبر هو التوحيد واتباع السنة، والمنكر الأكبر هو الشرك واتباع البدعة والأهواء، ولكن بعض الناس يظن أن هذه مهمة الهيئة، وهذا خطأ، لأننا لو فرضنا أن في كل شارع مركز للهيئة متكامل يراقب أربعاً وعشرين ساعة، باتصالات، وبرقابة متطورة، وبعناية واهتمام وهذا غير موجود مع الأسف، لأن المدينة الكبيرة فيها مركز واحداً! عليه أعباء هائلة لا يستطيع أن يتحملها إلا إدارات وليس مركزاً واحدا- لكن لو فرض أننا في الحالة الأولى، لما جاز لنا أن نقول: إن الهيئة هي المسئولة عن كل ذلك، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} قال: من رأى منكم، أي أيها المسلمون جميعاً، {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه}. فالواجب يقع علينا جميعاً، لأن الهيئة جهة تنفيذية وعقابية تنذر بالعقاب، أما أنا فأستطيع أن أغير بيدي في بيتي، أو في حدود ولايتي، أو في مدرستي، أو في الحي الذي لي فيه قيمة كأن أكون عمدة -مثلاً- أُغير بيدي، بقدر الولاية، والهيئة أحيل إليها من لا أستطيع معاقبته، لتعاقبه أو إلى المحكمة ليعاقب بما يقتضيه الشرع، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ الله تعالى به أمن البلاد، ويحفظ به كلاً منا في أهله ونفسه وماله، فالناظر للأمن في بلادنا -يوم أن كان للهيئة الدور الكافي- كان أكثر من الآن، لكنه تدهور في كثير من المدن، والأحياء بدرجة فضيعة، لمَّا ألقي الحبل على الغارب، وقلصت صلاحيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الناس ذلك الأمر العظيم، فوجدت مصانع للخمور، وليست قواريراً، بل مصانع تصنع فيها بالبراميل! وتباع بيوت وأوكار للدعارة والعياذ بالله. وبيوت، واجتماعات، ولقاءات للفساد العقدي، وهو أخطر من الفساد الخلقي، يجتمع فيها المنصرون، والروافض، والصوفية والطرق البدعية، يجتمعون ولا تجد مَن ينكر. وإدخال سيل جارف من الكتب والأفلام والمجلات والمطبوعات والنشرات، تتعجب عندما تراها، ولا تكاد تصدق أن هذه تقرأ وينظر فيها في بلد الإسلام والتوحيد، ومع ذلك كله تتدفق بما فيها من كفر واستهزاء بالله، وسخرية برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستهزاء بالدين وبالحجاب وبتحريم الربا وبالجهاد وبكل ما نؤمن به ونعظمه ونعتقده من شعائر الله، فيها كل ما يحارب ذلك جميعاً، ومع ذلك لا نتفطن إلى هذا. وإنما ديدننا دائماً: نحن بخير والحمد لله، ونحن أحسن من غيرنا، لا شك أننا بخير في جوانب كثيرة، وأننا أحسن من غيرنا، لكن إذا أردنا أن ننظر إلى أمر الآخرة فلننظر دائماً إلى من هو أعلى منا، وإذا أردنا أن ننظر إلى الدنيا، فلننظر إلى من هو دوننا هكذا علمنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما أن نعكس الأمر، فتجد الواحد منا إذا كان راتبه كذا ألف لا يقول: الحمد لله أنا بخير، وكثير من الفقراء أو من هم أقل مني في الوظيفة لا يجدون ما أجد، بل يقول: إنَّ هناك كثيراً أفضل وأعلى مني لا بد أن آخذ أكثر! وإذا أتينا إلى أمر الدين قال: نحن بخير، والحمد لله طيبين ولا يوجد شيء! عكسنا الآية وقلبنا الأمر، لا، بل يجب أن ننظر بعين صادقة. فما نراه الآن في عيوننا أدق من الشعر كان في أعين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكبائر ومن العظائم، وهم المعيار، والمقياس الذي يجب أن نجعله أمامنا، فلا نستهين بمعصية وإن صغرت، لأنه كثرت علينا الصغائر حتى جاءت الكبائر، وحتى أصبحنا في طوفان -والعياذ بالله- يكاد أن يجرفنا عن ديننا وإيماننا، فلنراجع أنفسنا في هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام ومن حقوق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأوجز ما تقدم فأقول: إن الواجب علينا -جميعاً- أن نحمد الله على هذا الدين والتوحيد، وأن نوالي المؤمنين، ونعادي الكافرين، وأن تكون سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في القيام بحقوق لا إله إلا الله، ومقتضياتها أمام أعيننا دائماً، نتأسى بها، ونتمثلها قولاً وعملاً، هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الأسئلة

الأسئلة

مرض سوء الظن

مرض سوء الظن Q ما هو رأي الدين فيمن يسيء الظن بالناس وجزاكم الله خيراً؟ A لا تقل رأي الدين يا أخي! ولكن قل: ما حكم الله؟ ما حكم الشرع؟ هذا ليس رأياً، الرأي رأينا نحن، أنا وأنت، أما ما كان من الدين، فهو حكم من الله. حكم الله فيمن يسيء الظن بالناس نجده في قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] فمثلاً: إذا أسأت الظن بأهلك في البيت، فقد يُؤدي ذلك إلى اتهامهم بما لا يليق، وربما أدَّى ذلك إلى الطلاق -وكثيراً ما يقع هذا والعياذ بالله- وإذا أسأت الظن بالموظفين أو العمال؛ دفعتهم إلى الريبة وأفسدت نياتهم وإخلاصهم، وإذا أسأت الظن بجارك كان ذلك مدعاة إلى قطع العلاقة بينك وبينه، وإذا أسأت الظن بمن يتعامل معك كان ذلك أدعى أن يتحرز منك، وألاَّ يتعامل معك، وهكذا. فلا تسيء الظن، ولكن كن ذكياً، وحذراً، وفطناً، وتنبه، أما أن تسيء الظن، فسوء الظن المجرد من الكبائر التي قرنها الله تبارك وتعالى بالغيبة. وهناك من يظن أن معاملة الكفار أو المنافقين بحذر من باب سوء الظن، أي: إذا قلت: إن الكفار لا يحبون لنا الخير، ولا يريدوه لنا، قال: يا أخي! هذا سوء ظن! أقول: لا يا أخي! فرق بين هذا وهذا، الله هو الذي قال: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] أي: لا يراعون في المؤمنين عهداً ولا ميثاق، وهو -أيضاً- الذي أخبرنا أنهم لن يرضوا عنا كما قال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فالله قال ذلك، وليس نحن الذي قلناه، فيجب أن نعتقد فيهم ما أخبرنا الله تبارك وتعالى به، فهم يحسدوننا كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] يحسدوننا، ويبغضوننا، ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وهذا ليس من الظن، وإنما هو حق لأن الله أخبرنا به.

تطهير عرقي أم حرب على الإسلام

تطهير عرقي أم حرب على الإسلام Q هناك ما يُدعى تطهيراً عرقياً في البوسنة والهرسك مع أن النصارى قالوا: نريد القضاء على دولة الإسلام في أوروبا؟! A يُغلِّفون دائماً الحرب على الإسلام بأغلفة، يقولون: حرب التطهير العرقي، فإذا رأيت الواقع رأيت الصرب البوسنيين الذين على دين النصارى وهم من البوسنة لا يُطردون! والصرب المسلمين يطردون! إذاً القضية ليست قضية العرق، وإنما القضية قضية دين وإيمان، والعجيب أنهم يصرحون -كما تسمع أحياناً في كلام أويل المندوب الدولي وفي كلام غيره- تصريحاً واضحاً بأنهم يعادون الإسلام، فيقولون: استئصال المسلمين، ويقولون: القوات المسلمة حتى في إذاعة لندن وأمريكا! وفي الإذاعات العربية يقولون: قوات البوسنة أو القوات البوسنية الكرواتية المشتركة، أو القوات المشتركة، كأننا نخاف ونتحرج من كلمة إسلام! مثل أخبار حرب بيروت قديماً. كنا نسمع إذاعة لندن في كل ليلة تقول: بيروت الغربية، أو القسم الإسلامي من بيروت، وتقول: بيروت الشرقية النصرانية، أما الإذاعات العربية فلا نتكلم، لا نصراني ولا مسلم! بيروت هي بيروت شرقية وغربية.

حكم مشاركة الكفار في أعيادهم

حكم مشاركة الكفار في أعيادهم Q ما حكم الله تعالى فيمن يشترك في لجنة لتقييم وإجازة الحفلات المسيحية النصرانية -ليست مسيحية- المقامة في ينبع الصناعية سواءً بعيد الميلاد أو غيره من الحفلات الغنائية؟ A إذا كان مسلماً ويشترك في إجازةٍ لحفلة من حفلات المشركين -من النصارى أو غيرهم- فهذا العمل محرمٌ ولا يجوز بأي حال من الأحوال، فإن كان هذا الرجل يعتقد أن دينهم حق، ويعتقد أنه يجوز لهم أن يتدينوا وأن يتعبدوا بذلك، فهذا خروج من الملة -والعياذ بالله- لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لن يقبل منه أبداً {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وإن كان لا يعتقد ذلك لكن لشهوة أو رغبة، فهذه من المحرمات كما في الفتوى التي نرجو أن تكون قد وصلت إليكم إن شاء الله.

حكم التعامل مع غير المسلمين

حكم التعامل مع غير المسلمين Q في مجال عملي يتحتم الاحتكاك بكثير من الأجانب الذين لا يدينون بالإسلام فبعضهم هندوس وبعضهم نصارى فما حكم الحديث معهم في غير مجال العمل وكذلك المزاح معهم والأكل معهم؟ وإذا دعوني إلى وليمة هل يجوز لي قبول دعوتهم، وهل يجوز أن أدعوهم لمنزلي؟ A التعامل مع غير المسلمين لا بد له من ضوابط، منها: أن تكون علاقتك بهم بغرض دعوتهم وهدايتهم للإسلام فتحب المسلم من أي بلد كان، ونحبه بقدر إيمانه، وبقدر تمسكه -حتى ولو كان عامل نظافة- لا يجوز أن نحتقر مسلماً، كما حذر من ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} عامل النظافة المسلم الذي يصلي خيرٌ ألف مرة من مدير شركة يأخذ مليون ريال راتب، وهو كافر لا يؤمن بالله، فلا بد أن نراعي هذا الأمر. إذاً القاعدة هي مصلحة الدعوة، لا بحسب رغبة النفس وميلها، فإذا كنت تطمع أن يهديه الله، -مع أنَّ الأصل أن يطردوا من هذه البلاد- فيجوز ذلك، أما الأكل معهم وقد ذُكر الهندوس فلا يجوز للمسلم أكل ذبائحهم مطلقاً، وأما النصارى -في هذا العصر- فإن كانت ذبائحهم ليست من أسواق المسلمين فأيضاً لا يجوز لك أن تأكل منها، حتى تتأكد أنهم يذبحون، لأن النصارى الآن يخنقون ولا يذبحون! ويأكلون اللحم المعلب والمستورد من الجيف، فلا بد لك من ضوابط معينة وما ذكرنا فيه إجمال فقط.

الجمع بين أعمال الدنيا وأعمال الآخرة

الجمع بين أعمال الدنيا وأعمال الآخرة Q نرجو أن تشرح لنا كيف الجمع بين أعمال الدنيا وأعمال الآخرة، وهل هذا جائز؟ A لا يوجد عداوة عندنا بين الدنيا والآخرة كما هو حال الرهبانية النصرانية، نحن عندنا الدنيا مزرعة للآخرة، وممر ومعبر إليها، وهذا واضح في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة:10] فإذا صليت الفجر، فاذهب إلى عملك الدنيوي ما دام حلالاً، وأخلص فيه، وانصح للأمة، واجتهد فيه، فإذا أذَّن الظهر، صلِّ لربك تبارك وتعالى، فهذا كله للدنيا وللآخرة معاً، حتى عملك في الدنيا انوِ به وجه الله كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ سعد بن أبي وقاص: {وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا كان لك بذلك أجر حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك} أي: في فم زوجتك لك بها أجر، ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وفي بضع أحدكم صدقة} أي: أن يأتي الرجل أهله له فيه أجر، {قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟، قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر}. إذاً ديننا ليس فيه انفصال، ليست هناك عداوة. لكن بشرط ألاَّ يشتغل بها، كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] أما أنك تحب المال، وتحب الزوجة، وتُنمي مالك، وتلاعب أهلك، وتُقبل أبناءك وتداعبهم، وتنزههم، وتشتري لهم الهدايا، وتكون علاقتك بهم علاقة الأب الرءوف الحنون المشفق، هذا من الدين، ومن هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليكن شعارنا في حياتنا كلنا هو قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] كل حياتك لله، حتى ما كان فيها من حظ النفس، فاجعله ترويحاً لها لكي تستقيم على طاعة الله تبارك وتعالى.

حكم انتقال المنفرد إلى إمام

حكم انتقال المنفرد إلى إمام Q هل يجوز للمنفرد أن يصير إماماً في الفريضة؟ A لو جاء رجل بعد انقضاء الصلاة وكان منفرداً، فجاء أناس آخرون، فجعلوه إماماً لهم -يصلون معه- فذلك جائز إن شاء الله. وأما إذا كان قصد السائل عن المؤتم الذي يتم صلاته بعد سلام الإمام وقد فاتته ركعة أو ركعتان فهل نجعله إماماً ونصلي خلفه؟ العلماء في هذا على وجهين: فبعضهم يجيز، وبعضهم يمنع، لكن لو نقَّبنا في سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته لم نجد لهذا سابقةً من قبل، إلا عموم الائتمام فعلى هذا أرى أن ذلك لا ينبغي، وليس له أصل، وإنما يتم كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والداخل يصلي منفرداً، فإن كان أعاقه عذر فله أجر الجماعة بإذن الله.

التوفيق بين وجوب قتال الكافرين وعدم إكراههم على الدين

التوفيق بين وجوب قتال الكافرين وعدم إكراههم على الدين Q يقول: كيف نوفق بين قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله} وقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين ِ) [البقرة:256] والرضى بالجزية من أهل الكتاب وتركهم على دينهم؟ A لا تعارض بين هذه الأحكام، فالأصل أننا ندعو الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن لم يرضوا بذلك دعوناهم إلى الجزية التي ذكرها الله تعالى بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وأما قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فالمقصود بها القلوب، فلا يمكن أن تكره أحداً على اعتقاد ما لا يريد أن يعتقد بقلبه، وأما أن نجاهدهم فلا، الجهاد حق، وهو ذروة سنام الإسلام، ولا بد منه، وقد جاهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد أصحابه، فنحن نجاهد الكفار. أما الواحد منهم فلا نستطيع أن نكرهه أو أن نحمله على أن يؤمن وقلبه مظلم بالكفر، لا نكرهه أن يعتقد الإسلام وهو لا يريد أن يعتقده، وإنما ندعوه، ونبين له، فإن أصر إلا أن يدفع الجزية قبلنا منه، وأما إن أظهر الإسلام وهو في الباطن كافر، قبلنا منه ذلك ونكل أمره إلى الله -تبارك وتعالى- فلا تعارض بينها في الحقيقة.

حكم تداوي النساء عند الرجال

حكم تداوي النساء عند الرجال Q عندما نذهب -أحياناً- بالمرأة إلى المستشفى، لا نجد من يكشف عليها سوى طبيب رجل، ويمنع دخول محرمها معها بحجة أن ذلك ممنوع حسب تعليمات مدير المستشفى، فما رأيك في ذلك؟ A لا تقر بهذا أبداً! هل هناك شيء -بعد ديننا وإيماننا- أغلى من أعراضنا؟ سبحان الله العظيم!! لو وُضع علينا ضريبة، صغيرة على رغيف الخبز، أو قالوا: لا نعطيكم السكر إلا من النوع الرديء، والله لن نهدأ، سنعمل احتجاجاً، أو صياحاً، ونستورد سكراً ممتازاً! والعرض نغض الطرف عنه! وهو أغلى شيء بعد الإيمان، نتهاون فيه! إذا كنا جميعاً لا نرضى هذا، فلا بد أن الوزارة تأتي بنساء، ولا بد أن تفصل بين الرجال وبين النساء، لكن إذا تهاونا وسكتنا استسهلوا هذا. فيجب أن نطالب، وأن نؤسس -إذا استطعنا- المستشفى النسائي الخاص. لماذا لا يكون في ينبع مستشفى نسائي متكامل منفصل فصلاً كلياً؟ كما أنه يوجد في بعض المستوصفات مولدات نساء، فأذهب إلى المرأة، وإن كان علاجها واهتمامها أقل، نحتسب عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ونذهب إليها، أما أن نتساهل ونقول: مثلي مثل الناس، وماذا نعمل؟ هذا هو الذي يجعل هؤلاء المجرمين الهندوس والنصارى وأمثالهم يتغطرسون ويفعلون ما يشاءون، لا بد أن نطالب جميعاً بهذا الشيء، ويوجد -والحمد لله- الطبيبات في باكستان يوجد مسلمات في الهند، وفي كل مكان، نأتي بهن، أو من تعلمت من بنات هذه البلاد، ولكن في انفصال كامل عن الرجال، ويقوم هؤلاء بمعالجة النساء.

هل النصارى الموجودون من أهل الكتاب

هل النصارى الموجودون من أهل الكتاب Q هل النصارى الموجودون الآن من أهل الكتاب؟ حيث إن أكثرهم ليسوا من بني إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى عليه السلام ورسالة عيسى عليه السلام خاصة لبني إسرائيل وليست عامة للناس؟ A لا شك أن رسالة عيسى -عليه السلام- ليست عامة، لكن كل من دان بـ النصرانية فقد جعله الله ورسوله منهم، حتى نصارى بني تغلب وحتى نصارى نجران الذين أنزل الله تبارك وتعالى فيهم صدر سورة آل عمران هم من العرب، فكل من دان بـ النصرانية فهو من أهل الكتاب، وأهل الكتاب هم أهل الكتاب في القديم والحديث، شركهم قديماً وحديثاً موجود فيعدّون أنهم أهل كتاب، إلا من ألحد منهم وكفر بـ النصرانية، وأصبح شيوعياً -مثلاً- أو مجوسياً أو بوذياً أو ما أشبه ذلك، فهذا يكون مرتداً عن دينه ولا يعامل معاملة أهل الكتاب.

حكم التداوي بالسحر

حكم التداوي بالسحر Q ما قولكم فيمن يقول: لا يحل السحر إلا ساحر، نرجو التفصيل في المسألة؟ A السحر في هذه الأيام انتشر -والعياذ بالله- وشكا منه الناس بشكل فضيع جداً، ولما اشتكوا منه جاء الشيطان بالعلاج الآخر، قال: هناك ناس يعالجون ويفكون السحر، فيهرب الناس من السحرة إلى السحرة! والواجب علينا جميعاً أن نتحصن من شر الشيطان -وهو رأس السحر والشر- ومن أعوانه بما أعطانا الله من أذكار الصباح والمساء وهي بين أيدينا، والمعوذات، وقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في اليوم مائة مرة، وقول: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، إلى آخر الأذكار وهي معروفة عندكم، فمثلاً: كتاب صحيح الكلم الطيب موجود بثلاثة ريالات أو بأربعة، ينبغي أن يكون في كل بيت وتقرأ الأذكار الصحيحة التي فيه. ثم إذا وقع الإنسان في شيء من ذلك، وابتلاه الله به فليصبر! أما أصيب بعضهم بالسرطان؟ -نسأل الله أن يعافينا وإياكم- أو بتلوث في الرئة! فنصبر ونحتسب، فكذلك إذا ابتلينا بالسحر، فلنصبر، ونلجأ إلى الله ونتخذ الأسباب المشروعة من: قراءة القرآن وخاصةً سورة البقرة والمعوذتين وما أشبه ذلك، نقرأ ونجتهد وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن استطاع منا أن يرقي أخاه أو ينفعه، فليفعل. أما الذهاب إلى الذين يرقون بغير الكتاب والسنة، وإن قرأ أول الأمر آيات، ثم همهم بعد ذلك وغمغم ودندن بكلمات غير معلومة وغير مفهومة، فنعلم أن هذا ساحر، ولا يجوز أن نذهب إليه. وإذا قال: خذ كذا، وضع حجاباً وعلقها، أو احتجب عن الناس أربعين يوماً، ولا تأكل كذا، وافعل كذا، واذبح دجاجة سوداء أو تيساً أسود، ولا تتفل عليه امرأة، وكذا إذا بدأت الصكوك الوثنية، فاعلم أن هذا سحر. أما المؤمن فإنه إنما يقرأ من كتاب الله، ومن الأدعية الواردة وينفث ويدعو، وهذا في إمكانك أنت أن تقوم به لقريبك إذا ابتلي الله أنت تقرأ وتخلص وتجتهد في الدعاء ويحفظه الله، من غير أن تذهب إلى أحد من الناس. وأنصح طلبة العلم أن لا ينساقوا وراء بعض ما قد يسوله الشيطان، فيفرغوا أوقاتهم ويتخلوا عن دعوتهم وعن طلب العلم من أجل هذه القراءة! وربما أدَّى بهم ذلك إلى الفتنة والعياذ بالله.

كيفية التعامل مع الخطأ في الاجتهاد

كيفية التعامل مع الخطأ في الاجتهاد Q يذم بعض المسلمين شباب الانتفاضة، ويقولون: إنهم على غير هدى، فهل من كلمة توجهها إلى شباب الانتفاضة، وهل هذه الانتفاضة إسلامية؟ A ما حدث في فلسطين يسمونه انتفاضة، ونحن نسميه بدايةً جهاد -إن شاء الله- ولا يجوز أن نذم من يريد الإسلام وعز الإسلام وإن أخطأ في الاجتهاد، ولكن ننصحه، ونقول: يا إخواننا! نريد منكم أن تكونوا كذا، اعملوا كذا، وجههم إن كان لديك رأي، وقدم لهم خطة حكيمة، وحظهم على اتباعها، أما أن يعابوا ويذموا ويطعن فيهم، فلا، لأنه لن يستفيد من ذلك إلاَّ الكافرون، والطواغيت، والمجرمون، واليهود، والنصارى. فهل يرضى المسلم أن يكون هو واليهود والنصارى والعلمانيون وأعداء الله أجمعون في خندق واحد، يحاربون المسلم المسكين الذي لا يملك حولاً ولا طولاً إلا بعض وسائل اتخذها كأطفال الحجارة أو الانتفاضة وغير ذلك؟ لا! شتان بين أن يكون لنا ملاحظات على الانتفاضة، وبين أن نذمها ونعيبها، وربما أن بعضهم يفرح لو قضي عليها أو استُؤْصلت! لا يا أخي! لا يجوز ذلك وهذا إجحاف وليس من العدل في شيء.

بشائر الصحوة

بشائر الصحوة Q يقول الأخ: هل هذا الزمان الذي نحن فيه هو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يمر أحدكم بالقبر يتمرغ عليه ويتمنى أن يكون هو الذي في القبر من البلاء}؟ A أي: الحديث قال: ما به الدَّين وإنما البلاء، لا يا أخي! الحمد لله، نحن في خير، ما جاء هذا الوقت إن شاء الله بل نحن والحمد لله في نعمة، نستطيع أن ندعو إلى الله، وأن نبلغ كلمة الله، بل نحن أمام بشائر صحوة قوية بإذن الله، تشرق دعوة الإسلام من جديد في هذا الكون، فما وصلنا إلى هذه الدرجة أو الحالة من ضعف الدين أو كثرة البلاء والحمد لله على ذلك.

كيفية التعامل مع الشرك

كيفية التعامل مع الشرك Q رجل موحد بالله لكنه يذهب إلى السيد البدوي والسيدة زينب وغيرها من باب الجهل، هل عليه إثم؟ وهل يعذر على جهله؟ A كيف يكون موحداً بالله ويذهب إلى هؤلاء!! إذا كان جاهلاً لا يعرف التوحيد، فالواجب أن يعلم. لماذا نُفكر هل يعذر أو لا يعذر؟ كونه يعذر أو لا يعذر هذا بينه وبين الله، لكن أنا وأنت لا نعذر، وعلماء الأزهر، وكلية أصول الدين لا يعذرون؛ لأن المهم ألاَّ نترك هؤلاء يذهبون إلى تلك الأضرحة، يدعون، ويستغيثون بغير الله، ويذبحون لغير الله. ونحن نختلف حول مسألة عذره من عدمها، بل ندعوهم إلى الله ونبين لهم حقيقة التوحيد، ويجب هدم هذه الأضرحة، لأن إقرار هذه الأضرحة، والمزارات، ووضع رسوم عليها، والاعتراف بها، هو إقرارٌ للشرك، وهذا يجعل الدولة المقرة لهذه الأضرحة دولة شركية، وليست دولة إسلامية، يجب أن يكون للدولة وللعلماء في هذه البلاد وفي أي بلد دور وعمل إيجابي في القضاء على هذه الشركيات وهذه الأصنام المعبودة من دون الله تبارك وتعالى.

توظيف الكافرين مع وجود المسلمين

توظيف الكافرين مع وجود المسلمين Q كيف نوظف المسلمين، ومكاتب العمل في أنحاء العالم تسهل إجراءات توظيف النصارى، وتحول دون توظيف المسلمين؟ حتى يقول بعضهم: الكافر أرخص في التكلفة وفي المرتب الشهري! فهل من كلمة تبين فيها للناس؟ A نقول للأخ الكريم: يا أخي! الإجراءات بيد من؟ أليست بيدنا؟ بلى. كثير من الإجراءات إنما تتخذ بناءً على مطالب الناس. إذا طالبنا نحن بإجراءات معينة سهلت لنا، هنا أو في الهند -مثلاً- إذا قلنا للدولة هنا نطالب بألا يُسمح باستقدام أي كافر، ثم قلنا للهند: لا نسمح لأي هندي نصراني أو مجوسي أن يتعاقد معه، فإذا فرضنا أن الكافر أرخص، هل نرضى أن نضحي بديننا من أجل دراهم؟ فالفرق دراهم، مع أن البشر سواء، ليس لأنه كافر فهو رخيص، أو لأنه مسلم فهو غالٍ في الأجر، لا، فمن الممكن أن تجد نصرانياً وراتبه أضعاف أضعاف المسلم، ولكن نفرض أنه -فعلاً- أمام اختيارين: إما مسلم بألف ريال، أو كافر بثمانمائة! يجب ألاَّ أنظر إلى المائتين وأنسى الإسلام، وأنسى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} فانتبهوا بارك الله فيكم.

حكم استقدام الخادمة بدون محرم

حكم استقدام الخادمة بدون محرم Q هل يجوز للضرورة استقدام الخادمة المسلمة بدون محرم؟ وهذه الضرورة هي على الزوجة لحاجتها إلى المرتب؟ A ليست حاجة الإنسان للمرتب في هذه الحالة ضرورة، ويمكن استقدام الخادمة ومعها محرم، وليكن سائقاً أو حارساً وهي معه، لكن على الرجل ألاَّ يراها ولا تراه، ولا يخلو بها، والسائق الذي معه محرمها يجب أن لا يرى أهلك، ولا يخلو بهم، ففي هذه الحالة فقط يجوز، أما ما عدا ذلك فلا تجوز، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها تجوز؛ مع ما يترتب على ذلك من فتن ومفاسد عظيمة، والبديل كثير {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] البديل موجود لكل هذه الأمور، سنجد من يريد أن يعمل من أهل هذا البلد لو أقفلنا باب الاستقدام، سواء من المقيمين المسلمين أو حتى من السعوديات، بأن تأتي ساعات معينة من النهار، وتخدم أهله في حالة ولادة، أو في حالات ضرورة فعلاً، تخدم أهله ثم تخرج قبل أن يعود صاحب المنزل من عمله، فهذه أشياء كانت موجودة لدينا، وضرورات كانت موجودة من قبل، وما احتجنا إلى هؤلاء، إما كافرة! وهذا لا يجوز أصلاً، أو مسلمة ويكون هناك من الفتن ما يكون! وبعد أيها الإخوة الكرام لا نريد الإطالة عليكم، ولكن نحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هذا اللقاء، وإنني والله ما جئت إليكم إلا محبة فيكم، ثم لما رأيتكم بهذا الإقبال وهذا الجمع الطيب ازددت حباً، وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل محبتي ومحبتكم خالصة لوجهه الكريم، وأن يجدد هذا اللقاء الطيب المبارك، وألاَّ ينسى بعضنا بعضاً من الدعاء. والله يا إخوان نحن أحوج إلى دعاء بعضنا لبعض من حاجتنا إلى الطعام والشراب، أن يدعو كل منا للآخر بظهر الغيب، وأن ندعو لإخواننا المسلمين، وأن تكون يدنا وقلوبنا وغايتنا واحدة على توحيد الله، وعلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حرباً لمن حارب الله ورسوله، وسلماً ومحبةً ومودة لمن وادّ الله ورسوله. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يمن علينا جميعاً بعفوه وجوده ومنَّه وكرمه والمعذرة إن أطلت عليكم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

التوحيد (ندوة)

التوحيد (ندوة) في هذه المادة بدأ الشيخ بتوضيح معنى التوحيد من حيث اللغة والشرع بأقسامه الثلاثة، كما ذكر حال المشركين واليهود والنصارى في عبادتهم لغير الله، مع إقرار البعض منهم له بالربوبية، وما دخل على الأمم السابقة من عبادة الأحبار والرهبان. ثم بين ما يجب على الإنسان لتحقيق التوحيد الكامل المطلق، محذراً خلال ذلك من الغلو الذي كان ولا يزال آفة الأمم ومدخلها إلى الشرك.

معنى التوحيد

معنى التوحيد قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فضيلة الشيخ سفر: كلنا نسمع عن التوحيد ولا نعرف ما المقصود بتوحيد الله، فما هو التوحيد وما معناه؟ التوحيد: كلمة نرددها جميعاً ونحن -ولله الحمد- والأمة الإسلامية أمة التوحيد، لو أطلق علينا أي اسم فإننا أمة التوحيد، بخلاف غيرنا من الأمم التي أشركت بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالتوحيد من حيث اللغة هو: مصدر وحد يوحد، بمعنى أفرد يفرد، فعندما نقول: التوحيد، أو توحيد الله، معناه: إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة، فقد جاءت هذه الكلمة في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه لما أرسله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن فقال له: {إنك تأتي إلى قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى} فالتوحيد الذي جاء تفسيره في نفس روايات الحديث: {فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعبدوا الله}، وفي رواية أخرى: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}. وليس هناك أوضح وأبين من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تفسيره، ففسر التوحيد بأنه عبادة الله وحده، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي كلمة التوحيد. فالتوحيد هو: إفراد الله تبارك وتعالى وحده بالعبادة. والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، من أعمال القلب، كالمحبة، والرضا، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، أو من أعمال الجوارح مثل الصلاة، والصيام، والزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتسبيح، وذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والسعي إلى المساجد، وبر الوالدين، والإحسان إلى الفقراء والمساكين وأمثال ذلك، كل هذه من العبادة، ويجب أن تفرد كلها جميعاً لله وحده لا شريك له. فالتوحيد إذاً: هو أن يفرد الله تبارك وتعالى وحده بالعبادة، وهذه العبادة تشمل كل ما أمر الله تبارك وتعالى به، وكل ما يحبه الله ويرضاه من أقوالٍ وأعمالٍ بالقلب أو باللسان أو بالجوارح. ومن هنا نعلم أن الدين كله داخل في موضوع التوحيد، ولكن الكلام عادة عندما يكون في التوحيد يكون عن أصل الدين، ومعناه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

دعوة الناس إلى نصرة الحق

دعوة الناس إلى نصرة الحق وقال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. هذا موضوع حساس، ويجب أن يقوم به العلماء؛ لأن التوحيد لا يستطيع الإنسان أن يخطئ فيه، لأن خطأ التوحيد قد يؤدي إلى هلاك الإنسان، ولكن أستعين بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعينني. فعندما ينظر الإنسان إلى شباب اليهود والنصارى، كيف أنهم يجتهدون لنصرة باطلهم، وكيف يتقاعس شباب المسلمين عن نصرة الحق، عند ذلك يتأثر المسلم، فلا يجد الشاب المسلم إلا أن يقول: والله سوف أفعل كل ما في وسعي لنصرة هذا الدين، والله لن يجتهد الشاب اليهودي أكثر مما يجتهد الشاب المسلم، ولن نقبل -في شباب المسلمين- أن يحب الشاب اليهودي إسرائيل أكثر مما نحب نحن شباب الإسلام هذا الدين، بل والله لو يجتهد هذا الكادر الشاب في باطله أربعة وعشرين ساعة في اليوم، فوالله لنجتهدن ثمانية وأربعين ساعة، حتى نريهم، وليريهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يصنع شباب الإسلام إذا أحبوا هذا الدين. وأنتهز هذه الفرصة وأطلب من الشباب المسلم أن يجتهدوا لنصرة هذا الدين؛ فهذه الأوقات التي تضيع من شباب الإسلام محسوبة عليهم، والأعداء يجتهدوان بجدٍ وحزم في الليل والنهار، فكما تعلمون أن اليهود يتحكمون في كثير من اقتصاد العالم ويسخرون هذا الأمر من أجل الباطل، ويتعرض أحدهم للقتل في أي لحظة، في الليل والنهار؛ فهذه محبة إسرائيل في قلوبهم. فيجب على شباب الإسلام أن يُروا هؤلاء كيف يحبون الحق، وكيف ينصرون الحق، وكيف يسعون لإعادة شباب الإسلام إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد قال الشيخ: حسّان الراضي. أقسام التوحيد ثلاثة وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية توحيد الربوبية: هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأفعاله، أي أن يعتقد الإنسان أنه لا معين إلا الله، ولا مغيث إلا الله، ولا ناصر إلا الله، ولا معز إلا الله، ولا مذل إلا الله، ولا خالق إلا الله. وهذا الاعتقاد لا يأتي بالسهل كما يظن كثير من الناس، ولنا عبرة في قصة بني إسرائيل عندما نصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لم يكن عندهم الأسباب المادية للنصر، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نصرهم على فرعون وجنوده، وشق لهم البحر، وخاض بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام البحر بأنفسهم، ما سمعوا هذا الكلام ولا قرأوه، بل مارسوه بأنفسهم، وعندما جاءوا إلى البحر، ورأوا فرعون أمامهم والبحر خلفهم قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]. فلم يكن قد تحكم في قلبهم توحيد الربوبية وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الناصر، صحيح أن الأسباب طريق للنصر، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس في حاجة إلى الأسباب لينتصر، فقالوا: إنا لمدركون، ولكن موسى عليه السلام كان في قلبه كمال التوحيد، قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوحى إليه، فضرب البحر بعصاه فانشق له البحر، فكانت اثنا عشر طريقاً لبني إسرائيل. وحتى نرى أن هذا التوحيد لا يأتي بالسهولة كما يظن كثير من الناس، فإنه لما خرج بنو إسرائيل من الناحية الأخرى أتى أمر الله لبني إسرائيل أنفسهم، كما قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:21]، وقال عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:22]. سبحان الله! فيها قوم جبارون، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد نصرهم عندما لم يكن عندهم أسباب النصر على فرعون وجنوده، فرغم ما لمسوه بأنفسهم من قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على النصر، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو المتصرف، إلا أن هذا التوحيد -توحيد الربوبية- ليس بالأمر السهل، كما قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22]، وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فعندها أتاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بني إسرائيل أربعين سنة، فجلسوا في التيه أربعين سنة. وهذا ليس عقاباً فقط من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بل كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينمي في قلب بني إسرائيل توحيد الربوبية، حتى يعلموا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحتاج إلى الأسباب لنصرة بني إسرائيل، ففي الصحراء لا يوجد أكل ولا شرب، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل عليهم المن والسلوى، وفجَّر لهم الينابيع ليشربوا منها، حتى قيل: إنه في كل يوم كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يذهب هذا الماء، ويأتي في اليوم الآخر فيضرب موسى عليه السلام الحجر حتى تنشق الينابيع مرة أخرى وهكذا أربعين سنة، حتى ينمو في قلب بني إسرائيل حقاً أنه لا ناصر إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله. وبعد الأربعين سنة يأتي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو نفس الأمر الأول: ادخلوا الأرض المقدسة، وفي هذه المرة تأدب بنو إسرائيل ودخلوا الأرض المقدسة ونصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بتوحيد الربوبية.

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية توحيد الألوهية: هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، أو هو إفراد الله تعالى بالعبادة. فالأنبياء عندما أرسلوا كانوا يدعون الناس إلى توحيد الألوهية، وهو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأفعال العباد، بأن الإنسان لا يسجد إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يستغيث ولا يدعو إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا لا يفعل شيئاً من العبادة إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إن الباب الذي يدخل منه الإنسان إلى توحيد الألوهية هو توحيد الربوبية، فإذا اعتقد الإنسان يقيناً أنه لا ناصر إلا الله، فهو لا يسأل النصر من غير الله، وإذا اعتقد الإنسان أنه لا رازق إلا الله، فإنه لا يدعو أحداً غير الله للرزق، وإذا وحَّد الإنسان ربه وكان في قلبه توحيد الربوبية، فهذا يكون بداية الطريق إلى توحيد الألوهية.

توحيد الأسماء والصفات

توحيد الأسماء والصفات والقسم الثالث من أقسام التوحيد هو: توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله تعالى بالأسماء والصفات، وأن يثبت الإنسان لله تعالى ما أثبته لنفسه، بدون تشبيه ولا تمثيل، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بصفاته، فإذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إنه سميع بصير، فإن الله سميع بصير وليس هناك للفلسفة أن تفسر هذه الألفاظ كما تريد، وهؤلاء الفلاسفة كأنهم يعلمون صفات الله أحسن مما يعلمها هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فلا نشبه صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفات المخلوقين؛ لأن صفات المخلوقين فيها العيب، فمثلاً: نظر الإنسان ناقص فهو لا يرى إلا إلى مسافة معينة، وهكذا صفات الإنسان كلها فيها التقصير، فلا ينبغي للإنسان أن يشبه صفات الخالق بصفات المخلوق؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، ولا أن يعطل أسماء الله فلا تقول: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس له يد، وهكذا كما يقول بعض المعطلة.

نواقض التوحيد

نواقض التوحيد وقال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. وبعد أن عرفنا أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، سوف نتكلم عن نواقض هذه الأقسام.

إقرار المشركين بتوحيد الربوبية

إقرار المشركين بتوحيد الربوبية إن توحيد الربوبية: هو اعتقاد أن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت والذي يدبر الأمر، والذي ينفع ويضر عند الكرب والشدة، وهذا التوحيد كان المشركون الذين بعث فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحاربهم، واستحل دماءهم وأموالهم وبشرهم بالنار، إلا من آمن به واتبعه؛ كانوا مقرين بهذا التوحيد أو بعضاً منهم، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38]، فهم مقرون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض. ولم يقل أحد من الأنبياء ممن بعثه الله إلى أي أمة من الأمم: إن الله موجود، ولم توجد أمة من الأمم تنكر وجود الله تبارك وتعالى -بشكل أمة ولا نقول: أفراداً- إلا عندما انتشرت الشيوعية قبل قرنين تقريباً، ثم انتشر الإلحاد والشيوعية في العالم الغربي وأوروبا التي كانت على دين نصراني محرف فرفضته، وانتقلت إلى لا دين، وهو: إنكار وجود الله تبارك وتعالى. أما قبل ذلك فلم يكن هناك أمة تنكر وجود الله، وإنما كانت تعبد مع الله غيره، فكانوا يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقت الشدة فقط، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين، وإذا احتاجوا إلى الغوث في حالة الشدة والضيق والكرب، دعوا الله مخلصين له الدين، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، فإذا نجوا وخرجوا إلى البر بدأوا يدعون آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، سواء كانت هذه الآلهة أحجاراً، أو أولياءً، أو أنبياءً، أو عباداً صالحين، أو كواكب، أو أياً كانت تلك المعبودات من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وكانوا كذلك كما أخبر الله تبارك وتعالى عن اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. ولهذا لما كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، كتب إلى هرقل عظيم الروم: {بسم الله، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، ثم كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]}. فكان الأنبياء يأتون ليدعون أقوامهم إلى أن يعبدوا الله، وأن يكون الرب هو الله المعبود وحده لا شريك له، لكن أولئك كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله تبارك وتعالى.

أنواع عبادة الأحبار والرهبان

أنواع عبادة الأحبار والرهبان عبادة الأحبار والرهبان على نوعين: النوع الأول: السجود للأحجار، أو الأشجار، أو الأصنام، أو الدعاء، أو الاستغاثة في حالة الكرب. والنوع الآخر: أن هؤلاء الناس كانوا يطيعونهم، فيحللون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله وفق آراء وأهواء الأحبار والرهبان. ولذلك لما جاء عدي بن حاتم -وكان على دين النصرانية - إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتلا عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] قال له عدي: ما عبدناهم. لأن عدياً ومن كان معه ما كانوا يسجدون للأحبار والرهبان، وما كانوا يستغيثون بالأحبار والرهبان، فذهب نظره وانطلق ظنه إلى أن هذه العبادة ليست موجودة عندهم، فكيف يقول الله تبارك وتعالى ذلك؟ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألم يحلوا لكم الحرام، ويحرموا عليكم الحلال، فأطعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم}.

حقيقة التوحيد

حقيقة التوحيد وهكذا يأتي الأنبياء ليبينوا للناس أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يكون المطاع هو الله وحده لا شريك له، وطاعة أي أحدٍ غيره، حتى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هي سبب لطاعة الله، ولهذا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولهذا حتى الأنبياء لو خالفوا شيئاً من أمر الله عن اجتهاد منهم ينزل العتاب من السماء ليصحح ما يجب أن يكون؛ ليوافق الكل أمر الله تبارك وتعالى، فلا مجال لأن يكفر الإنسان ببعض التوحيد ويؤمن ببعض، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، أي: ادخلوا في الإسلام كله، والسلم هو الإسلام، كما قال جل شأنه في الآيات الأخرى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. والطاعة والتشريع، والموالاة والمعاداة لله تبارك وتعالى. فحقيقة التوحيد الذي هو توحيد الأنبياء الذي جاءوا به هو: الاستسلام والانقياد لأمر الله تبارك وتعالى في كل أمر وفي كل شأن، بلا اعتراض ولا منازعة، ولا مدافعة ولا طاعة لشيطان، ولا لهوى، ولا لطاغوت ولا لأي مخلوق كائناً من كان. فأمَّا من أقر بتوحيد الربوبية أو ببعضه وقال: أنا أؤمن بأن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت، ولكن يدعو غير الله، فهذا وإن جاء بتوحيد الربوبية أو بعضه، لكنه نقض توحيد الألوهية. وكما قلنا ما جاء الأنبياء ليقولوا للناس إن الله موجود، لا؛ بل جاءوا ليدعوا الناس إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، قالها: نوح، وصالح، وهود، وشعيب، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاهد الناس عليها ثلاث عشرة سنة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إلى هذا التوحيد وإلى شهادة أن لا إله إلا الله. فمعنى ذلك: أنه يجب علينا أن نتفطن إلى حقيقة التوحيد وأهميته، وأنه لا بد أن نأتي بجميع أنواع التوحيد، وإلا فلو أن الأمر كلمة تقال باللسان كما يظن كثير من الجهال -وقد فشى الجهل في المسلمين- لكان الأمر أهون. ولهذا لما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه على بعض القبائل -كما جاء في السيرة- فكان يقول: قولوا كلمة واحدة، كلمة تستجيب لكم بها العجم وتخضع لكم بها العرب، والكلمة هي: لا إله إلا الله، قالوا: أما هذه فلا. رفضوها؛ لأن معناها أن تتخلى عن كل شيء، لا تؤله نفسك على القبيلة، ولا تؤله أعراف وعادات القبيلة، ولا تؤله الأحبار ولا الرهبان، ولا تؤله الشياطين، ولا تؤله الجن، فالعرب كانوا إذا مروا في وادٍ، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، ولا تؤله الكهان. فقد كان العرب يتحاكمون إلى الكهان، وكانوا يذهبون إليهم في كل أمر، ويدعون أن عندهم علم الغيب ويطلعونهم عليه، وهكذا أمور كثيرة من أمور الشرع، والحديث الصحيح المعروف لما رقى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جبل الصفا ودعا الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قالوا: تباً لك! ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]. وهؤلاء هم قومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يعرفون صدقه، وسمّوه بالصادق الأمين، وكان العرب أحرص الناس على الشرف والفخر، ولم يبعث في العرب نبي قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما كانت النبوة في ذرية إسحاق، وكان اليهود أهل الكتاب يتطاولون على العرب دائماً بأن المبعوث من الأنبياء منا، وما منكم أحد. وكان اليهود يستفتحون على الذين كفروا -أي على المشركين- بأن الأنبياء والنبوة والعلم والكتاب فيهم؛ فكانوا أثرى القبائل بأن يفخروا بهذا، والعرب كان إذا نبغ فيهم شاعر افتخروا وضجوا وصاحوا وعلموا أبناءهم القصائد التي يقولها هذا الشاعر؛ لأنهم يريدون الفخر، فكان حرياً بقريش أن تفخر بهذا المبعوث الصادق الأمين، الذي يدعوها إلى أمر عظيم، تخضع لها به الأرض كلها. لكن لما قال: لا إله إلا الله لم تستجب قريش، وكانت الحرب مع قريش ثلاث عشرة سنة، ثم في المدينة حاربوه وحاربهم، إلى أن فتح الله تبارك وتعالى له مكة في السنة العاشرة.

أهمية توحيد الله

أهمية توحيد الله وقال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. توحيد الله عز وجل هو أهم من كل أمر، فعندما أقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فمعناه أن أوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل أمر، وأن أستمع إلى أي أمر يأمر به الله، كما قال بعض السلف: [[إذا سمعت: يا أيها الذين آمنوا؛ فأرع لها أذنك]]، لأن هذا الخطاب من الله عز وجل، ويجب أن تعبده وتطيعه وحده، فإن الأمر الذي سيأتيك بعد ذلك يجب أن تنفذه. فلو أن أحداً أخلَّ ببعض أنواع التوحيد، فإنه بلا شك قد أخلَّ بالتوحيد، مما قد يخرجه من الإسلام نهائياً؛ كمن يدعو غير الله، أو يستغيث بغير الله، أو أمثال ذلك، وحتى في الطاعات فمن يقصر في بعض الطاعات لا شك أن إيمانه ينقص، والذي يعترض على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في بعض التشريعات، فإنه كمن يعترض على شرع الله عز وجل كله، وهذه من الأشياء التي تخفى على كثير من الناس، فيجب أن توضح ويجب أن نعرف حقيقتها. كثير من الناس يحب الإسلام والتوحيد والدين، ويحافظ على بعض الأمور كالصلاة، أو الصيام، أو الحج، أو الصدقة، وما أشبه ذلك، لكنه لا يريد ولا يطيق أن يسمع من يقول له: اتق الله! ودع الربا -مثلاً- لأنه يتعامل بالربا فهو يحب كل ما أنزل الله إلا الربا، لا يريد الناس أن تتحدث عنه، بعض الناس يحب ما أنزل الله من صلاة، وصيام، وزكاة، يوحد الله في ذلك، لكن لا يطيق أن تحدثه عن الحجاب، أنه لا يجوز له أن يخرج امرأته متبرجة، أو لا يراها فقط إلا المحارم ممن ذكر الله، هذا صعب فهو يكره هذا الجانب. وهكذا لو أن كل مسلم فتش في نفسه، لوجد أنه رغم ادعائه للتوحيد لكن الانقياد والاستسلام لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الحقيقة فيه خلل، قد يكبر، وقد يصغر؛ لكن هذا الخلل موجود عند أكثر المسلمين، ولا يحتاج دليل في ذلك، فانظروا إلى حال المسلمين اليوم، إن كان حالنا اليوم في عزة ومنعة وقوة، فإننا محققون للتوحيد، وإن كنا في ذل وانحطاط وتفرق، فاعلموا أننا لم نحقق توحيد الله تبارك وتعالى. فبقدر ما نحقق التوحيد يكون الانتصار بإذن الله عز وجل، وبقدر ما يكون عندنا من الشرك والبدع والمنكرات والمعاصي التي تبعد الإيمان نهائياً، بقدر ما يكون حالنا من الفتور والانحطاط.

تحقيق التوحيد

تحقيق التوحيد وقال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. إذا أراد الفرد منا كفرد أن يرضي الله تبارك وتعالى، وينال ما وعد الله به من العزة والتمكين في الأرض وفي الدنيا، وبالفوز برؤيته وبالجنة في الآخرة، فما علينا إلا أن نوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التوحيد الكامل المطلق، وأن نستسلم لأمر الله ولقدره ولقضائه ونرضى بكل ما أنزل الله تبارك وتعالى، كما في الحديث {من قال حين يمسي وحين يصبح: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، كان حقاً على الله أن يرضيه} هذا معنى الرضا، لكن ما معنى رضيت بالله رباً؟ أقول: معنى ذلك أنه -مثلاً- إذا سمعت آية من آيات الله فإذا لم أنفذها، ولم أتبع ما فيها، لم يكن هذا من الرضا، لا بد عندما أقول في الصباح والمساء: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، أن أضع كل ما يأتيني عن الله، وعن رسول الله، في محل الطاعة والقبول والالتزام في نفسي -ما استطعت- كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وفي زوجتي وأهلي ومجتمعي، ومن حولي، وأدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنكر المنكر بقدر ما أستطيع. إذاً: لا بد من توحيد الله تبارك وتعالى التوحيد الكامل المطلق، وإلا فالمشركون لم ينفعهم شيء، مع أنهم كانوا مقرين بأنه الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، والذي يدبر الأمر، لكنهم كانوا لا يقرون بالعبادة، وكانوا يتبعون الأعراف والعادات والتقاليد، ويتركون أوامر الله ورسوله، وكانوا يعبدون الأحبار والرهبان، يتبعونهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فكل ذلك لم ينفع المشركين، ولم ينفع اليهود والنصارى، ولم يصيروا موحدين، بل كانوا مشركين، وتوعدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنار، أعاذنا الله وإياكم منها.

كيف يزرع التوحيد

كيف يزرع التوحيد قال الشيخ: حسّان الراضي كما يعلم الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام مكث ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو الناس إلى التوحيد، وكان الناس في مكة يعبدون آلهة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكانوا يحبونها، ويصرفون عليها أموالاً كثيرة، ويعطرونها، ويظنون أن هذه الآلهة سوف تنفعهم. والمحبة تأتي إذا خلط الإنسان الجهد والمال من أجل الشيء، فمثلاً: إنسان يعمل عشر سنوات لجمع المال، حتى صار ثلاثين أو أربعين ألف ريال، فهو يحب هذه الأربعين ألف ريال؛ لأنه اجتهد من أجلها، فإذا أخذ هذا المال ووضعه في سيارة، فإن هذا الإنسان يحب هذه السيارة، فتنتقل المحبة من المال إلى سيارته، فيصبح يلمع السيارة ويحافظ عليها ولا يريد أن يلمسها أحد. فهؤلاء بذلوا أموالاً كثيرة، وأوقاتاً كثيرة من أجل هذه الآلهة، فجاءت محبة الآلهة في قلوبهم، فكانت عملية إخراج هذه المحبة من قلوبهم عملية ليست بالسهلة أبداً، ولكن يسَّر الله أن تخرج بإذن الله هذه المحبة من قلوبهم، وتُستبدل بمحبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وباليقين بأنه لا إله ولا معبود يستحق العبادة حقاً إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيسهل عليه امتثال أوامر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولهذا عندما اكتمل التوحيد في قلوب الصحابة، كان امتثال أمر الله أمر سهل، فكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما يأمرهم بأمر كان جميع الصحابة يمتثلون أمر الله سبحانه، فإذا جاء الأمر أن صلوا في المسجد فإنهم كلهم يصلون في المسجد، أو جاء الأمر بأن لا تشربوا الخمر، كلهم يريقون الخمر، وعندما نزلت آية الحجاب التزمت جميع النساء المسلمات بالحجاب. لقد كان الجهد في زرع التوحيد في القلوب، وفي إخراج المحبة لهذه الآلهة، التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، وهذا كان فيه سب لآبائهم وتسفيه لأحلامهم، وسب لآلهتهم أيضاً؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد أن يتكلم، ويقول: إن هذه الآلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تستطيع أن تنفعكم شيئاً. كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: بأن هذه الأصنام لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع شيئاً، فهذا سب للآلهة، وتسفيه لأحلامهم، القائلة: بأن هذه الآلهة تشفع لنا، كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فكان في هذا تحطيم لأحلامهم كلها. فعندما يأتي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشرك وهو يعبد هذه الآلهة ثلاثين سنة، وهو يعلم أنها ليست الخالقة، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، فهو يعلم أن الله هو الخالق والرازق، ولكنه يظن أن هذه الآلهة تقربه إلى الله، ولهذا بذل الأموال والأوقات، من أجل هذا، ويأتي الرسول فيقول له: إن هذا كلام ضلال، فهذا تسفيه وتحطيم لأحلامه كلها، ولهذا كانوا يرفضون هذا الشيء. وكان فيه أيضاً سب لآبائهم، لأنهم وجدوا آباءهم على ملة، وعلى طريقة، وهم يتبعون طريق آبائهم، فكأنما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لهم: إن آباءكم لا يعقلون ولا يفهمون شيئاً، فكان هذا سب للآباء، وهذا ما كان يقوله كفار قريش: إن محمداً سفَّه أحلامنا، وسبَّ آباءنا، وعاب آلهتنا، وهو في الحقيقة ما سب الآباء، وما قال: أنت أبوك كذا أو كذا، فكانت العملية في غاية الصعوبة في إخراج هذا اليقين، وهذه المحبة من هذا القلب، وإبدالها بالتوحيد. فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو إلى توحيد الألوهية، ولكن هذا التوحيد يدخل عن طريق باب توحيد الربوبية فيجب أن يعلم الإنسان أنه لا يقربه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا ولي، ولا ملك، ولا جن، ولا نبي، فلقد كان إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة، فعندما أوقدوا له النار، وأرادوا أن يقذفوا به فيها، وقد كانت ناراً عظيمة جداً، ما رأى أحد مثلها. وضعوا إبراهيم على المنجنيق وهو وحيد، كل العالم ضد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فعندما ضربوا المنجنيق، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الهواء، جاء إليه جبريل، وقد انقطعت جميع الأسباب المادية -لكن انظر إلى هذا الاختبار- وهو في طريقه إلى النار يأتي جبريل إليه بالحبل المادي الوحيد. فيقول: هل لك إلينا حاجة؟ تريد مني خدمة؟ فهذا جبريل الملك العظيم، الذي يستطيع بإذن الله أن يطفئ هذه النار، أو أن يحول طريق إبراهيم إلى مكان آخر، ولكن عندما يكتمل التوحيد في الشخص، ويعلم أنه لا ينجيه إلا الله، فلا يستعين بأحد إلا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيقول: أما منك فلا! لا حاجة لي بك، ولكن من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فلا يستطيع الإنسان ولا للحظة أن يسأل الله أن لا يستعين بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وكذلك الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما كان في غزوة من الغزوات، ونام تحت الشجرة، وعلق سيفه عليه الصلاة والسلام والصحابة نائمون، فجاء أحد المشركين وسلَّ سيفه؛ فاستيقظ عليه الصلاة والسلام، -وكما تعلمون عندما يستيقظ الإنسان من النوم، لا يكون مسيطراً على فكره وقلبه- وهذا المشرك قد سلَّ سيف الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يقول له: من يمنعك مني؟ فما تردد عليه الصلاة السلام؛ لأن قلبه مملوء بعظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم بأن الله هو الناصر، وهو المميت، وهو المحيي، وأن هذا السيف والله لا يتحرك ولا يقطع، إلا بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو لا يخاف إلا الله، ولا يعبد إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال للمشرك: الله، هذا التوحيد يجب أن ينمو في قلوب شباب المسلمين.

مراتب التوحيد

مراتب التوحيد قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. الإيمان أو التوحيد، قد يكونان مترادفين، إذا علمنا وعرفنا كيف فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان لجبريل عليه السلام، كان هذا آخر عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد عودته من حجة الوداع، ومعلوم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي بعد حجة الوداع بفترة وجيزة، في شهرين وكذا من الأيام. وفي الحديث {بينما نحن عند الرسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه -جلسة المتعلم أمام الشيخ المعلم- فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، فقال: صدقت، فقال الصحابة: عجبنا له يسأله ويصدقه، فقال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فقال: صدقت إلخ}. فالتوحيد هو: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. فهذا الحديث جاء فيه أن مسميات مراتب الدين ثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان، فلما علمه قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}. إذاً ديننا بهذه الثلاثة، بالإيمان وبالإسلام وبالإحسان، ولو تأملنا في هذه المراتب الثلاثة، لوجدنا أن الناس يتفاوتون فيها، ولوجدنا العلاقة بين هذه الأنواع جميعاً، فإن الإنسان الذي يشهد أن لا إله إلا الله، ويصوم ويصلي، لا بد أن يكون مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا الإيمان قد يبلغ ببعض الناس إلى أن يصل إلى درجة الإحسان، وهو أن يصبح الإنسان يعبد الله كأنه يراه، فهذا التوحيد على نوعين: توحيد الأعمال الظاهرة، وتوحيد الأعمال الباطنة.

توحيد الأعمال الظاهرة

توحيد الأعمال الظاهرة الأعمال الظاهرة: هي التي سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث بالإٍسلام، فهو الأعمال الظاهرة للتوحيد، أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصلي ونصوم ونحج ونزكي، فتكون جميع أنواع العبادات من الأعمال الظاهرة التي هي أعمال الجوارح خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

توحيد الأعمال الباطنة

توحيد الأعمال الباطنة الأعمال الباطنة هي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، أن يكون الإنسان رجاؤه وخوفه وتوكله وإنابته ويقينه وإخباته وإذعانه، وكل الأعمال القلبية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الإيمان يزيد وينقص

الإيمان يزيد وينقص وهذان الركنان: الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، منهما تترتب حقيقة تفاوت الإيمان وأنه يزيد وينقص، مثلاً لو نظرنا إلى الصلاة، نجد أن بعض الناس أكثر أجراً في صلاته من بعض، فالواحد منا -أحياناً- يصلي الفجر صلاةً خاشعةً ويستيقن ويحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ذلك؛ لأنه استحضر قلبه، فهذه صلاة أداها بما يرضيه ويريده، لكن قد يأتي يوم ثانٍ أو فريضة أخرى، وإذا به ينشغل ويهتم ويوسوس في الصلاة، ولا يدري إلا وقد سلم الإمام، وربما لو سهى الإمام لا ينتبه إلى ذلك. إذاً: هذا دليل على أن الأعمال تتفاوت، فحركات الجوارح نفس الحركات تقريباً، أنت وراء الإمام في الفريضة ما الذي جعل صلاتك في وقتٍ عالية، وصلاتك الأخرى قليلة جداً؟! فبعض الناس لا يكتب له إلا عُشر الصلاة، وبعضهم لا يكتب له شيء، لكن من الناس من تكتب له كلها، نصفها، أو ثلثها، أو ربعها، إلى عشرها كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذاً: هذا التفاوت ما سببه؟ سببه أعمال القلب، وإيمان القلب، فعندما يكون الخشوع واستحضار القلب لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، تكون العبادة أكفأ. وكذلك لا يمكن أن يوجد عمل في القلب حقيقي، وإيمان في القلب حقيقي، إلا ويظهر أثره على الجوارح، تجد أحدهم يقول: أنا موحد لله عز وجل تماماً، لكنه يحلف بغير الله، فلو وحد الله ما حلف بغير الله، فإذا ذهب يدعو غير الله فهذا أعظم، فلو كان التوحيد في قلبك كما تقول لما دعوت إلا الله، وكيف يكون التوحيد متكاملاً في القلب وتدعو غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فإذاً بهذا يعرف الإنسان إيمانه عندما يشعر أن صلاته أحياناً تزداد، وأحياناً تقل، فالإيمان يزيد وينقص، ولذلك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، لما حول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال بعض الصحابة ما حال صلاتنا التي صليناها إلى الشام، وقال بعضهم: إخواننا الذين ماتوا قبل أن تتحول القبلة ليس لهم شيء حتى لو صلوا؛ فأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي صلاتكم. فإن الصلاة هي الإيمان، والإيمان هو الصلاة، لأنها جزء منه، فكل عمل من الأعمال يطلق عليه الإيمان، فبر الوالدين من الإيمان، والصيام من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والإحسان إلى الفقراء من الإيمان، فكل هذه الأعمال الصالحة من الإيمان، عمل الجوارح مع عمل القلب جميعاً، فإذا كانت هذه الأعمال تزيد وتنقص، فالإيمان يزيد وينقص. وكذلك التوحيد يزيد وينقص، فعندما يأتي جبريل إلى إبراهيم عليه السلام، فيقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، فهذا غاية التوحيد، لكن من الذي يحقق مثل هذه الدرجة، إنهم قلة قليلة. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124]. وفي الموقف الآخر لما رأى في المنام ما رأى -ورؤيا الأنبياء وحي- لم يأته جبريل، بل أعظم من ذلك، لقد خاطبه الله عز وجل، فقال: يا إبراهيم! اذبح ابنك، فأضجعه إبراهيم وأخذ السكين، حتى أنزل الله تعالى عليه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105]. فلما حقق إبراهيم عليه السلام هذ التوحيد، صار إمام الموحدين، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، فنحن الآن ننتسب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى إبراهيم عليه السلام، إمام الموحدين الأول. فإبراهيم عليه السلام دعا الله تبارك وتعالى أن يبعث إمام الموحدين وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي نشر هذا التوحيد، ولهذا يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68]، فنحن أولى الناس بإبراهيم، وقال رداً على اليهود والنصارى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، إذاً التوحيد درجة عالية جداً، فمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان في الغار ومعه الصديق، كما قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، كان فؤاد أبي بكر رضي الله عنه يرجف، ويقول: {يا رسول الله! والله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا}، وإذا رأوهم انتهت الجهود والاحتياطات التي بذلت، في لحظة واحدة، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه فقط. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحزن إن الله معنا}، هذا هو التوحيد، لكن هل كل النفوس تطيق ذلك؟ لا، الأدلة على ذلك أن التوحيد درجات تتفاوت، ويزيد وينقص. وعندما جاءت الأحزاب وأحاطوا بـ المدينة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محاصر هو وأصحابه فيها، في تلك اللحظة ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، هذا الزلزال الشديد ظهر فيه الموحد الصادق، الذي يؤمن بالله عز وجل وواثق من نصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسقط من سقط، وما أكثر من يسقط ممن يدعون الإيمان حين يصطدم بلحظة الاختبار وفي لحظة الابتلاء، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]، فهذه الآية تبين أن هناك اختباراً وابتلاءً، فعندما جاءت الأحزاب، ظهرت حقيقة المنافقين، كما قال تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13]. وهكذا نحن نريد أن ندعو إلى الله، ونغير منكراً من المنكرات، وأن نذهب إلى إخوانٍ لنا في الله عز وجل في الشارع، هذا يبيع أفلاماً خليعة، وهذا أغاني محرمة، وهذا فاتح المقهى وقت الصلاة، نكلمه بالحسنى، بالمعروف، ونعرفه ونعرف الآخر، فكلنا إخوان ومسلمون بحمد الله، ونعرف بعضنا بعضا، هذا ولد عمي، وهذا رفيقي، وهذا زميل أخي، كلهم في الحي، لا نحاول بسلطة ولا بعسكري، نحن نكلمه بالمحبة والأخوة. فعلينا أن نخاطب قلوبنا، هل نحن فعلاً عندنا الجرأة وعندنا الإيمان؟ نحن لا تحيط بنا الأحزاب، ولا الأعداء، ولا شيء من ذلك، بل والله إذا نصحت أحداً، فإنه يشكرك ويحترمك، ونحن ما نريد الشكر والاحترام لنا، نحن نريد أن يطاع الله. لكن أقول: هذا عاجل بشرى المؤمن، ومما يشجع الإنسان أن يقال له: يا أخي! اتقِ الله تعالى، أنت دائماً تأكل من الحرام، يا أخي! اتقِ الله، جزاك الله خيراً، الدنيا فانية والمال الحرام، أو يا أخي! الناس تبيع الفاكهة، وتبيع أدوات كهرباء، وتبيع أشياء فيها فائدة، وأنت تبيع أفلاماً! من أول الفلم عشق وغرام وهيام؟ يا أخي، أنت إنسان عاقل، وأنت كذا، جزاك الله خيراً، وإن شاء الله يتقبل هذا منك، وهذا أقل شيء، فأنت أديت ما عليك نحو أبناء هذه الأمة. كذلك جارك الذي لا يصلي، متى ضربت عليه الباب؟! وقلت له: يا أخي نريدك أن تصلي، عندما نريد أن نعرف إيماننا، فإننا نقيسه بإيمان الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- نعرف أننا ندعي أننا فقط أدعياء، إلا من رحمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الشاهد من هذا كله هو أن الإيمان يزيد وينقص، وأن التوحيد يزيد وينقص، فإذا انطبق توحيد الله عز وجل؛ فإنه يظهر على الأعمال، والجوارح، وفي الدعوة، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضحية والجهاد من أجل هذا الدين، ومن أجل التقرب إلى الله وحده، وبقدر نقص التوحيد ونقصان حقيقته، نجد أن الخلل وقع. انظروا إلى الرزق الذي كان المشركون يؤمنون به، كان المشركون يؤمنون بأن الله هو الرازق وحده، مع أنه يوجد في هذه الأمة من يدعو غير الله أن يرزقه، وبعض الناس لو قلت له: يا أخي! اتق الله، أو قلت له: يا أخي! إن العمل في هذا المكان حرام، وهذه فتاوى العلماء، وهذا كلام الله ورسوله، لا يجوز أن تعمل في هذا المكان تجده يقول: أين أذهب؟ هذا مصدر رزقي. ولو أتيته وقلت له: يا أخي! اتق الله عز وجل وانه عن المنكر، أنت -مثلاً- تعمل في هذا المحل وفيه المنكرات، ادع صاحب المحل عندما يأتي، وقل له: هذا منكر، يقول: لو كلمته يقطع رزقي، يا سبحان الله! إذاً: ما كانت الجاهلية تُقُّر به وهو أن الله هو الرازق، نجعله نحن للمخلوق دون أن نشعر، فنقول: المخلوق هو الرازق، ولو أنك لو تركت العمل في هذا المكان المحرم، أو عند هذا الإنسان الذي لا تستطيع أن تقول له: اتقِ الله! لربما يعوضك الله عز وجل خيراً منه، ولو لم يكن لك أي عوض، إلا أنك وحدت الله حقيقة التوحيد، وآمنت بالله حقيقة الإيمان لكفى. والخلاصة من ذلك: أن الإيمان يزيد وينقص، وأن التوحيد يزيد وينقص، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لتحقيق التوحيد، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، إنه سميع مجيب، والله أعلم.

إنا خلقناكم من ذكر وإنثى

إنا خلقناكم من ذكر وإنثى قال الشيخ: حسّان الراضي ِِخلق الإنسان للرجل والمرأة له أربع حالات: إما أن يخلق من الرجل والمرأة، وإما أن يخلق من الرجل دون المرأة، وإما أن يخلق من المرأة دون الرجل، وإما أن يخلق بدون الرجل وبدون المرأة. وأصعب الحالات بلا شك هو الخلق بدون رجل ولا امرأة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على كل شيء قدير، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرينا بعض قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فينا، فالله قادر على كل الأربع الحالات، أما التي بدون رجل وبدون امرأة كخلق آدم عليه السلام، خلقه من تراب ونفخ فيه من روحه وقال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له: كن، فكان آدم عليه السلام، وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حواء من ضلع آدم، فخلقت من رجل بدون مرأة، وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقية الخلق من آدم وحواء، من رجل وامرأة، فلم يتبق إلا خلق إنسان من امرأة دون رجل، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أكمل بخلق عيسى عليه الصلاة والسلام الحالة الرابعة وهي خلق الإنسان من امرأة دون رجل. ولقد ضل النصارى وهم يحسبون أنهم مهتدون، فقالوا: إن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله!! وهذا القول كفر والعياذ بالله، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوضح أن من قال هذا: أنه كافر، وكذلك من قال: إن الله ثالث ثلاثة أنه كافر، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إله واحد لا شريك له، لم يلد ولم يولد، ليس له صاحبة؛ فإذا كان له ولد، فأين الصاحبة؟! فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد، ولا يحتاج سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى ولد، ولا إلى صاحبة ولا إلى أحد.

الغلو من أسباب الضلال

الغلو من أسباب الضلال قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. من أكبر أسباب الضلال في الأمم التي قبلنا وفي هذه الأمة، الغلو في المخلوقين والبشر، فآدم عليه السلام خلقه أعظم من خلق عيسى، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] قالها في سورة آل عمران في معرض الرد على أهل الكتاب، لما جاء قسيس نجران والوفد الذين معه إلى المدينة، إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناظروه في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى صدر سورة آل عمران، رداً على النصارى في آي كثيرة، منها هذه الآيات. دعوى النصارى بأن الآلهة ثلاثة، وإشراكهم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك، من أسبابها المشكلة التي يعاني منها المسلمون اليوم، وهي مشكلة الغلو في الصالحين، وفي الأنبياء. إن الغلو في أي إنسان بأن يزيد من قدره الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له، هذا من باب الضلال والشرك، فالمسيح عليه السلام، وأمه عليها السلام كانوا من بني إسرائيل -كما تعلمون- فماذا كان موقف القوم منهما، بعد أن أكرمهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما أكرم الأنبياء؟ كانوا على فئتين: أما اليهود فقالوا والعياذ بالله: إن مريم زانية! وأن هذا المسيح ابن زنا! والعياذ بالله، وهذا غلو في غاية الدناءة، أما الطرف الآخر فقالوا: إن هذا ليس بشراً، هذا إله، فرفعوه إلى أعلى؛ ولهذا رد الله تبارك وتعالى عليهم بأعظم مما رد على أي بدعة أو شبهة، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]. هذه الآية لها مغزى، "كانا يأكلان الطعام" معناه: وجود الحاجة البشرية فيهما والفقر يظهر في أكل الطعام، فالإنسان أكثر شيء يحتاجه في حياته اليومية أن يأكل الطعام. لذلك فإنَّ الرئيس، والحقير، والصغير، والكبير، والغني، والفقير، وكل مخلوق هو يسعى إلى الرزق لأكل الطعام، فيجد الحاجة إلى الطعام وإلى التقوت به، فمن كان في حاجة إلى أكل الطعام، لا يمكن أن يكون إلهاً أبداً، وأكثر من ذلك فالذي يأكل الطعام، تخرج منه الفضلات فهل يليق بالإله أن ينسب إليه هذا الشيء -والعياذ بالله- فلو فكَّر هؤلاء، وحكَّموا عقولهم، لكان ََََالتوحيد هو دينهم، لكن أضلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بسبب هذا الغلو. وهؤلاء -كما تسمعون- في صوت الإنجيل، وفي مونتكارلو، وفي ساعة الإسلام، وفي الإذاعات التي تصلهم ليلاً ونهاراً، وفي كل ليلة، وفي كل وقت، وفي كل خطبة، وفي محاضرة، وفي نظرة في الكنائس، يرددون أن المسيح إنما كان إلهاً، وإنما كان بهذه المكانة، لأنه خلَّص البشرية، خلص بني الإنسان من الخطيئة. بعض الناس يقول: ما دامت أمريكا وأوروبا وفرنسا صنعوا الطائرات والصواريخ والأقمار الفضائية وكذا، كيف ستكون عقائدهم رديئة مفتقرة؟ ما دام هناك هذا الإنتاج المادي والتكنولوجي والكمبيوتر؛ فلا بد أيضاً أن عقائدهم ودينهم وفكرهم يكون على هذا المستوى!! وهذا غير صحيح أبداً، هذا ظلم، هذا له مجال، وهذا له مجال آخر، الدين اتباع وهدى من الله عز وجل، أما الصناعة فكل إنسان يعمل أكثر، ويفكر أكثر، وينتج أكثر، يحقق فيها أكثر، أياً كان دينه، الصينيون صنعوا القنبلة الذرية، بل وعباد البقر الهنود صنعوا القنبلة الذرية، إذاً: القنبلة الذرية ليست حكراً على أصحاب الفكر الغربيين، يمكن أن المجوسي، وعابد البقر، وعابد الشجر، وعابد الحجر، وأي إنسان أن يعمل ويحقق. الشبهة أن النصارى قالوا: آدم أكل من الشجرة فوقعت البشرية في الخطيئة، فلما أراد الله أن يخلص الإنسان من الخطيئة، ضحَّى بابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- وذبحه صلباً، فكفرت الخطايا عن البشرية. جواب الشبهة: فلو ناقشناها بالعقل حتى بدون نقل مع أي إنسان عنده عقل لقلنا: أولاً: آدم هو الذي أخطأ، والذي أغواه بالخطيئة هو الشيطان، لو كان الذي ضحى به الله عز وجل هو ابن الشيطان، فلن يكون هذا من العدل، لكن يقتل الذي أغواه وهو الشيطان، فهم يدعون أنه لم يقتل الشيطان الذي أغواه ولا ابن الذي أغواه، وإنما قتل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابنه الوحيد للتكفير عن الخطيئة، فلماذا؟ ومن يقبل هذا الكلام؟ الأمر الثاني: أن الله ليس بعاجز أن يغفر الخطيئة، فالله يقول: يا عبدي! قد غفرت لك، أما أن يضحي بابنه فهذا عجيب! فمثلاً واحد أخطأ عليك -ولله المثل الأعلى- هل تذبح ولدك من أجل أن تغفر له، اعف عنه وسامحه وانتهت الإشكالية، لكن كيف يقبل العقل هذا؟ أما أعداؤه اليهود الذين قالوا: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وقالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]. فاليهود قالوا: إنه ابن زنا، وأنتم تقولون أيها النصارى: إنه ابن الله، فصلبوه وذبحوه، بكل راحة وسهولة، فكيف يكون هذا ابن الله؟ تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ما قدروا الله حق قدره، وما عظموه حق تعظيمه، فأي عاقل يسمع كلام النصارى هؤلاء لا يمكن أن يصدقه. لكن المصيبة ليست في النصارى، بل المصيبة أن هذه الأمة غلت في عباد الله الصالحين، في أوليائها، وصلحائها، وأنبيائها، كما غلا أولئك، فهناك من يدعي لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يتصرف في هذا الكون، وأن روحه تدور في كل مكان، ومن يقول: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجله خلق الكون، وأنه يعلم الغيب كله، وكل شيء، حتى الخلق استأثر به، وأن على الإنسان أن يستغفره، وأن يطلبه في أي مكان، وهكذا. حتى إن بعضهم، أو من غير هذه الأمة، جعل العبادة لغير الله، فتجده يستغيث بغير الله، ويدعو غير الله، ويقول: إن الله أعطى هؤلاء الناس التصرف في الكون، وأن هؤلاء أولياء، ولهم كرامات، وهم أحياء في قبورهم، فمن أتاهم إلى قبورهم، ودعاهم وذهب إلى الصلاة عندهم فهو كذا وكذا، مثلما غلا النصارى في عيسى، لكن هؤلاء قالوا: ابن الله، وهؤلاء قالوا: نبي الله، فالفرق أن كلمة ابن منهية عند المسلمين. ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله} قولوا: عبد الله ورسوله فقط. الرسول لا يرضى أن يأتي فيجاهد الناس هذا الجهاد الطويل، ليترك الناس الشرك، ثم يأتي هؤلاء الناس ليدعوه هو، وهو الذي جاء لمحاربة الشرك، فيدعوه ليشرك بينه وبين الله، فلا يرضى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك أبداً، ولا يرضى بذلك أي أحد من عباد الله الصالحين، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]. فالمدعوون والمعبودون من الأولياء الصالحين هم أنفسهم يبتغون إلى الله الوسيلة، وهم أنفسهم يدعون الله، ونحن لا ندري ما حالهم عند الله، إلا من كان نبياً، أو من شهد له النبي بأنه من أهل الجنة، وغير ذلك لا ندري ما حاله عند الله، هو خائف من عذاب الله، ويرجو رحمته، فكيف يعبد هؤلاء من دون الله؟ نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبنا ويجنب المسلمين -جميعاً- طرائق أهل الكتاب وسنن أهل الكتاب، ويجعلنا من المؤمنين الموحدين، إنه سميع مجيب.

جوانب من توحيد الألوهية

جوانب من توحيد الألوهية في هذه المادة يبتدئ الشيخ ببيان أن التوحيد هو دعوة الرسل جميعاً، موضحاً موقف المشركين من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ثم حذر من الشرك وبين أسبابه وبعض صوره ومظاهره، مبيناً حكم إتيان السحرة والعرافين والكهان، وبعض أحوالهم وأضرارهم على الفرد والمجتمع، وطرقهم في ترويج أكاذيبهم، ثم بيَّن حكم تعلم السحر وتعليمه، مع ذكر بعض شبه السحرة والكهان والرد عليها.

أسباب طرح الموضوع وأهميته

أسباب طرح الموضوع وأهميته الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعنا جميعاً بهذا الموضوع، وأن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب إنه سميع مجيب. إن الموضوع الذي نريد الحديث عنه هو: نبذة مختصرة عن (جوانب من توحيد الألوهية)، وهذا الموضوع قد تكون له تتمة لاحقة - بإذن الله - فيما يتعلق بهذا الأصل العظيم والركن الركين من أركان الدين: ألا وهو (توحيد الألوهية). إن الكلام فيه لا جديد فيه على بعض منا، فماذا عسانا أن نأتي من جديد في أمر ندعو إليه جميعاً، لكن -أولاً- لأهمية الموضوع كان لا بد من التذكير به. ثانياً: لغموض بعض قضاياه وغموض جوانب أو مسائل تتصل به، فكان لابد أن تجلى، ولا يضيرنا شيئاً أن يتكرر فيه الكلام؛ فإن الله تبارك وتعالى قد أكثر من الحديث والبيان والتفصيل فيه بما لم يأت على أمر آخر من أمور الدين، فعامة القرآن المكي وجملة من القرآن المدني إنما يتحدث عن توحيد الألوهية.

التوحيد هو دعوة الرسل جميعا

التوحيد هو دعوة الرسل جميعاً التوحيد هو الذي بعث الله تبارك وتعالى به رسله أجمعين، ومن أجله كانت الخصومة وكانت المعركة بين الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وبين أممهم. وقد بين الله تبارك وتعالى ذلك بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فبين أن التوحيد هو دعوة الرسل جميعاً؛ وهذا على سبيل الإجمال، وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي عبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت الذي هو: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع، أو مطاع، فهذه هي حقيقة توحيد الألوهية وشهادة أن لا إله إلا الله. وقد ذكر الله تبارك وتعالى التوحيد على سبيل التفصيل، فإن الله أنزل على خاتم رسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القرآن العظيم، وهذا الكتاب كما وصفه الله عز وجل هو: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود:1 - 2]. فهذه الآية هي خلاصة هذا الكتاب، الذي أنزله الله تبارك وتعالى مفصلاً على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه ذكر وتفصيل لتوحيد الألوهية.

موقف المشركين من توحيد الألوهية

موقف المشركين من توحيد الألوهية ذكر القرآن هذا التوحيد على سبيل التفصيل على لسان أول الرسل نوح عليه السلام؛ فإن الله تبارك وتعالى أخبر عنه في السورة نفسها أنه دعا قومه بنفس الدعوة، فقال تعالى على لسانه: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26] وقال في آيات الأعراف: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن بقية الرسل بأنهم جاءوا بهذه الدعوة أيضاً، فقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65] وقال أيضاً: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]. فكل الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- كانت دعوتهم هي التوحيد وقد فهم أقوامهم وأممهم ذلك وعرفوه. ولهذا قال قوم هود عليه السلام له: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70] فهم أنفسهم قد عرفوا ما معنى قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ولذلك قالوا: أجئتنا لنعبد الله وحده أي (لنفرده وحده بالعبادة) ونذر ما كان يعبد آباؤنا (من الشرك)، فقد كانوا يعبدون الله ويعبدون معه تلك الأصنام والمعبودات، ولكنهم لما عُرِّفوا توحيد الألولهية فعرفوه، أنكروه. وهذا ما أنكره -أيضاً- قوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] أي كيف يكون ذلك؟! فهم بذلك قد ردوا كل دعوة إلى تحقيق توحيد الألوهية، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36] وهكذا هي كل الأمم استكبرت على الدعوة إلى توحيد الله عبادته، وإلى شهادة أن لا إله إلا الله.

موقف المشركين من توحيد الربوبية

موقف المشركين من توحيد الربوبية وأما ما يتعلق ببعض جوانب الربوبية، وما ينسب إلى الله تبارك وتعالى من أفعال؛ فإن المشركين أنفسهم كانوا مقرين بها إلا من شذ، ومن جعل هذا التوحيد هو الغاية التي من أجلها بعثت الرسل وأنزلت الكتب وخلق الخلق كما يفعله المتكلمون في كتبهم التي يسمونها -العقيدة والتوحيد- وهي كتب كلام، فذلك من الضلال المبين ولا ريب في ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى أخبر في كثير من الآيات، أن المشركين كانوا يقرون بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يرزق، ويخلق، ويتصرف، ويملك قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31]. فهم يقرون بتوحيد الربوبية فلماذا إذاً كانوا كفاراً؟ ولماذا كانوا مشركين؟ لأنهم عبدوا غير الله، ولهذا قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32] أي إذا كانت هذه هي أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا كنتم كما قال الله عنكم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] وقال أيضاًَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] فلماذا تعبدون غير الله؟! ولماذا تدعون غير الله؟! ولماذا تتوجهون بقرباتكم وصلاتكم ونسككم ودعائكم إلى غير الله تبارك وتعالى؟! إذاً: فالقضية واضحة بالنسبة لما كان بين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وبين أقوامهم، وما هذه إلا آيات قليلة من جملة آيات عظيمة في كتاب الله، توضح أهمية هذا الجانب وهو (توحيد الألوهية، وضرورة الدعوة إليه، والتذكير به.

الشرك

الشرك وإذ قد ذكرنا ذلك فلابد أن نتعرض للشرك وخطورته وبعض شبه أهله.

التحذير من الشرك

التحذير من الشرك وتتجلى شدة التحذير من الشرك في قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] هذا الكلام يخاطَبُ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل الخلق عبودية لله، وأعلم الخلق بالله، وأتقى الخلق لله تبارك وتعالى ولم يقل ذلك له وحده؛ بل قد قيل لمن هم قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فكلهم خوطبوا بهذا، فبعد أن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولئك الأنبياء بالتوحيد في سورة الأنعام عقب بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويخاطب الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا وهو الأبعد من الناس عن الوقوع في الشرك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لتكون لنا نحن من بعده العبرة والعظة. فنحن أولى بأن نحذر من الوقوع في الشرك، وأن نلتزم ونؤمن ونعتقد وندعو إلى توحيد الألوهية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ وألا يعبد غيره ولا يدعى غيره في كل ما شرع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أنواع العبادات الكثيرة والمتنوعة التي يجمعها جميعاً أنها الدعاء؛ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدعاء هو العبادة} وكما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فجعل الدعاء هو العبادة، وهو كذلك. فهذا أصل عظيم يقرَّر في كتاب الله تبارك وتعالى لأهمية هذا النوع من أنواع التوحيد الثلاثة. إذاً: يجب علينا أن نعلم لماذا وقع من وقع في الشرك من هذا الجانب؟ لماذا أشرك المشركون؟ ولماذا أخلُّوا بتوحيد الألوهية؟ وبماذا رد الله تبارك وتعالى عليهم هذه الشبهات؟ وما هذه الحجة الواهية التي سوغت الشرك بالله في هذا الجانب من جوانب التوحيد.

سبب الشرك

سبب الشرك لقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه الحجة، وأنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وقالوا أيضاً: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]. إذاً: أصل الشرك الأول الذي وقع في الأرض يرجع لهذا السبب وهذا الأصل، فقد عبد قوم نوح وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، وهؤلاء هم رجال صالحون عبادٌ لله تبارك وتعالى عُبِدُوا من دون الله، واستمر الشرك بعد ذلك وتطور؛ فعُبدت الملائكة وعُبد بعض الأنبياء، وأصل هذا كله وسببه هو اعتقاد أولئك أن هؤلاء سوف يقربونهم إلى الله زلفى؛ فإذا عبدوا هؤلاء الأولياء قربوهم إلى الله. ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فمعنى كلامهم: أننا لا نستطيع أن نعبد الله مباشرة، وهذا ما يقوله بعض العامة، ممن يقع في هذا الشرك الآن فيقول: (أنا ضعيف وأنا مذنب وكلي خطايا فكيف أدعو الله مباشرة. كيف! لا أستطيع! لكن أدعو الله بواسطة هؤلاء وأتوسل إلى الله تبارك وتعالى بهؤلاء) مثل: الحسن أو الحسين أو علي وغيرهم أو حتى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بقية من يُعبَدُون من دون الله تبارك وتعالى سواء أكانوا من الأولياء أم من العباد الصالحين أم ممن جعلوا كذلك، مثل: عبد القادر الجيلاني أو أحمد الرفاعي أو البدوي أو غيرهم.

شبهة الشرك

شبهة الشرك كثير هم في أنحاء العالم الإسلامي -مما لا يدخل تحت الحصر- من يدعون غير الله ويقول: (إنما أريد التوسل بهم إلى الله تبارك وتعالى) وربما قال بعضهم: إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فيقول: لا أستطيع أن أدعو الله مباشرة، والله أمرني أن أتخذ إليه الوسيلة؛ وهي الواسطة التي بيني وبين الله، فأنا أتوسل إليه بهؤلاء الصالحين هذه هي شبهتهم. وقد رد الله تبارك وتعالى عليها أعظم الرد فيقول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] فهؤلاء المدعوون من الأنبياء ومن الملائكة والصالحين، هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب. إذاً: الوسيلة ليست هؤلاء لأنهم يبتغون إلى الله الوسيلة. فما هي الوسيلة؟ وما الذي اتخذه الأنبياء والملائكة والصالحون عموماً وسيلة إلى الله؟ إنما اتخذوا العمل الصالح (الإيمان، والتقوى، واليقين، والإخلاص، والصبر، والاستقامة على دين الله تبارك وتعالى) فهؤلاء عبدوا الله وتقربوا إلى الله تبارك وتعالى، فهم بذلك يبتغون إلى ربهم الوسيلة، أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه؛ لأنهم لا يأمنون على أنفسهم، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون جنة ولا ناراً، فكيف يتخذون آلهة؟ كيف يتخذون مدعوين من دون الله بدعوى أنهم وسطاء أو شفعاء وهم أنفسهم لا يملكون ذلك؟ بل هم يرجون رحمة الله ويخافون عذابه تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] أي يحذر منه كل أحد وكلٌ يخاف من عذاب الله عز وجل. فإذا كان هذا حال هؤلاء المدعوون الذين يُدعون من غير الله، فكيف يجوز لأحد أن يدعوهم؟! فقطع الله تعالى بذلك كل حبائل المشركين المتعلقين بهؤلاءالصالحين ووسائلهم وشبهاتهم.

التوسل وحقيقته

التوسل وحقيقته لقد بين الله عز وجل حقيقة توسل عباده المؤمنين، فأعظم عبدٍ وأعلى من وصل إلى درجة من درجات العبودية لله تبارك وتعالى وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان لأحد أن يتوسل بأحد لكان أحق الناس بالتوسل به هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لكن ماذا قال الله تبارك وتعالى؟ وماذا أخبر عن المؤمنين؛ لقد ذكر عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران:193]، فمن هذا المنادي إلا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193]. فلماذا نتوسل إلى الله تبارك وتعالى به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا نتوسل إلى الله تبارك وتعالى، بهذا الإيمان الذي هو أعظم وسيلة امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: تقربوا إلى الله تبارك وتعالى بالأعمال الصالحة والطاعات المشروعة وهكذا فسرها السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم؟! إذاً ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة، وأعظم الناس اتباعاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى بعد الأنبياء وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم. فكيف كان توسلهم؟ إنما كانوا يعبدون الله تبارك وتعالى، وإنما توسلوا إلى الله تبارك وتعالى بأعمالهم الصالحة، اجتهاداً منهم في متابعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي محبته التي تستلزم وتقتضي اتباعه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. فمن أراد حقيقة التوسل؛ فعليه باتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن اتبعه وآمن به وصدقه فيما أخبر ولم يعبد الله تبارك وتعالى إلا بما شرع؛ فإنه قد توسل إلى الله تبارك وتعالى توسلاً صحيحاً.

أنواع التوسل

أنواع التوسل والتوسل أنواع: (أ) توسل شركي وهو: دعاء غير الله تبارك وتعالى كما أوضحنا. (ب) بدعي وهو: التوسل بالذوات. وإنما يكون التوسل إلى الله تبارك وتعالى، بأسمائه وصفاته وبالأعمال الصالحة، كما فعل الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة في الغار؛ فتوسلوا إلى الله تبارك وتعالى بصالح أعمالهم، وهذا لأنهم عملوا ذلك من أجل الله تعالى. فالأمر جليٌ وواضح -ولله الحمد- إلا من أغشى الله تبارك وتعالى بصيرته من دعاة (الرفض والتشيع والتصوف وأمثالهم) الذين ضلوا وأضلوا هذه الأمة، وجعلوها أشبه ما تكون بأمم الكفر والشرك التي لم تعرف الله تبارك وتعالى، ولم تعرف التوحيد ولم يأتها رسول منذ أحقاب من الدهور! إنما ورثته من عادات وتقاليد وضلالات وشركيات، كحال أهل الهند والصين وأمثالهم ممن لم يهد الله قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام! فهؤلاء قد ضلوا وأضلوا، وهذا الجانب قد وضح إن شاء الله تبارك وتعالى.

السحر والكهانة

السحر والكهانة الجانب الآخر من جوانب هذا التوحيد وهو جانب عظيم ونحتاج للحديث عنه في هذه الأيام -وأيضاً في كل الأيام- وهو ما يتعلق بإتيان الكهان والسحرة والمشعوذين، فقد عم هذا البلاء وطم -ولا حول ولا قوة إلا بالله- حتى أصبحت البيوت تضج وتشتكي، والهواتف والرسائل تأتي تباعاً إلى أهل العلم والدعوة ممن يشكون مما حل بهم.

لا يظهر على غيبه أحدا

لا يظهر على غيبه أحداً بعد أن كان هذا الأمر من أقل ما يمكن، وإذا به ينتشر وإذا بشره يستطير -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فما هو موقفنا جميعاً من هؤلاء؟ وما حقيقة ما يقوله أولئك أو ما يدعونه؟ وهل يعلم الغيب أحد غير الله تبارك وتعالى؟. سبحان الله العظيم! يذهب الناس إليهم ويسألونهم عن ضالة فقدت أو عن أمر يريدونه أو عن عمل أو عقد يريدون أن يبرموه، وهل الزواج سيكون موفقاً أم غير موفق؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! هل هؤلاء يعلمون الغيب؟! ألم يقل الله تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] وتقديم الظرف أو المعمول دائماً يشعر بالاختصاص، كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي وحدك نعبد ولا نعبد غيرك، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59] أي ليست عند أحد سواه، ولا يعلمها إلا هو، فلا يعلم الغيب أي (الغيب المطلق) إلا الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] فكيف يليق هذا بمن يعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه لا يعلم الغيب، بل قال: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] وقال: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] سبحان الله! ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب أكان يبعث سبعين من خيار الصحابة من القراء، إلى بئر معونة فيقتلون جميعاً ولا يرجع منهم أحد؟!! هذا لا يمكن أن يفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان يعلم الغيب أكان يوم أحد يخرج ويقع له ولأصحابه ما وقع؟! أم كان سيبقى في المدينة كما أشار عليه من أشار -أمور كثيرة واضحة- وفي حادثة الإفك لما افتري على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كان ينتظر أعظم الانتظار وهو موقف ما أشده على النفس وما أشقه على قلوب أهل الغيرة والإيمان -وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغير هذه الأمة ولا أغير منه إلا الله تبارك وتعالى- لكنه انتظر حتى نزلت براءتها من عند الله تبارك وتعالى؛ فلو كان يعلم الغيب -أيضاً- لأخبرهم وانتهى الأمر وهكذا أمور كثيرة جداً في سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذاً فهو لا يعلم الغيب، فيا سبحان الله! إذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب، ولا يعلمه أبو بكر ولا عمر ولا من دونهم؛ فكيف يعلمه هؤلاء الذين يدَّعون ذلك الآن من الدجالين المشعوذين الذين يذهب إليهم ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!!

حكم إتيان السحرة والكهان

حكم إتيان السحرة والكهان أما حكم من يذهب إليهم فليس هيناً كما يحسبه بعض الناس؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوضح ذلك وبينه بقوله: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً أو أربعين ليلة} وفي الحديث الآخر: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} ولا تعارض بين الأمرين، فلو أن أحداً ذهب إلى عراف أو إلى كاهن أو إلى قارئة الفنجان أو خطاط رمل أو منجم أو فلكي -كما يسمونهم أحيانا الفلكيين! - أو إلى أي شيء من هذه الأمور، كمن يذهب إليه في مقابلة صحفية، أو يذهب إليه ليرى أحواله وليتفقد ما عنده، من غير أن يصدقه بما يقول، فإن هذا لا تقبل له الصلاة أربعين يوماً والعياذ بالله!! فبالله عليكم! أفضل الأعمال التي بها نرجو النجاة عند الله تبارك وتعالى بعد توحيده والتي هي كالنهر الغمر الجاري نغتسل كل يوم فيه من الخطايا والذنوب التي تقترفها جوارحنا تذهب هكذا ولا تتقبل، ويكون قد أداها فقط، لأن هذا بدافع الفضول، يقول: أذهب لأرى ماذا يفعل هذا، ولماذا يتجمع هؤلاء عنده؟ بهذا فقط، أما لو ذهب إليه فصدقه بما يقول كأن يقول مثلاً: أنت ستتزوج فلانة وتنجب منها أولاداً؛ والوظيفة ستترقى فيها لمرتبة كذا، أو كذا، أو يقول: عندما ضاع منك الشيء الفلاني أخذه فلان، أو عندما وقع لك المرض الفلاني كان بسبب فلان، أو أي أمر من هذه الأمور، فإن صدقته بما يقول؛ فقد كفرت بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذاً فالأمر عظيم وعظيم جداً ولماذا كفر؟ لأن مما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] فمن زعم أن أحداً يعلم الغيب فقد كفر بهذه الآية وأمثالها.

آثار السحر والكهانة وأضرارهما

آثار السحر والكهانة وأضرارهما من اعتقد أو ظن أن هؤلاء السحرة والكهان يعلمون الغيب فقد وقع في الفتنة العظمى فيفتن الناس في دينهم، ولا سيما ضعفاء العقول من كبار السن مثلاً أو الصغار أو النساء، وكل ضعيف عقلٍ أياً كان. وهذه صورة أخرى لهذا الشرك، فهو شرك مركب: لأنه قد خوف بعض الناس من هذا الكاهن أو الساحر، بأنه قد أخبر عن فلان، وحدَّث بما وقع لفلان، وما سيقع لفلان إذاً: فيمكن أن يراني الآن؛ فتجد -والعياذ بالله- أن الخوف من غير الله واضح جداً. والخوف المقصود به: هو ما دون الطبيعي، أما الخوف الطبيعي: فهو أن تخاف من وحش أو حادث أو بئر؛ لكن الخوف الذي هو عن غيب، فيقال: فلان كاهن فلا تتكلم، ولا تجعله يفعل بنا كذا فيؤذينا؛ فيجعله كأنه رب، وكأنه إله فوق رأسه -والعياذ بالله- بل وكأنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؛ وكأنه الذي له الكرام الكاتبين يكتبون ما يقول ولو كان في أبعد مكان، حتى والله إن بعضهم -من بعد مئات الأميال أو ألوف الأميال- يقول: لا تتكلم في كذا، لا نستطيع أن نقول على السادة الفلانيين كذا! فهذا لا يكون إلا عبودية لغير الله، فأي خوف مثل ذلك إلا الخوف من الله؟! فهؤلاء -أيضاً- قد ضلوا وأضلوا، ولهذا جعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإمام الداعية المجدد الذي جدد الله تبارك وتعالى به التوحيد والملة -من أنواع الطواغيت الخمسة الكبار- أي رؤساء الطواغيت الكبار (من ادعى شيئاً من علم الغيب) فليس هو مجرد كافر فحسب؛ بل هو أفظع من ذلك، فهو طاغوت والطاغوت: مادة الكفر وسبب الكفر؛ فلأجله وبه وبتصديقه يقع الكفر في فئام عظيمة من الناس، وهذا هو الواقع في كل الأوقات ولا حول ولا قوة إلا بالله.

حكم تعلم السحر وتعليمه

حكم تعلم السحر وتعليمه وعن حكم تعلم السحر وتعليمه فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] فقال {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] إذاً: فتعليم السحر وتعلمه كفر، قال تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] الله أكبر! جعل الله تبارك وتعالى الحجة قائمة على من يتعلم هذا العلم الخبيث أنه من فتنة الملكين اللذين جعلهما الله تبارك وتعالى فتنة، فيقولان: إنما نحن فتنة فلا تكفر، أي: لو علمناك هذا العلم وذهبت لتفعل ذلك، فقد كفرت؛ فلا تكفر. ولذلك من تعلم ذلك فقد تعلم السحر، والحجة قائمة عليه؛ لأن هذا التعلم كفر -والعياذ بالله- فهل هناك زاجر للمؤمن عن هذا العمل الخبيث أشد وأعظم من الكفر ومن تعلم ذلك؟ قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] فأصحاب الذنوب -وكلنا مذنبون- يرجى لهم في الآخرة خيرٌ، فيخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بتيسير الله تبارك وتعالى للشافعين أن يشفعوا فيه؛ فكل هؤلاء مهما ارتكبوا من الأعمال يرجى لهم الخير، أما الكافر أو المشرك فهو الذي لا يرجى له الخير وما له في الآخرة من خلاق؛ وليس له في الآخرة إلا النار، فمن هم هؤلاء؟ إنهم الكفار الذين ارتدوا عن الدين ووقعوا في الشرك المبين -والعياذ بالله- إذاً: فمن تعلَّم هذا العلم وعلمه وعمل به أو صدق أصحابه فهو داخل في هذا الوعيد الشديد، وقد خسر الدنيا والآخرة، وما له من حيلة إلا أن يستغفر الله تبارك وتعالى ويتوب إليه، ويرجع عما كان يعمل، ويتدارك قبل أن يدركه الأجل ويأتيه الموت، وهو على هذا الكفر العظيم، نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا وإياكم من ذلك.

نصائح وتوجيهات

نصائح وتوجيهات أولاً: علينا أن نحفظ أبناءنا ونساءنا وأمهاتنا وآباءنا من هذا الداء العظيم الذي انتشر في زماننا هذا؛ لأن كثيراً من الناس ربما ذهب بعض أهله إلى هؤلاء الكهان أو السحرة وهو لا يعلم، فيقعون في الشرك وهم يصلون ويصومون ويحجون ويزكون، وبيوتهم تخلوا من المنكرات وفيهم خير كثير، ولكن لن ينفعهم شيء من ذلك إذا وقعوا في هذا الشرك، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] أي أن الشرك: يحبط الأعمال ويحرم من دخول الجنة ويستحق صاحبه الخلود في النار؛ وهذا أمر عظيم يجب أن نذكِّر به وألا نمل من التذكير به. ثانياً: يجب علينا أن نحارب هؤلاء بالإبلاغ عنهم، ومكاتبة الجهات المسئولة حتى نقضي عليهم، سواء كانت الهيئات أو وزارة الصحة، أو أي جهة تستطيع أن تضبطهم وترفعهم إلى من يقيم عليهم حد الله تبارك وتعالى، كما يجب أن يمنع هؤلاء وأن يزجروا لأنهم مادة الكفر وسببه في هذه الأرض والعياذ بالله. ومما لا شك فيه أن هذا الكفر يكون عظيماً وشنيعاً فكيف إذا كان في بلد مقدس (مكة، أو المدينة) فإنه أشد ما يكون في هذا البلد الطاهر المقدس، نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ بلاد المسلمين ويطهرها منهم.

السحرة وترويج الأكاذيب

السحرة وترويج الأكاذيب إن هؤلاء السحرة والكهان لهم شبهات وطرق معروفة لدى كثير من الناس إلا عند بعض العامة وضعاف الإيمان الذين قد تمر عليهم هذه الأكاذيب. فمن هذه الشبهات: صدقهم في بعض الأخبار، وهي لا تذكر بالنسبة إلى كذبهم، وهذا ما جعل البعض يصدقهم؛ فبعض الناس يقول: أخبرني أن الضالة الفلانية في مكان كذا، وأنه حصل لي كذا، وهذا حق وصدق. فنقول: هذه شبهة شيطانية باطلة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا أن هذه الفتنة ستقع؛ فقال: {فربما ألقيت الكلمة قبل أن يدركه الشهاب} والشهاب يرسله الله تبارك وتعالى رجوماً للشياطين -حتى يعلم الناس أن ما أنزل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق وصدق- {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212]. ولهذا لما وجد الجن (السماء) {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن:8] أيقنوا وآمنوا؛ وكان ذلك إيحاءً وإرهاصاً ببعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فإن هذا الجني أو الشيطان قد يدركه الشهاب قبل أن يقول الكلمة، وربما لا يدركه إلا بعد أن يقولها، ويلقيها إلى الكاهن؛ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فيكذب معها مائة كذبة} فهذه كلمة واحدة متيقن منها؛ لأن الشيطان استرق السمع من الملائكة؛ فإذا قضى الله تبارك وتعالى الأمر في السماء وحدث به جبريل، ثم حدث جبريل به من دونه تتحدث به الملائكة أن الله تبارك وتعالى قضى بكذا، فيلتقطه هذا الخبيث (الشيطان) ويهوي به؛ فيهوي الشهاب وراءه فربما ألقاها إلى وليه (الكاهن) قبل أن يدركه الشهاب. فمثلاً: كانت هذه الكلمة (سيموت فلان أو سيقع كذا) فماذا يحدث؟ يأتي هذا الكاهن المتمرس المتدرب على الكذب فيكذب معها مائة كذبة، وهذه فتنة من الله تبارك وتعالى، - فإذا تاب وقال له الناس: أتذكر ذاك اليوم فيعلم أنه قد وقع في شر أعماله؛ وهناك كثير ممن مَنَّ الله عليهم بالهداية، ففي الفتاوى ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله أن بعض من هداه الله بَيَّنَ هذه الأكاذيب كلها. وفي زماننا هذا يذكر أحدهم فيقول: (والله ما كنت كاهناً ولم يلْقِ لي أحد بكلمة؛ لكني رأيت أن بعض الأحيان يقول: أحدهم كلمة فتقع) وهكذا صارت مهنة يتكسب منها فيكذب ويكذب وتقع كلمة مما قاله؛ فيذكر الناس بها ويترك المائة كذبة. فهؤلاء الكهان هم أولياء الشياطين وهذه هي شبهتهم في ادعائهم أنهم يطلعون على أمور الغيب، نسأل الله أن يعافينا وأن يعيذنا منهم.

شبهة السحرة والرد عليها

شبهة السحرة والرد عليها وأما شبهة السحرة فهم يقولون: (نحن إنما نكتب الآيات ونرقي بالآيات، وليس عندنا شيء إلا القرآن)! وكلهم يقولون ذلك. أولاً: هذا كذب، لأن هناك فرق بين من يرقي بكتاب الله تبارك وتعالى وبين هؤلاء السحرة؛ فلو أن أحد الناس فتش وقرأ ما يكتبون له؛ لعرف أنهم لا يكتبون قرآناً وآيات فقط، بل إنهم يكتبون، ما لا يفهم معناه، وهذا يدل على أنه الشرك. وهذه الكتابات استغاثات بطواغيت الجن، وفيها خطوط ومربعات ومثلثات أو حروف أو أعداد معينة ثم يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فيكون مثل الكاهن ويوهم الناس أنه قرأ قرآناً وآيات؛ ولكن لماذا لا ينظر هؤلاء الناس إلى باقي ما كتب من الطلاسم الشركية. أما القرآن فيمكن أن يقرأهُ الكافر، بل وحتى المستشرق يمكن أن يستشهد به، لكن ماذا بعده؟ وماذا معه مما لا يفهم معناه؟! فهذا هو الخطأ وهذه هي المصيبة. فـ (كتب السحر) و (علم السحر) توارثته السحرة من أيام تلك الفتنة (أيام الملكين بـ بابل) إلى الآن، فقد جعلوا فيه الرموز والطلاسم باللغات القديمة -السريانية أو الآرامية أو غير ذلك- والمهم أنها رموز تدل على هذا الشرك.

كيفية الوقاية من السحر

كيفية الوقاية من السحر إذاً فما هو الحل وما هو العلاج لهذا الداء؟ أولاً: أن نعرف أن الله تبارك وتعالى غفور رحيم، وأنه أرحم بنا من الأم برضيعها، وأن الله تبارك وتعالى علمنا عداوة الشيطان وأولياءه، فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] فحذر منه أبانا آدم وحذرنا منه؛ لأن الله تبارك وتعالى يعلم ما له من تأثير حين قال {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] وهو يعلم أنه يزين ويمكر ويوسوس، وله كيد، فهو ذو شأن في هذه الأمور فهل يترك الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بلا وقاية؟! كلا والله، فالله هو الرحيم بعباده المؤمنين، وهو الذي يحفظ أولياءه؛ فهل يتركهم بغير سلاح يقاومون به عدوه الأكبر وحزبه الذين هم أعداء الله؟! لا يمكن أبداً؛ فلننظر إلى رحمة الله تبارك وتعالى وهي أنه (كلما كانت حاجة البشر إلى أمر من الأمور أعظم، كلما جعله الله تبارك وتعالى أيسر وأرخص وأسهل) فمثلاً نحن نحتاج الهواء وكل منا يحتاج أن يتنفس، ولذلك فقد جعل الله تبارك وتعالى الهواء مجاناً، فالحمد لله أنه في كل مكان ولو كان الهواء يشترى ويباع؛ لما تنفس منه إلا الأغنياء، لكنها حكمة من الله تبارك وتعالى، وكذلك (الماء) فهو ضروري للحياة، وقد جعله الله تبارك وتعالى ميسراً ومجاناً، وإن كان أقل من الهواء لكن المهم أنه موجود وسهل ورخيص، ومثال آخر وهو (الملح) فلو كان الملح في الغلاء مثل الأرز لما سهل علينا الحصول عليه؛ فيمكن أن تأكل أكل اليوم من غير أرز؛ لكن! لا يمكن أن تأكل أكلاً من غير ملح؛ فلشدة الحاجة إلى الملح جعله الله تبارك وتعالى سهلاً وميسوراً ورخيصاً وهكذا. فنحن أحوج ما نكون إلى شيءٍ نتحصن به من هذا العدو الخبيث الماكر الذي كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه: {إنه يجري من ابن آدم مجرى الدم} فبالتأكيد أنه لا يليق برحمة الله وبحكمة الله أن يكون المحصن لنا من هذا العدو الخبيث فيه صعوبة، مثلاً: كأن يجتمع الآلاف أو الأمة أو القبيلة أو القرية عند واحد -فقط- يقرءون عليه شيئاً من القرآن؛ ولو كان كذلك لكانت رحمة الله تبارك وتعالى ضيقة، وتعالى الله عن ذلك، لكنه إنما شرع لنا جميعاً ما نتحصن به، وليس كما حدث أيام الكوليرا والحمى الشوكية حينما انتشر التحصين في كل شارع وفي كل مكان وفي الحرم وعند أبواب المساجد وفي المدارس؛ وباء عظيم؛ لكنه ليس أكبر من وباء الشياطين؛ الذي جعل الله تعالى علاجه عاماً ميسوراً وسهلاً ودواءً موجوداً في كل بيت؛ فما هو هذا الدواء؟ (إنه قرآن أو ذكر) فهذا أو ذاك، الكبير والصغير حتى لو لم يقرأ فيمكن أن تعلمه بعض الآيات، والأذكار السهلة الميسورة، التي تقيه وتكون حصناً وحرزاً له من الشيطان، ومنها آية الكرسي، وأذكار أخرى، والأدلة في ذلك كثيرة ومعروفة. فمثلاً قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) من الذي لا يستطيع أن يقول ذلك، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وقراءة المعوذتين, وغيرها؛ وقول: {باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء إلخ} وكذلك {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} فهي كثيرة ميسرة -والحمد لله- أيضاً فأيها حفظت وأيها قلت؛ فأنت إلى خير -والحمد لله- ولكثرة طرق هذا العدو ولشدة بأسه علينا فلابد أن يكون هذا السلاح في القلب، لأنه لو أن الجندي -مثلاً- كان في معركة ونام أو غفل عن سلاحه، وداهمه العدو فأسره فسيكون استخراجه من الأسر فيه صعوبة؛ وكذلك الشيطان إذا دخل عن طريق السحر.

حقيقة السحر

حقيقة السحر السحر: هو النفث في العقد قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] والنفاثات في العقد هن: السواحر؛ لأن الغالب أن الذي يتعاطاه إما نساءٌ من الإنس أو من الجن، وأما قوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] فهي العين، فإذا غفل الإنسان عن سلاحه؛ وقع وأصيب بالسحر أو أصيب بالعين وصعب علاجه، وأما الذي لا يغفل عن سلاحه ولا يتركه أبداً، وإنما يتحصن به ويتوكل على الله تبارك وتعالى فلا خوف عليه إنما كان؛ فالله حافظٌ له، لأنه قد عمل بما علَّمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الشأن، واحتاط به فإن وقع له بعد ذلك أمر فليعلم أنه ابتلاء من الله تبارك وتعالى. فكما يبتلى فلان بسرطان -عافانا الله وإياكم- أو بحادث؛ فيموت أو يمرض -أيضاً- يقع الابتلاء بهذه العين، أو بهذا السحر، أو بأي شيء فمن ابتلي بذلك فلا يقنط ولا يجزع، بل يصبر ويتعالج ويحتسب، ولا يجعل هذه الأمور الخفية تذهب به؛ فيضيع إيمانه وتوحيده ويذهب إلى الكهان والمشعوذين والدجالين، -نسأل الله العفو والعافية-.

طرق الشيطان في الإغواء

طرق الشيطان في الإغواء إن مادة الشرك محسومة ومقطوعة -بفضل الله تبارك وتعالى- بذكر الله تبارك وتعالى، وباليقين في الله تبارك وتعالى، وبمعرفة أن هذا الشيطان الخبيث لا سلطان له على المؤمنين أبداً، كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99] فلا سلطان له عليهم ولا يطيقهم، بل يخافهم هو وأولياؤه. فـ عمر رضي الله عنه كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً آخر الله أكبر! لا يمكن أن يلتقي به أبداً!؛ لقوة إيمانه. وهكذا فكل من ذكر الله تبارك وتعالى وأكثر من ذكر الله فله نصيب من هذا، ولذلك إذا ذُكر الله خنس الشيطان، وإذا نسي العبد عاد ووسوس -والعياذ بالله- ولكن كيده ضعيف؛ ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح لما شكا إليه الصحابة من الوسوسة وما يجدون مما لا يستطيعون الحديث عنه، قال: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} فالشيطان لا يأتي أحداً من الناس ويذهب به ليفعل كذا، إنما هي خواطر تأتي؛ فإذا استعاذ بالله وأعرض عنها ذهبت، ولهذا لا نسترسل معه في أية وسوسة. فمثلاً: يقول لك: اعمل معصية كذا وذنب كذا، وهذا هين وهذا كذا، وهذا ليس شركاً، وهذه ليست بدعة، وهذه ستستغفر الله تبارك وتعالى منها وتتوب إليه. فكل هذا يجب أن نتوب منه، وأن نحذر وأن نعلم أنه -أي الشيطان- عدونا كما أخبر الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] فإنه يوم القيامة يتبرأ منا، ويقول: ما دعوتكم ولا أغويتكم كما ذكر الله تبارك وتعالى ذلك في سورة إبراهيم وغيرها. كانت هذه بعض الجوانب المهمة من جوانب التوحيد، وهناك جوانب أخرى كجانب (التشريع والطاعة والاتباع) نتطرق إليها -إن شاء الله- في وقفات أخرى. وإن شاء الله تعالى نجيب على جملة من الأسئلة التي تكون نافعة للتحذير من هذه الأمور، وتعين على نشر هذه الدعوة والدين والتوحيد، وكل ما يتعلق بالألوهية يجب أن نجعله أهم وأول ما ينشر في المجتمع، وبعد ذلك تأتي بقية الأوامر والنواهي، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية معرفة السحر

كيفية معرفة السحر Q ما حكم من يذهب إلى هؤلاء السحرة والكهان لغرض إبطال السحر إذا عرفه أو وجده، فيذهب إليهم من أجل أن يتأكد من أن ما وجده سحراً؟ A لا يذهب إليهم، ومن كان يريد التأكد من أن ذلك سحر أم لا؛ نقول له من الآن: كل ما كان من باب الرموز الكتابية كحروف، أو أعداد، أو مربعات، أو مثلثات، فهو من هذا القبيل؛ فلا تذهب إليهم، لأنه سحر، وزيادة في التأكيد عليه الذهاب إلى أي شيخ من المشايخ ويسأله عما وجده. أما إذا وجده وعرف أنه سحر فعليه أن يتلفه ليحرق العين التي بها السحر؛ -والمعلوم أنهم -أي السحرة- إنما يفعلون ذلك على شعر من شعر الإنسان، أو شيء من ملابسه الداخلية أو أظفار أو ما أشبه ذلك، مما له علاقة، فينفث فيه -والعياذ بالله- ثم توضع الرقى والعزائم ويُستغاث بغير الله، ويُلفُّ ويوضَعُ في شيء كما فُعل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مشط ومشاطة. وأما إتلاف السحر: فإنه تتلف مادته فتدق وتحرق، حتى ينتهى منها، ثم يعالج صاحبها. وبإذن الله تبارك وتعالى لو وضعت لأحد وهو ممن يداوم على ذكر الله -كما ذكرنا-؛ فإنه لا يضره ذلك شيئاً لأن كيدهم ضعيف.

حكم الأبراج وتوقعات مشجعي الكرة

حكم الأبراج وتوقعات مشجعي الكرة Q ما رأيكم في توقعات مشجعي الكرة حول نتيجة المباراة القادمة، فكل واحد منهم يحدد النتيجة بالتقدير؟ وما حكم الأبراج وما يكتب عنها في الجرائد والمجلات؟ A أما الأبراج فلا شك أنها كهانة، والعجيب -حتى نعرف أن هذا كذب ودجل- أن المجلة تطبع -أحياناً- مليون عدد، وفيها هذه الأبراج مثل (الثور أو الميزان) فيقرؤها مليون من البشر، فكيف يكونون كلهم في برج واحد؛ فهل ولدوا كلهم في يوم واحد؟! ويقع لهم الشيء نفسه؟! وهذا دليل واضح على أن هذا كذب، وإنما هو ضحك على الناس فقط لتُقرأ وتشترى هذه المجلة، ثم إنها تكون دائماً بكلام عام، فبعضها يقول: (لا يمكن لك أن تقدم على العمل الذي تريد، أو لا تتردد فيما تتوقع) فهو كلام عام يصلح لكل أحد، فيقول أحدهم: فعلاً -والله- قرأت وما ترددت فكان ذلك، وهذا كذب وبهتان -والعياذ بالله- من هذا الشيطان وأوليائه؛ فهذه من الكهانة وكما في الحديث {ومن اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر} فهذه شعبة من الكهانة ومن التنجيم ومن السحر. أما توقعات المحللين الرياضيين أو المشجعين من أن النتيجة قد تكون (2/ 3) أو (4/ 10) أو غير ذلك؛ فهذا يدخل في باب الرجم بالغيب من مكان بعيد، فهم إن ادعوا أن هذه النتيجة عن علم عندهم دخل ذلك في الكهانة؛ وإن قالوها تقديراً، أي لأن هذا فريق قوي مثلاً وهذا فريق ضعيف فهو رجم بالغيب وهذا كلام باطل، وبعض النوادي وبعض المشجعين، قد تعامل فعلاً مع الكهان ليخبروه بذلك. وننقل لكم قصة واقعية تماماً نقلها لنا اثنان من الثقات، عن رجل يأتيه الناس وهو ليس بكاهن، ولكنه يتكهن بالكذب فيضحك على الناس. والقصة هي: أنه تحدث أحدهم إلى رئيس نادٍ من النوادي، فقال له: إذا لم ينتصر الفريق غداً فلك عليَّ كذا وكذا، وأموالكم مرجوعة، وأنا متأكد من ذلك تماماً، وبعد ما وضع السماعة قال: هذا كلام فاضٍ يمتحننا هؤلاء الناس به (عن رأينا في النتائج) ويقول هذا الدجّال: ونحن نريد أن نعيش ونأخذ من هؤلاء، والمشكلة هي إذا لم يصح الخبر فماذا أفعل؟ ثم يقول: لكن هذا سهل ستمر وتنقضي المسألة! فهم يقولون هذا؛ لأن الشرك يولد الفجور، والفجور يولد بعضه بعضاً؛ فإذا لم تأتِ النتيجة كما توقع، يقول: أكيد أن الفريق الثاني ذهب إلى كاهن آخر له علاقة بملك الجن الأكبر الذي يملك السبع السفلى كلها. ومعلوم أن حدود السيطرة الشيطانية لا تتعدى إلى هذه الدرجة، فيضحك عليهم بهذا. فأمثال هؤلاء يأكلون الأموال ويوقعون غيرهم في التصديق بأخبارهم الكاذبة؛ فيكذبون على هؤلاء ثم يبحثون عن غيرهم وهكذا فوالله أن هذا لا ينبغي ويجب التنبيه عليه دائماً؛ فنسأل الله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا شرور هؤلاء.

حكم شد الرحال إلى المساجد

حكم شد الرحال إلى المساجد Q يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد الحديث}. فكيف نرد بهذا على من يقول: إنه ليس في هذا الحديث دلالة على عدم قصد زيارة قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك قولهم: لو كان قبر أمي في المدينة فهل أسافر لأزور قبرها؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بزيارة القبور، هذا وهو قبر أمي، فكيف بقبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف أرد عليه؟ A هذا الحديث الكلام فيه طويل، لأن أهل البدع أكثروا من تأويله كما أولوا أحاديث الصفات وغيرها، فمعنى الحديث لا تشد الرحال بغرض العبادة والتقرب إلى الله والتعبد له إلا إلى هذه الثلاثة المساجد؛ لما لها من أفضليه؛ أما إذا كنت في مسجد في مدينة ثم ذهبت إلى مسجد آخر في مدينة أخرى غير هذه المساجد الثلاثة، وليس له أي مزية على مسجدك الذي أنت فيه، فلماذا تشد الرحال إليه؟! وأما إذا شددت الرحال إلى مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إلى مسجده وهنالك زرت قبره الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو من أفضل ومن خير ما يزار، وزرت البقيع أيضاً، وزرت شهداء أحد فلا بأس، فالإشكال في نية زيارة القبر، والمشروع أن تنوي زيارة المسجد، وليس زيارة القبر، أما إذا زرت المسجد أو كنت في المدينة فزرت القبر؛ فلا بأس أيضاً.

حكم الحزن على المبتدع إذا مات

حكم الحزن على المبتدع إذا مات Q مات صوفي عندنا فرق قلبي لموته وحزنت لهذا، فهل هذا قدح في توحيدي؟ A إن كان هذا الذي مات ممن تعلم عنه الشرك؛ فلا تأس على القوم الكافرين؛ فقد قامت عليه الحجة؛ ولكن إذا تألمت أو حزنت أو تحسرت لمجرد الموت لأنه موت، وليس لأن الميت فلان، فهذا من التذكر ومن الاعتبار؛ ومعلوم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا يعتبرون ويتعظون حتى بجنازة اليهود أو غيرهم فالاعتبار والاتعاظ شيء آخر. أما أن تحزن له وهو قد كان من الواقعين في الشرك، فلا. وإذا كان من أقربائك وحزنت، فهذا يعني أن الجهة منفصلة، فتكون قد حزنت وتألمت لأنه قريبك، وتحزن لما وقع فيه من شرك وبدع -والعياذ بالله- إذا مات على ذلك؛ وليس لمجرد أنك فقدته فقط، ويمكن أن تحزن لهذا ولا تحزن لذاك، فالناس يرون الحزن ويرون الدمع ولا يدرون لأي شيء هو.

طلب الدعاء من الغير وأحوال الداعي

طلب الدعاء من الغير وأحوال الداعي Q زوجتي مصابة بمرض نفسي، فنطلب منكم ومن الإخوة الأفاضل الدعاء لها بالشفاء؟ A ينبغي أن لا ينسى بعضنا بعضاً من الدعاء، كلما دعوت الله تبارك وتعالى ورأيت أنك في ساعة إجابة وتوفيق من الله تبارك وتعالى وسددت في الدعاء، فقد تعين به إخوانك المسلمين، من الدعاة والصالحين. والملك يقول لك: آمين ولك مثل ذلك، فادع الله لأخيك منفرداً، وادع الله لأخيك مع دعائك لنفسك، وأنت الرابح إن شاء الله تبارك وتعالى. ونحن لا نحب -في الحقيقة- أن يعتمد الإنسان على دعاء الآخرين، وهذا مما يجعل بعض العلماء يكره ذلك ويزجر عنه؛ لأن الإنسان قد يتوكل ويعتمد على دعاء الآخرين فلا يدعو الله تبارك وتعالى، فحاله: (يا شيخ: ادع الله لي، أو يا فلان بالله ادع لي) فنقول: أنت أولى وأرجى من يدعو، ونحن ندعو الله تبارك وتعالى جميعاً أن يشفيها ويشفي أمراض المسلمين إنه سميع مجيب، فادعو الله تبارك وتعالى دائماً بهذا. ولكن تأكد أن صاحب الحاجة والضرورة هو الذي يدعو ويستجاب له قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فالمضطر يدعو لأن هذه القضية وهذا المرض في أهله: في أمه في أبيه فيدعو باضطرار لأن الدعاء بدون ضراعة وانكسار لا يرجى منه الإجابة كالذي يدعو ويشك بالإجابة، فالضراعة والانكسار والذل بين يدي الله، وإظهار الافتقار إليه سبحانه وشدة الحاجة مما يرجى به إجابة الدعاء إن شاء الله تبارك وتعالى.

تأويل الرؤى والأحلام

تأويل الرؤى والأحلام Q هل تأويل الرؤى والأحلام من ادعاء الغيب؟ A لا ليست ادعاءً للغيب، بل هي علم علمه الله تبارك وتعالى لنبيه يوسف عليه السلام ومكنه منه، ويعلمه لمن يشاء وكذلك علمه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكثير من الصالحين ومن أهل الخير والفضل في هذه الأمة يعبرون الرؤى، ولها موازين ومعايير منضبطة لا مجال الآن لشرحها.

من أحكام التوبة

من أحكام التوبة Q يقول الأخ أنت تقول من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر، فهل لهذا الرجل توبة؟ A نعم ندعوه إلى التوبة، فكل مذنب مدعو إلى التوبة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] هذه الآية في حق التائب، لأن الله يغفر الذنوب جميعاً، ولو كانت شركاً أو كفراً، ولو كان ممن قاتل الأنبياء وقتل من أصحابهم وفعل ما فعل إذا تاب كما حدث لبعض الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما من لقي الله تبارك وتعالى وهو غير تائب، فينطبق عليه قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] لأنه لم يتب من الشرك، فالله قد يغفر الذنب لمن لم يتب إذا كان دون الشرك. وحتى القاتل له توبة -وقد فصلنا هذا في شرح الطحاوية في موضوع التوبة- فالصحيح أن القاتل أيضاً له توبة، وأن الله تبارك وتعالى يتجاوز عما كان له من حق، ويتحمل عنه ما للمقتول إذا تاب وصدق في ذلك. أما من قال من العلماء: إنه لا توبة له، فإنهم إنما نظروا لكون ذلك حقاً للمقتول، فقالوا: هذا حق للمقتول والله -تبارك وتعالى- إنما يعفو ويصفح عن حقه، وهذا مرجوح فإن الله تبارك وتعالى قادر بفضله أن يعفو عما له، وأن يتحمل ما لغيره وأن يرضيه بما يشاء.

حكم وجود الكفار في جزيرة العرب

حكم وجود الكفار في جزيرة العرب Q ما هو موقفنا من الهندوس الموجودين في هذا البلد؟ A عندما تقول: في هذا البلد فليس مكة فقط، إنما نعني جزيرة العرب، كما في الحديث {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} فيجب أن يخرجوا من هذه البلاد الطاهرة ولا نعني مكة، بل ومن جزيرة العرب كلها- وهي تشمل من أطراف الفرات وبلاد الشام إلى قعر عدن، ومن الخليج إلى البحر الأحمر، فكل هذه جزيرة العرب، ولا يجوز أن يبقى فيها مشرك إلا لضرورة أو عابر سبيل فقط، فقد كان عمر رضي الله عنه يعطيهم ثلاثة أيام، ليبيعوا خارج المدينة، فيشتري منهم المسلمون ثم ينصرفون، أما الإقامة فلا يجوز لهم ذلك.

حكم الشرك بعلم أو بغير علم

حكم الشرك بعلم أو بغير علم Q تعلم أن الشرك بالله أمر عظيم، وإذا أشرك الإنسان بالله وهو يعلم، فهو خالد مخلد في النار -والعياذ بالله-؛ لكن إذا أشرك بالله وهو لا يعلم فما عقابه؟ A من أشرك بالله وهو لا يعلم، فالواجب عليه وعلينا أن نقول: كما في الحديث {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم} فمن وقع في شيء وهو لا يعلم أنه شرك؛ فإن رحمة الله تبارك وتعالى واسعة قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] فمن حلف بغير الله تبارك وتعالى -مثلاً- وهو لا يعلم أن هذا من الشرك، فإن الله لا يؤاخذه، ولكن عليه أن يتقِ الله تبارك وتعالى وأن يتعلم التوحيد. فعلينا أن نعلم الناس التوحيد، لأن القضية ليست أن نتناقش: هل يعذر أو لا يعذر؟ أهو جاهل أم لا؟ فإذا صرفنا عن هذا الجدل العقيم، واشتغلنا بدعوة الناس التوحيد وإقامة الحجة، وتركنا أمورهم إلى الله تبارك وتعالى، لكان هذا هو الواجب، وهو الذي فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.

حكم مناصرة الكفار على المسلمين

حكم مناصرة الكفار على المسلمين Q إن من نواقض الإسلام معاونة الكفار ومناصرتهم على المسلمين. نريد منكم الشرح المفيد لهذا الناقض؟ A هذا واضح، وليس فيه شيء، ولا يحتاج إلى شرح، فكون الإنسان معاوناً ومناصراً للمشركين على المؤمنين إما بيده، أو بقلمه، أو لسانه، أو ماله، فهذا واضح، وكلما كانت الراية متميزة؛ كان الحكم أوضح؛ فإذا تميزت راية الإيمان من راية الكفر، وجاء من اختار أن يكون مع أهل الكفر على أهل الإيمان؛ فهذا لا شك أنه أصبح منهم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] والعياذ بالله. وأما مناصرتهم بدواعي الشهوة وحب الدنيا، كأن ينم إليهم بشيء أو يتجسس إلى الكفار بشيء، أو يتتبع عورات المسلمين لمصلحة يظنها أو ما أشبه ذلك؛ فهذا كما وقع لـ حاطب رضي الله عنه، وهذا ذنب عظيم، بلا شك، ولهذا أقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر لما قال: {يا رسول الله دعني أضرب عنقه فإنه منافق} فأقر عمر على شدة الإنكار، لكن لم يأذن له بقتله، وجعل المانع شيئاً آخر، قال: {إنه من أهل بدر} إذن فليس المانع أن هذا ليس ذنباً أو أن صاحبه ليس منافقاً أو أن صاحبه لا يستحق العقوبة، بل المانع أمر آخر خارج عن القضية وهو في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}

توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم

توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم Q إن في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يتوسلون به (بذاته) ويستغيثون به، وحجتهم حديث الأعمى حيث قال: {اللهم إني أتوسل إليك بنبيك} أي: يا محمد نتوسل بك إلى الله؟ A الحديث صحيح صححه شَيْخ الإِسْلامِ وغيره، ولكن كيف نفهم هذا الحديث؟ هذا الحديث هو توسل بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته وهذا ما يعنيه الرجل. وللتوضيح نقول: كم كان في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المكفوفين؟ أليسوا كثيراً؟! فلو أن كل أعمى يدعو بهذا الدعاء ثم يرد الله تبارك وتعالى عليه بصره، لكان الدعاء عاماً، لكن لأنه خاص بهذا الرجل، ولأنه خاص بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي حياته فلا يقاس عليه غيره من العميان في هذا الزمان، وهذا من باب أولى.

اعتقاد أحقية الشرع مع الحكم بغيره

اعتقاد أحقية الشرع مع الحكم بغيره Q هل يكفر كفراً مخرجاً من الملة من لم يحكم شرع الله، ولو كان يعتقد أن حكم الله هو الحق؟ A هناك قاعدة عظيمة تنفع الجميع وهي أنه (لا يكفي أن يعتقد الإنسان أن هذا هو الحق، بل لا بد من الانقياد والإذعان والاتباع له) ولو كان الاعتقاد بأن هذا هو الحق يكفي، لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين وفي الجنة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ويقول عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] فيمكن لأحدهم أن يحكم ويأمر وينهى ويقتل ويسجن ويفعل كل شيء بأحكام الجاهلية والطاغوت، وإذا كُلّمِ قال: أنا أعتقد في داخل نفسي أن الشريعة حق. قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: هذا مثل الذي يحارب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أي نبي ويقاتله ويعين أعداءه عليه، وإذا سئل قال: أنا أعلم أنه نبي، فما الفائدة من هذا العلم؟ ولهذا لما جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبران من اليهود وقالا: يا محمد ما هي الآيات التي أنزل الله تبارك وتعالى على موسى وهارون؟! فقرأ عليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوصايا العشر، فقالا: نشهد إنك نبي، ثم انصرفا، (فشهدا أنه نبي وذهبا) فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما يمنعكما أن تتبعاني} إذاً: هما شهدا ولكنهما ما أذعنا وما انقادا واستسلما وما دخلا في الدين؛ فلا يكفي أن يقول الإنسان: أشهد أن الشريعة حق، وأن الشريعة رائعة وعظيمة، فمهما قال فلا يمكن أن يدخل في الشريعة حتى ينقاد ويسلم، وهذا مثل أي أحدٍ من المشركين يشهد بصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضله كـ أبي طالب الذي قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا فبالرغم أنه قال ذلك، لكن هل هو مؤمن؟ وهو الذي أنزل الله تبارك وتعالى في حقه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وما ذاك إلا لأنه أقر ولم يذعن، فلا يكفي مجرد الإقرار أو النطق، ولهذا لعلكم -إن شاء الله- تسمحون لي بهذه الفائدة وهي: أنه عندما نقول: الإقرار بالشهادتين شرط الدخول في الإسلام، فماذا نعني بالإقرار؟ الإقرار له معنيان: الأول: بمعنى: (إنشاء الالتزام والإذعان) وهذا الذي جاء في القرآن، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] وهذا الإقرار معناه (التزمنا وانقدنا وأذعنا) فإذا جاء هذا الرسول آمنا به. والإقرار -أيضاً- بمعنى الإخبار عن الحقيقة، وهذا ما يستعمله الفقهاء فمثلاً: إذا ادعى رجل على رجل وقال: لي عنده ألف دينار، فقال له الرجل: أقر أن له عندي ألف دينار، ولكن لا أدفعها له، فهذا الإقرار مجرد إخبار عن الواقع، ولا يستلزم الإذعان، فإذا قال أقر فقط، فإنه يمكن أن يستدرك ويقول: أقر ولكن لا أدفع له ذلك، أو أقر ولكنني قد أديت حقه. إذاً هذا مجرد إخبار عن الواقع. فالإخبار عن الواقع ليس إيماناً، فلو أن أحداً قال: شرع الله أفضل، والقرآن هو كتاب الله المبين من باب الإخبار عن الواقع -وهو الواقع أصلاً- فلا يؤدي ذلك إلى شيء ولا ينفعه في شيء؛ إلا أن يقوله على سبيل الانقياد له، والإذعان والإيمان به واتباعه. وانظروا المستشرقين! ما أكثر ما يكتبون أن الإسلام حق، وأن الإسلام عظيم، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحل مشاكل الدنيا جميعاً وهو يشرب فنجان قهوة! فهذا الكلام حق وإخبار عن الواقع، بأن الإسلام يحل مشاكل الإنسانية، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، لكن! هل ينفعهم هذا؟! وهل نعدهم بذلك مؤمنين؟ لا ليسوا بمؤمنين.

حكم الصلاة خلف المبتدع

حكم الصلاة خلف المبتدع Q هناك إمام مسجد في مكة يعمل أشياء عجيبة، يقول هات فنجان شاي أقرأ لك فيه فيكون أمرك ميسراً؛ ويكتب أوراقاً ويقول: ضعها فوق الباب وربنا سيعطيك سؤالك، إلخ؟ A هذا الذي ذكرناه سابقاً، هو نفس الكلام. وأما كونه إماماً فهذا شيء آخر؛ فالأصل أن نصلي خلف كل مسلم مستور الحال، أما من علمنا عنه يقيناً أنه كاهن أو ساحر أو أنه جهمي، أو خارجي، أو رافضي، فمن علم ذلك فإنه يتجنب الصلاة خلفه، بل ربما كانت الصلاة خلفه باطلة، فإذا خرج من الملة، فالصلاة خلفه تكون باطلة، لكن هذا في حق من يعلم ذلك، أما من لم يعلم وصلى خلف إنسان مجهول الحال وسلم ومضى، فصلاته صحيحة؛ وذاك عليه الإثم؛ لكن الواجب ألا يولَّى أحد من هؤلاء الصلاة، وإمامة المسلمين الصغرى، والواجب أن يكون في الجهات المسئولة عن المساجد من ينقب ويفتش ويتأكد من ذلك حتى يكون الأئمة جميعاً كلهم على العقيدة الصحيحة الصافية بإذن الله تبارك وتعالى. فمن علم ذلك فلا يتعمد الصلاة خلفه، أما من صلى خلفه وهو لا يعلم؛ فهذا أمر آخر، لكن إذا علمت أنه مبتدع، ولا نعني به الذي لم يتلبس بشيء من البدع؛ بل مبتدع بمعنى: أنه على أصل من أصول بدعية؛ فهذا لا تصح ولا تجوز الصلاة خلفه، إلا إذا لم يكن هناك غيره، أما إذا كانت بدعته مغلظة، وتخرج به إلى حد الشرك، (بحيث إن صلاته باطلة)؛ فالصلاة خلفه أيضاً باطلة في حق من علم ذلك، فإذا كان في بلد بعيدة، وليس أمامه إلا أن يصلي في البيت أو خلف هؤلاء المشركين؛ فليصل في البيت، لكن -الحمد لله- في أغلب بلاد الإسلام تجد من تصلي خلفه وتطمئن إليه بإذن الله تبارك وتعالى، وينبغي الإبلاغ عن هؤلاء. أما الوسائل التي نستطيع بها محاربة هؤلاء في هذا الوقت: فمنها: نشر التوحيد، وإحياء السنة، والدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان خطر الشرك ونواقض الشهادتين وغير ذلك، وبكل الوسائل الممكنة لدينا -وهذا أعظم ما يحارب به هؤلاء- ومن ذلك التبليغ عنهم أيضاً ورفعهم إلى المحاكم لتحكم فيهم بحكم الله.

الخوف من السحرة والكهان

الخوف من السحرة والكهان Q بعض الناس إذا قلت له: تعال لنشتكي هذا الساحر وهذا الكاهن، تجده يخاف أن يصيبه أذى من السحر أو من الجن، فماذا تقول لهؤلاء؟ A هذا الخوف هو من الشرك -والعياذ بالله- قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فيجب علينا ألا نخاف إلا الله، وأن نحذر من هذا الشرك -كما ذكرنا-.

جهل الناس بالسحرة وخطرهم

جهل الناس بالسحرة وخطرهم Q يوجد في قريتنا رجل يخرج الجن، وجميع أهل القرية يذهبون إليه، فتتوافد إليه الجموع من القرية ومن القرى الأخرى، فهم يقطعون المفاوز البعيدة لكي يذهبون إليه، ويحترمونه ولا يسمحون لأحد أن يتكلم عليه، وإذا سبه أحد يقولون: إنه سوف يضرك. والعجيب أن له نتائج في علاج المصابين بالجن! ومن العجائب أنه إذا كانت المريضة فتاة مصابة بالجن؛ فإنه يأخذها عنده حتى تشفى من المرض بدون محرم؟! A قد يوجد ذلك ويسكت عنه، وهكذا المجرمون وقطاع الطريق إلى الله، ليس لهم في الآخرة من خلاق، فيتمتعون في الحياة الدنيا بالحلال والحرام؛ فيأكلون المال الباطل بهذا العمل الباطل والمحرم، ويرتكبون الفواحش والموبقات، ويقولون: نحن أولياء الله. والمصيبة أنهم ليسوا مثل قاطع الطريق الحقيقي، الذي يقف على طريق المسلمين بسلاحه، وربما انتهك الحرمات أو أكل الأموال؛ فهذا مجرم واضح. بل المشكلة أنه بالرغم من الأفعال يدعي الولاية، بل ويعظمه الناس ويخافونه. ونحن نتكلم عن مثل هذه الحالة، وليس عن أي إنسان يقرأ ويرقي بالرقى الشرعية.

توبة الساحر

توبة الساحر Q هل يستتاب الساحر وتقبل توبته؟ A الصحيح أن كل مذنب تقبل توبته، وأنه يُدعى إلى التوبة، لكن قال بعض العلماء: إن مثل الزنديق، أو الساحر أو غيرهم لا ندري كيف يتوبون؛ لأن الزنديق هو المنافق في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يقول: أنا مؤمن وكذلك الساحر لأنه أمر خفي، فقالوا: لأجل ذلك وحسماً لمادة هذا الفساد في الأرض! فإنه يقتل ولا تقبل توبته في أحكام الدنيا، أما عند الله فكل من تاب من ذنب فإن الله تبارك وتعالى يقبله كائناً ما كان ذنبه.

حكم الفتوى بغير علم

حكم الفتوى بغير علم Q ما حكم الفتوى على الله تبارك وتعالى بغير علم؟ A هذه كثيرة في كل مكان، ولا يجوز لأحد أن يفتي على الله بغير علم، فلا يفتى بجواز تقصير اللحية أو بجواز إطالة الثوب أو بجواز الكشف على غير المحارم، فليتق الله تبارك وتعالى ولا يتحمل آثام الناس.

التحذير من الكتب المشبوهه

التحذير من الكتب المشبوهه Q هذا سؤال طويل، لكن مضمونه يقول: إن هناك كتباً مؤلفة حديثاً وحتى قديماً، تنتشر في المكتبات، تبرر للصوفية عملهم، وكذلك جميع المشعوذين وأن بعض أعلام السلف كانوا متصوفين إلخ؟ A هذه مما يجب أن تحارب وينبه عليها. فأما ما كان تصوفاً محضاً وغلب شره، فهذا يمنع بالكلية، وأما ما كان فيه خير -كما في حلية الأولياء - ففيه خير وأحاديث نافعة عظيمة، ولكن فيه خبط من هذا القبيل، فهذا ينبه كل طالب علم أو كل مشترٍ له؛ بأن هذا الكتاب ليس كل ما فيه من الأحاديث المرفوعة صحيحاً، ولا ما يذكر فيه عن التصوف وغيره.

حكم تعلم السحر

حكم تعلم السحر Q ما حكم من يتعلم السحر ولا يضر به أحداً ولا يعمل به؟ A ما الفائدة من ذلك؟ ولكن -على كل حال- فتعلمه كفر، فإذا قيل: وإن لم يضر أحداً؟ نقول: نعم فإنه يوجد كفار يضرون أنفسهم فقط، ويوجد كفار يضرون غيرهم، فلا ينفعه إذا فعل الكفر أن يقول: لا أضر به أحد!

التحذير من قصيدة البردة

التحذير من قصيدة البردة Q توجد مكتبة دينية في الطائف تبيع شريطاً فيه قصيدة البردة للبوصيري؟ A نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية، هذه لما فيها من شرك، لا يسمح أن تباع، لا في الطائف ولا في غيرها.

كراهية الكافر

كراهية الكافر Q هل يجوز للمسلم أن يكره الكافر؟ A يجب كره الكفار، فهؤلاء أعداء الله تبارك وتعالى قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] فلا يمكن أن يجتمع الإيمان ومحبة الكفار أبداً -إن كان هذا قصد السائل.

الحث على حضور مجالس العلم

الحث على حضور مجالس العلم الب Q يقام في هذا المسجد ثلاثة دروس، للشيخ الذبيان والشيخ المحيميد والشيخ الرقيمان، ولكن الحضور قليل وغير مشجع. A هذا لا يصح ولا ينبغي بارك الله فيكم، أكرموا من أكرمنا وفرغ وقته، وجاء ليعلمنا الخير، وكثروا سواد المسلمين، ولو كان ما يقال ربما لا جديد فيه أحياناً لكن ثقوا أن مثل هذه الدروس فيها خير وفيها بركة، فاحضروا وشجعوا على الحضور، وخذوا من أقربائكم وجيرانكم في الحي، ومن زملائكم في العمل لحضور هذه الدروس، وحثوهم وكثروا بهم مثل هذه الحلقات المفيدة بإذن الله تبارك وتعالى.

حكم كتابة المحو

حكم كتابة المحو Q يسأل عن كتابة المحو وحكمه؟ A المحو هذا تكتب آياته وتوضع في الجسم أو غيره، وقد ورد عن بعض السلف، ولكنني ما وجدت له دليلاً يسوغه؛ ولا سيما وقد كثر إرفاقه كما أشرنا بالطلسمات والسحر وما أشبه ذلك، ويغني عنه والحمد لله، النفث في الماء وشربه، وأنا لا أرى إلا العدول عنه، وهو مثل تعليق القرآن وغيره، ولو جاء عن بعض السلف، فالأصل أن تسد الذرائع في هذا الباب.

النهي عن المنكر عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم

النهي عن المنكر عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q يقول الأخ رأينا في المسجد النبوي عند قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض الأمور الشركية، فهل ننكر على هؤلاء؟ A يجب أن ننكر الشرك في أي مكان، ولكن بالأسلوب المناسب للزمان والمكان، وما يفعل عند قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو في الحقيقة منكر عظيم، ويجب أن يتعاون الجميع على إنكاره، صاحب السلطة بسلطته، وصاحب العلم بعلمه، وصاحب النصيحة بنصيحته، لأنه يأتي بعض الناس -جهلاً منهم أو وقوعاً في الشرك عن عمد- فيستدبرون الكعبة ويستقبلون القبر، ويقولون: يا رسول الله! فيدعون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتخذونه إلهاً من دون الله، وهذا لا شك أنه شرك، وهو أعظم ما ينكر، بل هو المنكر الأكبر، فإذا كنا خير أمة أخرجت للناس، وأمرنا الله تبارك وتعالى أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فأكبر المنكرات التي يجب أن ننكرها هو مثل هذا.

حكم الذبح لغير الله

حكم الذبح لغير الله Q بين الناس عادة، وهي أنهم إذا قطعوا شجرة يذبحون شاة، ويضعون الفرث على مقطع الشجرة، وإذا قطع أحدهم شجر سدرة أو أي شجر يذبح، أو إذا ذهب إلى مكان قالوا: إذا نزلت إلى مكان تفتتح يجب أن تذبح حتى تكتفي من شر الجن؟ A نعوذ بالله! هذا ذبح لغير الله وهو شرك، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] ويقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] فمن ذبح لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك.

حكم علم الأرصاد

حكم علم الأرصاد Q هناك رجل عنده علم في النجوم وأمور الرياح، فما رأيكم في ذلك؟ A إن كان هذا فيما يتعلق بالأرصاد، ومعرفة النجوم من جهة السنن الكونية التي جعلها الله تبارك وتعالى، كمعرفة أنه في هذه الأيام تهب الرياح ويشتد البرد، وينتج هذا نوع من الفواكه ولا ينتج النوع الآخر، فهذا قد علم بالتجربة من خلال تعاقب هذه الفصول سنين طويلة، فهذا لا يدخل في التنجيم ولا في الكهانة، ولكن يجب أن يقرن بقول: (إن شاء الله) أو (بإذن الله) أو ينسب إلى الله فيقال: إن الله تبارك وتعالى يجعل هذا الفصل أو الشهر أو هذه النجوم إذا طلعت علامة لكذا، ولوقوع أو لنضج كذا، فهذا إذا نسب الفعل إلى الله تبارك وتعالى انتفى بذلك الحرج. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل مني ومنكم، وأن ينفعنا بما نسمع وما نقول، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.

العبودية الصحيحة

العبودية الصحيحة الحرية المزعومة اليوم في عصرنا الحاضر ما هي إلا نداءات زائفة، وشعارات براقة، تهدف إلى هدم الدين، وتقويض أساسه، والتمرد على الشرع، والتجرؤ على ارتكاب الباطل، ومخالفة الحق. والحياة السعيدة لا تتحقق إلا بالعبودية لله سبحانه وتعالى بمعناها الصحيح الذي كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. وفي هذه المادة يبتدئ الشيخ بالتساؤل عن حقيقة الحرية في عصرنا الحاضر، ثم يبين المفهوم الصحيح لمعنى العبودية، وانحراف الناس عنه، موضحاً أن المخرج من هذا هو التمسك بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.

المفهوم الصحيح للعبودية

المفهوم الصحيح للعبودية إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: نقول لكم جميعاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "العبودية الصحيحة"، هذا العنوان قد يثير الانتباه، وقد يقال: نحن الآن في عصر العبودية أم في عصر الحرية؟ فنقول: نحن الآن في عصرٍ يدّعي أهله جميعاً شرقاً وغرباً أنه عصر الحرية!! ولم تبلغ دعوة الحرية في أي وقت من الأوقات، وفي أي قرن من القرون مثلما بلغت في هذا القرن. إنَّ هذه الحرية المدَّعاة والمزعومة التي يعيش العالم شرقاً وغرباً على أحلامها، وعلى أوهامها، بلغت بهم مبلغاً عظيماً، حتى إنك لو واجهت أحداً من هؤلاء وقلت له: إنك عبد، أو إنك تعيش في عبودية، لغضب منك ونفر أشد النفور؛ لأن التمرد على الله -عز وجل- والاستكبار عن عبادة الله -عز وجل- لم يبلغ في أي وقت من الأوقات، مثلما بلغ في هذا القرن المسمى "قرن الحضارة والرقي والتطور"! وهل العالم البشري فعلاً يعيش الآن في عصر الحرية أم في عصر العبودية؟ وإذا كان يعيش في عصر العبودية فما سر هذه العبودية؟ ولمن تُقدم هذه العبودية؟ وما هي العبودية الصحيحة البديلة التي يجب أن يتعبد البشر بها؟ ومن هو المعبود الأوحد الذي يجب أن تتجه إليه العبودية وحده لا شريك له؟ يجب أن نعلم أن هذه القضية ليست قضيتنا نحن المسلمين فقط، بل هي قضية العالم كله، هذا العالم المخدوع الذي يظن أنه في عصر الحرية، وهو مكبلٌ بأنواع العبوديات، وأغلالها، ولكنها جميعاً مع الأسف ليست لله عز وجل، وإنما هي عبوديات لأربابٍ من دون الله. فكيف نعرف حقيقة العبودية؟ وكيف نعرف أننا نعيش في قرن العبودية الأكبر؟ وكيف نعرف أن هذا العالم هو أبعد ما يكون عن الحرية الصحيحة؟ وأين نجد الحرية الصحيحة؟ وكيف نعرف العبودية الصحيحة؟!! إن مفهوم العبودية هو نفسه مفهوم العبادة، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهو الغاية من خلق الإنس والجن، فالغاية من وجود الثقلين هو عبادة الله، وهو العبودية الصحيحة لله تعالى، وقد شرَّف الله تبارك وتعالى أحب خلقه إليه وأعظمهم عنده، وهو رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى درجات التكريم بأن قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] قال (بِعَبْدِهِ) في لحظة التكريم التي لم يبلغها أحد، إذ لم يبلغ أحد من البشر من التكريم إلى أن يرفعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه، كما رُفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]. فهذه غاية الأوصاف، وغاية الألقاب التي يحرص كثيرٌ من الناس على أن يضخموها، فأعظم لقب، وأشرف وصف اختاره الله عز وجل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أنه عبد، ونقول في الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إذاً: أعظم مقام، وأعظم رتبة، هي العبودية، فكلما تحققت فيك العبودية لله -عز وجل- أكثر، كلَّما كنت أعظم درجة، وأعلى رتبة، وهذا هو المعيار والميزان الصحيح.

العبودية عند الغرب

العبودية عند الغرب العبوديات -كما قلنا- تختلف، ولذلك يقع هذا العالم المتمرد في أنواعٍ كبرى من العبوديات للبشر، وهو نوعٌ معروفٌ حدثنا الله تبارك وتعالى عنه في القرآن، كما كانت عبودية قوم فرعون لفرعون حين قال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، فصدقوه. عبودية البشر للبشر في هذا القرن تتمثل في هذه المناهج التي وضعها بشر، مثل كارل ماركس، وهو رجل شيوعي يهودي، وضع مذهباً اسمه الشيوعية، كم من الملايين اليوم تتعبد بهذا المذهب، وكم من الدماء أريقت من أجل تثبيت هذا المبدأ؟! المسلمون وحدهم في الاتحاد السوفيتي قتل منهم ما يزيد عن عشرين مليوناً ذهبوا ضحية الاحتلال الشيوعي للمناطق الإسلامية، وذلك من أجل أن يثبت هذا المذهب، وهذا المبدأ الذي وضعه رجل يهودي واحد، فهل هناك نوع أشد من هذا النوع من العبودية، أنَّ رجلاً يهودياً فيلسوفاً يأتي بهذا المذهب الهدَّام، فتراق من أجله دماء الملايين، وتقام الثورات في كل مكان باسمه ولأجله؟! والعاَلَمُ الغربي يتشدق بالحرية، ويدّعي أنه هو العالم الحر، ولكن أي حرية هذه في عالم لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟! أي حرية في عالمٍ لا يدين دين الحق لله -تبارك وتعالى-؟! والكرامة الإنسانية فيه مهدرة، حثنة من اليهود متسلطون على إمكانيات الغرب يتلاعبون بمقدراته وبخيراته وبشعوبه كما يشاءون، وتقدم لهم أنواع العبوديات. ونحن نختار -مثلاً بسيطاً- من العبوديات التي تقدم في الغرب كمثال فقط: هناك في الغرب بيوت للأزياء، وأغلب القائمين عليها من اليهود، وهم يضعون لكل فترة ولكل لحظة أحياناً زياً معيناً، فهناك أزياء للربيع، وأزياء للشتاء، وأزياء للخريف، وأزياء للسهرة، وأزياء للصباح، وأزياء للمساء، وأزياء مضحكة، وأزياء مفزعة، أنواع كثيرة جداً، يتنمقون، ويتفننون فيها، ويتغالون في أسعارها، ولا يملك الملايين في هذا العالم -الذي يُسمَّى العالم الحر- إلا أن يمتثل، فلا يمكن أن ترتدي المرأة فستان السهرة -مثلاً- في وقتٍ غير السهرة، فهذه أضحوكة مخالفة، ومنكر يُنكَرُ عليها؛ لأنها لم تقدم العبودية لهؤلاء الأرباب الذين يمتصون الخيرات، ويتلاعبون بمقدرات الأمم ويستعبدونها بهذا الشيء.

صور من العبودية

صور من العبودية هناك أنواعٌ أخرى من العبوديات لا تحصى، ولكن الناس لا يدركونها، ولا يتصورونها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبهنا إلى معنىً، وإلى قضيةٍ خطيرة، يجب أن نتنبه لها جميعاً حينما قال: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}. فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن أنه من الممكن أن يكون الإنسان عبداً للدرهم وللدينار، وهذا شيء عجيب، كيف أنَّ الإنسان الذي يكدح ليل نهار، ويجمع المال ويستنفع به يكون عبداً له؟! لكن هذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الواقع يصدِّق هذا الكلام، فالرجل الذي يغفل عن نفسه، وأسرته، وعمله، وعن ما هو أعظم من ذلك كله، وهو ما خُلِقَ من أجله هذا الإنسان، ويشتغل عنها بجمع الدرهم والدينار، أو بالمنصب، أو بالوظيفة، أو بأي شيء من الدنيا، فهذا عبد للدرهم والدينار، وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق، ولا يمكن أن يقول إلا الحق، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، فهو عبدٌ للدرهم والدينار، وعبدٌ للمنصب، وقد يكون عبداً للزوجة، وقد يكون عبداً لأي عبودية أخرى، والشرط الأخير أو المعيار الأخير هو أن يتملك قلبه، ولذلك قال في آخر الحديث: {إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعطَ سخط} من تملك قلب الإنسان فهو عبدٌ له كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43]. فهذا إنسان اتخذ إلهه هواه فهو عبدٌ لهواه، فعبودية الدرهم والدينار أن يبيع الإنسان دينه، وصلواته، وأن يضيع ما بينه وبين الله عز وجل، وأن يُضَّيعَ من يعول من أجل أن يجمع الدرهم والدينار، وهكذا عبوديات كثيرة يقدمها الإنسان وهو يدري أو لا يدري، وليس من الشرط أن يعلم الإنسان أنه يقدم عبودية، لكن إذا ملك قلبه شيء، فهو عبدٌ له شاء ذلك أم أبى، وهكذا أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ كل شيء واليت فيه وعاديت فيه فقد عبدته وقدمت له العبودية. ولنضرب مثالاً بسيطاً من واقعنا الذي نعيشه: الكرة مثلاً، لا نتكلم عن الرياضة كمجال لتنمية الجسد ولا للنشاط، نتكلم عن الكرة كمعبود يوالى فيه ويعادى فيه، نتكلم عن الزوج الذي يطلق زوجته لأنه يشجع فريقاً وهي تشجع الآخر!! نتكلم عن الأخ الذي يهجر أخاه لأنه يشجع فريقاً، أو ينتمي إلى فريق وهو مع الفريق الآخر، أي عبودية تتصور أكثر من هذا؟ فهل هجرنا الكفار؟ هل عادينا الكفار وأعداء الله عز وجل حتى يصل بنا الأمر إلى هذا؟ لا! هذه هي العبودية التي جعلها الله في القلوب، وهذه هي التي يجب أن تنصرف إلى ما أمر وأراد، فتحب ما أحب الله، وتوالي من والى الله، وتعادي من عادى الله، فإذا صرفناها لأي شيء -كهذه الكرة- فهي عبودية لها شئنا ذلك أم أبينا.

مفهوم العبودية عند الصحابة

مفهوم العبودية عند الصحابة إنَّ العبوديات كثيرة في هذا العصر، ولكننا نريد أن نستعرض أو نعرف كيف وقع الانحراف في العبودية في أذهان الأمة الإسلامية. كانت بداية الانحراف في أنَّ جيل الصحابة رضي الله عنهم الذي عرف حقيقة الإخلاص، وحقيقة العبودية، وبلغ الدرجة العليا في العبودية لله، لم يبق هو المعيار والقدوة، فجاءت أجيالٌ من بعده انحرفت في مفهوم العبودية، ولم تعرف ما هي العبودية الصحيحة، ولا كيف تقدم العبودية لله عز وجل. هذه الأجيال عندما جاءت ظنت أنَّ العبودية هي فقط أداء نوع من العبادات، فإذا أدَّاها وعمل بعدها ما عمل، أو أهمل في واجبه، أو ضيع في مسئولياته، أو أساء إلى إخوانه، أو أي شيء آخر، فلا شيء عليه مادام قد صلَّى، وحقق العبودية، هذا مما وقع فيه المسلمون ومما انحرفوا في فهمه، فلم يفهموا من العبودية إلا أنواعاً معينة، وتركوا أنواعاً أخرى. كان الصحابة رضي الله عنهم، كما يقول بعضهم: {إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي}، فعندما ينام يحتسب هذه النومة هل هي عبادة؛ أم لا؟ لأنه يستعين بها على الطاعة، وهي القيام لصلاة الفجر، فالحياة كلها عبادة، والعمر كله عبادة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] فالحياة كلها عبادة لله عز وجل، وعمله كله ينصرف لله عز وجل، حتى اللقمة يضعها في فمِّ زوجته له بها أجر، وهي عبادة، حتى الرجل إذا أتى أهله، كما سأل الصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر} إذا عفَّ نفسه عن النظر إلى الحرام، وعن ارتكاب الحرام، وعفَّ هذه المسلمة التي بين يديه، فهي عبودية. وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون العبودية بالمعنى العام الواسع الشامل، ولذلك لما حققوا العبودية لله، حقق الله تعالى لهم عبودية العالمين من ملوك الفرس، وملوك الروم، ونحن الآن في القرن العشرين، هناك دولتان تتحكمان في العالم وتسيطران على مقدرات العالم في الشرق وفي الغرب، وفي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد الصحابة كان هناك دولتان أيضاً، فكان الفرس في الشرق، والروم في الغرب، وكل منهما يتحكم في العالم، وكان أضيع الشعوب على الإطلاق هم شعوب قبائل الجزيرة العربية، فلما جاء النور، وأنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء الجيل الذي عرف العبودية لله، وحقق العبودية لله تعالى، جعل الله عز وجل ملوك هاتين الدولتين عبيداً لهؤلاء الأعراب، الذين كانوا أعراباً بالأمس، وخرجوا حفاة عراة، لماذا؟! اعبد الله حق عبادته يُسخِّر لك الله عز وجل كل شيء، حتى في عملك اليومي. إذا قمت في الصباح وجعلت الآخرة أكبر همك، جمع الله عز وجل همك، وأعطاك الخير وبارك لك، وإذا جعل الإنسان -والعياذ بالله- الدنيا أكبر همه، شتت الله همه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له. فهذا الجيل الذي تجرد لله -عز وجل- وحقق العبودية لله عز وجل أخضع الله له العالمين، ولذلك جيء بملوك الروم وملوك الفرس مقيدين بالسلاسل إلى هذه البلاد الجرداء الصحراء، جاءوا عبيداً لمن عبدوا الله عز وجل حق عبادته، فلما ضيَّع المسلمون عبوديتهم لله عز وجل، أصبحوا هم -كما هو واقعنا الآن- عبيداً لهؤلاء الكفار، وما أكثر ما أخذ من بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الانحراف في مفهوم العبودية

الانحراف في مفهوم العبودية إنَّ الله عز وجل يقول: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] هذا كان جواباً للصحابة رضي الله عنهم لما انهزموا يوم أحد، فكيف بنا الآن، فإذا حققنا عبودية الله عز جل حقق الله لنا النصر على العالمين.

بداية الانحراف في مفهوم العبودية

بداية الانحراف في مفهوم العبودية نوع آخر من الانحراف في العبودية، أو من الانحراف في التعبد، وهو الضلال، فنحن عندما نقرأ الفاتحة هذه السورة العظيمة، نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] هذه قاعدة عامة نكررها دائماً، ولذلك نقول: (آمين) هذا دعاء، يجب عندما نقرأه أن نتأمله دائماً في كل ركعة: ما معنى هذا الكلام؟ نقول: آمين على أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم كما قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] لكن المغضوب عليهم من هم؟ الذين تمردوا عن عبادة الله، واستكبروا عن عبادة الله، وهم اليهود، كذلك الضالين الذين لم يحققو العبودية، وأتوا بعبودية منحرفة وهم النصارى. فنحن نعوذ بالله من طريق هؤلاء وهؤلاء، نعوذ بالله من الحضارة الغربية من دينها، وطريقها التي تكبرت فيه على الله، وتمردت عليه، وأنكرت عبوديته. كما نستعيذ بالله من عبودية الضلال والانحراف التي وقع فيها كثير من المسلمين وهي عبودية التصوف، فـ المتصوفة هؤلاء جاءوا بعبادات شرعوها من عند أنفسهم، لم يتعبدنا الله عز وجل بها، كل يوم يأتون ببدعة جديدة، ويقولون: هذا هو الدين، فمن يريد أن يتعبد، فليتعبد على هذا الدين، لا كما شرع الله عز وجل. هذا الضلال الذي جاء به الصوفية أنتج انحرافات خطيرة في مفهوم العبودية، وفي تحقيق العبودية، فتركوا المال، ونفروا من الدنيا؛ لأنها كما قالوا: تصرف عن عبودية الله، وأرادوا أن يعبدوا الله كما شاءوا، فتعبدوه بالترانيم وبالغناء وبالأوراد التي لم يشرعها الله، ثم ذهب بهم الأمر قليلاً قليلاً حتى خرج أكثرهم عن مُسمَّى الإيمان أصلاً، ووقعوا في الشرك الأكبر وهم لا يشعرون. فالله عز وجل -مثلاً- تعبدنا بقراءة القرآن، وفي الحديث {مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر} وعبودية قراءة القرآن من أعظم القربات، ومن أعظم أنواع التعبدات، فما الذي جعلته الصوفية كمثال مقابل لهذه العبادة؟! جعلوا الأناشيد والأغاني مقابلها، فالأغنية نفسها التي ألقاها أو قالها شاعرٌ قديم من شعراء الحب والغزل، ويغنيها الدُّعار والفساق في أماكن لهوهم ولعبهم، هي نفسها التي تُغنَّى -مثلاً- في الموالد أو في الحضرات، أو ما يسمونه الخلوات، فتُغنَّى نفس الأغنية على أنها عبادة، كيف تعبدون الله بهذا؟ قالوا: لا، الذي يُغنيها هناك يغنيها بنية المحبوب الذي يريد، لكن نحن نغنيها بنية المحبوب الأعظم وهو الله. فنقول لهم: هل نبعد الله بهذه الصورة؟ هل هذا مما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن نفس أغنية أبو فراس أو غيرها، تغنيها أم كلثوم، هي نفسها التي يُتعَبد الله بها في المولد، بل حتى الأغاني التي في غزل النساء. أما في الدول الأخرى فالمولد نفسه يحضره النساء والحضرة، وتغني -أيضاً- امرأة، نفس الأغنية التي تُغنى هنا، شيء عجيب! كيف تتعبدون الله عز وجل بهذا الشيء، بنفس الأغنية، والصورة، والنموذج، أنتم تضعون شرعاً من عند أنفسكم؟ نعم هم يضعون شرعاً من عند أنفسهم، بحجة أنهم أولياء لله عز وجل وأنَّ الله يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، نعم! لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولكن قال بعد ذلك: {الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس:63] وهذه ليست من أعمال الإيمان، ولا من أعمال التقوى، خرجوا عن مجال التعظيم لله ورسوله إلى تعظيم الأفراد من دون الله عز وجل، وهو كما قلنا في عبودية تعظيم الأرباب من دون الله، الذي تقع فيه الجاهلية المعاصرة وهو مناقض لتوحيد الربوبية.

نماذج من الانحراف العصري

نماذج من الانحراف العصري سمعنا من كثير من الإخوة أنه تقوم مظاهرات في بعض الدول -التي هي إسلامية في الأصل- وتقول: ماو ماو رب الكادحين، أي كانوا يقولون: إن ماوستوق -هذا الزعيم الشيوعي الذي هلك- رب الكادحين، فتعطى الربوبية لهذا الفرد، فهنا ربوبية عصرية في حق هذا الرجل العصري الذي جاء بهذا المذهب الوضعي. هناك ربوبية أخرى يجعلها المتصوفة للشيخ، أو للقطب، أو للغيث، كما يسمونه، وهو أنه يشِّرع كما يشاء، حتى أن من يذنب ذنباً؛ لا بد أن يأتي إلى الشيخ ويستغفر له -والعياذ بالله- ويقول للشيخ: أنا تبت، فاستغفر لي يا شيخ، أو فاغفر لي يا شيخ والعياذ بالله. هذان النموذجان من العبودية: عبودية الأرباب الذين نصبوا أنفسهم آلهة من دون الله عز وجل، يُشرِّعون، ويُحللون، ويُحرمون، ويضعون المناهج للبشرية الضائعة، والعبودية الأخرى وهي عبودية الذين أرادوا أن يعبدوا الله، فعبدوه على ضلال، ويدَّعون أنهم أولياء لله، ويزعمون أنهم هم المقربون إلى الله، وأن ما عداهم أهل البدعة، وأهل الضلال.

المخرج من الانحراف في العبودية

المخرج من الانحراف في العبودية إن العبودية المنحرفة تحيط بالشباب المسلم من كل ناحية، وتكتنفه من كل جهة، وليس هناك من حلٍ لهذا الشباب إلا أن يعرف العبودية الصحيحة التي عَبَدَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بها ربهم عز وجل.

المخرج بالجهاد

المخرج بالجهاد ولنعلم أن أعلى درجات العبودية، ودرجات المحبة التي يدَّعيها هؤلاء الناس تكمن في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- الذي هو ذروة سنام هذا الدين، يقول الله عز جل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] وفي هذا وعيد من الله عز وجل. انظروا ماذا حل ببلاد المسلمين من النكبات ومن الذل! بسبب تركنا لعبودية الله، ومنها: ترك الجهاد في سبيل الله -عز وجل- ولو نظرنا أو تفكرنا في واقعنا الذي نعيشه جميعاً، وكلٌّ منا يتفكر، متى مر بك يوم من الأيام فقرأت الصحف أو سمعت نشرات الأخبار العالمية، ولم تسمع زلزالاً، أو فيضاناً، أو مجاعةً، أو انقلاباً، أو انفجاراً؟ أظن أنه لا يوجد يوم أبداً إلا وهذه البلايا تأتي، وهذه المصائب وهذه النكبات تمر، قد جلَّى الله عز وجل ذلك فقال {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] هذه نتيجة عدم الإيمان بالله عز وجل. إنَّ العالم البشري نتيجة عدم تحقيق العبودية لله -عز وجل- ضربه الله تعالى بهذه المصائب، وبهذه النكبات التي لا تخلو منها نشرة أخبار، ولا يخلو منها بلد، ولا تخلو منها جريدة ولا مقال، هذه النكبات بذنوب العباد، بل كما قال الله عز وجل: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. أليس في هذه النكبات عبرة؟! أليس فيها مجال للاعتبار لمن أراد أن يعتبر؟! أليس هناك من يتذكر أو من يعي؟! أليست هذه نُذرٌ للعذاب الأكبر الماحق، الذي سوف يدمر الله تعالى به هذا العالم، وهو القيامة الكبرى؟! بل قبل ذلك قد يأتي عذابٌ أعظم وأطم، إذا ضللنا الطريق، وساد واستشرى الناس، وأوغلوا في الشهوات، وفي اللهو، وفي اللعب، وفي الغفلة عن الله عز وجل، وعن اليوم الآخر، ونسينا المهمة التي من أجلها جئنا.

المخرج بالتفكر في النفس

المخرج بالتفكر في النفس كلنا أصحاب أعمال وأصحاب وظائف، ولو أن واحداً منا انتدب لمهمةٍ ما تتعلق بعمله إلى الرياض، وذهب إلى الانتداب لهذه المهمة، أيعني هذا أنه لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام، ولا يمر على زميل له في الرياض، كلا. يمكن هذا، لكن المهم أن يحقق الغرض الذي من أجله ذهب، وانتدب. نحن جئنا في هذه الدنيا للعبادة ولتحقيق العبودية الصحيحة لله عز وجل، فالذي انتدب ثم ترك المهمة وذهب، فأكل، وشرب، ونام، ولعب، وسلَّم على من يحب، حتى جاءه فجأة الأمر بإنهاء الانتداب والرجوع، وما حقق شيئاً، فهل هذا يكرم؟ أم يهان؟ فنحن لماذا لا نفكر في أنفسنا، نحن جئنا لغرض، جئنا هذه الأيام المحسوبة والمعدودة التي أصبحت تمر كالدقائق، لماذا لم نتفكر أي عبودية حققنا فيها؟ هل هي عبودية الله، أم عبودية الشهوة، أم عبودية المنصب، أم عبودية الزوجة، أم عبودية الدرهم والدينار؟ ربما لو فكر كلٌ منا مع نفسه؛ لعرف الحق، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] أي التفكر في أمر الله عز وجل، وفي الغاية التي جئنا من أجلها، فإذا تفكرنا وجدنا أننا بعيدون عن العبودية لله، وأننا نقدمها لأرباب آخرين من دون الله.

التوبة والرجوع إلى الله

التوبة والرجوع إلى الله فلنعد إلى العبودية الصحيحة، وهي ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشرعه، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من التعبد لله عز وجل، وعبودية الجهاد في سبيل الله، وعبودية الإتقان في العمل، وعبودية إنكار المنكر؛ ولو أدى ذلك إلى التضحية؛ والخسارة -التي ظاهرها خسارة، وهي ربح أكبر- وعبودية الإحسان إلى الأهل بإعانتهم على تقوى الله ونصحهم عليها، وعبودية المعاملة بالحسنى مع إخواننا المسلمين، وعبودية الأمانة في كل شيء، وعبودية معرفة المسئولية كما في الحديث: {كلكم راع وكل راعٍ مسؤول عن رعيته} إن كنت مدرساً أو كنت قائداً، أينما كنت فأنت مسئول، ولذلك الجيل الذي فتح العالم، كان نوعاً فريداً؛ لأنه حقق العبودية لله عز وجل، كان قائد الجيش أول من يتقدم في المعركة، وكان في سبيل الله ولله، وكان الجيش يطيعه أيضاً؛ لأنها كلها لله، وفي سبيل الله، فلو أن كلاً منا جعل هذا الجيل الفريد قدوته، ونظر إلى نفسه، وقال: هل أنا أعمل لله؟ هل أؤدي هذا العمل في سبيل الله عز وجل؟ وهل أعامل من ولاني الله عز وجل أمره، أعامله لله، وفي ذات الله، وفي سبيل الله؟ لا بد أن نتفكر في هذا، وإلا قد نُسأل ونفاجئ، ويأتي الموت، وحينئذٍ لا يملك الإنسان الاعتذار، وما هذه الحياة الدنيا؛ إذا جاء الموت ووافى الأجل، إلا كالحلم الذي ينقضي، فيفيق الإنسان، ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] انتهى الأمر، لا ينفع تمني العودة؛ لأن الله عز وجل يقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] فأعطانا الله تعالى العمر، وأعطانا التذكر، والتدبر، وخاصة ونحن -الحمد لله- على مستوى من العلم، والموعظة، وسماع الذكر، وقراءة القرآن، ولسنا كإخواننا المسلمين في إفريقيا، الذين يعيشون في مجاعة وتشرد وتعب، أو في أطراف الهند. نحن -والحمد لله- هنا بجوار الحرمين، والعلم عندنا، والقرآن بين أيدينا وبلغتنا، فكيف نُعِرْضُ عنه؟ وإن لم نطبقه نحن، وإن لم نحقق ما جاء به ونحقق العبودية لله عز وجل، فأي شعب نتوقع أن يحققها؟ وإن لم نتمثلها نحن كإخوة مدنيين وعسكريين وموظفين وطلاب، فمن نتوقع أنه يحقق هذا الدين؟ والله عز وجل قد توعد وعيداً شديداً قاطعاً، فقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] وقد حصل هذا عندما ترك العرب هذا الدين وتخاذلوا، وعبدوا المناصب والدنيا؛ فجاء الأتراك وفتحوا العالم، ثم جاء الهنود، وجاءت الشعوب وتولت أمر المسلمين، وفتح الله بها العالم. فيجب أن نعي هذه الحقيقة، ويجب أن نتدبرها، وأن نتفكرها جميعاً، وأن نعظ أنفسنا أولاً، ونعظ إخواننا ومن نستطيع بها، وأن نعتبرها واجباً فردياً عينياً علينا جميعاً، أن نذكر أنفسنا بما أمر الله وبما أنزل الله تبارك وتعالى. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يحققون العبودية الخالصة الصحيحة لله عز وجل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صلاة الجنب

حكم صلاة الجنب Q إنسان أدى الصلاة وعليه جنابة، ما الإثم في ذلك، وكيف يكون الغسل من الجنابة؟ A من الممكن أن نجيب على هذه الأسئلة، لكن من المعلوم أن لديكم -والحمد لله- قسم الشؤون الدينية للتوجيه، ومثل هذه الأسئلة وهذه الأمور مما لا ينبغي أن يجهلها المسلم، والحمد لله يستطيع الإنسان أن يعرف حكمها، ولذلك أنا أريد من هذا الأخ، ومن كل أخ أنه يشتري كتاباً، على أن يكون مبسطاً، من الكتب التي تعلمه العبادات، وتعلمه الأذكار، أو كتابين، أو أكثر، واسأل أهل الذكر، ولذلك لن أجيب.

حكم القمار والميسر

حكم القمار والميسر Q هل الميسر أو القمار مما يلعب بالمال، أو بأي شيء مما يملك، أو ما يترتب على أي لعبة كانت مثل بغضاء في النفس؟ A القمار كما ذكر الله عز جل، هو كل ما كان لعباً يقابله عوض، والخاسر يدفع للآخر، وهذا أيضاً من الأحكام التي ممكن أن يعرفها الإنسان ومما يجب أن يشتري الكتب ويعرفها.

تأجيل طواف الوداع

تأجيل طواف الوداع Q أجلَّت طواف الوداع أسبوعاً، فهل عليَّ شيء؟ A إذا سافر الإنسان فقد انتهى الأمر فكيف يودع؟ من المفروض أن الإنسان قبل أن يحج يسأل عن أحكام الحج، إنَّ أي واحد منا يسافر إلى أمريكا، لا يمكن أن يسافر بدون جواز ولا تأشيرة، ولا بدون التطعيم، ويعرف أنظمة البلد كلها قبل الذهاب، لكن إذا كان يذهب للحج، فيذهب وهو لا يعلم بشيء، من أحكامه وهذا لا ينبغي! يجب أن نتعلم ديننا، وأن نسأل عنه، نأخذ الكتب، وهي توزع والحمد لله بكميات، خذ كتاب الشيخ عبد العزيز بن باز وانظر كيف بين الحج الصحيح وحُجْ، لكن نحن الآن في شهر خمسة، وتسألني أنك مثلاً حججت وما ودعت؟! أقصد أن هذه الأسئلة تعطينا فائدة بضرورة الانتباه والتعلم، ولا حرج على الإنسان أن يسأل عن دينه، لكن يجب أن نتنبه لماذا مثل هذه الأسئلة؟ لأننا نحن المسلمين مقصرون في معرفة ديننا. على كل حال: عليه دم، والأهم من الدم هو الاستغفار والندم والتوبة.

العلمانية وأهدافها

العلمانية وأهدافها Q ما هي العلمانية وما هي أهدافها، وهل هي نفسها الشيوعية؟ A العلمانية ليست نفسها الشيوعية. العلمانية هي باختصار: فصل الدين عن الحياة، أو فصل الدين عن الدولة، قامت العلمانية في أوروبا لظروف وأسباب معينة: منها: أن أوروبا ليس لديها إلا الدين الخرافي؛ وهو دين النصارى الذي بدلوه وحرفوه. ومنها استبداد رجال الدين. ومنها: وقوف رجال الدين -كما يسمونهم- في وجه العلم، فهي قامت لأسباب ليست في ديننا ولله الحمد، ولا في تاريخنا ما يبرر شيئاً منها على الإطلاق، ولذلك العلمانية الموجودة في الغرب هي فصل الدين عن الحياة، أن تكون العبودية في الكنيسة، فإذا تدخلت الكنيسة في تنظيم الاقتصاد في البلد قالوا: لا، هذا ليس من شؤونكم، عليكم التوجيه الروحي فقط، وليس من شئونكم الاقتصاد، وإذا تدخلت في عمل سياسي قالوا: هذا ليس من شؤونكم، السياسة لا دخل لها في الدين، كذلك الاجتماع لا شأن له في الدين، وحقوق المرأة لا شأن لها في الدين. ولذلك كيف جاءت قضية المرأة في الغرب؟ (ومع الأسف هي موجودة عندنا هنا) قضية المرأة في أوروبا نشأت حينما كان المجمع الديني -مجمع كبار رجال الدين- يقول -كما حرفوا في الإنجيل وكتبوا بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله-: إن المرأة حيوان نجس، وإنها قذر، وإنها وحش، وإنها كذا وكذا، فنفروا منها. فأرادت المرأة أن تتحرر -كما زعموا- فكانوا يقرأون في التوراة أن نبي الله سليمان -عليه السلام- كان لديه سبعمائة زوجة مثلاً، لما أرادوا أن يتحرروا، قالوا: نثور على هذا الوضع الذي يزدري المرأة، ونثور على تعدد الزوجات، ونثور على إهدار كرامة الإنسان، والمرأة إنسان، والمرأة نصف المجتمع، وكان هناك أيدي يهودية خبيثة ما تزال تعمل وراء تحرير المرأة، فهذه القضية نحن المسلمين استوردناها، فعندما تجرى مقابلة مع صاحب بقالة ما رأيك في تعدد الزوجات؟ سبحان الله العظيم! هل هذه مسألة رأي؟! بعض الصحفيين ينبغي أن ننصحهم، وأن نبين لهم في الحقيقة أنهم يسيئون إلينا نحن كأمة لها دينها ولها كتابها، فأنت تسأل عن شيءٍ الله عز وجل وضحَّه في كتابه، فمن منا يجهل هذا الشيء؟ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ألم يتزوج عدداً من الزوجات؟ والصحابة والمسلمون إلى اليوم كذلك، فما معنى هذا السؤال؟ هل لأي إنسان كائناً من كان، رأيٌ مع كتاب الله وسنة رسوله؟ من هذا الإنسان الذي يملك أن يقول: أنا رأيي في قضية كذا وقد قال الله عز وجل فيها شيء؟! يقول ابن عباس رضي الله عنه في قضية فقهية معروفة - للصحابة أفضل الأجيال-: [[أقول لكم قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء]] لا يمكن أن تأخذوا بكلام أبي بكر وعمر، وتتركوا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نحن الآن مع الأسف! يراد لنا أن نترك كلام الله، ونأخذ ما تردده أذواق اليهودية الغربية أو العلمانية الغربية الملحدة؛ فالمرأة عندهم لا علاقة لها، المرأة عندهم يُشرِّعون لها من عند أنفسهم، والاقتصاد يشرعون له من عند أنفسهم، والسياسة يشرعون لها من عند أنفسهم؛ حسبما يرون هم، أما الدين فلا دخل له في هذه الأمور، ونحن ولله الحمد قد أكمل الله لنا ديننا، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فمن جاء فما عليه إلا الاتباع والتنفيذ، وليس هناك شيء أكثر من ذلك.

حكم الإحرام لدخول مكة

حكم الإحرام لدخول مكة Q هل إذا غاب شخص عن مكة أكثر من أربعين يوماً لا يدخلها إلا بإحرام، وما هو الدليل؟ A ليس هناك دليل، ولكن يستحسن للإنسان أن يعتمر، أما التحديد بالأربعين فلا أعلم له دليلاً، والعمرة إنما تجب مرة واحدة، ولكن من حيث الاستحباب، ففيها أجرٌ وفضلٌ كبير.

حكم تأخير الصلاة

حكم تأخير الصلاة Q هل في تأخير صلاة الجماعة للانشغال بطلب المعيشة عبودية للمال؟ مع أن هناك ظروف خاصة تجبر الشخص؟ A ظروف العمل إن كانت وظيفة؛ فيجب عليك أن تكلم المسؤول عن الإدارة، وأن تشرح له، وستجد بإذن الله التجاوب؛ لأنك لن تكلم إلا مسلماً ولله الحمد، أما الذي لا يصلي، أو لا يريد الصلاة؛ هذا ليس مسلماً أصلاً، كان الصحابة -رضي الله عنهم- كما ثبت عنهم، [[لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة]]، فيجب أن تكلمه، وأن يجعل عمل الإدارة موافقاً لوقت الصلاة، وإذا كان دكانك تقفله، وأما عن كونها عبودية، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر عن مسلمي آخر الزمان أن أحدهم يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، فإن كنت ستبيع صلاة الجماعة، وتدع بضعاً عشرين درجة بمكسب ريال أو ريالين أو ألف أو مائة فهذه عبودية.

تحقيق العبودية

تحقيق العبودية Q بم يكون تحقيق العبودية؟ وكيف التخلص مما نحن فيه؟ A النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن لنا كيف نتخلص من ذلك وأخبر بما سنقع فيه فقال: {إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، وأخذتم بأذناب البقر، سلَّط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم} وهكذا قال كثير من السلف: 'لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها' كيف التخلص مما نحن فيه الآن، نرجع إلى ديننا ونرجع إلى ما كان عليه الجيل الأول.

حكم بيع الدخان

حكم بيع الدخان Q الدخان هل بيعه حلال أو حرام؟ A حرام

الصوفية والتحذير من أورادهم البدعية

الصوفية والتحذير من أورادهم البدعية Q الصوفية تنشر أدعية مثل دعاء نصف شعبان، ودعاء العددية أو كذا، كيف يكون التخلص؟ A عليك التبليغ عن هذه الأشياء للمسئولين، وعليك أن تنصح من يراها، وعليك ألا تقتني هذه الأذكار البدعية، بل اشتر كتاب الأذكار، أو كتاب صحيح الكلم الطيب، واعرف كيف تذكر الله عز وجل واعلم أنه، ينبغي عليك أن تذكر الله وأنت في عملك، وفي الطريق، وقبل النوم، وقبل دخول الخلاء وبعد الخروج، أذكار معروفة اقرأها وتعلمها، وهكذا الكون العبودية

المحبة الطبيعية للأهل والمال والولد

المحبة الطبيعية للأهل والمال والولد Q هل حب الأهل والمال والولد محبة لا تصل إلى درجة محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعد من العبودية لغير الله؛ وخاصة أنها غريزة وضعها الله في البشر؟ A الحب الطبيعي والحب الفطري الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يكون من هذا القبيل، كما في الآية، والله عز وجل أنه إن كان الآباء، والأموال، والعمارات، والبنوك، أحب إليك من الله ورسوله، وتقدمها على محبة الله، وتؤثر محبة الزوجة، أو الأهل، أو الولد على طاعة الله، فهنا المحذور أما إذا أحببتهم بما أودع الله، فلا شيء في ذلك، بل {جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرآه يقبل أحد الصبيان فقال: إن لي عشرة من الولد لم أقبَّل واحداً منهم، فقال: من لا يرحم لا يرحم} أو قال: {وما أصنع إن نزع الله الرأفة من قلبك} فليس هذا من العبودية، إلا إذا شغلك عن طاعة الله، ولذلك يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] فلم يقطع المحبة من أصلها، وإنما منع أن تلهينا عن ذكر الله.

من أحكام التيمم

من أحكام التيمم Q من أصابته الجنابة؛ وقد حان وقت الصلاة، فتيمم وصلى خشية فوات وقت الصلاة؟ A وقت الصلاة -والحمد لله- طويل، لا تكون صلاة إلا ووقتها واسع، لا تنتظر إلى آخر الوقت ثم تذهب وتبحث عن الماء وقد ضاق الوقت، ينبغي عليك أن تبذل جهدك من أول الوقت؛ للبحث عن الماء، فإذا فعلاً ضاق الوقت ولم تجد، أو كنت مسافراً، أو منقطعاً، فجائز التيمم ولله الحمد.

البنوك الربوية

البنوك الربوية Q البنوك الربوية أهلكت شعبنا بالمال الحرام ما هو مدى محاولة العلماء في مكافحة ذلك؟ A لماذا تسأل عن العلماء، ولا تسأل عن نفسك يا أخي جزاك الله خيراً، كل معصية نعصي الله تعالى بها، فنحن مسئولون عنها جميعاً، العالم يجب أن يقول: هذا حرام، وأنا يجب أن أنكر بما أستطيع، أقل ما أعمل في إنكار هذا المنكر أني لا أضع مالي فيها، أما أن أضع مالي وأساهم، وأقول: العلماء ماذا قالوا؟ لا يا أخي، كل واحد منا ينظر لنفسه هو، انظر أنت ماذا قدمت وبماذا أنكرت المنكر؟ أقل ما يجب عليك من درجات إنكار المنكر ألا تفعله أنت؛ فإذا لم نفعله أنا وأنت وفلان وفلان، ما أعطينا البنك شيئاً، فإنه سوف يقفل، ويعلن الإفلاس.

حقيقة الديمقراطية

حقيقة الديمقراطية Q هل معنى الحرية هو الديمقراطية كما يقولون؟ وما رأيك في مفهوم الديمقراطية، وهل في الإسلام ديمقراطية؟ A الحرية والديمقراطية هي كما قلنا في الغرب حرية الشهوات، وحرية التمرد على الله عز وجل، وحرية العبودية لغير الله عز وجل، أما الحرية الحقيقية وهي التي تتحقق بها كرامة الإنسان، وهي أن لا يُعبد إلا الله , ولا يُخضع إلا لله، ولا يطاع إلا الله، فهذه مفقودة في الغرب تماماً، والديمقراطية الموجودة اليوم في العالم الغربي هي ستار، ونحن -والحمد لله- جميعاً نقرأ الصحف ما يسمى اللوبي اليهودي -مثلاً- في أمريكا، كيف استغل هذه الديمقراطية، فهو الذي يتحكم في مصير الانتخابات، وفي مصير البلد بكامله، ويوجه الإذاعة، ويوجه الصحف، ويوجه كل شيء، فهذه الديمقراطية المدعاة والمزعومة لا يستفيد منها إلا أرباب الأهواء والشهوات، وأرباب رءوس الأموال الذين قال الله تعالى عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] هؤلاء يحبون أن تشيع الفواحش؛ فيبيعون الخمور والمخدرات، ويحبون وجود الدعارة، والربا، وكل الموبقات ليكسبوا وينهبوا الناس باسم الديمقراطية. أما هل في الإسلام ديمقراطية؟ الله عز وجل رضي لنا الإسلام، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فما رضي لنا الإشتراكية ولا الديموقراطية ولا القومية، ولا أي تسمية أخرى، وقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78] فلن يرضى أن يسمينا بأي اسم آخر، ولا يرضى لنا أن ننتسب إلى أي ملة أخرى.

عادات غربية وافدة

عادات غربية وافدة Q بنات بعض المسلمين يقلدن الحضارة الغربية في الزواج وما أشبه ذلك، أرجو من فضيلتكم مزيد شرح لما ذكر؟ A هذا جزء من عادات كثيرة جداً استوردناها، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرع لنا السنة المثلى في الزواج؛ التي لو طبقناها لعفّ الشباب وأُحْصِنْ، ولما رأينا تكدس الفتيات في البيوت دون وجود من يخطبهن، مع شدة تطلع الشباب وتلهفه بأن يتزوج ولا يجد؛ لأننا وضعنا من الحواجز ومن العقبات، ما لم ينزل الله تعالى بها من سلطان، ولذلك أخشى على كل من وضع عائقاً من هذه العوائق أمام الشباب، أو الفتاة المؤمنة أن يأثم عند الله، وقد يشارك في الإثم، أي من يفعل فاحشة إثمه ثابت؛ إلا إذا تاب لكن من وضع عائقاً، وكان سبباً في وقوع الفاحشة من الابن أو البنت، فهو كأنه شريكٌ له في الإثم، فاحذروا من ذلك.

حكم من نذر الصيام ثم حصل له عذر

حكم من نذر الصيام ثم حصل له عذر Q نذرت زوجتي إذا شفاها الله أن تصوم خمسة أيام، وعندما شفيت من المرض حصل لها مرض ولم تتمكن من الصيام؟ A إذا شفيت إن شاء الله تصوم.

حكم العمل في البنوك الربوية

حكم العمل في البنوك الربوية Q ما حكم العمل في البنوك الربوية، مع العلم بأنني لا أملك مالاً أستطيع أن أعيش به وأن أعمل عملاً آخر، فهل يجوز لي أن آكل هذا المال؟ A قضية أنني لا أملك عمل، هذا عجيب، فالكلية العسكرية تبحث، والأعمال التجارية تبحث، كم يمكن للبنك أن يوظف؟ ثلاثين موظف، فهل كل العالم هكذا، لا تعمل إلا البنوك، أليس من الممكن أن يستغني البنك عن هؤلاء الثلاثين؟ يمكن، فتجد العمل، وتجد الحلال بإذن الله عز وجل.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q ما حكم تارك الصلاة، وهل يجوز الأكل معه، وإن كان معي في العمل ماذا أفعل؟ A تارك الصلاة إذا أصر على تركها فهو كافر، ولا بد أنكم تسمعون الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الفوزان وأكثر علمائنا اليوم، وكان كذلك كل الصحابة رضي الله عنهم، وأكثر الفقهاء يرون المُصرّ على ترك الصلاة كافر، وليس مسلماً، وإنما يمنع العلماء من أن يدفنوه في مقابر المشركين أو لا يصلون عليه، لأنهم لا يدرون أصلى أو لم يصلِّ. لكن أنت لو تعلم إنساناً معيناً مصر على ترك الصلاة؛ لا يجوز لك أن تصلي عليه، ولا أن تحضر جنازته، ولو فعلنا هذا لارتدع تاركو الصلاة وخافوا، لكن نحن الآن متعاونين معهم، إذا كان معي في العمل يجب أن أنصحه، كذلك في البيت، أو في الشارع، وأن أنصح أيضاً المسؤول الذي يستطيع أن يؤثر عليه إن كان يمكن ذلك.

حكم دعاء الرسول

حكم دعاء الرسول Q رجل ذهب إلى شباك قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسأل حاجته. A الدعاء لا يكون إلا لله عز وجل، الدعاء هو العبادة، وهو مخ العبادة، والدعاء بيّنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا، وبيّن الله كيف ندعوه، ولم يرد في شيء من هذا الأدعية أننا نتوسل بجاه الرسول أو ندعوه، والمجال لا يتسع أكثر من ذلك.

تربية النفس بطرق الصوفية

تربية النفس بطرق الصوفية Q ألا تعتقدون أن هناك فائدة في تربية النفس من الطرق الصوفية المعتدلة؟ A من لم يعتقد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بالكمال كلهُ وبطريق الخير كله، فهو لم يصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن منا يرضى ذلك، الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين لنا طريق الخير، والصحابة رضي الله عنهم تربوا أعظم التربية دون أن تكون هناك الصوفية، ولا طرق الصوفية، لا معتدلة ولا متطرفة، فكيف نقول نحن الآن نأخذ بالمعتدلة، وما هو معيار الاعتدال الذي تعرف به؟ إذا عرفت المعتدلة فمعناه أنك تعرف المتطرفة، إذاً اترك المعتدل والمتطرف، وانظر للسنة التي فيها تعريف المعتدل وغير المعتدل، فالسنة بين أيدينا، والعبادة لم يضيقها الله علينا، فاعبد الله كما أمرك عز وجل ويكفيك هذا.

حكم تفضيل أنظمة الغرب على الإسلام

حكم تفضيل أنظمة الغرب على الإسلام Q ما حكم من اعتقد أن تعليم الغرب وأنظمته خير من الإسلام؟ A نعوذ بالله، هذا هو الكفر الأكبر، أن يعتقد أفضلية أي مذهب غربي، أو أي منهج أو أي فكرة، أو أي مبدأ، حتى لو كانت في جزئية صغيرة، لو اعتقد الإنسان أن شيئاً من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كالسواك مثلاً- مفضول، وأن هناك من سنة الناس ما هو أفضل منه لكفر، فكيف بمن اعتقد أن هناك مذهباً أفضل من الإسلام كله، هذا -والعياذ بالله- عدوٌ لله ورسوله، وهذا لا ينبغي أن يوجد ولا أن يعيش بين المسلمين.

حكم الأمر بالمعروف

حكم الأمر بالمعروف Q ما رأي فضيلتكم في الأمر بالمعروف؟ A هذا واجب.

واجب الوالد تجاه ولده

واجب الوالد تجاه ولده Q ما يفعل الوالد إذا كان ولده لا يصلي؟ A لا بد أن يجاهده، وأن يأخذه بالحسنى وباللطف، وبالترغيب وبالترهيب، حتى إذا بلغ الغاية؛ ولم يستطع، فلو أدى به الأمر بعد أن يبذل جميع الوسائل من الاستعانة بأصدقائه وبأقربائه؛ أن يطرده، فلا بأس، لكن ما دام في الأمر أمل فلا يضيعه؛ لأن الذي خارج البيت هو شر من داخله.

احترام رؤساء العمل

احترام رؤساء العمل Q هل احترام الرؤساء في العمل يعتبر عبودية، وإذا كان كذلك فهل يترك المرء عمله؟ A عملك أيها المسلم يجب أن تتقنه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا بإتقان العمل، وأمرنا أن نؤديه، لكن العمل لا يكون في معصية الله، فإذا كان رئيسك أخطأ وأمرك بشيء فيه معصية الله، فقل: هذا لا يجوز، وهذا حرام، فلا ينبغي لك أن تطيعه في معصية الله، فأي عمل فيه معصية؛ لا يجوز لك أن تطيعه فيه، لكن إذا أمرك في وظيفتك بطاعة فيجب أن تلتزم بها. أما إذا كان العمل فيه معصية، فكيف توظفت في عملٍ فيه معصية؟ وكيف دخلته؟ لا يجوز للمسلم أن يبقى فيه، أو أن يدخل فيه من الأصل، نعم، قد يخطئ الإنسان، ويأمرك بشيء وهو معصية، فتبين له، فيتجاوب إن شاء الله عز وجل، وفي حالة عدم التجاوب -كأن يكون لم يفهم- يمكن أن تبلغ من هو أفهم منه، أو من هو أعلم منه، وبعد ذلك تفكر.

الخشوع في الصلاة

الخشوع في الصلاة Q إن كثيراً من الناس لا تخشع جوارحهم في الصلاة، ويكثرون من الحركات مثل تعديل العمامة أو إلى غير ذلك. فما الحكم؟ A قال بعض السلف: 'لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه' الخشوع روح الصلاة ولبها، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الخاشعين، وإذا كنا نضيع العمر كله في اللهو، واللعب، والسخط فعلى الأقل؛ هذه الدقائق التي نقفها أمام الله؛ نحاول أن نجردها خالصة لله -عز وجل-، وأن نستغفر الله فيها؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبَّه الصلاة بالنهر الذي يغتسل منه الإنسان، فبقدر ما تغتسل غسلاً نظيفاً، بقدر ما يذهب الوسخ، لكن لو ذهب وألقى نفسه في ماء غير نظيف، وما اغتسل، لا يذهب عنه الدرن، فيجب إتقانه.

التقيد بغير المشروع

التقيد بغير المشروع Q نحن بعد صلاة الفجر نتحلق بقرآن يفسره الشيخ، وعند قراءة آخر آية نكررها جميعاً، ثم يدعو الشيخ ثم نؤمن، ثم نقول كذا بصوت واحد، ثم نقوم ونتصافح؟ A على كل حال لا ينبغي التقيد بشيء لم يرد، فلا نتقيد بوضع معين، أو نقرأ آية معينة، ونكررها، بعد ذلك نتقيد أننا بعد أن نؤدي هذه الآية نقول: آمين، ثم نصافح، هذه التقييدات كلها غير مشروعة، وغير واردة، وإنما نذكر الله عز وجل كما كان الصحابة رضي الله عنهم، أما أن يختتم بالدعاء، فلا بأس إن شاء الله، وإذا أمَّن الحاضرون إن شاء الله فلا بأس.

حكم قول: فداك أبي وأمي

حكم قول: فداك أبي وأمي Q هل يقول: فداك أبي وأمي؟ A لا تقال هذه الكلمة، ولا ينبغي.

حكم حلق اللحية

حكم حلق اللحية Q ما حكم حلق اللحية مع الدليل؟ A هناك شيء نريد أن ننبه عليه قبل الموضوع، وهو أننا نحاول أن نعطي أساسيات، فهناك عبادات جعلها الله عز وجل عبادات فردية، وأمانة مؤتمن عليها كل إنسان منا، هذه أمانتك، فخشوعك في الصلاة أمانة عندك، الوضوء هذا أمانة عندك، عندما يقيم المؤذن الصلاة نصلي، ويصلي الإمام بنا، لو صلّى شخص بدون وضوء لا ندري فهذه أمانته، لو شخص في رمضان وهو زميلي في العمل مفطر، لا أدري، هذه أمانة. وهناك عبادات هي: شعائر، كصلاة الجمعة، هذه شعيرة من الشعائر وواجب عيني على كل مسلم، بها نعرف أن هذا البلد مسلم، أو هذه القرية مسلمة أو لا، كان الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسل الجيش، ويقول: {انتظروا إن سمعتم الأذان ارجعوا وإن لم تسمعو الأذان أغيروا عليهم} هذه تسمى شعائر، ومن ضمن الشعائر: إعفاء اللحية، هذه شعيرة ليست مما أؤتمن عليه الإنسان بينه وبين ربه، بل هذه شعيرة ظاهرة، تعرف بها المطيع من العاصي، وتعرف بها أن هذا المجتمع مسلم أو فاسق، هذه الشعائر أهم وأعظم في الوجوب من الجزئيات. حجاب المرأة فوق كونه عبادة على كل امرأة، هو شعيرة، فكيف أعرف أن هذا المجتمع مسلم؟ أعرف بأنني إذا دخلت أرى النساء محجبات ولا أرى التبرج، فالشعائر أهميتها تأتي من أننا نعرف بها حال الإنسان أو حال المجتمع. ولذلك كما هو معروف عند الفقهاء أنه لو اتفق أهل قرية، وقالوا: نحن لا نريد أن نصلي الكسوف، أو صلاة الاستسقاء، أو ركعتي الفجر، فقد اتفقوا على وجوب حربها، فيجب أن يقاتلها بقية المسلمين، وأعظم من هذا لو اتفقوا وقالوا: نحن نترك الأذان، ونصلي بدون أذان -مثلاً- أو لا نجهر بالأذان، فيقاتلون عليه، فهذه مما يقاتل عليها، وهم مسلمون، ومصلون؛ لأنها شعيرة، فهذه اللحية من الشعائر الظاهرة، وإذا كنت تحب محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قلبك، وتعلم أن هديه أعظم الهدي، وتعلم أن سنته أعظم السنن، وأنه دين أنقذك الله به، وأنقذ به العالمين من الظلمات إلى النور، ومن طريق النار إلى طريق الجنة، فيجب عليك أن تكون مثله، وأن تلتزم أمره، وأن تلتزم هديه في لحيته، وفي ثيابه، وفي خلقه، وفي سلوكه كله.

الدول الشيوعية ومحاربة الإسلام

الدول الشيوعية ومحاربة الإسلام Q ذكرت أن الشيوعية تقوم بكثير من الأعمال السيئة ضد الإسلام والمسلمين، حتى أن الأحذية تأتي من الصين الشيوعية مكتوب على باطنها (الله)، فما الذي توجهون به الشباب المسلم، وحكم من استعمل هذه الأحذية؟ A هم قد أهانوا الله عز وجل وحولوا المساجد إلى اصطبلات، وإلى مسارح ومراقص، ويجب أن نعلم أن أعظم المناطق الإسلامية التي فتحها قتيبة بن مسلم، والمجاهدون الأولون الآن هي تحت احتلال الصين، احتلال الشيوعية صينيةً أو روسيةً، هذه مناطق فتحت في القرن الأول، وهذه بلاد إسلامية عظيمة، وهي مصدر الخيرات العظيمة لهذه الدول نفسها، ولولا الخيرات الموجودة فيها؛ لما سيطرت الشيوعية عليها. فأكثر مناطق الشمال ثلوج ما فيها شيء، فالبترول والخيرات في البلاد الإسلامية المستعمرة المحتلة، فيجب أن لا ننسى هذا، ويجب أن نعلم أنهم أساءوا إلى الله عز وجل بما يبثونه من الإلحاد ليل نهار، ويجب أن نعلم أن سمومهم قد تصل إلينا عن طريق الكتب والأفلام، وأي طريق من الطرق، فلنحذر جميعاً من هذه الأفكار، ونعرف أن ما أصاب هذه البلاد الإسلامية، هو -أيضاً- بسبب ذنوبهم -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من موجبات عقوبته- غفلوا عن الله، وأعرضوا عن ذكر الله، فعوقبوا بهؤلاء المجرمين، يقتلون، وينهبون، ويشردون كما يشاءون، وبقية المسلمين غافلون، ثم اقتطعوا أفغانستان ونعوذ بالله لو ترك لهم مجال لربما فعلوا غير ذلك، ولا يردعهم شيء.

حكم الالتزام بمذهب معين

حكم الالتزام بمذهب معين Q هل يلزم الإنسان المسلم باتخاذ مذهب من المذاهب الأربعة، وهل يأثم بعدم اتخاذ مذهب معين، وإذا اكتفى من كتب السنة وأخذ الأحكام والعبادات وغيرها، فما الحكم؟ A لست ملزماً، ولا أي إنسان ملزم إلا باتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما عليك إلا أن تسأل أهل الذكر، وأن تسأل العلماء لتعرف الدليل الصحيح وتعمل به، أما إذا كان الإنسان لا يستطيع التبحر في العلم، أو كان لديه كتب من كتب الفقه في الفروع على أي مذهب من المذاهب ويريد أن يعرف بعض الأحكام ويستنير بها، فلا بأس إن شاء الله، لكن إذا عرف أن حديثاً صحيحاً يخالف ما في هذا الكتاب، أو ما عليه هذا المذهب، فليترك ما في المذهب، وليلتزم بكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكل واحد من الأئمة الأربعة قال: [[إذا خالف كلامي أو مذهبي الحديث فاضربوا بكلامي عرض الحائط]] ولولا ذلك ما عظمهم المسلمون، ولو أن أحدهم قال: قدموا رأيي على الحديث، ما عظمهم أحد، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه عن أمر فقرأ الحديث، فقيل وما رأيك -بعد أن قرأ الحديث- فقال للرجل: [[أتراني في كنيسة، أترى علي زنار، أقول لك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: ما رأيك أنت]]، فلا رأي أبداً مع كلام الله ومع كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

حكم الحلف بغير الله

حكم الحلف بغير الله Q ما حكم من يقول بشرفي أو بالنبي؟ A هذا هو الحلف بغير الله، {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك}، كما جاء في الحديث الصحيح، فليجتنبها كل إنسان، ولو سبقه لسانه إذا كان في بيئة متعودة هذا، فليستغفر الله وليقل: أشهد أن لا إله إلا الله، ويُكَفِّر ذلك بشهادة أن لا إله إلا الله، وبالإصرار على التوبة.

انتشار الصوفية

انتشار الصوفية Q هل الصوفية موجودة في السعودية؟ A إن شاء الله نرجو أن تُكبت أكثر، لكن البدع لا يخلو منها مكان، وربما في آبائنا نحن، وفينا بعضٌ منها ونحن لا ندري، فأين وجدت الخرافة فهي الصوفية أو مكان للصوفية.

حكم إسبال الثوب

حكم إسبال الثوب Q ما رأيكم فيمن يسبل الثوب تحت الكعبين؟ A قلنا: إن هذا في النار.

حكم التشبه باليهود والنصارى

حكم التشبه باليهود والنصارى Q هل يجوز للإنسان المسلم أن يعيش مثل النصراني أو اليهودي -والعياذ بالله-؟ ويقلدهم في أعمالهم وأفعالهم ثم نقول: نحن مسلمون، ونقلدهم في حلق اللحية والثياب؟ A لا يجوز هذا أبداً، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالفني، ومن تشبه بقوم فهو منهم}.

حكم لعن المعين وسبه

حكم لعن المعيَّن وسبه Q هل يجوز سب أو لعن من لا يصلي بالذات، ومن يعبد مخلوقاً؟ A اللعن ليس من شيم المسلم على كل حال، لكن إذا لعنت عموماً؛ لعن الله من عبد غير الله، لعن الله من جاء بهذه الخرافة، لعن الله من ابتدع البدع، هذا اللعن المطلق جائز إن شاء الله، لكن لعن الشخص المعين الأولى أن يجتنب.

حكم من مات وعليه صوم

حكم من مات وعليه صوم Q إن أمه كانت مريضة، وحضر عليها شهر رمضان، ثم توفيت، وهي لم تصوم هذا الشهر ولديها أولاد فهل عليهم صوم هذا الشهر، أم أنهم يتصدقوا؟ وماذا يفعلون بشأن قضاء ما فات من هذا الشهر؟ A بر أبنائها بها أن يصوموا عنها، ولهم الأجر إن شاء الله.

السبيل إلى الجهاد

السبيل إلى الجهاد Q تطرقت إلى ذكر الجهاد في سبيل الله، فكيف يتحقق ذلك لمن يريده؟ A ما أسهل ما يتحقق الجهاد في سبيل الله عز وجل، ليس هناك صعوبة في تحققه، على الإنسان أن يجاهد: الجهاد بالقرآن، والجهاد على طاعة الله، وأن يعد نفسه، ولو بالنية؛ كما في حديث {من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق}، {وإن استنفرتم فانفروا} كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعش في جهاد مع نفسك، وأنت تعد بالجهاد الكامل، أو ذروة الجهاد وهو قتال الأعداء في سبيل الله عز وجل، وفكر في هذا، واجتهد أن تطبق ما أمر الله عز وجل على نفسك، ومنها هذه العبودية، وإن شاء الله يتحقق ذلك.

حكم التشبه بالغربيين

حكم التشبه بالغربيين Q شبابنا هذه الأيام ضائع لا يهمه إلا السيارات الفارهة، واللبس الخليع الشبيه بأحد المغنين الأمريكيين، واقتدوا به في قصة الشعر، وفي الملابس، والأحذية أليست هذه من العبودية؟ وعلى من تقع هذه المسئولية؟ A المسئولية علي وعليك، وهي عبودية، والمسئولية على كل مسلم، ومن لم يكن اقتداؤه بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبئس من يقتدي به! سواء كان هذا المغني الأمريكي، أو كائناً من كان، ويجب على كل مسؤول في كل إدارة أن يحرص على مثل هذه المظاهر، أن لا تنتشر على المدرس، أو الموظف، أو القائد، على كل مسؤول أن ينتبه لمثل هذه المظاهر؛ لأن هذه تخدش في الشعائر، وتجعل الشعائر الظاهرة الإسلامية تختفي، ويحل محلها شعائر الكفر.

النزعات العلمانية

النزعات العلمانية Q ما رأيك في الرجل الذي إذا نُصِحَ قال للناصح: اذهب إلى المسجد؟ وهل هذا من أخلاق المسلمين؟ A لا، هذه العلمانية التي تقول: إن المسجد فقط هو مكان العبادة، الله عز وجل جعل المسجد مكاناً للعبادة، لكن كيف كانت عبادة الصحابة رضي الله عنهم؟ ففي المسجد كانت المحكمة، في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ديوان الحكم، وكان معقد الجيوش، وكان خروجها، وكان كتابة المجاهدين، كان المسجد يؤدي كل شيء، لو كلامه كان بهذا المعنى، وقال: اذهب إلى المسجد، أي: اذهب هناك حتى تؤثر في الأمة كلها لهان الأمر، لكن ليس هذا المقصود، وإنما المقصود الآن أن الموعظة في المسجد، أما أنا في الشارع فخارج عن عبودية الله -والعياذ بالله- فمفهوم كلامه أنه في مكان خارج المسجد، وكأنه خارج عن عبودية الله عز وجل -والعياذ بالله- وهذا من التمرد ومن الاستكبار عن عبادة الله، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أجارنا الله وإياكم من جهنم.

حكم الكذب على مسئول العمل

حكم الكذب على مسئول العمل Q ما حكم الكذب على المسئول لتقديم العذر عند التأخر عن الدوام أو الاستئذان من العمل؟ A الكذب حرام، ولا يجوز الكذب إلا إذا كان هناك ضرورة لتحقيق مصلحة، لكن كذبت لتضيع الأمانة، أنت مسئول عن عملك، لكن نقول للإخوان المسلمين جزاهم الله خيراً: المسئول أيضاً عليه أن يراعي الظروف، وعلى الموظف أن يعرف الأمانة، وأن يتقيد بها، وإذا تعاونا على ذلك إن شاء الله لا يكون إلا الخير.

حكم مشاهدة المسلسلات

حكم مشاهدة المسلسلات Q ما حكم مشاهدة المسلسلات والتمثيليات التي فيها نساء متبرجات؟ A لا يجوز النظر إليها، ففي الحديث: {العين تزني -إلى أن قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} فكل عضو من بني آدم كتب عليه حظه من الزنا، وما شاعت الفاحشة وما انتشرت إلا بمثل هذه البلايا.

حكم ترك الجمعة لعدة أسابيع

حكم ترك الجمعة لعدة أسابيع Q ما حكم الذي يترك صلاة الجمعة ويخرج إلى البحر عدة أسابيع متوالية؟ A هذا قد أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يختم على قلبه والعياذ بالله.

حكم المستهزئ بالدين

حكم المستهزئ بالدين Q ما حكم المستهزئ بشيء من شعائر الدين، أو سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتقصير الثوب أو الصلاة، أو إطالة اللحى ونحو ذلك؟ A أقل من هذا المنافقون في غزوة تبوك لم يستهزءوا بشعيرة من الشعائر، أو بسنة من سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المنافقون استهزءوا بالقراء من الصحابة: عبد الله بن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء أوسع بطوناً، فهم لم يتكلموا في الدين، فماذا قال الله عز وجل لهم؟ قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فالجواب أن المستهزئ بأي شعيرة من شعائر الإسلام بلحية أو ثوب، وأكبر من ذلك الصلاة فهو كافر، كما كفَّر الله هؤلاء المنافقين، ولا يقبل عذره، حتى وإن ادعى، وقال: أنا لا أريد الكفر، فالمنافقون قالوا: ما أردنا الكفر، نحن أردنا فقط الضحك، لكي نقطع الطريق، فالله عز وجل لم يقل: أنتم أردتم الاستهزاء، وإنما أقرهم على أنهم يريدون الضحك والترويح عن النفس، لكن الترويح عن النفس لا يكون بالاستهزاء بالدين وأهله فهذا الكفر كما قال: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الكفر والضلال.

فضل النفقة على العيال

فضل النفقة على العيال Q ( الكادح على عياله كالمجاهد في سبيل الله) ما قولكم في ذلك؟ A نعم، ولكن من هو الكادح على عياله، الذي يجمع ما هب؟ الذي يأتيهم بالمحرمات؟ لا، الكادح على عياله هو المسلم الملتزم أيضاً بالأمور الأخرى، فهذه الأحاديث يضم بعضها إلى بعض دائماً، نعم من يكدح ليعف نفسه، ويصون أسرته، ويمنع امرأته من العمل، ومن الخروج، ويمنع ابنته من العمل، ومزاحمة الرجال، ويمنع الأبناء -أيضاً- من الأعمال التي قد تكون فيها حرام أو فسق، وينفق عليهم، فيتعلمون ما ينفعهم ويقربهم إلى الله، هذا كالمجاهد في سبيل الله -إن شاء الله- وينوي أيضاً الجهاد.

من أحكام الطواف

من أحكام الطواف Q طواف الزيارة هل يكتفي الزائر بأقل من سبعة أشواط؟ A لماذا تريد أقل من سبعة أشواط؟ فهذه هي السبعة سبعة، إذا حصل ظرف طارئ، مثلاً أغمي عليه، أو مرض أو غيره يكمل فيما بعد، لكن لماذا يكتفي بستة أو خمسة؟

حضور الموالد للمشاهدة

حضور الموالد للمشاهدة Q هل حضور الموالد لكي يشاهد فقط عليه إثم؟ A العادة أن أكثر الناس متفرجين، لكنه بعد هذا قد يصبح من أصحابها، أما إن كان بصفة مسئول، أو بصفة مبلغ لمن يهمه الأمر من العلماء ليرى ذلك فلا حرج إن شاء الله.

تحليل ما حرم الله

تحليل ما حرم الله Q بعض الناس يقول عن المحرمات: إنها ليست حراماً؟ A على كل حال من أحل شيء مما حرم الله عز وجل، فينطبق عليه قول عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه عندما جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كان يدين بـ النصرانية، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلسه وأخذ يقرأ آيةً يعرض به فيما كان عليه من الدين، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم قال له عدي: يا رسول الله: ما عبدناهم! فقال: ألم يحلوا لكم الحرام، ويحرموا عليكم الحلال فتطيعوهم؟ قال: بلى، قال فتلك عبادتكم إياهم} هذا نوع من أنواع العبودية كما أشرنا.

حكم تأييد الكفار أو موالاتهم

حكم تأييد الكفار أو موالاتهم Q نرى بعض الذين لا يتذوقون حقيقة نعمة الإسلام، ولا يرون أنه شامل لكل مطالب الحياة، نراهم يؤيدون الدول الخليعة ويتمنون لو أنهم معهم ويعملون مثل أعمالهم، ما رأيكم في ذلك، وهل يناقض ذلك وجوده مع المسلمين؟ A هذا ليس منا، فكيف يقيم معنا، من يحتقر نعمة الإسلام، ويقول: إن الإسلام لم يأت بكل خير في كل أمر، ويؤيد الكفار، ويتمنى أنه معهم، هذا لم يعد موالياً لهم، بل لقد صار منهم، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].

الفرق بين العلمانية والماسونية

الفرق بين العلمانية والماسونية Q ما الفرق بين العلمانية والماسونية؟ وأيهما أشد خطراً على الإسلام؟ A كلها خطر، العلمانية -كما قلنا- تقول: الدين في المسجد وتحصره بمجال معين. الماسونية تنظيم سري ليست فكرة وليست مذهباً معيناً، بل تنظيم سري يظهر شعارات معينة تحت اسم الإنسانية، وأعظم شعار يتسترون به الإنسانية، والمحبة الإنسانية، والأُخوة الإنسانية، وعدم التفريق بين بني الإنسان في الدين، أو الجنس، أو اللون، المهم أن يحطوا من قدر الدين، فهذه مداخلها، وهي أنواع، ودرجات: ماسونية ملوكية، وماسونية عادية، وماسونية صغرى، فهو فكر هدام، سري، وهدفه هدم جميع الأديان في العالم لصالح إقامة دين اليهود.

حكم عمل الموظف في مصالح رئيسه

حكم عمل الموظف في مصالح رئيسه Q أنا موظف مرتبط برئيس يصرفني في أعماله الخاصة به طوال الدوام الرسمي فهل علي إثم، وهل راتبي حلال؟ A على كل حال الرئيس هذا آثم، إن كان هذا الكلام صحيح، فهو الذي يتحمل الإثم، وأنت لا يجوز لك القيام بذلك، لكن بلغ من هو أعلى منه، لعله ينتصح، وقل له أيضاً: إنني موظف عند الأمة جميعاً، وليس عندك شخصياً.

محاربة العادات السيئة

محاربة العادات السيئة Q هل للعادات في المجتمع، لا سيما المغالاة في المهور فيما تجلبه من مفاسد، هل ذلك يعد نوعاً من العبودية؟ A نعم، فكل ما كان فيه خضوع، وكل ما كان فيه طاعة لوضع معين، وهو مخالف لأمر الله، وتعلم أنه مخالف لأمر الله، تترك أمر الله وتقدمه، فقد قدمت نوعاً من العبودية، وإن كان بعضها أكبر من بعض أو بعضها أخف من بعض.

حكم التصوف

حكم التصوف Q هل المتصوفة المتمسكون بعقائد خرافية فاسدة يعتبرون من المسلمين؟ A المتصوفة كثيرٌ منهم خارجون عن الإسلام، ومنهم الجاهل الذي يمكن أن نقول: إنه من المسلمين، ولكن يجب أن ننظر إليهم نظرة أعم.

أدلة الدين الحق

أدلة الدين الحق Q هناك صورة قلب إنسان مكتوب عليه الله؟ A نقول: إن الله عز وجل وضع لنا الكثير من الآيات والأدلة التي تدل على أن دينه هو الحق، وعلى أن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الحق، وعلى أن القرآن جعل آيات ملء السمع والبصر، أينما نظرت {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] انظر ليدك، وانظر لعينك، وانظر لوجهك، انظر للسماوات، انظر للأرض، وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلسنا محتاجين إلى واحد يأتي يصور لنا القلب ثم يقول فيه: كلمة الله، سواءٌ صحت أو لم تصح، فالأدلة بالملايين، في كل شيء أمامك دليل على الله عز وجل، وعلى أن الله هو الحق، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحق. ولذلك الله عز وجل ضرب لنا أدلة مما نرى فقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:17 - 19] هذه كلها أمامك انظر إليها، وآمن بالله عز وجل ولا تحتاج إلى شيء غير ذلك.

وصية

وصية Q فضيلة الشيخ: هل من وصية أخيرة تقدمونها للمستمعين؟ A ليس هناك من كلمة إلا ما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فنوصيكم وأنفسنا جميعاً بتقوى الله عز وجل ومراقبة أمره ونهيه، والائتمار بأمره، والوقوف عند حدوده، ونسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يغفر لنا ولكم الزلل والتقصير وسهو اللسان، وسهو العمل، ويرحمنا برحمته، ويجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً إنه سميعٌ مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشرك قديما وحديثا

الشرك قديماً وحديثاً في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن أهمية التوحيد وفضله، محذراً من الشرك وخطره، وعواقبه, ومبيناً أوجه الاختلاف والشبه فيه قديماً وحديثاً، ثم أورد تقسيمات للشرك، موضحاً العقاب المترتب على كل نوع منها.

الشرك والتوحيد

الشرك والتوحيد الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين, أما بعد: فإن مما كان ينبغي أن نتحدث عنه نماذج من حياة السلف الصالح ممن غلب عليهم جانب الرجاء أو عرفوا به؛ لنعرف الفرق بين الرجاء الإيماني الشرعي، وبين مجرد الغرور والأماني وترك الطاعة, لكن كما هو معلوم أن هذا الكتاب - شرح الطحاوية - مجموع من عدة كتب ونقول، وإضافات للمؤلف -رحمه الله تعالى- فنقصه شيء من الترتيب, وشيء من تجميع الموضوعات أو الجزئيات المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، فالرجاء مثلاً: تكلم عنه المصنف هنا, ثم أدخل فيه الأَسْبَابَ التي تسقط العقوبة ولها علاقة بالرجاء, ثم بعد ذلك أتبعه فقرة أخرى, وهي قوله: 'والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام' فعاد فذكر الخوف والرجاء والمحبة أيضاً, وذكر كلاماً للهروي؛ فلذلك يحسن أن نؤخر بقية الكلام في الرجاء إلى حيث أخره المصنف رحمه الله في الفقرة القادمة إن شاء الله. وها هنا موضوع عظيم جداً، وهو وإن جاء به المصنف رحمه الله تعالى ضمن الكلام عن الرجاء, فإنه باب عظيم، بل إنه أعظم أبواب العقيدة كلها، وهو يستحق الحديث عنه لذاته دون أن يكون تابعاً لأي موضوع آخر, بل كل موضوع في العقيدة فهو تابع له، وهو معرفة الشرك وخطره وضرره، وبالمقابل معرفة التوحيد الذي هو حق الله تبارك وتعالى على العبيد.

أهمية التوحيد

أهمية التوحيد التوحيد هو أعظم ما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وكل نبي بعثه الله تبارك وتعالى, وقص علينا ما جرى بينه وبين قومه, نجد أن أعظم وأول ما يدعو قومه إليه هو قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] فنوح وهود وصالح وشعيب دعوا إلى هذا، وكذلك دعا إليه موسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه، وكذلك دعا إليه عيسى عليه السلام {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران:51] حتى جاء داعية التوحيد الأعظم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فجاهد الناس جهاداً عظيماً على هذه الكلمة -كلمة التوحيد- وعلى ترك الشرك، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، ونبذ اتخاذ الأنداد من دون الله أو مع الله عز وجل، والمصنف هنا إنما ذكر الشرك ليبين من الذي لا يرجو رحمة الله، فالذي لا يرجو رحمة الله هو المشرك، أما من عداه فإنه وإن كان من أهل الكبائر فإن له أملاً ورجاءً في رحمة الله, ولا يجوز أن يقطع هذا الأمل.

خطورة الشرك

خطورة الشرك أما الذين لا أمل لهم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16] فهم المشركون؛ لأن أعمالهم لا تقبل أبداً، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] وقال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال تعالى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] فلا تقبل أعمالهم؛ لأن الشرك هو أقبح القبائح وأعظم الذنوب وأكبر الجرائم والكبائر, وهو الذي يحبط الأعمال كلها, ولا يقبل معه أيّ عمل من الأعمال كائناً ما كان، وإن كان صلاةً أو صياماً أو صدقةً أو دعوةً أو جهاداً أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر, مهما بلغ جهد من يجتهد, ومهما كانت عبادته, ومهما توسل إلى الله تبارك وتعالى بأي نوع من أنواع القربات وهو مشرك, فلا يقبل الله تبارك وتعالى منه صرفاً ولا عدلاً. والمصنف رحمه الله تعالى يقول هنا: 'وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فالمشرك لا ترجى له المغفرة لأن الله نفى عنه المغفرة' لا ترجى له، ولا يرجوها لنفسه، ولا يرجوها أحد له مهما كانت قرابته أو صلته، فهذا عبد الله بن عبد المطلب أقرب قريب لأعظم رسول وحبيب, فهو أبو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ومع ذلك لم تنفعه تلك القرابة, ولن يشفع له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة، كما جاء في صحيح مسلم قال: {أبي وأبوك في النار} وكذلك عَمُّه أبو طالب. وإنما شفاعته له أن يخفف عنه العذاب, وليس أن يخرج من النار، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] فهذا الشرك بابه عظيم, وشأنه جلل, وهو خطير, ولا بد من معرفته والحذر منه, والتنبه له: كبيره وصغيره، دقيقه وجليله. ومن أوفى ما كتب في هذا الموضوع الكتاب الذي أشرنا إليه سابقاً, وهو الجواب الكافي لـ ابن القيم رحمه الله، الذي له عنوان آخر هو: الداء والدواء، والكتاب في الأصل هو جواب لسؤال عن كبيرة من الذنوب التي تأتي من قبل الشهوة وأسبابها، لأن الذنوب إما أن تأتي من قبل الشهوة أو من قبل الشبهة، والذنوب الشهوانية مرجعها إلى مرض القلب، وأعظم مرض يصيب القلب من جهة الشهوة مرض العشق. فناسب أن يستطرد رحمه الله في الكلام على الذنوب وخطرها وضررها، فتوسع في ذلك إلى أن أتى على الذنوب التي لا يرجى معها خير أبداً وهو الشرك، لأنه إذا كانت الفواحش التي دون الشرك مثل الخمر والزنا والعقوق والنميمة وظلم الناس توعد الله عليها بما توعد، فما بالكم بالذنب الأعظم الذي ترجع إليه هذه الذنوب جميعاً؟! والذي لا ينفع معه عمل صالح كما تقدم؟!

التوحيد والحكمة من خلق الإنسان

التوحيد والحكمة من خلق الإنسان يقول ابن القيم في الجواب الكافي: 'إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السموات والأرض ليُعْرَفَ ويُعْبَدَ ويُوَحَّد, ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له' هذه قاعدة عظيمة، هذا الذي من أجله خلق الله تبارك وتعالى الثقلين, وأنزل كتبه, وأرسل رسله، والذي كثير من المسلمين قد يتكلم في كل شيء إلا هنا قال: 'ويكون الدين كله له, والطاعة كلها له, والدعوة له وإليه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ} [الحجر:85] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] '. فالمقصود أن يَعلم الناس صفات رب العالمين، وأن يعرفوه، وأعداء التوحيد يتهاونون في الأسماء والصفات, ولا يريدون أن يُعَرِّفوا الناس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا أن يحببوا رب العالمين إلى العالمين, ولكن أهل السنة والجماعة من عقيدتهم أن أعظم شيء في هذا الدين أن يعرف الناس رب العالمين ويوحدوه، والاستدلال على ذلك جلي في كتاب الله؛ فأعظم سورة في كتاب الله هي الفاتحة, وهي تعريف بالله كما بينا فيما مضى، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي؛ وهي أيضاً تعريف بالله وبصفاته، قال: 'وكما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ}، فعلل مرة أخرى {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97] ' فالذي لا يعلم ذلك لا خير فيه ولا في عبادته، وإنما شرعت هذه الشرائع, وفرضت هذه الفرائض؛ ليُعْرَفَ الله تبارك وتعالى, ويعبد وحده لا شريك له، قال: 'فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] ' أي القصد والغرض والحكمة من خلق العباد ومن الأمر -من أمرهم ونهيهم- لأن الله تعالى لم يتركهم سدى، ومعنى سدى: لا يُؤمر ولا يُنهى، بل إنما خلقهم ليأمرهم وينهاهم، فيقول إن القصد من ذلك: أن يُعرف بأسمائه وصفاته، ويُعبد وحده لا يُشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]. فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله, وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط وهو العدل، ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقِوامه، وإن الشرك هو أعظم الظلم كما في قول العبد الصالح لقمان الحكيم: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فأعظم أنواع الظلم هو الشرك، كما أن أعظم أنواع الأمر بالمعروف الأمر بالتوحيد، لما قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فأعظم ما يؤمر به هو توحيد الله عز وجل، وأعظم منكر يجب أن ينهى عنه هو الشرك بالله عز وجل، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90] فأعظم العدل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثم بعد ذلك العدل فيما ولي الإنسان عليه حتى في بيته، وكل إنسان له ولاية بقدر حاله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} ولهذا كان {المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين}؛ لأنهم يعدلون في أهليهم وما ولّوا. قال: 'فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر' أي ما كان منافياً لما خلق الله تعالى من أجله الناس، وأمرهم به فهو أكبر الكبائر. قال: 'وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له' يعني تتفاوت الكبائر بحسب قربها من الشرك، وكل معصية ترتكب فإنها تمس العقيدة بقدر ذلك الذنب وتلك المعصية؛ ولهذا فإن أعظم الذنوب التي تأتي الإنسان من جهة الشبهة والبدعة أعظم من التي تكون من جهة الشهوة؛ لأنها أقرب إلى الشرك، فمن هنا كانت أخطر من الذنوب التي لا يقترن بها شبهة ولا بدعة؛ على أن البدع درجات, كما أن الذنوب الشهوانية العملية أيضاً درجات, وقد نبهنا على هذا فيما مضى. يقول: 'فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله, تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحَرَّمَه عليهم، وتَفَاوُت مراتب الطاعات والمعاصي'.

عواقب الشرك

عواقب الشرك فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود، كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحَرَّمَ اللهُ الجنة على كل مشرك، وأباحَ دَمَه ومالَه لأهل التوحيد، فالذي رفض وأبى واستكبر أن يكون عبداً لرب العالمين يستحق من العقوبة أن يكون عبداً لمن يعبد رب العالمين. وهذا مما يدل على فضل التوحيد وأهله، وعلى إهانة الله تبارك وتعالى للشرك وأهله، فلا مُكرِم لهم, ولا قيمة لهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كائناً ما كان، وأما هذه المنظمات الدولية التي ترفع عقيرتها بالمناداة بحقوق الإنسان زاعمة أنه لارق في هذا القرن, ولم يعلموا لجهلهم أن أعظم الحقوق على الإطلاق هو حق الله على عباده بأن يُعبد وحده ولا يُشرك معه أحد, لأنه هو الذي من أجله خُلق الإنسان, ومن أجله قامت السماوات والأرض وبه قامت أما أن يكون من حقوق الإنسان -كما جاء في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان- أنه يجوز للإنسان أن يغير دينه كما يشاء, ولايحق لأحدٍ منعه؛ فهذا الميثاق إضاعة لأكبر وأعظم حق, وهو حق الله تبارك وتعالى. نعم أعطى الإسلام الحرية للإنسان ابتداءً في الدخول في هذا الدين {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] لكن بعد ذلك ليس له الرجوع عنه، وإن ارتد قُتل. فهذا الدين دين الحرية الحقة, الذي يحرر الإنسان من الشهوات, ومن عبادة الشيطان, ومن عبادة الأنداد والبشر والأحبار والرهبان والكهان والأباطرة وغير ذلك؛ ممن ادعى الربوبية أو الألوهية مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهؤلاء لما تركوا القيام بعبودية الله, استحقوا أن يكونوا عبيداً لمن قام بحق العبودية لله وهم المؤمنون، ولذلك إذا ترك المؤمنون التوحيد, سُلِّط الكافرون عليهم عقوبةً لهم, ولأنهم عرفوا الحق وتركوه, وتنكبوا طريقه. يقول: 'وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً، أو أن يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها رجاء، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه، وإنما ظلم نفسه' أعظم وأسوأ صفتين في الإنسان واحدة منها تكفي وإذا اجتمعتا فلا شر أكبر منهما، كما قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] غاية الجهل أن يجعل مع الله نداً، وغاية الظلم أن يسقط حق الله ويعطيه لغير الله -أي الشرك- فإذا اجتمع الظلم والجهل, فكل شر في الدنيا خَطَرَ على بَالِكَ فهو آت من قبل الظلم أو الجهل، فالمشرك جاهل بالله لأنه ما قدّر الله حق قدره ولهذا عَبَدَ معه غيره, وهو ظالم لنفسه أشد الظلم، لأنه يصرف حق الله الخالص ويعطيه لغيره من عبد مخلوق مثله فيكون كما قال فرعون وقومه: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] والمقصود أن أصل الشر والبلاء يأتي من قبل العابدين لا المعبودين من دون الله فهم أسماء سماها العابدون، ولم لم يعبدوهم ما كانوا شيئاً؛ فلو قال قوم فرعون لفرعون حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] لو قالوا: لا، أنت بشر مثلنا ما فعل شيئاً، فما بالك بالحجارة وغيرها، فالسبب العابدون، ولذا لا ينفعهم يوم القيامة أن يقولوا: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} [الأحزاب:67] لأنه لولا هذا الجاهل ما تفرعن المتفرعن.

أقسام الشرك

أقسام الشرك ثم يبين بعد ذلك أقسام الشرك يقول: 'الشرك شركان -وهذا من حيث الأصل- شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته, والآخر: شرك يتعلق بعبادته ومعاملته' الأول: في أسمائه وصفاته وأفعاله، أي فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى، أما الثاني: فهو في معاملته وفي عبادته، وفيما يتقرب العباد به إلى الله عز وجل، يقول: 'وإن كان صاحبه -يعني النوع الثاني من الشرك-. يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله' ولذلك أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة وأشباههم ماذا يقولون في تعريف التوحيد؟ يقولون: التوحيد أن تعتقد أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، أي اعتقاد أنه واحد ليس مركباً ولا مبعضاً وليس اثنين ولا ثلاثة، وهو واحد في ذاته, واحد في أسمائه, واحد في صفاته, واحد في أفعاله، ومعلوم أن هذا ليس هو التوحيد, بل هذا جزء من التوحيد، ويجب أن يُكَمَّل بأن يُعْبَدَ وحده لا شريك له ويُتَقَرَّبَ إليه وحده لا شريك له, فيكون إخلاصك ورجاؤك ويقينك ومحبتك وإنابتك ورغبتك ورهبتك وصلاتك وصيامك وحجك ونذرك كله لله.

شرك التعطيل

شرك التعطيل قال: 'الشرك الأول -المتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته- نوعان: أحدهما: شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] ' وليس هذا كما يقوله المتنطعون من أهل الكلام: إنه سؤال عن الماهية، أي أخبرني عن ماهيته, وكلام فرعون إنما هو على سبيل إنكار الرب سبحانه، بل زعم أنه هو {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ولهذا قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37] وهذا الكلام منه إنما هو على جهة الجحود, وإلا فهو مقر بالله باطناً؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] ولهذا قال له موسى عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] أي أنك تعلم يا فرعون أن الله تعالى هو الذي أنزل هذه الآيات وهذا الدين ففي الحقيقة أن فرعون يعلم أن الله هو الرب وحده، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه رب العالمين، لكنها الشهوات والملك والغرور {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20] وكذلك أن أتباعه كانوا لا عقول لهم، فاستخف بهم؛ كما قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] فالأمة الفاسقة المتحللة الضالة التي تميل إلى الإباحية والفساد وإضاعة الأوقات، يستخفها المجرمون الكذابون. ثم قال: 'والشرك والتعطيل متلازمان, فكل مشرك معطل' التعطيل لغة: هو الإخلاء أو الإفراغ، وشرعاً: هو إنكار صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأسمائه، وكل مشرك معطل, وكل معطل مشرك، وتفسير ذلك أنه لما أشرك بالله عطَّل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, عطل أسماءه وصفاته، وعطله مما هو له من خصائص ذاته وكذلك كل معطل مشرك؛ لأنه لما ترك هذه الخاصية من خصائص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فإنه قد أشرك معه غيره، وغالباً ما يجعلون بعض هذه الصفات في غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. قال: 'لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل. بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته ولكنه عطل حق التوحيد' وهذا هو كحال أكثر الناس اليوم يقرون بالإيمان بالله لكنهم مضيعون لحقه.

أقسام التعطيل

أقسام التعطيل قال: 'وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل, وهو ثلاثة أقسام: القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه' أي تعطيل الخلق عن الخالق كما في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] واعجباً لمن يرى المخلوقات أمام عينيه, ثم يقول: لا خالق لها!! فهذا وأمثاله عَطَّلُوُهَا عن خالقها, أي عن الله تبارك وتعالى. لذلك فالذين يشركون بالله من الشيوعيين أو الملحدين أو الغربيين لا بد أن يجعلوا خالقاً غير الله في الحقيقة، وفي اللفظ يقولون: هذه لا تحتاج إلى خالق، والذي جعلهم يهربون من افتراض وجود خالق أنهم إذا قالوا الله أو الرب فالمقصود به عندهم هو البابا -صاحب الكنيسة- المكون من ثلاثة أقانيم، الذي تجسد في شكل إنسان, وصلب على الصليب, ثم صعد إلى السماء وغير ذلك مما يحكونه, فلا يمكن أن يكون هذا الذي خلق السماوات والأرض، فما كان لهم حلٌ إلا أن يقولوا: إنه ليس لها خالق!! وخاصة إذا كان هذا الرب الذي تذكره الأناجيل المحرَّفة, ويدعيه البابا وأتباعه, الإيمان به مقرون بالعنف وبالقوة وبالسيطرة, فإذا خالف أحدهم أي شيء من كلام رجال الدين, قالوا عنه: كافر وزنديق، حلال الدم والمال, فكان الإلحاد لهم أسهل، فعطلوها عن الخالق ثم افترضوا الطبيعة، ولكن الطبيعة هي المخلوقات، فتوقف بعضهم (كالربوبيون أو المألهون) وبعضهم قال لا أدري، وهم (اللاأدريون)، واليوم لا تجد عالماً في الطبيعة إلا يؤمن بخالق لكن ليس مثلنا فهم (الربوبيون). ثم قال: 'والثاني: تعطيل الصانع' أو الخالق، وورد الصانع في حديث: {الله خالق كل صانع وصنعته} وفي قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فيطلق لفظ الصانع على الله, والأفضل أن يقال الخالق، قال: 'تعطيل الخالق عن كماله بتعطيل أسمائه وصفاته' هذا النوع الثاني من أنواع التعطيل، فهؤلاء لا ينكرون وجوده ولا أنه هو الخالق، لكن ينكرون أسماءه وصفاته ويعطلونه منها, كما يقول أهل الكلام: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أنه يغضب، ولا يرضى، ولا ينزل يقولون: حتى لا نقع في التشبيه فينفون صفات الله ويعطلونها, ويثبتون شيئاً شبيهاً بالعدم أو هو العدم. 'والثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد' وذلك يكون بالشرك الكلي أو الجزئي. والكلي: كأن يعبد غير الله سجوداً وصلاةً وصياماً وغير ذلك، والجزئي أن يقع في الرياء مثلاً أو في صرف بعض الأنواع لغير الله في بعض الأحيان، أو في بعض الحالات. فهذه ثلاثة أقسام من أقسام التعطيل، الأول: إ نكاره، والثاني: إنكار أسمائه وصفاته، والثالث: إنكار عبادته وحقوقه. قال: 'ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ومخلوق، ويقولون: ما هنا شيئان بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه' كمثل جماعة محمود محمد طه وأمثاله، وهم من غلاة الصوفية الذين يقولون: لا ثمة خالق ولا مخلوق، والخالق عين المخلوق والمخلوق عين الخالق -والعياذ بالله- هؤلاء بلغوا من الكفر إلى حدٍ لا تستسيغه العقول، وقد قابلني أحدهم لكن ليس هنا، بل في بلاد الحرية، وكان المسجد مليء بالناس، فجاء يقول: إنه هو الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- قلت: كيف تقول هذا، ألست مسلماً؟ قال: بلى أنا مسلم، وهذا هو حقيقة التوحيد، فالنصارى كفرت لأنها جعلت الآلهة ثلاثة؛ لكن نحن نقول: كل شيء هو الله. وهذا كما لقنهم شيخهم المخدوع الهالك، فالنصارى كفرت لذلك، وفرعون كفر لأنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وكان عليه أن يقول: إنه هو وشعبه كلهم رب، نعوذ بالله من هذا الكفر. وهذا الكفر هو شر وأقبح أنواع الكفر عند جميع أهل الملل. كل من يعبد الله ويعرف الله، حتى اليهود يعتبرونهم كفاراً, ويوجد في اليهود بعض الحلولية والاتحادية , والنصارى عندهم الذي يزيد على الثلاثة كافر, وعند البوذيين والهندوس هذه النحلة كافرة، ومع ذلك يدعون أنهم هم أهل التوحيد -والعياذ بالله- وبالطبع فـ الجهمية الذين عطلوا صفات الله وأسمائه -كما ذكرنا- نوع من أنواعهم، هذا النوع الأول: شرك التعطيل.

شرك الإلهية وأقسامه

شرك الإلهية وأقسامه يقول: 'والنوع الثاني شرك من جعل معه إلهاً آخر, ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة' ويقصد شرك الأنداد، فهؤلاء لم يعطلوا أسماءه وصفاته, لكن قرنوا به غيره، فهم يرون أن الله عظيم وجليل وقدير وسميع وبصير, لكن يقولون: هذه الصفات للربِّ يسوع, ويسوع هذا ابنه أو الأقنوم الثاني, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!! ثم قال: 'ومن ذلك شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة' كما قال الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51] فالمجوس جعلوا الإله إلهين: إله النور وهذا خير كله، وإله الظلمة وهو شر كله. ثم قال: 'وشرك القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعاله'. وذكر من ذلك الشرك: شركَ الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه، ففرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] والذي حاج إبراهيم في ربه، ما ادَّعى الربوبيةَ المطلقة, لكنه ادَّعى صفةً من صفات ربِّ العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فقال: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] إبراهيم عليه السلام أراد أن يُعَرِّفَهُ بربِّ العالمين، بالصفةِ التي لا يشترك فيها معه غيره، فكان مدخل إبراهيم عليه السلام أفضل وأكثر وسيلة للإقناع (يحي ويميت) لكن جاء الرجل من باب المغالطة قال: أنا أحيي وأميت، فجاء إبراهيم عليه السلام من باب الإلزام, ولو شاء لقال له: إن إحياء الله من العدم, أما أنت فلم تحيه من العدم!! وهنا تتبين قاعدةٌ من قواعد مجادلة المشركين والمجرمين وهي أنه ليس شرطاً أن تردَّ على الكلمة بنفس الكلمة, وأحسن من ذلك أن تأتي بشيء واضح جداً, يدمغ به قول الخصم, كما قال بعدها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] مع أن هذا الرجل لم يقل مثل ما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى، إنما قال ما يفعله الله أنا أفعله، لكن الخليل عليه السلام جاء بشيء لا يمكن أن يأتي به فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] فلم يستطع {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]. إذاً: هناك نوع من أنواع المجادلة العظيمة التي علمنا الله إياها من خلال ما قصه عن إبراهيم عليه السلام ومن يعبد الكواكب ويعبد النار. ثم يقول رحمه الله: 'ومنهم من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة' وهذا الكلام الذي نحن نحكيه واقع في الغرب عند الذين يدعون أنهم أهل العقول وأهل الحضارة، فاليونان جعلوا لكل شيء إلهاً أو رباً! -تعالى الله عما يشركون- فالجمال له إله، والمطر له إله، والجبال لها إله، والنور له إله، والشمس لها إله، والشعر له إله، فأيُّ شيء تتصوره في بالك فله عندهم إله، ثم قالوا إن هذه الآلهة تتصارع، هذا الإله يصارع هذا الإله، وغير ذلك من الأساطير الخرافية التي توجد في تواريخهم وعقيدتهم. فمع هذه الوثنية المنحطة التي يترفع عنها العقل تنسب إليهم الفضائل والحضارات والعلم! ثم ينقل هذا إلى بلاد المسلمين، مثل "فينوس" آلاهة الجمال، و"أبوللو" إله الشعر، و"أطلس" إله العالم الذي يقولون عنه أنه يحمل العالم على ظهره، فتستخدم وتطلق عندنا كما فعل الخبيث نجيب محفوظ في ثلاثياته التي أخذ عليها الجائزة الصهيونية -كما سماها هو قبل العالم الذي أخذها فيه؛ حيث قال: لا يأخذها إلا صهيوني- ففي هذه الثلاثية يذكر قصة مصرية قديمة وفيها أن الآلهة غضبت والإله رضي وهكذا ولا يتحرجون أن يقولوا: آلهه أو إله غير الله، ونحن المسلمين نقول: لا إله إلا الله, وهو شعارنا وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ولا تطلق هذه على أحد غير الله تبارك وتعالى.

الشرك في العبادة

الشرك في العبادة وأما النوع الثاني من أنواع الشرك فهو: الشرك في عبادته وحقوقه ومعاملته، يقول رحمه الله: 'فهو أسهل من الذي قبله وأخف -قال: فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله, وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه' فهذا أخف من حيث أن فاعله قد وقع في اللبس؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] أي بشرك العبادة، فهذا مقر أنه لا إله إلا هو، ولا خالق ولا نافع ولا ضار إلا هو سبحانه، بل هو مؤمن بأسمائه وصفاته, لكنه غير مخلص لله تعالى في معاملته وفي عبوديته، بل يعمل لنفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الناس تارة، قال: 'فلله من عمله نصيب, ولنفسه من عمله نصيب, ولشيطانه من عمله نصيب' وهذا هو الشرك الأصغر أجارنا الله منه. قال: 'وهذا هو الذي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه فيما رواه ابن حبان في صحيحه، قال: {الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل, قيل: وكيف ننجو منه يا رسول الله؟ قال: قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ' لأنه لا بد أن نقع فيه, فنستغفر مما لا نعلم، ونستجير ونستعيذ مما نعلم. ثم قال: 'فالرياء كله شرك قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل' فلو صلى لغير الله أو حج أو زكى لغير الله، فهذا كافر مشرك لا شك فيه، لكن إذا صلى مراءاة من أجل الناس، ومن أجل أن يقال عنه مصلٍ أو يُثْنَى عليه بخير، وبعض الناس -والعياذ بالله- ابتلوا بهذا الابتلاء، كما يذكر العلماء مثالاً: أنَّ أعرابياً كان يصلي فدخل عليه بعض السلف فحسن صلاته، فقال هذا العالم: (أعرابيٌّ ويصلي هذه الصلاةَ الخاشعة!!) فلما سلم الأعرابي قال: (ومع ذلك أنا صائم)!! -عافانا الله وإياكم من هذا البلاء- فلا يأمن الإنسان على نفسه أبداً أن يكون من هؤلاء، ممن يحب أن يُحْمَدَ بما لم يفعل، ويراءون الناس، ومن علاماتهم أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً. والمؤمن في باطنه مع ربه خير منه في ظاهره، أما أن يُذْكَرَ الإنسان بالخير, ويُثْنَى عليه بما هو فيه، فتلك عاجِل بشرى المؤمن، لكن لا يعمل من أجلها، فهناك فرق بين أن يعمل من أجل حصول هذه البشرى، وبين أن تقال عنه؛ ولا شك أن الإنسان لا يريدُ أنْ يقال عنه السوء, ويَأْلَمُ إذا قيلت عنه مقالة في عرضه أو دينه أو في إيمانه ولا ترضيه، لكن هذا أمر وذاك أمر آخر، فهذا يحبط العمل؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه وأنا منه بريء}.

شرك لا يغفر

شرك لا يغفر ثم قال: 'هذا الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر' الشرك في المعاملة والعبودية ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومغفور وغير مغفور، 'النوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر وليس شيء منه مغفور' النوع الأول شرك منه كبير، وشرك منه أكبر, ولا شيء منه أصغر، أما هذا النوع فمنه أكبر, كمن يصلي لغير الله أصلاً, أو كمن يكون رياؤه في أصل الدين، كالمنافقين الذين يشهدون أنه لا إله إلا الله رياءً، أما الذي يشهد أن لا إله إلا الله, وآمن بالله, وصدق بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالقرآن عن حق, فرياؤه في بعض عبادته: (في جهاده أو في صلاته أو في دعوته) فهذا يدخل في الكبائر, وقد يحبط العمل وقد لا يحبطه, وذلك بحسب قوته, وهذا الذنب مغفور, وليس معنى قولنا مغفور: أنه لا يؤاخذ عليه، كلا! بل نقصد أنه داخل تحت المشيئة؛ بخلاف الشرك الأكبر، فإن الله تعالى لا يغفره، ثم ذكر بعد ذلك شيئاً من أنواع هذا الشرك، مثل: شرك الألفاظ, وشرك الإرادات, وشرك النيات إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى مما بين به حقيقة هذا الذنب العظيم، نسأل أن يعافينا وإياكم والمسلمين من ذلك. والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن محبة الرسول صلى لله عليه وسلم بمقتضياتها ولوازمها، وذكر معنى المحبة وتعريفها، وفرق بين المحبة الشرعية ومجرد الميل العاطفي للقلب، ثم تحدث عن الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، مبيناً عقيدة أهل السنة في النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال المبتدعة فيه، وتحدث عن أسباب الغلو، ثم ذكر الأوصاف التي وصف بها المبتدعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مختتماً حديثه بذكر بعض الأبيات من القصيدة النونية لابن القيم.

المحبة الشرعية

المحبة الشرعية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: معنى المحبة في اللغة معروف، وهي في الشرع: أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي للمحبوب؛ فمحبة الله تعالى، ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة المؤمنين، ومحبة ما شرع الله من الدين، هي أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي إلى شيء من ذلك؛ إذ لا بد فيها من جانب اختياري تكليفي. وباصطلاحاتنا المعاصرة أقول: إن المحبة الشرعية ليست مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان وحده، وإنما هي متعلقة بالوجدان والعاطفة، والعقل والإرداة، والعمل: عمل القلب، وعمل الجوارح؛ إذ أنها جزء مهم من الإيمان. والإيمان عند أهل السنة والجماعة كما هو معلوم للجميع قول وعمل، أي: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، كما هو مبين في مواضعه. وعلى هذا فمن ظن أن محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مجرد الميل الطبيعي والوجداني له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو غالط غلطاً بيناً؛ لأن هذا الظن هو الذي أوقع طوائف من الأمة في التفريط في اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك سنته، ونبذ شريعته، وترك تحكيمه، وترك التأدب معه، وأوقعهم في التقديم بين يدي هديه وحكمه، هذا مع تعلقهم العاطفي بذاته، وتغنيهم بشمائله، وإعجابهم بكماله، وربما بكائهم لتذكره، ولهجهم بالصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذلك من قال: إن معنى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي طاعته، وامتثال أمره، والتمسك بسنته، فهو مقصر عن إصابة كبد الحقيقة في هذا، إذ أن هذا هو تفسير لها باللازم والمقتضى. فالطاعة والامتثال هو لازم المحبة ومقتضاها لا حقيقتها، ومعناها والتحقيق في ذلك: أنها أمر زائد على ذلك يجمع ويشمل ما ذكرنا آنفاً، فالمحبة بهذا الاعتبار أمر عظيم من أمور الإيمان. وقد بين ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى، يقول 'إذا كان الحب أصل كل عمل من حقٍ أو باطل، وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها، وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، فالعملان القلبيان العظيمان إذاً هما المحبة والتصديق، المحبة هي أصل جميع الأعمال والتصديق هو أصل جميع الأقوال الإيمانية'. ويقول رحمه الله في موضع آخر: 'أصل الإيمان العملي هو حب الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحب الله هو أصل التوحيد العملي وهو أصل التأليه الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن العبادة أصلها أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع وهذا هو الإسلام'. وقال: 'أصل الإشراك العملي في الله الإشراك في المحبة، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]. ' وكما هو معلوم أن تأليه الله تبارك وتعالى أو الشهادة بأنه لا إله إلا الله، قيل: إنها مشتقة من الأله أو من الوله، فالأله هو: العبادة، كما في الآية {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] وأما إن كان من الوله فالمقصود بالوله هو: درجة عليا من درجات المحبة، وهي تعلق القلب بهذا المألوه الذي هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، المعبود وحده لا شريك له. ومن هنا وقع شرك المشركين حين أحبوا غير الله، وتعلقت قلوبهم به، ونتج عن ذلك أن دعوهم واستغاثوا بهم وعبدوهم من دون الله سبحانه، وصرفوا لهم الحق الخالص لله عز وجل، وهذا المعنى الواسع العميق للمحبة عند أهل السنة والجماعة هو الذي يميز محبتهم عن المحبة العاطفية الهائمة، التي يدَّعيها الصوفية دون أي أساس من الشرع. وهذه المحبة التي يدعونها هي شحنه عاطفية يمكن أن تفرغ بقصيدة من الشعر أو حفلة أو ذكر أو حضرة، أو بأي نوع من أنواع المتفرغات العاطفية وينتهي مفعولها، بخلافها عند أهل السنة والجماعة؛ حيث تشمل عمل القلب وعمل الجوارح التي ترتبط بعمل القلب، فيكون المحب في هذه الحالة مطيعاً وذاكراً ومتعلق القلب بالمحبوب. وأما المحبة الصوفية أو المحبة البدعية الهائمة، فهي تلك المحبة التي عبَّر عنها السلف الصالح بأنها زندقة، حيث قالوا: 'من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن' وهذا هو القول الصحيح، وقد عبَّر عن هذه المحبة الزنديقية تصديقاً لهذا القول القديم المأثور الشاعر الصوفي المشهور ابن عربي حين قال قاتله الله: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلان، وديراً لرهبان وبيتاً لأوثان، وكعبةَ طائف وألواحَ توراةٍ، ومصحفَ قرآن أدينُ بدينِ الحبِّ أَنَّى تَوَجَهَت رَكَائِبُه فَالحُبُّ ديني وإيماني فلما أصبحت المحبة بهذا المعنى، وأصبحت محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي هذا الهيام العاطفي الذي لا يحده ضابط ولا قيد؛ وقعت الأمة أو الطوائف التي اعتنقت هذه المحبة في الغلو العظيم، على ما سوف نوضحه -إن شاء الله- في الفقرة المناسبة له، وخرج بذلك عن حد المحبة الشرعية، وحقيقتها، وما ذلك إلا لجهلهم لهذه المحبة التي شرعها الله والتي لا يقبل الله تبارك وتعالى إلا هي.

مقتضيات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

مقتضيات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لوازم ومقتضيات محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرة جداً، نرجو الله تعالى أن يوفقنا لنظم أشتات الحديث فيها:

تحقيق الشهادة له صلى الله عليه وسلم

تحقيق الشهادة له صلى الله عليه وسلم وأعظم ذلك هو تحقيق الشهادة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه رسول الله، هذه الشهادة التي هي ركن التوحيد، والشهادة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة التي تعني طاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما أمر، وتعني كذلك اجتناب كل ما نهى عنه وزجر، وتعني تصديقه في كل ما أخبر به، وتعني ألاَّ يعبد الله إلا بما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]. فلا بد من اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بد من طاعته؛ وهذا الاتباع والطاعة يرث العبد بهما محبة الله فتورث محبة الله تبارك وتعالى بذلك، وهذه هي الغاية العظمى التي يسعى إليها كل المؤمنين، كما قال بعض السلف: 'ليست العبرة بأن تُحِبْ، ولكن العبرة بأن تُحَبَّ'. فمن أحبه الله تبارك وتعالى، فقد وفقه لكل خير، وتحقق محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للعبد لا يكون إلا بأن يحقق العبد اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وبالطبع اتباع الله واتباع دين الله وشرعه.

الاقتداء به صلى الله عليه وسلم

الاقتداء به صلى الله عليه وسلم ومن ذلك الاقتداء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتأسي به، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فلا بد من الاقتداء به والتأسي به في هديه وخلقه ومعاملته وكل أحواله في البيت، والمسجد، وفي الطريق، في السِّلْم، والحرب، وفي كل الأحوال، وهذا الاقتداء هو حقيقة أو هو علامة ولازم تلك المحبة، التي يجب أن تكون كما أشرنا. وقد ورد حديث عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه حسنه الشيخ الألباني بل ذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة في الجزء الذي لم يخرج، قال: {أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ يوماً فجعل الصحابة يتمسحون بوضوئه وذلك تبركاً منهم بوضوئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يحملكم على هذا -أي: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: حب الله ورسوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله، فليصدق حديثه إذا حدَّث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره}. ولو تأملنا خلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجدنا أنه أصدق الناس لهجة، وأنه أعظم الناس أمانةً، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن الناس جواراً، فهذا نوع وجزء من شمائله العظمى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب الاقتداء به فيها، وهذا هو تحقيق محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولازمها ومقتضاها.

تحكيمه في مواضع النزاع

تحكيمه في مواضع النزاع ومن أعظم لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحكيمه في كل موضع نزاع، فلا يقدم قول أحد ولا رأيه ولا اجتهاده ولا نظره، ولا حكمه على قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكمه، يقول الله تبارك وتعالى في هذا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. وهذه الآية كما ذكر ابن القيم رحمه الله في شرح المنازل، هذه الآية شملت مراتب الدين الثلاثه، ففيها المقامات الثلاثة: مقام الإسلام ومقام الإيمان ومقام الإحسان، فالتحكيم في مقام الإسلام {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]. فمن لم يحكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يكون مسلماً، والإيمان في مقام نفي الحرج {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] فمن انتفى عنه الحرج فهو مؤمن -أي: حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتفى عنه الحرج بما حكم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا هو المؤمن. وأعلى من ذلك وأجل هو تحقيق مرتبة الإحسان وهي التسليم المطلق {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فيسلم المؤمن تسليماً مطلقاً لما حكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما أمر ولما أخبر به من خبر فلا يعرضه لا على عقله ولا على رأيه ولا على مذهبه ولا على قول شيخه، ولا على أي مخلوق أو أي فكر بشري. وإنَّ مما يجب أن ننبه عليه في هذا المقام، هو ذلك المنكر العظيم الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية أو طوائف كبيرة منها مع دعوى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع إظهار بعض الشكليات التي يظنون بها أنهم قد أدوا حقه وأظهروا محبته وزعموها، وذلك هو: تحكيم القوانين الوضعية في شئون حياتهم، ومعارضة سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهديه وحكمه وشريعته بتلك الأحكام. فهذه جرأة على الله، وجرأة على مقام النبوة، بل هي إهدار وحط من مقام الرسالة؛ لأن معنى الشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يشهد العبد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أرسل هذا الرسول إلينا لنطيعه ونتبع أوامره، ونلتزم بكل ما يأمرنا به فيما هو إلا رسول مبلغ من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالذين يرفضون حكم الله ورسوله ولا يقيمون شرع الله ودينه في أنفسهم ولا في مجتمعاتهم ولا في شئون السياسة أو الحكم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو مناهج التعليم، أو أي ناحية من نواحي الحياة فلا ينفعهم أنهم يقيمون له الموالد أو ينشدون له الأناشيد، أو يحيون ذكريات بدعية في ليلة الإسراء والمعراج وما أشبهها، ويزعمون بعد ذلك أنهم مؤمنون وأنهم يعظمون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وربما ذهب بهم الشيطان إلى أبعد من هذا فَعَادوا من يُطبِّق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتمسك بها ويقتدي بهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحجة أنه مبغض للرسول، أو أنه خارج عن هديه، وينبزونه بأشنع التهم، والألقاب. فهذا من أعظم المنكرات الدالة على أن هؤلاء الناس تركوا محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يقيمون له وزناً، ولا لرسالته ولا لمقام نبوته ولا لمنزلته عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي فضله الله تعالى بها على العالمين أجمعين. ولا شك أن هذا مخالف لحال المؤمنين من السلف الكرام والصحابة رضوان الله تعالى عليهم الذين حالهم كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] فلا اعتراض، ولا منازعة، ولا مدافعة، ولا تردد، ولهذا قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. فلا يكون الفلاح إلا لهؤلاء الذين حكَّموا سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع أعمالهم وحركاتهم ولم تكن لهم الخيرة فيما يقضي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فلا اختيار مع أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل التنفيذ والامتثال، هذه هي لوازم محبته وهذا هو تحقيقها، وقد أمر الله تبارك وتعالى تبعاً لذلك بالرد إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] والرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه عز وجل، إلى هذا الذكر الحكيم، والرد إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو: الرد إلى سنته، بأن يُسأل في حياته ويرجع إليه في الأمور، وبعد مماته يرجع إلى دينه وسنته، وهديه، فلا يكون لأحدٍ إيماناً إلا بذلك، كما قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]. فمن ادَّعى الإيمان والمحبة مع عدم الرد إلى الله ورسوله في مواضع النزاع والاشتباه في أي حال من الأحوال فقد نقض تلك المحبة وهو كاذب في دعواها، ولم يأتِ بلوازمها، ومقتضياتها. وكما هو معلوم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الثابت: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، وقد أشار الشراح رحمهم الله إلى أن هذه اللفظة (عليه أمرنا) فيها الجار والمجرور متعلق بمحذوف يقدر بـ (حاكماً أو قاضياً)، من عمل عملاً ليس أمرنا حاكماً عليه أو قاضياً عليه أو خاتماً عليه فهو رد، فمعنى ذلك: أن أعمال العباد يجب أن تكون تحت أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحت سنته وهديه وشرعه. وكذلك في الحديث الآخر يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {فمن رغب عن سنتي فليس مني} فمهما ادَّعى من مدعي محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو راغب عن سنته فليس منه. وأما صحابته الكرام الذين أحبوه ذلك الحب العظيم فإنهم رضي الله عنهم كانوا متمسكين بسنته، حريصين على التأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاقتداء به والاهتداء بهديه، والتأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدم التقديم بين يديه.

عدم التقديم بين يديه وغض الصوت عنده

عدم التقديم بين يديه وغضّ الصوت عنده وأيضاً مما يجب لتحقيق هذه المحبة وهو لازم عظيم من لوازمها: التقديم بين يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغض الصوت عنده يكون في حياته كما هو معلوم بالنسبة لشخصه ولذاته، وبعد مماته يكون بالتأدب مع سنته وغض الصوت، فلا يرتفع صوت رأي، ولا فكرة، ولا مذهب، ولا قياس فوق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد كان الصحابة الكرام، يدركون هذا المعنى غاية الإدراك كما ورد في صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: {كنا عند عمران بن حصين في رهط منا، وفينا بشير بن كعب، فحدثنا عمران يومئذٍ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحياء خير كله -قال- أو قال: الحياء كله خير}. الحديث المشهور المعروف {والحياء شعبة من الإيمان} والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الحياء خير كله أو الحياء كله خير} هذا بلفظ عام لم يخصص بشيء، فقال بشير بن كعب: {إنا لنجد في بعض الكتب، أو الحكمة أن منه سكينة ووقاراً لله ومنه ضعف} يقول: نجد في بعض الكتب أو في بعض موروثات كتب الأولين أن من الحياء سكينةً ووقاراً ولكن أيضاً، أن منه ضعف. {قال أبو قتادة: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه، وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعارض فيه، ثم يقول أبو قتادة: فأعاد عمران الحديث، فأعاد بشير، فغضب عمران}. ولا شك أن الغضب الثاني أشد من الغضب الأول، فلما رأى أولئك الرهط ثورة عمران، أخذوا يهدئونه قال أبو قتادة: {فما زلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به}. يقولون: يا أبا نجيد، إن بشيراً هذا منا، إنه ليس من أهل البدع ولا من أهل النفاق ولا من أهل الزيغ والضلال، فما حصل منه هو عمل أهل الزيغ وأهل الضلال وأهل النفاق الذين إذا قيل لهم: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: إن الأمر كذا، ولكن فلاناً قال كذا، ولكن العلماء قالوا كذا، ولكن المذهب فيه كذا، ولكن الشيخ الفلاني أفتى بكذا، إلى آخر ذلك. ولذلك الإمام الشافعي رحمة الله عليه، عبَّر عن ذلك تعبيراً عظيماً حين جاءه رجل يسأله عن أمر من الأمور، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا -وتلا عليه حديثاً- فقال له الرجل: فما رأيك أنت؟ فغضب الإمام الشافعي رضي الله عنه، غضباً شديداً، وقال: أتراني في كنيسة؟! أترى عليَّ زناراً؟! أقول لك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول ما رأيك أنت. فكانوا يعلمون ويدركون أنه لا رأي لأحد مع كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع هديه، ومع سنته.

الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم

الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم يجب أو ينبغي أن ننبه إلى أمر عظيم من لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأمر العظيم قد جاء تفصيله في الشرع؛ فهناك مواضع تجب فيها الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصيغة أو بالصيغ الشرعية الواردة في الأحاديث الصحيحة، وهناك مواضع تستحب فيها هذه الصلاة وتتأكد، وهناك أحوال بل نقول: إنها في كل حال، وفي كل وقت الصلاة والسلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي قربة وذكر ونافلة وعبادة من أعظم العبادات وأجلِّها.

عدم أذيته صلى الله عليه وسلم

عدم أذيته صلى الله عليه وسلم مما يجب أن يعلم أن من لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدم أذيته، كما تفضل الشيخ عبد الله في مسألة الاستهزاء؛ بل إن الله سبحانه بيَّن أن أذيته هي شأن المنافقين {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]. فأي قول فيه نوع من التحقير، أو التقليل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الحط من قيمته، أو الأذية له أو لسنته فإنه من عمل المنافقين وهذا النفاق هو نفاق أكبر -نسأل الله العفو والعافية- وما من قلب ينعقد على شيء من بغض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كراهيته ويكون صاحبه مؤمناً قط. نعم. الناس يتفاوتون في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفاوتاً عظيماً، ولكن المؤمن المسلم لا يخلو قلبه أبداً من شيء من محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن قل، أما أن يشتمل قلب أحدٍ من البشر بشيء من كراهيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا هو الكفر عياذاً بالله، ولا يجتمع الإيمان مع بغضه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ومن ذلك عدم إيذائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجاته، وعدم إيذائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحابته الكرام. فإن من آذاه في زوجاته أو في صحابته فكأنما آذاه في نفسه وفي شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الواحد من الناس أو الواحد من البشر من آذاه في زوجته أو في صديقه، أو في حبيبه فلا شك أنه آذاه هو، فكيف بمن آذى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من ذلك؟! وهذا مما هو معلوم من جميع المسلمين -ولله الحمد- وإنما أحببنا أن ننبه فيه لأهميته، ولعله يأتي بعد ذلك ويزيده إيضاحاً بعون الله عز وجل.

الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم

الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم إن بسط هذا الموضوع يحتاج إلى مقام أكبر، وما ذلك إلا لكثرة ما وقع من الخبط والضلال في هذا الباب نسأل الله الهداية والعصمة والعافية، والناس في محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفان ووسط، أما الوسط فهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة. وقد تقدم الحديث عنهم فهم الذين ساروا على مقتضى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر هذه المحبة، كما ساروا عليه في سالف أمور الدين الاعتقادية والعملية. ومن ذلك أنهم لم يجاوزوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدره، ولم ينقصوه -أيضاً- حقه. فمثلاً: الحديث المتفق عليه حديث عبادة بن الصامت الذي يقول فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل}. هذا الحديث يعمل به أهل السنة والجماعة مع فهمهم لمدلوله وحقيقته، فقد نص على الشهادة بأن محمداً عبده ورسوله. فعبده تقتضي: ألاَّ يرفع إلى مقام الألوهية، فهو مهما علت منزلته -وهي منزلة عليا بلا شك- وليس أعلى منه أحد من الخلق في المنزلة، مهما بلغ فهو لا يصل إلى مقام الألوهية أبداً فهو عبد، وكماله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هو بتحقيقه لكمال العبودية لربه عز وجل. فلم يحقق ذلك أحد من البشر مثلما حققه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو العبد الكامل المصطفى المجتبى الذي استحق أن يوصف بذلك في أعلى درجات التكريم، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]. فهو عبده، وهو رسوله، فكما أنه لا يزاد عن قدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكذلك لا يعامل كسائر البشر؛ لأنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه ميزة عظمى، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] فالله تبارك وتعالى فضَّله بهذا الوحي وبهذه الرِّسالة. فكونه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقتضي كل ما ذكرنا من اللوازم: من الاتباع، والطاعة، وامتثال الأمر، والوقوف عند حدود ما شرع، وأن لا يعبد الله إلا بما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن لا يقدم على قوله قول أحد كائناً من كان إلى آخر ما ذكرنا فهذا يقتضيه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الناس

منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الناس أهل السنة والجماعة -ولله الحمد- يثبتون ذلك فهو عبد الله ورسوله، فهم الذين يتمسكون بهديه في العبادة، وهم الذين يتبعون ما جاء به من الشرع والدين، فلا ينقصونه قدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هم أعظم الناس له حباً وتقديراً وإجلالاً، كما سمعنا في محبة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ومن بعدهم، من السلف، وهم أيضاً في نفس الوقت لم يخرجوه عن حده. فلم يقعوا فيما نهى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما وقع فيه غيرهم، وهما الطرفان اللذان أشرنا لهما، وهذان الطرفان هما كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى، عندما تعرض لهذا الموضوع، فذكر 'أن باب محبة الله ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس فيها طرفان فطرف أول وهم أشباه اليهود، أما أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوها وكذبوا بتحقيقها، وفريق من أهل التعبد والتصوف والزهد أدخلوا فيها من الاعتقادات والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين، فالأولون يشبهون المستكبرين وهؤلاء يشبهون المشركين، ولهذا يكون الأول في أشباه اليهود ويكون الثاني في أشباه النصارى'، وهذا من جامع وأدق الألفاظ التي تدل على حقيقة هؤلاء القوم. أما الطائفة الأولى: وهم الذين فيهم شبه اليهود، فهؤلاء قساة القلوب، غلاظ الأكباد، لم تتخلل محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلوبهم، ولم تخالط شغافها، ولم تنعم وتسر قلوبهم لمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل تلك الغلظة والجفوة والقسوة ظاهرة بادية عليهم في تعاملهم معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يكادون يذكرونه إلا قليلاً وإذا ذكروه لا يصلون عليه ولا يسلمون. وأشد من ذلك وأشدهم في ذلك من تخلى عن سنته، وحارب أتباعه الداعين إلى التمسك بدينه والتحاكم إلى شريعته ووالى أعداءه الذين يكذبونه ويجحدون رسالته، كمن يوالي اليهود والنصارى والمشركين ويتبع قوانينهم وآرائهم ومناهجهم وأحوالهم وتقاليدهم. هؤلاء أبعد الناس عن محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الطرف الأول الذي كان بهذه الأمة فيما سبق شيئ منهم، أو نموذج لهم، وهم الفلاسفة والمتكلمون وغيرهم، ولكن بلغ هذا الأمر ذروته في هؤلاء المتخلين عن دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنهم منسلخين عن شرعه بالكلية، نسأل الله السلامة والعفو العافية. والكلام في هؤلاء لا يحتاج إلى إطالة، فحسبهم هذه الأوصاف، حسبهم جفوتهم وغلظتهم، وإهدارهم لمقام نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما الطرف الآخر: الذين هم أشباه النصارى وأشباه المشركين؛ فهم في الواقع طرائق شتى، ولهم في الانحراف أيضاً طرق شتى، وعامة المسلمين هم إما منهم أو من أتباعهم نسأل الله أن يردهم إليه رداً حميداً، فقد وقعوا فيما وقعت فيه النصارى من الغلو في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كما غالى النصارى في عيسى غلواً ذهب بهم ذات اليمين وذات الشمال، حتى إنه في بعض الأحيان يكون فيه تنقص لقدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإهدار لمقامه وهم لا يشعرون، لقد ضلوا في فهم المحبة فجعلوها مسألة عاطفية وجدانية، ولهذا نجد غالبهم يجعلون محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجرد ذكرى ترتبط بزمن معين أو حال معين، ولا يلقون ولا يسخون سمعا لأمره ونهيه فلا عمل القلب يتحقق ولا عمل الجوارح، وإنما هذه العاطفة الهائمة فقط.

من مظاهر الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم

من مظاهر الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الغلو في الحقيقة له أسباب كثيرة، نذكر منها ما يلي: أن بعض أولئك الذين غلوا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من مؤسسي الطرق ومدعي الكرامات وغيرهم، إنما أرادوا بذلك التوصل إلى تعظيم أنفسهم، أو مشايخهم وقدواتهم، ولهذا قال من قال من السلف: الناس يعبدون الله وهؤلاء يعبدون أنفسهم أو يعبدون الخلق لأنفسهم، ويطلبون حظ النفس ومتعة النفس فيما يعملون. حتى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلبون بها حظ النفس من الشهرة، ومن الكرامات، ومن الخوارق وما أشبه ذلك، ولهذا وضعوا قاعدة معروفة عندهم، يقولون: كل ما ثبت للنبي معجزة فهو ثابت للولي كرامة، فيدعون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكثير من الخوارق والمعجزات، والكرامات، غير ما أعطاه ربه عز وجل من الآيات البينات والكرامات، يدعونها ليضيفوها إلى شيوخهم فيما بعد، وليثبتوها له. فإذا اعترض معترض لماذا تنسبون هذا للشيخ؟ قالوا: هذا قد ثبت للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكثر الجهال يثبت ذلك ولا يعارض خشية أن يقال: أنت تنتقص مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه التهمة التي دائماً يتهمون بها أهل الحق -كما سنرى إن شاء الله فيما بعد- فيسلم لهم أن هذا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: هو ثابت للأولياء الوراث -يسمونهم الوراث- وارثوا الحقيقة المحمدية كما يزعمون، هذا سبب ولا نطيل فيه. السبب الثاني: هو التأثر بـ الرافضة قاتلهم الله، فإن الرافضة في غلوهم في حق علي رضي الله عنه، مع الصراع التاريخي المزمن بينهم وبين أهل السنة انتشر وباء التصوف والغلو في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مقابل غلو أولئك في علي رضي الله عنه. فالمسألة أصبحت ردود فعل من العامة، وعواطف جيَّاشة لا تستند لا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء على الدليل العلمي الصحيح والبرهان. ولهذا آل الأمر إلى أن أسبغوا من أوصاف الألوهية وخصائصها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل ما تسبغ الروافض على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى آل بيته، والصلة بين التصوف والتشيع حقيقة قائمة يشهد بها التاريخ ولا سيما تاريخ الفرق، وليس بإمكاني الآن أن أوضح ذلك أو أن أطيل فيه. والمقصود أن هؤلاء لما وقعوا في ذلك ناقضوا كتاب الله وصحيح سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فمثلاً: قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] هناك كثير من الأدلة على أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر، وإن أردتم التمثيل فلنذكر مثلاً: فرقة البريلوية. يقولون: إننا نحن أهل السنة ومعاشر المسلمين نقرأ الآية بخلاف ما أنزل الله، فإن القراءة الصحيحة لها أن نقول: (قُلْ إِنَّ مَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فهو تأكيد لنفي بشريته، يقولون: الآية تؤكد (إن) توكيد النفي (ما أنا بشر مثلكم) أي: فهو فوق البشر، وأمثال ذلك مما يحدثنا به كتاب الله سبحانه، ومثلاً قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله} كما تقدم من حديث عمر. هذا القول وهذا النهي منه صلى الله عليه وسلم ضربوا به عرض الحائط، فغلوا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلواً عظيماً فاحشاً، وما أكثر ما نسبوا إليه من خصائص الألوهية، فجاروا بذلك وخرجوا من الملة. مثلاً: ينسبون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بيده مقاليد السماوات والأرض، وأن له أن يقطع من أرض الجنة كما يشاء، وقالوا: إنه يعلم الغيب، وإنه يعلم سر الروح وحقيقة الروح، وإنه يعلم متى تقوم الساعة، وأنه يعلم الخمس التي ذكرها الله سبحانه في كتابه وهو مختص عز وجل بعلمها. يقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطلع على ذلك وعالم بما فيه، كيف وقد قال قائلهم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فماذا بعد هذا الغلو من غلو نعوذ بالله من الضلال؟ فهكذا غلوا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم يزعمون ويظنون أنهم بذلك يحبونه ويعظمونه. السبب الثالث: ومن ذلك أيضاً من ما خالفوا به هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مثلاً: ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيارة القبور، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وقال في الحديث الصحيح الآخر: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى}. فخالفوا أمره وناقضوه أعظم المناقضة، وشرعوا شد الرحل لزيارة قبره وفرضوه فرضاً، وقالوا: إنه وإن كان سُنة عند الفقهاء فمن زار مسجده صلى الله عليه وسلم، فإن زيارة قبره وشد الرحل إلى قبره عند الصوفية فرض، وأفردوا كتباً وافتروا أحاديث كثيرة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقَّولوا عليه ما لم يقل، وما أكثر هذه الأحاديث، وقد ذكرها العلماء وجمعها المؤلفون منهم في الأحاديث الموضوعة، ولم يكتفوا بهذا بل شرعوا لمن زاره ولغير زائر قبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستغيث به، وأن يدعوه، وأن يستجير به، ورتبوا لذلك أموراً، وهذا من أعظم الشرك؛ لأن كفر الجاهليين وشركهم إنما كان لأنهم يدعون غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويستغيثون به ويستجيرون به. فأوقعوا هذه الأمة المحمدية في نقيض ما دعا إليه رسول التوحيد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أنه يدعى ويستغاث ويستجار به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلوا لذلك أوراداً وصلواتاً وأحزاباً كثيرةً جداً، مثل جامع الصلوات الذي جمعه النبهاني، فلا تكاد تجد فيه أي صلاة من تلك الصلوات إلا وفيها الشرك الصريح، وفيها الحلول، وفيها الاتحاد، وفيها وحدة الوجود. كقولهم: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود، وأنه مظهر وتجلي لصفات الله سبحانه، وغير ذلك مما وضعوه، وكما وضع البكري -وهو من أقطابهم المتأخرين قبحه الله- ذلك أشعاراً تردد وتنشد في الموالد وغيرها، كقصيدة اللامية التي ضاهت البردة في الشركيات، التي قال فيها: ما أرسل الرحمن أو يرسل في ملكوت الله أو ملكه من كل ما يختص أو يشمل ولا ورى من قادح زنده إلا وطه المصطفى عبده نبيه مختاره المرسل وهو لما يقضي نيلها واسطة فيها وأصل لها يعلم هذا كل من يعقل وعندما تزعج من مزعج فلذ به في كل ما ترتجي فهو شفيع دائماً يقبل وعُد له صبحاً وعند العشي وعذ به من كل ما تختشي فإنه المأمن والمعقل وليقل المكروب في كربه يا أكرم الخلق على ربه وخير من فيهم به يسأل يقدم فيهم شافعاً كرة قد مسني الكرب وكم مرة فرَّجت كرباً بعضه يذهل وأنت إن ناهضته مغمراً فبالذي خصك بين الورى برتبة عنها العلا تنزل فحيث كنت الطب من مهلكي عجِّل بإذهاب الذي أشتكي وإن توقفت فمن أسأل نسأل الله السلامة والعافية، أين الله إذا كان فإن توقفت فمن ذا أسأل، ورتبوا أنشودة مثل هذه الأناشيد أو حتى عند زيارة القبر أوراداً معينة يأتي الإنسان إلى القبر ثم يستقبله ثم يرفع يديه ويدعو ثم يتوب من الذنوب، ثم يقول بعد أن يدعو الأدعية التي يشرعونها: يا رسول الله قد ظلمت نفسي ظلمًا كبيراً وأتيت بجهلي وغفـ ـلاتي أمرًا كبيرًا وقد وفدت عليك زائرًا وبك مستجيرًا نسأل الله العفو والعافية، ويزعمون أنهم بهذا يُتَوِبون أصحاب المعاصي من المعصية وهم يوقعونهم في الشرك الأكبر الذي تهون معه كل المعاصي، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فلو حققوا التوحيد لشملتهم مشيئة الله تعالى بالمغفرة بأن لا يعذبهم أصلاً، وإما بأن يعذبهم ثم يخرجهم من الجنة، أما من أتى بهذا الشرك الذي يلقنونه إياهم فإنه خالد مخلد في النار كما توعد الله به المشركين نسأل الله العفو العافية.

الغلو في محبة النبي صلى الله عليه وسلم

الغلو في محبة النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغ بهم أيضاً الغلو في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن زعموا أنه هو أول المخلوقات، وأنه خُلِق من نور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهم في ذلك أعاجيب ينقلونها ومن ذلك الطريقة القادرية، معروفة وهي أشهر وأكبر الطرق، تنتشر في إفريقيا والهند والباكستان والدول العربية انتشاراً عجيباً. حتى قيل: إن أتباعها يقاربون (300) مليون من المسلمين مع الأسف، فهؤلاء الناس الذين حتى لو حجوا أو اعتمروا أو صلوا لا يرددون إلا أذكار هذه الطريقة، في أثناء الحج أو بعد الصلوات. وينسبون كتاباً من كتب الطريقة اسمه سر الأسرار إلى عبد القادر الجيلاني، معي الآن مقطع منه فيما يتعلق بهذه الفقرة، يقول: ' اعلم وفقك الله لما يحب ويرضى، لقد خلق الله تعالى روح محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولاً: من نوره وجماله، كما قال الله عز وجل: خلقت روح محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نور وجهي -وهذا كذب لم يقله الله عز وجل- وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أول ما خلق الله روحي، وأول ما خلق الله نوري، وأول ما خلق الله القلم، وأول ما خلق الله العقل ' وهذا كله كذب باطل، إلا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أول ما خلق الله القلم}. يقول: ' فالمراد منها -أي: من هذه الأحاديث المختلفة- شيء واحد هو: الحقيقة المحمدية '، والحقيقة المحمدية اصطلاح فلسفي يطلقه الصوفية على أول المخلوقات، وأول الكائنات، وهو في الحقيقة يقابل العقل الكلي الذي تدعيه الفلاسفة والباطنية، ويقولون: إنه أصل جميع الموجودات، وهؤلاء يسمونه الحقيقة المحمدية. يقول: ' المراد من هذه الأحاديث شيء واحد هو: الحقيقة المحمدية، فالروح المحمدية خلاصة الأكوان، وأول الكائنات كما قال عليه الصلاة والسلام: أنا من الله والمؤمنون مني، وخلق الله الأرواح كلها منها في عالم اللاهوت وفي أحسن التقويم وهو الوطن الأصلي -انظروا كيف تحريف كتاب الله وتفسيره- فلما مضى عليها أربعة آلاف سنة خلق العرش من نور عين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبواقي الكائنات منه -يعني: من نور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم ردت الأرواح إلى درك أسفل الكائنات '. أي: الأجساد، لأن الأجساد في نظر الصوفية هي أسفل الكائنات، كما هي النظرية الهندوسية المعروفة في ديانة الهندوس الفناء: الجسد هو أدنى الدرجات، والإنسان يترقى ويفنى في الاتحاد حتى يتحد بالله عز وجل، تعالى الله عما يقولون. يقول: ' كما قال الله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]-هذا من تفسيرات الصوفية - فلما تعلقت الأرواح وأنست في الأجساد نسيت ما اتخذت من عهد الميثاق في يوم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] فلم ترجع إلى الوطن الأصلي '. الآن يعلل لماذا بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يقول: بعث لأن الأرواح تعلقت بالأجساد ونسيت أصلها. يقول: ' فترحم الرحمان المستعان عليهم بإنزال الكتب السماوية تذكرة لهم، بذلك الوطن الأصلي كما قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5]، أي: أيام وصاله بما سبق مع الأرواح '. وهذا ليس بصحيح أبداً أيضاً بل هو من تفسيراتهم، ومثل هذا تفسيرات الباطنية. يقول: ' حتى أفضت الرسالة إلى الروح الأعظم المحمدي خاتم الرسالة، والهادي من الضلالة، فأرسله إلى هؤلاء الناس الغافلين، ليفتح بصيرتهم، من نوم الغفلة فيدعوهم إلى الله تعالى، ووصله ولقاء جماله الأزلي ' نسأل الله العفو العافية. نحن نقول: إن هذا الكلام المنسوب للجيلاني لا يعقل أن يقوله، ولم يثبت لدينا قوله، ولكن أصحابه ينسبون ذلك إليه، ولو قاله لما كانت له تلك المنزلة التي ذكرها العلماء عنه، مع ما ذكروا عنه من بعض جوانب البدع. لكن نحن الآن لا نحاسبه كفرد ولكن نحاسب هذه الطائفة التي غلت في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا الحد، وجاءت بأمثال هذه الخرافات والتي أصلها ما افتراه الزرادشتية والمجوس في أنبيائهم كما نقل ذلك الدكتور طلعت غنام وأمثالهم ممن بحثوا في أصول التصوف.

دعوى خلق الكون لأجله صلى الله عليه وسلم

دعوى خلق الكون لأجله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك أيضاً زعمهم -أي: من غلوهم في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الكون إنما خلق لأجله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ليلة مولده هي أفضل من ليلة القدر، ويزعمون أن روحه تحضر الموالد والمحافل التي يقولونها، فيزعمون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي باستمرار حياة كاملة، وأنه يحضر الموالد، وأنه يخاطب الأولياء، وأنه يكلمهم. وكم افتروا على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمثال هذه الأمور فشرعوا من الدين ما لم يأمر به الله، مثل ما شرع أحمد التيجاني، ومثل المهدي الذي في السودان ممن يفترون على الله الكذب والشاذلي الذي يقول: إن كل طريقة لها شيخ، وأما أنا فشيخي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخذ عنه في اليقظة مباشرة، وأمثال هذا من الغلو الذي يزعمونه. ولا شك في بطلان ذلك -والحمد لله- لكل ذي بصيرة؛ ولكن العجب!! هو انتشار هذه الطرق، وفتكها لهذه الأمة في غفلة من دعاة الحق، وربما لإقرار أو لتعاون من دعاة الباطل من أصحاب القسم الأول أشباه اليهود الذين يحاربون سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنهم يغضون النظر عن أمثال هؤلاء ويؤيدونهم، ويشجعونهم، ويعطونهم أعظم المناصب، ويحضرون احتفالاتهم أيضاً؛ لأنهم يعلمون أنها خارجة عن دين الله فهي لا تضرهم، وقد خرجوا هم عن دين الله ولكن من باب آخر، نسأل الله العفو والعافية.

الغلو في نعله صلى الله عليه وسلم

الغلو في نعله صلى الله عليه وسلم والغلو هذا لا يقف عند حد الافتراء والكذب، حتى إن بعضهم افتعلوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشياء لا تزيد في قدره بل ربما يكون في بعضها منقصه له. مثلاً: افتعلوا أن نعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علت على رءوس جميع الكائنات، وأنها أفضل من جميع المخلوقات، وجعلوا الأمر متعلق بنعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى قال قائلهم: على رأس هذا الكون نعلُ محمد سمت فجميع الخلق تحت ظلاله لدى الطور موسى نودي اخلع وأحمد إلى العرش لم يؤمر بخلع نعاله ويقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء أسري به لربه ولم يخلع نعاله، وأنه قرب من بساط الأنس وخاطبه ربه وكلمه، وأحياناً يقولون: رآه، وهو لم يخلع نعاله فسمت فوق جميع الكائنات، مع أن موسى أمر بخلع النعال في الطور وهو في الأرض، وأمثال هذا الكلام الذي لا دليل عليه. وفي نفس الوقت لا يزيد إثبات مثل هذا من قيمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان القمل لا يؤذيه والذباب لا يقع عليه، فهذا فوق كونه من الكذب المختلق الذي لا دليل عليه، وهذا مما فيه غض ونقص من حق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان فيه قمل لكن لا يؤذيه، أو أن القمل عنده وعند أصحابه لكنه لا يؤذيه. فما الذي يدعو إلى أمثال هذه الأقوال واختلاق هذا الإفك والله سبحانه قد فضَّله بالمقام المحمود في الآخرة، وقد فضله بالشرف العظيم في هذه الدنيا بالرسالة العظيمة الخالدة التي أعلاها وأظهرها الله سبحانه على جميع العالمين، ليس هنالك من داعي على الإطلاق لأمثال هذه الأمور.

الرد على من يدعي أن أهل السنة يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم

الرد على من يدعي أن أهل السنة يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم إن الأمر في هذا يطول والحديث يتشعب، لكن أحب أن أختم هذا بأمر مناسب وهو ما ذكره ابن القيم رحمه الله في نونيته المشهورة من أن أهل البدع يتهمون أهل السنة والجماعة بأنهم يكرهون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يتنقصون من قدره وهذا هو الواقع في كل زمان ومكان، وهذا الافتراء وهذا الإفك قديم، وابن القيم رحمه الله يرد عليهم بأبيات عظيمة، يبين فيها حقيقة التوحيد وحقيقة الخلاف بين الطائفتين، فمعذرة إذا أطلت عليكم قليلاً وقرأت شيئاً من هذه الأبيات، يقول رحمه الله: قالوا تنقصتم رسول الله واعجباً لهذا البغي والبهتان عزلوه أن يحتج قط بقوله في العلم بالله العظيم الشان عزلوا كلام الله ثم رسوله عن ذاك عزلاً ليس ذا كتمان واستمر في بيان كلامهم في الصفات وفي غيرها إلى أن قال: الرب رب والرسول فعبده حقاً وليس لنا إله ثان فلذاك لم نعبده مثل عبادة الر حمن فعل المشرك النصراني كلا ولم نغل الغلو كما نهى عنه الرسول مخافة الكفران لله حق لا يكون لغيره ولعبده حق هما حقان لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً من غير تمييز ولا فرقان هم خلطوا بين الحقين فجعلوا حق الله للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهكذا، يقول: فالحج للرحمن دون رسوله وكذا الصلاة وذبح ذي القربان وكذا السجود ونذرنا ويميننا وكذا متاب العبد من عصيان وكذا التوكل والإنابة والتقى وكذا الرجاء وخشية الرحمن وكذا العبادة واستعانتنا به إياك نعبد ذاك توحيدان يعني هذان توحيدان: وعليهما قام الوجود بأسره دنيا وأخرى حبذا الركبان وكذلك التسبح والتكبير والتهليل حق إلهنا الديان، ثم يقول: لكنما التعزير والتوقير حق للرسول بمقتضى القرآن والحب والإيمان والتصديق لا يختص بل حقان مشتركان فالحب والإيمان والتصديق مشتركان بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. هذه تفاصيل الحقوق ثلاثة لا تجهلوها يا أولي العدوان إلى أن يقول: ونظير هذا قول أعداء الـ ـمسيح من النصارى عابدي الصلبان إنا تنقصنا المسيح بقولنا عبد وذلك غاية النقصان لو قلتمُ ولد إله خالق وفَّيتموه حقه بوزان وكذاك أشباه النصارى مُذّ غلوا في دينهم بالجهل والطغيان صاروا معادين الرسول ودينه في صورة الأحباب والإخوان فانظر إلى تبديلهم توحيده بالشرك والإيمان بالكفران وانظر إلى تجريده التوحيد من أسباب كل الشرك بالرحمن واجمع مقالتهم وما قد قاله واستدع بالنقاد والوزان عقل وفطرتك السليمة زن هذا وذا لا تطغ في الميزان فهناك تعلم أي حزبينا هو الـ ـمتنقص المنقوص ذو العدوان أي: تعرف من الذي يتنقص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهم أهل السنة أو أولئك، إلى أن يقول رحمه الله: والله أمركم عجيب معجبٌ ضدان فيكم ليس يتفقان يقول: فيكم أمرين الأول: أنكم أنتم تغلون في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمعتم أمرين: تقديم آراء الرجال عليه مع هذا الغلو فكيف يجتمعان كفرتم من جرد التوحيد جهـ ـلاً منكم بحقائق الإيمان لكن تجردتم لنصر الشرك والـ ـبدع المضلة في رضا الشيطان يقول: والثاني: أنكم أنتم تقدمون آراء الرجال والشيوخ والمذاهب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا معروف من حالهم، ومع ذلك يغلون فيه ويؤلهونه بل يؤلهون حتى بعض آثاره كما سمعنا في الكلام عن الحذاء وأمثال ذلك، فيقول: كيف تجمعون بين هذا وهذا، يقول: والله لم نقصد سوى التجريد للـ ـتوحيد ذاك وصية الرحمن ورضا رسول الله منا لا غلوا الشرك أصل عبادة الأوثان والله لو يرضى الرسول دعاءنا إياه بادرنا إلى الإذعان والله لو يرضى الرسول سجودنا كنا نخر له على الأذقان والله ما يرضيه منا غير إخلاص وتحكيم لذا القرآن ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه فعل النصارى عابدي الصلبان ولقد نهانا أن نصير قبره عيداً حذار الشرك بالرحمن ودعا بألا يجعل القبر الذي قد ضمه وثناً من الأوثان إلى آخر مابين فيه رضي الله عنه ورحمه. نسأل الله أن يهدينا ويهدي ضال المسلمين إلى معرفة محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى التمسك بسنته واتباع هديه إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.

وصايا وقضايا

وصايا وقضايا تحدث الشيخ حفظه الله عن بعض الوصايا والقضايا العامة، فابتدأ بالحديث عن التقوى وأهميتها، ثم انتقل إلى التحدث عن القول السديد، وإمدادات القلب، وبيّن أن اللسان يعبر عما في القلب من خير أو شر. ثم انتقل إلى الوصية الثانية وهي الصبر مبيناً أهميته، وما أعده الله للصابرين من منازل، ثم ختم كلامه بالحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الوصية الأولى: الاعتصام بالتقوى

الوصية الأولى: الاعتصام بالتقوى الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ومصطفاه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: حقيقة إنها لفرصة أن نتكلم استجابة لرغبتكم -أثابكم الله- وإلا فلا جديد عندي في هذه الساعة، إلا ما أحب دائماً أن أوصي نفسي وإخواني به، ولعله مما يناسب مثل هذا اللقاء -كما نعلم- هو أن أوصي إخواني جميعاً بتقوى الله -تبارك وتعالى- فإنها رأس كل خير، وهي التي أمر الله تبارك وتعالى بها عباده المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] وكما في آيات كثيرة. وهذه الآية السابقة لها دلالة ومعنى عظيم، جديرٌ بنا أن نقف عنده وأن نتأمله. وهو أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رتَّب على التقوى والقول السديد، أمرين عظيمين وفائدتين كبيرتين؛ فجعل هذه جواباً لتلك، لأن الأمر هنا في قوة الشرط، وكأنه قال: إن تتقوا الله وتقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم. فما من مؤمن ولا مسلم إلا وهو يريد هذين الأمرين ويتمناهما ويسعى من أجلهما: أن يصلح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمله، وأن يغفر الله له ذنبه، وماذا بعد هذا من خير. وهذا الخير العظيم يحصل بتقوى الله التي هي مراقبة الله تبارك وتعالى في السر والعلن، وامتثال كل ما أمر الله به، واجتناب كل ما نهى الله عز وجل عنه، وأن يطيع العبد الله على نور من الله، وهو يرجو نعمة الله ورحمته، وأن يجتنب ما حرم الله على نور من الله وهو يخاف عذاب الله، وهذا تفسير طلق بن حبيب للتقوى. وأما علي رضي الله عنه فقد عرفها بأنها: [[العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل]]. وفسَّرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تفسيراً آخر، فقال: [[اتقوا الله حق تقاته: بأن يُطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يكفر]]. وكل هذه معانٍ واحدة ومتقاربة، والمهم أن يحصل هذا الأمر كما أوصى بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً بقوله: {اتق الله حيثما كنت} أي: في بيتك وأهلك وفي عملك؛ اتق الله وأنت وحدك تخلو؛ فإن الإنسان كما قال الشاعر: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُطّلع عليك، ومن هنا اتق الله حيثما كنت كل منا في أي قطاع كان وفي أي مجال وفي أي ميدان؛ فهو عبد لله تبارك وتعالى، ويجب عليه أن يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا المجال وفي هذا الميدان؛ وإن بقي في مكان أو نقل أو سافر أو ذهب؛ فيجب عليه أن يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويحقق الله له -بذلك- هذا المكسب العظيم الذي كل واحد منا يسعى إليه.

القول السديد

القول السديد وأما قوله تعالى: {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70]، أي: أن أصل القول هو من التقوى، والقول هو أحد أنواع الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل، فأحد ركنيه قول القلب وقول اللسان. فخص اللسان؛ لأن هناك مصلحة وحكمة عظيمة، وهي: أن أكثر ما يضل به الناس هو حصائد ألسنتهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وهل يُكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم}. وكذلك بالمقابل فعندما يدعو الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، ويبلغ كلمة الله ويجهر بالحق، وتتضح السبل؛ فكل ذلك يكون بهذا اللسان أي: (بالقول) فالقول شأنه عظيم, ولهذا قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] والشيء السديد أو السداد: هو الصواب الموفق الذي يُوضع في موضعه، ويقع في موقعه. فهو بمعنى: القول الحكيم الذي يكون مناسباً لمقتضى حال المخاطب، وينزل على الحالة أو النازلة كما ينزل الدواء على الجرح فيبرأ. فيكون القول موفقاً صائباً، ويكون عدلاً، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] أن يكون هذا كما ذكر بعض السلف من أن كل أقوال بني آدم تحصى عليهم، والسلف لهم قولان في المسألة - أي: في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وهما: هل يكتب الملكان كل شيء، أم يكتبان ما يتعلق بالحلال والحرام والحسنات والسيئات لأن عليها مدار الحساب؟! لكن الظاهر من لفظ العموم -والله أعلم- أنه ما يلفظ من قول -عامة- فإنه يُكتب. إذاً فليراقب الإنسان قوله وليتق الله سبحانه فيه، فإذا اتقى الله في أعماله كلها؛ وعلى وجه الخصوص على هذا اللسان وجعله رطباً بذكر الله، وبقراءة كتاب الله سبحانه، بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وبالإحسان، وبالدعوة إلى الخير، وصلة الرحم، والبشاشة في وجه أخيه المسلم، والكلام الرقيق الرفيق اللين الطيب الذي يجذب إليك القلوب، فتنيرها بعد ذلك بما يفتح الله به عليك من خير أو وعظ أو إرشاد، أو ما تريد أن توصله من حقائق الإيمان ومعرفة بالله سبحانه وأسمائه وصفاته، وسننه في خلقة، وما أعد للمتقين وما أعد للمجرمين كل هذه الأمور إذا وفق الله سبحانه الإنسان إليها وكان هكذا؛ فهو على خير عظيم وتتحقق له الفائدة المرجوة بإذن الله عز وجل.

الإمدادات التي تمد القلب

الإمدادات التي تمد القلب جدير بنا أن نعلم ونعرف ما هي الإمدادات التي تمد القلب، واللسان بهذا؛ لأن اللسان يُعبر عما في القلب، بمعنى: أن الإنسان يتكلم في نفسه ثم يتكلم بلسانه. إذاً فالمدد أو أصل المادة التي تمد القلب إن كانت خيراً ومثمرة ونافعة في صالح الإنسان؛ فإن ذلك يظهر على فلتات لسانه، ويظهر من أقواله؛ وإن كان غير ذلك -ونسأل الله العفو العافية- فلا بد أن يظهر الخبث من كلامه. إذاً: كيف يمد اللسان القلب؟ إن الإنسان الذي يتكلم بالخير - كأن يقرأ كلام الله وكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كلام الصحابة والتابعين، وأهل الدعوة والإيمان والخير والصلاح - لا بد أن يظهر ذلك في كلامه هو؛ لأن القلب تغذَّى بهذا الخير، فيظهر أثر هذا الغذاء ثمرة على اللسان فتنطق بالخير، وينطق بالحكمة. ولهذا تجدون حُفاظ كتاب الله حتى ولو كانوا صغار السن -سبحان الله- ينطقون بكلام درر، لأنه من خلال معايشته للقرآن. فإذا اقتبسنا من ذلك التوجيه والتسديد الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وسلف الأمة؛ رأيت العجب العجاب! إذاً: إذا أردت أن أقول الخير وأعتقده وأتكلم به فعليَّ أن أجعل المادة التي تمده خيراً فإذا قرأ الإنسان اللهو واللغط -فضلاً عن الحرام- لكن اللهو أكثر ما يُنشر الآن، وكل ما يقرؤه الناس غثاءً ولهواً؛ فلا بد أن يظهر على لسانه؛ فتكون أحاديثه لهواً ولغطاً ولا تثمر، وإذا اختلطت المادتان ظهر هذا وهذا؛ فتجد من الذي يخلط أنك تسمع منه الخير وتسمع منه اللغو، وهكذا؛ لكن المؤمن يعلم أن كل لفظ يلفظ به فهو مكتوب، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يحاسبه. حتى إن بعض السلف رضي الله عنهم جاءته ابنته -طفلة- تقول له: يا أبتاه! أريد أن ألعب. فأعرض عنها!! فقالت: يا أبتاه! أريد أن ألعب. فأعرض عنها! وكان عنده أحد العلماء -من جلسائه ورفقائه- فقال له: قل لها: العبي. فقال: لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً؛ لأنه ما يلفظ من قول إلا ويكتب، فلو قال لها: العبي؛ لكتب عليه ذلك. نعم! أناس كان عندهم هذه الحساسية، فتراه يُفكر في الكلمة لأنه سيلقاها مكتوبة، ماذا تكون؟ وأما نحن الآن فقلوبنا وأمتنا لاعبة، قطاعاتنا لاعبة؛ بل الآلاف المؤلفة من الأمة في لعب؛ فكم هو العمر؟ سبحان الله العظيم كيف يغتر الإنسان بهذه الحياة ويظن أن فيها فسحة لأن يلعب ويلهو، وأيضاً يعبد الله ويشيد ويبني! ولو فكَّر العاقل في هذه الحياة! لوجد أنه لا يوجد فيها متسع لعاقل أن يلهو عن ذكر الله حتى وهو في الطريق. فلو أن الإنسان وهو ماشٍ في الطريق استغفر الله وحمده وأثنى عليه لكان ذلك خيراً كثيراً؛ لأن السنة -مثلاً- ثلاثمائة وأربعة وستون يوماً، واليوم مثل الدقيقة، والأسبوع مثل اليوم، والشهر مثل الأسبوع، والسنة مثل الشهر، فكل واحد عليه أن يحسب ذلك، فإن كان ممن كتب له الحياة فوصل إلى الستين أو تجاوزها إلى السبعين - وهذا قليل وخاصة في هذا الزمن - وإن كان في الثلاثين، أو الأربعين؛ فمعنى هذا أنه بقي في عمره عشرون أو ثلاثون سنة، فإن هذه كلها ستمر كلمح البصر. فالحياة ليس فيها متسع حتى الخميس والجمعة لهو؛ فهذا تفرجة ولهو ولعب، وهذا جلوس مع اللاهين واللاعبين. وأما اللعب في القرآن والسنة فإنه يشمل ما هو أعم من اللعب الذي نعيشه الآن، كما قال الله تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] أي: يلعبون ويلهون، حتى في تجارتهم التي تلهي عن ذكر الله، كما ذكر الله سبحانه في آخر سورة الجمعة {تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] ومعروف سبب نزولها. فالمشكلة أننا الآن نعيش لعباً حقيقياً في كل مجال كالذين يلعبون الكرة، ويتفرجون في الألعاب، فانشغلنا عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشغلنا أنفسنا بهذا الضياع، أي ضياع الأوقات-؛ وهذا أبعد ما يكون عن المؤمن الذي يخاف الله ويتقيه؛ ولهذا فالشاهد هنا أنه يظهر على هذا اللسان، مما يكسب الناس منه، فمن لم يفعل ذلك -أي: القول السديد- تفوته مغفرة الذنوب وصلاح الأعمال، ومن فاته ذلك؛ فماذا يريد؟! وما فائدة وجوده في هذه الحياة الدنيا إذا لم تصلح أعماله ولم تغفر ذنوبه؟!! نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية فما فائدته؟ وما قيمته؟ وماذا يرجو؟! متاع كمتاع البهائم ثم يضطر بعد ذلك إلى عذاب أليم والعياذ بالله! ما القيمة إذاً؟ إن الغرض هو أن يتفكر الإنسان ذلك، فهذه الآية وكم من آيات في كتاب الله سبحانه تدلنا على أمر عظيم كهذا الأمر، وهذه هي الوصية الأولى.

الوصية الثانية: التمسك بالصبر

الوصية الثانية: التمسك بالصبر ووصيةٌ أخرى وهي أني أوصي نفسي وإخواني بالصبر.

معنى الصبر

معنى الصبر الصبر بمعناه الواسع ذكره الإمام أحمد يقول: ' تتبعت الصبر في كتاب الله، فوجدته في أكثر من تسعين موضعاً ' أي: أمر الله تعالى بالصبر وحث عليه وبيَّن فضله ومزاياه وما أعد للصابرين، في أكثر من تسعين موضعاً من كتاب الله. انظروا حرص هؤلاء الأئمة على تدارس القرآن، وعلى تفهمه وتتبعه! أولئك هم الذين يتلونه حق تلاوته. فإن الصبر أمره عظيم؛ لأنَّ كُلاً منا مبتلى، ولأن هذه الحياة كلها ابتلاء كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]، وكما في الحديث القدسي: {إنما أرسلتك وبعثتك لأبتليك وأبتلي بك}، إنه الابتلاء! فحتى الأنبياء مبتلون! وكل الناس في هذه الحياة عرضة للابتلاء، فالخير والشر كله ابتلاء وفتنة. إن أنعم الله عليك بالعافية والمال والصحة والمنصب فهذا ابتلاء، وإن كان ضد ذلك أو ببعض منه فهو ابتلاء، أينما كنت وكيفما كانت طبيعة حياتك؛ فأنت عرضة للابتلاء؛ لأن الدار كلها دار ابتلاء. إذاً: لابد أن تحتاط لنفسك، وأن تحرص عليها وتسيجها بسياج الصبر. حتى على النعم يصبر الإنسان، فقد يأتيك منصب أو رتبة أو مال أو أي إغراء؛ فعليك أن تصبر عليه كما تصبر على البلاء وما ينزل بك من مكروه، فكل إنسان في هذه الدنيا عُرضة لسماع ما يكره، والوقوع فيما يكره من حوادث الدنيا ومصائبها -نسأل الله تعالى أن يلطف بنا وبكم وبإخواننا المسلمين- ولا يخلو أحد منها مهما حاول فلابد من ذلك، فالصبر هو الحل في هذا كله.

أنواع الصبر

أنواع الصبر الصبر على طلب العلم: فلا ندع الشيطان يلعب برءوسنا نحن طلاب العلم؛ فنضيع الأوقات، أو نجد في طلب العلم تعباً ومشقة، نعم. هذا هو واقعنا، فلو سهرنا إلى آخر الليل نتكلم ليست مشكلة؛ لكن إذا أخذنا الكتاب لكي نقرأ فلا نجاوز منه ورقة أو ورقتين إلا وهذا تعبان وهذا يتثاءب، سبحان الله! لماذا؟ خذ نموذجاً لذلك: الصلاة، فالإنسان في صلاته يأتيه الشيطان؛ فيتحرك ويتذكر أشياء ما كان يتذكرها، لأنه وقت لله، ويريد أن يصرفك عنه. انظر حتى في رمضان! التراويح عندنا طويلة جداً؛ فالواحد منا يتذكر طول السنة يتذكر إذا جاء رمضان! يتذكر تعب التراويح مع أن الناس -ونحن منهم- قد يقفون ويلهون ويتحدثون ربما لساعات ولا يشعرون، بل إن بعض الناس بعد التراويح يقف مثل ما وقف في الصلاة ليسلم على أحدهم ولا يشعر بالتعب، ولو طول الإمام أو زاد في التطويل، قال: متى يركع؟ ابحثوا لنا عن إمام من الميسرين، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {يسروا ولا تعسروا} إلى آخره. سبحان الله! هذا دليل على أنه لا بد من الصبر على طلب العلم، فنطلب العلم ولا نستكثر في جلسة من جلساتنا في أن نحفظ آية، فهي نعمة وغنيمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف} فهذا مكسب قد يفوت ومتى ما أتت الصلاة لابد أن يتسابق عليها الناس. معنى هذا -أيضاً- أن هذه قاعدة عندنا؛ فإذا كان هناك مكسب واضح في الدنيا لا نبالي بأحد، وإن كان في الدين تركناه، فاحرص على آية من كتاب الله أو حديث من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واحرص على أنك تنافس في كل مجلس، وليس شرطاً أنك إذا جلست في مجلس دنيا أن تعرف الناس ما فعل الناس من مشاريع، بل اجعل ذلك -أي: التنافس أو النظرة التنافسية- في شيءٍ من ذكر الله كما قال عليه الصلاة والسلام: {لا حسد إلا في اثنين} والمقصود هنا بالحسد الغبطة، فتغبط أخاك أنه حفظ حديثاً وأنت لم تحفظ، ودعا بهذا الحديث وأنا لم أدع، وأمر بالمعروف وأنا لم آمر، فتغبطه لأجل هذا. إذاً: الصبر على طلب العلم والصبر على الدعوة إلى الله تعالى هذا لابد من ابتلاءٍ فيها، فلابد أن يُبتلى الإنسان حتى ولو بزوجته التي هي تحت قوامته؛ فقد لا تعينك على طاعة الله، أو لا تصبر وكذلك، أولادك فطبيعة الطفولة متعبة، فلابد أن تصبر على أبنائك حتى تعلمهم طاعة الله، وتصبر على نفسك لأنها شرودة، ولابد من الصبر عليها حتى تبلغ ما يرضي الله تبارك وتعالى؛ وتصبر على ما يقال عنك، ولابد أن يُقال عنك الكثير والكثير؛ على قدر ما تدعو إليه وهكذا. إذاً فالصبر لابد منه، ولا يبالي الإنسان المسلم أياً كان موقعه، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة. كان في الحراسة، المهم أنه جندي لله تعالى، فلا يبالي فربما أن وضعه في الحراسة أفضل من أن يكون في المقدمة، وربما أن الله اختار له الخير ولو كان في غيره لافتتن به. المهم أنه يُعتبر جندياً لله، فأينما وضعه الله وأينما استخدمه واستعمله فيما يرضيه، فهو راض بذلك وهذه نعمة عظيمة وراحة له، ثم يرجو بعدها -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ما في قوله سبحانه له: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]

منازل الصابرين عند الله عز وجل

منازل الصابرين عند الله عز وجل قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] أي: أن غيرهم لا يأخذ ما يأخذوه من الأجر! لماذا؟ بقدر نقص الصبر فالذي يأخذ أجره كاملاً هو الذي صبر؛ لأنه ابتلي ومحص فصبر فأخذ أجر العمل كاملاً. ولهذا إن أفضل الناس منزلة هم الأنبياء، ثم من هذه الأمة أفضلهم وهم الصحابة الذين صبروا وجاهدوا، والذين كانوا أيضاً في وقت المحنة والاضطهاد في مكة، فهم أعظم من الذين جاءوا من بعدهم، ولهذا أثنى الله عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] وأيضاً: من أنفق وجاهد وقاتل قبل الفتح أفضل ممن جاء بعده، ومن رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد معه خير ممن جاهد بعده وهكذا، والذين شاركوا في فتوح الشام والعراق أفضل ممن جاء بعدهم وهكذا؛ فبقدر ما تكون المسألة أكثر مشقة وأكثر استقامة للدين؛ يكون الأجر أعظم ويُوفى أصحابه الأجر الأعظم. أما من جاء والأمور قد استقرت والدين قد أقيم - والحمد لله- فإنه بقدر ما تكون المشقة أقل والصبر أقل، يكون الأجر أقل، وهكذا فما بالكم بنا نحن الآن على أي شيء صبرنا؟ لم يحدث شيء - نسأل الله لنا ولكم العافية دائماً- لكن لابد أن يكون الابتلاء على قدر الدين الأمثل فالأمثل. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبالصبر في هذه الحياة الدنيا، وأن نُصبِّر أنفسنا فيما قد يصيبنا، أو ينزل بنا؛ لأننا أمرنا بمعروف أو نهينا عن منكر؛ فالحمد لله هذا خير، وربما يكون في ذلك رفع للدرجة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أما مراتب هذه الدنيا! فلو قيل لأحدهم كالأخ العسكري: ما رأيك في أن ننقلك أبعد منطقة في المملكة، ونعطيك أقدمية ورتبة؟ فسيقول: سوف أذهب فلا بأس. لكن اعتبروا أن الدرجة والرتبة عند الله لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصبر واحتسب، ولو ناله ما ناله من أذىً في سبيل ذلك، هذه -والله- أعظم درجة لنا ولكم جميعاً، وبهذا لعلنا نقف عند هذا الكلام -سائلين من المولى القدير أن يوفقنا لما يحبه ويرضى- والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هناك بعض المشايخ الذين تركناهم في هذا الميدان يُصارعون الفساد والفتن بما أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صبر عظيم إن شاء الله -ولا نزكي على الله أحداً- ونحن في بيوتنا لاهون وغافلون لا ندري عن كثير مما يعانون، وأشكر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً. والحمد لله رب العالمين.

كيف نعظم شعائر الله

كيف نعظم شعائر الله تحدث الشيخ حفظه الله عن عدة أمور تتعلق ببيت الله الحرام، فبدأ بالحديث عن تعظيم شعائر الله، مستعرضاً لشيء من الخلاف في تفسير العلماء لشعائر الله، وبين القول الراجح في هذه المسألة، ثم ذكر أقسام الناس في تعظيم شعائر الله، وضرب أمثلة للبدع التي يقع فيها كثير من الناس في شهري رجب وشعبان، ثم تحدث عن الاستهانة بشعائر الله في البلد الحرام من قبل بعض الزائرين لهذا المكان المقدس، مختتماً حديثه بالتحذير من خطورة استمرار هذا الوضع، وأنه يجب تغييره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستغلال مواسم الخير لذلك.

تعظيم شعائر الله

تعظيم شعائر الله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن يعظم شعائر الله ويحفظ حدوده، ويقيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أقول: إن الله تبارك وتعالى قد حث وحض على تعظيم شعائره، ويكفي في ذلك قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وقد أضيفت التقوى إلى القلوب؛ لأن القلب هو محل التقوى كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره} وإذا خشع القلب واتقى، خشعت سائر الجوارح، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح أيضاً. فشعائر الله تبارك وتعالى لا يعظمها إلا من عظم الله واتقاه وعرفه تبارك وتعالى وقدره حق قدره، وهذا أمرٌ لا خلاف فيه بين المسلمين، وبين كل من يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

خلاف العلماء في تفسير معنى شعائر الله

خلاف العلماء في تفسير معنى شعائر الله ما هي شعائر الله؟ وما تعريفها عند العلماء أو عند المفسرين رحمهم الله كما وردت في الآية السابقة؟ وكما وردت في قوله تبارك وتعالى في أول المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} [المائدة:2]. فسر بعض العلماء شعائر الله بأنها أوامره وفرائضه، ومعنى ذلك: أن كل ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما تعبدنا الله تبارك وتعالى به فهو من شعائره، فيدخل في ذلك الشعائر الظاهرة والباطنة؛ لأن الدين باطنٌ وظاهرٌ، ويدخل في ذلك الشعائر العملية والشعائر الاعتقادية، ويدخل في ذلك الأركان والواجبات والمستحبات، فكل ما شرعه تبارك وتعالى فهو من شعائره، والمسلم مأمورٌ بأن يعظمها وأن لا يحلها؛ وذلك بأن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وهكذا يكون التعظيم على هذا المعنى. وقال بعض العلماء: إنَّ شعائر الله هي ما يتعلق بمشاعر الحج فقط من النسك؛ ولذلك فسرها بعض السلف بأنها: الصفا والمروة والبدن التي جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى كما قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] فقالوا: إذاً المقصود بها الحج أو ما يتعلق بمشاعر الحج وبعض أعماله، ومنه إشعار الهدي وهو: العلامة الذي توضع عليه.

القول الراجح في معنى شعائر الله

القول الراجح في معنى شعائر الله إنَّ القول الوسط في ذلك، وربما كان الراجح إن شاء الله تبارك وتعالى أن شعائر الله هي: المعالم الظاهرة من دينه، التي جعل الله تبارك وتعالى بعضها زمانياً، وجعل بعضها مكانياً، فهذا قول وسط بين القولين، ومعنى معالم حدود الله: هي المعالم أو العلامات الواضحات التي يمكن أن نشتقها من المعنى اللغوي، فإن الشعور أو الإشعار في اللغة هو: العلم، شعر بكذا أي: علم به، والإشعار: هو وضع العلامة كما يوضع على الهدي علامة تدل على أنه هدي فلا يحله أحد.

أعظم الشعائر المكانية

أعظم الشعائر المكانية إنَّ الله -تبارك وتعالى- جعل لهذا الدين معالم وعلامات ظاهرةٍ تدل عليه، وبعضها -كما ذكرنا- مكاني وبعضها زماني، فمن الشعائر المكانية التي عظمها الله تبارك وتعالى وأمر بتعظيمها: الثلاثة المساجد مكة والمدينة وبيت المقدس. فهذه الثلاثة من شعائر الله وكل مسجدٍ لله -أيضاً- كما قال عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] فالمساجد من شعائر الله، ورفع الأذان فيها من شعائر الله، وتعظيمها من تعظيم شعائر الله. وأفضل المساجد هي المساجد الثلاثة التي ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا تشد الرحال إلا إليها، والحرم كله معظَّم، ولا سيما في هذه البلدة الطيبة الطاهرة فهو من الشعائر المكانية. وقد جاء في تعظيمه في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأدلة ما لا يحصى، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] وفي قول الله عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97] وغير ذلك من الآيات، فهي كلها تدل على أن الله تعالى قد عظَّم هذا البيت وهذا الحرم وشرفه على سائر البلدان، وأنه من شعائر الله التي يجب أن تعظم. وقد كان العرب في الجاهلية يعظمون البيت الحرام تعظيماً بالغاً، فعلى ما كانوا فيه من شرك وجاهلية وعبادة للأصنام إلا أنهم كانوا يعظمون البيت، وكان من ينتهكه منهم يعد عندهم من أفجر الفجرة وأكبر الظلمة ولا قيمة له سواء أكان فرداً أم قبيلة. ولهذا جاء في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة:2] أن الناس كانوا إذا جاءوا إلى مكة وخرجوا من الحرم، يأخذون من لحاء الشجر ولا سيما شجر السمر الذي يكثر في مكة ويجعلونه علامةً على رقابهم أو على دوابهم فلا يتعرض لهم أحد أبداً؛ لأن الناس كما تعلمون كانوا في الجاهلية يقطعون الطريق، فإذا قدم القادم ورأوا عليه هذا الشعار وهذه العلامة عظموا ذلك ولم يتعرض له أحد. فكان هذا حالهم في الجاهلية، فلما جاء الإسلام زاد ذلك تعظيماً -ولله الحمد- وتشريفاً بأن أعاد إلى هذا البيت نقاء وطهارة التوحيد، الذي جاء به الخليل صلوات الله وسلامه عليه، والذي بنى هذا البيت أو جدد بناءه؛ ليكون كما أمر الله تبارك وتعالى مكاناً يعبد فيه عز وجل كما قال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]. فهذه هي ملة إبراهيم التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وجددها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظَّم الحرم أشد مما كان يُعظم في الجاهلية، ويدخل في ذلك ما ذكره بعض العلماء من الصفا أو المروة أو مزدلفة أو منى وكل ما قد عظمه الشرع. وسنذكر إن شاء الله عندما نتعرض لأحوال الناس في تعظيم الشعائر ما ابتدعه الناس مما لم يعظمه الله ورسوله في هذه الأماكن، والمقصود أن أعظم وأشرف الشعائر المكانية هو البيت الحرام، وأن لتعظيمه أموراً وحقوقاً لا بد منها لعلنا نذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل فيما بعد.

أعظم الشعائر الزمانية

أعظم الشعائر الزمانية وأما الشعائر الزمانية فإنه كما أن الله تبارك وتعالى اختص بعض البقاع وشرفها على بعض، فهو كذلك اختص بعض الأزمنة وشرفها على بعض، ومن ذلك الأشهر الحرم وشهر رمضان. فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد فضله وشرفه كما قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، وكفى بذلك شرفاً وفخراً. كما أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عظَّم الأشهر الحرم فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]. وقد فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الأشهر الحرم كما في الصحيح من حديث أبي بكرة قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد الفرد وهو رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان} وهو الشهر الذي نعيش فيه -ولله الحمد- فنشكره تبارك وتعالى الذي بلغنا إياه، ونسأله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يتقبل منا عبادتنا وطاعتنا في سائر الأزمان. وهناك من الناس من يعظم شعائر في شعبان لم يعظمها الله تبارك وتعالى وكما يقع -أيضاً- في غيره من الأزمنة، وهذا ينقلنا إلى ذكر أنواع الناس في تعظيم هذه الشعائر.

شعائر لا بدع

شعائر لا بدع من الناس -أيها الإخوة المؤمنون- من غلا في تعظيم شعائر الله، حتى أدخل فيها ما ليس منها سواء أكان تعظيماً للأمكنة أم تعظيماً للأزمنة.

الغلو في تعظيم شعائر الله

الغلو في تعظيم شعائر الله فأما تعظيم الأمكنة بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى، فمن ذلك ما يفعله بعض الحجاج والزوار أو العمار -كما ترون- من تعظيم أماكن مخصوصة لم يرد فيها شيءٌ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن السلف الصالح، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}. فما يفعله بعض الناس من الذهاب إلى غار ثور أو إلى غار حراء ويصلون هنالك، ويتبركون في أماكن كثيرة من مكة، وربما كان أكثر منها في المدينة مما لا أصل له، فكل ذلك محدثٌ مبتدع ولا يجوز أن يقروا عليه أبداً. وإنما يكتفى في ذلك بما شرعه الله تبارك وتعالى كما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولا ريب أن كل من عظَّم ما لم يعظمه الله؛ فإنه لا بد أن يخل بتعظيم ما أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمه سواء من الشعائر أم المعالم المكانية أم الزمانية.

التفريط في تعظيم شعائر الله

التفريط في تعظيم شعائر الله أما القسم الثاني من الناس: فهم الذين لا يبالون بتعظيم حرمةٍ ولا شعيرةٍ، لا في هذا الشهر ولا في غيره من الشهور، ولا في هذا الحرم ولا في غيره من الأماكن، فلا يعظمون لله تبارك وتعالى مسجداً ولا حرمةً ولا شعيرةً من الشعائر، وهؤلاء قومٌ قد ضرب الله تعالى على قلوبهم الغفلة -نسأل الله تعالى العفو والعافية- وإن كان كثيرٌ منهم يعد نفسه من أهل الخير ومن عامة المسلمين، لكنهم يغفلون عن تعظيم ما أمر الله بتعظيمه من هذه الشعائر.

الوسطية في تعظيم شعائر الله

الوسطية في تعظيم شعائر الله والقسم الثالث: هم أهل الهدى، وأهل السنة هم القوم الوسط الذين عظموا ما عظم الله عز وجل، وتركوا ما لم يعظمه الله، واتبعوا سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتبعوا ولم يبتدعوا.

بدع شهر رجب

بدع شهر رجب إذا نظرنا إلى هذا الشهر وما بعده من الشهور، فإننا نجد الأصناف الثلاثة في هذا الشهر، في تعظيمه أو عدم تعظيمه إما غلواً وإما تركاً أو اقتصاداً وعملاً بالسنة، فالأقسام الثلاثة نجدها متوافرةًُ فيما يتعلق بهذا الشهر -شهر رجب- ثم كذلك ما بعده. فما يفعله بعض الناس في هذا الشهر من الذبح أو ما يسمونه الرجبية والاحتفال والتعظيم بهذا الشهر، والصيام الذي لم يأت فيه نص ولا دليل أو الصلوات المبتدعة، فكل ذلك يدخل في القسم الأول وهو قسم البدع.

ذبيحة العتيرة

ذبيحة العتيرة وقد كان الذبح واتخاذ يوم من شهر رجب عيداً يذبح فيه من شأن الجاهلية، والذبيحة التي كان الجاهليون يذبحونها تسمى العتيرة، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا فرع ولا عتيرة}. واختلف العلماء في ذلك فمنهم من رأى أن هذا ناسخٌ ومبطلٌ لما كان عليه أهل الجاهلية، فبعد أن قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا فرع ولا عتيرة} لا يجوز لأحد أن يحتفل أو أن يذبح في شهر رجب. وقال بعض العلماء: إن النهي إنما هو للوجوب، فيظل ذلك استحباباً؛ لأن أهل الجاهلية -في نظره- كانوا يفعلون ذلك وجوباً ويعظمونه تعظيماً بالغاً. ومنهم من حمله على الكراهة مستدلاً ببعض الآثار أو الأحاديث ولا مجال لتفصيل القول فيها. ولكن القول الصحيح والراجح والذي عمل به الإمام أحمد -رحمه الله- وغيره من السلف المتبعين للأثر والسنة في هذا، هو ترجيح أن ذلك كان من أمر الجاهلية، وقد أبطله الإسلام، فلا يذبح في شهر رجب ولا يعظم، ولا يتخذ يوماً من أيامه عيداً يعظم. ولعل الليلة التي يكثر السؤال عنها والتي يعظمها بعض الناس في هذا الشهر هي ليلة السابع والعشرين منه معتقدين أنها ليلة الإسراء والمعراج، وقد بينا أن هذا من البدع، وأنه لم يثبت، ولم يصح في هذه الليلة شيءٌ يعتمد عليه في تحديد تاريخها، وأنه لو ثبت وصح أنها في ليلة معينة أو في وقتٍ معينٍ بذاته لما جاز أن يحتفل بها؛ لأن ذلك لم يأتِ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أحد من الصحابة. وإنما أحدث ذلك المحدثون في القرون التالية للقرون المفضلة الثلاثة، ثم اختلفوا في ذلك اختلافاً شديداً جداً في تعيينها، وأكثر من يعظم هذه الليلة وغيرها من ليالي الشهر بالبدع هم الرافضة والصوفية، وكفى بذلك زاجراً للمؤمن عن مشاركة أهل البدع في بدعهم وأهوائهم وضلالهم، الذي لم يأت ولم يصح فيه شيء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

صلاة الرغائب

صلاة الرغائب من الناس من يصلي في أول جمعة من رجب صلاةً مخصوصةً ويسمونها صلاة الرغائب. وهذه الصلاة باطلة موضوعة لم تصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الكيفية ولا في هذا الشهر؛ ولذلك يعلل الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى فيقول: لماذا لم ينكر هذه الليلة إلا العلماء المتأخرون كـ ابن الجوزي وأبي إسماعيل الهروي وأمثالهم؟ قال: لأنها لم تحدث إلا بعد الأربعمائة. فهذه الليلة التي يصلى فيها صلاة الرغائب -كما تسمى- لم تحدث ولم تبتدع إلا بعد الأربعمائة، فلم يتكلم فيها السلف الأولون؛ لأنها لم تحدث في أيامهم وكفى بذلك دليلاً على أنها بدعة وعلى أنه لا يجوز لأحد أن يعمل بها. وأما ما تزخر وتمتلئ به كتب الأذكار البدعية من رافضة وصوفية بالحديث عن هذه الصلاة وفضلها ووقتها وكيفيتها، وأنها في هذا الشهر في أول جمعةٍ منه إلى غير ذلك فكله من البدع التي لا أصل لها.

صيام أيام من رجب

صيام أيام من رجب ومما هو منتشر -أيضاً- في شهر رجب، وقد رأيناه ولمسناه بين العامة أنهم يخصونه بأنواع من الصيام، فبعضهم يصوم الشهر كله وهذا منهيٌ عنه، ولم يصم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً بأكمله إلا رمضان، وثبت ذلك من وجوه كثيرة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين من السلف أنهم نهوا أن يصام شهر كله إلا رمضان، وكان أكثر الشهور بعد رمضان صياماً من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة والتابعين هو شهر شعبان. وأما رجب فلم يثبت ولم يصح في صيامه كله أو تحديد أيامٍ منه شيء، وبعضهم يحدد فيجعلها ثمانية أيام، وبعضهم يجعلها اثني عشر أو غير ذلك، وهذا التحديد كله -أيضاً- باطلٌ لا أصل له. ولو أن الإنسان صام الإثنين أو الخميس أو الأيام البيض، أي: صام ما جاء وثبت وصح في رجب وغير رجب فلا بأس بذلك، لكن لا ينبغي له أن يخص رجب -فقط- بأن يصوم هذه الأيام فيه، لأن ذلك -أيضاً- يدخل في شيء من البدع، والإنسان إنما يتبع ويطمع في الأجر والفضيلة إذا كان في ذلك متبعاً وليس مبتدعاً. فهذا -كما قلت- لمسنا انتشاره بين العامة نتيجة لما تأوله بعضهم أو نسبه إلى بعض كتب الفقه أو بعض العلماء ولا مستند لهم في ذلك، والله تبارك وتعالى إنما قال في تعظيم الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] وهذه الآية نستطيع أن نستنبط منها أن المطلوب من الإنسان في الأشهر الحرم أن يعظمها بأن لا يظلم فيها نفسه. بمعنى أن أي عملٍ كنت تعمله في غير الأشهر الحرم من المعاصي أو الذنوب أو الفجور يجب عليك أن تكف عنه في هذا الشهر، وإن كان المطلوب منك أن تكف عنه في أي شهر، لكن في هذا الشهر مطلوب منك أن تكف عنه أكثر، فالطلب منك أقوى والحض أشد. وكذلك لا زيادة في المأمورات، ولكن كل فعلٍ أنت مأمورٌ به في سائر الشهور والأيام، فاعلم أنك في الأشهر الحرم، وكذلك في الأماكن الحرم أو الأماكن المقدسة، مطلوب منك أن تعمله أكثر، بمعنى: أن مخالفتك بترك هذا الأمر في أي شهرٍ، -كشهر ربيع- لا يجوز؛ لأن الله تعالى أمرك به، ولا يجوز أن تخالف أمر الله، لكنك لو خالفت أمر الله في الشهر الحرام لكان ذلك أشد، أو لو خالفت وعصيت أمر الله في البلد الحرام، لكان ذلك أشد. إذاً، لا زيادة في العبادة على ما شرع الله تبارك وتعالى، وإنما المطلوب هو زيادة الامتثال بفعل المأمورات وترك المنهيات، فالمقصود: أي لا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المأمور وفعل المحظور، وإن كان من الفقهاء والمفسرين من حمل ذلك على البدء بالقتال، أي: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال؛ لأن الشهر الحرام كما قال الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217]. وهذا مما اتفق عليه أهل الإسلام وأهل الجاهلية بأن القتال في الشهر الحرام كبيرةٌ وعظيمة من العظائم، ولا يقدم عليها إلا من تجرأ على حدود الله، ولكن المشركين غفلوا عما هو أعظم من ذلك وهو الكفر بالله والصد عن المسجد الحرام. والقول الصحيح في هذه المسألة: أنه يجوز للمسلمين الجهاد وبدء القتال في الشهر الحرام، وقد ثبت ذلك عن الصحابة بما لا يدع مجالاً للشك وهو متواتر تواترا ًعملياً، أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم لم يتحروا أن لا يبدءوا قتال الفرس أو الروم أو غيرهم في شهرٍ حرام وإنما كانوا ينطلقون للجهاد، فأي شهر وافق أو أي يوم وافق فإنهم لا يبالون بأن يتحروا ذلك، وأما القتل أو الظلم أو الاعتداء أو البغي أو العدوان فهذا لا ريب أنه حرام في سائر العام، إلا أنه يتغلظ تحريمه ويتأكد ويشتد إذا كان في الشهر الحرام أو في البلد الحرام. هذه هي القاعدة التي يخرج بها المرء المسلم المتبع لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا، وهذا الذي يجب أن يدعى إليه الناس وأن يحث عليه العامة والخاصة بالنسبة لهذه الأشهر.

بدع شهر شعبان

بدع شهر شعبان وأما شهر شعبان فإن كثيراً من الناس في هذا البلد الحرام، يعظمونه بما لم يعظمه الله تبارك وتعالى به ومن ذلك تعظيمهم ليلة النصف منه، ويزعم بعضهم ويدعي أنها الليلة المباركة التي ذكرها الله تبارك وتعالى في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] وذلك مردود بصريح كتاب الله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]. فدل ذلك على أن الليلة المباركة تكون في رمضان وأنها ليلة القدر، وهذا واضح جليٌ لمن تأمله إن شاء الله تبارك وتعالى. على أن بعض العلماء يصحح في ذلك حديثاً، وهو أنه إذا كانت ليلة النصف من شعبان فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتجلى أو ينظر إلى المؤمنين؛ فيغفر لهم جميعاً إلا المشرك أو المشاحن -أي: صاحب العداوة والبغضاء من المسلمين- وهذا الحديث على فرض صحته وعند من يصححه لا يدل على اختصاص هذه الليلة بنوعٍ من أنواع العبادة، وإنما هذا تفضل من الله تبارك وتعالى وإن ثبت فهو دليلٌ من الأدلة الكثيرة على سعة رحمة الله عز وجل وفضله ولطفه بهذه الأمة. فلم يشرع الله تعالى لنا عملاً معيناً نعمله في هذه الليلة، وإنما يعظم هذا الشهر استعداداً لشهر رمضان، وهذه هي القاعدة نفسها التي ذكرناها، وهي: أن تمتثل أوامر الله من صلاة الجماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل الخيرات والطاعات، وكذلك بترك ما نهى الله تبارك وتعالى عنه. وأما الصوم فقد ثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان أكثر صياماً في شهر بعد رمضان منه في شعبان، فالصيام في شهر شعبان هذا سنة، ومن صام منه ما استطاع فقد وافق السنة -إن شاء الله- وهذا ينفرد به شهر شعبان عن شهر رجب كما أسلفنا.

تعظيم البلد الحرام

تعظيم البلد الحرام نأتي إلى أمر مهم وعظيم في تعظيم شعائر الله وتعظيم حرماته عز وجل، وهو ما يتعلق بالشهر الحرام والبلد الحرام، ونحن -والحمد لله- في البلد الحرام طوال العام، فمما يجب علينا من تعظيم حرمات الله، ومن تعظيم شعائر الله في هذا الشهر أو في هذا البلد ما يلي:

تعظيمه عن الشرك

تعظيمه عن الشرك إن من أول وأعظم ما يُعظم به هذا البلد الحرام، أن يُجتنب فيه أكبر الكبائر وأعظم الموبقات وهو الشرك بالله تعالى، فإنه لا يليق بهذا البلد الطيب الطاهر، وهذا البيت الذي بناه الخليل -عليه وعلى نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الصلاة والسلام- على التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، لا يليق به أبداً أن يحدث فيه محدث، ولا سيما إذا كان الإحداث هو الشرك الأكبر عافاني الله وإياكم. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يحذر في كتابه، ولا في سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذنبٍ أعظم من الشرك، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} [المائدة:72] فهذا هو الداء العضال الذي بعث الله تبارك وتعالى الرسل جميعاً لينقذوا الناس منه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الزمر:65]. فلا يليق بهذا البيت المعظم المطهر أن يحدث فيه الشرك أبداً بأي حال من الأحوال، وقد بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد، وبتجديد ملة إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام، والقضاء على الشرك بكل أنواعه وأشكاله. فمن جاء وأراد أن يحدث أو يعيد معالم الشرك وشعائر الشرك في هذا البلد؛ فقد ضاد ما أمر الله تبارك وتعالى به، وخان الله ورسوله والمؤمنين, وقد تخلى عن ملة إبراهيم الخليل التي أمرنا الله تبارك وتعالى باتباعها، وجاءنا ليجدد ملة عمرو بن لحي الخزاعي، الذي كان أول من سيب السوائب، والذي حرف الناس وأهل هذه الجزيرة من عبادة الله وحده لا شريك له على ملة إبراهيم إلى عبادة الأصنام والحجارة، كما كان يفعل أهل الجاهلية في الأرض، فهذا أول ما يجب اجتنابه.

تعظيمه عن البدع

تعظيمه عن البدع إن البدع هي أعظم المعاصي بعد الشرك بالله تبارك وتعالى، وكفى بها شؤماً، وشراً؛ لأنها ربما أحبطت العمل كله، بل بعضها لا شك أنه يحبط العمل كله، فلا تنفع الإنسان عبادة ولا قراءة ولا ذكر ولا جهاد مع هذه البدع. كما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين وغيرهما في صفة الخوارج أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم}. إن المخاطبين بهذا هم الصحابة الكرام، ومع ذلك فإن قراءة الخوارج، وعبادتهم أشد وأكثر من عبادة الصحابة، أي: أن الصحابة يحقرون قراءتهم وصلاتهم وعبادتهم عندما يرون قراءة الخوارج كما ذكر ذلك أبو سعيد. وكما رأى ذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لما دخل إلى معسكرهم، ومع ذلك فإنهم يمرقون من الدين، بل لا تتجاوز قراءتهم حناجرهم كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك بسبب ما ابتدعوه من البدع، وقد جاء -أيضاً- عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {لا يقبل الله من صاحب بدعة صرفاً ولا عدلاً ولا صياماً ولا صلاة}. فماذا يريد صاحب البدعة بها، إذا كان الله تبارك وتعالى لا يقبل منه شيئاً، ولا تنفعه مهما كثرت ومهما تعبد واجتهد فيها؟! فكيف يجرؤ مبتدع أن يبتدع، ويرتكب هذا الإثم العظيم في بلد الله الحرام، الذي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمه؟!

تعظيمه وتطهيره من المعاصي الظاهرة

تعظيمه وتطهيره من المعاصي الظاهرة يجب تعظيم وتطهير هذا البيت الحرام، وهذه البقعة الطيبة الطاهرة من المنكرات والمعاصي الظاهرة. ونحن نشاهد في الأيام التي يسمونها أيام العطلة أو الإجازة -والتي يتوافد فيها الناس والحمد لله على هذا البلد الحرام- كثيراً من المظاهر التي تدل على أن هؤلاء الناس من المقيمين أو القادمين لا يعظمون شعائر الله، ولا يعظمون هذا البيت كما أمر الله تبارك وتعالى. فبعضهم يأتي إلى هذا البلد الحرام وما يكاد يتحلل من عمرته حتى ينطلق في الأسواق، ويرتع في الملاهي وفي ترك الفرائض، وتبدأ النساء بالتبرج، والتهتك، وتكون من المصائب والأمور ما يضج بها المؤمنون، ويضج منها هذا البلد الحرام. وهذه مأساة كبرى ومصيبة عظمى، مع ما هو معلومٌ من ضعفٍ في الهيئات أو المؤسسات القائمة على الإنكار، لكن يزيد الطين بلة أن تأتي هذه الجموع فتنتشر المحرمات من السفور والتبرج وترك صلاة الجماعة، فترى الناس أكواماً وجماعات حتى بالقرب من المسجد الحرام، وتقام الصلاة ولا يجدون من ينكر عليهم من أهل البلد، وهذه من المنكرات ومن المظاهر الدالة على أن هؤلاء لا يعظمون شعائر الله، ولا يعظمون ما عظم الله تبارك وتعالى. وإنه مما يثير العجب أن يجد الإنسان أن هنالك مظاهر كثيرة كان بالإمكان أن تتدارك، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أننا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، وكل من ذهب إلى الصلاة أمر وحث إخوانه عليها، وكل من كان في السوق وأقفل دكانه أمر ونهى إخوانه -أيضاً- بذلك وحثهم عليه، ولا يشترط أن يكون عضواً في الهيئة كما يتبادر إلى أذهان البعض، بل كل من رأى التبرج أو السفور أو الانحلال أو المغازلات أو ما أشبه ذلك من المعاكسات فإنه يبادر وينكر، لو فعلنا هذه الأمور لأحيينا هذا الأمر العظيم. إن تركنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو -أيضاً- من عدم تعظيم شعائر الله، فيتبلد الحس على المنكرات والمعاصي والذنوب، حتى تصبح مألوفةً نسأل الله العفو والعافية. وأعظم من ذلك وأشد منه، وهو من المنكرات الدائمة في هذا البلد الحرام، في مواسم الخير وفي كل العام، وهو مما يدمي قلوب المؤمنين ويجرح مشاعرهم، ويتنافى مع تعظيم هذا البلد وتعظيم حرمات الله: أن نجد منارات أو علامات أو شعائر ما حرم الله تبارك وتعالى تنتشر في هذه البلدة الطيبة الطاهرة. ومن أوضحها البنوك الربوية التي -كما ترون في هذه الأيام- يكتتب البعض في جلها، ويحذر العلماء وعلى رأسهم سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز -رحمه الله- من هذا الاكتتاب. والواجب في الحقيقة -كما تعلمون- وكما هو ظاهر من فتاوى علمائنا الأفاضل، وهو صريح كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ألا توجد هذه العمارات أو المنارات أو الشعائر -شعائر الضلال والفجور والمعصية- ولا يجوز أن تبقى في هذا البلد الحرام، في أي مكان، وفي أي زمان، فعندما يجد الحاج أو المعتمر أو المقيم أن هذه الأجهزة أو المؤسسات الربوية قائمة في هذا البلد ثم يسكت، فالذي يحدث -كما ترون- أن الناس يألفون هذا المنكر ويصبح لديهم أمراً مألوفاً، ثم بعد ذلك يصبح الإنكار على من أنكره، وهذا بلا شك من عدم تعظيم شعائر الله. وفي الجاهلية -كما تعلمون- كانوا يستحلون المحارم ومنها الربا، ولم يكن العرب-أقول هذا بكل أسف- يعلنون الربا بمثل هذا الإعلان، وبمثل هذا الشكل الصريح الذي يفعله الإنسان في هذا العصر حول بيت الله الحرام، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرفع هذا البلاء عن المسلمين إنه سميعٌ مجيب. ويلحق بذلك مما يتنافى مع تعظيم شعائر الله ما يجده القادم إلى هذا البلد أو المقيم فيه من انتشار أماكن لبيع اللهو والفساد ومشجعات الرذيلة من محلات بيع الأفلام الخليعة الماجنة ومحلات الأغاني. ويعجب الإنسان كيف توجد هذه الملاهي وهذه الدواعي إلى الرذيلة والدعارة والفساد في هذا البلد الحرام، وكيف استجاز أصحابها أن يفتحوها فيها، وكيف استجاز القائمون على الأمر أن يسكتوا عن وجود هذه الأمور. والله إنها لمصيبة عظيمة أن يأتي الحاج من أقاصي الدنيا، وإذا به يجد الأفلام والأغاني التي يراها في أوروبا وأمريكا، تباع بجوار بيت الله الحرام، بل حتى في الأسواق، يعلقون تلك الملابس المتعرية الشفافة التي لمجرد رؤيتها تستثار الشهوة وتستحث الرذيلة- نسأل الله العفو والعافية- وكأنهم في مكان ما غير بلد الله الحرام، وكأن الأمر لا يهم هؤلاء الناس في شيء. فهذه في الحقيقة من المنكرات الظاهرة العظيمة التي تتنافى مع تعظيم شعائر الله، وتعظيم هذا البلد الذي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمه. ومن أكثر ما ينتشر في هذه البلدة الطاهرة -أيضاً- مما يجب أن ينبه عليه من المحرمات الأخرى: الغش في التجارة، الذي استغله كثيرٌ من الناس في المواسم، وفي أيام العطل أو غيرها مما يكثر فيه الناس؛ فيغشون في المعاملات، ويطففون في المكيال والميزان، ويخرجون ويبيعون ما قد انتهى تاريخه من البضائع ولا يتحرجون من ذلك، ويغشون في المساكن وفي أمور كثيرة جداً، ويقولون: هذا موسم! فيقال لهم: من أباح وأحل لكم -بما أنه موسم- أن تفعلوا هذا، وأن تنتهكوا شعائر الله التي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمها، وأن تقدموا على غش إخوانكم المسلمين الحجاج أو الزوار، أو من جاء لتعظيم شعائر الله؟! فأصبح المؤمن يجد الحرج الشديد والكرب العظيم في إنكار المنكرات؛ لأنها من كثرتها تستدعي جهوداً عظيمة وأجهزة متخصصة، وتعاوناً جدياً وثيقاً من طلبة العلم.

واجب الدعاة في البلد الحرام

واجب الدعاة في البلد الحرام وإنني لأنتهز هذه الفرصة بدعوة طلاب العلم، وكلهم إن شاء الله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر كما أمر الله تبارك وتعالىبقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]. فعلينا أن نتعاون جميعاً في كل قطاع وفي كل مجال، نحن وكل من يأتي إلى هذه البلدة فضلاً عمن هو مقيم فيها، في أن ننكر هذه المنكرات جميعاً، وأن نحيي في الناس شعائر الله حقا، ً التي من أعظمها إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الشرك والبدع، وترك المعاصي والفجور، وأن نتعاون على ذلك في كل مكان، والوسائل في ذلك كثيرة ومتنوعة -والحمد لله. فلو تصورنا أن كل إنسان يبيع هذه الملاهي أو يعمل في بنك ربوي، أو يفتتح محلاً للربا أو للحرام في هذا البلد، وكان كل من يمر به من حاجٍ أو معتمر أو زائر ينصحه وينهاه ويأمره، فلا شك أن المنكر سيتغير وإن لم يُزَلْ بالكلية فلا بد أن يتقلص، ولا يكتفى بالإنكار المباشر على أهل هذه المنكرات، بل يجب أن يكتب -أيضاً- إلى من يهمه الأمر بإلغائها وإخراجها من هذا البلد الحرام، فهذه المحرمات لا تجوز في أي مكان، فكيف بها في هذا البلد الطاهر؟! ولابد أن تدعم هذه المحاولات، فعندما جرت محاولاتٌ صادقة طيبة جادة -والحمد لله- من بعض المسئولين في أمانة العاصمة للقضاء على المقاهي أو إخراجها من البلد الحرام، وهي مما لا يليق به ولا بشرفه وفضله تراخى الناس في التعاون، وحدثت ملابسات، وإذا بالأمر يرجع ويعود إلى ما كان عليه، فيأتي الإنسان إلى هذه البلدة الطيبة الطاهرة ويجد المقاهي مفتوحة، والناس يسهرون فيها، أمام التلفاز أو غيره من المنكرات والملهيات، وكأن هذا البلد لا قيمة له، وكأنه كأي بلدٍ من البلدان. فهذا الذي لا يجوز الاشتغال به في أي بلدٍ من البلدان، يعمل في هذا البلد بسبب ضعف التعاون، وضعف الهمة وقلة الإنكار. فلو أن كلاً منا أنكر بما يستطيع كتابياً أو هاتفياً أو مقابلةً، وتعاونا على ذلك لاستطعنا -إن شاء الله تبارك وتعالى- أن نعيد إلى هذه البلدة الطيبة الطاهرة ما أراده الله تبارك وتعالى وما يرضيه من بقائها خالصة له عز وجل لا شرك فيها ولا بدع، ولا ضلال ولا فجور ولا تبرج ولا سفور ولا ربا ولا زنا ولا مخدرات، ولا فواحش ظاهرة أو باطنة، ولا غش في المعاملات. فلابد أن نعظم هذه البلدة، وأن نقيم فيها أمر الله، ونقيم فيها حدود الله عز وجل وأن يشعر الإنسان بمجرد أن يقترب منها من بعيد أنه آتٍ إلى بلد الإيمان، بلد الطهارة وبلد الفضيلة، فيرق قلبه وتخشع جوارحه وتدمع عينه، ويأتي إلى هذا البيت وقد عزم عزماً أكيداً على أن يغسل كل ذنب قد أذنبه، وكل معصيةٍ قد فعلها من قبل، وأن يجدد العهد مع الله عز وجل، وأن يطيع الله ما بقي من عمره. أما إذا جاء فوجد دواعي الشهوة والإثارة وحب الدنيا، والميل إلى ما حرم الله ماثلةً أمام عينيه، حتى داخل المسجد الحرام -كما يقع وكما شكا إلينا كثير من الناس كتابياً أو هاتفياً من هذا الشأن -فإن هذا والله مما لا يجوز أن نسكت عليه أو أن نقره، -والحمد لله- أننا سنجد التجاوب إن شاء الله- وهو موجود، ولكن التجاوب يكون مع مطلب وتحرك من أهل الخير، ومع حثٍ من أهل الفضيلة. ومما يساعدنا -إن شاء الله تبارك وتعالى- على هذا الشيء أن ننشر الكتيب الإسلامي، وأن ننشر الشريط الإسلامي بين الحجاج، والمعتمرين وبين المقيمين، ويبين فيها ما يدل على تعظيم هذا البيت وعلى فضله، وإذا نشرنا بينهم الأذكار الصحيحة استغنوا بها عن الأذكار البدعية، وإذا بينا لهم أحكام هذه الشعائر المكانية والزمانية استغنوا بذلك عن البدع التي هم فيها. والحمد لله أنه يغلب على من يأتي إلى هذه البلاد، أنه يطيع ويسمع ويتقبل، فهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا أمرٌ مشاهد وملموس في الحج وغيره. فإذا نشر بينهم الشريط النافع الطيب، ووجدوا أن في هذه البلدة من يستقبلهم من أهلها، ويهدي إليهم الخير، والنصح والمحبة، فإن هذا مما يفتح صدورهم وقلوبهم إلى الخير، ولو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن كثيراً من دعوات التجديد والإصلاح والتوحيد التي قامت في أطراف الأرض إنما كانت بفضل من الله تبارك وتعالى، ثم بسبب هذا الحج. حيث كان الحجاج يقدمون إلى هذه البلاد، فلما جاءوا بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- فوجدوا شعائر الله معظمة، ووجدوا حرمات الله معظمة، ووجدوا أن دين الله ظاهر، فأخذوا هذا العلم وهذه العقيدة فعادوا بها، فانتشرت دعوة التوحيد في الهند وفي جزر الهند وإندونيسيا وما حولها، وانتشرت في نيجيريا وفي كثير من الدول مثل الصومال وفي غيرها من المناطق، فانتشرت دعوة التوحيد من هذه البلاد انطلاقاً من الحج أو العمرة، من مكة أو المدينة، التي إذا صلحت صلح بقية العالم -إن شاء الله-؛ لأنه كما جاء في الحديث {إن الإيمان ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها}. فيجب أن نحيي هذه الشعيرة، وأن نجعل الإيمان بارزاً ظاهراً، وأما أن يظل كلٌ منا في حدود نفسه، أو يعظم شعائر الله في قلبه ونحن نستطيع أكثر من ذلك فإن هذا مما نخشى أن يعمنا العذاب بسببه؛ لأننا نستطيع أن نفعل ما هو أكثر من ذلك، ونستطيع أن ندعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نقيم الحجة في حدود قدرتنا. إننا لواثقون -والحمد لله- من استجابة الناس في داخل هذه البلدة، أو من القادمين إليها إلى مثل هذه النصائح وهذه التوجيهات، خاصة مع قدوم شعبان ثم رمضان، وهنالك سيكون الزحام وستكون أمور عظيمة، ويليها الحج وما فيه كما تعلمون. فأمامنا الأشهر التي تكون فيها شدة ازدحام هذا البلد، وشدة ظهور كثير من هذه المنكرات في هذا البلد فيجب علينا أن نعد العدة، وأن نبذل الجهد في سبيل القضاء على كل ما يتنافى مع تعظيم هذه البلدة الطيبة الطاهرة، التي جعل الله تبارك وتعالى الذنب أو العمل فيها ليس كغيره، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم ٍ} [الحج:25]. قال بعض العلماء: 'لم يرتب الشرع أو يرتب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-العقوبة على عملٍ بمجرد الإرادة إلا في هذه البلدة، أما في غيرها فإن الذنب إنما يترتب على الفعل لا على الإرادة، ولا غرابة في ذلك؛ لأن الله تعالى اختصها وشرفها بما تعلمون'. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع، وأن يجعلنا ممن يعظم شعائر الله ويحفظ حدود الله، ويقيم دين الله عملاً بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

الفساد في مشاعر الحج

الفساد في مشاعر الحج Q يقول: إنَّ أهل مكة جعلوا عرفة ومنى ومزدلفة محلاً للخروج والفتن والطرب، وفيها أشياء أُخر؟ A في الحقيقة هذا لا يجوز، وهذا مما يتنافى مع تعظيم شعائر الله، وهذا أمرٌ ملموس، وقد خرجت مرةً فعجبت أن عرفة قد أصبحت ميداناً لما يسمونه بالتفحيط، وعلى مشهد ومرأى من المرور، ولا أدري أهو عجز أم ضعف؟! ولكن هذا هو الحال. أما التبرج والفتن والسهر والطرب، فهذا -لا حول ولا قوة إلا بالله- كثير، وبعض الناس يركبون في سيارات الأجرة أو في غيرها، ويذهبون إلى هذه المشاعر ليتعرفوا عليها، والتعرف عليها لا بأس به إذا كان في حدود منضبطة؛ لأن أيام الحج قد لا يستطيع الإنسان أن يتعرف بسبب الزحام، أما أن يكون هنالك من التبرج والاختلاط وربما كانت بعض النساء من غير محرم، فهذه الأمور كلها لا تجوز.

حدود الحرم

حدود الحرم Q ما مدى صحة كون وادٍ في الطائف حرماً، وهل عليه دليل؟ A هذا الوادي جاء عن بعض العلماء وأظنه في مذهب الشافعية أنه حرم، وهذا لا يثبت ولا يصح، وإنما الحرمان فقط هما مكة والمدينة، وحتى بيت المقدس ليست حرماً، وما يقوله بعض الناس عند قولهم: الحرم الإبراهيمي أو الحرم الأقصى هذا من الأخطاء العامة التي درج عليها الناس.

بدع تقترف في المدينة المنورة

بدع تقترف في المدينة المنورة Q ما رأيكم في الآثار التي في المدينة والتي منها ما يزار، وما هي حقيقة المساجد السبعة؟ A المساجد السبعة لا أصل لها فيما نعلم، ولا يجوز أن تختص تلك البقعة بأي نوع أو أي عملٍ من أعمال العبادة، وهذا يدخل في البدع أيضاً. والبدع في المدينة كثيرة جداً -ولا حول ولا قوة إلا بالله- والأماكن البدعية كثيرة كذلك، وكما اقترح الأخ الذي كتب سؤالاً آخر ويقول: لماذا لا تمنع الكتب البدعية للمناسك؟ نعم، وحبذا لو تقوم الأمانة العامة للتوعية في الحج بذلك، بأن تطبع كتباً أو نشرات وتوزع، وهذا -والحمد لله- يحصل، لكن نريد شيئاً مخصوصاً بهذا لمن يدخل المدينة بالذات ليبين له الأماكن التي لا يجوز زيارتها، والتي زيارتها تعد من البدع، ولا يؤجر صاحبها ولا يثاب عليها، وهي كثيرة. ولا نبالي بقول من يقول: دع الناس يطلبون الرزق، كما يقول كثير من الناس، وهذا هو الذي كنا نقابل به في المدينة، أي: من أهل سيارات الأجرة وأهل المطاعم، ممن يطلبون الرزق ويتكسبون بالبدع، وهذا مما لا يجوز. فأقول: لعله -إن شاء الله- أن يكون من الكتب النافعة المصورة ما يوضح -مثلاً- صورة هذه المساجد، وصورة الأماكن الأخرى التي يعظمونها، وهي كثيرة منها ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه، فتحل محل الزيارات البدعية، وفي الوقت نفسه تسحب الكتب البدعية، ويمنع من يسمون المزورين، وهم مزورون -فعلاً- يزورون الحقائق ويجعلون السنة بدعة والبدعة سنة، فيمنع هؤلاء من هذا العمل.

حكم تعطيل شعائر الله للضرورة

حكم تعطيل شعائر الله للضرورة Q هل يجوز تعطيل بعض شعائر الله في بعض الأزمنة للضرورة كما يستدل بعض الناس أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يقم حد القطع في عام الرمادة لما اشتد الجوع؟ A الأصل في شعائر الله تعالى أنها لا تعطل، وحدود الله لا تعطل لكن إذا اقتضى سببٌ شرعي لإيقافها في وقت معين أو عن أشخاص معينين، فما دام السبب شرعياً فلا بأس بذلك، ولكن هذا لا يعد نسخاً ولا يقاس عليه، فإن دين الله قد ختم وأكمل، ولا يحق لأحد أن ينسخه أو يقيس عليه. وما يسمون -الآن- بالمدرسة العصرية الذين يرون إسقاط الحدود في هذا العصر لكثرة الفساد الاجتماعي والاقتصادي، ويستدلون بما جاء في السير عن عمر -رضي الله تعالى عنه- فنقول لهم: هذا قياسٌ فاسد باطل، ولا يصح ذلك.

التوبة

التوبة Q أنا شابٌ منحرفٌ، أريد الاستقامة وهذه أول محاضرة أسمعها، وأول مرة أحضر لدرس العلماء، وأنا أريد أن أتوب، مع أنني قد ارتكبت جميع المحرمات، ولي جلساء لا يخافون الله، كيف أستقيم، وكيف أرجع إلى الله وكيف أترك جلساء السوء؟ وأرجو أن تدعو لي ولمن مثلي! A أولاً: نحتاج الدعاء من الجميع بأن يثبتنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جميعاً على الحق والخير والهدى والاستقامة، وادعوا -أيضاً- لأخيكم هذا، والحمد لله الذي هداه، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدي قلوب جميع شباب المسلمين. ونوصيك يا أخي بالإقبال على كتاب الله، تلاوةً وتدبراً، والإقبال على مساجد الله، والمحافظة على الصلاة فيها، وحلقات الذكر، والانعزال والترك لكل جلساء السوء الذين أشرت إليهم في رسالتك، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أقبل عليه العبد بصدق وإخلاص؛ فإنه يعوضه الخير والأمن والطمأنينة. وكما جاء في الحديث: {لله أشد فرحاً بتوبة عبده إذا تاب، من رجل كان في فلاة، فضاعت دابته وعليها طعامه وشرابه وسقاؤه، فلما رآها قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح}. فالله تبارك وتعالى -وهو الغني عن العباد جميعاً- يفرح بتوبة التائب إذا تاب، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وقد وعد من يتوب ويستقيم بما يغري كل مذنبٍ أن يتوب، فقال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]. فاطمئن يا أخي سيبدل الله تعالى سيئاتك حسنات، إذا تبت وآمنت وعملت صالحاً واستقمت، وأخذت ببعض ما أشرنا إليه من الأسباب التي تعينك -إن شاء الله- على الاستقامة فيما بقي.

من أخطاء غاسلي الموتى

من أخطاء غاسلي الموتى Q هناك انتهاكٌ عظيم لحرمات الله من قبل المغسلين وإدارة شؤون الموتى حيث إنهم يشربون الشيشة ويشاهدون التلفاز بجوار القبور، وينتشلون الموتى قبل الموعد، ولقد رأينا ذلك في بعض منهم، وهم في الغالب من أهل البدع -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فما رأيكم في هذا؟ A هذا والله من العجب! كما عبر بعض الناس وقال: موتى يدفنون موتى، فهم موتى ماتت قلوبهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. نقول: الذي يغلب عليهم كما هو مشاهد لمن خبر أحوالهم، وبلغني من طرق كثيرة أن هنالك طائفةً كثيرة منهم ماتت قلوبهم فدخول الميت وخروجه ودفنه كأنه لا شيء عندهم، ومن المعلوم أن من تعظيم شعائر الله، أن تعظم حرمة الميت، وأن تعظم حرمة المقابر، وإذا كان القلب المؤمن لا يستحل ولا يستسيغ أن يشتغل بالغناء أو اللهو والطرب ومشاهدة التمثيليات في أي مكان، ولو كان في رأس جبل بعيد خارج جزيرة العرب، فكيف تكون قسوة هذا القلب، وغفلته وموته إذا كان يشاهد هذه المناظر، ويستمتع بهذه المحرمات، وهو بجوار أو في داخل المقبرة. سبحان الله تجد منهم من هو جالس فوق المقبرة، والميت في الأسفل، وهذا يشاهد التلفاز في الأعلى، أو ما أشبه ذلك إلى آخر الليل، سبحان الله العظيم، أبلغت بنا الغفلة إلى هذا الحد؟ أبلغ بنا الانصراف عن الآخرة ونسيانها -وكأننا لسنا بميتين ولا محاسبين- إلى هذا الحد؟! أما كفانا أن المقابر لا تزار وأنا لا نعتبر بمن مات! أما كفانا أنا نقصر في الطاعات حتى نرتكب ونجاهر بمثل هذه المحرمات أمام أكبر موعظة، وكفى بالموت واعظاً، فيا سبحان الله، ما أغفل هذه القلوب؟! ثم إن الواجب على المسئولين في أمانة العاصمة، وفي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإمارة منطقة مكة أن يقضوا على هذا المنكر، ومما يعجب له الإنسان أنه -فعلاً- تنتشل عظام ولحوم الموتى، وهم في حالةٍ لو رآها الإنسان؛ ما استطاع أن يراها أبداً، وهذه أمورٌ قد ثبتت عندي، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىأن يرفع عنا البلاء، وأن يرفع عنا هذه الغفلة، وأن يغيث قلوبنا ويوقظها بالإيمان، حتى تعرف قدره وعظمته، وتعظم ما عظم، ولا حولا ولا قوة إلا بالله.

العمل في البنوك الربوية

العمل في البنوك الربوية Q رجل سمع خطبةً في تحريم الربا وهو يعمل في بنك من البنوك، ويقول: بأن له ما يقرب من ثمان سنين وهو لا يعلم بأنه محرم إلا عند سماعه لهذه الخطبة فيسأل ويستفتي ماذا يعمل؟ A قبل الإجابة نقول: كيف يمكن أن يمكث المسلم ثمان سنوات ولم يسمع أن الربا حرام؟! وأن العمل في البنوك حرام، أليس هذا دليلاً واضحاً على تقصيرنا في الدعوة؟! ولا شك أن هذا الرجل مقصر؛ لأنه يعمل ولا يسأل عن عمله، والواجب على الإنسان أن يتحرى الحلال الطيب كما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً} وقال: {كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به}. ولكن -أيضاً- نحن مقصرون؛ لأننا لم نبلغ الدعوة إلى هؤلاء، وهذا لا يعيش في واد منعزل، وإنما الذين يعملون في البنوك هم من إخواننا وقبائلنا وجيراننا وزملائنا، ونستطيع أن نكلمهم وأن نتعرف عليهم، ولو أن كل واحد منا مر ودخل البنك ووعظ، أو نصح أو ذكر أو أعطى كتيبات وبين الحق فإنه سيجد القبول، وأيضاً- نجد أنه يؤخذ منه الكتيب، أو الفتوى من فتاوى العلماء التي يعطيها لهم ليقيم الحجة عليهم، فهذا بالنسبة لواجبنا، أما واجب هذا الأخ الكريم فإنه يجب عليك -يا أخي- أن تجتهد من اليوم، ومن هذه الساعة أن تبحث لك عن عمل، فإن كنت تستطيع أن تعيش من غير دخل هذا البنك، فلتكن استقالتك منه غداً.

الدعايات والإعلانات المعلقة في الشوارع

الدعايات والإعلانات المعلقة في الشوارع السؤال فضيلة الشيخ: ما قولكم في الدعايات التي تعلق في الشوارع؟ A إن ما ذكر في السؤال ليتنافى مع تعظيم شعائر الله، فالدعايات التي تعلق في الشوارع كعطر الأنوثة -التي سماها الأخ- العطورات، والإكسسوارات إلى آخر ما ترون من أمور تتنافى مع تعظيم شعائر الله في هذا البلد، وكذلك المجلات الخبيثة التي تباع في هذا البلد الطاهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه الأمور كلها تتنافى مع تعظيم شعائر الله.

واجبنا تجاه ديننا

واجبنا تجاه ديننا في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله عن قوة المسلمين لما تمسكوا بدينهم، وضعف جانبهم لما تغيرت نفوسهم، وتنكبوا شريعة ربهم، داعياً المسلمين بأن يعودوا لدينهم، وأن يكون العمل على رفعة شأنه هو همهم الأكبر، وأن يزيلوا عنه ما ألصقه به أعداؤه من تهم وشبهات عبر توفير المراكز المتخصصة لتخريج من يدافعون عن دينهم عبر وسائل الإعلام، وعن طريق الدراسة لهذه الشبهات والرد عليها بمنهجية صحيحة وواضحة.

رحمة للعالمين

رحمة للعالمين إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى أرسل محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا العالم الذي كان يموج بالجهالات، والضلالات، والفتن، والبدع، والخرافات، والظلم، واستعباد البشر، والطغيان الذي بلغ ذروته عند بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أرسله الله ليقول للعالم: إن هذا الدين جاء لينسخ ما قبله، وأنه للناس كافة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28]. وليقول لهم: إن الظلم والبغي والعدوان والطغيان وعبودية البشر من الأباطرة والملوك والأحبار والرهبان فكل ذلك قد انقضى زمانه، وولَّى على عقبيه بظهور شمس الهدى والتوحيد، وأعلنها صريحةً للعالم كله، أنه {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله}. أرسله الله تبارك وتعالى ليُحرر البشر من الأغلال التي رانت عليهم، ومن الشهوات التي أبعدتهم عن الله، وأنستهم اليوم الآخر، ومن الضلالات والدجل الذي تعوده قطاع الطريق إلى الله، فإذا أرادت الأمم والشعوب أن تهتدي إلى الله جاء قطاع الطريق ليقطعوا عليهم ذلك وليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، فجاء مُحطِّم الطواغيت صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعلم الناس -جميعاً- أنه لا كرامة للإنسان إلا بالإسلام، وأنه لا خير ولا حرية ولا فلاح للبشرية إلا بالإسلام، وأن كل دين قبله باطل؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. بعثه الله في هذه الأرض التي اختارها واصطفاها منذ أن أرسل إبراهيم عليه السلام وأمره ببناء هذا البيت العتيق، لتكون هذه الأرض مهوىً للأفئدة، مهبطاً للخير والحق، ومنبعاً للنور، ومشرقاً له في أنحاء العالم والمعمورة جميعاً.

هذا الدين

هذا الدين شاء الله عز وجل أن يُحدث احتكاك وصراع بين هذه الحضارة وبين هذا الدين في كل أنحاء العالم، وهذا الدين بفضل الله ومنته هو الحق، إذ كلما غزاه الأعداء قوى واشتد ودخل إلى قلوبهم، جاء أجدادهم الصليبيون وغزوا العالم الإسلامي، وبقي منهم الكثير في بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها مؤمنين بهذا الدين، ومن عاد منهم إلى أوروبا عاد وقد حمل قبساً من حضارة الإسلام، وجاء التتار واجتاحوا العالم الإسلامي، ثم كانت النتيجة أن دخلوا في دين الله أفواجاً، وهم إلى الآن من جملة المسلمين. وفي هذه المرة نرجو الله تبارك وتعالى أن تعود الكرَّة، وأن يغزو هذا الدين قلوبهم، لأنه الحق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها وأن يغزوَ قلوب العالمين أجمعين.

وجوب الدعوة إلى الله

وجوب الدعوة إلى الله هذه الخاصية العجيبة لهذا الدين -وهو أنه يغزو القلوب- لا تعنينا، ولا تعفينا من أن نقوم بواجبنا في نشره والدعوة إليه، والله تبارك وتعالى لو شاء لآمن الناس كلهم جميعاً، ولكنه ابتعث محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرَ خلقه وأفضلهم وأكرمهم على الله- ابتعثه وعانى ما عانى في بدر وأحد والأحزاب، وتبوك، وغيرها لكي يقام هذا الدين وينتشر. فإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك فنحن أتباعه ولا بد أن يكون لنا جهد ودور وبذل في نشر هذا الدين، فصاحب المال بماله، وصاحب العلم بعلمه، وصاحب الوجاهة بوجاهته وكلٌّ بقدر ما أهله الله تبارك وتعالى. فإن الله إنما ميَّزنا وشرَّفنا وفضلنا بهذا الدين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]]، فهذه الشعوب التي جاءت إلى هذه البلاد إنما جاءت من أجل الدنيا، لا تحبنا ولا تعظمنا ولا تنظر إلينا إلا بمقدار ما تنال من كسب مادي في بلادنا، أما ما عظمنا الله وشرفنا به على العالم، فهو هذا الدين الذي لا تملكه أية قوة، ولو أن هذا الدين -بخلوده وعظمته وقيمه- يُشترى بالمال، لاشتراه الغرب، ولاشتراه الأمريكان، أو لاشترته أية أمة من الأمم التي تلهث الآن وتبحث عن مبادئ وقيم تعيش عليها.

نقمة الكافرين على المسلمين

نقمة الكافرين على المسلمين ولكن لما كان هذا الدين من عند الله، ومنعهم الكبر، والحسد، والحقد على هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه من ذرية إسماعيل، واليهود والنصارى حاقدون وناقمون وساخطون على الله عز وجل؛ لأنه لم يبعثه من ذرية إسحاق، فهذه قضية يجب أن نعلمها جميعاً، ولذلك ذكر الله في سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، فهذه ملة الإسلام. ثم ذكر بعد ذلك -مثلاً- للذين من قبلنا -اليهود والنصارى ولا سيما اليهود- وضرب مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، لأنهم لم يقوموا بأمانة الكتاب، فنقل الله تبارك وتعالى النبوة والاصطفاء إلى فرع إسماعيل عليه السلام، فكان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانتقلت الأرض المباركة - أرض الأنبياء - من بلاد الشام إلى هذه البلاد الطاهرة المقدسة، ومنذ ذلك الحين والشرق والغرب يحسدوننا على هذا، كما قال تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109]. وذكر الله تبارك وتعالى هذه العداوة وهذا الحسد، وحذَّرنا منه في آيٍ كثيرة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101]، ويقول عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]، ويقول تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، ويقول تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]،ويقول تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]، إلى آخر الآيات. فالآيات كثيرة جداً، ولعل المقام يطول بنا لو استطردنا فيها وفي تفسيرها، وكلها تدل على أن هذا العالم الغربي ينقم على هذه الأمة. وهو الذي دفع بعضهم -بدون استحياء أو تورع- أن ينشر هذا الدين الممسوخ الباطل في بلاد التوحيد، وعلى مسافة قليلة جداً من بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم عليه السلام ليوحد الله وحده لا شريك له. فلا بد لنا -ونحن على الدين الحق- من أن ندعو هذه الآلاف المؤلفة الذين هم بين جاحد بوجود الله أو عابدٍ للمسيح عليه السلام الذي جاء ليقول لقومه: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [آل عمران:51]، فكل هؤلاء أتوا إلى هذه البلاد، ولتقصيرنا وانشغالنا بدنيانا وإهمالنا لديننا، طمع أولئك المنصرون أن ينصروهم في بلادنا! فتجد أن الذي يأتي من كوريا أو تايلاند أو الفلبين إلى هذه البلاد يظل عشر سنوات أو أكثر ولا يحدثه أحدٌ عن الإسلام ولو بكلمة واحدة! ولكن الأمريكي أو الألماني من الممكن أن يحدثه، عن الإنجيل، والصليب وعن الدين الباطل، الذي لا يجوز أن ينشر في هذه البلاد، ولا في أي مكان في العالم لأن الله تبارك وتعالى أرسل المسيح عليه السلام إلى بني إسرائيل فقط كما قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيل} [آل عمران:49]. وفي الأناجيل الموجودة الآن، أن امرأةً سورية جاءت إلى المسيح عليه السلام، وقالت: 'يا روح الله! اهدني أو علمني، فقال لها المسيح عليه السلام: أيتها المرأة أأنت من بني إسرائيل؟ قالت: لا أنا سورية -الأناجيل تختلف- فقال: إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة'. فهو يقول لها: أنا لم أبعث إلى الفينيقيين ولا إلى السوريين فضلاً عن الروم! ولكن هؤلاء وبعد أن حرفوا دينه، وجعلوه ديناً عالمياً ويُستنفرون في نشره ويبذلون المليارات لمئات الجمعيات بل للآلاف من الجمعيات، وللمعاهد والكليات، والمستشفيات، والمطارات، والمنشئات في جميع أنحاء العالم، فضلاً عن الإذاعات، واستخدام شبكات التلفزيون عن طريق الأقمار الصناعية، كل هذه الجهود لنشر هذا الدين الباطل المحرف، الذي لم يجعله الله تبارك وتعالى ديناً للعالمين في الأصل. ونحن -مع الأسف الشديد، أقولها بكل ألم ومرارة- لم نفعل مثلهم إلا بعض الجهود المباركة -التي سيعزها الله تعالى، لأنه قد تأذن أن يعز من أعز دينه.

الاهتمام بالدعوة لهذا الدين

الاهتمام بالدعوة لهذا الدين إنَّ الواجب علينا أن تكون مراكزنا مناراتٍ عليا في كل بقاع العالم، ونحن أولى بـ اليابان وبـ كوريا وبغيرها من المنصرين الغربيين، نحن أولى بـ الهند، أن تكون كلها مسلمة، تستضيء بنور التوحيد والإيمان، وهذه صفة هذه الأمة، كما قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، ولكنا لما تخاذلنا ووصلنا إلى الصفر، غُزينا في عقر دارنا، وقد قال علي رضي الله تعالى عنه: [[ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا]] وهذا من الذل والهوان، إننا نحتاج إلى جهد جماعي إلى جانب الجهود الفردية، نحتاج إلى الإخلاص، وإلى القلوب الصادقة، إلى التضحية ولو بدرهم ولو بساعة من الوقت لوجهه الكريم وهو الذي يبارك هذه الجهود. ولا شك أن الأمة -في مجموعها- قصرت في هذا الواجب العظيم -الجهاد والدعوة- فاحتجنا إلى أن نأتي بمثل هذه الحلول المؤقتة لأن الأصل أن لا يدخل في جزيرة العرب كافر على الإطلاق، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلاهم وأخرجهم وما بقي إلا قلة من يهود خيبر ونصارى نجران، فأوصى عند موته بأن يخرجوا مع أنهم من أهل هذه الجزيرة وسكانها، وقال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} فأجلاهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم يبق فيها إلا مسلم. حتى إن عمر رضي الله تعالى عنه لما احتاج المسلمون إلى بعض بضائع الروم والقبط وغيرها، جعل لهم ثلاثة أيام يأتون بظاهر الحرة في المدينة، بعيداً عن الحرم، ويبيعون لمدة ثلاثة أيام ثم يرحلون ولا يعطون إقامةً دائمة في هذه الجزيرة؛ لأنها جزيرة الإسلام والتوحيد. فنحن تهاونا بإدخالهم، ثم تهاونا في دعوتهم، ثم أصبحنا في بلد الإسلام نشكو أن مدراء بعض الشركات والمصانع غير مسلمين! وما أوصلنا إلى ذلك إلا ذلنا وضعفنا وهواننا وتخاذلنا - مع الأسف الشديد - وإلا فهؤلاء كان الواجب أن لا يدخلوا أصلاً، فإن دخلوا للضرورة، فبذلة ومسكنة لا أن يتحكموا في نشر دينهم، أو أن يسيطروا على وسائل إعلامية عظيمة جداً، حتى إن الإذاعات باللغة العربية تذيع وتبث على المنطقة في الصباح وأحياناً في المساء رسالة يقرءونها من رجل يقولون: إنه كان طالباً في المدينة، وتعلم فيها ثم انتقل إلى مكة، ثم بعد ذلك تبين له أن هذا الدين باطل -يعني: دين الإسلام- ثم راسل جمعيته وأرسلوا إليه الكتاب المقدس، ثم اهتدى للدين الصحيح، -يعني النصرانية - فيبثون هذا علينا، وغيره من الأباطيل. فلا بد علينا من أن نستفيد من هذه الهمم والجهود، ولا بد علينا من إنشاء المراكز الإدارية التي تدعو للخير، وعلى أصحاب المصانع أمانةٌ كبرى في مقاومة الشر، ونشر الخير بين المؤمنين، فالمسلم يحتاج إلى أن يُعلَّم دينه، لأنه قد يأتي وفيه بعض العادات السيئة والأخلاق الذميمة فيعلم وإلا فلا يصلح أن يأتي إلى هذه البلاد! فالكافر من باب أولى، بل هناك نصوص في تحريم دخولهم، فإذا كان دخولهم مفروض علينا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن لا بد أن نُذكِّر بالأصل. وأن الواجب علينا أن نبذل جهدنا بدعوتهم، وأن نتعاون -جميعاً- في ذلك، وأن نفتح مراكز في شركاتنا ومصانعنا للدعوة إلى الإسلام، وأن نستفيد ممن يجيد التكلم بأكثر من لغة، والحمد لله يوجد في جامعة أم القرى مدرسون وطلاب يجيدون لغات عدة وهم من أكثر من أربعين دولة منهم الإخوة الذين أسلموا حديثاً.

مثال لقوة تأثير هذا الدين في الأشخاص

مثال لقوة تأثير هذا الدين في الأشخاص كان رجلاً يتقاضى شهرياً ما يقارب خمسة وعشرين ألف ريال، مع سكن وسيارة وتهيئة كاملة، كل ذلك ليصبح قسيساً كبيراً في بلادهم -في إحدى جمهوريات إفريقيا الوسطى زائير - ثم شاء الله تبارك وتعالى أن يذهب إلى روما، ليتمكن في الدين أكثر وأكثر، لكنه اكتشف أن الدين الذي هو عليه كذب، وأنها مؤامرات كما ذكر الله تبارك وتعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71]، مؤامرات ضد الإسلام! فرأى أن الكل يعلمون أن الدين الإسلامي هو الحق، وكلهم يعرض عن فكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا ناقشهم فيه وفيما جاء في الكتب عنه يعرضون ويتعجب، حتى اطلع بنفسه على المكتبة القديمة، ووجد الأناجيل القديمة، تصرح بذكر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الله تعالى سيبعثه من أرضٍ ذات نخلٍ بين حرتين، وأن صفته كذا ولونه كذا، وخاتم النبوة بين كتفيه، وأشياء عجيبة جداً، فما ملك إلا أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله في الفاتيكان! ثم جاء إلى هذه البلاد، ويريد أن يتعلم اللغة العربية وهو يعطى الآن مكافأة خمسمائة ريال. لكن الكنيسة لم تتركه، بل أرادت أن تفتنه في دينه بمقارنة حالته الأولى وما كان عليه من النعيم والأموال وحاله بعد دخول الإسلام، لكنه ثابت مقتنع. فهذا عرف الحق لما رأى الدلائل عليه، وما لتلك الدلائل من قوة فقد ثبت على هذا الدين.

من أجل دعم هذا الدين

من أجل دعم هذا الدين وللحاجة الشديدة العظيمة للناس بمعرفة الحق، ولمعرفة صدق نبوة محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأينا أن الواجب علينا أن نسهم بنشر كتابٍ يقضي على شبهات أعداء الله وأعداء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -من أهل الكتاب- قضاءً مبرما، وجواباً محكماً، وهو كتاب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وهو أربعة أجزاء، وقد يصل إلى ثمانية مع الشرح والتعليق، لأننا لا بد أن نتعرض للنصرانية بعد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وحالها المعاصر، وفرقها وما إلى ذلك، فهو عمل ضخم جداً ونريد أن نفرغ له مترجمين يترجمونه إلى كل لغات العالم، إذ لا تكفينا لغة ولا لغتان ولا عشر، لأنههم ترجموا الإنجيل إلى ألف ومائتي لغة، فهو عمل يستقطع من الجهود، والنفقات، والتكاليف، والأعباء الشيء الكثير، فإذا أخذنا نموذجاً واحداً فقط وهو ترجمته إلى اللغة الإنجليزية بعدد لا يقل عن خمسمائة ألف نسخة؛ لأن لدينا أكثر من عشرة آلاف جامعة وكلية في أمريكا وأوروبا، يجب أن يصل إليها الكتاب مجاناً، ولا يقل عن نسختين أو ثلاث لكل منها، فإن المبلغ قد يصل إلى ثلاثين مليوناً! وهذه للغة واحدة فكيف ببقية اللغات؟. فهذه جهود تحتاج إلى عمل، وتضحيات وبذل، وهذا دين الله، وهذه أمانتنا، ويجب أن نضع هذه الأمة أمام مسئوليتها سواءً كانت حكومات أم شعوباً، أم شركات، أم مؤسسات، أم عمالاً، بل أي إنسان مسلم ينبغي أن نقول له: هذا دينك، إما أن تقوم بنشره وبدعمه وبكل ما تستطيع، وإلا فاعلم أنك أخللت بواجبٍ عظيم! إننا لم نخلق لنجمع المال ونشرب الشراب ونطعم الطعام ونترفه كما نشاء، خلقنا لأمر أعظم من هذا كله، فهذه وسائل نعيش بها، لكن خلقنا لنكون داعين إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. فلا يحقرن أحد منا جهده، لا بد أن نتعاون جميعاً، وأن نبدأ بالعمل، -والبدايات دائماً صعبة وشاقة ولكنها بإذن الله هي التي تكسب في النهاية- وهذه الأعمال لها أجر عظيم كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من دعا إلى هدىً فله أجره وأجر من عمل به إلى قيام الساعة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها} نسأل الله العفو والعافية. فنريد -جميعاً- أن نحيي هذه الأمة، ونوقظ فيها روح الإيمان والتضحية، وأن تعرف عظمة دينها وعظمة رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحس أن واجبها كبير، وأنها هي التي ائتمنها الله على هذا العالم بقوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].

إشعال حماسة الدين في الناس أجمعين

إشعال حماسة الدين في الناس أجمعين فلا بد أن نجعل المرأة العجوز، والشيخ الكبير، والغلام الصغير، وكل إنسان في المجتمع يشعر بواجبه كما شعر أجدادنا بواجبهم من قبل، وقبورهم شاهدة عليهم، فهذا أبو أيوب الأنصاري في القسطنطينية، وبعضهم في بلاط الشهداء في فرنسا، وبعضهم في خراسان، فهم خرجوا بأموالهم وأنفسهم يدعون إلى الله، وينشرون هذا الدين، فأعزهم الله وأظهرهم وأورثهم الأرض، وهذا فضل الله القائل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. فلو أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- أرادوا أن يسابقوا الروم أو الفرس في الحضارة والصناعة والتقدم متى يلحقوا بهم؟ لكنهم أتوا من أقصر الطرق، من باب الهداية، فلما أتوهم من هذا الباب أورثهم الله حضارة أولئك القوم، وجاء ملوك الروم والفرس مصفدين في الأغلال مقيدين إلى مائدة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبيداً لهؤلاء القوم، لما قالوا: لا إله إلا الله بحق وبيقين، ولما آثروا الآخرة على الدنيا، جاءتهم الدنيا راغمة، حتى كان الرجل يخرج بصدقته فلا يجد من يأخذها منه. وقد وقع ذلك في أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، لكنا لما أردنا الدنيا، ما استطعنا أن ننافس أمريكا اليوم، أو حتى ولاية من ولاياتها حتى ما عندنا من مصانع وأشياء. ففي الغالب أن كثيراً منها قد استورد استيراداً منهم! فنحن نسابق بطريق طويل، ولدينا طريق أسهل وأقل تكلفة، ولكنه أعز وأشرف وأعظم وهو اللائق بهذه البلاد. لا نقول: أقفلوا المصانع، ولا تأخذوا من الحضارة المادية شيئاً، بل نحن أولى بها، لكن يجب أن نعلم الحكمة من خلقنا، ويجب أن تسخر هذه الجهود وهذه الإمكانيات لخدمة ديننا، ولا نقدم عليه شيئاً، فإذا تعارضت دنيانا مع الدين فإننا نقدم الدين، فالأصل الدين؛ والدنيا تبع له، فإذا كنا كذلك فإن الله لن يضيعنا، ولن يخيبنا، فسوف ننال السعادة والراحة والطمأنينة في الدنيا والآخرة، وأما من أعرض عن هذا الطريق، فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا عنهم فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا ً) [طه:124]، والله إنهم ليعيشونَّ المعيشة الضنك من الجرائم، والمخدرات، والانهيارات، والدمار الخلقي، وما لا يدخل تحت الحصر من سوء الحياة والمعيشة. ثم لنا عليهم الفضل عند الله في الجنة، -وهي أعظم شيء- فالجنة هي الثمرة التي بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه الأنصار ليلة العقبة عنها، قالوا: وما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل، ولا نستقيل، في الجنة موضع سوط أحدنا -كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيرٌ من الدنيا وما فيها، وخير مما طلعت عليه الشمس. نحن الآن نتنافس ونتسابق على مساحة من الأرض قد تكون مائة ألف متر، أو مليون متر، لكن موضع السوط الذي هو خير من الدنيا وما فيها قليل من يتنافس من أجله، نحن الآن نتنافس على المشروعات التي تنتج بعد سنة ربح (20%)، أو (30%) لكن الجنة التي أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها أنها قيعان وغراسها ذكر الله، فإذا قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، كان لك بكل كلمة من هذه الكلمات غرس نخلة أو شجرة في الجنة مثمرة، وليس كزرع الدنيا مع قلة من يشمر لها. ولذلك يقول الله - تبارك وتعالى -: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، فالمال، والمؤسسات، والشركات، والثروات زينة الحياة الدنيا. ثم يقول: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاًً} [الكهف:46]، جاء في الحديث تفسير لمعنى الباقيات الصالحات أنها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهي خير من الملك، والوزارات، والشركات، وخير من الثروات، ولا تتعارض معها، لكن اجعل مع هذا المال الذكر كما أوصى الله تبارك وتعالى وبيَّن في وصية العباد الصالحين الذين نصحوا قارون فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، هكذا ينبغي أن يكون الإنسان المسلم في ماله. وبين في آية أخرى، فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، فالله تعالى لم يُحرمها على عباده المؤمنين، لكن يجب أن نسخرها لخدمة الخير والحق. أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا ممن يعز به هذا الدين، وأن يجعلنا جنوداً لدعوته وخُدَّاماً لدينه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. والحمد لله رب العالمين.

نقاط حول الصحوة

نقاط حول الصحوة تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن أهمية هذه المرحلة التي تعيشها الصحوة الإسلامية، في ظل المتغيرات التي تشهدها الأمة الإسلامية، مبيناً بعض الأسباب التي كان لها دور في التدهور الذي لحق بالمسلمين، وموضحاً ما تبع ذلك من المد الرافضي وأثره على الدعوة الإسلامية، مختتماً حديثه ببيان ما يجب على شباب ودعاة الأمة في هذه المرحلة.

أهمية الموضوع

أهمية الموضوع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا, إنك أنت العليم الحكيم. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهك الكريم. أما بعد: فلا يخفى على أحد أن أمر الدعوة إلى الله هو أهم أمر يجب أن يشغل بال المسلم بعد همه، بأن يكون في نفسه وأهله وخاصته مستقيماً على أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ولا يكون لك ذلك إلا بالاهتمام بأمر هذه الدعوة، وقد كان الإنسان عندما يتحدث عن أمر الدعوة, إنما يريد المحيط الذي يعيش فيه -المسجد وما حوله- ولكننا في عصر أصبح الكلام فيه كلاماً عن الواقع العالمي كله شئت ذلك أم أبيت. إن الأحداث العالمية أصبحت تترابط, وإن الواجب الكبير الذي غفلت عنه الأمة الإسلامية بالنسبة للدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليحتم على كل من يستطيع ولو بشيء من التذكير أن يقوم بهذا الواجب, ومن هنا فإن طابع الحديث عن المرحلة المعاصرة للدعوة، سيكون طابعاً شمولياً لا يتحدث عن بيئة معينة، ولا عن وضع بذاته. وإنما ننطلق جميعاً من أسس واضحة، وحول قضايا عامة لا تهمنا وحدنا بل هي الآن وحتى هذه اللحظات محل دراسة الشرق والغرب، ومحل اهتمام كثير ممن نعلم ومن لا نعلم. ونحن وإن كنا -شباب الإسلام- في غفلة عما يراد بنا وعما يخطط لنا, فإن العالم من حولنا ليس غافلاً عنا, وإنما نحن نعتصم بحبل الله ونحن نتوكل عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونحن كلنا نثق بأن الله سوف ينصر هذا الدين, ويظهره على الدين كله ولو كره الأعداء من الكافرين والمنافقين والمجرمين والمرجفين. هذه المرحلة التي نعيشها وتعيشها الدعوة هي أخطر مرحلة مرت بها في التاريخ الحديث. ونحمد الله أن تاريخنا دائماً مرتبط بالدعوة، فإن افتتاح الدعوة في العصر الحديث يبدأ بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ويبدأ تاريخنا الحقيقي في حياتنا كلها دائماً بالدين والدعوة وبتاريخ الإنسانية وبآدم عليه السلام، وهو نبي من عند الله، وكان على التوحيد هو وأبناؤه عشرة قرون, ثم الأب الثاني نوح وهو أول الرسل, ثم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يبتدأ تاريخ هذه الأمة به.

مرحلة مهمة في حياة الدعوة

مرحلة مهمة في حياة الدعوة ونحن في عصرنا الحديث يبتدأ تاريخنا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، إلا أن الحقبة المهمة جداً التي يجب أن نتعرض لها ونكثر الحديث عنها -وكم يضيق الوقت دائماً عن استكمال جوانب مهمة من مثل هذه الموضوعات- هي الحقبة التي نعيشها الآن، والتي نرى آثارها في واقعنا المعاصر ونسمع أصداءها, بحيث إنك لو قرأت مجلة أو جريدة أو فتحت أي إذاعة في هذه الأيام تجد ما يدلك على هذا. هذه هي مرحلتنا، ولحساسيتها ولقلة الكلام فيها يجب على من يستطيع أن يبين ولو شيئاً من المعالم حتى يبرأ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه قد قال، أو أنذر، أو حذر. ونحن -أيها الإخوة- نعيش بلا ريب صحوة إسلامية مباركة, وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل المعايير وبكل الموازين مهما تكالب الأعداء فهي يقظة عجيبة, وهي رجوع لم يكن أحد يتوقعه ولا يحسب حسابه, وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وللبداية الحقيقة لتقريري هذا أفصل في هذه الصحوة المباركة:

حرب 67م آثار ونتائج

حرب 67م آثار ونتائج نبدأ من نقطة مهمة، حيث لا يجوز أن نغفل عنها، وهي الهزيمة التي حلت بالأمة العربية بعد العدوان اليهودي عليها في حرب صفر عام (1387هـ) أو ما يسمونه حرب يونيو (1967م) أو نكسة حزيران, أو النكبة، وغيرها من هذه المصطلحات. المهم بعد هذه المعركة بدأت هذه المرحلة, وهنالك سقطت الأصنام وانكشفت الجيوش, وهنالك حطمت التماثيل التي ضل الناس يقدسونها ويعبدونها ليل نهار، كـ الاشتراكية، والقومية، والمزاعم التي جعلت الإسلام يقترن بالرجعية في أذهان أكثر الأمة. فمكر الليل والنهار الذي كان يعمل دائماً حتى أوصل إلى القروي والفلاح، وإلى الرجل الذي في البادية أن الإسلام رجعية وتأخر، ولكن حلت الهزيمة وكانت معها اليقظة، وهذه سنة الله تعالى في هذه الأمة، فقد تعرضنا لذلك في محاضرات سابقة وقلنا: عندما تسقط الأمة إلى القاع تبدأ في الارتفاع، وهذه السنة في الحروب الصليبية وفي هجمة التتار، ثم في هذه الهجمة الجديدة استيقظ المسلمون -والحمد لله- وبدأت التباشير في الدعوة إلى الله تعالى من كل مكان. فكانت العودة في أول أمرها عامة مجملة, وهذه الكتب بين أيديكم التي ألفت في تلك الفترة تتكلم عن الإسلام في عمومه, وتتحدث أنه لا خلاص للإنسانية إلا بالإسلام، وأنه لا حضارة تعادل حضارة الإسلام، وأنه يجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الإسلام، وبعد ذلك لا تدخل في التفاصيل في الغالب، إنما هي دعوة عامة إلى إسلام عام لأن المرحلة مرحلة بدائل، أهي الاشتراكية التي طبلوا وصفقوا لها طويلاً أم هو الإسلام؟! فكانت الدعوة في تلك المرحلة تنادي بالإسلام مجملاً دون تفصيل، ولعل هذا يفسر ولا يبرر أبداً الضعف العلمي الذي انتاب الدعوة تلك الفترة, فكان علماء الدعوة أعني على مستوى العالم الإسلامي كله, وإلا فالحمد لله في هذه البلاد علماؤها كما ترون بقية من السلف ادخرهم الله تبارك وتعالى بفضله وكرمه ومنَّه لنا، وهذه نعمة من الله، ولكن على مستوى العالم، الضعف العملي بادٍ فيهم, فالشباب يتلقى أموره الدعوية من مشايخ ومن دعاة, ولكنه إذا أراد أن يستفتي، أو أن يبحث عن أمر فقهي، أو أي حكم شرعي, فإنه يذهب إلى العلماء الذين يعادون هذه الدعوة, أو من يسمونهم علماء، وهم ليسوا عند الله تبارك وتعالى كذلك، وهذا الضعف -مع الأسف- لم يتنبه إليه, ولم يتلاف بل أثمر وأنتج في الزمن الذي بعده، وأعقب نوعاً من الانتكاسة، وأمراضاً يجب أن تستأصل, ولعلنا نأتي للحديث عنها فيما بعد إن شاء الله. فكانت البداية عامة مجملة ثم جاءت أحداث عظيمة، وأراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهز الأمة هزاً عنيفاً قوياً, وكان الحدث الكبير -إن صح التعبير- هو ثورة الرافضة.

الأحداث المتوالية على الأمة الإسلامية

الأحداث المتوالية على الأمة الإسلامية الحدث الأول: الذي حدث هو: ثورة الرافضة التي لا يخفى عليكم الزخم الإعلامي الهائل عند قيامها، وكانت امتحاناً عسيراً وصعباً في مقدرة الدعوة الإسلامية على مواجهة الحقائق, وغض النظر عن العواطف والانفعالات, ولم يصمد أمام هذه العاصفة الهوجاء إلا قلة قليلة ممن كانوا يعرفون منهج السلف الصالح ويتبعونه، ويزنون كل حركة وفرقة بميزان السلف الصالح. انساقت الدعوة الإسلامية كلها -تقريباً- بزعمائها ودعاتها وراء تأييد هذه الحركة. وليس المقصود أن نتهم ولا أن نجرح أحداً, بل المقصود أنها مرحلة مرت, ولكن يجب أن نأخذ منها من العبر. هذا هو المهم, وأرجو أن يُفهم ذلك إن شاء الله فقد كان امتحاناً عسراً، ولم تكتشف لكثير من علماء الإسلام حقيقة هؤلاء. والعبر التي كان يجب أن يتنبه لها من أول الأمر لم تكتشف إلا بعد سنوات -مع الأسف- بل لا يزال بعضهم إلى هذه اللحظة لم ينكشف له هذا الزيف، وهذه هي المصيبة في الواقع. فالتآمر المجوسي اليهودي النصراني الشرقي والغربي على السنة وعلى أهل السنة وعلى الإسلام الحقيقي، لا تنسي هذه المعركة وهذا التآمر في زحمة وعنفوان العاصفة الهوجاء، فالأمر لم يتبين على الأقل، ولم يبحث، ولم يتأمل فيه, وهي مشكلة تعاني منها الدعوة، وللأسف أقول: ولا تزال. الحدث الثاني: ثم كان الحدث الآخر وهو: دخول الشيوعيين المجرمين واحتلالهم لأرض أفغانستان مقبرة الغزاة. ولا نعني بها أن الروس احتلت دولة إسلامية فقد احتلت بلاداً غيرها. لكن الذي حصل في القضية الأفغانية: هو أن الأمة لأول مرة يرتفع فيها صوت ينادي بكلمة الجهاد لأجل إعلاء كلمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قبل ذلك لم نكن نسمع ذلك, بل كان عندنا منظمات التحرير, والمطالبة بالاستقلال، لكن الكلمة الشرعية لا تراد ولا تسمع، والهدف الشرعي لا يراد ولا يسمع, ولذلك تجاوبت الأمة شرقاً وغرباً لكلمة: الله أكبر، ولكلمة الجهاد، وإذا بها تلتف بها من كل جهة، بمشاعرها وبعواطفها، وتفوق كل التوقعات, وهذا أيضاً له جوانب إيجابية ولكنه في الوقت نفسه استدعى من أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تخطيطاً دقيقاً عميقاً. أما المسلمون فكانوا منبهرين من غضبة العاصفة، ولم يحسبوا حساب كل مرحلة، ولم يحسبوا أن القوى الخبيثة تراقب هذا التوجه، وماذا تريد منا بعد ذلك؟ وهل تريد -فعلاً- أن يقوم في هذا البلد أو أي بلد دعوة إسلامية جهادية نقية؟! هذه أسئلة نضعها أمام الإخوة الكرام الدعاة. الحدث الثالث: ثم كانت بعد ذلك المآسي الدامية التي حدثت في بلاد الشام من تدمير مدن السنة الكبرى حماة وطرابلس ومخيمات الفلسطينيين في لبنان , وهذه لم تدمر نتيجة أهداف عارضة عابرة، وإنما لأنها التجمعات الكبرى السنية ولأنها مرتكز أهل السنة , ولأن العدو يخطط تخطيطاً بعيداً, فهو يخطط وأمامه خارطة الحروب الصليبية, أمامه أحداث التتار, وأمامه ما جرى أيام الدولة العثمانية!! وهو يعرف العدو الحقيقي، ويعرف أين يضرب، ومتى يضرب، وكيف يضرب, لكن -مع الأسف- أقول: إن العاطفة، لا تزال هي التي كانت بمواجهة هذه الأحداث, وأضعنا فرصة ذهبية كبرى لا تعوض في تلك المرحلة، إذ كان بالإمكان لو أن معيار المواجهة دائماً هو معيار أهل السنة والجماعة , ومنهج السلف الصالح لتحولت المعركة تحولاً جذرياً في تلك المرحلة, ولكن قدر الله وما شاء فعل، كان في الإمكان أن نقول: إن المعركة بين السنة وبين الباطنية , ومهما قيل عن أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذين ذبحوا أهل السنة فإن أحداً لن يستطيع أن يقول فيهم أو يدمرهم ويفقدهم شرعية وجودهم، كما كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية قبل قرون. إنها فتوى شَيْخ الإِسْلامِ في النصيرية , لو أن الأحقاد المذهبية والتعصب لم يحل بينها وبين الناس, ونشرت في عامة الناس في شرق العالم الإسلامي وغربه، ووظفت لخدمة تلك المعركة، وتلك الأحداث لتغير وجه المعركة، ولتغير وجه التاريخ ولما كانت النتيجة تدهوراً هائلاً, الله أعلم متى تجبر هذه المصيبة، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفرج عن المسلمين، ويجبر مصائبهم دائماً إنه سميع مجيب. إنما العبرة من هذه المصيبة لا تزال، وهي أننا لأسباب -لا نريد التفصيل فيها- لم نستطع أن نوظف الموقف الذي وقفه علماء أهل السنة في الماضي، بل انشغلنا به في زحمة وخضم المعركة. إن المنهج السليم هو منهج أهل السنة والجماعة , وإن المعيار في الحكم على أي أحد هو معيار أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يرجعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ليس المقياس مقياس أرض فرط فيها، أو خيانة سياسية أو عسكرية، إن هذه الخيانات أعراض لمرض أساسي وهو فساد الاعتقاد. ومهما استطعت أن تقنع الناس بما في خصمك من فساد, فإن ذلك لا يغني شيئاً عن أن تقنعه, وتبين له, أنك أنت على الحق وعلى المنهج الصحيح السليم الذي لا ينحو صاحبه في الدنيا ولا في الآخرة إلا به, وهذا هو خلاصة دعوة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، فالأساس في الدعوة هو التركيز على أن هذه الدعوة هي مناط نجاتك أنت أيها المدعو كائناً من كنت في الدنيا والآخرة. وأن الالتزام في هذا المنهج نصر في ذاته, فالتمسك بالحق، والتمسك بدعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما كان عليه أصحابه هو نصر، بل هو أعظم النصر بغض النظر ِعن أرض خسرناها، أو شهداء قدمناهم، أو معركة نكسبها أو لا نكسبها، هذا هو النصر ولو أشعرت الأمة بذلك وأنير لها الطريق, لكان الحال غير الحال. ثم قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتلاحقت الأحداث فيما بعد حتى كان الحدث الذي أربك الشرق والغرب، ونقول -مع الأسف-: إننا لم نقدره كما ينبغي حتى اليوم, وكان الواجب علينا أن ننظر إليه النظرة الشمولية التي تجعلنا نوضح ونفيد من كل حدث، لأن هذه أقدار من الله يسوقها لنا ونحن لا ندري, ثم نضطرب كيف ننزلها في معركتنا، وهذا من العجب! الحدث الرابع: وهذا الحدث هو ما يسمى بالانتفاضة، وهي بسيطة جداً بالنظرة التاريخية, وبالنظرة العسكرية والمادية, فالمسألة أن أطفالاً صغاراً يحملون الحجارة في مواجهة دولة يؤيدها الشرق والغرب بالإجماع، كما قال جوربا تشوف في كتابه إعادة البناء ' إننا أول من اعترف بإسرائيل، ونحن الذين أنشأناها '. لا حاجة للكلام عن أمريكا ودعمها السخي لإسرائيل، فالشرق والغرب كله كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] كل الشرق والغرب مع هذه الدولة أو الدويلة وكنا نسميها عصابة حتى صارت إسرائيل الكبرى التي تملك الآن عشرين قنبلة نووية -هذا هو المعروف دولياً- ونحن لا ندري كم الطائرات التي تقاتل على أبعد مدى كالتي ضربت في تونس على بعد آلاف الأميال, وهددت بالضرب في كراتشي أو في إسلام أباد إن صُنعت قنبلة نووية في باكستان والتي ضربت العراق، فالمنطقة كلها تحت رحمتها. وبالنظرة المادية المجردة فإنه لا يضرهم أطفال الحجارة، وهذا ما لم ننتبه له نحن، ولكن الشيطان يؤز أولياءه ليعرفوا خطر هؤلاء. فالقضية ليست حجراً يواجه دبابة ولا صاروخاً ولا سيارة مصفحة؛ فليست هذه هي المسألة، فإن الصواريخ وطائرات الميج, التي كانت الإذاعات تغني "طائرات الميج تتحدى القدر" التي كانت مرتبطة بـ الاشتراكية والقومية والزعامات الشخصية لم تغنِ عنهم شيئاً، بل خانتهم أحوج ما يكونون إليها، أما الحجر فقد خرج من المسجد وانطلق بكلمة: الله أكبر, هذا هو السر, وهذا هو الخطر, مع أ، الحجر لا يحمل رءوساً نووية قطعاً, وليس فيه مواد كيماوية، فهو حجر فقط، لكن العالم كله انتفض وانزعج منه، بل صرح الرئيس الكاثوليكي المتعصب ميتران بأن خطر الانتفاضة قد يعم المنطقة كلها بوباء التعصب الديني سبحان الله!! هذا هو الذي أفزعهم ونحن لم نقدر هذا, ونحن لما رأيناهم انتفضوا واهتزوا -أي: الغربيين- بدأنا نفكر لماذا هذه الانتفاضة يخافون منها إلى هذا الحد؟ وهم الذين أشعرونا أنها خطر وليس الخطر في الحجر، ولكنه من كلمة: الله أكبر وفي المسجد. إن هذه الأمة لو عادت إلى أصولها، وإلى كتاب ربها وسنة نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو جاهدت من أجل لا إله إلا الله وإعلاء كلمة الله، فمعنى ذلك تقويض الشرق والغرب، حتى يخسر موقعه، ولهذا كانت الآثار العالمية التي قد لا يصدق بعضهم أنها مترتبة ومبنية على آثار الجهاد الأفغاني، أو على آثار حركة الانتفاضة الفلسطينية وغيرها، كانت هذه المرحلة التي تسمعون عنها هذه الأيام -وما زلنا- هي من أشد مراحل الوفاق، هذا الاتفاق الدولي الكبير، حيث اتحد الشرق والغرب، وتوحدت ألمانيا ليلة عيد الفطر، وأول قرار يتخذه البرلمان بعد توحيده هو إدانة النازية واتهامها بدماء اليهود، فلهذا اتحدت أوروبا الشرقية من أجل إثبات أن النازية مدانة، ولأجل أن تتحمل ألمانيا شرقها وغربها الميزانيات والمليارات لإمداد اليهود، دفعاً لديات الذين قتلوا منهم، مع أنه قد قتل من الأوروبيين في الحرب العالمية أكثر من (60 مليوناً) ولم يدفع ديتهم أحد، حتى افتعلت معارك مع المقابر من أجل إحياء النعرة الدينية، ومن أجل توظيف الصليبية ضد العالم الإسلامي. في ليلة عيد الميل

كيفية مواجهة الحروب

كيفية مواجهة الحروب

واجب الشباب في المواجهة

واجب الشباب في المواجهة ويهمنا أن نتعرض إلى ما يجب علينا نحن شباب الإسلام، ودعاة الإسلام في هذه المرحلة:- أول ما يجب علينا -وقد رأينا أثره في كل الأحداث- هو الاستقامة على ما كان عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، هذا الذي به تنتصر الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وهي سفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها غرق، وهي ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه اعتقاداً -وهو أهم شيء- وقولاً وعملاً، وإقامة لأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل شيء، والتحاكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى سنته وشرعه في كل أمر: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. ومن أخطر أعداء الصحوة واليقظة الإسلامية -شعر أو لم يشعر- هو الذي يريد أن نلتزم منهجاً غير منهج أهل السنة والجماعة وغير منهج السلف الصالح وغير منهج ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، هؤلاء يجب أن نحذرهم بالأساليب المتنوعة بحسب ما نعلم من مقاصدهم وأغراضهم، ولكن في الجملة يجب ألا نستمع لهم أبداً مهما زينوا ومهما زخرفوا، لأنهم بهذا العمل سيفقدوننا. والحقيقة -ونعيدها هنا- أن المعارك السابقة كانت معركة غالب ومغلوب، منتصر ومهزوم، إلا المعركة الحالية فهي معركة وجود أو لا وجود، ومن هنا فالاستماتة فيها لا بد أن تكون نهائية، وليس غريباً ولا خفياً ولا سراً أن تعلموا أن الغرب يخطط بجد وبوضوح للتدخل في الوقت الذي يراه ضرورياً لاحتلال أي بقعة من العالم الإسلامي، لا سيما ما كان مجاوراً لدولة اليهود، وأكثر من (250 ألف) جندي أمريكي يتدربون على حرب الصحراء. وقد ذكروا وأعلنوا أن الإنزال الذي تم في بنما إنما هو بروفة لأي إنزال عسكري سريع في أي بقعة من العالم، فالمعركة جدية، ولن ننتصر فيها إلا بالاعتصام بحبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتمسك بهذا الهدى، وهذا يقودنا إلى النتيجة الثانية.

حقيقة الحرب مع الغرب

حقيقة الحرب مع الغرب وهي أن المعركة ليست معركةً مع دولة، أو جماعة، أو حزب، أو أشخاص، بل المعركة مع الأمة الإسلامية بكاملها، ولذلك يجب علينا أن نبعث الأمة الإسلامية بأكملها، ولو استيقظت الأمة فلن يقف في وجهها -ولله الحمد- أي قوة من القوى. وإن مما أفزع الغرب وجعله يعيد النظر في حساباته هو مظاهر الصحوة واليقظة التي أخذت طابعاً شعبياً وجماهيرياً، -وكما يقولون- أقظّت مضاجعهم، فالدعوة الإسلامية في الجزائر عندما أخرجت مئات الألوف من النساء والرجال يطالبون بحكم الله، وبتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو أتيح للبلاد الأخرى مثل ما أتيح في الجزائر لكانت المطالبة مثلها أو أشد. إذاً: هذه قضية أساسية، يجب أن نوظف ونجند الأمة كلها، ويجب أن نخرج من القوانين الجامدة والتقوقع والنظر الضيق إلى مرحلة يواجهنا فيها الأعداء مواجهة شاملة عامة. فيجب على كل دعاة الإسلام أن يلتفوا أولاً: حول المنهج -كما قلنا - في الفقرة الأولى. وثانياً: أن تكون لهم جهودٌ موحدة، وأن يقدروا الموقف حق قدره، وألا يضيعوا هذه الفرصة ما دامت الأمة؛ والحمد لله عروقاً تنبض، ومادام عندها هذا الاستعداد لأن تستثار، ولتوظيف الحماس والاندفاع في الأمة وفق المنهج العلمي الصحيح.

الخلافات الداخلية مصالح شخصية

الخلافات الداخلية مصالح شخصية وهنا نعود إلى قضية العلم الذي ذكرناها فيما مضى. أليس من المؤسف جداً أننا ما نزال -نحن دعاة الإسلام- نختلف حول قضايا الأسماء والصفات؟ وحول القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ سبحان الله قضايا انتهي منها!! وقضايا إجماعية لا تحتمل النقاش، فيها اتباع أو ابتداع، ولا تحتمل نقاشاً ولا جدلاً، ومع ذلك ما نزال نسمع من بعض الدعاة من يدافع عن التأويل، ويدافع عن التفويض لأنها عقيدة شيخه أو إمامه أو طائفته، سبحان الله!! فيجب أن نترفع عن مستوى هذه الخلافات، وأن نعد لمواجهة شاملة وعامة، ولن ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها إلا بعودة صادقة إلى ما كان عليه السلف الصالح في الإيمان، والاعتقاد، والعبادة، وفي حب الشهادة في سبيل الله؛ وترك وكراهية الدنيا إذا أغرتنا الدنيا وأغفلتنا عما يقربنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولذلك فالعلم الشرعي مطلوب، ولن يقود الدعوة في مرحلتها المعاصرة إلا علماء ربانيون، أما قيادات المحترفين بالسياسة فقد انتهى دورهم، والأمة لن تسلم لهم الراية.

الخطر القادم

الخطر القادم الأمر الرابع: أن نحذر الفخ الجديد الذي ينصب الآن لاحتواء الصحوة الإسلامية، ويجب أن نقول ذلك، ولقد تعرضت في محاضرة سابقة كان عنوانها العلمانية في طورها الجديد لهذا الاتجاه ولخطره. ففهمت على أننا نتعرض لبعض الدعاة، سبحان الله!! يا قوم! أنتم في وادٍ ونحن في وادٍ، والمسألة أكبر من أن فلاناً ذكر فلاناً أو علاناً والمسألة أكبر من أشخاصنا جميعاً، والمسألة أن فخاً كبيراً ينصب فيه شراك وتوضع لاحتواء هؤلاء الشباب، وليست المسألة دفاعاً عن فلان ولماذا يذكر فلان؟! وأضرب مثالاً للكلام على الأشخاص: الأستاذ محمد قطب حفظه الله وجزاه الله خيراً على ما كتب، وقدم، وعلى جهده وبذله، أُلف كتاب في الرد عليه وسمي باسمه الصريح في أكثر من مائة موضع، وطبع بآلاف النسخ، ولم يتكلم أحد ويقول: لماذا يتكلم في الدعاة؟ فلما أحرجنا أن نسمي بعض من ينطبق عليه هذه الأوصاف وذكرنا منهم فلاناً وفلاناً والله المستعان. ومع ذلك فنحن نعاهد الله على ما بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه عليه؛ بأن نقول كلمة الحق ولا نخاف في الله لومة لائم، ونعوذ بالله أن يكون لنا في ذلك حظ أو مطمع شخصي كائناً من كان، نقول: هذا الفخ الجديد ينسج بأيدٍ بعضها أيدي دعاة يشعرون أو لا يشعرون، وبعضها بأيدي مجرمين وهم الأساس، والمهم أن الغاية والهدف من ذلك هو أن تضيع هذه الصحوة، ويتشتت طريقها وتضل سبيلها. ولذلك من يشارك الأعداء في هذا الهدف -بغض النظر عن نيته وهدفه- يجب أن نقول: أخطأت، ويجب أن نقول: لا، ولن نوافقك على هذا، لأننا الآن في مرحلة؛ اليوم الواحد فيها يجب ألا نضيعه، بل ولا دقيقة واحدة، إن الزمن يتسارع ويتقارب والأحداث تتلاحق، ومن العبث أن نضيع أوقاتنا في أن فلاناً تكلم في فلان أو أن فلاناً ذكر فلاناً فالمسألة أكبر من ذلك.

ندوة حول العالم الإسلامي

ندوة حول العالم الإسلامي وبهذه المناسبة أقرأ لكم بعض ما وقع في ندوة كانت في الجزائر بعنوان (ندوة حول قضايا المستقبل الإسلامي) ولاشك أنه أمر يفرح ويسر أن تناقش قضية مستقبل العمل الإسلامي، ويعلم الله أنني فرحت وسررت أن هذه الأمور تناقش على مستوى الدعاة في مرحلة خطرة، وهم يرون الخطر يحدق بهم من كل مكان. وكانت الندوة بعد محاضرة " العلمانية في طورها الجديد" بأكثر من شهرين، وسوف أنقل ما كتب عن هذه الندوة في جزيرة الشرق الأوسط العدد (194) تاريخ (28/شوال) (23/ 5م) يقول صاحب المقال: 'في هذه الجلسة التي ترأسها الدكتور حسن عبد الله الترابي -ثم يستمر في الحديث ويقول:- أولاً الدكتور فتحي عثمان يتحدث عن التجربة الإسلامية المعاصرة، والخطة التي تراد لمستقبل الدعوة الإسلامية والعمل الإسلامي -ثم ذكر الدكتور فتحي عثمان كلاماً طويلاً. وملخص مداخلته هو الدعوة المسددة لعقلنة المشروع السياسي للحركة الإسلامية -يريدون بـ العقلانية والعصرانية معانٍ أخرى لا تخفى عليكم- وجعله يسير في الأرض وإفادته من كافة التجارب الإنسانية، فلا تقول: إن منهج أهل السنة يفيد من دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، لا، بل وتحقيق الاستفادة من شعبية الحركة وإيجابيتها والنضال السياسي -خاصة في قضية أفغانستان وانتفاضة فلسطين - إضافة إلى المرونة والمعاصرة التي أثبتها في مواقف كثيرة، ويعول الدكتور في نجاح خطته على ظروف الاستقرار الأيدلوجي التي تسود العالم بصفة عامة، والاتجاه إلى الواقعية والاعتدال في العالم العربي خاصة -إلى أن يقول:- وعلى الرغم من ذلك لا بد من التحذير من تجذر النزعة الصفوية التي تظهر بين الحين والحين' أي: التي يطالب بها الدعاة المخلصون للتمسك بالعلماء ومنهج أهل السنة. يقول طارق البشري: 'فيما ذكره الدكتور فتحي عثمان هو التردي والتراجع للعلمانية والقومية، ومرد ذلك هو التأثر بالصراعات الدولية، وفي اعتقادي أن هناك تياراً اصطلح على تسميته بالعلمانيين الوطنيين، هذه المجموعة التي يجب أن نهتم بها ونتعاون ونتحاور معها، لأن العلمانيين فيما مضى وقعوا في أكبر أخطائهم وهي معاداة الحركة الإسلامية، وإنكار بعض الأمور الثابتة للمجتمع -مثل العقيدة- أما هؤلاء العلمانيون الوطنيون فإني أدعو إلى اقتراح السبل الكفيلة بهندسة الطريق، للاستمرار في مسيرتهم التي لا تضرنا كثيراً، وكذلك إخواني المفكرين'. فهل لا حظتم من أين يأتينا الخلل؟ ففي الوقت الذي سفطت فيه الشعارات الزائفة كـ الاشتراكية والعلمانية، والشعوب بالملايين تتحرك في الساحة تنكرها، وتطالب بالإسلام مجرداً عن هذه الشعارات، وإذا بهم يقولون العلمانية الوطنية نأخذها، ثم من يحدد أن هذا علماني وطني، وهذا علماني أمريكاني؟! المهم تضييع بصيرة الصحوة في هذه المرحلة الحرجة. ثم نذكر الشخص الثالث الدكتور: توفيق الشاص حيث يقول: 'أنا موافق على حديث الإخوة بضرورة تبني الأسلوب الفكري لتطبيق برنامج الحركة الإسلامية، بالرغم أنه يجوز لها أن تقاوم عدوان السلطة بالكيفية التي تراها، لكن ما دمنا نريد الحوار مع العلمانيين الوطنيين فلا بد من جهاز فكري يدير ذلك، وأؤيد بشدة اقتراح الدكتور القرضاوي لتكوين اتحاد للكتاب الإسلاميين لاستيعاب الطاقات الفكرية، ويمكن أن يكون الدكتور العوا هو المستشار الفكري على رأس اللجنة التي تعد لهذا الاتحاد ' من أجل ماذا؟ حتى يكون لدينا جهاز فكري للحوار مع العلمانيين الوطنيين؟! وهنا مثال آخر يقول صـ49ـ ' كما تناول الفصل الثاني الشرارة الملتهبة باسم عقيدة السلف، وحتى يدرك المتاجرون بالاختلافات أن الاختلاف بالتوسل وفي المتشابه من آيات الصفات وغير ذلك لا يعد خروجاً على عقيدة أهل السنة والجماعة أو اختلافاً في الاعتقاد '. ثم يقول صـ112ـ: ' والاحتمال الرابع بخصوص الصفات هو تأويل هذه النصوص إلى المعاني التي تحتملها أوجه المجاز المعروفة في اللغة، وبالتالي أولوا اليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] بأنها القدرة، وقد استعمل لفظ اليد مجازاً عنها، وهذا التأويل سار عليه كثير من أهل السنة والجماعة، الذين أرادوا تنزيه الله عن مشابهة خلقه بتأويل هذه الألفاظ وفق معاني اللغة إلى المعاني المقبولة في استعمال الناس ومفاهيمهم وتصوراتهم عن صفات الله ' وكأن هذا الذي ينقصنا الآن القضايا المنتهية المفروغ منها. ثم في صـ163ـ تكلم عن الشباب ونحن لا نبرئ الشباب، وأنا من فضل الله في محاضراتي أكثر ما أركز فيه -والحمد لله- على أخطائنا نحن شباب السنة، وهذا الذي يهمنا في الدرجة الأولى، وهذه الأخطاء موجودة عند من ينتسب إلى منهج السلف من الشباب، أما المنهج فهو معصوم لكن هو يقول: ' وهؤلاء يجعلون تمسكهم بالسنة العملية كالمحافظة على الصلاة في الجماعة، والمحافظة على السواك واللحية هي مقومات كونهم الفرقة الناجية، فهم على مثل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أما غيرهم فالنار مثواهم، ولقد تناسى هؤلاء أن ترك هذه السنة لا يترتب عليه دخول النار -ثم ذكر كلاماً إلى أن يقول:- ولقد نسي هؤلاء أن المقصود بالملل أو الفرق التي تفترق عن الإسلام -أي: الثلاثة والسبعين فرقة- هي التي ترتد إلى الكفر ' مثل البهائية والقاديانية، والنصيرية، والإسماعيلية، أما الشيعة، والمعتزلة، والرافضة، والصوفية، فهذه ليست داخلة، والكتاب هو: شبهات حول الفكر الإسلامي المعاصر، وهو رد على الأستاذ محمد قطب، والمشكلة هي تضليل المسيرة، فإما أن نتبع قول الله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] فتكون النجاة والنصر، وإما أن نستمع لمن يريد أن يحرفنا عن هذه العقيدة مهما خالفها وإلا فمصيرنا إلى الانتكاسات التي جربناها وذقناها، ومع ذلك أنا أبشر الإخوة بأنه الصحوة في جملتها هي سنية سلفية -والحمد لله- وأنك لو نظرت وتأملت لرأيت العجب العجاب، حيث يأتينا طلبات ورسائل، بل وما نسمع وما نقرأ، أن الكل في الجزر البعيدة في أقاصي الدنيا، وفي العالم كله في أوروبا وأمريكا يطلب كتباً فتجد من جملتها الكتب السنية المحضة -والحمد لله- وإن طَلَبَ دعاة يطلب دعاة أهل السنة والحمد لله، فهناك في أصقاع نائية فما بالكم في أرض الإسلام والحمد لله.

انتشار السنة

انتشار السنة وقبل سنوات كانت بعض الدول المجاورة لا يمكن أن ينتشر لـ ابن تيمية رحمه الله فيها شيء، والآن يملأ الساحة كتبه -رحمه الله0 لأن كتبه تعبير عن منهج أهل السنة والجماعة، وهذه نعمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا هو التوجه الجديد الذي نريد -إن شاء الله- أن نحفظه وندعوه إلى زيادته، ونريد التأكيد على منهج أهل السنة وعلى اتباع الدليل واتباع الحق. أما معاملة المخالف سواء كان من المسلمين أو من الغير فهذه مضبوطة -ولله الحمد- بمنهج أهل السنة نفسه، فهم أرحم الخلق بالخلق، وهم الذين تحتكم إليهم الفرق إذا اختلف بعضها مع بعض، فعندما يكفر النظام العلاف، والعلاف يكفر النظام وهم زعماء المعتزلة فإن الذي يفصل بينهما هم أهل السنة والجماعة، وعندما تخرج طوائف من الشيعة وتكفر الإثنى عشرية، والإثنى عشرية يكفرونهم، والذي يحكم بينهما بالعدل هم أهل السنة والجماعة فهم لا يشتهون في أحكامهم ولا في آرائهم، وإنما يتبعون السنة. ومن أمر الله تعالى بحبه يجب أن يحب، ومن أمر الله تعالى ببغضه يجب أن يبغض وهكذا، وكل شيء بقدره، والإيمان عندهم يزيد وينقص، ومحبة الناس ومعاملاتهم تتفاوت بتفاوت إيمانهم، وهكذا.

حاجاتنا في الدعوة

حاجاتنا في الدعوة نحن أمام شرع منضبط، ونحن في الحقيقة وبالذات في هذه المرحلة ليس المجال مجال إثارة مشكلات ولا معارك على الساحة الإسلامية، لكن بقدر ما يتعرض المرجفون أو المخدوعون لتعمية مسيرة الصحوة الإسلامية، يجب علينا أن نقول لهم: قفوا، وألا نوافقهم، وهذا ليس افتراء أو افتعال معارك معهم، لا، ولا نقر ذلك إن وجد، وقد يكون موجوداً، لكن نحن لا نقره ولا نرضاه. فالذي نريده هو أن هذه المرحلة تقتضي أن ندرأ عن هذه الصحوة الطيبة المباركة كل ما يعكر عليها مباركتها، ولذلك دائماً نركز على ألا يستعجل الشباب، وأن تكون أمورهم جميعاً بالحكمة، ويتحروا مناطات الأحكام، وأن يتحروا مقاصد الشريعة، وليس مجرد أن يجدوا نصاً أو نصين فيندفعوا هكذا، كل هذا مما يجب أن يكرر. والحمد لله في الساحة بفضل الله من الدعاة من يتحدث دائماً عن هذه الأمور، ولكن نريد الحديث الإيجابي، الحديث البناء الذي يوجه هؤلاء الشباب ولا يصدمهم ولا يعنف عليهم، وخير هذه الأمة هم هؤلاء الشباب ولله الحمد والله إن الإنسان ليحقِّر نفسه عندما يرى أن هذه الصحوة المباركة تأخذ الدين كله وبقوة وبجد، فإن أخطئوا أو تعجلوا أو تسرعوا فلأننا لا نوجههم نحن، ويجب علينا أن نعلم كيف نوجههم نحن. فيجب علينا أن نعلم أن مسئولياتهم علينا، وأن كل ما يرتكب من أخطاء فنحن المسئولون، ويجب أن نشفق عليهم فأطفالنا في البيت يخطئون ولكننا نحبهم ونشفق عليهم. ولا ينسينا ما نرى فيهم من أخطاء ما يتكالب ويخطط عليه أعداء الله في كل مكان وزمان للإجهاز على هذه الدعوة، وحقيقةً -وهذه واضحة كالشمس- أنه لولا ما في هذه الصحوة المباركة الطيبة من تمسك ورجوع إلى منهج أهل السنة والجماعة وعقيدة السلف الصالح لما حوربت هذه المحاربة، ولما كانت تعاني ما تعانيه الآن ولكنه قدر الله وسنة الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] وصدق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ظاهرين} وفي رواية أخرى: {يقاتلون على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله}. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم منهم، وأن يقر أعيننا بنصرة دينه وإعلاء كلمته، وعودة هذه الأمة إلى كتاب ربها وسنة رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

المكر الخبيث

المكر الخبيث Q هل صحيح أن الصحوة الإسلامية في هذا الوقت بالذات يُكَاد لها ويخطط للقضاء عليها وذلك بتصفية العلماء الجسدية وتشويه سمعتهم حيث إن مجلة المجتمع نشرت هذا في آخر عدد لها في الصفحة الأولى؟ A نعم لا ريب، وهناك أسلوبان: الأسلوب الأول: هو ما حصل في أيام الزعيم الخاسر وأمثاله، من السجون والمعتقلات، وما يزال ذلك في بعض الدول. والأسلوب الآخر: هو ما يسمونه فن الدعاية السوداء، وتلطيخ وتشويه سمعة الدعاة بافتعال التهم والزج بهم في كل قضية يرون أنها يمكن أن تكرِّه الجماهير في دعوتهم وفيما يقولونه، وتتفاوت فنون هذه الدعاية من اتهامات بالعمالة لإسرائيل ولـ أمريكا أو الشرق، والتهم لا تقتصر على جانب واحد، ولكن هذه سنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ابتلاء الدعاة، وليبتلي الأمة أيضاً ليرى هل تسمع للمرجفين والمبطلين أم أنها تقف عند حدود ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من التحري ومن التثبت. وليس الدعاة معصومين، ولكن منهجنا -كما قلت- حتى مع المخطئ، والمخالف، وحتى مع من يقال عنه أنه أخطأ، المنهج ثابت منضبط، شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل قضية يمكن أن تثار، فتشويه الدعاة وتحطيم سمعتهم هذا هو الذي يريده أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن الصحوة لا تقوم إلا على قادة، وإذا دُمر القادة فلا شك أن من بعدهم سوف يسقط، وما تعرض له الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- من التهم، جزء من ذلك.

معرفة الواقع

معرفة الواقع Q كيف نعرف ما يدور على الساحة في العالم أجمع، وخاصة ما يحاك للصحوة الإسلامية، وما هي الجرائد والمجلات والإذاعات التي يمكن أن نعرف منها بعض ما يدور في العصر؟ A ليس هناك سرية في الموضوع، اقرأ أي مجلة أو أي صحيفة -مثلاً- قرأت العربي قبل أسبوعين على الغلاف صورة شباب ملتحين، ومكتوب: السلف الصالح بريء من هذه السلفية، وقبلها العربي كتبت السلفية هي النازية الجديدة، وهذه مجلة معروفة وليست مجلة خفية، وهناك مجلة نسائية طلعت اسمها نصف الدنيا، كل عدد تقريباً منها قائمة البدوي والسيدة نفيسة ومولد فلان والحسين، من أجل أن تتجه مشاعر الناس والصحوة الإسلامية إلى القبور، وتشبع رغبة التدين وفطرته بالقبور والأضرحة فيعيدونها إلى الشرك. فهم يريدون نقلها من الاشتراكية إلى الشرك ولا يريدونها أن تعرف الإسلام، فهذا كثير جداً، لكن من يستطيع أن يعرف شيئاً عن هذا الخطر فلينبهكم ثم أنتم تجدونه واضحاً أمامكم، والمشكلة أحياناً أنك قد لا تدرك لأنك لم تنتبه إليها، لكن لو انتبهت وبدأت تقرأ وتجمع ستجدها أمامك، وهذا هو الهدف من مثل هذه المحاضرات.

كلمة الانتفاضة في الميزان

كلمة الانتفاضة في الميزان Q قرأت في كتاب للأشقر أن كلمة الانتفاضة كلمة غير صحيحة؟ A وكذلك الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ولا مشاحة في الاصطلاح، وبالنسبة لما نريده نحن مع اليهود -إن شاء الله- في المستقبل يمكن هذه أن تعد مجرد انتفاضة فعلاً، لكن المعركة ما زالت.

اهتمام المشايخ بتربية الشباب

اهتمام المشايخ بتربية الشباب Q هل ترى أن الدعوة المعاصرة اهتمت بتربية الشباب؟ بمعنى آخر: هل ترى أن مشايخنا في الوقت الحاضر يقومون بواجب تربية الشباب، نرجو منكم التعليق على ذلك؟ A التربية موجودة إلى حد ما ولكنها ناقصة ويجب أن نستكملها، ولن تقوم الدعوة إلا بهذه التربية التي سماها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التزكية لأنه بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة:2] فالتزكية التي تسمى الآن تربية لا بد فيها من تزكية قلوبنا وأعمالنا، والمزكون قليل؛ لكن نحن لا ننتظر أن يأتينا من خارجنا، وإنما نتعاون ونتكامل على أن تكون التزكية موجودة، ومتابعة الشباب بمتابعة واقعية، نعم، بعض العلماء ليس لديهم ذلك؛ لكن لا نعيبهم، ونحن لا نريد أن نفتعل معارك ومشاكل ونتهم العلماء بأنهم مقصرون، العالم الذي يخدم الدعوة بعلمه -جزاه الله خيراً- وهو أهم مطلب في الدعوة، وأنا وأنت إن كان عندنا شيء من التربية أو التزكية فلنربي، فالمجاهد يجاهد، والآمر بالمعروف يأمر بالمعروف، وكل منا على ثغرة فكلنا متعاونون وكلنا على ثغرة. ولا يشترط بالضرورة أن نكون جميعاً في قالب واحد، وعلى منوال واحد في الدعوة إلى الله، وحتى الدعاة مواهبهم متنوعة -وهذا فضل من الله- فهذا له جانب وهذا له جانب، فعلينا أن نستكمل نحن الجوانب جميعاً، لتكون الأمة متكاملة، خير أمة أخرجت للناس بإذن الله.

سلبيات وتقصير

سلبيات وتقصير Q اسمح لي أن أذكر بعض السلبيات التي في كثير من الإخوة المتمسكين: أولاً: يظل طالب العلم سنوات يطلب العلم، ويحضر المحاضرات، ولو طلب منه إلقاء خطبة جمعة أو موعظة بسيطة اعتذر أنه ليس أهلاً لذلك فإلى متى؟ A هذا واقع وأنا أقول معه إلى متى؟! فحقيقة أن من سلبيات الدعوة وهي كثيرة في الشباب أنهم متلقون ويتلقون، فمتى يخرجون؟ ومتى يتكملون؟ فمهما كانت الأمة فيها من دعاة أو علماء أو خطباء، لا بد أن يوجد جيل يخلف جيلاً، وانظروا الآن الفراغ الكبير الذي نحسه في الأمة جميعاً من ناحية العلماء -نسأل من الله تعالى أن يمد في أعمار علمائنا وأن يحفظهم- كل منا كيف يتصور لو لم يكن هؤلاء العلماء موجودين، فلو أنهم ماتوا -وكلنا مصيرنا إلى الموت- كيف سيكون الفراغ الهائل الذي سيكون من بعدهم؛ لأنه لا يوجد جيل يحمل هذا العلم ونحن مقصرون، ولم نجد المحاضن لهذا الجيل، وهذه سلبية واضحة وظاهرة. ثانياً: الانشغال بالأمور الأسرية والدنيوية انشغالاً يضر بطلب العلم على الرغم من دنو الهمة في الطلب. وهذا فعلاً واقع، والوسط والاقتصاد هو المطلوب، فبعض الناس ينقطع عن أسرته وعن والديه بحجة العلم أو غيره وهذا خطأ، والبعض الآخر فعلاً قد يشغل بأمور قد أقول بتعبير أدق: إنها ليست أموراً دنيوية وليست مجرد أنها أسرية، بل الشباب يشتغلون بالهرج -اسمحوا لي أن أكون صريحاً- فيجلسون الساعات يتكلمون من غير فائدة، ثم يذهبون إلى زيارة فلان أو علان، بينما لو أننا في هذه الجلسة قرأنا حديثاً واحداً، أو آية واحدة، أو جملة واحدة من قول السلف أو صفحة من كتاب علمي، لأفدنا فائدة كبيرة وملموسة ولا شك. ثالثاً: الخجل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة لدى طلبة العلم أرجو نصحهم. حقيقة أن التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر ظاهر وملموس أيضاً، ونشكر لهذا الأخ غيرته ونصحه، ونعترف جميعاً بهذا التقصير، والواحد منا قد يجمع من دقائق العلم ووسائله، ويزور الشباب، ويتعرف عليهم، ويذهب إلى المحاضرات، وجاره لا يصلي، وصاحب الاستريو (الغناء) بجواره، ويبيع الأفلام أمامه، والسوق من حوله فيه التبرج، فلو قدم كلمة فيها نصيحة أو موعظة بهدوء وبحكمة: (يا أخي، يا فلان، يا أخي في الله ونحوها) قليل من يقوم بهذا، فما ثمرة هذا العلم وما فائدته؟! فنحن مقصرون بجانب الأمر والنهي وهو الذي به كانت الخيرية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] والعلم ثمرته الدعوة، ومن الدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذنا في الله لومة لائم، وأن نصبر ونحتسب على ما نلاقي في ذلك.

الجماعات الإسلامية

الجماعات الإسلامية Q ما رأيكم بالجماعات الموجودة على الساحة الإسلامية؟ وهل توجد فائدة بكثرة التعدد بهذا الشكل الملحوظ؟ وما هي أقربهم إلى الصواب؟ A وجود الجماعات الإسلامية هو أمر طبيعي، أمة كانت سفينة واحدة بربان واحد فتحطمت، فكان لا بد لمن استطاع أن يبني زورقاً فيجمع فيه من استطاع ويغرق من يغرق، فلا إشكال في أن تقوم جماعات إسلامية جهادية أو دعوية، بل يجب على المسلمين أن يجتمعوا، فإن لم يستطيعوا أن يجتمعوا جميعاً، فليجتمع منهم من فهم وفقه أهمية الاجتماع، لكن الإشكال هو على ماذا نجتمع؟ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] إن هناك من يقول: لا تتكلموا في الناس أبداً، أي: في الأمة كلها، اجمعوا الناس جميعاً: رافضتهم وصوفيتهم ومؤلههم ومعطلهم، وكل شيء، وهذا الكلام غير صحيح لا عقلاً ولا شرعاً، لكن نحن نقول: يجب أن يجتمع أولاً: أهل السنة، وأن يكونوا يداً واحدة وكلمة واحدة. ثانياً: تجتمع الأمة جميعاً، واجتماع أهل السنة هو لمصلحة اجتماع الأمة؛ لأنهم أبعد الناس عن التعصب، ولا يجتمعون اجتماعاً حزبياً بالمعنى المفهوم السائد في الساحة الغربية أو غيرها؛ لكن نقول: يجتمعون على الحق، وعلى أن يكون أمرهم شورى بينهم لنصرة هذا الدين. والآن الواقع الإسلامي بحق وحقيقة، فجميع الجماعات وجميع الدعوات فاقت ونهضت، والآن الجماهير -كما يسمونها- تندفع وتطالب بحكم الله وشرع الله في كل مكان، ومستحيل أن تحتويها جماعة ولا جماعات ولا أكثر، فهي فاقت كل توقع وكل تصور، ومع ذلك فلا يزال بعضهم في تخلفه الضيق وقوانينه الجامدة، فيجب أن يتقدم الدعاة قلباً واحداً، اعتقاداً وقولاً وعملاً وتخطيطاً ويقودوا هذه الصحوة المباركة على منهج السلف الصالح، وهو منهج واسع -ولله الحمد- وأما غيره فهو ضيق محدود إذا خالفته قيل خرجت، أما منهج السلف الصالح فهو واسع جداً -ولله الحمد- لأن فيه حقيقة الدين الميسرة وتستطيع في كل بيئة أن توجد التجمع أو الجماعة الإسلامية الصحيحة الملائمة لها، ولواقع تلك البيئة أحياناً تكون الجماعة جهادية، كالحال في أرتيريا أو في أفغانستان جماعة جهادية على منهج السلف الصالح، وأحياناً تكون جماعة دعوية، وأحياناً تكون علماء يلتف حولهم الشباب وهكذا، وفي كل مكان يمكن أن تكون الصورة والشكل بما يوافق البيئة والمرحلة؛ لكن الهدف واحد والغاية والواقع واحد.

حكم الدعوة إلى الله بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة

حكم الدعوة إلى الله بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة Q ما حكم الدعوة إلى الله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة؟ A لا يجوز الدعوة إلى الله بهذا، ولنضرب مثالاً لهذا: يروى حديث موضوع عن علي بن أبي طالب أنه قال: {دخلت أنا وفاطمة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدته يبكي بكاءً شديداً، فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله! ما الذي أبكاك؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا علي ليلة أسري بي إلى السماء، رأيت نساءً عذابهن شديد، فأنكرت شأنهن لما رأيت من شدة عذابهن} ثم يذكرون حديثاً طويلاً بعض ألفاظه صحيحة، لكن بهذا الطول ليس بحديث ولا يصح. والعبرة التي نأخذها نحن في واقعنا الآن من كلامنا هذا، أن الأمة بحاجة إلى العلم الشرعي الصحيح، وأنها لا يجوز لها أن تدعو بهذه الأباطيل، حتى لو دعوت إلى الله فلا تدعو إلا بما شرع الله، حتى لو جمعنا الناس إلى المسجد للصلاة بناء على حديث موضوع أو ضعيف كما يذكر أحياناً أحاديث تُعلق في المساجد، فهذا لا يصح، ويخطئون على ذلك؛ لأن الإنسان ترتبط هدايته بما اهتدى به، فإذا ارتبطت هدايته بحديث موضوع ظل يجله ويعظمه ويعتقد صحته، فيكون رجوعه إلى الحق ممزوجاً بذلك الباطل، وهو اعتقاد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال شيئاً وهو لم يقله، فيكون ذلك من الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن القول على الله بغير علم. فالدعوة -والحمد لله- في غنىً عن هذا، والموعظة من القرآن تكفينا، ولو قرأناه قراءة المتدبر المتأني المعتبر المتعظ لكفانا وأغنانا، ويضاف إليه ما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومواعظه موجودة في كتاب الرقاق من الصحاح وفي كتب الوعظ الصحيحة كما في صحيح الترغيب والترهيب -مثلاً- والحمد لله هي موجودة وميسرة، فلماذا نرجع إلى الأباطيل أو الضعاف أو الأمثال أو الحكايات أو الروايات؟ لا يجوز ذلك، وهذا من الخلل في منهج الدعوة، ومما يجب على الصحوة وشبابها أن يحذروه إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله الطيبين.

نماذج من خوف السلف

نماذج من خوف السلف تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن مسألة الخوف من الله، موضحاً منزلته وأثره في القلوب من الإنابة والخشية والمراقبة، مستعرضاً صوراً من أخبار السلف وطرفاً من أقوالهم في هذا الباب.

نماذج من خوف الصحابة

نماذج من خوف الصحابة نذكر الآن -إن شاء الله تعالى- بعض النماذج من حياة السلف الصالح الذين غلب عليهم جانب الخوف أولاً، ثم نثني -إن شاء الله- ببعض من غلب عليهم جانب الرجاء. نذكر أسباب ذلك عند كلا الطرفين، وهي نماذج موجزة ومختصرة, والمقصود منها: هو أن نعلم أن أركان العبادة التي تحدثنا عنها، وهي: المحبة والخوف، والرجاء، -هذه الأركان الثلاثة- قد تغلب إحداها على بعض الناس، وقد تغلب الأخرى على آخرين, لكن لا يمكن ولا يصح أن يخلو الإيمان أو القلب من اجتماع هذه الثلاثة، فكانت حياة السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم- نموذجاً لاجتماع الخوف والرجاء والمحبة, كما أثنى الله تبارك وتعالى على عباده الصالحين من المرسلين ومن اتبعهم في الآيات التي ذكرها الله، كقوله تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] ونحو ذلك. والخوف -عموماً- هو سمة لأهل الإيمان الكُمَّل الخُلَّص من عباد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ففي سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم النماذج لذلك، وكذلك في سير الخلفاء الراشدين.

خائف يفرق منه الشيطان

خائف يفرق منه الشيطان ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سأل حذيفة بن اليمان الذي هو أمين سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي أطلعه رسول الله على أسماء المنافقين، فقال له: 'أنشدك بالله! ألم يسمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم؟! ' عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو ثاني رجل في هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق من أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو مبشر بالجنة, ما بينه وبين الجنة إلا أن يموت فيدخلها, وليست أية جنة، وإنما جنة المقربين والصديقين وأهل الدرجات العلى. عمر الذي جاهد في الله حق جهاده؛ فبمجرد أن آمن وأسلم, أظهر الله - تبارك وتعالى - الإسلام وأعزَّه, ولما ولي الخلافة فتح الله على يده مملكتي كسرى وقيصر, وورثتهما هذه الأمة, وأنفقت كنوزهما في سبيل الله عز وجل على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجنده. وكان في سيرته من العدل والإيثار والشفقة والرحمة ومحاسبة العمال ما هو مضرب الأمثال في جميع العصور والأجيال مما لا يتسع له المقام؛ بل يحتاج إلى أن يكتب عنه المجلدات العظام، ومع ذلك فإنه كان يخشى ويخاف على نفسه من النفاق, ولم يكن ممن يُغلِّب جانب الرجاء رَغْمَ ما وُعِدَ به -وهو وعدٌ صادقٌ لا يتخَلَّف- من أنه من أصحاب الجنة, فكان يقول ذلك لـ حذيفة -رضي الله تعالى عنه- ويسأله أهو من أهل النفاق أم لا؟

أبرار يخافون على أنفسهم النفاق

أبرار يخافون على أنفسهم النفاق يقول ابن أبي مليكة وهو من التابعين كما في هذه الرواية التي ذكرها عنه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الإيمان قال: [[أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كلهم كان يخشى على نفسه النفاق, ولا يقول: (إن إيماني كإيمان جبرائيل وميكائيل)]]. يريد بذلك الردَّ على المرجئة الذي يزعم أحدهم أن إيمانه كامل, فيقول: أنا أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين لا شك في أنهم أكمل الأمة إيماناً، ومع ذلك كلهم يخشى على نفسه النفاق, وما كان أحد منهم يقول: (إن إيماني كإيمان جبرائيل وميكائيل) , حتى أتى أولئك المرجئة , فأخذوا يزعمون هذا الزعم, ويدَّعون أن الإيمان لا يتفاضل ولا يزيد ولا ينقص, ويدعون أن إيمانهم كإيمان جبرائيل وميكائيل: إما تصريحاً وإما لزوماً؛ فكلامهم يلزم منه تلك المساواة؛ لأن إنكار تفاضل الإيمان وزيادته ونقصانه يلزم منه مساواة أهله فيه.

فقيه من الصحابة يخشى الله

فقيه من الصحابة يخشى الله ومن النماذج الكثيرة في الخوف وممن اشتهر عنه ذلك من الصحابة: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقد كان جالساً مع بعض تلاميذه, فقال رجل منهم: ما أُحِبُّ أن أكون من أصحاب اليمين, وإنما أحب أن أكون من المقربين -وهذه أمنية وليست أمنية ضائعة خاسرة -كما سيمثل الشارح رحمه الله للأماني والأحلام التي لا أساس له من الواقع- إذ أن تلاميذه وجلساءه -رضي الله عنه- كانوا من خيار الأمة حينئذٍ, وهذا تطلع وتشوق من هذا الرجل أن يكون من المقربين, ويرجو ذلك, ولم يقم به مانع يمنعه من أن يكون ممن يتمنى ذلك -وأراد عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن يعلمهم كيفية الخوف, وأن الإنسان يغلب جانب الخوف والحذر، فقال: [[أما إن ها هنا رجلاً يتمنى أنه إذا مات لم يبعث-أي: نفسه- وقال: وددت لو أني شجرة تعضد]]. من شدة خوفه من حساب الله، ومن لقاء الله، ومن شدة خوفه من أن أعماله -مهما كانت صالحة- قد لا تقبل, وهو من الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، ومن اتهامهم لأنفسهم ولأعمالهم مع ما فيها من خير وصلاح يتمنون أنهم إذا ماتوا لم يبعثوا, فلا لهم ولا عليهم. وهذا الأثر بقي في مدرسته التي كانت جامعة عظيمة تخَّرج منها خيار الأمة، وكل ذلك من غرس يده -رضي الله تعالى عنه- في الكوفة , ثم بعد ذلك انتشر علمها في أقطار الدنيا. ومن الملاحظ في سير العلماء التي لو تتبعناها -وجدير بنا أن نتتبعها دائماً- لوجدنا أن من كان من العلماء أو من العباد الصالحين والزهاد في أول أمره مقارفاً للذنوب والمعاصي, ثم اهتدى فيما بعد, نجد جانب الخوف عنده أكثر, وقد تأملت بعض السير فوجدت هذا, وأظن أن السر والسبب في ذلك لا يخفى؛ لأن الذي نشأ من أصله في تقوى الله وفي طاعة الله لا يحس ولا يستشعر خطر الذنوب والمعاصي كالذي واقعها وقارفها ثم عرف خطرها. ففي كل حين يأتيه وازع الإيمان في قلبه، ويقول له: كيف لو مت وأنت على تلك الذنوب؟! كيف لو كانت خاتمتك وأنت تفعل تلك المعاصي والفواحش والموبقات والكبائر؟! فلذلك نجد أن هؤلاء أشد خوفاً وخشية على أنفسهم من الذنوب والمعاصي من غيرهم ممن لم يكونوا كذلك.

نماذج من خوف التابعين

نماذج من خوف التابعين وبرزت في بعض الشخصيات سمات الخوف أكثر مما لدى غيرهم ممن برزت عنده سمات الرجاء.

هرم بن حيان

هرم بن حيان ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي -رحمه الله- في صفوة الصفوة وهو تهذيبٌ لـ حلية الأولياء. يقول: 'خرج هرم بن حيان وعبد الله بن عامر يؤمان الحجاز فجعلت أعناق رواحلهما تتخالجان الشجر فقال هرم لـ ابن عامر: [[أتحب أنك شجرة من هذه الشجر؟ فقال ابن عامر: لا والله؛ إنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من ذلك، فقال له هرم: لكني والله لوددت أني شجرة من هذا الشجر أكلتني هذه الراحلة ثم قذفتني بعراً، ولم أكابد الحساب يوم القيامة]] ' أي: أنهما خرجا وكانا في العابدين الزاهدين يضرب بهم المثل في ذلك، فخرجا يريدان الحجاز فأخذت رواحلهما ترعى وتأخذ من الشجر, ولكن المؤمنين دائماً يعتبرون من كل قضية ومن كل حدث يرونه أمامهم، فقال أحدهما للآخر: لو أنك مجرد نبات تأكله الدابة وينتهي شجرة تعضد؟ فرد عليه: لا والله! إني لأرجو أن يكون لي عند الله خير ومنزلة. فهكذا كان الخوف عند بعض العباد, فقد كان يستحضر في ذهنه الوقوف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما يكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان. يقول: [[إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ ويحك يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى]] إما إلى الجنة وإما إلى النار! لا يدري ما يفعل به, ولا يدري أين مصيره, لكن لو كان شجرةً وأكلت, لعرف أن هذا هو المصير, وانتهى الأمر, فليس وراءه ما يخاف وما يحاذر من سكرات الموت، ومن ضغطة القبر، ومن سؤال الملكين, ثم النفخ في الصور, ثم الوقوف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ثم أخذ الصحيفة باليمين أو اليسار, ثم عبور الصراط أمور عظيمة جداً!! فأولو الألباب، وأصحاب العقول التي أيقظها الله تبارك وتعالى بالتفكر في هذه الأمور, وأصحاب القلوب التي أحياها الله تبارك وتعالى بذكره، يأرقون ويألمون ويفزعون لما يستحضرونه وما يستذكرونه من هذه الأهوال التي أمامهم, وليس منها مفر، وليس هناك حيلة ولا ملجأ ولامنجى من الله إلا إليه؛ فلذلك يغلب عليهم هذا وإن كانوا لا يستديمونه. ولا يعني ذلك أن الإنسان يستديم هذا الشعور مطلقاً, لكن لا بد للنفس المؤمنة أن يأتيها ذلك ولو في حالات معينة، كما تأتيها حالات من الرجاء والفرح والأنس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تجعل الإنسان يُحب لقاء الله، وكذلك تأتيها حالات من الخوف من الموت ومما أعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من اللقاء والحساب تجعل الإنسان ينقبض، ويتمنى مثل هذه الأمنية التي ذكرها هذا العابد الزاهد رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

وصايا مطرف

وصايا مطرف ومن شدة خوفهم من الله أورثتهم شدة الاجتهاد في العبادة, فهذا مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه كما روى عنه ثابت قال: كان يقول: [[يا إخوتاه! اجتهدوا في العمل؛ فإن كان الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه, كانت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديداً، لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] بل نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك, حتى نعذر إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ونعذر إلى أنفسنا]] فكانوا يوصون أنفسهم، ويوصون إخوانهم في الله وتلاميذهم بالاجتهاد، فاجتهدوا في طاعة الله واجتهدوا في العمل، ولا تركنوا إلى أعمالكم ولا إلى أنفسكم ولا إلى ما قدمتم؛ بل اجتهدوا في الطاعات واستكثروا منها ما استطعتم, فإن كان الأمر ما نرجو من رحمة الله وعفوه وما وعد به عباده المؤمنين، فإن ذلك يكون لنا زيادة في درجاتنا, وخير للإنسان أن يكون من أصحاب الدرجات العلى بدل أن يكون من أهل الدرجات الدنيا، فإن يكن الأمر بخلاف ذلك ولا ندري ماذا نفاجأ به لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]. لأن المجرمين والكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا، ولم يكونوا يرجون الله ولا يخافون الآخرة، وغرهم بالله الغرور، ورضوا بالحياة الدنيا كما ذكر الله تبارك وتعالى واطمأنوا بها، هؤلاء يقولون هذا القول: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] يتمنون العودة {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44] هل إلى خروج من سبيل؟ ولكن لا ينفع ذلك، بل كما ذكر الله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] كحالهم في الدنيا إذا كانوا في مرض وفي خوف وفي ألم وفي شدة, تمنوا أن يعافيهم الله, ويدعون الله ويتضرعون إليه قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم أنه إذا عفا عنهم فسيفعلون ويفعلون من الطاعات ومن التقوى, فإذا مَنَّ الله تعالى عليهم بالنعم وأعطى الإنسان منهم ما كان يتمناه من عافية وخير وصحة, مرَّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. هذا حالهم في الدنيا, فكذلك في الآخرة لو عادوا إلى الدنيا لنسوا. لكن المؤمنين المتقين لا يريدون لأنفسهم ذلك, فهم يقولون: لا نريد أن نقول: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] , إنما نقول: قد عملنا واجتهدنا فلم ينفعنا؛ فنكون قد أعذرنا, أي: إذا كان الذي نخاف, وإن كانت الشدة, وإن كان قد أعدَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ما ليس في حسابنا, وإن كانت هذه الأعمال الصالحات لم تتقبل, وإن كان الخوف أكثر مما نتصور, وإن كانت الأهوال فوق ما كنا نتوقع, وإن كانت منزلتنا عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقل بكثير مما قد يُخيل إلينا, فإننا سنقول: قد اجتهدنا وبذلنا جهدنا وعملنا, وليس للإنسان إلا ما كتب الله, أما أن نهمل، وأن نفرط، وأن نضيع حق الله تبارك وتعالى, فأقل ما فيها الندم هنالك وتمني العودة, وليس إلى مرد من سبيل, أو إلى خروج من سبيل, فلا ينفع ذلك أبداً.

حكيم التابعين الحسن البصري

حكيم التابعين الحسن البصري الحسن رحمه الله تعالى في سيرته العجب العجاب من هذا يحيى بن المختار ينقل عنه أنه قال: 'إن المؤمن قَوَّام على نفسه يُحَاسِب نَفْسَه لله - عز وجل - قبل أن يُحَاسَبَ, ويَسْألها قبل أن يُسْأَلَ -هذا حاله مع نفسه- وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، فمن حاسبها في الدنيا خف عليه الحساب يوم القيامة، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ' وتلقوا هذا الدين عادات, فوجد من قبله يصوم ويصلي, فأخذ يصوم ويصلي, وليس هناك من استشعار للخوف, ولا محاسبة للنفس، ولا تفكر هل هذا العمل قُبل أم لم يقبل؟ المهم أننا أديَّناها وانتهينا, إن كانت صلاة أو صياماً، أو حجاً, فعلنا كما يفعل الناس وانتهى الأمر، والتفكير والهم في حياته وشأنه وإقامته وترحاله في الدنيا، وهموماً، في المال، والولد، والوظيفة، والترف، والنعمة، وأمور كثير. فالدنيا مشغلة ملهية, من يهرب منها فإنها تطارده, أما من يستسلم لها فإنها تقيده بحيث لا يستطيع إذا جاء الموت أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله, أو يقال له: يا فلان, بم توصي؟ هل توصي من مالك بشيء؟ وهل يُتَصدَّقُ عنك؟ وهل لديك وقفٌ توقفه؟ فبدلاً من أن يتكلم بالأفضل أو الأصلح, فإنه يتكلم في الشهوات والمعاصي والذنوب, وأخف منه الذي يقول: اطلبوا الدين الفلاني, وانتهوا من بناء العمارة الفلانية, واشتروا كذا, وافعلوا كذا, وخذوا مالاً من عند فلان, وافعلوا وهذا كثير قديماً وحديثاً, نسأل الله العفو والعافية! لأن هذا هو الذي كان همه في الدنيا فاستحضره في تلك اللحظة, فلذلك هذا حالهم؛ فالذين حاسبوا أنفسهم في الدنيا, وكانوا يخافون الآخرة, خف عليهم الحساب عند الله تبارك وتعالى؛ وأما الذين غفلوا ونسوا ذلك, فإنه يثقل عليهم الحساب يوم القيامة؛ لأنهم يفاجئون بما لم يكونوا يحتسبون. وقال: 'إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه, فيقول: والله إني لأشتهيك, وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك, هيهات هيهات! حيل بيني وبينك! ويفرط منه الشيء, فيرجع إلى نفسه, فيقول: ما أردت هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً!! إن المؤمنين قوم تفقهوا القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم '. ولهذا كانت الدنيا سجن المؤمن, فليس كل ما يتمنى يأكل, ولا كل ما يشتهي وما يتطلع إليه يريده, ربما تدعوه نفسه إلى أمر من الأمور يشتهيه ويحلو له فيتذكر, ربما كان فيه شبهة، والناس اليوم يُذَكَّرون بالحرام فلا يرتدعون إلا ما رحم ربك, لكن من يخاف الله, ومن يخاف الآخرة فما فيه شبهة فإنه يتوقف وينزجر عنه, يتركه وهو من أحب الأمور إليه, وهو أشد شهوة وتعلقاً به, ويفوته الأمر هو أشد ما يكون حاجة إليه, فيقول: (لعل ذلك خيراً فالحمد لله على ما قضى وعلى ما قدَّر) , ولا تتطلع نفسه إليه، فإن كان خيراً فإنه يعلم أنه قد حرم منه بذنوب قد أصابها, وإن كان ذنباً أو معصية, فليحمد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي عافاه منه، وهكذا حال المؤمن هو حال المحاسبة بجميع الأحوال.

وصية المحاسبة

وصية المحاسبة وقال: 'إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل' كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليه [[لو وضعت رجلي اليمنى في الجنة لما أمنت حتى أضع اليسرى]] فالمؤمن أسير في هذه الدنيا يسعى في فكاك رقبته، فمثله كمثل العبد المكاتب الذي كاتب سيده على أن يدفع له كذا وكذا لعتقه, فكل همه أن يجتهد ليعتق رقبته, فالمؤمن هذا حاله, كل همه في الدنيا هو الاجتهاد ليعتق رقبته من النار, ليخرج من هذا الأسر, ومن الذي أسرنا فيه؟! كما قال ابن القيم رحمه الله: ولكننا أسرى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم فالذي أسرنا وأنزلنا وأخرجنا إلى هذا التراب هو عدونا اللعين إبليس, عندما دعا إلى الشهوة وإلى المعصية, فكان ما كان مما قضى به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقدَّره، فجاء الإنسان في هذه الأرض ليبُتلى وليُختبر وليمُتحن، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:2 - 3] فهذا امتحان وابتلاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وهذا الأسر إنما وقعنا فيه بسبب هذا العدو، فبالله! هل هناك عاقل في هذه الدنيا يأسره عدوه ويوثقه ويكتفه ويجعله في دار هوان ومذلة, بعد أن أخرجه من دار نعمة وكرامة, ثم يطمئن إلى هذا العدو ويصدقه ويحبه ويواليه؟!!! والله لا يفعل ذلك عاقل أبداً! ومع ذلك فهذا حال أكثر الخلق, فأكثر الناس اليوم منقادون وراء هذا العدو، وراء شهواته التي يزينها وراء غروره الذي يأتي به وراء أمانيه ووعوده! {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء:120]. فالشيطان يأتي بالأماني البعيدة الزائلة التي لا خير فيها؛ ليصرف الإنسان عن واجب مما افترضه الله تبارك وتعالى عليه أو ليوقعه في شيء مما حرمه الله تبارك وتعالى عليه.

بكر المزني وعظمة التواضع

بكر المزني وعظمة التواضع إن سير الصحابة والسلف رضوان الله تعالى عليهم مليئة بهذا, وأعجبتني هذه الفقرة لـ بكر بن عبد الله المزني رضي الله عنه وهو من مشاهير العلماء المحدثين - يقول: 'إذا رأيتَ من هو أكبر منك, فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح؛ فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك, فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي؛ فهو خير مني'. هذا ينشأ في طاعة الله وفي تقوى الله, وأنا قد غلبتني الذنوب والمعاصي والغفلة والتقصير, فلا يبلغ مثل ما أبلغ أنا من العمر الآن إلا قد نال الدرجات العلى, وقد جمع من الكنوز ومن الغنائم ومن الأجر ما ياليتني أنا قد جمعته وهكذا دائماً والناس إما أكبر منك أو أصغر منك, فتوقع هذا وتوقع هذا؛ حتى يُؤدب الإنسان نفسه ويعلمها أن تحقر ما تعمل وإن كان من الطاعات. قال: 'وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به' ولعل مقصوده -رحمه الله- أن هذا فضل منهم أو هذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَّ عَليَّ بِه وأخذوا به ولا استحقه. أي: إذا رأيت إخوانك يحبونك ويعظمونك ويقدرونك, فلا يغرنك الشيطان, فتقول: الآن عرفوا قدري, وعرفوا منزلتي وعلمي وعبادتي واجتهادي! لا والله, فهذا من الغرور!! نسأل الله العفو والعافية. لكن قل: هذا فضل أخذوا به, قُل: غرهم مني أنهم رأوني أقول: كذا وكذا وما علموا ما أغلق عليه بابي, كما كان عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول: [[لو أنكم تدرون ما أغلق عليه بابي ما فعلتم كذا]]. والله إننا نعلم أنه رضي الله تعالى عنه لا يغلق بابه إلا على خير وعلى تقوى وعلى قراءة قرآن وعلى عبادة, لكن قال ذلك زاجراً لهم لما تجمعوا ليسيروا خلفه, وقال لهم: 'إنها ذلة للتابع فتنة للمتبوع'. وأيضاً من مأثور كلامه رحمه الله يقول: 'لو أن للذنوب رائحة ما جالسني منكم أحد'. سبحان الله! هؤلاء الناس هم أطهر الخلق بعد الأنبياء وأفضلهم بعد الرسل, يقول: 'لو أن للذنوب رائحة ما جالسني منكم أحد' رائحتها تنتشر ومن هذا المعنى أخذ الشاعر أبو العتاهية فقال: أحسنَ الله بنا أنَّ الخطايا لا تفوح فإذا المستور منها بين ثوبيه فضوح نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح لتموتن ولو عُمِّـ ـرت ما عُمِّر نوح هكذا كانوا يشعرون! فليتأمل كل منا هذا المعنى, لو أن للذنوب رائحة! سبحان الكريم! سبحان الحليم! الذي بلغ من عفوه، ورحمته، ومن سعة رحمته، وفضله، وكرمه، وأنه الغفور الودود الحليم -أنه يقول- في حق الذين أحرقوا أولياءه بالنار الذين خدوا الأخاديد, وجاءوا بهؤلاء المؤمنين, وألقوهم فيها وهم أحياء- في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] فيفتح لهم باب التوبة! يقبل التوبة ممن يفتن المؤمنين بسبب إيمانهم, ويلقيهم في النار وهم أحياء! فهذه توبته للمجرمين فكيف مع المحبين؟! وكيف مع الصادقين؟! وكيف مع المخلصين؟! فمن رحمته أن الخطايا لا تفوح, فكيف لو كان للذنوب رائحة؟! لكان بعض الناس يبتعد عن خلق الله آلاف الأميال, ورائحته تبلغهم أينما ذهبوا, لكن رحمة الله واسعة, ولذلك فإن من شر الناس منزلة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المجاهرون, الذين يعمل أحدهم الخطايا والقبائح بالليل ويستر الله تبارك وتعالى عليه, ثم يأتي ويحدث الناس بها, ويقول: (عملت، وعملت) هؤلاء الذين يظهرون الروائح, والله تبارك وتعالى يخفيها ويسترها ويفتح باب التوبة لمن أعلن بها. يقول بكر بن عبد الله المزني: 'وإن رأيت منهم جفاءً وانقباضاً فقل: هذا بذنب أحدثته" اتَّهمْ نَفْسَكَ, ولا تقل: ليس فيهم خير, بل قل: (هذا ذنب أحدثته) أطلعهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه, وهم يشعرون أو لا يشعرون, فكانت هذه الجفوة, وكان هذا الإعراض عني, فالمتهم في كل الأحوال مع الصغير ومع الكبير, عند الإعراض وعند التكريم هو هذه النفس.

من علامات الخائفين

من علامات الخائفين

الاشتغال بعيوب النفس

الاشتغال بعيوب النفس طوبى لعبد شغلته عيوبه عن عيوب الناس! فلهذا قال قائلهم: 'إني لأرى أثر معصيتي -أو ذنبي- في خلق امرأتي ودابتي' سبحان الله! فهؤلاء يرون أثر المعاصي؛ لأن القوم لمَّا قلت ذنوبهم علموا من أين أتوا؟ ولذلك لو وقعت لواحد منهم مثل هذه الأمور: إما إعراض، وإما ظلم، وإما مشكلة، وإما فرية، وإما بهتان, فإنه يعلم من أين أُتي, فيقول: هذا بسبب ذلك ويعرفه, لكن الذي يجني ويحصد الذنوب ليل نهار, ووقعت له نازلة, فإنه لا يدري من أين أُتي؛ لا يدري: هل هي من الغيبة؟ أم من النميمة؟ أم من تضييع الصلوات، أم من هجر كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أم من أكل الحرام؟! أم من التعلق بالدنيا والغفلة عن الآخرة؟! فهو لا يدري من أين أتي، لكن الذي يعلم أنه ما أخطأ إلا تلك الخطيئة، وما أذنب إلا ذلك الذنب يعلم من أين أتي, فيتوب ويستغفر, فيكون قد أقفل هذا الباب, فيلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقد غسل هذا القلب من الأدران والخطايا. يقول موسى بن إسماعيل وهو من تلاميذ أحد العلماء المشهورين وهو حماد بن سلمة رضي الله تعالى عنه قال: 'لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً قط صدقتم -أي: لو قلت لكم ذلك ما أكذِّبُكم فما رأيته ضاحكاً قط قال:- كان مشغولاً بنفسه إما أن يحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لأنه كان من الرواة المشهورين كما هو معلوم -وإما أن يقرأ القرآن أو يقرأ العلم النافع, وإما أن يسبح، وإما أن يصلي'، كان قد قسم النهار بين هذه الأعمال؛ إن ترك القراءة فهو للصلاة, وإن انفلت من الصلاة فهو للتسبيح, وإن انتهى من التسبيح فللحديث وللعلم؛ فكل حياتهم هكذا إن كانوا في الجهاد، فجهاد ومنازلة كأقوى ما يكون الرجال، وإن انصرفوا من الجهاد فللحج والعمرة والصيام وقراءة القرآن، وإن خرجوا من المسجد, وقد أدوا الصلاة, فللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإن دخلوا بيت أحد, فللزيارة في الله وللدعوة والنصيحة والتذكير بالله، وإن قرأوا ففيما ينفعهم, وإن تكلموا فبما يؤجرون عليه؛ فهؤلاء كانوا يعيشون قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].

عن اللغو معرضون

عن اللغو معرضون جاءت ابنة أحدهم إليه, تقول: يا أبتاه! أريد أن ألعب، وكان معه بعض جلسائه, فأعرض عنها, فأتت من هاهنا ومن هاهنا: يا أبتاه! أريد أن ألعب! قال أحدهم: قل لها: العبي, وتذهب عنك، قال: لا أريد أن أجد في ديواني لعباً؛ لأن بعض السلف يرى أن ذلك يكتب! وهناك خلاف في هذه المسألة بين السلف رضي الله تعالى عنهم؛ فبعضهم كان يرى أن كل شيء يقوله الإنسان يكتب عليه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فكل كلمة مكتوبة، وكل عمل مكتوب أياً كان, وبعضهم يقول: لا, إنما تكتب الحسنات أو السيئات, أما ما يدخل في المباح أو اللغو أو فضول الحياة, فهذه لا تكتب مثل قولنا: العب أو اذهب أو أي أمراض من أعمالنا اليومية التي لا علاقة لها بالإثم ولا بالحسنة, فالكلام المعتاد لا يكتب, والتصرف المعتاد لا يكتب؛ فكان هذان المذهبان من قديم عند السلف رضي الله عنهم، فبعضهم يقول: كل شيء يكتب؛ فإذا قلت: "العبي" وجدت يوم القيامة في ديواني مكتوب "العبي" وما أريد أن يكون ذلك في ديواني, ومن هنا ندرك مدى التنزيه الذي وصلوا إليه لأفواههم ولقلوبهم ولصحائفهم, مع ما هم عليه من الخوف!! فكيف بمن يلطخ لسانه وقلبه وصحائفه, فإذا سُئِلَ, قال: الحمد لله! ونحن إلى خير! ونحن كذا! وأخذ يثني على نفسه ويذكرها بما ليس فيها.

حب العبادة

حب العبادة ومن السلف الصالح الذين غلب عليهم الخوف: عمرو بن قيس الملائي -رحمه الله- قال عمر بن حفص بن غياث 'لما احتضر عمرو بن قيس بكى, فقال له أصحابه: علام تبكي من الدنيا فوالله لقد كنت تبغض العيش أيام حياتك فكيف تبكي؟! فقال: والله ما أبكي على الدنيا وإنما أبكي خوفاً أن أحرم خوف الآخرة' فمن شدة حرصه على أن يتعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالخوف منه يبكي لأنه إذا فارق الدنيا ربما يفارقه الخوف من الآخرة، وهو يتعبد الله تبارك وتعالى بهذا الخوف، فكأن نوعاً من أنواع العبادة قد انقطع عنه، يقول: إن أَمَّنَني الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأدخلني جنته, ورضي عني, وقبل أعمالي, فسأكون قد انقطعت عن عبادة من العبادات كنت أحبها وأحرص عليها, وهي الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!! لقد أصبح الخوف محبوباً عندهم حتى إنهم ليبكون خوفاً من فواته وهو خوف عند الاحتضار, وهي الساعة التي يُغَلِّبُ كثيرٌ من السلف فيها الرجاء على الخوف، وأمَّا مآثرهم فهي عظيمة وجليلة؛ كما قال بعض العلماء: 'إذا ذُكِرَ الصالحون افتضحنا' نسأل الله العفو والعافية! لأنه إنما يعرف الإنسان نفسه إذا ذكر هؤلاء. أبو سليمان الداراني الذي ضرب به ابن القيم المثل في العبادة قال في المدارج: 'كان مضرب المثل في العبادة من أهل الشام مثل ما كان الحسن البصري في البصرة ومثل ما كان سفيان في الكوفة ' وهكذا كل مدينة يشتهر فيها عدد من الناس بهذا, فمن أعظم وأبرز أعلام أهل الشام أبو سليمان الداراني -رحمه الله- نسبة إلى داريا وهي قرية من قرى دمشق كان -رحمه الله- يقول: 'مفتاح الدنيا الشبع, ومفتاح الآخرة الجوع, وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله' ولهذا كانت مظاهر الخوف في سيرته -رضي الله تعالى عنه- أوضح منها في غيرها من ذلك. يقول: 'لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار'. مثلما قال الآخر: 'مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها' مساكين! فلو مات أثرى أثرياء الدنيا الذين كانوا يتقلبون في أعطاف القصور والنعيم, وكل ما لا يخطر على أذهان الفقراء, ولا يدور في خلد المساكين -لو ماتوا وهم لم يذوقوا لذة مناجاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والقرب من الله عز وجل, فهؤلاء مساكين- خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أحلى وألذ ما فيها، ولهذا كان للسلف الصالح كلام عظيم -لو جمع لكان جزءاً- في الليل وفي محبة الليل والثناء على الليل وتعلقهم بالليل؛ لأنه وقت الخلوة بالحبيب, ووقت المناجاة حيث لا يراهم أحد. كان ليلهم غير ليلنا، نحن الآن في الليل والنهار -نسأل الله والعفو والعافية- لا نخلو ولا نأنس! لكن الحياة في الصدور الأول كان فيها الليل -فعلاً- ليلاً, كما كان آباؤنا -وهم قريبون من عصرنا- إذا صلّى الناس العشاء ذهبوا فناموا, فعندئذ يخلو الإنسان بربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قراءة وذكراً وقياماً وصلاة وتسبيحاً, فيحب الليل, فيقول: ' لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا ' فأحب الأوقات إليَّ هذا الوقت الذي أجد فيه اللذةَ التي من لم يذقها فهو مسكين! دخل الدنيا وخرج منها ولم يذق ألذ وأحلى ما فيها، ولم يتمتع بذلك, وهذا هو الذي قال فيه القائل الآخر إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه ' لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف '! الأغنياء والمترفون والكبراء وأهل الدنيا أيما شهوة تبلغهم ذهبوا إليها!! والتاريخ مليء بذلك. كان بعضهم يقال له وهو في بغداد: إن جارية بـ خراسان تغني فيطرب لها كذا وكذا, فيقول: اشتروها لي, فيقولون: إنها بمائة ألف دينار؛ فيقول: ادفعوا مائة ألف دينار وأتوني بها! أية لذة يسمعون عنها يأخذونها ويشترونها, فإن تعاسرت على المال, وحيل بينهم وبينها بالمال, جردوا السيوف لينالوها؛ سواء كانت لذة ملك أو شهوة أو أيّاً ما كان الأمر, يجالدون بالسيوف لينالوها, لكنهم مساكين!! لو يعلم من لم يكن عمله في طاعة الله, وجهاده ومجالدته في طاعة الله ما عند من يجتمعون على كتاب الله ومن يقرءون سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن يقرءون حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام هؤلاء الأئمة وحياتهم، لو يعلمون ما يجده هؤلاء في بيت من بيوت الله أو في بيت من بيوت أحدهم لجالدوا عليه بالسيوف، لكن لا يعلمون؛ لأن اللذات عندهم محصورة في الشهوات فقط, ولذلك لا يمكن أن يتطلعوا أو يفكروا فيما وراءها, ولو علموا أن اللذة الحقيقية هي لذة النجوى والأنس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والفرح بما عند الله عز وجل وما أنعم الله به على الإنسان من الإيمان والتقوى -لو علموا ذلك- لسابقوا إليه، لكنهم لأنهم لم يعلموا ذلك فلم يسابقوا ولم يزاحموا عليه.

المعصية سبب للهوان على الله

المعصية سبب للهوان على الله يقول أبو سلمان الداراني حكمةً عظيمةً من حكمه, وما أكثر حكمه وحكم أمثاله! يقول: 'إنما عصى الله -عز وجل- من عصاه لهوانهم عليه, ولو كَرُمُوا عليه لَحَجَزَهُمْ عن معاصيه'. أي: عندما نرى أحداً يقترف محرماً أو ينتهك حرمات الله وينغمس في الشهوات, فإننا نعلم أنه من هوانه على الله أوقعه في ذلك كائناً من كان؛ لأنه لا يساوي عند الله -عز وجل- أن يمنعه, فلذلك هانوا عليه فتركهم ووكلهم إلى أنفسهم, فرتعوا في الحرام ووقعوا في الشهوات التي حرمها الله -تبارك وتعالى- أما من كرموا على الله, فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمنعهم ويحجزهم ويحميهم فلا يقعون فيها. ومن أعظم الأمثلة الدالة على صدق هذا الكلام ما ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن عن الذي أُتيحت له كل الأسباب, ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجزه ومنعه وعصمه, وهو يوسف عليه السلام، يقول الله تبارك وتعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]، هذا في منتهى الشباب وغريب لا يعرفه أحد, وعادة الغريب أنه يكون أدعى إلى أن يفعل ما يشاء وأكثر ممن يكون بين قومه وأهله وذويه, فقد يقولون له: لم فعلت يا فلان كذا؟! وليس هو الذي طلب, بل هي التي راودته كما قال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26] وهي التي هو في بيتها، تملكه وتملك البيت, فهي سيدة البيت, بل هي سيدة البلد؛ لأنها امرأة العزيز, والعزيز هو ملك مصر، فهي التي راودته، وهي التي تملكه, وهو في منتهى الشباب والطاقة وفورة الشهوة, وهي في منتهى الجمال والفتنة والإغراء, ولا أحد يدري بذلك أبداً، ثم إنها قد عملت الوسائل التي لا محيص منها عن الشهوة؛ غلقت الأبواب, فلم يبق هنالك مجال أن يقول: أَخرج أو أُفِرُّ أو أَذْهَب, وقالت: هيت لك, إما بمعنى تهيأت لك أو بمعنى هيهات لك أن تفر، أو ألا تفعل؛ فكل داعٍ من دواعي الوقوع في الفاحشة كان متوفراً, ولم يبقَ هناك أيُّ ملاذ أو ملجأ لأي إنسان إلا من عصمه الله فحجزه {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]. الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا علم أن عبداً من عباده صادقٌ تقيٌ برٌ, فإنه يحجزه ويمنعه, فلكرمه على الله لا يفعل, وكان يوسف عليه السلام كذلك, كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام}. وصلى الله وسلم على أولئك الأنبياء الذين من كرمهم على الله كانت لهم السير المعطرة الطيبة الزاكية, وكانوا يحجزون ويمنعون عن المعاصي؛ لأنهم كرماء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الذين لا يساوون عند الله جناح بعوضة, فكما يشاءون؛ الشهوات متيسرة, والفساد مهيأ, فيفعل ما يشاء, فهو موكول إلى نفسه؛ لأنه هان على الله، كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] فإن فكَّر أو تكلم أو كتب أو جاء أو ذهب فيفعل ويتكلم في كل شيء ويخوض في كل شيء إلا نفسه. يا مسكين! أما علمت أن أمامك موتاً، وأمامك قبراً، وأمامك آخرةً، وأمامك صراطاً وحساباً وجنةً وناراً، لكنه لا يفكر في هذه الأشياء بل يفكر في فلان وفي علان, وفي القضية الفلانية وفي الموضوع الفلاني, بل ربما يدعو بقلمه إلى ما حرم الله. يقول: تحرير المرأة! والمرأة مسكينة! والمرأة مظلومة! والمرأة مضطهدة! فكر في نفسك يا مسكين! أنت المسكين المحروم، وليس المرأة هي المحرومة, أنت محروم من طاعة الله، وأنت محروم من قراءة القرآن, وأنت محروم من عبادة الله، وأنت محروم من الجلوس مع أولياء الله، وتقول: المرأة محرومة ومظلومة! وصدق الله إذ يقول: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فترك الأمر الذي أمامه من طريق مخوف مفزع والذي هو واقع فيه, فلم يُفكر فيه، لم يحجزه ربه, لأنه هان عليه, فلما هان عليه, تركه يفعل ما يشاء. ولهذا علينا أن نُقِّدر نعمة الله أن هدانا للإيمان، فإذا كنت ممن يتقي الله ويطيع الله، ولا يغفل عن ذكر الله ولا عن الآخرة, فاحمد ربك؛ لأنك كريم على الله, فإذا دعتك نفسك إلى معصية أو هيئت لك معصيةٌ من المعاصي. فكففت عنها, فاحمد ربك لأنه لا يمنع ولا يحجز ولا يصرف عن السوء والفحشاء إلا من كان كريماً عليه وحبيباً لديه, فاحمد الله على هذه المنزلة ولا تسقط من عينه.

منزلة الأخوة عند السلف

منزلة الأخوة عند السلف يقول أبو سليمان من درر كلامه رحمه الله -وهذه ليس لها علاقة بالخوف لكنني أحببت أن أذكرها لشدة حاجتنا إليها وإلى مثل هذه العبر- يقول: 'لو أن الدنيا كلها جمعت في لقمة -أي: أموالها وشهواتها ومتاعها وكل ما فيها جمع في لقمة- ثم جاءني أخ لي من إخواني في الله لأحببت أن أضعها في فمه'. فالدنيا كلها لا تساوي شيئاً, فالأخوة في الله خير عندي من كل الدنيا, فلو جمعت الدنيا بكل شهواتها وملذاتها ومتاعها وما يطلبه الناس وما يتسابقون إليه منها في لقمة ثم جاءني أخ في الله, لأحببت أن أضعها في فمه! فهؤلاء هم الذين كانت الأخوة والمحبة في الله عندهم بهذه المنزلة العالية, ولذلك لو لم يدخلهم الجنة إلا هذا لكفى، فهذا من أعظم ما يرجو به الإنسان الجنة. قال أنس -رضي الله تعالى عنه- عندما سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {يحشر المرء مع من أحب يوم القيامة، قال: فأنا والله أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم} فهذه نعمة عظيمة، فلينظر الإنسان من يحب, ولينظر من يخالل, ولنعرف قيمة الأخوة في الله, والأخوة في الله ليست مجرد مشاعر أو عواطف تأتينا إذا التقينا وذهبنا وأتينا, بل الأخوة الصادقة أن تكون محباً ومؤثراً له, ناصحاً صادقاً في معاملته ووفياً, إذا احتاج إليك فإنك تنجده: ما استطعت، وتبذل له ما استطعت. سأل بعض التابعين بعض تلاميذه: {{كيف محبتكم في الله؟ قالوا: الحمد لله, نتحاب ونتآخى في الله, قال: أيمد أحدكم يده إلى كُمَّ أخيه، فيأخذ منه ما يشاء ويدع ما يشاء؟ قالوا: لا, قال: إذاً أين المحبة؟}}. هكذا تبلغ بهم المحبة، فيشعر الإنسان أن ما يملك فهو لأخيه, وما يملك أخوه فهو له من مال أو من مساعدة أو من خدمة يمكن أن يقدمها الإنسان لإخوانه في الله، فهذه هي حقيقة الأخوة.

إصلاح القلوب

إصلاح القلوب يقول أبو سليمان الداراني -لنعرف كيف كانت سيرته في العزوف عن الدنيا، والتعلق بالآخرة، والخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قال: 'إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب، لم تزحمها الآخرة؛ لأن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة، ولا يزاحم إلا اللئام'. إذاً الذي ينبغي للإنسان أن يجعله في قلبه هو الآخرة، أما إذا كانت الدنيا هي التي في القلب فلننتبه، فلا بد من يقظة، ولا بد من عزيمة، ولا بد من عمل، فلا نتوقع أن تأتي الآخرة فتزحمها أبداً، فالإنسان لا بد أن يعلم ما الذي يضع في قلبه, فإن كانت الآخرة فليحافظ عليها من مزاحمة اللئيمة، وإن كانت اللئيمة, فليطردها وإلا فلن تخرج؛ والكريمة لن تزحمها ولن تدخل.

لربهم يرهبون

لربهم يرهبون وممن اشتهر عنه جانب الخوف -وهم كثير- رجلان عُرِفَا بذلك أكثر من غيرهما كما قال بعض السلف: 'أكثر الناس بعد الصدر الأول من الصحابة وكبار التابعين خوفاً رجلان هما: عمر بن عبد العزيز وسفيان الثوري كأن النار لم تخلق إلا لهما'. فمن كان يتأمل ويرى حال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه فإنه سوف يقول: (ما خلقت النار إلا له) فكأنه يشعر أنها ما خلقت إلا له, وحياته فيها الكثير من العجائب! ولذلك فإنّ ابن الجوزي رحمه الله -صاحب صفة الصفوة - لما تكلم عن سير الصالحين والعباد, أفرد الكبار المشاهير بكتب مستقلة, ومن الذين أفردهم ابن الجوزي بتراجم مستقلة- لأنهم كانوا أكثر وأشهر وأعظم من أن يحصرهم ضمن تراجم مع غيرهم عمر بن عبد العزيز، فله كتاب عظيم عنه, وله كتاب عن سفيان الثوري وهو -والله أعلم- مفقود, وما بلغني أنه موجود, وحبذا لو يظهر!! والثالث عن الإمام أحمد بن حنبل. ومن حكمة الله أن يذكر غير الصحابة -أيضاً- في التحدث عن تلك الفضائل, فلو ذكر الصحابة فقط لقال الناس: "هؤلاء صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن يبلغ ما بلغوا؟ " لكن تأتي هذه النماذج, بعضهم في وقت الشدة ووقت الفتن ووقت البدع, وبعضهم في زمن الحجاج.

عمر بن عبد العزيز والهمة العالية

عمر بن عبد العزيز والهمة العالية عمر بن عبد العزيز الذي جاء في زمن الفتنة والشهوات, والدنيا قد أقبلت ومع ذلك فقد أُثِرَ عنه أنه لما كان أميراً على المدينة [[جيء له بثوب, فقال: كم ثمنه؟ قالوا: خمسمائة دينار, فقال: رخيص! فلما ولى الخلافة جيء له بثوب, قال: كم ثمنه؟ قالوا: عشرة دراهم, قال: هذا غالي!]] فانظر كيف تبدل حاله! قال بعض جلسائه: والله يا أمير المؤمنين! إني لأذكر؛ لأنه في أول شبابه كان مترفاً رضي الله تعالى عنه مرة عرض عليك الثوب بكذا وكذا دينار, فقلت: رخيص، فقال كلاماً عظيماً عجيباً جداً! قال: [[تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما وليتها تاقت نفسي إلى الخلافة, فلما وليت الخلافة تاقت نفسي إلى الجنة]] فهذه هي الهمة العالية! لما ولي الخلافة، كان يحكم الدنيا, ولو أن رجلاً أقسم بالله أنه كان يحكم الدنيا ما حنث ولا أثم كما يعبر الفقهاء، إذ كان يحكم من جنوب فرنسا إلى بلاد المغرب وأفريقيا إلى بلاد الشام والعراق والترك وحتى حدود الهند والصين , وتدفع له الممالك من غير المسلمين الجزية, هذه هي الدنيا! أما الأمريكتان واستراليا فلم تكن معروفة, وأما أوروبا فإنهم همج ولو أُعْطِيَتْ لأحد ذلك اليوم لما قبلها, ولو قيل له: احكم أوروبا , لقال: ما أريد بها وهم همج رعاع لا خير فيهم. إذاً فقد كان يحكم الدنيا, فتطلع إلى ما هو أعظم من الدنيا, فقال: (الآن تاقت نفسي، أي: اشتاقت نفسي إلى الجنة). إن القيمة الحقيقية هي في الآخرة, أما الذي يُعظِّم الدنيا ويحبها ويريد ما فيها, فقد يحصل عليها ولو بأغلى الأثمان, لكنها سرعان ما تنتهي وتذهب, وهكذا الدنيا! ليس فيها شيء يدوم! بهرج وبريق كبرق السحاب الخلب, ثم تذهب وتنتهي أما النفوس العالية ذات الهمة العالية، فهي لا تنظر إلى مجرد المتاع كالهمم الدنيئة. كما قال بعض السلف: 'القلوب نوعان: قلوب تطوف حول العرش, وقلوب تطوف حول الحش' أي: المرحاض, ويعنون بذلك أنَّ أهل الدنيا كل تفكيرهم في شيء نهايته إلى ذلك المرحاض: شهوة النساء، أو شهوة الأكل، أو شهوة كذا, فكلها في المرحاض وما حوله؛ لكن هناك قلوب تطوف حول العرش, فهي دائماً هناك! تفكر في آلاء الله، وفي صفات الله، وفي أسماء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي هذه المعاني العظيمة, تُفكر دائماً فيما عند الله, تفكر في جنات عدن التي سقفها عرش الرحمن، وهكذا يعيش الناس في دناءاتهم, وهم بهذه الهمة العالية.

الورع وابن المبارك

الورع وابن المبارك ولشهرة هؤلاء أخذنا بعض النماذج الأخرى, ومنهم عبد الله بن المبارك -رضي الله تعالى عنه- الذي كان مجاهداً، وكان عابداً, جمع بين الجهاد وبين العبادة وبين الكرم, وسيرته عجيبة. عبد الله بن المبارك -رضي الله تعالى عنه- كان في أصله من أولاد الملوك, وكان أجداده من ملوك فارس، وكانت أمه تركية, وعنده عجائب في الورع وفي الزهد. يقول أحد تلاميذه: 'رأيت في منزل ابن المبارك حماماً -كما نرى نحن الآن في البيوت من الحمام الذي يربى في البيوت- فكأنه استغرب أنَّ هذا الحمام يتكاثر ولا أحد يأخذه, فقال عبد الله بن المبارك: قد كنا ننتفع بفراخ هذا الحمام, فنأخذها ونذبح ونطعم أبناءنا أو ضيوفنا, قال: فلم نعد ننتفع بها اليوم, قال: لماذا؟ قال: اختلطت بها حمام غيرها, فتزاوجت بها, فنحن نكره أن ننتفع بشيء من فراخها من أجل ذلك'. سبحان الله! بخلاف هذا الزمان! فالواحد لو قُدِّر له أن يلتهم ما عند الجيران وما عند الزملاء وما عند الموظفين لأكل؛ مع أن المسألة ليست أن تشبع أو أن تكنز المال! فكِّر! فأمامك حساب، فهذه شدة حذرهم وخوفهم رضي الله تعالى عنهم. وقد بلغ من شدة خوفه وتفكره مبلغاً عظيماً, قال سويد بن سعيد: رأيت عبد الله بن المبارك بـ مكة أتى زمزم فاستقى عنها ثم استقبل الكعبة، فقال: 'اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {ماء زمزم لما شرب له} وهأنا أشربه لعطش يوم القيامة'، فحين ترى ما يفكرون فيه، وهم يعملون الطاعات، إذ هو في عبادة وهو في حج، فإنك ترى فيهم مصداق قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. قال نعيم بن حماد: 'كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق -والمقصود أي حديث في باب الرقاق- فكأنَّه بقرة منحورة من البكاء, لا يجرؤ أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء'.

التواضع عند ابن المبارك

التواضع عند ابن المبارك ومن عجيب كلامه ما نقله عنه عبد الله بن خبيب 'قيل لابن المبارك: ما التواضع؟ قال: التكبر على الأغنياء'. ولا يعني أن الإنسان يظلمهم أو ينظر أنه أفضل منهم, إنما الحكمة واضحة ومقصودة, وهو أن تشعر أنك بما عندك من إيمان وتقوى وعبادة خير من هؤلاء, فهذه حقيقة التواضع, وليس أن الإنسان إذا رأى أحداً من هؤلاء فإنه ينبغي له أن يتواضع, فليس التواضع أمام الأغنياء أو أمام الكبراء في كلمة الحق أمراً مرغوباً فيه شرعاً, بل قد يكون هذا التواضع داخلاً في باب آخر في باب الخوف من غير الله أو في باب محبة الدنيا؛ فلو رآك أهل الدنيا ومن لا خير فيهم تتواضع أمامهم, لقالوا: هذا يطمع فيما عندنا, وهذا يريد المال, وهذا يريد شيئاً! لكن لو رآك الأغنياء وأهل الدنيا وأنت تتكبر عليهم بأن يدعوك فلا تذهب, فإذا دعاك فقير طالب مسكين, لا يملك شيئاً من حطام الدنيا وأجبته, وذاك يرى ويسمع, لعلم أنك متكبر عليه، فهذا هو المقصود, وليس التكبر هنا أنك تغمطه فضله أو حقه, بل أن يعلم أنك لا تنظر إلى جاهه ولا إلى منصبه ولا إلى أي شيء, خاصةً إذا كان من أهل الدنيا الذين لا يريدون الله واليوم والآخر. وليس كل من آتاه الله مالاً فهو كذلك, ليس هذا هو المقصود, إنما المقصود أن يرى الناس فيك هذه الصفة. جيء إلى سعيد بن المسيب , والخطبة ابنته لولي عهد المملكة والخلافة الوليد بن عبد الملك , فـ عبد الملك خطبها لابنه الوليد فرفض وأبى, وَزَوَّجَها من ذلك المسكين طالب الحديث، ورفض أن يعطيها لـ ابن عبد الملك بن مروان الذي كان يحكم الدنيا من شرقها إلى غربها. إذاً: فهذا هو التكبر على أهل الدنيا، وهذا هو التواضع. وهذه حقيقة التواضع حتى لا يفهم بعض الناس من سير هؤلاء الأجلة والعلماء أن التواضع هو ما فهمه الصوفية من الاستخذاء والاستجداء, فهؤلاء لو راح الواحد منهم يريد أن يعمل دعوة، فأول ما يبدأ بالأغنياء, ويطرق بيوت الكبار؛ حتى لو أرادوا عملاً من أعمال الخير ولو كان موعظة أو تدريساً في مسجد فإنهم لا يذهبون إلا إلى مساجد الأغنياء وإلى مجالس المترفين! نسأل الله العفو والعافية, وهذا فهم الصوفية الذين تنقطع قلوبهم من حب الدنيا, وفي نفس الوقت يدعون أنهم من أهل الله, أما المؤمنون الصادقون الذين يؤثرون حقيقة الآخرة على الدنيا, فإنهم لا يبالون بهؤلاء, وإنما ينظرون إلى الإنسان من جهة إيمانه وتقواه، فيحبون لله ويوالون فيه {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].

الأسئلة

الأسئلة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

الهوان على الله

الهوان على الله Q الشخص الذي كان غارقاً في المعاصي والذنوب, وكان هيناً على الله، ثم يتوب عن ذلك ويصلح, فيصبح غير هين على الله؛ فما هو أساس هذا؟ ثم أحياناً يكون عكس ذلك كالذي يتحول من ظاهر الصلاح إلى المعاصي؟ A الخيار بيد العبد، فإن أراد أن يكرمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فليتق الله، وليحفظ نفسه من المعاصي ومن الذنوب, وليصدق مع الله في ذلك، فإذا صدق مع الله، في إرادته الخير والهداية, أكرمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمزيد الفضل والإيمان ورفع الدرجة، وحجزه عن المعاصي والذنوب. أما إذا تخلى عن ذلك, وكان إيمانه قليلاً أو ضعيفاً أو كان مدخولاً، وعصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يهان {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] ولو كانت له ذلك منزلة عند الله عز وجل فيما يرى من نفسه ولو كان قبل ذلك على طاعة وعلى خير وإحسان وإخلاص في ظاهر نفسه, لكنه ارتد وانتكس! فهذا قد أهان نفسه، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو علم فيه خيراً لحجزه ولعصمه بما قد سبق له، لكن لا بد أن في تلك الأعمال ما لا يقبله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, أو فيها ما لا نعلمه من المفسدات أو المحبطات, أو اقترن بها ما لم يجعلها تعطي الإنسان المراد والمطلوب من مثل هذه الطاعة. فالمقصود أن الأمر بيد الإنسان, والله وسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] فمن أراد كرامة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فطريق الكرامة أمامه، ومن أراد غير ذلك فهو كما أراد، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له}. إن كان من أهل الكرامة والفوز والنجاح فهو ميسر له ذلك, وإن كان من أهل الشقاوة والغواية فإنه ييسر له ذلك, فلا تناقض في هذا.

خشية الرياء من علامة التقوى

خشية الرياء من علامة التقوى Q إنني أحياناً في قيامي بعبادتي، وخاصة التي تكون أمام الناس أكون في صراع مع نفسي، هل أنا مراءٍ أم لا؟ وأذكر أحياناً دعاء كفارة الرياء؟ A هذا من جملة ما يقع لأكثر العبَّاد، ونرجو أن يكون ذلك من علامة التقوى، لأنه كما قال الحسن البصري رحمه الله عن النفاق [[ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن]]. والرياء يحبط الأعمال {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، والله تعالى يقول كما في الحديث القدسي الصحيح: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك} أو قال: {تركته وشركه}. فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، لذلك فإن كل عبد تقي يخاف الشرك الأصغر "الرياء" الذي يحبط الأعمال، وقد يكون الرياء شركاً أكبر كرياء المنافقين، أي: إذا كان الرياء في أصل الإيمان. فالخوف من الرياء من سمات المتقين الصالحين، ولا ينبغي للعبد المؤمن أن يمنعه شبهة الخوف من الرياء أو أن الناس ينظرون إليه عن عمل من أعمال الخير أو الصلاح. إن كنت تقرأ القرآن، أو تصوم، أو تصلي، أو تتصدق, أو تعمل أي عمل من أعمال الخير، تفعله أنت عن إيمان وعن محبة لهذه الطاعة، وتقرب إلى الله تبارك وتعالى, فلا يمنعنك من ذلك خشية كلام الناس، فتخشى أن تقع في الرياء، فتقول: لا أعمل الطاعة، فهذا باب من أبواب الشيطان التي قد يدخل بها على الإنسان، ولهذا قد ورد عن بعض السلف أنهم قالوا: 'العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس كفر'. إذا كان الإنسان يعمل الطاعة من أجل الناس فهذا رياء, فإن تركها من أجل الناس لأي سبب من الأسباب فهذا كفر! نعوذ بالله منه. إذاًَ: الإنسان لا يترك الطاعة، إنما يعمل الطاعة من جهة ويقاوم الرياء من جهة أخرى, ويستغفر الله إن كان قد وقع له منه شيء. هذا هو الواجب، وإلا فالشيطان يُلَبِّس على كثير من الشباب في هذا، فبعض طلبة العلم ترك حفظ القرآن, لأن الشيطان أوهمه بأن حفظه جيد، وقراءته جميلة، فلو حفظت القرآن لافتنت. وبعضهم ترك الصلاة في المسجد، يقول: (إنني إذا سمعت القرآن لا أصبر من البكاء من الخشوع وأصلي صلاة خاشعة, فخفت من الرياء) فجعل الصلاة في البيت! وهذا هرب من شيء محتمل, فوقع في ذنب مؤكد وخطأ محقق؛ فليس هذا هو التعامل الصحيح الذي سنه لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا صحابته الكرام, بل من الأعمال ما ينبغي أن يجهر بها الإنسان مع الحذر من الرياء، كالزكاة مثلاً؛ قال العلماء فيها: يحسن أن يخرجها علانية أحياناً لما في ذلك من المصلحة، ولهذا ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الحالين: السر والعلانية في الإنفاق خاصة، أما السر فحتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه؛ ليكون أبعد عن الرياء، وأما العلانية ففيها فوائد عظيمة منها: - أن يكون أسوة لغيره ليقتدي به. - ومنها: -وهو مقصد شرعي. وإن كنا قد نغفل عنه- دفع الغيبة عن نفسه, كأن يقال فيه: "هذا مع كثرة أمواله لم يطعم مسكيناً!! ليس فيه خير"، ويدخل في الإثم بسبب الغيبة، فأنت تدفع ذلك عن نفسك، لكن بشرط ألاَّ ترائي، فتنفق علانية, وليس كما يفعل البعض من أنهم يقفون ضياعاً ثم يكتبون عليه هذا وقف فلان بن فلان! يكفي أن يعلم الناس في المحكمة أن الذي بنى الوقف هو فلان أو يعلم الجيران في الحي بأن الذي بنى المسجد هو فلان, فلو علموا ذلك فلا بأس، وربما يكون ذلك مدعاة لأن يتنافسوا في الخير، بشرط أن تأمن أنت على نفسك من الرياء. هذه حالات للقلوب، وكلٌ أدرى بقلبه وأعلمُ بنفسه، لهذا نجد السلف رضوان الله عليهم منهم من كان يعمل علناً، ومنهم من كان يعمل سراً، لماذا؟ لأن بعضهم كان يعلم من نفسه أنه لن يرائي، وأنه لا يهمه كلام الناس، فيفعل ما يشاء سراً أو علانية. والبعض كان يخاف، لأنه يعلم أن نفسه ربما تقع في ذلك، فكان سره أكثر من علانيته أو ربما لا علانية له، أما أهل الدعوة والعلم ممن يقتدى بهم، فلا بأس أن تظهر منهم بعض هذه الطاعات لمصالح كثيرة من أهمها: الاقتداء، لكن مع الحذر من الرياء. أما العبادة الخفية كعمل أعمال الطاعة في البيت، فلا يكون التحدث بها من غير داعٍ إلا رياءً, أما ما كان من أصله علانية فلا بأس أن يكون كذلك.

التفكر في صفات الله

التفكر في صفات الله Q هل التفكر في صفات الله صحيح؟ وما هو دورنا إذا وجدنا أي خطأ في كلامك يخالف الصواب؟ A أي خطأ تجدونه فردونا إليه، والإنسان معرض للغلط، فقد يتكلم في موضوع وينسى، فإذا كان حُفَّاظ القرآن أو السنة يخطئون، فكيف بمن يستنبط ويجمع من هنا وهناك؟! لا بد أن يقع منه خطأ فوجهونا جزاكم الله خيراً. أما مقولة: (نتفكر في صفات الله وأسماء الله) فليست خطأ، فنحن لم نقل: نتفكر في ذات الله، وإنما قلنا: التفكر في صفات الله، فمثلاً التفكر في اسم الله الكريم، ومظاهر كرمه على الإنسان، ومما تجد برده على قلبك، وأذكر تجربة بسيطة: كنت أتفكر في كرم الله وفي حلم الله وعفوه، فلما ذهبت إلى أمريكا، وتحدثت مع بعض الإخوان, قلت لهم: الإنسان هنا يرى يقيناً أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حليم وكريم، سبحان الله ما أوسع رحمته! وما أوسع وأعظم حلم الله! فهؤلاء عندما يرى الإنسان حياتهم، وهم أحط وأرذل، ومن أخس البهائم المعروفة وأخس الوحوش, ومع ذلك يعيشون في نعيم، فجنات الدنيا عندهم، وكل ما يريدونه ميسر لهم، يأكلون ويشربون ويسرحون ويمرحون ويعبثون بالدنيا، العالم كله يكاد أن يكون تحت سيطرتهم، إن أرادوا إسقاط دولة أسقطوها، وإن أرادوا إقامة دولة أقاموها بعد إذن الله سبحانه، آتاهم الله من ملك الدنيا شيئاً عجيباً، وهم يعيشون أحط ما يمكن من الحياة الدنيئة الذليلة التي يترفع عنها لا نقول: عباد الله المكرمون بل البهائم! وهذا يدلك على قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] إلى آخر الآيات، فالإمهال والاستدراج تجدها أمام عينيك، ومهما حُدثت عنها، فلن تجد مثل ما ترى. فتتفكر في ذلك، ثم إذا تفكرت في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] , وحين تنظر إلى هذه النجوم والكواكب، وكيف خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الخلق، والاتساع الذي تعجز العقول عن إدراكه، وهم يتكلمون في هذه الحياة الدنيا، في حدود الوجود الدنيوي، أي: السماء الدنيا فما دونها, ولا يتكلمون عن السماء أصلاً، لا يعرفون السماء ولا يذكرونها، ويظنون أنها مجرد فراغ, لكن ما يتكلم به الفلكيون الكبار المتخصصون عن أبعاد ما بين هذه النجوم شيء مذهل جداً يحير العقل! فتعرف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو المتصف بهذه الصفات، فيزداد عندك الخشوع لله والرغبة والخوف والرهبة منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أضرب لكم مثالاً ولله المثل الأعلى: إنسان كنت تراه كل يوم في العمل أو في الشارع، أو جار لك يذهب ويروح بطريقة عادية, ثم جاءك رجل واحد, فقال: هناك رجل اسمه: فلان بن فلان، كان وزيراً وكانت لديه الأموال، واخترع مخترعات عجيبة، وفعل ما لم يفعله الكثيرون، وهو ساكن هنا, فتقول: "هذا فلان جاري"، ثم عندما تراه مرة أخرى تنظر إليه، وقد تغيرت معلوماتك عنه، وتكرر النظر، وتسعد بلقائه، وترجو لو تستضيفه، كان هذا بعد أن علمت منجزاته, فارتفعت قيمته عندك. فكيف بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولله المثل الأعلى! إذا عرفت صفات الله، وتذكرت هذا الإله الكريم العظيم الذي هذه عظمته وقدرته, ومع ذلك كان رحيماً, ومن رحمته مع كمال غناه -كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]-أنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه, ومع ذلك ينزل إذا كان الثلث الأخير إلى السماء الدنيا، يخاطبنا نحن المساكين المحتاجين الفقراء: "هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من داع فأستجيب له؟! " فكلما تقرأ حديثاً عن الله، أو تعرف صفة من صفات الله في الكتاب أو السنة، فإنك تزداد -بإذن الله- تعالى إيماناً ويقيناً وحباً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ورغبة فيما عند الله وخشوعاً لله. ولهذا قال العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أنهم هم العلماء بالله وبأسمائه وصفاته وما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وبما يليق به وما لا يليق به. ولهذا كان من أفضل الأذكار تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتسبيحه وتقديسه. فهذا ما قصدناه، وأما الخطأ فأكرر وأقول: كلنا عرضة للخطأ، ورحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا!

التآخي في الله والبغض لأعداء الله

التآخي في الله والبغض لأعداء الله Q نرجو أن تسامحنا فقد تكلمنا فيك وبهتناك واغتبناك؟! A غفر الله لكم! نرجو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن نلقى الله وليس في قلوبنا أي غلٍ على أي مسلم إن شاء الله أياً كان، ومهما أساء إلينا، ونحن كلنا عرضة للخطأ، ونرجو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تكون عداوتنا وبغضنا وكلامنا في أعداء الله, حتى إذا لقينا الله يوم القيامة يكون خصمك عدو الله، لا رجلاً مؤمناً، وأنا أرجو من نفسي ومنكم جميعاً: أن نجعل عداوتنا وبغضنا وما في قلوبنا من مقت أو غضب أو كراهية دائماً هو لأعداء الله وأهل الشرك وأهل البدع ولأهل المعاصي المجاهرين المحاربين لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما المؤمن فمهما أخطأ عليك فهو أخ لك في الإيمان، وسيرده إليك إيمانه بإذن الله، وسيرجع إن كان فيه خير وإخلاص وإيمان، ولو بعد حين، ولنحذر أن يشكك الشيطان بعضنا من بعض, وأن يفرق بيننا بالنقولات ونحوها ولا نعين الشيطان بها، ولتكن القلوب سليمة، لأننا من أحوج ما يكون إلى قلوب متآخية، نقية، متصافية، سليمة. أما أن تذب عن عرض أخيك، فهذا عمل عظيم قال صلى الله عليه وسلم: {من ذب عن عرض أخيه، ذب الله عنه النار يوم القيامة} , لكن لا تذهب إلى الآخر, وتقول: ذكرك فلان بسوء, فتزرع بينهما العداوة، بل دعهما متحابين، وفيما يظهر لهم، وأنت تقوم بواجبك دون أن يعلم أخوك.

العلمانية وضوابط التكفير

العلمانية وضوابط التكفير Q ما هي العلمانية؟ A العلمانية إذا كانت بمعنى اعتقاد الإنسان أن الدين مفصول عن الحياة، وأن الدين ينظم علاقة معينة بين الإنسان والله، ولكنه لا ينظم شئون الحياة, بل نلجأ ونرجع في تنظيم شئون الحياة إلى غير الله، وإلى القوانين الوضعية، والتقاليد والعادات والآراء البشرية، في الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والتربية والتعليم وما أشبه ذلك، فهذا الاعتقاد كفر لا شك فيه. وهو اتخاذ ندٍ مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أشنع وأشد من كفر الجاهليين المشركين الذين جعلوا شيئاً من الحرث والأنعام لله، وشيئاً منها لغير الله كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم في سورة الأنعام، وما أشركوا به أيضاً من البحيرة والسائبة إلى آخر ذلك. فهذا الاعتقاد شرك وكفر، لكن ليس كل من قال هذه العبارة أو تلفظ بها يكون كافراً مشركاً الشرك الأكبر. لأن المعين لا بد في تكفيره من تحقق شروط وانتفاء موانع، فقد يقولها عن جهل، بغير قصد، وبتلبيس، وقد يقصد أمور الدنيا (أي: الأشياء العادية) مما قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنتم أعلم بأمور دنياكم} أو شيئاً من هذا، فالتلبيس وارد على الناس في هذا الأمر. فنحن عندما نريد أن نجلي حقيقة من حقائق الدين والشرع, فإننا نبينها ونقول: هذا الاعتقاد توحيد، ذاك الاعتقاد شرك أو كفر، ونوضحها بالأدلة. أما الحكم على المعينين، فلا بد من استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع. فقد يتفق اثنان في كلمة أو في عمل، وأحدهما كَفَر وخرج من الملة، والآخر معذور.

التفكر في آثار الصفات

التفكر في آثار الصفات Q هل صحيح أن نقول: لا يجوز أن نتفكر في كيفية الصفات، ومطلوب أن نتفكر في معاني وآثار الصفات؟ A نعم، هذا هو المقصود، وأذكر فائدة هي أن شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- قال في الاستدلال بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إنه لا يمكن ولا يصح ولا يجوز أن يشرع أحد من دون الله؛ لأن المشرع لا بد أن تجتمع فيه صفات كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} [الشورى:10] إلى أن قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، وما دام لا يوجد أحد فيه هذه الصفات, فلا يمكن أن يشرع أحدٌ إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فاستدل بمعاني هذه الصفات على هذا الأمر العظيم، الجليل.

أرتيريا المسلمة

أرتيريا المسلمة Q ما هي الأحداث في إرتيريا؟ A هذه ورقة من المجاهدين الأريتيريين وأنا أوجزها: المعارك استمرت بينهم وبين الجبهة الشعبية التي يؤيدها العالم الصليبي كله مع الأسف، ونأسف لأن بعضاًَ ممن ينتمي إلى هذه الجبهة من المسلمين. أما قيادتها فهي صليبية وتتمسح بالولاء للمعسكر الاشتراكي، ولكن أموالها ومددها وعلاقاتها من العالم الغربي الصليبي، ومن النصارى المتعصبين في الفاتيكان وغيرها. وذكروا أنه في (5،17) من ذي الحجة، وقعت معارك بين المجاهدين وبين هذه الجبهة الصليبية الخبيثة, وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد نصر المجاهدين نصراً مؤزراً, والحمد لله على ذلك، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينصر المسلمين المجاهدين في كل مكان، وأن يرزقهم العزيمة الصادقة والإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وهذا يستتبع منا واجباً عظيماً، وهو الدعاء لهم والتبرع لهم ومساعدتهم، مع أنهم لم يطلبوا ذلك، لكن أقول: واجب علينا أن ندعو وأن نتبرع، وأن نمد لهم يد العون، ونمدهم بما نستطيع إن شاء الله.

نماذج من النشرات التنصيرية، وكيفية التعامل معها

نماذج من النشرات التنصيرية، وكيفية التعامل معها Q هناك نشرات تنصيرية ونطلعكم على بعضها، وكيف نتعامل معها؟ A هذه نشرات تنصيرية، وفي كل أسبوع أصبحت تأتي هذه النشرات وتنتشر, وأنا لا أريد أن أُبين إهمال الرقابة أو الجمارك أو التجار, أريد أن أبين إهمالنا نحن! لماذا؟ لا أخفيكم أنني اتصلت ببعض المسئولين بالجمارك، فقالوا: أين أنتم؟! أي بضاعة فيها شيء من هذا, فلا تقولوا: نصادر هذا القماش ونحوه, بل اكتبوا لنا عن البضاعة, وعن التاجر, ونحن نسحبها من جميع الأسواق، ونعاقب التاجر! ولهذا لا بد من إعانتهم. هذه المسطرة -مثلاً- عليها رسومات: الرسم الأول مكتوب عليه: نحن نتعلم عن المسيح في الكنيسة، وفيها طلاب يمشون والكنيسة أمامهم مع الصليب. الرسمة الثانية: نتذكر الصلاة كل يوم. الرسمة الثالثة: أينما يقودنا المسيح فنحن وراءه. والكتابة بالإنجليزي، لكن -أيضاً- يقرؤها الناس، والآن يطالب البعض بتكثيف الدراسة باللغة الإنجليزية, وكأنهم رأونا أقوياء في العربية والشرع, ولا ينقصنا إلا الإنجليزية؛ لنستقبل البث المباشر، ونفهم ما يقولون، فيجب على من رأى شيئاً من هذا، أو الأقلام التي فيها صور عارية, أو أي شيء من هذه البضاعة- أن يبلغ عنها, فعند شرائك إياها من المكتبة, خذ فاتورة من صاحب المكتبة, وأرفق البضاعة هذه مع الفاتورة إلى إدارة الجمارك, فإذا لم تستطع توصيلها إلى إدارة الجمارك فأوصلها إلى الهيئة، والهيئة ترفع بها إلى الجمارك، فتسحب البضاعة من السوق، وأيضاً ربما يكون هناك عقاب أو اكتشاف لمن أدخلها، وهو إما جاهل أو خبيث، قد يكون موظفاً نصرانياً خبيثاً أو متعاقداً أو عاملاً، وقد يكون غير ذلك.

الهدي النبوي في الضحك

الهدي النبوي في الضحك Q هل يليق بطالب العلم الذي يأخذ من ميراث النبوة أنه إذا ضحك سمعت له قهقهة, نرجو أن توجهنا إلى أدب الضحك والابتسامة؟ A صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكثر من موقف أنه ضحك حتى بدت نواجذه الشريفة، صلوات الله وسلامه عليه. فالضحك والتبسم إذا كان لسبب يقتضيه، فإنه ليس مما يعاقب عليه، لكن المبالغة في الضحك، أو كثرته أو أن يتشبه بالفساق, كما هو حال بعض الناس ممن يضحكون كضحك الفساق، أو كضحك من يرونه على الشاشة من المجرمين الذين يسمونهم ممثلين، أو المبالغة التي تحصل عند بعض الناس, وهذه نقولها للطلاب خاصة, فبعض الشباب يجمعون النكات، وفي اليوم الثاني كل واحد يخبر الزملاء بآخر ما سمع! فأصبح الغرض هو الضحك. بل بعض علماء النفس -كما يسمون- يقولون في علاجهم: حاول أن تضحك! مع أن الضحك بهذا الشكل لا يحل المشكلة، بل مثله مثل مجروح بجرح عميق غائر، فوضع عليه ما يغطيه عن أعين الناس فقط! لكن ليس عندهم إلا هذا، فهم لا يستطيعون معالجة أسباب القلق والاكتئاب واليأس, ويقولون: الضحك علاج! وأصبحنا نقرأ هذا في عدة مجلات طبية أو علمية! ومن الأدلة على غلبة الشقاوة على الناس بإعراضهم عن ذكر الله، أنك تجد هذا الكلام (ابتسم واضحك) غالباً في كل جريدة وفي كل إدارة وفي كل مكان، وخاصة الأمم التي لا تؤمن بالله تعالى. ونحن هنا مع الأسف نستورد منهم كل شيء! ولذلك أصبحوا يضربون المثل بالابتسامة الغربية، أو الابتسامة الإنكليزية كما يسمونها! نحن أَدَّبنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأَدَبِ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود بين أيدينا حتى في ضحكه وفي نومه وأكله وشربه، وهناك كتاب عظيم في هذا المجال ألفه الإمام ابن القيم رحمه الله زاد المعاد والذي يسمى: زاد المعاد في هدي خير العباد صلوات الله وسلامه عليه, فهذا الذي يجب أن يكون هدينا في أمورنا كلها عليه.

معنى التطرف عند الغربيين

معنى التطرف عند الغربيين Q جاء خبر يقول: إن الغربيين زاروا العرب ليبينوا لهم خطورة الجماعات، نرجو التعليق عليه؟ A رمتني بدائها وانسلت!! هذه تكملة هذا الخبر. إن الغربيين الفرنسيين ما وجدوا عند من زاروهم الإلمام الكامل بخطورة هذه الجماعات! فجاءوا من هناك من باريس يعلمونهم خطورة هذه الجماعات، ويقولون: لا بد من الاهتمام بذلك، الله المستعان!! وذكروا أن الدول الأوروبية استضافت العديد من قادة هؤلاء الجماعات. وقبل أيام سمعنا أن (600 مليون دولار) وقبلها (300 مليون دولار) أعطيت للجزائر , وهذه هي المكافأة! فأصبحوا يقولون: لا! إن الغرب يتعاون مع هذه الجماعات، وهي تهمة على كل حال. عموماً ما يهمنا هو واجبنا نحن المسلمين، فواجبنا هو العدل ومعرفة الأمور على حقائقها، وأن نعلم أن هؤلاء كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118] يوصون ويحذرون من خطر المتطرفين, وعندهم أن من طالب بإقفال مصنع للخمور, فهو متطرف! ولذلك في الغرب -كما في صحفهم- يعتبرون بلدنا هذه كلها متطرفة، ويقولون: بلد متطرف! لأن الزنا ممنوع، والخمر ممنوع، وإذا اكتشف أن امرأة زنت تعاقب، سواء في بيت الزوجية أم لا، ولا يكادون يصدقون هذا، لأن عندهم قانون نابليون الذي عمل به الغربيون والدول التي استوردت قوانينهم, أن الجريمة ما كانت على فراش الزوجية! وأذكر هنا قصة حدثت في مصر , وذكرها الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- أن أحدهم دخل بيته, فوجد رجلاً يزني بأهله, فأراد الزوج أن يقتله، ولكن الزاني سبق وقتل الزوج، فحكمت المحكمة بأن ذلك الرجل مضطر وأنه كان في حالة دفاع شرعي عن نفسه، أما الزنا فموضوع آخر! المتطرف هو الذي يرفض الزنا، وهذا أمر ليس بالغريب منهم، إنما الغريب والعجيب أن يقول هذا بعض أبناء المسلمين وفي بلاد الإسلام، هذه هي المشكلة!

خادمات أم أخدان

خادمات أم أخدان Q الخادمات أصبحن مشكلة! نرجو التنبيه إلى خطرهن؟ A نعم! وبعض ربات البيوت تقول: "الخادمة ضربت أبنائي، وعذبتهم بالنار" من الذي وكلها؟ من الذي جعلها خازنة على النار؟ وأخرى تقول: خادمتي كادت تقتلني بعد انتهاء دعوة العشاء، وهناك حوادث قتل, وغيرها من الأعمال الفظيعة، وعدة أمهات يقلن: تعلق طفلي بالخادمة، جعلها هي الأم وأنا الخادمة، والطفل معه حق في ذلك، فالخادمة هي التي تحمله وترضعه وتربيه، وأمه في العمل وفي الوظيفة، وفي المساء في الأسواق. والإخصائية الاجتماعية تقول: إذا لم يقم الأبوان بدورهما الحقيقي، فلماذا نلوم الخادمة؟ الخطر هو الاعتماد الكلي على الخادمة، واستقدام الوثنيات والمسيحيات؛ وهذا كلام نشرته صحيفة عكاظ في صفحة: (هو وهي) عن هذه الظاهرة الخطيرة. أساس الخطر هو استقدام الخادمة، وبغض النظر عن كونها وثنية -مع أنه لا يجوز للكافر من أي دين كان أن يقيم في جزيرة العرب وهذا معلوم- حتى ولو مسلمة، أين سفرها بلا محرم؟ وخلوتها بالرجل وأبنائه، وأين ما قد يكون في بعضهن من فسق، أو فجور تنقله من بلادها؟ وأين تكشفها؟ وأشياء كثيرة. بعض الناس إذا دخل الضيوف عنده, قدمت الخادمة لهم القهوة, وهي كاشفة الساقين والشعر، ويقول: هي خادمة! وما يقع في خلوة الخادم مع أهله، وما خفي كان أعظم مما ظهر من الدواهي والبلايا، فالأصل أنه لا يستقدم إلا من كان لديه ضرورة أو حاجة، فليستقدم المرأة مع زوجها، وليسكنهما منفصلين، بحيث أن المرأة تخدم أهله, ولا يراها ولا تراه، والرجل يخدمه, ولا يرى أهله ولا يراهم ولا يخلو بالنساء. وهذا ممكن ومعمول به، وإلا فأمهاتنا كن يعشن التعب والألم والشدة، ما كانت عندنا هذه المشكلة أبداً, كما أنه كان هناك تعاون بين الجيران فيما إذا مرضت المرأة أو نفست وهكذا، ولم تكن هذه المصائب والبلايا موجودة. لكن عندما أتانا التوظيف، والمرأة أصبحت مديرة مستشفى وموظفة, أصبحت تستنكف أن تنظف أو تمسك الطفل وتمسك القذارة بيدها، ولو كان ولدها! لأن هذا لا يليق بمقامها، فأصبحت خادمة تتولى الرضاعة، وأخرى أعمال البيت! لقد أصابها الغرور، وظنت أن الأمومة عمل دنيء وحقير، وأنها -باعتبارها المديرة والموظفة الراقية- تترفع عن هذه الأمور, وبهذا انتكست فطرتها وتعاملها وأخلاقها، وخسرت أغلى ما يملك، وأفضل ما يُقتنى في هذه الحياة الدنيا. وإذا سألت أم الطفل: هل يعدل هذا الطفل بالدنيا؟ فتجيب: وما هي الدنيا بالنسبة له؟! رغم تعبها وسهرها عليه، وهي سعيدة جداً، أما تلك فلا تدري المسكينة شيئاً, بل وحتى في أعمالها تخفق، فلا بد أن يظهر أثر هذه النفسية, لأنها حرمت نفسها من عاطفة الأمومة, وتاتشر -المرأة الحديدية كما سمتها الصحافة العربية والإعلام العربي- لما حدث الانفجار لولدها بكت، ووضعت يدها على خدها مثل أي أم تبكي في الشارع. لكن الأمهات المؤمنات لا يبكين، ولا ينتحبن ذلك الانتحاب، يقال: إن ابنك قد استشهد، فتقول: الحمد لله الذي شرفني بشهادته. وتلك نسيت أنها رئيسة وزراء دولة عظمى وأنها المرأة الحديدية، وصار الحديد ماءً، لأنها امرأة قبل كل شيء، امرأة في أفكارها ومشاعرها وعواطفها.

حكم تداول العهود السبعة

حكم تداول العهود السبعة Q ما قولكم -فضيلة الشيخ- فيما يسمى بالعهود السبعة؟!! A ما يسمونها بالعهود السبعة، فيها من الدجل والكذب على الله وعلى نبي الله سليمان عليه السلام وعلى التوحيد -الشيء العظيم, وهذه لا يجوز تداولها ولا بيعها ولا تصويرها. بل يجب أن تصادر كل نسخة منها، وأن يبلغ عمن لم ينزجر عن نشرها بعد أن يبين له ما فيها من كفر وشرك، كما ذكر الله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] فكيف ينسب إلى نبي الله سليمان عليه السلام هذا السحر؟! هذا تكذيب للقرآن، ومن صدق به فقد كذَّب كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الظلم التعسفي

الظلم التعسفي Q هل ما يأخذه الكفيل الذي يعمل عنده مكفول من ماله عنوة وتحت تهديد الخروج النهائي، أو بدعوى أنها تكاليف التعقيب، هل يعتبر هذا نوع من أنواع المكس؟ A المكس المقصود به العشور، أو الضرائب المأخوذة ظلماً، هذا إذا حددناه بالكلمة الشرعية, أما إذا أطلقناها بمعنى كل مال حرام، فهذا يدخل فيه الحرام. لكن لا يهمنا الاسم, إنما الذي يهمنا هو الحقيقة والمضمون، فأحدهم يأتي (100 أو 50) عاملاً، ويتركهم في البلد يفعلون ما يريدون، ثم في النهاية يريد منهم مالاً كل سنة أو كل شهر، وإن لم يجد العامل عملاً فإنه يأخذها منه بالقوة، أو يطرده ويجمع ثروته من خلال هؤلاء، وهذا لا شك أنه سحت. فلا بد من تقوى الله، كما في شرع الله لا كما في نظام العمل والعمال؛ لأن شرع الله أفضل وأرحم وأرأف وأرفق بالعامل وبالعمل مما في نظام العمل والعمال. ومما يعلم أن أحد الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة ودعوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان قد استأجر أجيراً، وذهب ولم يأخذ حقه، فنمَّاه له، فلما عاد بعد زمن قال: هذا مالك, وكان أوديةً من البقر والإبل والغنم، قال الأجير: يا عبد الله، أتهزأ بي؟ أتسخر مني؟ قال: لا، ولكنه مالك نميته، خذه بارك الله لك فيه, فلما دعا الله وتوسل إليه أنه إن كان عمل هذا العمل خالصاً لوجه الله الكريم، أن يكشف عنهم ما هم فيه، فكشف الله عنهم ما هم فيه! هذه العلاقة: هل يمكن أن يرقى إليها أي نظام، أو قانون، أو تشريع في الدنيا؟ لا يمكن أبداً؛ لأنها علاقة الأخوة والرحمة. ولهذا نقول: الأصل أنه لا يأتي إلا بالمسلم، وليس أي مسلم، بل المسلم التقي، فإذا جئت به وكان مسلماً تقياً، فهذه المعاملة لا تليق بالمسلمين الأتقياء، قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]، وقال صلى الله عليه وسلم: {من لا يَرحم لا يُرحم} وقال صلى الله عليه وسلم: {ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}. لقد كان في سوء المعاملة للمكفولين مآسي منها: كثرة السرقات من المنازل خاصة أيام الحج، والإجازات ثم تقيد ضد مجهول, وهذا فيه تعكير للأمن، وتعطيل لرجاله، والسبب هم أصحاب السحت. إن كل ما يرتكبه الجاني من جرائم فعليه وعلى صاحبه إثمها، وحتى وإن لم تعلم الشرطة، فالله هو العليم، وهو المطلع على كل شيء، لهذا يجب أن نتقي الله في العمال، وألاَّ نغتر بالأيام، فهي دول، كما قال الله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فربما يأتي يوم ونصير عمالاً عندهم. ولقد جاءني أحدهم، وقال لي: لماذا لا تتكلمون عن الظلم؟ فقلت له: وما هذا الظلم؟ فقال: العمال! لهذا لا بد من التواصي بالخير والمعاملة الحسنة، وفي كل ذلك أجر, كما أنه لا تَنْتَصِرَ أمة لا يُنْتَصر لضعيفها من قويها. وهذا لون ونوع من أنواع المآسي التي يعيشها الناس إذا ابتعدوا عما أمر الله به من التقوى والرحمة، ولهذا يأتي الشيوعي يقول للناس الكادحين: من الذي أكل مال الكادحين إلا هؤلاء الأغنياء؟! ومن الذي سحق الناس إلا هم؟ وكما قال لهم المجرم اليهودي المؤسس كارل ماركس: على ماذا تخافون أيها العمال؟ وأنتم لا مال لكم هيَّا إلى الثورة ضد الأغنياء الذين أكلوا أموالكم، ونوزعها بيننا. وهكذا جاء الشيوعيين من هذا الباب، وأخذوا يطالبون بتوزيع الثروات وبالعطف على الناس، وبكفالة كل فرد في الدولة، وتركنا نحن المسلمين هذا الأصل العظيم، وهو من أصول ديننا نحن, فهل هم مقرون في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعقيدة الإيمان باليوم الآخر {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1] ثم قال: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:2 - 3]. عن ماذا يتساءل المؤمنون المتقون؟ يقول تعالى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:40 - 42] لماذا جئتم إلى هذا الجحيم؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]. وماذا بقي؟ قالوا {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] وهكذا كان جزاؤهم، لم يطعموا في الدنيا فكان عقابهم في النار كذلك، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:45 - 46]. إذاً: الذي لا يعطف على الفقير والمسكين ولا يرحمه, فعمله عمل الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذي يشفق على الفقراء والمساكين والأرامل والضعفاء, فهذا عمله عمل المؤمنين بالآخرة. وهذا من ديننا, ونحن أولى الناس أن نطالب بالرأفة والشفقة وكفالة كل إنسان، وأن يُعطى كل إنسان ما يحتاج من ضروريات الحياة، وبدون أي مقابل وبدون أية منة. فعلى المجتمع: القرية أو الحي أن يعملوا جمعية أو أي شيء آخر يحاولون أن يحلوا من خلالها مشاكل الحي كجار فقير أو شاب أعزب أو فتاة عانس، وإذا لم يفعلوا, فيجب على الدولة أن تعطيه من بيت المال، فلا يضيع أحد ولا يجوع أحد، ولا يفتقر أحد، ولا يعزب أحد، ولا تعنس فتاة. فهذا من ديننا، ومن بدهياته التي لا يجوز أن ننساها أو نغفل عنها.

التعامل مع بيوت الربا

التعامل مع بيوت الربا Q ما قولكم فضيلة الشيخ فيما صدر عن أحد الشركات, وقولها: انطلاقاً من حرص قطاع التوزيع بالمنطقة الغربية على راحة العاملين وتسهيل صرف رواتبهم، وبموجب الاتفاقية المبرمة مع البنك السعودي الأمريكي وما يقدمه من خدمات للعاملين، فإننا نهيب بجميع العاملين بفتح حسابات شخصية لدى البنك السعودي الأمريكي, مع العلم بأنه سوف يتم صرف الرواتب إلى البنك, لذا نأمل من الراغبين في فتح حساب شخصي، مراجعة فرع البنك وموقع العمل إلى آخره؟ A هذا ليس خدمة ولا تيسيراً ولا تسهيلاً! وإنما هو من باب التعاون على الربا, والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. والبنوك الربوية محاربة لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا ساعدناها وأمددناها وأعطيناها وفتحنا فيها حسابات, فهذا إعانة لها وترسيخ وتثبيت لوجودها, وهذا حرام ولا يجوز، ونرجو أن تتراجع هذه الإدارة عن هذا القرار إن شاء الله. أما ضرر الربا على البنوك، فإن بعضها يفلس كما حدث لـ أمريكا عام (1930م)، فقد أفلست كل أمريكا، وانتحر أكثر أصحاب البنوك, وقبل حوالي سنة أو أكثر قليلاً, كادت أن تقع نفس المشكلة وكاد أن ينتحر الجميع، لكن تحسنت أوضاعهم. فالله تعالى يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، نتيجة الربا هي المحق الكامل، والآن البنوك تشتكي، وتقول: الذين أخذوا منا القروض لم يعطونا شيئاً, وإن شكوناهم, فإما أن نشكو أناساً لا نقدر عليهم، أو أناساً يبلغون أعداداً هائلة! ولهذا أصبحت تأتي أسئلة كثيرة من بعضهم فيما يخص البنوك وتعاملاتها المريبة؛ كأن يبيع البنك ديناً بلغ قدره (مائة ألف) (بخمسين ألفاً) , والباقي مقابل الدعوى والخصومة، وهكذا تظهر أثر المعاصي، وماذا كانت نهايتها وعاقبتها. ولذلك نحن ننكر هذا المنكر حتى لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وحتى لا يؤاخذنا الله بما فعله السفهاء منا. والله يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وأي انهيار اقتصادي للبنوك يظهر أثره على الناس أجمعين.

مظالم العباد

مظالم العباد تحدث الشيخ حفظه الله عن أنواع الدواوين عند الله يوم القيامة، فذكر منها ما تتعلق بحقوق الله وما تتعلق بحقوق العباد. محذراً من الظلم وعواقبه بذكر الأدلة الزاخرة من الوقوع فيه، ثم ذكر صوراً عديدة لظلم العباد بعضهم لبعض. مبيناً ما يتوجب على المرء فعله لرد هذه المظالم والتوبة منها.

دواوين الأعمال وتعلق المغفرة بها

دواوين الأعمال وتعلق المغفرة بها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: " وفي معجم الطبراني {الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:116]، وديوان لا يترك الله منه شيئاً وهو مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه} ' وقال المحقق وهو الشيخ ناصر: ضعيف ولم يروه الطبراني بل أحمد (6/ 240) والحاكم (4/ 575/276) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: قلت: (صدقة ضعفوه، وابن بانيوس فيه جهالة). الحديث كما ذكره الشيخ ناصر وراجعناه فوجدناه كما قال، فالحديث ضعيف في لفظه، لكن كون الدواوين ثلاثة تدل له جملة من الأحاديث والآيات. فأما الديوان الأول: الذي لا يغفر الله منه شيئاً كما جاء في لفظ الحديث يدل عليه قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وأما الديوان الثاني: الذي يتعلق بحقوق العباد التي لا يترك الله منها شيئاً، فهذا له أدلة كثيرة استنبط العلماء من مجموعها -وهذه عادة العلماء أنهم يستنبطون من مجموع الأدلة قواعد كلية عامة قطعية في الشريعة القاعدة التي تقول: ' إن حقوق الله مبنية على المسامحة أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة'. ومعنى ذلك: أن حق الله قد يغفره الله، ولا يؤاخذ فيه بالخطأ والنسيان والإكراه، ويقبل شفاعة الشافعين، ويتجاوز من غير توبة ولا استغفار لمن يشاء, ويقدر من المصائب ومن البلاء والهم والغم والنصب الذي يصيب المؤمن حتى الشوكة يشاكها، يكفر الله بها خطاياه ويكون له بها أجر. وهذا -إن شاء الله- سنأتي في تفصيله عند الكلام عن الكبيرة، والتوبة، والموازنة بين الحسنات والسيئات، والكلام عن حقيقة التكفير التي تكفره الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج إلى الحج، والعمرة إلى العمرة. أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة؛ فلا تسقط كما تسقط حقوق الله، ولذلك يؤاخذ الإنسان فيها بالخطأ والنسيان وإن لم يؤاخذ عند الله، فإنه يؤاخذ عند الناس بأمر الله وشرعه، على تفصيلٍ في ذلك على ما يقتضيه الحال والمقام والأحكام وهي كثيرة، ولكن هذه هي القاعدة العامة التي استنبطها العلماء من هذا الشأن.

التحذير من مظالم العباد

التحذير من مظالم العباد يجب على العباد أن يحذروا أَشَدَّ الحَذَرِ مِنَ المظالم، ومن الوقوع في حقوق العباد، والنيل منها، ومن ظلمهم والتعدي عليهم، والإساءة إليهم. وهذا تشهد له جملة من الأدلة تقدم ذكر بعضها، عندما تحدثنا عن حديث المفلس، وبعضها نعرض له إن شاء الله تعالى، وهي كلها تدل على عظم حق المؤمن، بل في الحقيقة على حق العباد عموماً حتى لو كان الظلم واقعاً على غير مؤمن، فإن العبد مسئول عن هذا الظلم؛ لأن ديننا هو دين العدل والرحمة، فلا يجيز الظلم بأي حال من الأحوال حتى لو كان على كافر، وهذا مما فرط فيه كثير من الناس وأهملوه وتجرءوا على حدود الله بما يتعلق بحقوق العباد. وفتح هذا الباب العظيم الرافضة قبحهم الله، والخوارج وحسبكم أن يكون هذا الباب إنما فتحته هاتان الطائفتان المارقتان؛ الروافض والخوارج بالطعن في خير الناس بعد الأنبياء وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والافتراء عليهم ونسبتهم إلى ما ليس فيهم، مثل أبي بكر وعمر وبقية العشرة. فهاتان الطائفتان فتحتا الأبواب لمن جاء بعدهم من أصحاب الفتن. والخوارج لا يطعنون في الشيخين، ولكن يطعنون في بقية الخلفاء الراشدين وكثير من الصحابة. أما الروافض فيطعنون في الجميع إلا الأربعة أو الاثني عشر على اختلاف درجاتهم واختلاف أصنافهم في الكفر والضلال، نسأل الله العفو والعافية. فحق المسلم على المسلم عظيم، والله أمر المؤمنين بأن يكونوا إخوانا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]، فهذه الأوامر من الله وهي مِنَّةً على هذه الأمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وكونوا عباد الله إخواناً}. ويقول تبارك وتعالى في حديث أبي ذر الصحيح: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} فالله غني عن كل أحد، وهو الذي بيده كل شيء، وكتب على نفسه سبحانه الرحمة، وحرَّم عليها الظلم؛ مع أنه لو فعل بخلقه ما يفعل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فليس بظالم؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عباده، ومع ذلك يقول: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}. فالتظالم من أكبر أسباب العقوبة في الدنيا والآخرة، وقد صح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما رواه أحمد وغيره {من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره} وهو حديث عظيم اشتمل على أربعة أمور:

الشفاعة في حدود الله

الشفاعة في حدود الله الحد الأول: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، لأنَّ أمر الله وشرعه أن تقام الحدود، وإلا فَلِمَ شَرَعَ الله حد الزنا والخمر والسرقة أو غير ذلك؟! وإن لم يكن من الحدود المعروفة في الاصطلاح الفقهي؛ لأن حدود الله إذا وردت في القرآن أو السنة، فهي أعم مما يذكره الفقهاء؛ فالتي يقصدها الفقهاء هي: العقوبات المقدرة؛ كل العقوبات وكل الأوامر والنواهي تسمى حدود الله، كما جاء في القرآن: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] والمقصود به هو كل ما شرع الله تعالى. ولذلك يشتمل هذا الحديث على التعزير وغيره من العقوبات المقدرة، وغير المقدرة وهي: التعزيرات؛ فمن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، إذ أن الله لم يشرعها إلا لتنفذ ولتقام، فمن حالت شفاعته دون قيامها فقد ضاد الله في أمره، وحاد أمر الله وعانده، وكفى بالمرء شراً ولؤماً وخبثاً وعناداً وكبراً أن يضاد الله تعالى في أمره. وهذا له موضوع آخر، ولكنه أول ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث وبقيه الثلاثة الأمور التي تتعلق بحقوق العباد.

خطورة عدم قضاء الدين

خطورة عدم قضاء الدين وأول ما ذكره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك وهي أعظمها وأهمها الدَّين {من مات وعلية دين فليس ثم دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات}. وكثير من الناس يتهاون في أمر الدين، فيأخذ كما يشاء، ولا يبالي بالقضاء أو الأداء، فليتنبه إلى ذلك، فمن كان عليه دين من هذه القضية فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فيكون العطاء من الحسنات أو يؤخذ ويطرح عليه من سيئاتهم.

المخاصمة بالباطل

المخاصمة بالباطل ثم قال 'ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى يرجع'. كثير من الناس دأبهم الخصومة بحق أو بغير حق، وهؤلاء شر الخلق عند الله تعالى، والألد الخصم هو المجادل الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، والأصل أن هذه الصفة إنما تكون في الكفار ليس في المؤمنين. وهذه الأيام تظل الدعاوى سنوات طويلةً، فكم سيظل هؤلاء في سخط الله؟! قديماً كانت الدعاوى والخصومات أن يذهب الطرفان إلى مجلس القاضي أو الأمير أو الخليفة فيقضي بينهما وينتهي الأمر، فلا شك أنه في غضب الله منذ أَنْ خاصم وجادل حتى يرجع، ولكن في زماننا هذا تستمر دعوى المدعي أشهراً أو سنوات طويلة، وفي كل هذه الأيام يظل في غضب الله تعالى؛ لأنه يخاصم بالباطل وهو يعلم. وليس هذا شرطاً في دعاوى الحقوق التي يُحتاج فيها إلى القضاء، بل تكون في جدال أو في اجتهاد في قضايا علمية، فيخاصم ويجادل ويعاند فيها وهو يعلم أنه مبطل غَيرُ صادق، فإن ذلك يشمله حسماً لمادة النزاع والجدل؛ لأنها الحالقة التي تحلق الدين، كما وصفها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

خطر الغيبة

خطر الغيبة في آخرها قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ومَن قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال} وردغه الخبال هي: عصارة أهل النار. وقد جاء الوعيد فيها لاثنين هما: شارب الخمر؛ فإنه يُسقى يوم القيامة من هذه العصارة وصاحب الغيبة، وبهذا يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرن حد مدمن الخمر بالذي يفتري على المؤمنين ما ليس فيهم، بسبب ظنه السيئ بهم. وقد حذر الله ونهى عن ذلك أعظم النهي، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] ولم يقل إن كثيراً من الظن إثم، ومع ذلك حذَّر من كثيره لأنك لا تعرف أيها الإثم، وأيها ليس بإثم، إلا إذا اجتنبت كثيراً من الظن، وهذا الظن السيئ تأتي معه شبهاتٌ وأدلة لا أصل لها في الحقيقة. فكيف إذا كان الأمر اختلاق وافتراء ومجازفة بغير علم وبغير برهان وبغير بينة؟! فكان جزاؤه أن يحبس في ردغة الخبال، وهي عصارة أهل النار. والنار كلها عذاب، وكلها نتن، وكلها ظلمة وقسوة وشدة، لكن طينتها وعصارتها أخبث وأنتن وأجيف! إذاً الأمر خطير، والمسألة ليست كما يظن الناس؛ فلا يجوز للإنسان أن يقول في الناس ما يشاء، وأن ينسبهم إلى الضلال أو البدع أو الكبائر، فإنه يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً كما في الحديث، ومثل هذه الكلمة التي يقولها الإنسان لا يكفرها إلا أن يستعفي ممن قال فيه، وأن يستغفر من ذلك، وأن ينشر ذلك كما نشر هذه الرذيلة، وهنا يكون الأمر في غاية الصعوبة. ولقد كان السلف الصالح في هذه القضية على ضربين: فمنهم من نظر إلى حال من اغتابه وافترى عليه وتكلم فيه، ونال من عرضه نظرة الإشفاق والعطف، وقال: هذا مؤمن وهذا مسلم، ولا أريد أن أقف يوم القيامة بين يدي ربي مع مؤمن ولو ساعة أو لحظة، فقال: كل من تكَّلم في عرضي من المؤمنين فهو في حل. ومنهم من كان على النقيض من ذلك، ومنهم سعيد بن المسيب كان يقول: 'والله لا أحل ما حرَّم الله، فالله حرَّم عرضي وحرم غيبتي فلا أحلها لأحد، فمن اغتابني فأنا أقاصه يوم القيامة '. ولا سيما مع شدة حاجة الإنسان يوم القيامة إلى الحسنات، وربما كان هؤلاء المغتابون والطاعنون والمفترون من ذوي العبادة والجهاد والصلاة، ولكن وقعوا في أعراض الناس ولم يتنبهوا لهذه الديون، وهذا الخطأ الذي لا يتنبه إليه كثيرٌ من الناس، ولذلك يقول: أنا أولى بأن آخذ من حسناتهم مقابل ما أخذوا من عرضي في هذه الدنيا. فلذا نرجو من الله أن نكون من أهل العفو والصفح، كما أمر الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] وهو ما يحثنا إليه. ويحببنا إليه ولكن في مقام التحذير من الوقوع في أعراض المسلمين نقول لأنفسنا: من يضمن أن من اغتبناه أو افترينا عليه أو جرحناه يعفو عنا، فهو لا يدري أصلاً، فيأتي يوم القيامة وله حسنات مثل الجبال من أعمال الذين اغتابوه وهو لا يدري بذلك، فلذلك هو أمرٌ جلل وخطير، نسأل الله أن يعافينا منه.

نصوص تزجر عن ظلم العباد

نصوص تزجر عن ظلم العباد وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث كثيرة صحت عنه فيما يتعلق بهذا الشأن، ونعني به حقوق العباد.

تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام

تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام ومن ذلك حديث أبي أيوب الأنصاري المتفق عليه وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} ولا ينظر إلى ما كان من العداوة. وهذه من حكمة الله بعباده؛ لأنه لا أحد يملك نفسه ألاَّ يغضب، وربما يوقع الشيطان النفوس بعضها ببعض، ولذلك أعطى الله النفس ما يكفيها لإشباع نزوة الغضب والهجر ثلاثة أيام؛ لأنه ما من نفس إلا وتغضب ويوقع الشيطان في النفوس ما الله به عليم، ولا يحل بعد الثلاثة الأيام الهجر، ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} لأنه هو الذي كظم غيظه كما مدحه الله في كتابه، فقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]. ولهذا حتى لا تحصل مثل هذه النزاعات فقد بَيَّن الله الطريقة المثلى لإبعاد هذا الأمر، فقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] ولم يقل: يقولوا قولاً حسناً، أو: يقولوا الحسن؛ بل قال: التي هي أحسن وأفضل، فما يمكن أن يقال يقولوه في حالة وقوع العداوة والخصومة بين المؤمنين؛ لأن الشيطان ينزع بينهم، فلو لم تقل التي هي أحسن لأوقع الشيطان بينك وبين أخيك، وباعد بينكما، وزاد الأمر فرقة. ولهذا أحلَّ الله الكذب في الإصلاح، وهذا من حكمة الله تعالى أن حرَّم الكذب إلا في ثلاثة مواضع، منها: إصلاح ذات البين {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فهؤلاء أهل الخير والإصلاح كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام يُصلحون بين الناس ويُقربون ما بين المتهاجرين من المؤمنين. أما المرجفون والمنافقون والنمامون الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يدخل الجنة قتات} وكفى بذلك وعيداً! فهم ينقلون ما قيل وربما زادوا عليه من عند أنفسهم، فالمصلحون يريدون أن يَصلوا ما أمر الله به أن يُوصل، وأما المفسدون فهم يَقطعون ما أمر الله به أن يُوصل.

إن بعض الظن إثم

إن بعض الظن إثم والحديث الآخر حديث أبي هريرة المتفق عليه، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث}. وهي صيغة للتحذير، وكم من الناس يظن ويتوهم ويتخرص ويتعرض وفي النهاية يرى أن ذلك كله كان وهماً وسراباً لا حقيقة له، ويندم ولكن لات ساعة مندم {ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً} فما أعظم هذه التوجيهات النبوية للمؤمنين! فقد نهى عن الظن وهي قاعدة عامة، ثم فصل في أمور منهية وهي مما يعرض بين الناس (لا تحسسوا ولا تجسسوا) فمعناهما متقارب (ولا تناجشوا) مأخوذة من النجش وهو: الزيادة في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها، وهذا سيأتي فيه حديث عظيم إن شاء الله بعد قليل. (لا تحاسدوا) كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] فالذي أعطاهم هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلماذا تحسده؟ فيما أعطاه الله من المال أو المكانة أو الشهرة أو ما أعجبك مما أعطاه؟ فما يدريك أن ذلك استدراج وأن ذلك فتنة وابتلاء وأن عاقبته تكون وبالاً؟ وأنك لو أعطيت مثله كانت عاقبتك السوء؟ فإنا نحمد الله تعالى على كل حال. {ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا}.

النهي عن البغضاء والشحناء

النهي عن البغضاء والشحناء وقد ذكر الشيخ رحمه الله صاحب مشكاة المصابيح أحاديث في هذا الباب، عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا} فهذان عبدان صالحان مؤمنان صائمان مصليان لكن بينهما شحناء فتفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، وهما اليومان اللذان كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحين أن يصومهما، فيغفر الله للمؤمنين وترفع إليه الأعمال فيقبلها إلا رجلين بينهما شحناء، وهذه إحدى المفاسد والأضرار المترتبة على البغضاء، فيقال: {انظروا هذين حتى يصطلحا}. وهناك حديث -أيضاً- قال فيه الشيخ ناصر: إنه صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث -هذا كما في المتفق عليه- فمن زاد فوق ثلاث فمات دخل النار} وهذا من أحاديث الوعيد. وعن أبي خراس السلمي أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه}، قال: في إسناده لين، ولكنه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وذكر أنه رجع عن تضعيف الحديث وأنه حديث صحيح. والحديث يدل على أنه إذا استمر الهجر سنة، فكأن الهاجر قتل الآخر وسفك دمه، فأي وعيد أشد من هذا؟!

النهي عن إيذاء المسلمين

النهي عن إيذاء المسلمين وهناك حديث عظيم جداً رواه الترمذي عن ابن عمر قال: {صعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبر، فنادى بصوت رفيع، فقال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه} والخطاب موجه لمن لم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ لأنهم أكثر من يتعرض لهذا الأمر، ولأن من أفضى الإيمان إلى قلبه، وغمرته التقوى، وأحياه الله بذكره ونوره بطاعته لا يمكن أن ينال من عرض أخيه المؤمن، ولا يتبع عورته، ولو فعل ذلك أو شيئاً منه فسرعان ما يعود ويتراجع، ويستغفر الله مما بدر منه، ويستحل أخاه مما نال من عرضه، لكن الذين يستمرون في ذلك، والذين جُبِلوا وطبعوا وتعودوا على النيل والطعن في المؤمنين ولمزهم وهجرهم فهؤلاء هم الذين يدعون الإيمان بأفواههم، ولم يفض الإيمان إلى قلوبهم؛ ولذلك قال: {يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم} والأذى عام بكل نوع من أنواع الأذى، سواء كان في عرضه أو ماله أو في بدنه أو في أي شيء يوصل إليه الأذى.

أمثلة على أذى المنافقين للمؤمنين

أمثلة على أذى المنافقين للمؤمنين وكان المنافقون والمرجفون في المدينة في الصدر الأول هذا حالهم، يتتبعون سقطات المؤمنين وزلاتهم ويجعلون ما ليس بعورة عورة، كما ذكر الله عنهم {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة:79] وأحياناً لا يجد المؤمن إلا شيئاً من التمر وربما كان منه نوعاً رديئاً، فيقول المنافقون: ' أما وجد غير هذا العذق الرديء؟ أليس لديه غير هذا الحشف يقدمه؟ ' ويسخرون منه ويلمزونه، وإن أتى بخير كثير وجاء بشيء من أجود ما يتصدق به وينفق، قالوا: لو كان فيه خير لترك هذا لعياله، فهذا حال المنافقين. وحسبك أنَّهم افتروا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أبي بكر وعمر. فهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قسم الغنائم يوم حنين وأكثر للمؤلفة قلوبهم، ولم يُعطِ المهاجرين والأنصار، فوجدوا شيئاً في أنفسهم من ذلك، فقال رجل والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله} فانظروا إلى هذا الإفك العظيم من هذا الرجل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {ويحك ومن يعدل إن لم أعدل}. فيطعنون في النيات والمقاصد. وهؤلاء يطعنون في النيات والمقاصد؛ فهذا الرجل لو قال: يا رسول الله كيف تعطي فلاناً وفلاناً، للمؤلفة قلوبهم الألوف وتترك خيار المهاجرين والأنصار؟ لربما كانت لمقالة وجه، لكنه قال: {إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله}، فلما قيل له هذا القول تأسى بموسى، فقال: {رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر}. وانظروا كيف يتأسى المتأخر بالمتقدم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] وهكذا فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء الذين يدعون الإيمان بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم {ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته} فإذا جعل إنسان نفسه مراقباً على أخيه المسلم، فيظل يسأل ماذا يفعل؟ فسيتتبع الله تعالى عورته، ثم قال: {ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحلة} فالويل كل الويل لمن تتبع الله عورته فإنه يفضحه ولو في جوف بيته، فأي الناس لا يُخطئ، وأيُّ الناس لا يُذنب، كلنا لولا ستر الله. أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح فإذا المستور منا بين ثوبيه فضوح فمن رحمة الله أنه يستر الذنوب والخطايا، وإلا فإن كل بني آدم خطاء، فأي وعيد يريدون بعد هذا الوعيد؟

أربى الربا

أربى الربا وعن سعيد بن زيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق}، وجاء في الحديث الآخر: {الربا سبعون باباً، أيسرهن مثل أن يأتي الرجل أمه} نعوذ بالله! وهل هناك وعيد أشد من هذا؟ ونهي وزجر أشد منه؟! ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد {درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية} فهذا حال الربا، وهذا وعيد الله في المرابين. كما أن هناك نوعاً من أنواع الربا لا يفطن له الناس ويغفلون عنه، وهو الذي نبَّه عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وإن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق} وهذا من الوعيد الذي يزجر القلوب المؤمنة عن أن تنال من أعراض المؤمنين. وفي حديث الإسراء يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم} وانظر أخي إلى هذه الصوة البشعة، ولو كان الذي يخدش هؤلاء هم الملائكة لكان أخف من خمشهم لأنفسهم، {فقلت: يا أخي يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس وينالون من أعراضهم} فهؤلاء كانوا في الدنيا ينهشون لحوم الناس ويتكلمون فيهم، فعقوبتهم يوم القيام أنهم ينهشون لحومهم. وفي حديث المستورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم} فمن يتقرب إلى ذي سلطان أو غيره بالكلام في أخيه المؤمن، والافتراء عليه، وأن ينسب إليه ما لم يقل مقابل شيء يناله من الدنيا، فإن كان هذا الشيء أكلة، أطعمه الله مثلها من النار {ومن كسي ثوباً برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من جهنم} وأيضاً لو كان الأمر مما يتعلق بالكساء والثياب فله مثل ذلك من النار {ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء يوم القيامة}.

الظلم المتفشي

الظلم المتفشي ومن أعظم ما يقع فيه الناس بالنسبة لحقوق العباد الظلم، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق عليه: {والظلم ظلمات يوم القيامة}، والله يقول: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59] والقرى أهلكت بالشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ولكن يدخل في ذلك ظلم العباد، والذي يشهد به التأريخ أن الدولة الظالمة يزيلها الله وينتقم منها ولو كانت مسلمة، وأن الدولة العادلة تبقى وتستمر أركانها وإن كانت كافرة، فالظلم وحده من أسباب محق الأمم والشعوب والأفراد. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته}. وهذا من أسباب جرأة الناس على الظلم وهم لا يشعرون، فإن الله لا يؤاخذ على الظلم من أول مرة وإنما يملي لهم، فيظلمون ثم يظلمون ثم يتعودون على الظلم حتى تصبح أعمالهم كلها ظلماً، كما كان فرعون وهامان وأمثالهم ظلمة بطاشين لا يخافون الله تعالى، فإن كان في أهله فهو ظالم لزوجته ولأبنائه، وإن كان في إدارته فهو ظالم لمن دونه، فما تراه إلا ظالماً. فهؤلاء ينسون أن هذا الإملاء سيعقبه انتقام من الله {حتى إذا أخذه لم يفلته} يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويجعله عبرة لمن يعتبر، ولكن العادة أن الظالمين لا يعتبرون، ولله في ذلك حكمة. وهنا من أعظم ما يدل على أن من عقوبة الذنب الذنب بعده، فإنك ترى الظالم يظلم وقد انتقم الله من ظالم آخر، فلا يعتبر ولا يرتدع عن ظلمه، ومن تاب منهم كان لعدم رسوخه في الظلم بعد، ثم قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وهذه الآية وإن كان ظلم القرى المذكور فيها هو الشرك، فكذلك تدل الآية على أن ظلم العباد خطير، وهو داخل في الآية كما استشهد به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوء عاقبة الظالمين وإن كانوا كافرين، وإن كان ذلك في الكفر، ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره إلى تبوك عندما مر بـ وادي الحجر قال: {لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي، ولما علم أن بعض الناس قد أخذ من مائهم وطبخ به، أمر بأن تكفأ القدر بما فيها}. وهذا كلام نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيجب أن نأخذه ونعض عليه بالنواجذ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ولنترك ما يقوله أصحاب الآثار، وأمثالهم المفترين على الله الذين يريدون أن يحيوا وأن يخلدوا هذه الديار ويصوروها وينشروها ويوزعوها، ويقولون: هذه مفخرة أن توجد في بلادنا، نعوذ بالله من الغفلة وطمس القلوب والأبصار! كيف تصبح أماكن نزول عذاب الله مفخرة تُعظم وتحُترم، ويطالب بأن تكون أماكن سياحية وترفيهية؟ وليس هذا من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من هدي الذين يخافون الله، ويعتبرون بمصارع الظالمين ومصائر الغابرين. والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشد وأعظم ما نهى عنه إضاعة المال، فلا يمكن أن يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإتلاف شيء من المال إلا إذا كان في ذلك مفسدة عظمى تربو على مصلحة هذا المال المنتفع به، فإراقتها دليل على شدة ما فيها من المفسدة.

محاسبة النفس

محاسبة النفس والحديث الآخر هو ما تقدم معنا من رواية البخاري عن أبي هريرة {من كان له مظلمة من أخيه من عرضه، أو شيء، فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه}. إذاً فتش نفسك يا عبد الله وفتشي نفسك يا أمة الله، وكل منا يفتش نفسه وينظر هل لأحدٍ من إخوانه المسلم مظلمة عنده من عرض أو مال أو من أي حقٍ من الحقوق، ولا تؤجلها إلى الغد فقد تموت الليلة، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، فصلاتك وصيامك، وحجك، واعتكافك، يذهب لهذا المظلوم ويذهب هذا الجهد كله بهفوات من اللسان، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه، وهذا أسوأ من الذي قبله، وذلك أن يكون الرجل ممن يقع في حقوق العباد، فإذا كان هذا المظلوم لديه سيئات كالخمر أو الزنا وغير ذلك، فإنها تصبح في ميزان ذلك الظالم ويتحملها عنه؛ مع أنه لم يعملها، وذلك لأنه تكلم في عرض أخيه المسلم الذي يكون قد وقع في تلك السيئات. ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك أيضاً لما قال لأصحابه: {أتدرون من المفلس}، وهذا الحديث فيه أسلوب ونوع من أنواع التعليم النبوي، وهو من أرقى وأفضل أساليب التربية والتعليم، في الوعظ والتعليم وذلك أن يسأل العالم المتعلمين: {أتدرون من المفلس}؛ فأذهان الناس -دائماً- تتجه إلى اصطلاحات معينة، فينبه العالم فيما يقصده الشرع. وأن الحقائق ليست كما هو ظاهر في الحياة الدنيا، فينبههم إلى حقائق الشرع والآخرة التي بما غفلوا عنها، ولذلك قال الصحابة {المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} وهم يعلمون بفطنتهم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أراد مجرد سؤال عن الذي يعلمه الناس جميعاً. فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إن المفلس من أمتي يوم القيامة من يأتي بصلاة وصيام وزكاة}. وهذه أفضل أنواع العبادة، وهي أركان الإسلام الثلاثة بعد التوحيد، وأعظم شي يتقرب به العبد إلى الله بعد التوحيد هذه الثلاثة الأركان: {ويأتي وقد شتم هذا} وقد انتشر الشتم بين المسلمين انتشار النار في الهشيم. وانظر إلى أصحاب الدكاكين والمدرسين -ولا سيما في المدارس- فبعض المدراء والمدرسين يشتم كل طالب ومدرس وكل فَرَّاش في الساعة الواحدة حتى إن بعضهم أصبح يشتم الجمادات، بل وربما بعضهم يشتم ويلعن نفسه ووالديه، فهذه قلوب ما هذبها الإيمان ولا روضتها التقوى. {وقذف هذا} والقذف قد يكون أعم من معناه الشرعي مما يتعلق بالعرض، فيراد به القذف العام: وهو رمي الإنسان بما ليس فيه، أو يراد به القذف الخاص: وهو قذف العرض، وكلا المعنيين كثير بين الناس. {وأكل مال هذا} وبعضهم لا يمنعه أن يأكل أموال المسلمين، وإن كانوا أيتاماً، وإن كانت من بيت المال إلا العجز والخوف أن يتفطن له الناس، ولا يخاف الله تعالى ولا يبالي بما أعد الله من الوعيد لمن فعل ذلك. {وسفك دم هذا} وقد يصل به الحد إلى ذلك، {وضرب هذا} فكل أنواع الأذية تدخل في هذا الحديث، فيكون الجزاء بعد ذلك في يوم الخزي والندامة، {فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه} والمطالبون لا يزالون يقولون: يا ربي حقي فيأخذ من سيئاتهم بقدر تلك المظلمة. {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]. فبعد أَنْ كانت له حسنات مثل جبال تهامة كما في رواية أحمد صار مفلساً.

أداء الحقوق

أداء الحقوق ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه مسلم: {لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء}. وأكثرُ الناس لا يفطن لهذه الأمور، ولما مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعنزين قال: {أتدري فيم تنتطح هاتان؟ قال: لا. قال: ولكن الله يعلم، وسيقضي بينهما يوم القيامة} فكيف بالمسلمين؟! فَمِنْ عَدِلَ الله يوم القيامة أن يُؤدي الحقوق إلى أهلها حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء فهذا مثال وعبرة للناس. وكل إنسان يناطح مما أعطي له، فبعضهم يناطح بالمال، وبعضهم يناطح بالجاه والمنصب، وإنما يناطحون من لا قرون لهم، ممن لا مال لهم ولا جاه ولا منصب. ولذلك خيرٌ للإنسان في الدنيا أن يُظلم ولا يَظلِم، وخير له أن يُغتاب ولا يغتاب، وخير له أن يُسب ولا يَسب وهكذا. وكن عبد الله المقتول أو المظلوم، ولا تكن عبد الله القاتل أو الظالم، فإن الحساب يوم القيامة، وإذا كانت البهائم تقاد بينها فما بالكم ببني آدم؟! وهناك فرق بين حال البهائم، وحال بني آدم في العاقبة، وذلك أن البهائم إذا اقتيد لبعضها من بعض يقول الله لها: كوني تراباً! أما أولئك فإنهم يؤمر بهم إلى النار، فإذا رأوا عذاب الله، ورأوا عاقبة أفعالهم وسوء المصير والخزي والندامة التي تحل بهم، وأنه لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو أفتدى به، تمنى أحدهم، وقال: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40]، فأحقر حشرات الدنيا، وأوهن البهائم وأمرضها التي تضرب وتهان، يتمنى الكافر يوم القيامة أنه كان مثلها -لأنه يقال لها: كوني تراباً- وأنه لم يكن، صاحب الجاه، أو الملك، أو السلطان، أو القوة الذي كان يستعلي على عباد الله تعالى ويظلمهم ويأخذ حقوقهم، فبعد أن يوقف للقصاص حتى يأخذوا حقوقهم كاملة يوم القيامة ويستوفوها بين يدي عزيز عليم، فإنه يؤمر به إلى النار.

دعوة المظلوم

دعوة المظلوم ومن هذا الباب -أيضاً- ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن {واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب}. وكثير من الناس لا يأبهون بهذه الدعوة، وكم من ظالم أخذه الله، ونزعه من بين أهله وبنيه وانتقم منه، وجعله عبرة بدعوة مظلوم! لأن الله عز وجل يقول لدعوة المظلوم: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين} فينتقم الله له ممن ظلمه، ولو لم يكن من زاجر عن الظلم إلا أن يعلم الإنسان أن دعوة المظلوم مستجابة لكفى، وإن كان في ذلك المظلوم ما فيه فالإجابة لدعوته؛ لأنه مظلوم لا لشخصه، فكيف إذا كان المظلوم من أهل التقوى والخير والإصلاح؟!

من عادى لي وليا

من عادى لي ولياً وقد قال تعالى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}، وفي بعض الروايات {إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب} والليث الحرب هو: الذي تشتد عداوته وتشتد شهوته للبطش والانتقام، فلا يعرض له عارض إلا وهجم عليه بأشد ما يمكن، وأنشب أنيابه وأظفاره فيه، فهذا يقال له: الليث الحرب، فالله يثأر وينتقم لأوليائه إذا تعَّرض لهم معترض كما يثأر الليث الحرب، ولهذا لم يُعادِ دعوة الله تعالى أحد إلا كبه الله على وجهه في الدنيا والآخرة، بالذل والخزي في الحياة الدنيا، وبالنار يوم القيامة. فالذين يستهزئون بأولياء الله، والدعاة إليه، أو ينالون منهم، أو يقعون في أعراضهم، أو يؤذوهم بما هو أكبر من ذلك، فليستعدوا لمثل هذه العقوبة، وليعلموا أنهم إنما يُحاربون الله، وأن الذي سينتقم منهم هو الله تعالى؛ لأن الواجب على المؤمن أن يكون أخاً لأخيه المؤمن، وأن يكون له مؤازراً ومناصراً، وإن لم يكن كذلك فلا أقل من أن يكف عنه أذاه وشره. أما أن يُصبح المؤمن عوناً على أخيه المؤمن ولا سيما إن كان من أولياء الله، ومن دعاة الحق، ومن أهل الذكر، وممن نفع الله بهم من العلماء والدعاة والفضلاء، فإن ذنبه أقبح وإثمه أعظم، وما عليه إلا ينتظر الوعيد الذي توعَّده الله به، ومن يغالب الله فإنه يغلب.

الذنب الذي يغفره الله

الذنب الذي يغفره الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله صحبه أجمعين. وبعد: تقدم الكلام حول الذنب الذي لا يغفره الله تعالى مطلقاً وهو: الظلم، والذنب الأعظم وهو: الشرك، وأرجو أن يكون الكلام قد اكتمل عن هذا الموضوع. أما الذنب الذي لا يُبالي الله تبارك وتعالى به، بل يغفره لمن يشاء، فهو ما كان من تفريطٍ، وتقصيرٍ في حق الله تبارك وتعالى، مع تحقيق التوحيد. وأما الذنب الذي لا يتركُ الله منه شيئاً فهو حقوق العباد، وقد تقدم ذكر الوعيد الشديد على انتهاكها.

فضل الذب عن عرض المسلم

فضل الذب عن عرض المسلم وينبغي بعد ذكر هذا الوعيد، أن نبشركم بشرى عظيمة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي قوله صلوات الله وسلامه عليه: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عنه النار يوم القيامة} فكل واحد منا يتمنى ذلك، وغاية ما نرجوه ونتمناه أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحفظنا، ويحمينا، ويجيرنا من النار، وأن يدخلنا جنته، وينيلنا مرضاته، ويمتعنا برؤية وجهه الكريم. فهذا المطلب العظيم غاية غالية، تحصل لك يا أخي المسلم بأمر ليس بكثير، وليس بكبير، بل هو هين، وميسور، وسهل لمن يسره الله تعالى له. وهو أن تذب عن عرض أخيك المؤمن إذا ذكر بما ليس فيه وإذا اغتيب أو نيل منه وهو غائب وأنت حاضر، فما عليك إلا أن تقول: لا، اتقوا الله، وتبين أن هذا كذب، أو افتراء، أو حرام، أو إثم، وتذكر ما فيه من الخير، وما تعلم عنه من الصلاح، ولا تزكيه على الله تبارك وتعالى. فهذا الحديث فيه هذا الفضل العظيم، لأن الناس قد لا ينتبهون له، وقد يجاملون غيرهم، وعادة أن الناس في مجالسهم يجامل بعضهم بعضاً، فإذا تكلم واحد، قالوا: صحيح والله، ولو أن المتكلم أثنى ومدح، لقال القائل: نعم صحيح هو كذلك. وهكذا عادة الناس -مع الأسف- أن يجاملوا المتحدث، لكن المؤمن لا يجامل أو يثني على من لا يستحقه وإنما يقول الحق، ولذلك فإن المؤمن يرى بحسب المصلحة والمفسدة المترتبة، فيقول: لكن دينه كذا، وصلاته كذا حتى ينبه الحاضرين. فلا نريد المجاملة من الحاضرين والسامعين للمتحدث، فإن كان الغائب رجلاً صالحاً، فقام أحد الحاضرين وقال: لا، اتقوا الله، ما علمنا فيه إلا خيراً، وهو كذا وكذا، وأثنى عليه بما فيه من الخير، وذب عن عرضه. فليحتسب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يذب الله عنه النار يوم القيامة، وكفى بذلك أجراً وكرماً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الأسئلة

الأسئلة

حديث: (اعدل! إنها قسمة ما أريد بها وجه الله)

حديث: (اعدل! إنها قسمة ما أريد بها وجه الله) Q أنبهكم أنكم عند شرحكم لتوزيع الغنائم في حنين وإعطاء المؤلفة قلوبهم قلتم: أن الرجل قال: اعدل، والذي أعرفه أنه قال: هذه قسمة لم يرد بها وجه الله، أما هذا القول فإنما قيل عند التحاكم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التخاصم في ماء شراج الحرة، أما الذي قاله أحد الأنصار: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى لمن يعرفه في مكة أو كما قال، والراجح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الأنصار وسألهم عن المقالة التي قالوها، وذكر الراوي أنهم كانوا لا يكذبون، ثم بشرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولو سلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار} وأخبرهم، وبشرهم، فقال: {ألا يسركم أن الناس يرجعون بالدينار والدرهم، وأنتم ترجعون إلى المدينة بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} أو كما قال عليه الصلاة والسلام؟ A الأخ يذكر أن الحديث -إن كنت فهمت ما يريد- أن قوله: اعدل إنها قسمة ما أريد بها وجه الله، أنها قيلت في شراج الحرة، والذي اختصم فيه الزبير بن العوام رضي الله عنه مع غيره فقال الرجل: آن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! وهذه أيضاً كلمة عظيمة، وأنزل الله تبارك وتعالى في حقها قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، ويقول الأخ: إن قوله: {اعدل، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله} أنها كانت هنا. أما التي كانت في حنين فهي قوله للأنصار، ولا أظنه مصيباً جزاه الله خيراً. وأريد واحداً منكم يراجع ذلك ويأتينا باليقين، وشكر الله لكل من استدرك علينا، أو وجهنا، فنحن محل الخطأ والنسيان.

من ضوابط الهجر

من ضوابط الهجر Q يقول ذكرتم حديث الوعيد لمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات في الهجر دخل النار، فيقول كيف يكون الهجر؟ وهل لتجنب الهجر ينبغي أن أرى الأخ قبل الثلاثة الأيام؟ أم ترك الهجر يشمل الدعوة إليه والاتصال به تلفونياًَ والمراسلة؟ A رحمة الله أوسع فلا تشترط الرؤية، فلو كلمته واعتذرت منه هاتفياً أو بمراسلة، أو بأية وسيلة، أو أرسلت إليه رجلاً من إخوانك الصالحين أو المصلحين فإن ذلك يجزئ إن شاء الله تعالى.

ضرب الأمثال ليس تشبيها

ضرب الأمثال ليس تشبيهاً Q ما نوع التشبيه في الحديثين الآتيين {لله أفرح بتوبة عبده إذا تاب من رجل أضل راحلته في فلاة} الحديث المعروف فقام فقال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح}، والحديث الذي ذكرناه الآن هو أحد رواية الحديث المعروف {إن الله أشد انتقاماً} أو {إني لأثار لأوليائي كما يثأر الليث الحرب}؟ A هذا للتقريب، ليس فيه شيء من التشبيه المذموم الذي لا يليق بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا الذي فقد دابته، وعليها زاده، وماؤه، في فلاة منقطعة، يفرح إذا قام وهي واقفة عند رأسه، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد منه. ففرح الله أشد فرحاً منه، وهذا لا يقتضي أن يكون فرح الله تعالى كفرح المخلوقين، ولا غضب الله تعالى كغضب المخلوقين، ولا شيء من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كصفات المخلوقين. وإنما المقصود أن يفهم الناس ذلك، ولذلك عبرَّ بهذا المثال الذي هو غاية ما يتصور الإنسان من الفرح بنيل المطلوب، وإدراك الشيء الذي هو غاية ما يرجوه الإنسان، وقد يحسب أنه فات، وأنه قد ذهب عنه. فهذا لتقريب هذا المعنى في أذهان الناس، وإلا فإن الله ليس كمثله شيء، فلا اليد كاليد، ولا العين كالعين، ولا الوجود كالوجود، ولا الوجه كالوجه، ولا الفرح كالفرح، ولا الغضب كالغضب، ولا أي شيء من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كصفات المخلوقين. وكذلك في الانتقام فالمقصود أن الناس يعلمون إذا غضب الليث كيف ينتقم، وكيف يثور؟ وكيف يبطش بالفريسة؟ فليخافوا من بطش الله، وانتقامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يثأر لأوليائه مثل هذا. فهذا مثل حسي، ليعلم الناس كيف يكون انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولله المثل الأعلى.

كفارة الغيبة

كفارة الغيبة Q هذا أحد الإخوان يقول: إنه قال فِيَّ كلاماً، ولو طلبتُ أن يقف أمامكم يعتذر لقام؟ A لا أريدك أن تقف وغفر الله لي ولك، وعفا عنا جميعاً، ونسأل الله أن يستر عيوبنا جميعاً في الدنيا والآخرة، وكما قلت لكم فيما مضى: لا أريد مثل هذا الاعتذار، بل أريد أن كلاً منا يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب، فقد يخطئ كل منا ولا أحد يبرئ نفسه، فمن أخطأنا عليه أو أخطأ علينا، فأرجو أن نكتفي بأن ندعو له في ظهر الغيب، وأن يدعو لنا. وأما من أساء أو تجاوز بأن نشر أو افترى افتراءً ونشره وأذاعه فلا أتكلم أنا فيه بشيء. ولا أقول إلا كما قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله في محاضرته بعنوان (موقف أهل السنة والجماعة من الخلاف) فإنه قال: ' إنه من نشر شيئاً فعليه أن يكفر بمثل ما نشر إن كان كتاباً وإن كان شريطاً'. لأن هذا قد لا يضر المقول فيه بشيء، ولكن ليبين بالنسبة للعامة وطلبة العلم والمخدوعين ما لبسَّ عليهم به إن كان وقع شيء من ذلك.

ضوابط الشتم

ضوابط الشتم Q ما هو الشتم؟ وهل له ضابط؟ وهل الإنسان يحاسب على عموم الشتم حتى لو كان ذلك في مصلحة؟ A الشتم هو الشتم، يقول العلماء: توضيح الواضح من المشكلات. أي أن توضيح شيء واضح صعب، وهو معروف، لكن هل قد يكون للمصلحة؟ وقد يقال لفاعل الذنب: يا فاجر يا مجرم، يا مخطئ، يا فاسق، فإن كان يستحق ذلك شرعاً فهذا قد يكون، وأما ما ورد فيه الوعيد فهو ما كان بغير حق، ولذلك لو أن رجلاً سب رجلاً فرد عليه فسبه لما كان معتدياً، لقوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] أي إذا انتصر الإنسان بعد ظلمه وعاقب بمثل ما عقوب به ورد السبة بسبة ولم يعتد، فهذا لا يُؤاخذ وليس هو المقصود، بل المقصود من سب، أو ظلم، أو سفك الدم، أو أخذ بغير حق، فنحن نتكلم على العرض المعصوم، أما من كان مستحقاً لذلك كأن يكون مِن مَنْ تجوز غيبته، كتارك الصلاة، وكأهل البدع الذين يحذر منهم لما فيهم من البدع، وليس من تظن أو تتوهم أنت أو يتوهم أحد أنهم من أهل البدع. فهذه نفس القضية التي ندعي الافتراء أيضاً، فلنفرق بين الافتراء وبين الحقيقة. فإن كان حقاً من أهل البدع أو من أهل الفجور الواضح المعلن به، فإن هؤلاء قد جعل الشرع ما يردعهم، ليس فقط أن يشتم أو يسب، بل يؤذى بما هو أكثر من ذلك من الهجر، أو التعزير بالجلد، أو الحبس أو غير ذلك من العقوبات التي قررها الشرع.

نشر فتاوى ورسائل كبار العلماء

نشر فتاوى ورسائل كبار العلماء Q هناك فتاوى ورسائل في الأفراح للشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظهما الله تعالى، هل ننشرها ونوزعها؟ A نعم، فهذه رسالة طيبة جداً، وحبذا لو يحتسب كل إنسان أن يوزع أو أن يطبع منها في هذه الأيام -بالذات- عند حصول الأفراح وفي المناسبات، ومن جملتها الفتوى التي تحدثنا عنها فيما مضى عن المنصة والكوشة، وقد قام بعضهم بطبعها فإن كانت مطابقة لما قلناه فلتنشر ولتعلق ولتوزع في المساجد. وعلى كل واحد منا إن أراد أن يأخذ مثل هذه الأشياء فليأخذها بحقها، وحقها أن يصور منها الكثير، ويُوزعها في المناسبات، وحيثما تكون المصلحة إن شاء الله.

أخلاق المصلح

أخلاق المصلح Q رجل دعوته إلى تحكيم أمر الله تعالى في مشكلة وقع فيها فأبى، وقال: حكم من وراء ظهري، مع أنه مخطئ، فقلت للذي يريد أن يصلح بين صاحب المشكلة وصاحبي: إن الرافض للتحكيم رجل متعصب للهوى، فهل هذا بهتان عليه أم أني أصبت؟ A أنت يا أخي جعلتني قاضياً، وفرق بين القاضي والمفتي، فمقام الإفتاء سهل، لكن مقام القضاء صعب جداً، والذي أخذه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على عبده داود عليه السلام أنه لما جاءه الخصم وتسوروا المحراب وشكا أحدهما {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص:23] إلخ القصة، ولوضوحها قال: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24] يريد أخذ الواحدة من المسكين!! لكن لو أن الآخر تكلم لربما قال: يا نبي الله إن لي (100) نعجة وسرق هذا منها نعجة، ويريد أن يأخذها، ويمكن أن يكون الحق معه، ولهذا آخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ونريد أن ننصح الإخوة نصيحةً، ولا نفتي فيها، فننصح بعدم إساءة الظن ما أمكن وحمل الكلام على أفضل المحامل، فقل: لا يعنيني، وقل: لعله كذا، ولعل كذا، حتى لو رأيت أن فيه هوىً، فقل: لعل في نفسه هوى، ولا سيما وأنت إن شاء الله من المصلحين، فالمصلح ينبغي له أن لا يتحول إلى خصم. وهذه الأشياء هي التي يجب أن يتحلى بها المصلح، ولهذا المصلحون دائماً أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصبر والأناة والحلم دائماً، وإلا لم يكونوا مصلحين؛ لأن بعض الناس إذا توسط في خصام أو في مشكلة فبمجرد أن يسمع من أحدهم شيئاً يرفض أن يسمع من الطرف الآخر فيتشاجر هو والآخر، فكانت المشكلة واحدة فأصبحت مشكلتين، وما استفدنا شيئاً! فلا بد أن يكون المصلح ممن يتحمل حتى لو أساء إليه ذاك وطرده، أو رده، أو أخرجه، فيذهب ولا يشكو ولا يذكر، حتى تبقى المشكلة واحدة ما أمكن، ويحتسب ذلك عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وإن كان يصعب على النفوس أحياناً تحمل الظلم ومرارته، لكن أقول: المصلح لا ينبغي ولا يجوز له أن يتحول إلى خصم مهما أمكن. وإن كان لهذه القاعدة من الاستثناء فهو أن بعض الناس قد يكون من المنفرين نسأل الله العفو والعافية، فقد يكون ممن لا يأتيه أحد إلا وعاداه وخاصمه، فهذا إن جاءه أحد وحصل منه هذا، فيكون ممن أراد الله أن يفضحه.

الحكم الشرعي متعلق بفهم الواقع

الحكم الشرعي متعلق بفهم الواقع Q يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين عند شرح كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: 'ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحداهما: فهم الواقع والفقه فيه، والثاني: فهم واجب الواقع ' إلخ. ولعلكم تشرحون لنا هذا وجزاكم الله خيراً؟ A أظنه لا يحتاج إلى شرح، لأن هذه مشكلة، أن تتكلم عن البدهيات، فينبغي للمسئول أو لمن يتكلم أن يربأ بعقول السامعين عن ذلك، فأحياناً لا يمنع الإنسان من الكلام في موضوع إلا بداهته، فمسألة معرفة الواقع وأهميته قضية بدهية لا نستطيع أن نحصي الأدلة عليها. وهو أن الإنسان لا بد له مع معرفة الدليل أن يعرف الواقع ليقيم الدليل فيه، فعندما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأوامر كثيرة جداً في القرآن، إن لم تعرف الواقع لا يمكنك أن تقيمها، فأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمة -مثلاً- بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] فهذا الحكم كيف ينفذ، فإنه لا يعرفه إلا من عرف واقع الحال، فهل هو زانٍ أو غير زانٍ؟ وما حقيقة الزنى؟ وهكذا في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] فلا بد أن تعرف الواقع والقضية وتتصورها لتحكم بالآية {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ما معنى ذوي عدل منكم؟ لا بد أن تعرف من هو العدل، ولا بد أن تعرف حقيقته وهل هو من ذوي العدل أو ليس من ذوي العدل؟ وهكذا حتى في المحرمات الجليلة الواضحة -فمثلاً- الله تبارك وتعالى حرم الخمر، فإن لم يكن الإنسان يعرف الخمر فكيف يفتي! ولهذا انظروا إلى الأشياء التي فيها اشتباه تجدوا أنه يشكل على العلماء أن يجيبوا عليها، فمثلاً: لو سألوا عن الكلونيا: ما حكمها؟ لقال بعضهم: تبين لي أنها مسكر وأنها خمر فهي حرام، وبعضهم يقول: لا. فيها نسبة قليلة، وبعضهم يقول: ليس فيها شيء، فكل أجاب بحسب معرفته لواقعها أو بحسب واقع هذا الشيء فهكذا لا يمكن معرفة أي شيء إلا بمعرفة واقعها. أما الأدلة والنصوص، فهذه الكتب موجودة، وهذا كتاب الله وهو أعظم كتاب، وكتب الأحكام الفقهية ملأت الأرض والحمد لله، فمن الممكن أن يحفظها بعض الناس عن ظهر قلب، ويكون كما قال بعض العلماء: زادت في البلد نسخة. فإن قيل له: إن فلاناً يحفظ كتاب سيبويه أو كتاب كذا، لقال: زادت في البلد نسخة، وهذه نسخة زايدة فقط، لماذا؟ إن لم بنبن على هذا الحفظ حفظ الأدلة ومعرفة الواقع الذي هو تحقيق مناط هذه الأدلة، لا يصلح الأمر. فإذا جاءك رجل مثلاً وسألك عن أمر من الأمور وخاصة مما يتعلق بأحوال الناس، فإن لم تكن تعرف واقع المسئول عنه أو واقع السائل، فقلما تصيب، فلا بد من إقامة الأدلة كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذلك أن تنزَّل منازلها كما أمر الله تعالى وكما شرع، فكيف نعرف الظالم من العادل؟ وكيف نعرف البر من الفاجر؟ وكيف نعرف الحلال من الحرام؟ إلا بمعرفة الواقع، وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يحيط بكل أمور الواقع فليس كذلك، لكن أمامنا أمران أو حلان: الأمر الأول: أنه يجب على المفتي كما ذكر هنا الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى أن يستطلع ما استطاع من أمور الواقع ليعرفها، ولهذا كان بعض الفقهاء ينزل إلى الأسواق ويرى كيف يتبايع الناس ليفتي. فقد يأتيك إنسان ويقول لك: ما رأيك في شرائي أرضاً بالتقسيط من أحد الناس فماذا تفتيني؟ فهل بسرعة تقول: يجوز أو لا يجوز، إذا كنت تعرف أن هذا حيلة، وأن هذا كذا، وتعرف واقع الناس لتفتي في محله، وحتى تكون فتوى في محلها، أما إن أخذت بظاهر القول فربما تحرم حلالاً أو تحلل حراماً، وهكذا ينبغي لمن تصدر للدعوة والعلم والإفتاء أن يلم بالواقع ما استطاع. الأمر الثاني: إن كل إنسان لا يستطيع أن يلم، بكل شيء فهذا أمر طبيعي، فقبل أن تفتي في مسألة، اسأل أهل الخبرة فيها وأهل الشأن، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يجمع أهل الشورى، وهو أعلم الناس بالأدلة، وفقه عمر رضي الله تعالى عنه من أوسع وأعظم أبواب الفقه. فيكفيكم أن تعلموا أن ما عند ابن عباس من العلم وكثير مما عند ابن مسعود وغيرهما رضي الله تعالى عنهما أخذاه من عمر ومن فقه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك تنزل به النازلة، فيجمع أهل الشورى ويسألهم عن هذه الواقعة، فإن كانت من أمور الجهاد، فلا يفتي فيها بسرعة، حتى يسأل أهل الجهاد وأهل الخبرة في الجهاد، فإن كانت من أمور المال سأل أهل المال. فكثير من الأسئلة التي يسألها الناس لو سألت من يعمل في البنوك لأراحك، لأنه يقول لك مثلاً: الاعتماد البنكي حقيقته كذا، وكذا، والتأمين حقيقته كذا وكذا، والقرض القصير الأجل كذا، والطويل الأجل كذا، فتكون الفتوى فعلاً في محلها. إذاً نسأل أهل الخبرة، وهذا معلوم ليس بجديد، فهو معلوم من عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الآن، وأعني به الاستعانة بأهل الخبرة في شأن ما، ولهذا فرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال القائل: {إن هذه الأقدام بعضها من بعض}؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بقوله؛ لأنه صاحب خبرة في القيافة وفي معرفة من يلحق بالنسب، فاستعان به وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسره ذلك, واستشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواقف كثيرة من أجل هذا الشيء، وهذا أمر مقرر من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فمثلاً لما جاء فقهاء الكوفة كان مذهبهم بالنسبة للأشربة خاطئ، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتب من أجل ذلك كتاب الأشربة رداً عليهم، وفقهاء العراق، وأهل الكوفة كانوا لا يرون الخمر إلا ما كان من العنب، وأفتوا بذلك في أواخر عهد الصحابة رضي الله تعالى عليهم، فرد عليهم أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه كما في الصحيحين رداً عظيماً جداً، لأنه كان من صغار الصحابة وعاش حتى أدرك هؤلاء. قال: [[لقد نزل تحريم الخمر، وما في المدينة عنبة، وإنما كان الخمر من كذا وكذا]] فقد رد عليهم بعلم الواقع، فهو يقول: ليس في المدينة عنب فإنه لما حرم الله الخمر وأراقها المؤمنون وجرت في سكك المدينة لم يكن عندنا في المدينة عنب، وإنما كان التمر والشعير وأمثالها، فهذا الرد من أقوى أنواع الردود في إبطال مذهب أهل العراق، في دعوى أن الخمر فقط ما كان من العنب، وأن غيره يقاس عليه، وهكذا يكون الاستدلال بالواقع المعاصر. ولما قيل في حديث الحمام: إنه موضوع قالوا ذلك، لأنه لم يكن في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمامات، وكذلك لما قالوا: حديث أجرة الطحان أيضاً، قالوا: الحديث ضعيف، أو موضوع، أو موقوف، فليس من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث أنه لم يكن في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يطحن ويستأجر. وغيرها من الأشياء التي لا أستطيع أن أحصرها، فلو كتبت رسالة دكتوراه في ذلك لتبين من كثرة الشواهد والأدلة على أن معرفة الواقع أمر ضروري لا بد منه في الفتيا وفي الحكم. أما أن الإنسان يفتي فتوىً مجردة فلا بأس. فعلينا أن نُفرق بين من يقول: أنا وجدت أن الخمر حرام، ويفتي بفتوى الأدلة، وبين من يقول: هذا حلال، أو حرام في هذه القضية النازلة وهو لا يعرف حقيقتها، فهنا يكون التقصير في هذه القضية الواقعة. أما القول بفتوى عامة فلا بأس، ولذلك تجد العلماء والمفتين -جزاهم الله خيراً- لو سئلوا هل هذا العمل حرام أو حلال؟ فإنهم يعطونك القاعدة بقولهم: إن كان كذا فهو حرام، وإن كان كذا فهو حلال، لأنه لا يعرف الواقع فأعطاك القاعدة، وأنت طبق على الواقع، لكن لو كان يعرف الواقع لما احتاج أن يقول لك: كذا وكذا ولاكتفى أن يقول: هذا حرام، أو هذا حلال وهكذا. وحتى المصطلحات تختلف -وهذا أيضاً من فقه الواقع- ففي أصول الفقه مصطلحات للحنفية غير مصطلحات الأئمة الثلاثة، وأحياناً مصطلحات الأصوليين عامة غير مصطلحات أهل الحديث عامة، فهذا مصطلح وهذا مصطلح. كما أن مصطلح بعض البلاد غير تلك البلاد؛ فالكلمة بالعراقي لها معنى غير الكلمة بـ المدينة ولذلك لو وجدنا فتاوى من علماء العراق كتلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأمثاله، لوجدنا أنها غيرها -مثلاً- في المدينة أو في مصر ويكون لها معنى آخر وهكذا. فإذاً: لابد من معرفة الواقع، ومعرفة اللفظ، ومعرفة المدلول. فهذه أظن أنها أجلى من أن نحتاج أن نتكلم فيها، ومن سوء حظ هذه الأمة -والله المستعان- أننا وصلنا إلى حالة من الانحطاط الفكري وضيق النظر وضيق الفهم، فأصبحنا ننازع في البدهيات وأصبحت البدهيات موضع مناقشة وإلى إثبات وتحتاج إلى أدلة، والله المستعان. مثل هذا الكلام تماماً قاله فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم وغيره من العلماء الذين كانوا يشترطون في القاضي أن يكون بصيراً وعارفاً بواقع الناس وأحوالهم، ولهذا اختلف العلماء: هل يجوز أن يتولى الأعمى القضاء؟ مع أن الراجح أنه يجوز، لكن هذا خلاف قديم موجود في كتب الفقه القديمة لماذا؟ قالوا: لأنه قد لا يبصر، وقد يكون الأعمى من أعلم الناس، هذا معروف قديماً وحديثاً، لكن القضاء غير الفتيا، فكيف يقضي وهو لا يتصور بعض الأمور، ولا يراها ولا يعرف طبائع الأشياء مثلاً؟! فهذه وجهة نظر من قال بذلك.

إعانة المجاهدين في أرتيريا

إعانة المجاهدين في أرتيريا Q كيف نمد يد العون لإخواننا المجاهدين في إرتيريا جزاكم الله خيراً؟ A إخوانكم المجاهدون في أرتيريا نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينصرهم ويعلي كلمته، وأن يذل الصليبيين واليهود والنصارى والمجرمين أينما كانوا، فقد كشروا عن أنيابهم هذه الأيام، وأصبح المسلمون في كل مكان يرون هذه العداوة منهم واضحة وضوح الشمس. سمعتم وقرأت عندنا في الصفحات الأولى من الجرائد أن إسرائيل تهدد بضرب المفاعل النووي في باكستان، انظروا إلى جرأة اليهود والنصارى على المسلمين، فلا يريدون أن يكون لهم أية قوة أبداً، بل يريدون أن يضعفوهم ويستعبدوهم، ولذلك هذه الدولة اليهودية الخبيثة تتجرأ على مفاعل نووي بعيد، بينها وبينه دول وأمم، فالآن الصليبية الخبيثة كشرت عن أنيابها في أفغانستان فأصبحت المسألة واضحة وضوح الشمس أن المجاهدين لا يحاربون روسيا وحدها كما كان يظن، وإلا فقد أذلها الله وأخزاها، لكنها سحبت جيوشها، وحولت القضية إلى الغرب كله وأمريكا ومن معها، وأصبحت الألاعيب تدار لوأد هذا الجهاد، وأصبحت داخل المجاهدين تزرع الفتن، وتقدم المساعدات الأمريكية والغربية من أجل التنصير وما إلى ذلك، أصبح أمراً مشهوداً في الفلبين وفي كل مكان. الشاهد هنا حتى لا نخرج عن الموضوع أن مندوب حركة الجهاد الإسلامي الأرتيري، لشرح أحوال وأوضاع المهاجرين والمجاهدين كتب له فضيلة الشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى في 13/رمضان/1411هـ، هذه التزكية، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم إن الأخ عبد الوهاب بن يوسف الزياني معروف عندي وهو محل ثقة وله نشاط في شرح الجهاد الأرتيري والسعي في نجاحه. ولا شك أن الجهاد في سبيل الله من أفضل ما بذل المسلم فيه ماله ونفسه، فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله المنتصرين به، وأن يجزي أخانا عبد الوهاب على سعيه خيراً. كتبه: محمد بن صالح العثيمين في 13/ رمضان / 1411هـ ووضع ختمه حفظه الله. - هذا ويوجد حساب في الراجحي لإخواننا المجاهدين والمهاجرين الأرتيريين برقم (291). - وآخر لصالح الأيتام برقم (289) وكلاهما بفرع الشرفية (2) بـ عنيزة.

قضاء الدين المجهول

قضاء الدين المجهول Qكيف أؤدي ديناً لآدميٍ نسيت من هو وكم هو الدين؟ A هذه مشكلة، فبعض الإخوان يهديهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله أن يمن علينا وعليكم جميعاً بالتوبة، وكثيراً ما يقول: إنني قبل أن أعرف الله حق المعرفة وأتوب، أخذت من فلان وفلان، وأضعت بعض الحقوق فلا أعرفها، ففي حالة ما إذا كان صاحب الحق مجهولاً، أو إن كان الدين -أيضاً- مجهولاً فلا يعلم مقداره، ففي هذه الحالة إن عمي الأمر من كل جهة، فعلى الأخ أن يتصدق، وأن ينفق بقدر ما يستطيع عن هؤلاء، وأن يستغفر الله ويديم التوبة، والاستغفار، والندم، ويتصدق بما يستطيع عن هؤلاء حتى يرى أنه قد أدَّى ما عليه.

زيارة ديار العذاب

زيارة ديار العذاب Q ما ذكرتموه عن ثمود وقوم صالح كيف يجمع بينه وبين قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69]؟ A لا تعارض بينهما، ففرق بين من يسير في الأرض ويتأمل أحوال الأمم وأخطارها، بين هذا الأمر العام، وبين أمر خاص في اجتناب مكان معين، فلو تأمل الإنسان وأراد الاعتبار، فكل ما أمامك فيه عبرة {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [النمل:69] والناس لا بد أن يسيروا بطبيعة الحال في الأرض، فأينما سرت فتأمل. فنحن الآن في جدة، فلو كان لنا عبرة وعقول لتأملنا هذه المباني القديمة في جدة، التي كانت قبل زمن قريب ليس بكثير أعظم وأفخم ما في جزيرة العرب من القصور والمباني. والآن لو تُهدى لأحدنا فلن يقبلها إلا من أجل مكان الأرض، أما غير ذلك فليس فيها فائدة، ولذلك لن يقبلها ولن يسكن فيها، وسيستوحش لو نام فيها. فأينما تذهب تجد العبرة، سواء كانت ديار قوم مجرمين ومفسدين فلتعتبر ولتخف الله، وإن كانت -أيضاً- لقوم صالحين، فلتعلم -أيضاً- أن هذه عاقبة ونهاية الدنيا، حتى مع الأخيار الأطهار الأبرار، فهذه نهايتها وهذه عاقبتها، فأينما سرت تجد طرقهم، وتجد آثارهم، وتجد قراهم، وتجد البيوت الخاوية، وتجد المدن المهجورة، وتجد الحضارات المندثرة، فليتأمل الإنسان وليعتبر وليتعظ. لكن لا يعني ذلك أن ينوي سفراً خاصاً لزيارة آثار منطقة معينة، فهناك نهي خاص عن هذا، ولا يجوز، أما الاعتبار العام والسير العام، أينما ذهبت. فمثلاً: الآثار الرومانية موجودة في الأردن وسوريا وليبيا وتونس، وقرطاجنة، التي في تونس ما كان أحد يحلم أنها تفتح، وفتحها المسلمون والحمد لله، آثار عجيبة جداً، حتى ولو لم ترها إلا في صورة أو في كتاب أو في فيلم. فأحياناً تجد في هذه الأفلام هذه الآثار، فنرى عجباً حيث أنها تبين لك كيف كان هؤلاء الناس، وكيف أنهم أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرناها، وكيف أن الأرض أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، ونسوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم بالمرصاد، فأتاها أمره ليلاً أو نهاراً، فجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، فأينما تذهب تجد هذه الآثار.

ضرورة إنكار المنكر

ضرورة إنكار المنكر Q ما رأي فضيلتكم في صحيفة الشرق الأوسط؟ وكيف نتعامل مع ما تنشره من أباطيل؟ A هذه الصحيفة تجعل الواحد منا يتعجب منها في مرات عديدة، ومنها أنها كتبت عن قرية في سينا وهذه القرية مشهورة نساؤها بالحجاب، فهذا يدل على أن الحجاب ليس غريباً على مصر ولا سينا، وهو الذي جعل هذه المجلة تكتب عنها مقالاً فقالت: 'إن النساء فيها يتحجبن' ونشروا هذا الخبر العجيب، وصوروا النساء وأجروا مقابلات، بأن المرأة لا يراها أحد ولا تكشف وجهها ولا يراها إلا المحارم، فما وجه الغرابة في هذا؟ كأن المفاهيم الغربية قد رسخت فينا حتى أصبح الحجاب غريباً، وأيضاً ينشر هذا الكلام في مجلة سعودية وأكثر ما تباع في المملكة. يقال: هناك بلاد بعيدة في صحراء المرأة تتحجب، ونحن هنا -والحمد لله- نساؤنا محجبات، وهكذا إذا انتكست المفاهيم نسأل الله العفو والعافية. أيضاً لهذه صورة لامرأتين لا يُرى منهما شيء، يقول هذا الكلام في عمان عام (1942م) صورة تُعبِّر عن الفتاة كما كان الحال في السابق، وإلا فهي كما هي في الصفحة الثانية مثل هذه العرايا، نعوذ بالله، فماذا يريدون منا ومن نحارب في هذه الحالة؟ هذا الكلام لو كتبته مجلة أمريكية أو فرنسية، ولو قلنا بعض الدول العربية فإن هذا يحتمل، لكن أن يكون ذلك مجلة سعودية، وتعلم أن الله تعالى قد فرض الحجاب وأمر به فهذا غريب. كما أن أكبر سوق تباع فيها هنا، والقائمون عليها من أبناء هذه البلاد، وتتعجب أنه بقي من النساء من تحتجب، وتنشر هذا الخبر، وهذا والله مؤلم جداً، وهذا مؤذن بعقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا للمجلة هذه، فإن الله قد ابتلاها بعقوبات كثيرة لا يعلمها الكثير، حيث ابتليت بمدراء تحرير نهبوا أموالها، جمعوها من حرام فذهبت في حرام والحمد لله، وابتليت بمصائب كثيرة، ولكن نخاف نحن أن نُبتلى؛ لأن هذه الشركة سعودية، ولها ميزات وتخفيضات، وتشتريها الدوائر الحكومية، والمصالح والمؤسسات؛ ولها ميزات كما لكل المجلات المحلية، بل ربما أكثر، وفي نفس الوقت نسوقها ونروجها، ففي أية بقالة تلقاها، وهي تنشر مثل هذه السموم ومثل هذا الإفك. فالمرأة المسلمة عندما تقرأ هذا، ترى أنها غريبة، فتقول: والله فعلاً أنا باقية أتحجب! فكأنها في عالم قد تحرر وانطلق وهي قائمة على أمر الله، محافظة لما فرض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وهي الآن المرأة التي يشتاق العالم كله، ويتطلع إلى أن يرجع لما هي فيه من الخير والسعادة والعفاف والطهارة والفضيلة والحمد لله، لكن هؤلاء يريدون عكس هذه المفاهيم، فنأثم نحن عندما نبيعها، أو نروج لها، وعندما لا ننكر عليها. بعض الإخوان يقول: لماذا نتعرض لمثل هذه القضايا؟ فنقول: والله إن لم تنكر هذه المنكرات ولو في مجلس واحد، أو في مسجد واحد، والله إننا نخشى أن يعمنا الله بعذاب من عنده، فهذه أحكام الله، وهذا كتاب الله يضرب به عرض الحائط، وهو ليس كلام فلان وعلان، فوالله ليس هناك دولة ولا حكومة ترضى أن تصدر أوامر ويهملها الناس بالكلية، أو يتجرأ عليها وتسب، فإذا كانت الدولة لا ترضى مثل هذا الكلام، فكيف برب العالمين شديد العقاب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا عملت المعصية ولم تنكر كان من غاب عنها كمن شهدها}. إذا لم ينكر المنكر فمن غاب عنه كمن شهده، فإذا لم نتكلم في هذه المنكرات فكأننا شهدناها وسكتنا وكأننا فعلناها، وهذا ما ذكره الله تعالى عن أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل لما أخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يعملون. فلا بد أن ينكر المنكر، بل لا نستطيع أن ننكر المنكرات كلها لأنها منكرات عمت وطمت حتى أصبح الإنسان لا يتكلم إلا عن قطرة من بحر في هذه البحار، لكن أقل شيء أن تلقى ربك وتقول: يا رب! قد قلت، أما أن تلقى الله وأنت ساكت وأنت مداهن؛ فأعوذ بالله من أن نلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ذلك. ونحن إذا قال أحد كلمة في مجلس فإننا ننكرها، لكن أن تنشرها على مليون مجلة أو في تلفاز لم ننكرها، فهل هذا من المنطق؟ فالأولى بالإنكار هو المنكر المعلن، ويجب على الأمة أن تنكر المنكر المعلن بقدر إعلانه وجوباً. ولذلك من تكلم فإنه قد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من لم ينكر بالمرة فيخشى أن يكون شريكاً لمن فعل. لا بد أن يكافئ الإنكار المنكر، فإذا نشر المنكر في مجلة تطبع (100. 000) نسخة، فيجب أن ينشر بقدر ما يمكن حتى يصير (100000) أو أكثر رداً لإنكار هذا المنكر، وإن كان على جهاز إعلام يسمعه أو يراه الملايين، فيجب على الأمة بمجموعها أن تنكر المنكر بحيث يسمعه الملايين أيضاً. فلا بد أن يتكافأ الإنكار بالمنكر، أما أن يظل المنكر ينشر بالملايين، والمنكرون ينكرونه إما (20) أو (100) أو (200) ومع ذلك يقال: كيف ينكرون؟ فهذا والله عجب، وهذا والله هو المنطق الأعوج الذي لا نرضاه لديننا ولا نرضى أن نلقى به ربنا.

إيجابيات وسلبيات التسجيلات والتعامل معها

إيجابيات وسلبيات التسجيلات والتعامل معها Q الإخوان أصحاب التسجيلات جزاهم الله خيراً يقولون: عندما تكلمنا على حق المسلم وحفظ عرضه ونقل كلامه، يقولون: قد يلحقهم شيء من ذلك لأنهم يسجلون؟ A حقيقة بغض النظر عن الفتوى فيها، فالآن أنا أقول: إن من مصائب هذا العصر المسجلات، ففي العصر الأول كان العلماء في راحة وكان الدعاة والمفتون في راحة. يقولون القول ويسمعه تلاميذهم، بل كان بعض العلماء يشترط ألاَّ ينقل عنه إلا تلاميذ معينون، وكثير من العلماء الثقات الجبال ما كان يسمح لأي أحد أن يروي عنه أصلاً أو ينقل عنه، لكن نحن الآن كل كلامنا يسجل فهي نعمة لا ننكرها، لكن كل نعمة تقابلها نقمة. فمن نعم الله انتشار هذه الوسائل، فالإنسان يقول الكلمة، فبدلاً أن ينفع الله بها (100) أو (200) أو (1000) الذين حضروا في المسجد، فقد ينتفع بها (100000) بإذن الله ممن يسمع الشريط. وأما جانب النقمة التي فيها فهي أن الخطأ قد ينتشر، وأن الكلمة قد تنتشر أيضاً. فلو قال قائل: قال الله ويأتي بحديث، وهذا يقول: قال رسول الله ويأتي بآية، فالخطأ ممكن في أي شيء، فتكون فرصة للمتربص وللحاقد والنمام. وأيضاً: قد يَضل أحد بناءً على كلام غير محرر، لأن الكلام المحرر المكتوب المؤصل غير الكلام الملقى، فالكلام الملقى دائماً يعتمد على ذاكرة الإنسان المعرضة للسهو، لكن ما يكتب ويراجع فإن السهو قليل فيه، ومع الأسف فإن الناس اليوم يستسهلون ما يسمعون من الفتاوى والمواعظ، أما الفتاوى المكتوبة فإنها لا تُنشر إلا قليلاً، مع أنها هي التي ينبغي أن نحرص عليها لأنها مكتوبة ومنضبطة بعكس الكلام الملقى، فقد يقول: رواه البخاري، وهو يقصد الترمذي، ويقول: ضعيف وهو صحيح، فينتج عنه شيء من المفاسد، وهو ما يجعل بعض الإخوان في التسجيلات يقولوا نحن السبب في ذلك؟ ونحن نقول لهم: اتقوا الله ما استطعتم، واحرصوا على أن تتأكدوا، والأمور التي قد تلبس أو تنشر الفتنة، أو شريط لرجلٍ ما غير معروف فلا تنشروها. فلو دققنا وطبقنا تعامل السلف الصالح فبمجرد أن الشخص مجهول فإنهم لا يتعاملون معه، وانظروا في كتب الرجال كم بها من مجهول، فما قالوا: فيه شر، أو فاجر مبتدع ظالم، بل مجهول، فلكونه مجهولاً أقصي، فلو جاءك شريط لمجهول وهذا الشريط فيه طعن وسب وفيه فتاوى، فبمجرد أنه مجهول لا تعرفه ولا تعرف حقيقته فينبغي أن تتثبت. إذا أخذت الآية قول المجهولين في المعروفين فمن يبقى؟ ولكان الكلام في العلماء سهلاً حتى من أصحاب المقاهي ونحوهم، فإذا ُصدِقَ الكلام وانتشر فمن يبقى لنا؟! فيقال: إن هناك شخصاً تكلم في المشايخ، فحين تسأل عنه لا تعرف سابقته ولا علمه ولا خيره ولا فضله، بمجرد أنه قال ما قال نشر قوله. فينبغي لإخواننا أهل التسجيلات أن يتقوا الله وأن يتريثوا، وألا يكون الدافع المادي هو الهدف الأساسي، ولكنه موجود عند البعض على الأقل، أو مجرد أن هذا الشريط يشترى فنبيعه، وإن كان فيه أخطاء، ومادته العلمية ضعيفة، وفيه انحراف وجرح وطعن وتشويه للدعاة وضرر على الدعوة لكنه يشترى فنبيعه، فلا يجوز أن يكون الهدف المادي هو الأساس، لأن هذا علم مما يبتغى به وجه الله، فمن جعله وسيلة لكسب الدنيا الرخيصة ناله الوعيد. فحقيقةً إن موضوع التسجيلات مالها وما عليها، وكذلك موضوع التسجيل ماله وما عليه يحتاج إلى ضوابط معينة في سماع الكلام وفي سماع الأشرطة، بخلاف الشيء المكتوب، فإذا نسبت إلى أحد ما كتبه وقاله وحرره، أو الكلام المكرر بالذات فلا بأس، بخلاف مجرد الكلام في شريط، أي: إذا كان للإنسان آراء تعلم أنه يعتقدها ويكررها ويدين بها ويقولها فلا بأس أن تأخذها، أما كلام في شريط مثلاً أو كلمة واحدة أو مقالة تحتمل عدة تأويلات، فتبني عليها قاعدة كبرى، وتترك القطعيات الواضحة في كلامه هذا لا يصح، وهي محتاجة إلى ضوابط لعل الله ييسر بها.

هجر مرتكب الكبيرة

هجر مرتكب الكبيرة Q كان لي زميل بيني وبينه عِشرة، وكنت أجهل ارتكابه لبعض الكبائر، وعند اكتشافي لذلك نصحته مراراً، وكان كل مرة يستجيب بلسانه ولكنه لا يكف، مما دعاني إلى هجرانه منذ أكثر من سنتين، حيث أنه لا يزال يقترف هذه الكبائر، وأنا أبتغي بهذا الهجران وجه الله، فهل أدخل -والحال هذا- في أحاديث الوعيد في هذا الباب؟ A لا يدخل المؤمن الذي يهجر لله، لكن نخاطبك يا أخي من باب آخر، وهو باب الحكمة في الدعوة، فإذا كان كل من عمل منكراً هجرناه فما فعلنا شيئاً، وخاصة إذا كثر أهل المنكر وقلَّ أهل الطاعة والتقوى، ولكن الواجب أن نصبر، وأن ندعو الله له وأن ندعوه ونزوره، ونحرص بكل ما نستطيع وخاصة إن كان قريباً تربطنا به قرابة، أو كان زميلاًَ في العمل، فليس بجيد لك هجرانه وألاَّ تكلمه ولا يكلمك وأنتم في إدارة واحدة، بل ينبغي أن تصبر، وأن تجتهد في نصحه، وكم من غاوٍ هداه الله بعد سنتين أو ثلاث أو أكثر!! أما إن كان من المجاهرين المعاندين الذين لا يسمعون ولا يرعوون فنعم، ففي هذه المسألة حالات، وهذا يرجع إلى تقدير الأخ الداعية، لأن الله تعالى قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] فالحكمة أن تضع الشيء في موضعه، والحكمة ليست هي الضعف ولا اللين ولا العفو فقط، فهذا جانب من الحكمة، ولكن الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، وهذا شيء يرجع إلى تقديرك أنت، فاجتهد، واستعن بالله أن تقدِّر أن هذا يهجر، وهذا لا يهجر، ولذلك يفرق الإنسان بينهما. وانظروا إلى سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يفرق بين أحوال الذين تخلفوا في يوم بدر ويوم أحد، وبين من تخلفوا في يوم تبوك، فيوجد هناك في أشياء معينة ترجع إلى فقه الواقع -كما قلناه سابقاً- وإلى أمور معينة، فالذين هجرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الثلاثة الذين خلفوا- لهم صفات ولهم وضع، فمن الحكمة أن يهجروا، بخلاف من قبلهم فهنا حال غير الحال، ووضع غير الوضع. فالعالم أو الأخ الفاضل طالب العلم عندما يأتي بفاحشة أو موبقة أو ببدعة أو يخالط أناسا لا خير فيهم وتهجره، فهذا جيد، لأنه إذا هجره الأخيار وعنفوا عليه وعاتبوه، يرجى أن يكون هذا الهجر رادعاً له، لكن إذا ما اهتدى في أول الطريق وهجره الأخيار فإنه يستمر مع الفجار، فبينهما فرق لأن الأول نعلم ونطمئن أنه لن ينحرف بالكلية، لأننا إذا هجرناه فسيرتدع، أما ذاك إذا هجرناه فسينحرف، وهكذا توضع الأمور في نصابها.

الفرق بين الولي والواصل عند الصوفية

الفرق بين الولي والواصل عند الصوفية Q ما الفرق بين الولي والواصل عند الصوفية؟ A الصوفية بحر متلاطم، لا تستطيع أن تقول إن معناه كذا -فقط- عند الصوفية. فالولي عند بعض الصوفية درجة فوق النبوة، وخاتم الأولياء عندهم مثل خاتم الأنبياء أو أعظم من خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، والولي عند بعضهم أو عند عمومهم مجرد العابد الذي له ميزات معينة، أما الواصل فهو اسم أو مصطلح لمن يمشي في طريق التصوف، فأول ما يبدأ يسمونه: المريد. ثم ثانياً: يكون السالك، في الطريق، والثالث: وهو الأخير يسمونه الواصل، فهذا من الواصلين، أي: أصبح من خاصة الخاصة الذين لا يتوبون من الذنوب ولا يتوبون من التوبة، لكن يتوب من الإيمان، ويتوب من رؤية الإيمان، نعوذ بالله. ومن أراد الاستزادة فهناك كتب كثيرة منها كتاب هذه هي الصوفية وكتاب التصوف بين الحق والخلق.

توريث الزوجة التي لم يدخل بها

توريث الزوجة التي لم يدخل بها Q أنا شاب متزوج، ولم أدخل بعد، وعلي دين، فماذا يترتب علي بالنسبة للزوجة إذا توجهت للجهاد وقدر الله بوفاتي؟ وهل يجوز أن أوصي سداد ديني مما أملك، مثل أن تباع سيارتي؟ وهل للزوجة ميراث أو وصية خاصة؟ وأسألك أن تدعو لي أنت ومن حضر، لعل الله أن يتقبلني شهيداً عنده وأن يجمعنا بكم في دار كرامته! A بالنسبة للزوجة فنعم، فلها عليك أن تعطيها، وأن تحسن إليها، وأن تحسن عشرتها ما بقيت، فإذا ذهبت فعليك أن توصي بها خيراً لعلك تعود، وإن أنالك الله تبارك وتعالى الشهادة فإنها ترث منك. وبالنسبة للدين فأول ما يخرج الدين {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] سواء كانت سيارة أو مالاً أو أي شيء يُباع ويخرج الدين منه، ثم بعد ذلك تكون أنصبة الورثة، والزوجة من جملة الورثة في مثل هذه الحالة، كما قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واكتب وصية خاصة توصيها وتوصي أهلك وإخوانك بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما الفرائض فإنها تقسم كما قسمها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين زوجتك وبين غيرها، فقد يكون لك أب، وقد يكون لك أم وإخوة.

الفرق بين التحسس والتجسس

الفرق بين التحسس والتجسس Q ما هو الخلاف بين نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولا تجسسوا}، وبين قوله تعالى: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]؟ A لا فرق بينهما، فالتحسس إذا كان لمصلحة كمصلحة هذا الأب الحزين الكئيب الذي فقد ابنه، فيرسل أبناءه ليتحسسوا عنه لعلهم يجدونه، فهذا لا شيء فيه. وبين أن يكون لتتبع العورات والسقطات، فهذا يدخل في التجسس، وكما قلنا بأن لهما معنىً واحداً، مؤداهما ونتيجتهما واحدة، فلا تعارض يا أخي بارك الله فيك!

ظلم العباد وكيفية التوبة منه

ظلم العباد وكيفية التوبة منه Q إذا كان الإنسان يرى أنه قد ارتكب كل ما ذكرت في هذا الموضوع من أخطاء وسيئات، فما هو المخرج؟ A المخرج: التوبة والاستغفار، ورد الحقوق والمظالم إلى أهلها، والتحلل ممن تكلمت فيهم، أو اغتبتهم، أو أخذت مالهم، أو ظلمتهم، قبل أن يأتي اليوم الذي لا درهم فيه ولا دينار، كما أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الفرق بين توضيح الخطأ وتتبع الأخطاء

الفرق بين توضيح الخطأ وتتبع الأخطاء Q هناك من الشباب هداهم الله عندما يسمعون من العلماء المعاصرين خطأً في فتوى معينة يقولون: عقيدته فيها كذا، أي: إذا أخطأ في فتوى طعنوا في عقيدته؟ A سبحان الله! ما الذي أدخل هذا في هذا، فالاجتهاد الفقهي لا علاقة له في مسألة عقيدته، والبعض الآخر منهم يبحثون عن عقيدة العلماء المعاصرين، مع أنهم الظاهر عليهم أنهم من أهل السنة والجماعة، وبعضهم يتكلف ويتتبع، فإن بلغه أن أحد العلماء أو أحد الدعاة عنده مائة محاضرة فيجلس يسمعها كلها من أجل أن يجد فيها عشرة عيوب! أشغلك الله بهذا الإنسان إلى هذا الحد؟! ومن الذي كلفك بهذا؟! وماذا تريد من هذا؟! قال: أريد أن أنظر ماذا عنده من أخطاء حتى أنشرها! فإن نشرتها فماذا فعلت؟ نشرت بين الناس أن هذا الذي يثقون فيه ويحبونه ويسمعون كلامه، وهدى الله به قوماً كثيرين -إن شاء الله- يكون فيه كذا وكذا عيب لكن وبعدها ما الفائدة؟ فقد يرتد بعض الناس عن الخير والصلاح، وقد يفسق وتقل قيمته. إذا قلت: قيمة العلماء والدعاة فإن هذا يعم الجميع، ولا نتصور فقط أن هذا ينحصر بواحد بعينه، لا، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعرض عنه، كما قال بعض السلف حكمة عظيمة جداً يقول: [[علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه]]. فبعض الناس يقول: أريد أن أتتبع فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية لكي يبينوا ما فيها من أخطاء، سبحان الله! فما أحسن هذا عند أهل البدع وعُبَّاد القبور، والمجرمين، والملحدين، والمؤولين! أن تقول: ابن تيمية أخطأ في كذا، وكذلك إذا قال: سوف أتتبع عيوب الألباني، فهذا عند أهل السنة من أكبر الأخطاء، وهو منافٍ للحكمة في الدعوة، فنحن لا نقول: إن أحداً لا يُخطئ حتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، لكن نبه عليه! فمثلاً: إذا كتبت موضوعاً أو تطرقت إلى موضوع في بحثك أو في فتوى فقل: وأما قول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله فيبدو لي أن الصواب خلاف ما قال، مثل سماحة الشيخ ابن باز حفظه الله في كتاب الحج -مثلاً- عندما قال: وبعض العلماء يقول: إن المتمتع يكفيه طواف وسعي واحد، فإن ابن تيمية رحمه الله قال هذا الشيء وأخطأ، لكن عندما تكتب أو تتكلم عن قضية بذاتها، أو أمام طلاب علم، أو في بحث معين فلا بأس، وهذا موجود، ولا ينكره أحد، كأن تقول: إن ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن حجر رحمهم الله في هذه المسألة على ما يبدو لي قد أخطئوا في اجتهادهم، أو أن الصواب خلاف ما قالوا رحمهم الله وتثني عليهم، فهذه لم يعترض عليها أحد. لكن المشكلة هي أن تقول: أنا أجمع أخطاءه وأبينها للناس، فتقول له: لماذا؟ فيقول: إن الناس يقرءون الفتاوى كثيراً، فمن أجل أن لا يغتروا أُبين لهم ما أخطأ فيه، فهذه مصلحة، لكن نظرك قصير، فعندما تنظر لهذا النظر القصير تنسى المفسدة الكبيرة، لأنه قد يقول لك بعضهم إنه لن يشتري الفتاوى، لماذا؟ تجده يقول: نظرت إلى الكتاب الذي ألفه فلان عن أخطاء هذه الفتاوى فهذا الذي جعلني لا أشتري هذا الكتاب، والآخر ألف كتاباً في أخطاء ابن حجر ويقول الآخر لن أقرأ فتح الباري لماذا؟ لأن فيه أخطاء، جميل وماذا تقرأ؟ فإن تركنا الفتاوى وتركنا ابن حجر وابن القيم والألباني والشيخ ابن باز، فكل واحد -مثلاً- عنده أخطاء، فعندها لا بد أن نرجع ونقرأ لأهل البدع وإلا إلى أين نذهب؟! فهذا من فهم الأمور وعكسها على غير حقيقتها، ولهذا قس نسبة الخطأ الذي قاله وقس الحاجة إليه بالمفاسد المترتبة، وبما ينتشر في الأرض من منكرات وإلحاد وعلمانية وفجور ودعوة إلى ارتكاب أكبر المحرمات وهو الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فعندها تجد أن كلامك ليس له معنى وعملك لا معنى له أبداً، أما إن كان من الأحياء فاكتب له، وقل له، واسمع منه. فأحياناً الإنسان يقول قولاً لسبب ما -وهذا مجرب لدى أكثر الناس- فمثلاً في خطبة الجمعة، قد تضطر إلى أن تقول في الخطبة كلاماً ولو سألك واحد بعد الصلاة لماذا؟ تقول هناك سبب معين، أو هناك شيء معين اقتضى أقول هذا الشيء؛ لأنه حدث كذا، ثم يأتيك بتفاصيل أسباب قوله هذا الكلام، فأنت إذا سمعت من أحد شيئاً فقبل أن تنكره، اسمع منه فقد يعطيك عذره ويجعلك تقتنع بغير ما قال، وهكذا. ثم إذا وصل الأمر إلى أنه اجتهاد، فهناك قاعدة عند العلماء: 'الاجتهاد لا يبطل الاجتهاد' وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله له رسالة بهذا وقررها أعظم تقرير. ولذلك لو أن قاضياً حديث عهد بالتخرج في أدنى مراتب القضاء، أفتى وحكم في مسألة باجتهاده فلا يجوز حتى لرئيس القضاء وأكبر عالم، أن ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، لماذا؟ لأنه اجتهاد باجتهاد، أما لو كان خالف النص فإنه ينقض الاجتهاد بالنص، أما الاجتهاد الذي فيه قولان وفيها اجتهادان، فهذا قال بقول وهذا قال بقول، فلا ينقض هذا بهذا، ولا يقتضي ذلك عداوة، ولا بغضاء، ولا شحناء، ولكن لضيق الأفق فهو الذي يحول دون استيعاب هذا. فمثلاً: الخوارج ماذا أخرجهم؟ أصل خروجهم أنهم قالوا: كيف يختلف الصحابة؟ وكيف يتقاتلون؟ وما الحل؟ فمثلاً: قالوا: نقتل علياً ومعاوية ونقتل عمرو بن العاص، ونريح الأمة من المشكلة، وفعلاً هذا الذي أرادوه، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد أن يُقتل أو يموت إلا علي رضي الله تعالى عنه فهل هذا حل، لأنهم اختلفوا أو تقاتلوا؟ فبدلاً من أن تقول: يا أمة الإسلام! اذكروا محاسنهم، وكفوا عما شجر بينهم، ولكل منهم اجتهاده وإن تقاتلوا فكذا وكذا، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، فقالوا: لا، الحل أن نريح الأمة منهم فنقتل الثلاثة وبعدها الأمة تختار خليفة وتجتمع عليه، ثم إنهم بعدها قتلوا أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وأما عمرو ومعاوية فاخطؤوهم، فهكذا بعض الناس يرى أن الحل هو القتل، وليس شرطاً القتل بسفك الدم، لكن أن تقضي على العالم الفلاني أو الداعية الفلانية لترتاح من شره، فليس في هذا راحة، بل بالعكس: هذا حل الذين لا يدركون الأمور ولا يقدرونها حق قدرها، وهو فهم ناتج عن ضيق النظر من عدم الصبر، ومن عدم معرفة فقه الاختلاف وأدبه بين العلماء قديماً وحديثاً.

الإنكار والنصح عن طريق وسائل الإعلام

الإنكار والنصح عن طريق وسائل الإعلام Q لما تكلمنا عن واجب كل منا في إنكار المنكر في الجرائد ونحوها فقد كتبت نصيحة بذلك، فهل هذا يجزئ عني، وأني أديت ما علي؟ A شكر الله لك وأثابك ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكثر من أمثالك، فهذا أخ فاضل لما تحدثنا فيما سبق عمن يحتسب عند الله أن يكتب لبعض الجرائد على ضوء نصيحة سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين أثابه الله التي قرأناها عليكم، فهي كلمة -والحمد لله طيبة- فيها التذكير، والنصح، والأمر بالعدل، ويطلب منهم أن يستقيموا وأن ينصفوا جزاه الله خيراً. على كل حال، فهذا أدَّى ما عليه إن شاء الله تعالى، ولو أن كل واحد منا كتب أو تكلم بمثل هذا الأسلوب المشرق الطيب، لوجد إن شاء الله الاستجابة ولأقام الحجة.

محاربة وسائل الفساد

محاربة وسائل الفساد Q ما رأي فضيلتكم في انتشار مراكز الجمال والرشاقة -مثلاً- هذه الأيام علماً بأن من يقوم بها نساء؟ A ظننا أنها قد خفتت وإذا بها قد ظهرت، واستعيذوا بالله من الفتن -نسأل الله العفو والعافية- فمحلات الرشاقة والجمال تقول: لكل من تهتم بجمالها، فخدماتنا منزلية، (24ساعة) وبدون إجازات، تجهيز عرائس، قص، استشوار، وتشقير إلى آخره، فكل هذا خدمات منزلية و (24 ساعة) وبالتلفون، اطلب وتأتي المجملة، أو المزينة هذه إلى البيت، وهذا يحصل في أرض من؟ وعند من؟ في بلاد المسلمين، وتحت أنظار من يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقرؤون قول الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] أصبحت هذه هي الشغلة، وهذه الطلبيات جاءت من باريس أو نيويورك هل تظنون أن الدول الغربية تبيح الدعارة بالشكل الذي قد يتصوره بعضنا. إنه من السذاجة أن يظن ذلك أن هذا مكان للزنى، فقد كانت موجودة حيث كان هناك مكان معد للزنى وطبيب يشرف على الزانيات والزناة ويكشف عليهم، وبعد ذلك يدفعون الأجرة، والدولة تأخذ ضريبة على ذلك، فحورب البغاء بهذا الشكل حتى على مستوى الأمم المتحدة. لكن البغاء الموجود الآن مثل هذا البغاء، اتصل وتأتي معها أدوات الزينة والتجميل إلى أين تذهبين؟ فتقول: أنا ذاهبة إلى فلان، لأنه طلبني وهذا كرت عملي، فماذا يكون من المفاسد؟ وماذا يترتب عليه؟ وهل يجوز أن يسكت على هذا؟ فهذه والله مصيبة وإن كان من كان أصحابها، فالمنكر لا بد أن ينكر، ولا فرق عند الله بين أصحاب الثراء وأصحاب الجاه وبين غيرهم، فسيبتلينا وسيعذبنا إن لم ننكر مثل هذا المنكر، وأنا أظن أن هذا المنكر إذا أنكر فإنه بإذن الله سيمنع. لأنه منكر واضح، مهما كان صاحبه فسيمنع بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمنعننا من الإنكار مهابة أن يقال: إن هذا لفلان أو فلانة، فإذاً ما معنى الإيمان بالله؟! وما معنى العقيدة التي نعتقدها؟! فهل هي عقيدة نظرية، أو كلام في الذهن؟ لا! وإنما عقيدتنا أن نتوكل على الله ونشرع في هذا، فكم من منكرات أكبر لأناس أكبر أزيلت والحمد لله. فمن كان يقول: إن فندق البلاد يقفل، ولكن الحمد لله أنكر أهل الخير وتعاونوا حتى أقفل، فهذه أتفه من فندق البلاد، وأصحابها أتفه وأقل، فتوكلوا على الله وأنكروا المنكر، ولا تخافوا ولا تخشوا في الله لومة لائم، فهذه بيعة رسولكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث عبادة بن الصامت {بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعسرنا ويسرنا، وأن نقول الحق ولا نخاف في الله لومة لائم} قل كلمة الحق بدليلها وبأسلوب حسن وألقها، وستجد القبول بإذن الله. ونحن في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مجتمع خير، فستجد من يقبلها في الإمارة أو الشرطة أو الهيئة أو في المسجد، المهم أن تقولها ولا تمنعك مهابة الناس من أن تقولها.

ترك ما يؤدي إلى مفسدة

ترك ما يؤدي إلى مفسدة Q إذا كان الصلح بين الأخوين يؤدي إلى مفسدة، فما الحكم؟ A كل شيء يترتب عليه مفسدة أعظم منه فيترك.

اتهام النبي بسماع الغناء

اتهام النبي بسماع الغناء Q هل صحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستمع إلى الغناء كما نشر في جريدة الأخبار؟ A آخر ما نختم به التنبيه على جريدة الأخبار وهي من الجرائد الذي تطبع أكثر من (1. 500. 000) يومياً تفتري على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعنوان كبير (النبي كان يستمع للغناء) -أعوذ بالله- ولا من حسيب ولا رقيب، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سمع الراعي، وضع يده هكذا، وهؤلاء يقولون: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستمع الغناء، والذي يسمع هذا يعرف أنه الغناء الموجود الآن في الإذاعة وفي التلفزيون وهذا من الكذب والبهتان.

واجبات الداعية

واجبات الداعية في هذه المادة يوجه الشيخ نصيحة للداعية إلى الله بأن لا تشغله الدعوة إلى الله عن مراجعة نفسه وتذكيرها، موضحاً أن التذكر والتذكير من المبادئ الإيمانية المهمة، مبيناً ما يجب أن يُذكِّر به الدعاة إلى الله عز وجل أنفسهم به من الإخلاص لله عز وجل، وطلب العلم الشرعي. والصبر على الابتلاء.

المذاكرة مبدأ إيماني

المذاكرة مبدأ إيماني قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله. الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أفضل خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فنشكر الله تبارك وتعالى على توفيقه وامتنانه وعفوه ونعمه. من أصول ومبادئ التزكية الإيمانية، أن العبد المؤمن يتذكر ويُذكر، فالألفاظ لا جديد فيها، ولكن في المعاني يجب أن تُذكر وتتذكر، وإن كانت محفوظة ألفاظها عند السامعين، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى ومن عظيم التربية الإيمانية، والتزكية الربانية والنبوية، أن يُذكر الإنسان وأن يتذكر. فالتذكير لا يشترط له بالضرورة أن يأتي بالجديد، لكن التذكير لا بد منه؛ لأن الإنسان إذا استغرق في العمل وانهمك فيه، ربما ينسى أو تخفى عليه أساسيات وضرورات، كانت حاضرة حية في قلبه وشعوره عند بداية العمل.

مكانة الإخلاص

مكانة الإخلاص ومن ذلك الإخلاص لله تعالى في الدعوة، هذا كله لا يخفى علينا أهميته -والحمد لله- لكنه إذا انشغل في غمار الدعوة، واستغرق أوقاته فيها، وهي مشكلات كثيرة، وما من شيء تعطيه أوقاتك أو عمرك وما لديك، إلا وتجده يتسع، وخاصة الدعوة وطلب العلم، فمهما بذلت لها فهي أوسع وأعظم من أن يحيط بها جهدك أو وقتك. ومع هذا الاستغراق وهذه السعة ينسى الإنسان من يذكره بالله تعالى، ويذكره بالإخلاص لله تبارك وتعالى، ومن هنا كان أول ما يجب أن يذكر به بعضنا بعضاً هو الإخلاص، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى}. فالواجب علينا -جميعاً- أن نجعل أعمالنا وخطراتنا وسكناتنا وأقوالنا، وكل ما نأتي ونذر، خالصاً لله تبارك وتعالى لا تشوبه شائبة، وبذلك نحقق الروح التي تفرق بين الصورة والحقيقة، بين التمثال المنصوب وبين الإنسان الحي الذي خلقه الله تبارك وتعالى في أحسن تقويم. فإن العمل بلا إخلاص سواء أكان تأليفاً، أم جهاداً، أم كان دعوةً، أم أي عمل آخر، فهو كالتمثال أو الدمية التي لا روح فيها ولا حياة، وإنما حياة الأعمال بالإخلاص لله تبارك وتعالى ومراعاة تقوى الله ومراقبته فيها.

العلم الشرعي

العلم الشرعي والأمر الآخر الذي لا بد منه هو: العلم، فإن أساس الدعوة إلى الله تبارك وتعالى على منهاج النبوة، هو العلم. ولهذا جعل الله تبارك وتعالى العلم قبل القول والعمل فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]. فالعلم هو الأساس، ولا نعني أي علم وإنما العلم المقصود هو: العلم بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً وقبل كل شيء، ثم العلم بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بآثار السلف الصالح ومنهجهم وسيرهم وحياتهم في الدعوة إلى الله، ثم ما كتبه الأئمة والدعاة المجددون، الذي أقام الله تبارك وتعالى بهم الحجة، وأظهر المحجة في أزمنة الغربة وعصور الانحطاط رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. وهذا لا بد منه، وما تشاهدونه وما تفرحون به إنما هو ثمرة من ثمرات الحرص على العلم، ولا سيما علم السنة النبوية المطهرة التي ضيعها كثير من المسلمين في هذا الزمن، ولولا هذه الصحوة الطيبة المباركة، وما قيض الله تبارك وتعالى لها من علماء وأئمة مجددين في هذا الفن، لكان الناس في شأن السنة في حال عجيب. ففي القرن الماضي وما قبله اشتدت غربة علماء السنة جداً، حتى إنك تجد العلماء الكبار من أكبر جامعة في العالم الإسلامي يحفظون القرآن عن ظهر قلب في مراحل متقدمة من العمر، ولكنهم لا يكادون يميزون الضعيف من الصحيح من الموضوع، ولا يعلمون شيئاً في الحديث، وإذا تكلموا أو وعظوا أو كتبوا، خلطو الموضوعات والأباطيل بالصحاح، ولم يميزوا بين شيء منها، فكان في ذلك آفة ومدخل عظيم للشيطان. إذا فسد العلم فسدت العقائد والأعمال، ولا خير فيها بعد ذلك، فالحمد لله الذي منَّ على هذه الصحوة الطيبة بهذا العلم العظيم، وأحيا في هذه الأمة الاهتمام بحفظ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً وقدوةً. وما نشاهده في هذه الأيام من التمسك بالسنة في الصلوات في المساجد، وفي المظهر، لم يكن موجوداً قبل خمس عشرة سنة، ولو كنت ذهبت إلى مساجد جدة والرياض والقصيم، لا تجد التمسك بالسنة مثل هذه الأيام، وإنما تجد بعضاً من العلماء الذين لديهم تمسك بها على حال غربة. أو تجد الذين يتمسكون بالمذهب، وخاصة مذهب الإمام أحمد رحمه الله والمنسوب له أقرب إلى السنة، لأن أصول الإمام أحمد هي أقرب المذاهب إلى موافقة السنة وكذلك في الفروع. لم يكن عن اتباعهم للسنة مباشرة، ولكن كان عن اتباع للمذهب الحنبلي في الحقيقة، وعلى هذا كان كثير من العلماء رحمهم الله وجزاهم الله خيراً، لكن الحمد لله هذه الصحوة الطيبة أصبحت تتمسك بالسنة، ولا ننسى العلمين المجددين فيها وهما سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ومن سار على نهجهما، فإنهم جددوا في هذا الجيل، إحياء السنة رأساً بغير تقيد بمذهب معين، وهذا من التجديد الذي نفع الله تبارك وتعالى به الأمة، والحمد لله على ذلك.

الصبر على الابتلاء

الصبر على الابتلاء والأمر الثالث بعد الإخلاص لله تعالى وبعد طلب العلم هو: الصبر على ما يُبتلى به الإنسان في طريق دعوته إلى الله تبارك وتعالى، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]. هكذا مضت سنَّة الله، ألاَّ يبعث نبياً إلا وجعل له أعداء، وقد قصَّ الله -تبارك وتعالى- علينا في القرآن من ذلك، مما جرى وحدث مع نوح عليه السلام أو هود أو صالح أو إبراهيم أو لوط أو شعيب أو موسى أو عيسى أو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كل من حدثنا الله -تبارك وتعالى- عنه أو حدثنا عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أنهم وجدوا من يعاديهم من الملأ المستكبرين، ومن الجهال الأغرار، ومن المستهزئين، الذين لا همّ ولا شأن لهم في الحق، ولا يريدون الحق، وإنما غاية ما لديهم الاستهزاء والعبث والاستخفاف بكل من يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى. فهم يرون دلائل النبوة وآياتها واضحة جلية، ومع ذلك يُعرضون عنها ولا يبالون بها، ويستهزئون بأنبياء الله ورسله الكرام. هذا في الأنبياء، فليتأسَ بذلك الدعاة، وليتأسَ بذلك كل من سار على منهاج النبوة. وأعظم الرجال في هذه الأمة وأفضلهم وخيرتهم هم: الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. ومع ذلك لو نقب الإنسان وقرأ في الكتب، ورأى في أحوال الأمة الذين ينتسبون للإسلام، لعجب كل العجب مما تقوله الخوارج والروافض والباطنية وأشباههم في حق هذين الشيخين الجليلين الصحابيين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، وخليفتيه بعد مماته، فماذا تتوقعون أن يقال فيمن هو دون هؤلاء؟! فالواجب الصبر، والواجب أن يتخلق الداعية بأعلى درجات العفو والصفح والحلم والتجاوز، وألاَّ ينتقم لنفسه، وإنما يعلم أنه إن أصيب من سلطة مسئولية أو من كان ذا كبر وشأن عند الناس، أو سفيه جاهل متطاول، أو من قريب أو بعيد أو حتى من الزوج أو الابن، فكل ذلك إنما هو امتحان وابتلاء، فليصبر على ذلك ليرفع الله تبارك وتعالى به درجته وليثبته على الحق، وليكفر عنه من خطاياه. فإن العبد المؤمن لا يأمن على نفسه أن يعمل عملاً، فتكون فيه شائبة لغير الله -عز وجل- أو يقصر في أمر أو يدعو الناس إلى طاعة ولا يأتيها، أو يضعف ويفتر عزمه فيها، فكل ذلك يحتاج إلى المكفرات، وهذه المكفرات هي من نعمة الله -تبارك وتعالى- على العبد، ومن ذلك كما قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما يصيب العبد من هم ولا نصب ولا حزن إلا كان كفارة لخطاياه} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكفر الله تعالى عنه بهذه اللأواء وبهذه المصائب وبما يعرض له. فلذلك لا يكرهها المؤمن ولا يحقرها، وإنما يحمد الله -تبارك وتعالى- عليها وعلى كل أحواله، وليجتهد في الدعوة إلى الله -عز وجل- على ما أمر الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. هذا ما أردت أن أقوله، وكل ما قلته لا جديد فيه، أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداة مهديين صادقين خاشعين قانتين إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

دورنا في مواجهة التنصير

دورنا في مواجهة التنصير أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ يحيى اليحيى: Q ما هو دورنا في مواجهة التنصير، وخاصة في هذه المدينة التي تعج بالنصارى، خاصة أنه في بداية عام ميلادي؟ A ما يتعلق بقضية التنصير فأنا أحيلك على شريط لفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة ذكر فيه خمسين وسيلة وطريقة لمعاجلة التنصير.

وسائل الدعوة اجتهادية

وسائل الدعوة اجتهادية أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ يحيى اليحيى: سؤال آخر: وسائل الدعوة هل هي توقيفية أو اجتهادية؟ وأما فيما يتعلق بأساليب الدعوة فقطعاً أساليب الدعوة ليست توقيفية، إنما هي اجتهادية تختلف على حسب الزمان، وعلى حسب المكان. فالعلماء يجتمعون ويتشاورون فيما يرونه، ولهذا قال الله عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] فمنطوق هذه الآية أن الأمور لابد لها من مشورة لأنها تتعلق بعامة المسلمين، ويفهم من هذه الآية أن بعض الأمور -والتي منها الأساليب الدعوية- ليست توقيفية، وإنما هي اجتهادية، فيجتهد العالم كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} والحاكم ليس هو الإمام الأعظم للمسلمين فقط، بل قد يكون الحاكم إماماً، وقد يكون الحاكم قاضياً، فلا بد لهذه الأمور من اجتهاد ليس فردياً بل جماعياً فنقوم بذلك وخاصة في هذا الزمن، والطرق والمناهج تختلف، ولكن الاختلاف هذا هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. هذا الذي أراه وصلى الله على محمد وآله وسلم.

تعليق على عيد الكريسمس

تعليق على عيد الكريسمس يجب علينا الوقوف ضد أي مظهر مهما قَلْ من مظاهر الانحلال أو الفسق أو ترك السنن الظاهرة، فما بالكم كيف يكون الواجب في محاربة إعلان شعائر الكفر الظاهرة التي ينطبق عليها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من تشبه بقوم فهو منهم}. وقوله: {لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة} فهذا لا شك أن أعظم ما يجب على المسلم إنكاره. والمنكر الأكبر الذي يجب أن ينكر هو الكفر وتوابعه، وشعائره، ومظاهره، وهذا من مظاهر الكفر، ولو سكت عنها لوجدنا أنفسنا لسنا بمسلمين ولا نصارى -والعياذ بالله- فيبقى عند الناس أداء الصلاة والإعلان بها، وبعض الأمور التي تدل على أنهم مسلمون، ولكن بتعظيم شعائر الكفر ورفع الصلبان، والاحتفال بأعياد النصارى، وما أشبه ذلك. يكون فيهم أيضاً نوع من النصرانية، فتصبح الأمة المصطفاة التي قال الله -تبارك وتعالى- فيها {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] حتى الظالم لنفسه في هذه الأمة داخل في الأمة المصطفاة، تصبح مسخاً تتخلق بأخلاق من أخلاق الأمم الكافرة التي تغزوها كل طائفة منها بشعيرة من شعائرها، حتى على الناقلات الصغيرة تجدون اللاصقات، يكتبون ( I LOVE) الفلبين أو تايلاند، ويصبح البلد مملوءاً بهذه الشعارات التي قد لا يفطن لها كثير من الناس، أو يظن أنها مجرد أمور شكلية عابرة، لكن في الحقيقة يصبح البلد بعد ذلك فيه كثير من مظاهر الكفر والشرك والعياذ بالله. وهذا من أعظم ما يجب على المسلمين التعاون والتضافر لمحاربته، ورحم الله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عندما تكلم وألف كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. والحمد لله الجهود التي بُذلت قد أثمرت، فوزارة التجارة استجابت وأصدرت الأمر بمنع بيع بطاقات التهنئة، وهذا مكسب، ويجب أن نزيد عليه في الإنكار، ونجعله في الحيز الواقع. ثم يجب علينا أن نحارب المظاهر التي قد تفشو وتنتشر في تلك المناسبات عندهم، من إيقاد الشموع، ووضع شجرات الميلاد على الشرفات وما أشبه ذلك، من الاحتفالات، وهذا من واجب الإخوان في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالتعاون معنا جميعاً. ثم كل منا يجعل من نفسه عيناً وحارساً لهذا الدين وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأينما رأيت علماً من أعلام البدعة ارتفع فالواجب أن تبلغ عنه وأن تحذر منه سواء كان في شركة أم في مؤسسة أم في أي قطاع من القطاعات، خاصة قبل أن تقع، فإنهم يبدؤون يهيئون لهذه الأيام، لأنها عندهم وبالنسبة لهم فرحة العام كله. فيبدؤون يهيئون لها من قبل ما لا يقل عن عشرة أيام، فلذلك يجب أن نحذر في هذه الأيام ونتنبه إلى هذا، فإذا بلغنا عن شركة أو مؤسسة أو إدارة أو مدير إدارة قد يكون مسلماً، لكن يحب أن يهنئهم أو يقرهم، فنبدأ من الآن في الإنكار، وليس إذا وقع فقط، لأنها ليلة أو ليال ولا نستطيع حينئذٍ أن نُوزع الجهود، فربما لا نستطيع أن نبين أو نتكلم، وإذا تكلمنا فلا يُستجاب لنا، وخاصة إذا كلمت بعض الجهات وجاءت المكالمات أن مائة شركة عندها حفل -مثلاً- تقول: والله لا نستطيع إيقاف مائة. ولكن إذا بدأنا من الآن وما بقي إلا ما فات عنا ولم نعلم به، أو من يعالج فعادة يكونون قليلاً. فإذا كانوا ثلاث شركات أو أربع تعمل والباقي التزم، فلا شك أن الباقي يهيئ من بيده الأمر، فيمنع من إقامة هذه الحفلات وإحياء هذه الشعائر الكفرية وأشياء أخرى لا تخفى عليكم -إن شاء الله- إنما المقصود أنه يجب على كل أحد منا أن يكون حارساً وعيناً لهذا الدين وشعائره وأعلامه وتعظيم ذلك، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يُعظم شعائر الله إنه سميع مجيب.

موقف المسلم تجاه المنكر

موقف المسلم تجاه المنكر أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ يحيى اليحيى: Q حديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب ولكنه رضي بما تحقرونه من أعمالكم} رأينا التبرج في بعض الأماكن قد تفشى، والمنكرات وصلت الذروة، لا سيما العمالة الكافرة، خاصة النساء من العمالة الوافدة يكشفن الرأس والساقين، ونحن عندما نرى مثل هذا نقوم بإنكاره على الفور، ولكن سؤالنا هل إذا أنكرنا، ثم لم يلتزم هؤلاء النساء بالغطاء، والهيئات ليس عندهم أمر، فهل في سكوتنا بعد ذلك إقرار لذلك المنكر؟ A الحديث {إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} هو حديث انفرد به مسلم عن البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ولفظه {إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم}. أما ما يتعلق بموقف المسلم تجاه منكر لم يتغير، فهو موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما قال الله عز وجل له {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، فأنت في حكم الرسول؛ لأنك تبلغ عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فما عليك إلا أن تبلغ هذا الحق للمرتكب للمنكر. ثم أيضاً لا تبلغه إنكار المنكر مرة واحدة فحسب، وإنما تعود مرة أخرى لعله أن يتذكر أو يخشى، ثم مرة ثالثة تدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة. وإذا رأيت أنه معاند ومكابر فعند ذلك برئت ذمتك، وليس عليك شيء، ولا يتضمن هذا إقراراً عندما تترك هذا المرتكب للمنكر. لكن متى يكون الإقرار؟. عندما تراه يصول ويجول في المنكرات وأنت ساكت عنه.

الشركات المعاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية

الشركات المعاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية في هذه المادة يتحدث الشيخ عن مبدأ ظهور الشركات المساهمة على مستوى واسع في الغرب، وارتباط ذلك بالاستعمار الأجنبي، وأثر ذلك في ظهور الاشتراكية وردة الفعل بعد ظهور الاشتراكية بتقنين الشركات، وإنشاء المؤسسات العامة، وتكلم عن كيفية دخول القوانين الغربية إلى البلاد الإسلامية، وحُكْم ذلك موضحاً لجملة من المآخذ على نظام الشركات، ثم ختم حديثه بذكر بعض الحلول المقترحة للتخلص من هذه المعضلات.

أحكام الشركات الحديثة

أحكام الشركات الحديثة

أهمية البحث عن أحوال الشركات

أهمية البحث عن أحوال الشركات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن موضوعنا طويلٌ ومهم، فأرجو أن تحضروا أسماعكم وأذهانكم لتستوعبوا ما تستطيعون أن تستوعبوه، فهذا الدرس بمثابة انطلاقة وبدايةٍ لدراسةٍ أوسع وأشمل يقوم بها كل منا بالإضافة إلى بعض الجهات التي قد نقترح أن تقوم بواجبها في هذا الشأن. أيها الإخوة: إن الشركات -ولا سيما الشركات المساهمة، وهي أهم الشركات التي ستكون دراستنا لها أكثر- قد انتشرت وتنوعت وتشعبت في مجتمعنا بسبب ما أنعم الله به علينا وفتح لنا من كنوز الأرض، حتى قل أن تجد إنساناً غير مساهمٍ في شركة أو سائل عن مساهمةٍ في شركة، ولا أستطيع أن أحصي الأسئلة التي تأتيني يومياً شفهياً أو خطياً أو هاتفياً عن هذا الموضوع، فكيف بمشايخنا وعلمائنا! لا شك أن هذا يدل على أن قسماً كبيراً جداً من الناس يريد أن يعرف حكم الله في هذه الشركات، وأحكامها وأنواعها، ولا سيما المساهمة منها كما ذكرت. وهذا الذي دفعني إلى أن أبين وأوضح ما أراه وأعتقده في هذا الشأن، وهناك سبب آخر ربما كان أهم من الأول، وهو أن من يفتي أو يتحدث إلى الناس، أو يعظ أو يخطب متحدثاً عن أحكام الشركات، ومحذراً مما فيها من حرام، إنما هو في الحقيقة متكلمٌ عن حالات واقعة، وجزئيات معينة يسأل عنها السائلون فيفتيهم من خلال ما يعلم؛ ولذلك نجد أن هذا لا يعطي الحل الشامل الجذري. ولقلة ما رأيت وما سمعت من معالجةٍ جذريةٍ لأصل موضوع الشركات، رأيت أنه لا بد أن أتحدث ببعض ما يوفقني الله تبارك وتعالى له، ثم أترك البقية لإخواننا المتخصصين في هذا المجال ممن جمع بين العلم الشرعي وبين الدراسة الاقتصادية، وفوق ذلك لعلمائنا الأفاضل الذين لا بد أن يدلوا بدلوهم، وأن يقولوا كلمتهم الفصل في هذه القضايا. فالقضية ليست قضية جزئيات ومسائل متكررة يومية يسأل عنها الناس، ما حكم كذا؟ وما الحكم إن ساهمت في شركة كذا؟ وما حكم شركة كذا؟ ولو استمررنا على هذه الحالة سنظل إلى الأبد لا تتغير أمورنا وأحوالنا إلا تغيرات جزئية معينة بقدر ما يقتنع به بعض الناس؛ وكثيرٌ منهم لا يسأل، وكثيرٌ منهم قد يسأل ولكنه لا يمتثل لجواب المفتي. إذاً لا بد من حل جذري لمسألة الشركات؛ وبيان حكم الله تبارك وتعالى فيها من واقع نظام الشركات السعودية وهو النظام أو القانون المطبق في هذه البلاد على الشركات.

نشأة الشركات

نشأة الشركات قبل أن ندخل في تفصيل هذا الكلام؛ نتحدث عن نشوء الشركات، ولا سيما الشركات المساهمة في العالم، فنقول: إننا لا نستبعد أن يكون مجتمعنا الإسلامي قد عرف أنواعاً من الشركات المساهمة، أي التي يكثر فيها المساهمون؛ لأن الشركات وجدت في الجاهلية ثم في الإسلام، وفي أثناء توسع ونمو الحضارة الإسلامية وتعاملها مع الأمم وجدت الشركات المعروفة التي بينها وفصلها علماؤنا في كتب الفقه (كشركة العنان، وشركة المضاربة، وشركة المفاوضة، وشركة الوجوه) وذكروا منها (شركات الأبدان، وشركات الأموال إلى غير ذلك) فلا تجد كتاباً من كتب الفقه إلا وفيه أحكام لهذه الشركات. فمن الطبيعي أن يوجد نوعٌ من الشركات المساهمة بأن يجتمع طائفة كبيرة من الناس ويكونوا شركة، ولا نستبعد أن يكون ذلك قد وقع؛ لأن هذا من الوقائع العادية التي لا تؤرخ؛ لكن هذا يختلف اختلافاً كثيراً عن الشركات في الواقع الغربي، وفي القانون الغربي الذي يحكم حياة الناس، والذي استوردناه وهو المطبق الآن في العالم الإسلامي مع الأسف الشديد.

نشأة الشركات في الغرب

نشأة الشركات في الغرب نشأت الشركات في الغرب نشأةً استعمارية، وأول ما يذكرون في تأريخها شركة تسمى (شركة المغامرين المكتشفين الإنجليز) ثم ظهرت فيما بعد شركة (الهند الشرقية) وهي شركة بريطانية احتكرت تجارة الهند، وأيضاً شركة الهند الشرقية وهي شركة هولندية، احتكرت التجارة في جزر الهند الشرقية - أندونيسيا وما والاها. ثم ظهرت الشركات التي نشأت في مصر؛ لاستعمار مصر والقبض على تجارة القطن فيها؛ ثم شركات الرقيق التي كانت في إفريقيا والتي تبيع الرقيق لـ أمريكا وغيرها، ثم ظهرت شركات البترول وسيطرت -أيضاً- على بترول المنطقة، وتحكمت في إخراجه وتوزيعه وتسويقه بنسب معينة مع الحكومات.

ارتباط الشركات بالاستعمار وآثاره

ارتباط الشركات بالاستعمار وآثاره نلاحظ أن وجود الشركات المساهمة يرتبط تاريخياً بالاستعمار وبالاحتكار وبالمذهب الرأسمالي الذي لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً؛ وإنما هدفه الحصول على أكبر قدرٍ من الربح بأقل قدر ممكن من المال أو الجهد، ونتيجةً لانتشار هذه الشركات المساهمة؛ وما صاحبها من انتشار الاحتكار، وانتشار الغبن، والتفاوت الطبقي الفاحش بين الأغنياء وبين الفقراء، وما كان لهذه الشركات -أيضاً- من نفوذ على الدول يزيد من شدة التفاوت الطبقي ومن الظلم؛ نشأت الاشتراكية، والماركسية. وليس الوقت مقام تفصيل في الاشتراكية، لكن نقول: كيف أثر نشوء الاشتراكية على المجتمع الرأسمالي والشركات المساهمة الكبرى؟!

آثار ظهور الاشتراكية

آثار ظهور الاشتراكية أثر ذلك أن الدول الغربية في شمال غرب أوروبا بالذات خشيت على نفسها من الثورات العمالية الاشتراكية، فأخذت تضع قيوداً معينة على النظام الاقتصادي وعلى الشركات؛ ومن هنا ومع الزمن تحولت أكثر الشركات من شركات اتفاقية عقدية بين الناس إلى شركات قانونية يحكمها القانون ويحكمها النظام الذي تضعه الدولة، واحتاجت الدول الغربية إلى إنشاء ما يسمى بالمؤسسات العامة، وهو نوعٌ من أنواع الشركات، يدرأ عن الدولة خطر الثورات والاضطرابات العمالية؛ لأن العمال يساهمون فيها، وفي نفس الوقت تظهر الدولة بمظهر العدالة الاجتماعية مع المحافظة على النظام الرأسمالي في حقيقته وفي لُبِّه، وهكذا كانت الشركات المساهمة. ولذلك فإن الذي يظهر وهو واضح جليٌ في إدارة الشركات المساهمة وفي أعمالها؛ أن الذي يقبض على زمام الأمور إنما هو مجلس الإدارة؛ فمليون من الناس أو أكثر يشعرون أنهم مساهمون في الشركة، وأن لهم حق التصويت كما يريدون، فهذا يعطيهم رضاً وقناعة بها، ومن المستحيل أن يثور أحد عليها؛ لأنه يساهم فيها ولو بسهم واحد، فيشعر أنها له، ولا يريد أن تخسر؛ لكن أعضاء مجلس الإدارة -وهم دائماً فئة معينة محدودة من الناس- تحتكر كل شيء وتعمل بكل شيء. ولهذا يقول بعض الاقتصاديين: إن هناك أكذوبتين في القرن العشرين، أكذوبة الديمقراطية: وهي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه والذي يحكمه هو في الحقيقة فئة متسلطة معينة باسم الديمقراطية. والثانية: أكذوبة مجلس الإدارة في الشركة المساهمة أو في المؤسسات العامة، لأنه يتصرف في كل شيء، والمساهم لا يدري عن شيء. فبهذا المنهج العملي كانت ظروف نشأة الشركات، وخاصة (الشركة المساهمة) في أوروبا.

القوانين الغربية تغزو البلاد الإسلامية

القوانين الغربية تغزو البلاد الإسلامية ما القانون الذي يحكم هذه الشركات؟! أول ما عرف عن قانون مفصل مكتوب في أوروبا هو قانون (نابليون) الذي أظهره في مطلع القرن التاسع عشر من عام (1804م) إلى عام (1807م) تقريباً. هذا القانون هو الذي استوردته البلاد العربية، ودخل مع الاستعمار عندما قدم البلاد العربية فعم أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وكانت الدولة التي تحكم العالم الإسلامي دولة الخلافة وهي الدولة العثمانية، فالدولة العثمانية استوردت من القانون الفرنسي ومن غيره من القوانين أحكاماً كثيرة؛ منها (القوانين التجارية) وكان القناصل الغربيون يحكمون بأحكام القوانين الغربية في بلاد الإسلام، وفي ولايات دولة الخلافة كـ الشام ومصر، والعراق وغيرها، ونتيجة لذلك جاءت هذه القوانين إلى بلاد العالم الإسلامي. زيادةً على ذلك؛ أن مصر وهي أهم وأكبر الدول الإسلامية في هذا الشأن أصدرت دستوراً وضعياً سنة (1923م)، وقبله أصدرت عدة مراسيم أو أنظمة للحكم لكن أهمها هو هذا الدستور، ثم بعد ذلك وضعت القوانين ومنها وضع القانون المدني المصري الذي هو أكبر وأهم القوانين في العالم العربي، وهو باعتراف واضعه الأكبر (السنهوري) ربيبٌ للقانون الفرنسي ومشتقٌ منه ومأخوذ عنه، وله اعترافات قالها -لا يتسع المقام لذكرها- في ضرورة أن تعود الأمة للشريعة الإسلامية، وأن تستمد من تراثها ومن عاداتها وعرفها أحكامها وقوانينها.

صدور نظام المحكمة في المملكة

صدور نظام المحكمة في المملكة هذا القانون الفرنسي والذي أصبح مطبقاً في العالم العربي، ويسمى باسم (القانون المدني المصري) (والقانون المدني السوري) (والقانون المدني العراقي) (والقانون المدني الأردني) هو الذي اشتق منه نظام الشركات السعودي، ونكون الآن قد وصلنا إلى الحديث عن بداية نظام الشركات في المملكة وكيف صدر. أصل نظام الشركات في المملكة في الحقيقة يرجع إلى نظام المحكمة التجارية الذي صدر عام (1350هـ) واسمه (نظام المحكمة التجارية)، وصدر في تلك الفترة وكان موافقاً في أكثر أوكل مواده لقانون التجارة العثماني، الذي هو منقول عن قانون التجارة الفرنسي.

أسباب صدور نظام الشركات في المملكة

أسباب صدور نظام الشركات في المملكة لما وضع قانون الشركات؛ أُلغي الفصل المتعلق بالشركات من نظام المحكمة التجارية، وأُحل محله نظام الشركات المعمول به حالياً، والذي أُخذ أخذاً مباشراً من القانون المدني المصري، ولا بأس أن نقرأ لكم المقدمة من " نظام الشركات " وهذا النظام موجود، ويباع بخمسة ريالات في وزارة المالية، لنعرف أسباب وضع هذا النظام:- يقول في المقدمة: ' بالرغم من أن الشركات التي أسست في تلك الفترة القصيرة -أي أيام الملك عبد العزيز وما بعده- من الزمن قد شملت في أعراضها كافة أوجه النشاط المالي والتجاري والصناعي، وبلغت رءوس الأموال المملوكة لها عدة مئات من ملايين الريالات، وزاد إقبال الدوائر الحكومية والأفراد على التعامل معها، فإن نصوص الأنظمة التي تحكمها لا تزيد حتى الآن على بضع مواد وردت في نظام المحكمة التجارية، لم تكن كافيةً لمواجهة كافة المسائل المتعلقة بالشركات، سواء عند إنشائها، أم خلال مزاولة نشاطها، أم عند انقضائها وتصفيتها، وإزاء هذا القصور، لجأ الأفراد لتأسيس شركاتهم ومعالجة أمورها إلى اقتباس القواعد المعمول بها في الدول الأخرى، فاختلفت السبل، واختلطت الأمور في كثير من الأحوال، اختلاطاً جعل مهمة الوزارة -أي وزارة التجارة- في مراقبتها والإشراف عليها عسيرة، ومن هنا بدت الحاجة ملحةً إلى وضع نظامٍ شاملٍ للشركات ينص على الأحكام الواجبة الاتباع في تأسيسها ومزاولتها نشاطها إلى آخره ' فالمشكلة التي شخصها النظام بنفسه هي أنه لا يجد عندنا تشريعاً يضبط الشركات مع تشعبها وكثرتها إلا بضعة مواد في نظام المحكمة التجارية؛ فلهذا احتجنا إلى وضع نظام شامل. إذاً: فأول سؤال يتبادر إلينا جميعاً هو: أين الشريعة الإسلامية؟ وهل أحوجنا الله إلى هذه المواد القانونية؟

كمال الشريعة الإسلامية في أبواب المعاملات

كمال الشريعة الإسلامية في أبواب المعاملات إن عندنا -ولله الحمد- الشرع الكامل المطهر، الذي أكمله الله تبارك وتعالى، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] والذي ما ترك شاردةً ولا واردةً إلا ولها فيه حكمٌ؛ إما نصاً أو استنباطاً؛ والذي لا خيار لنا في أن نأخذ به أو أن نتركه أبداً، قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] ولقوله أيضاً: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وكل الآيات التي تذكر موضوع الكفر بالطاغوت كما ذكر الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] أي: أن الكفر بالطاغوت ركن شهادة أن لا إله إلا الله. فالقضية الأساسية ومدخل الخطر: أننا نظرنا إلى الوضع والحال المعمول به في البلاد الأخرى؛ فاستوردنا قوانينها واستوردنا مؤسساتها وشركاتها، وتركنا الرجوع إلى الشرع، وقد فصلت أحكام ذلك تفصيلاً؛ وأكثر من ذلك ألماً وأسفاً أن يقال كما في كتاب مبادئ القانون الذي يُدرَّس في كلية الاقتصاد والإدارة بالجامعة هنا في جدة وفي غيرها ' إن الشريعة الإسلامية لم تنظم المعاملات، بل تركتها للناس ' وإن أيَّ طالب علم يقرأ في المغني، أو في فتح الباري، أو في شرح النووي، أو أي كتاب من كتب الفقه أو شروح السنة أو التفسير، يجد أن آيات الأحكام وأحاديث الأحكام في المعاملات، تستغرق قسماً أكبر من القسم الذي يسمونه العبادات -أي الصيام والصلاة والطهارة والحج والزكاة والصوم- وفي الطبعة المحققة -الآن- من المغني وفي الجزء السابع فيه كتاب (الشركات) من (صـ109) إلى (صـ195)، هذا غير ما تتعرض له كتب الفقه من أحكام الشركة في أبواب الصلح، وفي أبواب البيع، وفي أبواب الميراث، وفي أبواب الشفعة، وفي أبواب كثيرة من أبواب الفقه التي لها علاقة بالشركة.

حكم تحكيم القوانين

حكم تحكيم القوانين لم يتركنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هملاً ولا عبثاً، ولا أيتاماً ضائعين نبحث عما يقوله الغربيون أو نستورد ما يصدرونه لنا من فتات أفكارهم وقوانينهم. ومن هنا انبرى سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- وتصدى لهؤلاء، وأصدر الفتوى الشهيرة التي هي بعنوان: تحكيم القوانين، ولعلكم قرأتموها جميعاً، وله مع سماحة الشيخ عبد العزيز ومجموعة من العلماء فتوى قريبة من هذه في ألفاظها وفي معناها، كلاهما موجود في الجزء الثاني عشر من فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم في كتاب القضاء منه.

المآخذ على نظام الشركات

المآخذ على نظام الشركات أصل الخلط الذي وقع، هو كون النظام ينص على: ' إننا لا نخالف الشريعة، وإن النظام لم يحل حراماً ولم يحرم حلالاً' فهذا غير صحيح، وسنبين كيف أنه خالفه ولم يلتزم به، بعد أن نبين الجوانب الأخرى من المآخذ على هذا النظام؛ وبعد أن عرفنا المأخذ الأول وهو أنه مستمد من القوانين الوضعية لا من الشريعة. المأخذ الثاني: أن واضع نظام الشركات ليس العلماء، وليس لجنة شرعية، وإنما هي لجنة من القانونيين، إذاً استمداده ليس من الشريعة، وواضعه ليس من المتخصصين في علوم الشريعة. المأخذ الثالث -وهو خطير ومهم جداً-: أن التحاكم إلى أحكام الشركات، والرد عند التنازع في أمور الشركات ليس إلى المحاكم الشرعية، وإنما إلى هيئةٍ قانونيةٍ خاصة كانت تسمى المحكمة التجارية، ثم غيرت عدة مرات وبعدة أسماء: هيئة حسم المنازعات التجارية، أو هيئة فض المنازعات التجارية، ثم خصصت لها هيئة باسم هيئة حسم المنازعات في الشركات، وتغيرت مراراً عديدة في تشكيلها وفي أعمالها. ونقتصر على نص واحد من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعرض فيه لنقد نظام الغرفة التجارية والمحكمة التجارية وهو موجود في (صـ251) من الجزء الثاني عشر من الفتاوى كما أشرنا. يقول الشيخ رحمه الله: 'وقد انتهى إلينا نسخة عنوانها: نظام المحكمة التجارية بـ المملكة العربية السعودية المطبوع بمطبعة الحكومة بـ مكة عام (1369هـ) للمرة الثانية، ودرسنا قريباً من نصفها - (من) هذه من كلامي ليستقيم اللفظ- فوجدنا ما فيها نظماً وضعية قانونية لا شرعية، فتحققنا بذلك أنه: حيث كانت تلك الغرفة هي المرجع عند النزاع فإنه سيكون فيها محكمة، وسيكون الحكام فيها غير شرعيين بل نظاميون قانونيون، ولا ريب أن هذه مصادمة لما بعث الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الشرع الذي هو وحده المتعين للحكم به بين الناس، والمستضاء منه عقائدهم وعبادتهم ومعرفة حلالهم من حرامهم، وفصل النزاع عندما يحصل التنازع، واعتبار شيء من القوانين بالحكم بها ولو في أقل القليل - لاحظوا عبارة الشيخ - لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع، وإيصال الحقوق إلى أربابها' وانظروا كيف نُسب ذلك النظام حكم الله إلى عدم الكفاية! يقول نظام الشركات في المقدمة: 'والواقع أن كافة أنواع الشركات التي تضمنها المشروع على تباين أشكالها وأحكامها لا تختلف عن الشركات التي كانت معروفةً في الماضي وقال: أما علة الاختلاف فترجع بأساسها إلى اتساع دائرة المعاملات عما كانت عليه في الماضي مع تنوع صورها وأشكالها على نحو لم يكن معروفاً أو متوقعاً'. وهذا لا يجوز أن يقال عن الشريعة؛ لأنه لا يمكن أن يقع أي شيء إلا وله حكمه في دين الله، والواقع شاهد على ذلك. أرجعوا الأمور إلى المحاكم الشرعية؛ تجدوا أنها تحكم -بإذن الله- في كل شيء أرجعوا وضع هذه الأنظمة إلى هيئات شرعية من العلماء؛ تجدوا أنهم يضعون لكم كل شيء مما يصلح حال هذه المشاكل وغيرها. يقول الشيخ: 'وهذا فيه نسبة حكم الله ورسوله إلى النقص وعدم الكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها، وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم -وكأن القوانين أكمل في حل المشاكل- واعتقاد هذا' أي ومن يعتقد أن القوانين تحل المشاكل، والشريعة لا تحلها، وليس فيها الكفاية في ذلك، قال الشيخ: 'واعتقاد هذا كفرٌ ناقلٌ عن الملة -فانظروا خطر ما يقع فيه بعض الناس أو يقوله، شعر به أو لم يشعر ثم يقول: والأمرٌ كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية -أي أن بعض الناس يقول هذه أمور ومشاكل تجارية اجتهادية ولا مانع من ذلك. فيقول الشيخ:- والأمرٌ كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية؛ وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه؛ شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه' أي أنهما شقيقان أن يعبد الله وحده وأن يحكم شرع الله وحده. قال: 'إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المتبع، المحكم ما جاء به فقط، وما جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ' إلى آخر كلامه -رحمه الله- ورضي عنه وأرضاه. وهذه هي المآخذ المهمة أصله واستمداده ثم واضعه ثم جهة التحاكم فيه وكلها كما قد رأيتم مرجعها ومآلها إلى غير شرع الله هذا من حيث الجملة.

نقد تفصيلي لنظام الشركات

نقد تفصيلي لنظام الشركات يقع الخلل والخطأ، وتكثر أسئلة الناس اليوم، ويقعون في الحرج العظيم من جراء مساهمتهم في هذه الشركات، وذلك بسبب ما في هذا النظام من المخالفات الشرعية الواضحة، ومنها ما يلي:

أولا: عدم الشمولية

أولاً: عدم الشمولية إن نظام الشركات غير شامل لجميع أنواع الشركات، فالشركات المعروفة في الفقه تشمل نوعين: شركات الأبدان، وشركات الأموال، ونظام الشركات هذا لم يتعرض لشركة الأبدان؛ لأن القانونيين لا يتعرضون لها، مع أنها جزء ونوع من أنواع الشركات، فلم يتعرض لها إلا إشارة إلى أن ما عدا هذا يجوز لكن لم يتعرض لأحكامها ولم يفصل فيها شيئاً، فمن هنا نلحظ أنه سار على المنهج القانوني لا على المنهج الشرعي في تقسيم أنواع الشركات.

ثانيا: إجبار المتعاقدين على نمط معين

ثانياً: إجبار المتعاقدين على نمط معين إن هذا النظام يحكم عقود الشركات، بحيث تصبح وكأنها ليست عقوداً اتفاقية بين الشركاء؛ فالأصل بين الشركات شرعاً؛ أنها عقود بين الشركاء؛ أما في الواقع الحالي، فإن النظام هو الذي يحكم وليس العقد، أي أن الشركاء يدخلون تحت نظام، وهم مرغمون ومجبورون على اتباعه، وإلا عوقبوا، وليس بإرادتهم هم وبتعاقدهم هم.

ثالثا: إلزامية عقد الشركة

ثالثاً: إلزامية عقد الشركة إن الشركة المساهمة -حسب لوائح النظام- عقدٌ لازم وليس اختيارياً جائزاً، ولهذا تجدون كل واحد من الناس ساهم في أي شركة -سواء كان مكاناً ربوياً بحتاً مثل بنك الرياض، أم غير ربوي كصافولا وغيرها- لا يستطيع أن يسترد رأس ماله؛ فيقولون: بع سهمك، وهي في بعض الأحيان لم تفعل شيئا بعد، والأصل في الشرع أن الشركة عقد جائز، متى رأى الشريك أن يخرج أو يحل الشركة فإنها تحل وهذا لو كان على مستوى أفراد لهان الأمر، لكنه على مستوى أمة؛ فإذا وجد مليون مساهم وعرفوا أن هذا حرام، فأرادوا أن يتخلصوا من الحرام -والحمد لله مع وجود الصحوة الكبرى، والأوبة والتوبة والرجوع إلى الله، تجعل الناس يرون ضرورة التخلص من هذا الحرام- إذا اقتنع مليون أو ألف من الناس أن يتركوا هذا الحرام؛ فلا بد أن يضعوا مكانهم مليوناً أو ألفاً آخر، فلا يمكن التخلص منه، وهذا بسبب أن النظام يجعل الشركة عقداً لازماً لا يمكن أن ينفضَّ إلا بحكم النظام، وهذا أمرٌ مهم جداً.

رابعا: المخالفات الشرعية في الصكوك

رابعاً: المخالفات الشرعية في الصكوك الصكوك التي تصدرها الشركة المساهمة-ولنقرأها لكم كما هي في الفصل الرابع- وهي ثلاثة أنواع وهذه من أخطر الأمور التي يجب أن يتنبه لها المسلمون ويهتمون بمعرفة أحكامها: ' الفصل الرابع من نظام الشركات يبتدئ بالمادة 98يقول: الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة: النوع الأول: الأسهم من المادة 98 إلى المادة 111. النوع الثاني: حصص التأسيس من المادة 112 إلى المادة 115. النوع الثالث: السندات من المادة 116 إلى المادة 122. ' وهذه الثلاثة الفروع لصكوك الشركة وأموالها، فهي إما أسهم، وإما حصص تأسيس، وإما سندات. إذا كنتم عرفتم ذلك، فلنأخذها واحداً واحداً، ونبدأ بالأخير: -السندات: والسندات رباً وحرام قطعاً، ولا يشك في ذلك أي إنسان يعرف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصرح بهذا حتى من القانونيين أنفسهم فيقول أحدهم: هذا مخالف للشريعة؛ لأنه سند بقرض وفائدته فيه معروفة ومعلومة، والسند هو عبارة عن قرض أو سندات بقرض يسمونها، وهذا حرام قطعاً ولا شك فيه إذن، هذا الفرع باطل كله ولا يحتاج أن نفصل فيه، لأننا لا نحتاج أن نبين أن الربا حرام. - حصص التأسيس: وهي حرام أيضاً، لماذا؟! وما معنى حصة التأسيس؟. نقرأ تعريفها من نفس النظام الذي يقول: ' هي براءة اختراع أو التزامٌ حصل عليه من شخص اعتباريّ عام، يكون مشاركاً بحصة تأسيس '. فمثلاً: هذا رجل ليس عنده مال يقدمه، لكن عنده اختراع ينفع الشركة، أو خدمة معنوية للشركة يرى مجلس الإدارة أنها تصلح خدمة للشركة، فيعتبر صاحبها مؤسساً أو مشاركاً فيها وهذه تسمى حصة التأسيس، ويعطى بذلك صكاً من الشركة أنه يملك حصة تأسيس، وهذا لا يجوز شرعاً، لماذا؟ لأن فيه جهالة، وفيه غرر، ويترتب عليه مفاسد كثيرة، وكل من بحث المسألة يرى أن هذا حرام والأسوأ أن هذه الخدمة المعينة يفسرها مجلس الإدارة، ولذلك يمكن أن تكون رشوة. فكيف تكون رشوة؟ تقدم -مثلاً- الشركة (شركة استيراد) ولدينا موظف في الجمارك في وزارة التجارة، فنعطيه حكم التأسيس في الشركة مقابل خدمة تسهيل استيراد أشياء بدون أن تتأخر، أو بدون أن تجمرك، أو كذا، وهذا يفتح مجالاً كبيراً للتزوير والخداع بطريقة نظامية للشركة؛ وإذا قيل: ما حصة فلان؟ قالوا: هذا عنده حصة تأسيس. ويمكن أن يدخل فيها أنواع كثيرة من الخداع، والعالم الغربي اليوم يعيش هذا ويعلمه؛ فأكثر الشركات قائمة على الخداع، وعلى الغش، وعلى الرشاوى، وعلى التزوير، ويدخل ذلك من باب حصص التأسيس النظامي، والواقع في كل بلاد العالم شاهد بذلك. إذاً وهذا النوع الثاني نوعٌ باطل، فلا يجوز أن يشترك إنسان بشيء معنوي مجهول في شركة مالية، لأنه -أصلاً- باطل؛ فكيف إذا دخله حرام. - بقي النوع الأول وهو " الأسهم " ولا بد أن نفصل قليلاً- في موضوع الأسهم من حيث الموقف الشرعي من الشركات المساهمة. فالأسهم نوعان -كما في النظام في المادة (99) - إما أن يكون السهم اسمياً، وإما أن يكون لحامله؛ فاسمياً يعني سهم فلان بن فلان، وأما لحامله فيعني كل من يملك الورقة فهو مالك للسهم، فالنظام في المادة (102) يقول: " تتداول الأسهم لحاملها بمجرد المناولة " أي حتى لو ضاعت على أحدهم ووجدها شخص آخر وأخذ السهم؛ فالأمر طبيعي جداً ولا يسأل عن ذلك. فهذا النوع من الأسهم -وهو الأسهم لحامله- حرام، ولا يجوز إصداره شرعاً، لما فيه من إضاعة الحقوق، ولأن الجهالة هي جهالة الشريك ولا ندري من هو الشريك، وهذا يوقع في مفاسد ومحظورات شرعية؛ فإذاً هذا النوع باطل بقي أمر آخر في موضوع الأسهم، وهي الأسهم التي تضعها الشركات المساهمة -كما في نفس النظام- وهي إما أسهم عادية، وإما أسهم ممتازة. ما معنى أسهم ممتازة؟ أي أن الأسهم أصحابها لهم ميزة، فنحن نعرف جميعاً أن الأسهم كلها متساوية، فالسهم قيمته -مثلاً- مائة ريال لجميع المساهمين؛ لكن الأسهم الممتازة حتى لو أفلست الشركة أو صفيت، فإنك تأخذ حقوقك كاملة، ولا تشترك في الخسارة، ويمكن أن تسحب مالك من أي وقت ولا تُطالَب بأي شيء، وأمامك فرص كثيرة جداً لأنك شخص ممتاز، مع أنك ما دفعت إلا المائة، أو ما تملك إلا سهماً واحداً؛ وهذه توضع لأناس معينين. فهذه الأسهم الممتازة حرام بهذه الصفة؛ لأنها تعطي ميزات وتفاضلاً بغير حقٍ وبغير وجه شرعي، والأصل أن المساهمين جميعاً سواءٌ في الربح أو في الخسارة. ومنها أنواع يسمونها (أسهم التمتع) وتنص على أن بعض الناس بعد مضي فترة من الزمن يسترد رأس ماله، ومع ذلك يظل في الشركة ويأخذ أرباحاً عادية؛ لأن لديه أسهم رأس المال أو أسهم تمتع!! أي أنه يأخذ رأس ماله ومع ذلك لا يزال يُعطى مثل ما يُعطى بقية الشركاء!! وهذا لا شك أنه حرام، فبأي حق يأخذ هذا المال، وقد استرد رأس ماله فهذا أيضاً نوع من أنواع الأسهم، وهو حرام قطعاً. وأما ما عدا ذلك فهي الأسهم العادية وهذه لا تخلو من محظورات شرعية، بعضهم أوصلها إلى حد أنها تبطل الشركة، أي أن الشركات المساهمة من أصلها باطلة، وسبب ذلك هو أن الشريك يساهم ويشتري ويخرج دون علم الآخرين، فليس هناك شركة في الحقيقة. وأكثر من هذا أن البورصات العالمية وبائعي الأسهم والدلالين والسماسرة يتلاعبون بعقول الناس بسبب هذه الأسهم، ويتلاعبون -حتى- بالسياسة الدولية، فيتدخلون في أمورٍ ويتحكمون بأكثر من قطاع وأكثر من مجال من مجالات الحياة والناس لا يعلمون. مثلاً: حدثت حادثة: رئيس الوزراء في بريطانيا قدم استقالته قالوا: ارتفعت الأسهم، وإذا ذهب وزير خارجية أو اختطفت طائرة أو ارتفع البترول قليلاً انخفضت أو ارتفعت الأسهم في الدقيقة أو في الثانية لا بد من ملاحقة شديدة لها. ويدخل في هذا النجش المحرم شرعاً كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولا تناجشوا} وهو الزيادة ممن لا يريد الشراء، وكم أفلست من دول ومن شركات ومن مؤسسات، بسبب هذه الأسهم، وفوق كل ذلك إفلاس هائل جداً للناس الذين انهالوا على شراء الأسهم، فاشتروا وارتفع سعرها، ثم اشتروا وباعوا وفي النهاية فوجئوا بالإفلاس؛ وسنوات طويلة والدولة ما تزال تحاول أن تحل هذه المشكلة. إذاً: عن هذه الأسهم نقول: على فرض أن الشركة المساهمة حلال، فإن من مشاكلها هذا البيع، وما يدخلها من غش وغرر ونجش ومعاملات محرمة، ولا يحصر أثرها في محاضرة ولا أكثر لأن أثرها وضررها عظيم، هذا بالنسبة لموضوع الأسهم.

خامسا: اجتماع الأجرة مع نسبة من الأرباح

خامساً: اجتماع الأجرة مع نسبة من الأرباح من المخالفات الشرعية: أن نظام الشركات السعودي أجاز أن يحصل الشريك بالعمل على نسبةٍ من الأرباح زائد أجرة ثابتة وهذا لا يجوز شرعاً؛ لأنه ربما استهلكت الأجرة الربح؛ كله فماذا يبقى؟! والثابت شرعاً أنه لا يعطى زيادة على نسبة الربح أجرة، ولعل فيما بعد يأتي الكلام عن مكافأة أعضاء مجلس الإدارة وما يتعلق بها، وهي قريب من هذا.

سادسا: نسبة الخسارة ونسبة رأس المال

سادساً: نسبة الخسارة ونسبة رأس المال ثم إن من المخالفات التي هي مخالفة صحيحة لأحكام الشريعة أنه لم يجعل الخسارة على قدر رأس المال، ففي الشرع -وهذا موضع اتفاق بين العلماء- أن الخسارة على قدر رأس المال؛ ونظام الشركات لأنه مأخوذ من القوانين الغربية، فهم يجعلون الخسارة بحسب الاتفاق. فيجوز أن تدفع مالاً أكثر، وتكون خسارتك أقل، وهذا أيضاً من الظلم ومن الإجحاف، ويولد الشحناء والبغضاء بين المساهمين. ومع ما سبق من تحريم السندات؛ أجاز نظام الشركات السعودي تحويل سندات القرض إلى أسهم، أي أنه كان مقرضاً بفائدة، فقالوا: يمكن أن تحول إلى أسهم وتصبح مساهماً!! فهذا يزيد الطين بلة مصيبة على مصيبة وكل ما ترتب على باطل فهو باطل، وما بني على الحرام فهو حرام.

سابعا: تقييد المعاملات وتسلط الإدارة

سابعاً: تقييد المعاملات وتسلط الإدارة وذلك كمنع الشركات الكبيرة الخاصة وتحويلها إلى شركة مساهمة جبراً، وتسلط أعضاء مجلس الإدارة واستئثارهم وشراء الأصوات. وأذكر قصة حقيقية وقعت قبل أيام، وتضمنتها فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز -ولديّ صورة منها- جاء إلى منطقة الباحة رجل وزعم أنه يمثل شركة من الشركات وقال: كل شخص يحضر رقم الحفيظة أو رقم البطاقة، ونأخذ صورة منها، ونعطيه مائتي ريال -في منطقة من مناطق الباحة - وتعرفون الفقر الشديد هناك، وخاصة جهة البادية وجهة تهامة؛ فهناك فقر مدقع جداً. أحد المساكين يقول: وماذا في ذلك؟! أعطيه رقم الحفيظة وآخذ مائتي ريال!! وتجمع الناس بالمئات أو بالألوف، ووزع عدة ملايين، وذهب فتذكرت لما كتبوا لسماحة الشيخ عن هذا ووقتها كنت في المعهد لا أدري في أي مرحلة بالضبط - بأنه جاءنا أناس من هذا النوع يمرون ويأخذون توابع الناس، ويعطونهم مالاً!! وإذا سئلوا: ماذا تريدون؟ قالوا: مساهمة، والناس لا يدرون أن رقم الحفيظة يسجل باعتبار أنك مساهم؛ لأن البنوك لها شروط، فنظام الشركات يفرض شروط المساهمة، فلو أتى إنسان وأخذ منك رقم الحفيظة فأنت بهذا تعتبر تابعاً، وبهذا يؤسس شركة مساهمة، ويرتب عمله بأسمائنا، ويكون مجلس إدارة بتصويت وهي انتخابات وهمية، ونحن لا ندري لماذا أخذ المبلغ ولا ماذا يريد!! هذه حقائق واقعة الآن؛ لأنه -كما قلنا- في مجلس الإدارة هناك من يقول: إنه وكيل، وهناك من يقول: إنه ينوب، واختلفوا كيف يكيفونه فقهياً، وهذا لا يحتاج تكييفاً. اجعل القضية كلها على الشرع، ولن تحتار في تكييف أي شيء!! أكثر المساهمين -ويمكن أن تسألوا إن لم تكونوا مساهمين- لا يعلم شيئاً، ولا يعلم متى ينعقد مجلس الإدارة، ولا يعلم بعد ذلك ماذا يصير وماذا يدور!! إذاً: هذا يفتح باباً للتحايل، فكأنها تمثل الأمة كلها وهي في الحقيقة لا تمثل إلا أفراداً معينين. فأي واحد منا وفقه الله وفتح منشأة تجارية، وكبرت حتى صار رأس ماله كذا مليار، بأي حق يحولها إلى شركة مساهمة وتعرض إلى الانتساب العام ويشترك فيها من هب ودب. مثلاً: أنا جالس في بيتي، والآخرون في بيوتهم قاعدون، فلا ساهمنا ولا عملنا ولا تاجرنا، وهناك تاجر عنده شركة ضخمة يجبر على أن يحولها إلى شركة مساهمة، فأقوم أنا أشتري وهذا يشتري، وهذا يشتري، بأي حق ولماذا؟ قالوا: لأن هذا يمنع الثراء الفاحش!! ونحن نعلم من شرعنا أنه إن كان هذا الإثراء من طريق شرعي فلا حرج في ذلك ولو بلغ مليارات، وإن كان من طرق محرمة فنمنع الطرق المحرمة؛ فلا نعالج المشكلة بمشكلة أخرى. ولما أجبرت الشركات الكبيرة على أن تتحول إلى شركات مساهمة، فما الذي فعل أصحاب الشركات الأصليون؟! التاجر يقول: هذا حقي أنا؛ فيشتري بطريقة احتيالية -كما سبق- فيعود إليه رأس ماله، وما استفدنا شيئاً ورطناه وورطنا الناس في معاملات كثيرة منها حرام، ورجع الأمر إلى صاحبه؛ لأن القضية من أصلها مبنية على غير أساس شرعي.

ثامنا: الظلم والإجحاف

ثامناً: الظلم والإجحاف يقول النظام: أعضاء مجلس الإدارة لا تزيد مكافأتهم على (10%)، لكن الشرع منصف حتى لأعضاء مجلس الإدارة، وإن كانوا يظلمون المساهمين ويتحكمون فمكافأتهم -حسب النظام- لا تزيد عن (10%) بعد خصم كل المصروفات، وبعد أن يوزع من صافي الأرباح ما لا يقل عن (5%) على كل مساهم افترض أنه ما بقي لهم شيء، إذاً: هذا ظلم، أو افترض أنه بقيت مليارات، إذاً: هذه جهالة لا تصح؛ ولهذا فإن الشرع لا يريد أن نظلم لا مجلس الإدارة ولا المساهمين -وحاشا لله تبارك وتعالى- فهذه الشروط باطلة وهي منصوص عليها في نظام الشركات.

تاسعا: نظام التقادم

تاسعاً: نظام التقادم ومن المخالفات الشرعية في نظام الشركات أنه يسقط الدعوى بالتقادم كما في المادة (77)، ومعنى سقوط الدعوى بالتقادم: أنه إذا مرت مدة زمنية سقط حقك في الادعاء؛ فهم أعطوا للمساهمين أو لغيرهم سنداً وأعطوهم مدة سنة، فإذا سألتهم: وماذا يحدث إذا انقضت السنة؟ قالوا: لما عدا حالتي الغش والتزوير، تنقضي دعوى المسئولية المقررة للشركة بموافقة الجمعية العامة العادية على إبراء ذمة أعضاء مجلس الإدارة من مسئوليتهم، وفي جميع الأحوال لا تسمع الدعوى المذكورة بعد انقضاء سنة على تلك الموافقة، ولو اكتشفوا أن مجلس الإدارة أو واحداً منهم كان أكبر غشاش وأكبر مرابٍ وسرق ما سرق، ونهب ما نهب!! فالقانون يقول: انتهت المدة؛ وهذا مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وإن كان بعض الفقهاء يقولون: إن التقادم يسقط الدعوى فإذا مرت سنوات طوال ثم أتيت أدعي على بيت يسكن فيه إنسان من ثلاثين سنة أو خمسين سنة، وقلت: هذا البيت لي! وأنا جاره، وساكت طوال هذه السنين، يقول بعض الفقهاء: هذا دليل على أن الدعوى باطلة وأنها تسقط، لكن هل هذا يسقط الحق فيما بينه وبين الله؟ لا طبعاً، لكنْ! هم يتكلمون عن النظام فقط، وفيما يخص إلزام المحاكم الوضعية أو البشرية بهذا؛ أما ما بينه وبين الله فلا يسألون عنه. إذاً: اشتمل على هذه المخالفة وهي سقوط الدعوى بالتقادم، وهو -أيضاً- حكم مخالفٌ للشريعة، وما عرفه المسلمون بهذا الشكل إلا عندما استوردوا القوانين الوضعية.

عاشرا: مسألة البينة في إثبات الشركة

عاشراً: مسألة البينة في إثبات الشركة النظام نص على أنه يجوز إثبات شركة المحاصة بالبينة، وهي نوع من أنواع الشركات، فالشركات تتنوع: فهناك شركة محاصة، وشركة مساهمة، وشركة توصية -توصية بسيطة، وتوصية بالأسهم- وشركة تضامن إلى آخر أنواع الشركات وكلها متداخلة ومتقاربة، وبعض أحكامها تتقارب. فيقول النظام: 'شركة المحاصة تثبت بجميع الطرق بما في ذلك البينة' ولماذا نص على أن شركة المحاصة يجوز أن تثبت بالبينة؟ أولاً: لأن المحاصة شركة مستترة؛ رجل يعمل والناس يعرفون أنه هو صاحب المحل، وهناك شخص آخر لا يعرفونه ساهم معه بشيء من المال؛ فهذه شركة المحاصة، ومفهوم ذلك أن الأصل في الشركات ألا تكون البينة هي مصدر الإثبات -البينة المعروفة شرعاً- فالمعتمد عليه عند القانونيين في البينة (الوثائق المحررة الخطية) أي أنك لو أتيت بعشرة شهود على شراكتك في شركة وهم عدول ثقات فلا يقبل منك هذا، أما لو أتيت بورقة خطية موثقة فإنها وحدها هي التي تقبل!! فبعض القوانين تجعل هذا ركناً من أركان الشركة، أي أن الشركة التي لا تكتب فملكيتها باطلة؛ لكن النظام والقانون السعودي لم يعتبره ركناً وإنما اعتبره شرطاً للشركة، كما في المادة العاشرة.

الحلول المقترحة في الشركات

الحلول المقترحة في الشركات لقد أوجزت إيجازاً شديداً جداً في المخالفات التي بلغت إلى عشر مخالفات بالتفصيل، أما في الجملة فقد ذكرنا لكم الحكم العام في أحكام الشركات أو في نظام الشركات، بقي أن نتحدث عما هو أهم من ذلك كله، وهو: ما هو الحل في هذا الواقع؟ نقول: إن ما يمارسه بعض الدارسين من كونه يعرف نظام الشركات، ويدرسه من خلال الآراء الفقهية، ويقول: (هذه المادة توافق قولاً للمالكية، وهذه المادة قد تخرّج على قول عند الحنابلة، أما هذه المادة فهي حرام بالإجماع، وأما هذه فهي كذا فإن ذلك ترقيع لا يجوز، لأن ذلك إقرار بأصل الفكرة، وهي استمداد القوانين الغربية واستيرادها كما هي، وتطبيقها في بلاد المسلمين؛ ثم بعد ذلك: نعقد المقارنات والمشابهات!! ولو بقينا على هذا الشأن، فسنظل عقوداً أو قروناً، وأوضاعنا لا تصلح أبداً. ويقال لهذا العمل: هذا هو التلفيق الذي قال عنه العلماء: 'من تتبع رخص العلماء تزندق' الموضوع في الأسهم يوافق رأياً عند المالكية، وموضوع توزيع الأرباح -فرضاً- يوافق رأياً عند الشافعية وموضوع كذا، وهذا تلفيق لا يقره من يعتني بتطبيق المذاهب الفقهية، كما كان حال الأمة، عندما كانت مقسمة إلى انتماءات مذهبية، ولا من يدعو إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما يجب أن يدعو إليه كل مسلم؛ فلا يجوز أن نستورد قانوناً وضعياً، ثم نبدأ نقارن: فقرةً فقرةً أو مادةً مادة، ثم نخرِّجها على مذاهب الفقه؛ لأن الذي جاء بهذا القانون ما أراد هذه المواد، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما الأعمال بالنيات} وهذا ما نوى أن يستمد من كتب الفقه، ولا قصد أن يكون هذا الشيء حلالاً أو موافقاً لمذهبٍ فقهي؛ وإنما أنت -أيها المسكين- الذي تخرج الأحكام بينت ذلك، فنقول: هذا العمل لا يصح؛ وإنما الحل الصحيح الذي يجب أن تجمع عليه الأمة إجماعاً، هو أن يلغى نظام الشركات القائم حالياً، كما يلغى غيره، وتلغى أنظمة البنوك الربوية، ويلغى أي نظام مخالف لشرع الله إلغاءً تاماً. ثم تشكل هيئة أو لجنة علمية من علمائنا الأفاضل، أو ممن هم دون العلماء، والعلماء يراجعون في النهاية لزحمة أوقاتهم، فتشكل هيئة علمية شرعية مرموقة تضع الحلول في النوازل الواقعة التي قد تستجد، وترتب أمور الشركات عندنا على ضوء الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، وما زاد عن ذلك فهو محل اجتهاد. وإذا كان الغربيون قد وضعوا هذه الأحكام من عند أنفسهم من غير شرعٍ ولا هدى من الله، وإنما بتجارب طويلة في الواقع؛ فكيف بنا ونحن عندنا -والحمد لله- أكبر وأعظم مصدر للتشريع بإجماع كل القانونيين في الدنيا وهو الشرع بما في ذلك الفقه الإسلامي الواسع الثري العظيم -والحمد لله- وعندنا العقول والطاقات المُبدِعَة. فيجب أن يلغى نظام الشركات الحالي، وترتب أوضاع الشركات لفترة انتقالية، تقررها اللجنة، وتبين كيف يمكن أن نرجع جميع أنواع الشركات الموجودة إلى أصولها الشرعية، وتبعاً لذلك تلغى الهيئات القضائية التجارية، بما في ذلك هيئة فض منازعات الشركات ويكون الرجوع في كل القضايا المختلف فيها كالأسهم والأرباح وأي شيء من قضايا الشركات إلى المحاكم الشرعية كما ذكرنا في الآيات، وكما ذكر الشيخ محمد رحمه الله، وكما هو الواجب على كل مسلم فإنه بمجرد أن يعرف الشركاء وتعرف الشركات السعودية منها والأجنبية أن مرجعها إلى الشرع فسوف تتخلى تلقائياً عن كثير من المحرمات؛ لأن الذي يشجعهم الآن على الربا مثلاً أو التعامل به، أن الميزانية والأعمال والتحاكم لا ترجع إلى الشرع، فيصادق على الميزانية، وتعلن في الجرائد، مع أنها تشتمل على الربا، وفي كثير من الأحيان يكون صريحاً، ومع ذلك لا يحاسبهم أحد ولا يعاقبهم أحد. فلو منعت وأحيلت إلى المحاكم الشرعية؛ لتخلصنا من هذا الداء -بإذن الله- ولأصبح الإنسان ملتزماً بأحكام سهلة مبسطة واضحة لديه، تنظم له أمور الشركات تنظيماً شرعياً صحيحاً، وفي نفس الوقت إن حصل خلاف فالحكم فيه للمحكمة الشرعية، فلا يتسرب الحرام؛ إنما يظل ما في النفوس من طبيعة الغش والاحتيال والطمع والشره إلا من رحمه الله، وهذا أمر طبعي في النفوس يعالج بنشر الدعوة إلى الله، ويعالج بنشر حب الخير، وحب الفضيلة، وما توعد الله به من غَشَّ، أو رابى أو تعامل بمحرم، أو ظلم، أو سرق، أو نهب، أو اختلس إلى غير ذلك، وبذلك يكون مجتمعنا مجتمعاً نقياً صحيحاً سليماً، فنرضي ربنا عز وجل ونتخلص من هذا الداء، الذي هو -كما قال الشيخ رحمه الله- أمر خطير كبير، يتعلق بالعقيدة، وبشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليس من الأمور الاجتهادية.

الفترة الانتقالية

الفترة الانتقالية وقد يقول الإخوان: وما الحل في المدة المؤقتة؟ قبل ذلك أنا أعرف كثيراً من الإخوان، يقولون: كيف؟! فأقول: لا يوجد شيء صعب -بإذن الله تعالى- ألسنا مسلمين؟! ألسنا نشهد صحوةً إسلامية كبرى؟! أليست الشركات المساهمة منا وفي مجتمعنا؟! أليس المساهمون من بلدنا؟! أليس من يطالبهم بإلغائها عن رضا منا ومن أهل بلدنا؟! فليس عندنا شيء مفروض علينا بقدر قاهر أو بقوة قاهرة أبداً!! إذاً: لماذا لا نطالب نحن كأفراد في المجتمع -كلنا- بفمٍ واحد أن يكون نظام الشركات وغيره من الأنظمة موافقاً لشريعة الله، ويشكل له هيئة من العلماء؟!! لا مانع من أن نتوقف الآن عن تأسيس أية شركة مساهمة؛ لأن نظام الشركات غير شرعي فلا تؤسس أية شركة مساهمة. ونقول: لا بد أن المؤسَّس لا يؤسَّسْ إلا على الشرع، والقديم يحل بطريق اللجنة، فنطالب جميعاً كتابياً وخطابياً، في الدروس وفي الخطب وفي الكتابات، وبكل شكل من أشكال التأثير، بهذا التغيير، فيحصل -بإذن الله تبارك وتعالى- ولماذا لا يحصل؟ ومن الذي يمنعنا؟! فوالله لو طالبنا وصدقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخلصت النيات من الجميع، لا نعادي بذلك طرفاً أو نتهم طرفاً؟! لا التجار ولا غيرهم، ولا أصحاب الشركات ولا غيرهم المقصود أن نخلص أنفسنا جميعاً: الحاكم والمحكوم والشركة والمساهم من الإثم، ومن هذه المصيبة الكبرى التي عبر عنها الشيخ محمد بن إبراهيم، وأنا أرجو أن ترجعوا إلى الفتاوى وتقرءوا قريباً من هذه الصفحات، فأنا ما أحضرت إلا نموذجاً واحداً، والنماذج التي ذكرها -رحمه الله- كثيرة جداً والأمر خطير جلل، علينا أن نتخلص منه جميعاً، ونخلص الأمة منه؛ لننال رضا الله؛ وننال الفوز والنصر والتمكين في الدنيا، وننال منزلة الذين قال عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَصلُحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس}. فالعالم كله: الغربي -ومن حذا حذوه ممن يعبد المال- يعبد المال والثروة ويجمعها من حلال أو حرام، فلماذا لا نصلح نحن إذا فسد الناس، وفسدت الدول والأمم من حولنا، ونقيم دين الله تبارك وتعالى كما أمر الله، ونستعين بالله، ولا يهمنا أية خسارة قد تقال بعد ذلك؟! إن الخسارة الكبرى هي ألا نطيع الله عز وجل؛ أما ما عدا ذلك فهو ربح وفوز في الدنيا والآخرة فهذا البديل الأساس، وكل واحد مطالب أمام الله -بعد هذا البلاغ- أن يبذل جهده وأن يطالب أو يكتب أو يحاول بأي شكل من أشكال التأثير؛ بأن تصحح أوضاعنا المالية، والاجتماعية، وكل وضع من أوضاعنا: في أنفسنا، وفي أسرتنا، وفي مجتمعنا، وفي تعاملنا العالمي، وفي كل شيء أن تكون موافقة لشرع الله كما قال سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].

حلول عملية

حلول عملية بقي أن نذكر ببعض الأمور العملية ومنها: تكوين الجمعيات بين الزملاء وبين الأقارب؛ وهذه الجمعيات نطمئنكم أنها حلال والحمد لله، وهي مفيدة جداً، للزملاء في المدرسة والموظفون في الإدارة، وللأقارب أيضاً، فكل واحد يدفع مبلغاً معيناً، أو يدفع ما زاد عن راتبه يتفقون على كيفيةٍ للدفع وللأخذ، ثم بعد ذلك تسد خلة كل واحد منهم، وبهذا لا نحتاج إيداعاً في بنك تبقى أمواله مجمدة، فهذا ماله مجمد، والآخر يقترض وهذا أعان البنك لأنه يعمل بماله في الربا، وهذا ظلم نفسه وأخذ الربا؛ بل نجمع الأموال في أيدينا نحن وننفقها في مصالحنا التي نراها، وهذه من الأساليب التي بدأت تطبق ونرجو أن تنتشر حتى نتخلص من البنوك ومن الشركات المساهمة والبنوك شركات مساهمة، ألم يقولوا فيها أنها شركات مصرفية؟! وغيرها شركات خدمات مثل: شركة النقل الجماعي، أو الغاز، أو الأسماك إلى آخره؛ وهناك شركات إنتاجية مثل الشركات الزراعية والصناعية، فالبنك شركة مساهمة، وكل كلامنا هنا عن الشركات المساهمة ينطبق على البنك، والبنك أشد حرمة منها. أيضاً لا بد أن نحيي القرض الحسن في الأمة، ولماذا فقد القرض الحسن؟! فأنا مثلاً عندي مال فائض، فأقرض جاري أو أخي أو زميلي، وهو سيعمل ويدبر نفسه، ثم يعيد إليّ المال بدلاً من وضعه في البنك، أو من المساهمة به في شركة، بل ولي أجر عظيم في ذلك، لماذا أصبحت كل حساباتنا مادية؟! فبدلاً من أن أقرض فلاناً أساهم بذلك المال وأربح لماذا ننسى الربح عند الله؟! ولماذا ننسى ربح الآخرة وننظر فقط للمطمع الدنيوي؟! {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] وكم من آيات وأحاديث، يمكن يأتي بها كل واحد منكم لإثبات هذه القضية!! والأمر الآخر هو شركة المضاربة: كثير من الناس اليوم في المجتمع عندهم طاقة عقلية إدارية، أو مهن، أو حرف، ولكن لا يجد المال؛ وكثير عنده رأس مال فيضعه في البنك أو يساهم به في شركة، وآخر السنة يعطى (4%) أو (3%) أو (5%). فمع هذه المحرمات التي ذكرنا، نقول: اعط مالك لشريك مضارب تعرفه وتعرف أموره، وتتحكم في عمله وتشرف عليه وتطمئن إلى أن مالك بيد أمينة؛ فإن ربح فالحمد لله ربحٌ حلال، وإن خسر فاعلموا أن الخسارة في البنوك خسارة ولو ربحت، فكيف إذا خسرت؟! نسأل الله العفو والعافية. البنك الوطني يشهد تدهوراً من قبل فترة وبنك القاهرة تدهور، وشركات مساهمة كثيرة تدهورت ولا تزال متدهورة إلى الآن، فالخسارة في المضاربة لا تجعلنا نترك المضاربة وهي حلال، وبإمكاننا أن نعملها جميعاً، ونتفق عليها مستفيدين من الطاقات الموجودة الآن في المجتمع. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

من أحكام الشركات المساهمة والبنوك

من أحكام الشركات المساهمة والبنوك Q يقول السائل: حديثكم عام وليس بخاص، فهل كل الأسهم غير جائز التعامل فيها، أو أن هذا خاص ببنك الرياض فقط؟ أرجو التكرم بالشرح. المقدم: فضيلة الشيخ أظنه بسبب هذا الفهم عند الإخوان وردت أسئلة خاصة بذكر شركات معينة كشركة صافولا، سابك، والبنك العربي، وبنك الرياض، وشركة مكة للاستثمار، وطيبة إلى آخر ما هنالك من شركات، يسألون عنها وعن حكم المساهمة فيها، فنرجو التفصيل ما أمكن وحفظكم الله. A نعم، هذا أحد الشواهد على ما قلت، انظروا كيف كثرت الأسئلة عن شركات معينة، أو عن تعامل معين مع شركات معينة، هذا -كما قلت لكم- أحد الأسباب في أن تلقى هذه المحاضرة؛ لأننا لو ظللنا ندرس كل فقرة من كل شركة وكل نظام في كل شركة وحده؛ لمضى علينا وقت طويل بدون أن نصل إلى أي نتيجة؛ ولهذا فقد جئتكم بنظام الشركات بأصله، وبينت لكم مخالفته للشريعة من هذه الأوجه إجمالياً وتفصيلياً، فيبقى بعد ذلك المخرج المعين في جزئية معينة في وقعة معينة، هذا قد بينه المشايخ، ولفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، فتويان مطبوعتان في كتيب، ولسماحة الشيخ عبد العزيز فتوى كذلك. وقد كان الكلام عاماً؛ لأننا أصلنا القضية من أساسها، ومثلت ببنك الرياض لأنه شركة مساهمة، علاوة على أنه بنك ربوي لا تجوز المساهمة فيه بحال، وإذا كنت أطالب بإيقاف كل أنواع الشركات الآن حتى تصحح أوضاعنا وتوافق الشريعة، فماذا تتوقعون أن أقول في بنك الرياض وهو يتعامل بالربا. إذاً: القضية -إن شاء الله- واضحة لجميع الإخوة، وأن هذا العموم أردنا به تأصيل القاعدة في الشركات، وأن تصبح مطالبتك شاملة لتصحيح نظام الشركات من أساسها؛ ليوافق شرع الله، أما إذا كنت تريد أن تتخلص من موضوع معين، فلذلك جواب مفصل وموجود ذكره العلماء: وهو كيف تتخلص من الربا إذا عرفت نسبته وإذا لم تعرفها إلى آخر ما ذكروا، والمؤسسات الربوية الصريحة لا يجوز المساهمة فيها بأي حال من الأحوال.

حكم وضع الأموال في البنوك من غير فائدة

حكم وضع الأموال في البنوك من غير فائدة Q ما حكم وضع الأموال في البنوك بدون فوائد؟ A أحب أن أؤكد لكم أن وضع الأموال في البنوك حرام سواء كان بدون فوائد أو بفوائد؛ لأن وضع المال في البنوك ليس إيداعاً كما يسمونه ونتخيله، بل هو قرضٌ على الحقيقة لا على المجاز بمعنى: أنك أنت تقرض البنك مائة ألف، أو مليوناً أو المبلغ الذي تقول عنه أنك أودعته في البنك، والدليل على أنه قرض أنه لو جاءت أزمة -كما حدث في الأزمة الماضية- وقال كل واحد: أريد أن أسحب أموالي، فيقولون: لن نعطيك لأننا قد أدخلناها في مشاريع تجارية وفي كذا أو كذا من الأمور، ولن نعطيك كل مالك بل نعطيك (50%) أو (20%). وأما الوديعة في الشرع فهي أن تضع مالك أمانة عند إنسان، ومتى احتجت إليه فإنك تأتي إليه وتأخذ هذه الوديعة، أما أن تعطي واحداً يشتغل فيه كهذه الشركات أو غيرها، فهذا إقراض فلماذا نقرض البنوك؟ إذا قال واحد منا: أنا أقرضهم من غير أن آخذ منهم شيئاً قلنا: زدت الطين بلة من جهة فأنت لم تأخذ حراماً، ولكنك أعنت على الحرام، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ولا يدخل في هذا الحكم الضرورة، كأن تكون لا تستطيع أن تحمل مبلغاً معيناً، أو لا بد أن تضعه في مكان معين، هذه الضرورة لها أحكام، لكننا نتكلم عن الوضع العادي.

الحاجة إلى التعامل مع البنوك

الحاجة إلى التعامل مع البنوك Q يقول بعض الإخوان: لا آمن على فلوسي في البيت؟ A يا أخي إذا دخل المجرم فالعرض أغلى من المال، وكثير من الناس يقصد بالتسلق على البيوت الأعراض، وهي أغلى عندنا من المال هذا شيء؛ الشيء الثاني: أن هناك وسائل يمكن أن نحفظ بها المال -وقد أشرت إليها فيما مضى- ومن غير ذلك يمكن أن تُسْتأجَر صناديق معينة، أو أماكن مفصلة، ويضع فيها فرد أو مجموعة أفراد مبالغهم إذا كان لا بد أن تتجمع وأن تتكدس. وفي الضرورة القصوى يضع المال عند أقل البنوك شراً، ولا نقول أفضلها؛ فكلها ربا، لكن عند أقلها شراً.

بين إيجاد البديل الشرعي وإلغاء ما يحرم

بين إيجاد البديل الشرعي وإلغاء ما يحرم Q أحد الإخوان -جزاه الله خيراً- يقول: ألا ترون أنه من الأجدى قبل المطالبة بإلغاء القوانين الوضعية والأحكام المنظمة للشركات المساهمة؛ أن يكون قبل ذلك إعداد وإيجاد البديل من الأحكام الشرعية؟ وهل من الضرورة الانتظار إلى أن تلغى القوانين الوضعية أولاً أو أننا نوجد البديل الشرعي إلى آخر ما قال؟ A أنا ما قلت: نلغي النظام ونلغي القوانين الوضعية ثم بعدها نعد ونوجد البديل! بل يُصدر أمرٌ بإلغاء النظام وإيقاف العمل به ومع هذا الأمر يرفق الأمر بتشكيل لجنة شرعية لتصحيح أوضاعنا الاقتصادية، ومهمتها وضع نظام الشركات. فلا أرى تعارضاً ولا توجد مدة فاصلة بين الأمر بالإلغاء وبين تشكيل اللجنة. أما الخطوات العملية التي يجب أن نتخذها جميعاً، فقد أشرت إلى بعضها ولا ننتظر حتى يلغى؛ بل نسعى إلى أن يلغى ونطالب بإلغائه؛ لأن هذا من واجبات ديننا، وفي نفس الوقت نحاول أن نتخلص منه ما أمكن بالوسائل الشرعية المتاحة.

مرجع الدراسات الاقتصادية

مرجع الدراسات الاقتصادية Q الحقيقة أجبتم على السؤال الآخر وهو سؤال الأخ: أليست هناك دراسات موجودة حالياً في الكتب أو غيرها في هذه المواضيع للرجوع إليها؟ A نعم. أحسنت! هو موجود وكيف لا يوجد؟! وعندنا هنا في جامعة الملك عبد العزيز كلية الإدارة والاقتصاد التي أصدرت عدة كتب قيمة ونافعة، وقد استفدت منها ولا زلت. وفي جامعة الإمام محمد بن سعود، رسائل علمية موجودة سواء في الشركات أم في غيرها. فالجهود موجودة -والحمد لله- لكن تشكيل لجنة بأمر من أجل تصحيح الأوضاع، وتفويض هذه اللجنة العلمية من المختصين بالرجوع إلى ما تريده من المصادر المهيأة لها، وسوف تبحث وتعمل، حتى تقنعنا وتضعنا على حكم الله، كما تجتهد إن شاء الله.

إصدار حصص التأسيس

إصدار حصص التأسيس Q ضربت مثلاً برجل الجمارك مع أن حصص التأسيس تقسم وتوزع قبل أن يكون للشركة شخصية اعتبارية؟ A لا أظن ذلك، ومن أين جاء الأخ بهذا؟ فكيف عرفها وهي جزء من الشركة؟ وقرأنا لكم من الفصل الرابع: الفرع الأول: الأسهم. الفرع الثاني: حصص التأسيس من الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة، وعنوان الفصل: الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة، فإذاً قد أصدرت بذلك صكاً وهو حصة تأسيس، ولا يقال إنه حدث قبل أن تصبح لها شخصية معنوية، وأظن أنه لا يؤثر في كون الحكم حراماً أو حلالاً أو أن تكون الشركة قد اكتملت بالوضع القانوني أو لم تكتمل؛ المهم أنها قامت وأن حصة بعض الشركاء هي هذه الحصة المجهولة.

الغرر في حصص التأسيس

الغرر في حصص التأسيس Q ألا تعتبر حصص التأسيس رأس مال يتاجر به، فهو معرض للربح والخسارة، فأين الغرر والجهالة؟ A المنفعة غير معلومة، يقول النظام: للشركة المساهمة أن تصدر حصص تأسيس لمن قدم إليها عند التأسيس أو بعد ذلك، أي بعد التأسيس وبعد أن تصبح لها شخصية اعتبارية تعطي براءة اختراع أو التزاماً حصلت عليه من شخص اعتباري فهو إذاً مجهول، ما هو الاختراع وما هي البراءة؟ وما قيمتها؟ فبعض الناس يخترع اختراعاً يوازي عشرة ملايين ريال، وبعض الناس يخترع اختراعاً لا يوازي مائة ولا ألفاً، ومن يقدره؟ وعلى أي اعتبار يساهم به؟ فواضح في هذا سببُ التحريم إن شاء الله.

علماء السوء

علماء السوء Q الحقيقة هنا إشكال ورد في عدة أسئلة وهو ما أصدره مفتي الديار المصرية من فتوى بجواز وإحلال الفوائد الربوية، فنرجو تعليقكم -جزاكم الله خيراً- لأن الأسئلة حول الموضوع هذا كثيرة؟ A نسأل الله العافية! فشر الناس من باع دينه بدنيا غيره -عافانا الله وإياكم من ذلك- وما أحبَّ مثل هؤلاء الناس إلى أهل الشر، وأكلة أموال الناس بالباطل، وأصحاب الطمع المادي الذين لا يبالون بحلال ولا بحرام؛ ليتمندلوا بأمثال هؤلاء الذين يفتون بغير علم، فيجعلونهم وقايةً -كما يزعمون ويظنونهم- وقاية لهم من النار، يعني وبالمثل العامي 'وكِّل بها عالم وامش سالم'! لا لا سلامة من الإثم ولا من الحرام أبداً؛ لكن اللوم ينصب على هؤلاء الذين يفتون بغير علمٍ، نسأل الله العفو والعافية. لا نقول إنهم بالضرورة لا يعلمون الأحكام، ولكنهم في حقيقة الأمر ما علموا مما أحله الله وما حرمه الله لم ينفعهم في العلم بالله، ولو كان لديهم العلم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لما حكموا بخلاف ما حكم الله عز وجل وفتحوا باب الشر في هذه المسائل العظيمة. فإذا كان الربا حلالاً، فآيات الربا التي في القرآن ما معناها؟! أهي أحرف مكتوبة هكذا لا معنى لها؟! ما معنى تحريم الربا إذن؟ وما هو الذنب الذي توعد الله تبارك وتعالى عليه بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] وكتب الأحاديث التي فيها أبواب الربا في كتب الفقه جميعاً، ماذا تعني؟ وأقوال الفقهاء في كل كتب الفقه عن حكم المرتد، وقولهم 'والمرتد من استحل شيئاً مجمعاً على تحريمه، أو معلوماً تحريمه بالضرورة من الدين' ما معنى هذه القواعد، وهذه الأدلة، وهذه النصوص إذا كان الربا في صورته الجاهلية المقيتة حلالاً -كما يزعم هؤلاء الذين يفتون وهم مضلون؟! وصدق فيهم قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حتى إذا هلك العلماء، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا}. وأكرر أنه قد لا يكون جاهلاً بالمسائل، ولكن يكفي أنه جاهل بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وجاهل بحق الله على عباده من الطاعة والاتباع، وجاهل بمقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله تعالى فيه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]. وقد أنكر صلوات الله وسلامه عليه الربا إنكاراً شديداً. وهذا المفتي جاهل بمصالح الناس أيضاً، فإن القانونيين في جميع أنحاء العالم ممن نظر نظرةً مجردة متجردة، قالوا: إن الربا آفة تدمر الشعوب، وتدمر الاقتصاد، بأي شكل من الأشكال، فهؤلاء المفتونون خالفوا المعقول، وخالفوا المنقول، نسأل الله العفو والعافية.

حكم العمل في المؤسسات الربوية

حكم العمل في المؤسسات الربوية Q إذا كان الرجل يعمل في أماكن ربوية إما بنوك , وإما مؤسسات تتعامل بالربا، فكيف يتعامل القريب مع قريبه الذي يعمل في هذه الأماكن، سواء كان زوجاً أو ولداً أو والداً أو أخاً؟ A النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، فيدخل في هذا كل من أعان بأي شكل من الأشكال على خدمة هذا الربا، وعلى خدمة هذا الجهات، أو المؤسسات الربوية، ولو كان فرَّاشاً، ولو كان حارساً، أو ما يسمونه أمين صندوق أو مراجع حسابات، أو كاتباً. المهم كل ذلك داخل في هذا الحكم فهو حرام عليهم، ولا يجوز لأحدٍ أن يبقى وأن يظل يعمل في أي بنك من البنوك، أو أي عمل محرم -ولكن البنوك هي أظهرها- إلا للضرورة، أي بأن يَجِدَّ في البحث عن مصدر للرزق، فمتى وجده وإن كان أقل من ذلك، فيجب عليه أن يتركه، والله تبارك وتعالى سيعوضه خيراً بإذن الله، وهذا الكلام لا نحتاج إلى الإفاضة فيه؛ لأن فتاوى العلماء فيه وكلام الخطباء دائمة ومتكررة. لكن الشق الثاني الذي قد يخفى على بعض الحاضرين، وهو: إذا كان الأب أو الزوج يعمل في بنك أو مؤسسة ربوية أو محرمة عموماً، فكيف يأكل الابن أو الزوجة؟ فنقول: إن الحرام لا يتعدى ذمتين أي أن المال الحرام لا يتعدى ولا ينتقل بين ذمتين؛ فالإثم والحرام إنما هو على الأب أو على الزوج أو على القريب الذي يأكل الحرام، أما من يعوله أو من يزوره فإنه لا يأثم بأن يأكل عنده. ولكن مع ذلك نقول: إن الابن متى استطاع أن يستقل عن دخل أبيه من المحرم فليستقل عنه وسيغنيه الله عز وجل من فضله، وكذلك الزوجة لو استطاعت أن يكون لها دخل أو مصدر من غير مال الزوج فهذا خير وأفضل؛ لأن من الورع ترك ذلك، وما دامت هي لا تستطيع الإنفاق، والزوج هو الذي ينفق، وهي تنصحه وتحذره وتحاول أن تعينه على تركه وهو يأبى؛ فهي لا إثم عليها فيما تأكل من عنده. أما الزائر فإنه لا حرج عليه أن يأكل من بيت ذلك الإنسان، ولا يحرم عليك إن كان يتعامل بالربا؛ لكن هذا لا يعني أن تتساهل معه فمن الورع أن يتركه؛ لأن فيه شبهة ويجب أن تنصح هذا القريب، وتبذل كل ما تستطيع من الدعوة ليترك البنك، فإذا زرته فإنما تزوره لتنصحه وتبين له خطر ما هو فيه إن ظل مصدر دخله من هذا المال الحرام، وهذه -تقريباً- أبواب يُسأل عنها كثيراً: الأب أو الزوج أو الزائر. بقي الأجير: يسأل الأجير يقول: أنا أعلم أن صاحب العمارة يعمل في البنك، أو يأكل الحرام، فهل يجوز أعمل عنده، بأن أبني له بيتاً أو كهربائياً يعمل في كهرباء العمارة أو أي عمل، فنقول: أنت لا يحرم عليك ما ذكرت؛ لأنك إذا عملت عملاً حلالاً، وأخذت أجرتك أنت بوسيلةٍ حلال فلا يحرم عليك المال وإن كان صاحبه أخذه من حرام؛ لكن من جهة الورع لو أنك تورعت وقلت: لا أعمل إلا عند من أعلم أن دخله حلال، لكان في ذلك خير، لكن أن تسأل عن عمل المقاول أو صاحب العمارة: ما هو؟ وهل دخله حلال أم حرام؟ حتى تعمل عنده، فهذا لا يجب عليك من فضل الله وسعة رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إنما عليك أن تتقي الله في عملك، وأن تأخذ الأجرة التي تستحقها من حلال. نعم. لا يجوز الأكل من مال حرام، لكن هل هذا حرام؟ وعلى أية حال، المسألة -كما ذكرنا- من مسائل الشبهة والورع ولا نشك في هذا، لكن لا نقول: إنه حرام، فهذا الذي نهى الله عنه كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] نتورع عنه، فقد يوجد من يقول بالتحريم كما قلتم، لكن أنا لا أعلم من قال: إنه يحرم.

حكم العمل في البنك المركزي

حكم العمل في البنك المركزي Q أخ يسأل يقول: إنه يعمل في مؤسسة النقد العربي السعودي، وعمله عدُّ النقود التي تودع في المؤسسة من قبل البنوك الربوية، فما حكم عمله؟ A هذا واضح أنه حرام، ما دام يعد النقود التي توضع من البنوك الربوية في المؤسسة، وهذا لا يحتاج إلى سؤال؛ لأن البنك المركزي في أي دولة أو بنك البنوك هو البنك الأساسي، والذي يسمى عندنا: مؤسسة النقد، الذي كل يوم يجبر بالمقاصة بين البنوك في التعامل؛ فكل يوم يأخذ من هذا ويعطي هذا إلى آخر هذه المعاملات، فمن هنا هو بنك البنوك، فهذا العمل عمل ربوي، وعمل محرم؛ لأنه يقر الربا، ويشجع عليه، ويخدم أهله؛ فأكبر خدمة تقدم للبنوك الربوية هو ما تقوم به مؤسسة النقد من المقاصة فيما بينها، ولولا هذه المقاصة لصعب عمل البنوك جداً، ولاحتاجت إلى عملية طويلة، لا تخفى على من يعرف هذا من أهل الخبرة، فالموظف في مؤسسة النقد وبالذات في هذا القطاع، لا شك أنه يدخل في عموم الحديث والأدلة التي ذكرناها في تحريم الربا، والعمل في المؤسسات الربوية.

تعديلات في قوانين الشركات

تعديلات في قوانين الشركات Q إخوان من الرياض يقولون: إن الشيخ عبد الوهاب الطريري حفظه الله بشرهم بأن الموافقة الثانية صدرت عن نظام إسلامي يختص بمعاملة البنوك، فهل فسرت لنا هذه البشارة وذكرت للإخوان هنا بها أثابك الله؟ A هذا الخبر مفرح جداً وسار -لا شك في ذلك- ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون حقيقة، لكني ليس عندي علم على الإطلاق لم أسمع بهذا إلا هذه اللحظة فلا أستطيع أن أؤكده ولا أن أنفيه، وإن غداً لناظره قريب، وإذا حصل فستعلمون وسينشر ونفرح به جميعاً. ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا جميعاً، وأن يردنا إليه رداً حميداً، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يجعلنا جميعاً هداةً مهتدين، وأن يحيينا مصلحين، نسعى إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل صغيرة وكبيرة من أمرنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

الشيوعية بين الانهيار والتجديد

الشيوعية بين الانهيار والتجديد تحدث الشيخ حفظه الله عن عملية إعادة البناء التي ينادي بها الشيوعيون الجدد والتي يُتوقع أن تُغير مجرى التاريخ، موضحاً حقيقة هذه العملية وما يتعلق بها. ثم تحدث عن الصحوة الإسلامية والأخطار التي تنتظر هذه الصحوة، مبيناً حتمية المعركة بيننا وبين الغرب، وأنه لابد من عودة الأمة إلى كتاب ربها وسنة رسوله نبيها صلى الله عليه وسلم.

الدوافع إلى الحديث عن الشيوعية

الدوافع إلى الحديث عن الشيوعية إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً. ثم أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الموضوع كما ترون هو من الأهمية بمكان، إذ لا ينبغي للأمة المسلمة وللشباب المسلم وللدعاة أمثالكم أن يظلوا بمعزلٍ عن أحداث كبرى يموج فيها العالم شرقاً وغرباً، وتحدد فيها مصائر أمم وشعوب، ولا بد أن يظهر أثرها على مصير الأمة الإسلامية التي يهمنا جميعاً أمرها وشأنها. إن موضوع الشيوعية هو موضوع الساعة، والكل في العالم شرقاً وغرباً يتحدث عن هذه الثورة القائمة الآن في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية عامة، كل يأخذها من منحاه واتجاهه ومنزعه الفكري. فالسياسيون يرون فيما يدور هنالك، وما يسمى بـ (عملية إعادة البناء) أحداثاً جديرة بالتحليل السياسي العميق؛ لأن مستقبل العالم السياسي يتوقف أو يتأثر كثيراً بالنتائج التي سوف تسفر عنها هذه العملية، والمحللون الفكريون أو الأيديولوجيون مهتمون للغاية، لأن مذهباً فكرياً من أكثر المذاهب العالمية سيطرةً وانتشاراً يتعرض لهذه العملية الهائلة، التي لم يكن في حسبان أحدٍ أن يتعرض لها. والمحللون الاقتصاديون مهتمون جداً بمتابعة هذه الأحداث، إذ سوف يترتب على ذلك من الأمور الاقتصادية الشيء الكثير، وسوف تتغير موازيين كثيرة في أمور الاقتصاد والمال، وهكذا فإن كل إنسان وكل فكرة وكل تخصص يتطلع إلى معرفة الحقيقة عما يدور فيما يسمى (عملية إعادة البناء)، وأولى الناس بمعرفة حقيقة هذا الشأن هم المسلمون، وإن الخلاف القائم الآن في التحليلات الفكرية والسياسية والاقتصادية حول هذه المسألة لجديرٌ بأن نلم بجميع أطرافه ما أمكن، وإن كنا لن ندخل في التفاصيل العميقة والدقيقة لهذا الموضوع.

اختلاف المحللين لعملية إعادة البناء

اختلاف المحللين لعملية إعادة البناء

الاتجاه الأول

الاتجاه الأول إن الاتجاه الأكثر شيوعاً ولاسيما لدى المثقفين أو الدعاة الإسلاميين: هو أن الشيوعية تنهار وتنحسر وتتراجع. ومع تسليمنا بأن هناك جانباً عاطفياً يتدخل في هذه النتيجة، وأن الشعور بالارتياح العام لدى الأمة الإسلامية، يؤثر في استنتاج هذه النتيجة، فإن لها قدراً من الصحة لا يخفى على أي متفطن. أولاً: نحن المسلمون نؤمن إيماناً قاطعاً بأن كل ما سوى الإسلام باطل وزائل ومنهار، وأن هذه المبادئ التي أُسست على غير الإيمان بالله، وعلى غير تقوى الله، وعلى غير هدى من الله، فلا ريب أنها تنهار وتنحصر، ولكن هل ذلك يحصل الآن؟ هنا نقطة الاختلاف، فالذين يرون الانهيار يقولون: ماذا بعد سقوط هذه الدول دولة تلو الأخرى في شكلٍ مسرحي يثير الدهشة لدى كل المحللين؟ دولٌ كانت قلاعاً كبرى لهذا المبدأ، وإذا بها تتهاوى كبيوتٍ من الورق تلتهمها نار الثورة، أليس هذا انهياراً؟ أو ليست الشيوعية من طبيعتها الحتمية الثورة؟ فماذا تريدون أكثر من أن الشعوب تطالب بـ الديمقراطية، وتثور على الثورة وتنتصر عليها؟ والأعجب أن يكون قائد هذه الحركة هو الاتحاد السوفيتي نفسه، بل أن يكون قائده هو زعيم الشيوعية العالمية ميخائيل جورباتشوف، هو بنفسه المشرف على هذه العملية الضخمة التي توصف بحقٍ بأنها أكبر حدثٍ في تاريخ أوروبا أو في تاريخ العالم -كما يقال أحياناً- منذ الحرب العالمية الثانية. أليست الدبابات الروسية قد دكت المجر في عام (1956م)، ودكت براز في تشيكوسلوفاكيا عام (1968م)، أليست روسيا والأحزاب الشيوعية وراء كل ثورة قامت في العالم وفي العالم الإسلامي بالذات من أجل إحلال الماركسية اللادينية محل العقيدة الصائبة والنظام الموجود؟ وماذا بعد هذا من علامات الانهيار؟ أو ليس الرئيس ميخائيل جورباتشوف قد أعلنها صراحةً -أو ظناً- بعد اجتماعه مع بوش في مؤتمر مالطا بأنه لن يتقاسم العالم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا تراجع كبير، وهنالك كثير من الاستنتاجات بشواهدها الدالة على أن الشيوعية حقاً تتعرض لانهيارٍ شامل، وقد أفضى ذلك إلى الاعتقاد بأن الرئيس جورباتشوف ما هو إلا صنيعة رأسمالية أو دسيسة غربية أريد هدم الشيوعية به أو من خلاله، وبتزعمه أو بتسلطه على الحزب وعلى الدولة استطاع بتلك القبضة أن يفعل ما أراد، وأن يحقق هذا الهدف الذي يباركه الغرب في شتى قطاعاته وفي مختلف أنظمته وأوضاعه.

الاتجاه الثاني

الاتجاه الثاني أما الاتجاه الآخر القائل بأن الشيوعية في مرحلة تجديد، وأن عملية إعادة البناء ما هي إلا تطوير للمذهب، وما هي إلا نقلة ضمن نقلات ومراحل مرت بها الشيوعية منذ تأسيسها، فإن هذا القول له شواهده وله مؤيداته. وهذا هو ما ينادي به ميخائيل جورباتشوف بنفسه، فهو يقول في كتابه: عملية إعادة البناء ويكرر بأن المسألة: هي إعادة بناء كما سميت، وأنها تجديد للاشتراكية، ولعل المراد هو من العملية تطبيق الاشتراكية تطبيقاً صحيحاً، وإدارة الدول بأفضل وسيلة لتحقيق الأهداف الاشتراكية. إن جورباتشوف ينتقد النهج الاستاليني بقوة، ولكنه لا يثور ولا يتعرض لمسألة فساد أو خلل الفكرة في ذاتها، فالأيديولوجيا أو العقيدة في ذاتها مقدسة عند جورباتشوف وإنما الإشكال عنده في التطبيق، بل هو يعتذر في مواضع من كتابه عن الخلل الذي حدث في أيام استالين، وبعض الخلل كما كان في مشكلة الشئون الاجتماعية والمرأة. يقول: 'إن ظروف الحرب -أي الحرب العالمية الثانية- جعلتنا نتغاضى أو نتجاوز كثيراً في مسألة التطبيق أو الالتزام بالمبدأ، فكان هذا التجاوز لا بد أن يصحح يوماً ما، وهاهي ذي عملية إعادة البناء قائمة على ذاتها'. ويؤيد جورباتشوف كلامه بأنه في كل اجتماعاته وهو ذلك الخطيب المفوه والمجادل المقنع مع الأدباء، ومع المفكرين، والسياسيين، والصحفيين، والمغنيين، والفنانين، والفلاحين، وكل قطاعات الشعب يقول: 'إن الكل يؤيد عملية إعادة البناء، ويرى أنها تمثل روح الثورة وحقيقتها، وأن الانحرافات الماضية، وألوان الفساد الإداري التي ظهرت جديرة أن تصحح وفقاً للمنهج الشيوعي الصحيح'. ومما يؤيد به أصحاب الرأي الثاني: أن الشيوعية تتعرض لتطورٍ وتجديد لا لانهيار وتدمير أن الوضع الذي حدث في أوروبا الشرقية لم يكن للاتحاد السوفيتي نفسه، فكل ما حدث من انهيارات للنظم الديكتاتورية هو في أوروبا الشرقية التي يشرف عليها الاتحاد السوفيتي بطبيعة الحال، لكن ذلك لم يمس الجوهر الأساسي للشيوعية كما أخفق إلى حد ما في سقوط الشيوعية أيضاً. كذلك يبررون هذا الموقف بأن ما حدث إلى الآن لم تظهر نتائجه كاملة في دول أوروبا الشرقية، لأن الأشخاص الذين اختيروا في أغلب الدول وفي كثير من الأحيان هم من النوع المسمى الشيوعيين الإصلاحيين، فلم يجمع الناس على الخروج عن المبدأ، وإنما الخروج على الفساد الإداري أو السلطة الإدارية القائمة، ولذلك فكل الأحزاب إما شيوعية إصلاحية وإما اشتراكية، والذين اختيروا في الغالب لا يرفضون الشيوعية منهجاً، وإنما يرفضون التطبيق الذي حدث في تلك الدول. فهذا -أيضاً- مما يدعم موقف أولئك الذين يرون فيها تطويراً وتجديداً لا تدميراً وانهياراً، كذلك فإن الذين يقولون بهذا القول يرون أن الغرب يوجد فيه أحزاب شيوعية، ومنذ أن قامت ثورة شيوعية، ولو رجعنا للوراء قليلاً فالخلاف في حقيقة الماركسية وتطيبقها طويل. وكل مذهبٍ ضال وكل مذهب منحرف عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلابد أن يكون كذلك، التفرق في الأهواء والاختلاف والجدل، فقالوا: إنه منذ أن كان لينين وكان تروتسكي؛ المونشفيك والبولشفيك، البلولشفيك هم الأكثرية من البلاشفة، والأقلية هم المونشفيك الذين كان يمثلهم ترتوسكي وجماعته وجدت الدولية الثانية ثم الدولية الثالثة ثم الدولية الرابعة والبونشفيك أي: أن الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي كانت تمثل عدة اتجاهات. ومنها: اتجاه كان يشتد في إنكاره على لينين واستالين، لأنهم أقاموا الشيوعية في بلدٍ واحد، والشيوعية مبدأ عالمي، والشيوعية كما يرون نظرية كونية عالمية، فكيف تطبق في بلدٍ واحد وهو بلدٍ زراعي -أيضاً- وليس بلداً صناعياً وهو روسيا، ولذلك يرون أنه لا بد أن تعم الثورة أوروبا جميعها، وأن تقوم في كل مكان دفعة لكن بأية طريقة؟! هنا اختلفوا، فمنهم من يرى التغلغل بالوسائل السلمية، ومنهم من يرى الثورة المسلحة كما قامت في روسيا تحت شعار الثورة الحمراء. والذي حصل أن الأحزاب الشيوعية في العالم الغربي كانت تنشق وتتباعد شيئاً فشيئاً عن الاتحاد السوفيتي، وعن تطبيقات الشيوعية في أيام استالين، إلى أن برزت أحزاب شيوعية كبرى كـ الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي. فمثلاً: الشيوعيون في فرنسا لهم قوة واضحة في السياسة، كما أن الأحزاب الاشتراكية تحكم في كثيرٍ من الدول الغربية، وهي قائمة وموجودة، ولها قوتها ونفوذها، فكأن ما يحدث الآن هو تأييد لنوعٍ من أنواع الشيوعية الدولية ضد التطبيق الأستاليني المنتهج عملياً في الاتحاد السوفيتي.

نتيجة إعادة البناء على العالم الإسلامي

نتيجة إعادة البناء على العالم الإسلامي من هنا نصل إلى نتيجة لا يهمنا مقدار صحتها بقدر ما يهمنا الحقائق العملية التي تترتب عليها بالنسبة لنا نحن العالم الإسلامي. فهذه النتيجة التي نستخلصها تقول: "إن أوروبا ككل تتجه نحو التقارب". أي: أنه لو عدنا أدراجنا إلى القرن التاسع عشر، أو بالأحرى إلى بداية الثورة الشيوعية وإلى عهد لينين الذي حكم من عام (1917م) إلى عام (1924م)، نجد أن الفرق الواضح الجلي بين الشيوعية وبين الرأسمالية قد تلاشى، وقد تقاربت أوروبا شرقها وغربها. الشرق لم يعد شيوعياً ماركسياً حرفياً، وكذلك الغرب لم يعد رأسمالياً إمبيريالياً حرفياً، ولاشك أن هذه حقيقة واقعة لا يجادل فيها أحد. وبناءً عليه فإن ما حصل من عملية إعادة البناء للاتحاد السوفيتي هي اقتراب مما تطالب به الأحزاب الاشتراكية عامةً، بل والأحزاب الليبرالية في العالم الغربي، من ضرورة الموازنة بين سلطة الدولة والشعب، بين قيمة الفرد وبين قيمة المجتمع، أو حقوق الفرد وحقوق المجتمع، فبعد أن كانت الشيوعية مبدأً جماعياً محضاً، وكانت الرأسمالية مبدأً فردياً محضاً، يتجه كل منهما إلى نوع من حلول الوسط.

وحدة العالم الغربي

وحدة العالم الغربي هنا تكون نقطة التقاء، بمعنى: أن الأطروحات التي يطرحها ميخائيل جورباتشوف للاتحاد السوفيتي، وينادي بها الذين أحدثوا الثورات المتلاحقة في أوروبا الشرقية لا تتغير كثيراً عما ينادي به ويطرحه كثير من رؤساء الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في أوروبا الغربية.

حقيقة جرباتشوف

حقيقة جرباتشوف إن من يتتبع تاريخ هذا الرجل جورباتشوف يجد أنه قد رُبي بعناية، وقد أخرج وأبرز بعناية من الحزب الشيوعي نفسه وليس فقط -كما يرى البعض- أنه أبرز برعاية الغرب الرأسمالي، وذلك أن عملية إعادة البناء قد بدأت -في الحقيقة- في أيام يوري أندربوش، بل بيرجنيف بنفسه وهو الرجل المتصلب على حرفية الشيوعية كان يشارك في كثير من نقاط العملية، وقد أسهم إلى حدٍ ما في إبراز جورباتشوف، فرجل شاب نشط صاحب مواهب هُيئ من أجل أن يقوم بهذا الدور الخطير، الذي يمكن أن يؤدي إلى نتائج كُبرى في تاريخ الفكر والسياسة العالمية. هيئت جميع السبل أمام جورباتشوف ليصبح زعيماً عالمياً عن دراسة من الحزب، فهو ليس رجلاً مستبداً متسلطاً أتى ليحكم -وإن كان ذلك ليس بغريب على الاتحاد السوفيتي - ولكن كان هناك إعداداً، من السلطة القوية للحزب، وكذلك الفروع يستحيل معها أن يأتي رجلٌ بمجرد أنه مستبد وخارج عن الحزب خروجاً كلياً، فيصل إلى أن يكون رئيساً للحزب ورئيساً للدولة في وقتٍ واحد، وهذا ما يُفسر أن الارتياح الغربي لوجوده يقابل بالشكوك، وبعض التحليلات الغربية ترى أنه قد يفشل، وبعضهم يرى أنه قد ينتهي، وبعضهم يتفاءل، وبعضهم يتمنى أن يطول هذا الأمد وهذا الحلم ليرى ما هي النتيجة التي سوف تنكشف عنها هذه المغامرة.

أثر الوحدة الغربية على الاتحاد السوفيتي

أثر الوحدة الغربية على الاتحاد السوفيتي نجد أن بعض الأمور أو الخطوات العملية -وهي التي أختصر لكي أصل إليها- وهي التي تهمنا نحن المسلمين أكثر فأكثر، فقد ظهرت وبرزت منذ عملية إعادة البناء التي نادى بها جورباتشوف. من ذلك: أن أوروبا الغربية مقبلة على اتحاد، وأن تكون برلماناً واحداً، وأن يكون لها وجود وكيان اقتصادي واحد، والدول المتفقة على هذه الوحدة يبلغ مجموع سكانها (325) مليون، وهي بذلك تصبح أقوى بشرياً من أكبر تجمع غربي قائم الآن، وهو الولايات المتحدة الأمريكية فيصبح هناك ولايات أوروبية متحدة أكبر وأقوى بشرياً من الولايات المتحدة الأمريكية، وينتج عن ذلك سيطرة اقتصادية أكبر، ووقوف في وجه المنافسة مع أمريكا ذاتها أو مع اليابان أو غيرها. هنا لا بد أن يقف الاتحاد السوفيتي في موقفٍ حرج للغاية أمام الانهيار الذي يُعاني منه اقتصادياً وعلمياً، والانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه هو أحد الأسباب التي يُركز عليها جورباتشوف في كتاباته وفي محاضراته وفي لقاءاته عن عملية إعادة البناء، وهناك حادثتان للتمثيل عن ذلك: الحادثة الأولى: حادثة الإشعاعات النووية التي تسربت من تشر نوبل وهي -كما تعلمون- قد أثبتت عجز الاتحاد السوفيتي عن مقاومة أو تدارك أخطار هذه الإشعاعات. الحادثة الثانية: حادثة زلازل أرمينية حيث عجزت الطاقة السوفييتية عن ملاحقة ومتابعة الحادث، مما اضطرهم إلى الاستعانة بالدول الغربية، سواء بانتشال الجثث، أو إيواء المشردين، بالإضافة إلى النقص الهائل في المواد الغذائية كالقمح والسكر وغير ذلك. فكيف سيكون حال الاتحاد السوفيتي لو أن أوروبا وهي مقبلة على التوحد توحدت فعلاً؟! وأوروبا الشرقية إنما تعيش على معونات الاتحاد السوفيتي، والأحزاب والدول الشيوعية في العالم إنما تعيش على مساعدات الاتحاد السوفيتي؛ إذاً كيف سوف يكون هذا الوضع في حالة توحد أوروبا الغربية؟! وبالتأكيد فـ الولايات المتحدة الأمريكية بهيمنتها العسكرية سوف تربطها بـ أوروبا أقوى الروابط، ومعنى ذلك أن تجمعاً أوروبياً غربياً يشكَّل ويؤلَّف بإرادة ستمائة مليون أو أكثر، سيكونون قوةً كبرى سياسياً واقتصادياً تواجه الاتحاد السوفيتي، ومن هنا فإن جورباتشوف يعتبر أن عملية إعادة البناء هي في حقيقتها إنقاذ للاتحاد السوفيتي، وإنقاذ للشيوعية عموماً من الانهيار والاضمحلال.

أثر وحدة الغرب على العالم الإسلامي

أثر وحدة الغرب على العالم الإسلامي طلب الرئيس جورباتشوف من مجلس الأمن القومي الأوروبي أن يعجل تاريخ انعقاده وأن يدخله الاتحاد السوفيتي، فدول أوروبا الشرقية بعد أن تخلت عن الشيوعية الشكلية الرسمية المباشرة، أصبحت موسكو في حل من الالتزامات الاقتصادية والمالية تجاهها، وأصبح العالم الغربي يرى نفسه مرغماً أو ملزماً أدبياً بمساعدة هذه الدول؛ لأنها اتجهت إلى الديمقراطية، ومن جهة أخرى ليؤسس مؤسسات اقتصادية داخل هذه الدول. ومقابل ذلك الاتحاد السوفيتي بقي الوحيد خارج هذا النطاق، ولذلك يرى كما طلب جورباتشوف تعجيل مؤتمر الأمن القومي الأوروبي، وأن يدخل الاتحاد السوفيتي ويشترك في هذا المؤتمر، ولو تم ذلك -والأمر يُرتب له- فسوف يصبح قوة أوروبية هائلة. بمعنى أنه سوف تصبح أوروبا شرقها وغربها متحدة إلى حدٍ ما إن لم يكن اتحاداً كلياً -كما هو الآن مشاهد في أوروبا الغربية - فسيكون اتحاداً اقتصادياً، واتحاداً في كثير من المواقف السياسية والعملية، وسيترتب على ذلك خطرٌ داهم للعالم كله وبالذات على العالم الإسلامي، وهو العدو الوحيد المستهدف من الشرق والغرب دائماً. الاتحاد السوفيتي يسكنه ما يقارب (280) مليون نسمة، والدول التي تدور في فلكه مع الدول الأخرى التي سوف تدور في فلك (الستمائة مليون) الذين يُكونون أوروبا الغربية وأمريكا، معنى ذلك كما هو واضح أن قوة بشرية تعدادها أكثر من (ألف مليون) سوف تكون موحدةً إلى حدٍ ما وبشكل ما من أشكال الاتحاد، وسوف يدفع ثمن هذا التوحد هو العالم الإسلامي! فهذا التوحد صليبي بلا ريب؛ لأن أكثر الدول حرباً للأديان وهي روسيا قد أعلن جورباتشوف إحياء القيم الروحية فيها، واحتفل بمناسبة بلوغ ألف سنة على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية. جورباتشوف بنفسه زار البابا في الفاتيكان وهي أغرب زيارة في العالم، لم يخطر على بال أحد أن يزور رئيس الدولة الإلحادية الكبرى زعيم العالم الروحي -كما يسمى- النصراني، وثورة بولندا باعتبار أن البابا بولندي الأصل أيضاً كانت تُبارِك من قبل البابا، وهي أول شرارة تفجرت في أوروبا الشرقية. إذاً: ألف مليون -على الأقل- يتوحدون توحداً صليبياً، وهم يُشكلون أقوى قوة عسكرية في العالم بلا ريب، لأن القوة التي تضم أوروبا الغربية مع الولايات المتحدة الأمريكية مع القوة السوفييتية لن يكون هناك أقوى منها. وعندما كانت الحرب سواءً كانت الحرب الباردة أو الساخنة، كان العالم في معسكرين مختلفين، كان هناك ما يمكن أن يستفاد منه من التناقضات الدولية بالنسبة للعالم الإسلامي، أما لو توحدت القوتان العظيمان، فإن العالم الإسلامي سيجد نفسه أمام أبوابٍ موصدة، إما أن يقاوم أو أن يستسلم، فهو أكبر منطقة يحرص الطامعون من الشرق والغرب عليها، بالإضافة إلى الحقد التاريخي القديم.

أمثلة من آثار الوحدة الغربية على المسلمين

أمثلة من آثار الوحدة الغربية على المسلمين ونضرب مثالاً واحداً: قضية أفغانستان وهي القضية الحساسة المهمة جداً بالنسبة لنا نحن المسلمين، تأثرت بهذا التقارب الدولي العالمي تأثراً كبيراً، ولذلك أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي معاً الموافقة على إعادة الملك ظاهر شاه إلى حكم أفغانستان، وإجراء انتخابات، واتفقت الدولتان. في حالة اختلافهما قد يكون هناك مدخل أو مبرر للمجاهدين في الدخول في اللعبة الدولية بنوع من الدراسة التي قد تُعطي بعض النتائج، لكن في حالة الاتفاق لا شك أن الموقف سيكون أصعب، والمواجهة ستكون أشد بالنسبة للمسلمين، وهذا مثال واحد وغيره كثير. وهناك مثال واضح جداً لا يكاد يمر يوم إلا وتسمعون عنه وتقرءون عنه: وهو أن من إثبات حسن النوايا لدى جورباتشوف عموماً وأوروبا الشرقية خصوصاً، أنهم بادروا لإقامة العلاقات مع إسرائيل، بل الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي ومن أوروبا الشرقية إلى إسرائيل وأصبحت من الموضوعات الأساسية، وقد ناقشها جورباتشوف وبوش في مؤتمر مالطا، وأصبح واضحاً جداً، وقد اشتكى المسلمون واشتكى العرب، واشتكت منظمة التحرير من هذه الظاهرة، وهي هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي. وقد نشرت دول أن الذين هاجروا من الاتحاد السوفيتي أكثر من (ثلاثة وسبعين ألف) يهودي، وهم طبقة مثقفة ونوعية معينة، وسوف تقام لهم مستوطنات، وسوف يكون ذلك على حساب السكان المسلمين الأصليين، الذين سوف يتزايد عليهم العبء ويتضاعف، ولا سيما مع التناقص العددي الرهيب والشديد الذي يقع الجهاد الفلسطيني فريسة له، إذ كل يوم يخسر أعداداً بشرية، حيث إن حالات الإجهاض التي تمت منذ قيام الانتفاضة أكثر من (ثلاثمائة ألف) حالة، ومعنى ذلك أن هناك إصراراً وتعمداً للاضمحلال البشري بالنسبة لسكان الأرض المحتلة الأصليين، وإحلال أولئك اليهود الشرقيين والسوفيتيين محلهم، وهذا -أيضاً- أحد المؤشرات الأولية، وما تزال الأمور في بدايتها. وأمام هذا نقول: إن الخلاف بين الغرب والشرق مهما قيل عنه فإنه يظل محدوداً، ولا سيما أن أرض الواقع فرضت ذلك، والواقع أن الدول الغربية قد أسهمت كثيراً في تأمين العمال وترفيههم، وفي مشاركاتهم في الشركات والمؤسسات. بمعنى أنها قطعت كثيراً من الطرق التي يمكن أن تتسرب منها الشيوعية الماركسية للتطوير والتغيير الكلي، وبنفس الوقت: فإن روسيا تراجعت في كثير من أمورها عن التطبيق الحرفي للماركسية، وأصبحت توائم وتوازن بين الملكية الفردية والملكية الجماعية، وأصبحت النظرة المتفق عليها بين كلا المعسكرين هي إيجاد القوة الاقتصادية لشعوبها، وتأخر إلى حدٍ ما موضوع العقيدة أو الأيديولوجية أو المبدأ أمام الضغط الاجتماعي والضغط الاقتصادي. فإذا أضيف ذلك إلى أن الكفار وأوروبا جميعاً موحدة نفسياً وتاريخياً ضد الأمة الإسلامية، فسوف يبرز للعالم الإسلامي هذا العدو الجديد، وهو عملاقٌ ضخم لا يمكن أن يقاوم إلا بقوة تقوم في هذه الأمة، وهي -والحمد لله- تملك ذلك، لكن يحتاج إلى مقاومة ليست كأي مقاومة، ونحن نؤكد: أن النصر للإسلام، وأن الغرب مهما تجمَّع ومهما توحد فإنه مخذول بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

مع الصحوة الإسلامية في المعركة

مع الصحوة الإسلامية في المعركة يجب أن نعلم أن المعركة سوف تطول، وأن نهايتها لن تأتي بسلام، وأن هذه الأمة ستدفع تضحيات كبرى من أجل أن تنتصر على هذا العالم الذي يتفوق عليها في كثير من الشئون والمجالات، ومن ذلك أن الأحزاب الشيوعية أو الاشتراكية في العالم الإسلامي إن جرت عليها عملية إعادة البناء؛ فإنها لن تجري إلا بتضيحات من المسلمين بطبيعة الحال ولن تدفع هكذا، ولو أن الأمة أرادت إعادة البناء لتبني دينها وإيمانها وإسلامها، فإنها سوف تكون في حالة مواجهة مباشرة مع هذا العدو الجديد، ومع (ألف مليون) صليبي يترصدون لها.

الصحوة في الجزائر والعبرة منها

الصحوة في الجزائر والعبرة منها ظهرت حادثة -ومع الأسف الشديد- وقليل من كتب وحلل عنها، ولكنها بارزة ومهمة، ويجب أن نعيها تماماً، وهي الحادثة التي وقعت في الجزائر، فأحداث الجزائر فيها عبرة كبرى بالنسبة لنا المسلمين جميعاً. قام الشيوعيون بإخراج (ثلاثة آلاف) امرأة في مظاهرة لإلغاء قانون الأسرة، لأنه مأخوذ من الشريعة الإسلامية جملة وكذا في كثير من تفصيلاته، ثم أخرجت جبهة الإنقاذ مليوناً ونصف امرأة، مع مليون من الرجال، خرجوا بمظاهرة يطالبون بالإسلام. وكان ذلك الوجود الضخم الذي أزعج الصحافة الغربية والشرقية معاً، ولم يكن في الأمر أية غرابة، لماذا لم تصنف على أنها محاولة إعادة بناء؟! لماذا يحرم علينا نحن المسلمين فقط إعادة البناء؟ لماذا لا يقال: هذا من حقهم، كما أن من حق التشيكي والألماني الشرقي والروماني أن يثور، وأن يغير وأن يتراجع؟ لماذا لا تراجع هذه الأمة نفسها؟! الذي حصل مع التعتيم الإعلامي إن بعض الصحف الغربية أوردت تصريحاً لـ شيراك رئيس فرنسا الدولة الأولى التي يهمها موضوع الجزائر قال فيه: 'لو أن هؤلاء الأصوليين نجحوا في الحكم، لتدخلت في الجزائر كما تدخل بوش في بنما '. وهذا يُعبر عن الحقيقة التي سوف يأتي يوم من الأيام، ونراها كواقع مشهود. وهي أنه في حالة تضاؤل الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي وهي متضائلة ومتهالكة -بإذن الله- وفي حالة عجز وفشل الأنظمة الموالية للغرب في العالم الإسلامي من احتواء الصحوة الإسلامية والقضاء عليها وتفكيكها، وهي عاجزة وفاشلة -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وخائبة في ذلك، ففي هذه الحالة لن يجد الغرب بديلاً إلا أن يتدخل بنفسه عسكرياً في العالم الإسلامي، وهذا ليس بغريب عليهم، فلقد تدخلوا في أفغانستان وفي مناطق أخرى، وأحداث أذربيجان ليست ببعيدة، وإن كانت هي داخل الستار الحديدي، ومعاملة أذربيجان غير معاملة لتوانيا وجمهوريات البلطيق مع أن الحزب والدولة واحدة والنظام واحد، وخروج القوات الروسية من أفغانستان لا يتعارض واقعها مع هذه الحقيقة لأسباب منها: أولاً: أن الاتحاد السوفيتي أخرج القوة العددية الجسدية، لكن المساعدات والقوافل الضخمة من الأسلحة والعتاد تتدفق يومياً أو شبه يومي -متى ما استطاعوا- إلى داخل أفغانستان. ثانياً: أن الوضع هو محاولة ترتيب وتخطيط لما سوف ينتج بالنسبة لمحاولة إثبات حسن النيات، كما تم حكم النيابة بالنسبة لـ أوروبا الغربية، وبعد ذلك عندما تتوحد النظرة إلى حدٍ ما في القضايا الدولية، فسوف نجد أن القرار لن يكون قراراً روسياً هنا، ولن يكون قراراً فرنسياً بالتدخل في الجزائر أو في غيرها وهنا الخطر! لأن القرار سيكون قراراً صليبياً تجمع عليه أوروبا شرقها وغربها والولايات المتحدة الأمريكية ومن دار في فلكها، وهم جزء من الغرب، وسوف يجمع هؤلاء على هذا القرار، سواءٌ كان احتلال أية بقعة من العالم الإسلامي أو أي تدخل مباشر في أي بقعة من العالم الإسلامي، وهذا يضاعف مخاطر مستقبل الصحوة الإسلامية، رغم يقيننا بأن النصر للإسلام -بإذن الله- ولا شك في ذلك. ولكن هذا ليحفزنا إلى البناء الحقيقي، بناء العقيدة، والإيمان في القلوب، والمواجهة الجادة المخطط لها، لمواجهة هذا العدو الماكر القوي الخبيث.

الصحوة والمعركة القادمة

الصحوة والمعركة القادمة نحن -في الحقيقة- لا نريد أن نُخطئ في تطبيق بعض الأحاديث النبوية على هذا الواقع أو غيره؛ لأن هذا من علم الغيب، لكن نحن نؤمن إجمالاً بما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنه في آخر الزمان سوف يغزونا الروم، وتكون الملحمة في بلاد الشام، جاء في أحد الأحاديث: {فسطاط المسلمين سوف يكون في الغوطة في مدينة دمشق} أي: أن مسرح الأحداث سيكون واحداً، فالحروب الصليبية استمرت قروناً، ومسرح أحداثها هو هذه المنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وكذلك في آخر الزمان كما صحت الأحاديث في ذلك: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس} ويقومون ويغزون المسلمين، وتكون المعارك في الشام أيضاً. أي: أن المواجهة مع الغرب عسكرياً أمرٌ لا بد منه، والإعداد لها أمرٌ مطلوب ولا بد منه أيضاً.

الإعداد للمعركة على نهج الكتاب والسنة

الإعداد للمعركة على نهج الكتاب والسنة وهنا نقول: إنه أياً كان ما تتعرض له الشيوعية، سواءٌ كان انهياراً كلياً أو تطويراً وتجديداً، فإن المسألة تتطلب منا أن نكون واعين بأن مستقبلاً خطيراً يهدد الأمة الإسلامية، وألاَّ ندع مجالاً للعواطف التي تقول: إن هذا الانهيار سوف يتيح للإسلام نشر الدعوة! نعم! قد يسمح لنا أن نصدر الكتب، ونرسل المصاحف، وأقصى ما يمكن أن نصل إليه أن يكون الحال كما هو الحال في أمريكا، ولكن هل تسمح أمريكا بقيام دولة إسلامية؟ حقيقية كما لو قامت -إن شاء الله- في أفغانستان. وهل ترضى أمريكا بأن يتسلم المجاهدون الحكم في أفغانستان؟! ستقف أمريكا بكل قوة وفي أي مكان، ولن تسمح بقيام دولة إسلامية نقية على منهاج الكتاب والسنة -أبداً- في أي بقعة من بقاع العام الإسلامي، فكيف إذا اتفق الغرب والشرق على ذلك وهو العدو المشترك لهما؟ كيف والأفعى اليهودية هي التي تحرك العالم شرقاً وغرباً؟! لا بد للأمة الإسلامية أن تعد العدة، والنصر قادم بإذن الله وقد قام عماد الدين زنكي ونور الدين وصلاح الدين في أوقات الانحطاط والضعف والفرقة في العالم الإسلامي وسيطرة الباطنية والروافض وأشباههم. ومع ذلك كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في أكثر من موضع في الجزء الثاني والعشرين من الفتاوى يقول: 'نََصَرَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نور الدين وصلاح الدين على قلة العدد والمال بالإيمان'. لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم بإذن الله يقول: 'لأنهم كانوا لا يوالون الكفار، ولم يكونوا يوالون اليهود والنصارى '. والغرب لا شك لن يسمح بقيام أمة لا تواليه، ولا تتشرب مبادئه، هذا من جهة. ومن جهة أخرى كون هذا العبء ثقيلاً يفرض علينا مضاعفة الجهود في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي تحذير هذه الأمة وتنبيهها، وأن الحل الوحيد في كل مشاكلها لا يمكن أن يكون إلا بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعلى أية دعوة تدعو إلى غير الكتاب والسنة أو تدعو وفي دعوتها دخن، فعليها أن تراجع نفسها، لأنها لن تقدم العالم الإسلامي، بل سوف تؤخره ولا ريب، لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ولن يتوحد العالم الإسلامي -بإذن الله- إلا في ظل الكتاب والسنة، وفي ظل دعوة لا ترتبط على الإطلاق بالأشخاص ولا بالنظرات الضيقة، بل هي دعوة لكل (الألف مليون) مسلم إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهاج واضح: علم، وجهاد، ودعوة، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، وهذا ما سوف يقوم، وقد بدت بشائره -والحمد لله- واضحة في الجهاد الأفغاني، وفي الجهاد الإرتيري، وفي الجهاد الفليبيني، وفي مناطق كثيرة شملتها الصحوة الإسلامية، كما أشرنا في أحداث الجزائر، وكذلك في ليبيا وتونس، وكل بلد -والحمد لله- توجد فيها هذه الصحوة الإسلامية، أو بشائر لها يجب أن تستمر، وأن يكون الكتاب والسنة هو منهاجها الوحيد، وكذلك فهم السلف الصالح نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحقق ذلك، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

الاستفادة من الأحداث

الاستفادة من الأحداث Q لماذا لا يستفيد الإسلاميون من هذه الأحداث؟ وما هي أوضاع المسلمين في الجمهوريات الإسلامية؟ A نحن الإسلاميين لم نستطيع أن نفهم الأحداث، فكيف نستفيد منها؟! إذا لم نعرف لمصلحة من تدور هذه الأحداث، وما هي عاقبتها، فكيف نستطيع أن نفعل شيئاً؟! المتوقع -الآن- ظهور كتلة عالمية قوية متحالفة يعبر عنها البعض الشمال ضد الجنوب، وليست فكرة شمال ضد جنوب، بل هي الصليبية ضد الإسلام، فهذا الواقع، وهذا هو المسار. أما الجمهوريات الإسلامية فهناك تعتيم كامل من جهة الاتحاد السوفيتي، وأيضاً: من جهة إعلام بعض الدول الإسلامية، ونتوقع أن يكون لهم شأن- سواءٌ من كان منهم على المنهج السليم الذي سوف ينتصر -بإذن الله- أم أي أقلية أخرى، نتوقع أن يكون لهم دور، وأن ينتهزوا فرصة الخلخلة ما بين الديكتاتورية السابقة وعملية إعادة البناء، ولكن ليست هذه النتيجة أو القصد، فالقصد هو أن المسلمين في عمق العالم الإسلامي يحتاجون إلى الفهم الصحيح للدعوة والإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكيف تتصورونهم في ظل الشيوعية الملحدة التي أبعدتهم عن معرفة حقيقة دينهم؟! أي: لا يمكن أن يحقق النصر إلا على ضوء منهاج واضح، وهذا المنهاج مفقود أو غائب في الواقع إلا من الناحية العلمية النظرية في عمق العالم الإسلامي، فكيف تتوقعونه في تلك الأصقاع؟!

ضرورة الاهتمام بالأحداث

ضرورة الاهتمام بالأحداث Q كثير من الشباب المسلم لا يهتم بهذه الأحداث العالمية وتأثيرها على العالم الإسلامي والدعوة الإسلامية، أو باختصار لا يهتم بعلم الواقع والفكر، فبماذا تنصحهم؟ A ننصحهم بضرورة الاهتمام، فنحن جزء من هذه الدنيا المائجة الهائجة، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم}، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}. نحن يجب أن نكون كالبنيان المرصوص جميعاً في كل مكان، فهذه الأحداث الآن أصبحت تلاحق الفرد وليس الأمة، الفرد في بيته مغزو، فابنك أو أي شخص في البيت يشاهد -مثلاً- الأخبار في التلفزيون كما تعرضها وكالات الأنباء الغربية، ويرى جورباتشوف وأين يذهب، وماذا يفعل، سوف يتأثر هو بنفسه، ويستوعب النظرية الغربية أو عملية إعادة البناء سلباً أو إيجاباً، وفقاً للمفهوم الذي رآه، فلابد أن يكون لك دور، أما مجرد سلبية مطلقة أو نفي مطلق فلا يمكن أن يعقل هذا لا ديناً ولا عقلاً.

ظهور ما يسمى بالإسلام العصري

ظهور ما يسمى بالإسلام العصري Q إن موجة الحرية التي تسود في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي ستدفع الناس إلى التخلي عن فكرة الإلحاد والبحث عن هوية دينية، فهل للمسلمين دور في تعريف هؤلاء الناس بالإسلام وإرشادهم إليه؟ A نعم هذه حقيقة، الفراغ الروحي قائم، لكن الكاثوليكية تريد أن تحل محله. وأيضاً: قد يسمح للمسلمين بالدعوة الفردية، وهذا ما يؤثر كثيراً على الأحداث، وسوف تزرع -وقد زرعت- أنواع من تفسير الإسلام تفسيراً جديداً، وهذا خطر موجود وقائم في أمريكا بشكل واضح في الاتجاه الجديد الذي يريد تطوير الإسلام كما يزعمون! الاتجاه العصري إسلام مرن، إسلام يقول: نريد الاحتشام ولا نريد الحجاب، إسلام يبيح الغناء والرقص والحياة الغربية بدون أي إشكال. الاقتصاد يقوم على الربا، ويقولون: الربا والبنوك الغربية هي الاقتصاد الحر، والاقتصاد الحر لا يتعارض مع الإسلام. ويقولون: إذا كانت الدولة برلمانية ديمقراطية فهذه شورى إسلامية، وهذا لا يتعارض مع الإسلام. يقولون: لم يعد هناك دار إسلام ودار كفر، فكل العالم الآن دار واحدة تجمعها النظم والقوانين الدولية وهكذا. ويقولون: لا بد من إعادة النظر بين علاقة المسلم بالكافر؛ لأن الفقهاء كتبوا تلك الكتب في الفقه في ظل الحروب الصليبية وعصور الإيمان، أما الآن فالعالم يتجه نحو الإنسانية، ويجب أن ننبه المسلمين لهذا كما يقولون: لا فرق بين المسلم والكافر، الكل إنسان، وهذا له حقوق، وهذا عليه واجبات!! مبادئ خطيرة جداً، ولها مدارس كثيرة، وبالذات في أمريكا، وقد صدَّرت إلى الشرق الهجوم على العلماء الإسلاميين، والهجوم على الدعوات الإسلامية القديم منها والحديث، ومحاولة للتجديد -كما يسمى- ولكن بأسلوبٍ يناسب أو يطور الإسلام -كما يزعمون- ليلائم الفكر الغربي. هذا أيضاً سوف يوجد وسوف يُدعم، فلو انتشر هذا النوع الذي يُسمى إسلاماً، فلن يؤثر على العملية التي يريدون. وحين أتى الصليبيون في الحملات الصليبية أتوا معهم الباطنية والروافض الذين ينتسبون للإسلام، وأتباع الدنيا أيضاً كانوا معهم، وبعض ملوك الشام قدموا لهم قلاعاً بأكملها وسلاحاً بأكمله، لأنهم لا يعرفون مبدأ الموالاة والمعاداة، ولا يؤمنون بعقيدة الولاء والبراء، فوجود مثل هؤلاء الناس -وإن كانوا مسلمين- لا يتنافى مع الأهداف التي يريد الغرب أن يحققها، فهو غير دين الإسلام الحقيقي الذي سوف يقفون بقوة لمحاربته.

اتحاد العالم الإسلامي

اتحاد العالم الإسلامي Q ما هو موقف العالم الإسلامي في مواجهة هذا الاتحاد الصليبي، وهل يمكن للعالم الإسلامي أن يتحد؟ وما هي الخطوات التي يمكن أن يتبعها لتحقيق هذه الاتحاد؟ A العالم الإسلامي حقيقةً لا يمكن أن يتحد بهذا الوضع الحالي أبداً، فأما الدعاة فيجب في كل مكان أن يتحدوا على الكتاب والسنة وهذا هو بداية النصر، أما الواقع العام فإن الهيمنة الغربية تسيطر عليه إما شرقاً وإما غرباً، وهناك أوضاع كثيرة سوف تحول دون هذا الاتحاد، أي: الاتحاد الذي سوف يواجه الغرب.

خطر المذاهب الكفرية على الإسلام

خطر المذاهب الكفرية على الإسلام Q أيهما أخطر على الإسلام الشيوعية أم الماسونية؟ A الشيوعية مبدأ ومذهب مطبق واقعياً، أما الماسونية فهي مؤامرات خفية تتغلغل في كيان الأمم وفي داخلها وتخطط للشيوعية ولغيرها، والكل يجمعه أنه في النهاية يعمل للهدف اليهودي، وما يدل عليه هو أن ماركس يهودي، تروتسكي يهودي، ولينين يهودي، واستالين يهودي، وخريتشوف يهودي، وبريجنيف يهودي، فهذه حقائق معروفة، وجورباتشوف قد تظهر هويته يوماً ما، وكذلك في العالم الغربي هيمنة اليهود واضحة، فالخاسر أو العدو سيظل هو الأمة إن لم تستيقظ.

الحركة اليسارية

الحركة اليسارية Q كثيراً ما نسمع عن الحركة اليسارية، فهل هذه الحركة من ضمن الشيوعية وقد قال كثيرٌ من المفكرين بأن هذه الحركة هي حركة منشقة عن الشيوعية؟ A اليساريون تعبير يطلق على الشيوعيين والاشتراكيين وأشباههم، وهي أيضاً تدور ضمن الفلك الشرقي في الجملة.

الفرق بين الرأسمالية والشيوعية

الفرق بين الرأسمالية والشيوعية Q ما الفرق بين الرأسمالية والشيوعية؟ A الفرق بينهما هو أنهما وجهان لعملة واحدة، وآرثر كوستوار خبير أوروبي كبير حائز على جائزة نوبل، سُئل هذا السؤال فقال: 'بعض الناس يفضلون الشيوعية، وبعض الناس يفضلون الرأسمالية، أما أنا فأقول لعن الله كليهما' فنحن المسلمون نعلم أن كلاهما كفر، وكليهما ملعون بلا ريب، والفرق فكرياً: أن هذا ينحو منحى فردياً وذلك ينحو منحى جماعياً. وبناءً على ذلك ترتبت الخلافات في ساحة الواقع.

معرفتنا بواقع المسلمين

معرفتنا بواقع المسلمين Q متى دخل الإسلام أذربيجان؟ وما هو رأيك فيما ينبغي أن يصنعه المسلمون؟ A أذربيجان دخلت الإسلام في أيام عثمان رضي الله عنه، ولا أستطيع أن أقول رأيي حقيقة، أين الأخبار التي نستطيع من خلالها أن نتكلم؟ تكلم في إحدى الجرائد كاتب إيراني شيعي بلا شك تكلم وكتب حلقات، لكن معرفتنا بالعالم الإسلامي مفقودة، فنحن لا نعرف شيئاً، ولا ندري بالضبط عن حقيقة الأوضاع هناك، ولهذا نحتفظ برأينا -كما يقال- حتى نتبين، لكن أنا قلت في الجملة وفي الإطار العام لا بد أن الخلخلة تحدث حركةً في الجنوب وفي المناطق الإسلامية، ولا بد من صراع، وإن لم يهتدِ المسلمون إلى الحل الصحيح للنجاة وللنصر، فإنهم سيقدمون ضحايا وراء ضحايا، وفي النهاية لن يحصلوا على شيء، إلا إن شاء الله شهادة من يموت أو شيءٌ من ذلك، لكن الهدف النهائي الذي نريده لا يحصل بهذه السهولة.

الموقف من التقدميين

الموقف من التقدميين Q يقول بعض المراقبين التقدميين: إن هذا الانهيار الذي تواجهه الشيوعية ليس انهياراً وإنما هو تخطيط من الشيوعيين أو تكتيك لا يعرف مداه أحد؟ A نحن أشرنا إلى كلا الوجهتين، لكن المشكلة أن التقدميين في العالم العربي كما قال فيهم الشاعر: ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ فلا أحد يعتبرهم، ولا يأخذ أحد رأيهم، لا أولاً ولا آخراً، فهم الذين أضاعوا دينهم، وأضاعوا أمتهم، وخدموا عدو الله وعدوهم، والآن يقضى الأمر بغيرهم، وإن اقتضت اللعبة أن يُنحوا، فإنهم يُنحون بأي شكل. ولا شك بأن وجودهم الآن يعيق عملية إتمام اللعبة؛ لأنهم متلطخون بالعار والخزي أمام الشعوب، فمستحيل أن يقوموا بأي دور، ولهذا يعللون أنفسهم بأن الأمر مجرد تكتيك، وسوف تنتبه لهم روسيا، وتعرف قيمتهم، ولكن الأمر قد قضي، وهذا جزاء من ربط نفسه ومصيره بأعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل خسر دنياه وآخرته، وشر الناس من يبيع دينه بدنيا غيره.

نجيب محفوظ وعلاقته بالشيوعية

نجيب محفوظ وعلاقته بالشيوعية Q نجيب محفوظ هل له علاقة بـ الشيوعية؟ A له علاقة بالاتجاه الغربي الصليبي عموماً، أما بـ الشيوعية فلا نستطيع أن نقول: إنه اتجه هذا المنحى، ونجيب كغيره من الأدباء مثل توفيق الحكيم كتب عودة الروح، وبعدها كتب عودة العقل، ولو جاء زعيم ثالث، وأتى بعملية أخرى واضطهاد جديد، فربما كتب عودة الحكمة، عودة المنطق وهكذا، حسب الوضع يعود أية عودة! فهم يكتبون من خلال التوجه العام، فكانت الاشتراكية في الستينات تجعجع بها الإذاعات والصحافة، وكانوا مع تيارها ثم لما انتهت وانتعشت الرأسمالية والانفتاح ساروا في ركبها، فهم صورة لمن يكون بيده الأمر.

معنى كلمة الحداثة

معنى كلمة الحداثة Q سبق وأن قلتم في إحدى المناسبات: إن الحداثة هي من برنامج عملية إعادة البناء، فهل رموز الحداثة في البلاد الإسلامية يعون ذلك، أم أنهم يسيرون حسبما يرسم لهم من دونه وعي؟ A الحداثة أسسها الشيوعيون الغربيون في فرنسا، وفي إيطاليا وفي بريطانيا وغيرها وهم ينصون نصاً أن الحداثة جزء من التغلغل الشيوعي عن طريق الحركة الذاتية داخل المجتمعات الغربية، من أجل الوصول إلى الشيوعية الكبرى، حيث تضمحل الدولة، ويسود المجتمع العالمي، ويمكن الوصول إليه لا عن طريق الثورة الحمراء، ولكن عن طريق الفكر، والحداثة بما أنها تقويض لكل المؤسسات، ولكل الآداب، وتقويض لكل المتعارف عليه، فهي سوف توصل إلى وجود الشيوعية النهائية. ولهذا يقول هنري كروستوفر أحد قادة الحزب الشيوعي الفرنسي: 'إن الحداثة هي ظل الثورة الغائبة هنا -أي: في باريس - والناقصة أو غير المكتملة هناك -أي: في موسكو -" الحداثة. ظل الثورة التي لم تقم في باريس والتي لم تكتمل في موسكو، فإن الاكتمال لا يكون إلا إذا سيطرت الشيوعية وحكمت العالم، وقضت على الدولة، وقام المجتمع البيروليتاري.

العلاقة بين الرافضة والشيوعية

العلاقة بين الرافضة والشيوعية Q ما حقيقة العلاقة بين الرافضة وبين الشيوعية؟ A العلاقة بين الرافضة والشيوعية قوية، وهناك شواهد على ذلك: أولاً: عندما قامت ثورة الرافضة فإن حزب توده الشيوعي هو الحزب الوحيد الذي ظل محتفظاً بكل قواه ومؤسساته. ثانياً: العلاقات القائمة بين الرافضة والاتحاد السوفيتي من الوضوح والزيارات المتبادلة بشكل واضح. ثالثاً: منطقة أذربيجان: أيام الصوفيين الرافضة القدامى قتلوا -كانوا معاصرين للدولة العثمانية- انتقاماً لقتل الدولة العثمانية للرافضة في العراق وإيران بلاد فارس انتقاماً لذلك تذكر بعض المصادر أن دولة الصوفيين الروافض قتلت في أذربيجان وما حولها أكثر من مليون من أهل السنة! الهدف مشترك دائماً، وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله وابن القيم ذكروا أن كل عدوٍ للإسلام كان الرافضة معه دائماً في جميع عصورهم، ولم يشذوا عن هذه القاعدة في أي عصر، كانوا مع الصليبيين في مراحلهم المتعددة، كانوا مع التتار في هجمتهم، ثم هم مع العدو وإن كان شيوعياً أو أمريكياً. والحمد لله رب العالمين.

قراءة في الدساتير القومية

قراءة في الدساتير القومية تحدث الشيخ حفظه الله عن خطورة القوانين الوضعية على الأمة العربية والإسلامية، وسرد نماذج من صور التشريع والتحليل والتحريم في البرلمانات والمجالس النيابية، ونوّه إلى تصور القوانين الوضعية لمسألة السلطة والسيادة، ثم بيّن كيفية دخول القوانين الوضعية إلى الدول العربية والإسلامية، وتحدث عن الغزو التشريعي ونظام الحكم في بعض الدول العربية والإسلامية، وبين فساد هذه القوانين والدساتير ومخالفتها للإسلام، حيث أنها تعطي للحاكم حق التشريع والتصديق والاعتراض، مختتماً حديثه ببيان خطورة هذه القوانين على الدول، ومركزاً على ضرورة نصرة هذا الدين والصبر على ذلك.

القوانين الوضعية وحق التشريع في البرلمانات

القوانين الوضعية وحق التشريع في البرلمانات نذكر هنا نماذج تدل على أن هؤلاء الذين في البرلمانات ونحوها يرون أن لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق التشريع والتحليل والتحريم وإصدار القوانين، بغض النظر عن كونها موافقة لما أنزل الله أو مخالفة له، فلا فرق بين أن يوافق البرلمان على حكم الله أو أن يرفضه؛ لأننا لا ننظر إلى النتيجة، ولكن إلى كيفية عرض حكم الله على الناس وأخذ رأي المخلوقين في حكم الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالمبدأ موجود من الأصل، فعندما يعرض تحريم الخمر على البرلمان لاتخاذ قانون بذلك، فمعنى هذا: أنهم يجعلون حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القطعي الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الخمر حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] إلى آخر الآيات، فهو حكم قطعي صريح، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القولية والعملية صريحة وقطعية بذلك، يجعلونه موضع نظر عند من يملك حق التشريع الذي خوله القانون أو الدستور بأن يشرع وأعطاه حق التشريع والتحليل والتحريم، فالبرلمان إن رأى أن يوافق شرع الله، واتخذ بذلك قراراً بالإجماع أو بالأغلبية، أصبح شرع الله هو الناتج، وإن رأى البرلمان غير ذلك لم ينفذ ما أنزل الله! فمجرد أن يعرض هذا على الناس وعلى البشر، فإن هذا في حد ذاته هو الكفر بعينه -نسأل الله العفو والعافية- وفيه إعطاء حق الله الخالص -بأن يكون وحده هو الحكم- لهؤلاء البشر حتى وإن وافقوه فيما بعد؛ فإنهم لم يوافقوه لأنه حكم الله، بل يوافقونه لأن من يملك السلطة التشريعية أقر هذا القرار وأصدره، ولذلك فالمعروف عند قضاة المحاكم الوضعية عموماً أنهم يعملون به بناءً على التشريع الرسمي المكتوب، وليس على التشريع الإلهي الذي نزل به جبريل عليه السلام على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا يدل على خطر وضرر هذه القوانين بغض النظر عن كون النتيجة ربما تكون أحياناً لصالح الإسلام أو لصالح الحكم الشرعي، فالقضية هي إعطاء حق التشريع لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسلب هذه الصفة وأخذها ونزعها من مستحقها الذي له الحق الخالص فيها، وإعطاؤها للمخلوقين المربوبين، وقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وأمروا جميعاً بلا استثناء بأن يردوا كل شيء تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونعرض لكم بعض هذه النماذج: الإخوة الذين يدرسون في كلية الإدارة، وبعض الكليات الأخرى -بل وفتح قسم خاص يسمونه قسم القانون- وكذلك من يدرسون في قسم العلوم السياسية وقسم الاقتصاد، هذه الأقسام تدرس القانون دراسة متخصصة أو تدرس مبادئ القانون كما يسمونها. والذين درسوا خارج المملكة في كليات الحقوق، أو اطلعوا على الكتب القانونية، فهذه الأمور بدهية عندهم؛ لكن لأن بعض الإخوة لم يطلع على هذه الدراسة، ولم يدرسها فإننا نذكر نبذة مختصرة عن مسألة السلطة أو السيادة كما تصورها القوانين الوضعية.

السلطة في منظور القوانين الوضعية

السلطة في منظور القوانين الوضعية كان الناس في أوروبا في فترة القرون الوسطى -وهي بالنسبة لهم عصور مظلمة- يسيطر عليهم فيها رجال الدين والملوك الظالمون الجائرون والإقطاعيون وكل أنواع الطواغيت، والتي يقابلها في التاريخ الإسلامي عصور سيادة الإسلام وغلبته على الأرض، ففي تلك العصور إلى أن ظهرت الثورة الفرنسية كان الناس يعتقدون في الغالب أن للملوك أو الأباطرة حقاً إلهياً مقدساً، فهم يحكمون نيابة عن الله، والبابوات يصححون لهم هذا، فكل ما يتخذونه من أحكام وما يصدرونه من قرارات هو في قوة الوحي المنزل الذي لا يقبل النقاش، فالسيادة وحق التشريع كان لهؤلاء الملوك أو الأباطرة أو الإقطاعين، ومعهم رجال الدين، الأحبار والرهبان الذين قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وقد وضح هذه الآياة ووضحها حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وفيه أنهم كانوا يطيعونهم ويتبعونهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، فالحق لهم كان حقاً إلهياً مقدساً، فيشرعون ما شاءوا، وهذا التشريع مستمد من الله، ويسمونها نظرية الحق الإلهي، وهذه النظرية هي النظرية التي كانت سائدة في أوروبا.

منشأ القوانين الوضعية

منشأ القوانين الوضعية ظهرت نظرية أخرى وهي نظرية العقد الاجتماعي، ونظرية العقد الاجتماعي كما فسرها جان جاك روسو تقول: ليس لأحد حق إلهي على أن يحكم أحداً أو يسيطر عليه، ولكن الأفراد متعاقدون مع الحكومة أو مع السلطة أياً كانت السلطة، فالسلطة متعاقدة مع الأفراد، والأفراد متعاقدون معها، فهو عقد بين الطرفين، وهو الذي يسمونه العقد الاجتماعي، والسلطة بموجب هذا العقد تتنازل عن أشياء وتلتزم بأشياء، والرعية بموجب هذا العقد الاجتماعي تتنازل عن بعض حقوقها للسلطة لتتصرف فيه وتأمر وتنهى، وفي نفس الوقت تطالب بحقوقها بمقتضى العقد، فهي قضية حقوق وواجبات أو التزامات على السلطة من جهة وعلى الشعب من جهة أخرى. والغربيون اعتبروا هذا فتحاً عظيماً، وإن كان ظهر من الغربيين أنفسهم من يفسر العقد الاجتماعي لمصلحة الاستبداد، وذلك بحجة أن العوام لا حكم لهم، ولا يعرفون الخير من الشر، فيجعل الحاكم مخولاً بأن يفعل كل شيء، ففسروه من خلال العقد، ولكن جعلوه لمصلحة الأمر الواقع، وهكذا كان الخلاف الشديد بين المفكرين والفلاسفة في أوروبا. ولما قامت الثورة الفرنسية قبل أكثر من مئتي سنة من الآن، كانت مستندة على نظرية العقد الاجتماعي، وليس على نظرية الحق الإلهي، وأعطي ولأول مرة في تاريخ الإنسانية حق السيادة والتشريع والتحريم للشعب، والشعب يختار سلطته ويعقد معها هذا العقد، ثم هي تشرع ما تشاء وتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء. والصورة الوحيدة التي وجدت قبل هذا الحكم -الذي هو: إعطاء هذا الحق للبشر بشكل صريح منقطع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعن الأديان هي- ما حدث في نظريات أرسطو وأفلاطون وأمثالهما، حيث تخيلوا المدينة الفاضلة. فـ أفلاطون في كتابه الجمهورية جعلها نظرية مقررة، ولذلك يقول بأن الفلاسفة هم الذين يحكمون، ولهم حق التحليل والتشريع والتحريم؛ لأن العوام لا يفقهون شيئاً فلا حكم لهم، وكل هذه النظريات مبنية على أساس الكفر بالوحي، وأن الله تبارك وتعالى خلق الناس وتركهم هملاً، ولم ينزل عليهم كتاباً، ولم يرسل إليهم رسلاً، فذلك لا يردون ما تنازعوا وما اختلفوا فيه إلى ما جاء به هؤلاء الرسل من الوحي، فهؤلاء الفلاسفة يكفرون بالوحي نهائياً، فإذا كفروا بالوحي لم يبق إلا البشر، فإما أن يقولوا: إن الحكم للجميع، وهذا ما كان يحدث في بعض المدن اليونانية، وهذا ما يسمونه السيادة الشعبية المباشرة، أو الحكم الشعبي المباشر، فالقرية أو المدينة التي سكانها ألفاً -مثلاً- من البالغون والعقلاء والذكور، فهؤلاء الألف يجتمعون في كل مرة، ويصدرون قانوناً، ويحكمون أنفسهم بأنفسهم. وهذا الحكم المباشر اعترض عليه الفلاسفة، فقالوا: الناس همج رعاع إلا الفلاسفة، فاقترحوا حكومة الفلاسفة النخبة، فهم الذين يحكمون ويقررون، وبقية الناس يخضعون، وهذه الصورة بقيت مطموسة على مر القرون حتى جاءت الثورة الفرنسية، فقالت: الحق والسيادة للشعب، وظهر في مقابلها أنصار الملكية التي كانت قائمة والتي ثارت عليها الثورة الفرنسية، وكانوا يرون أن السيادة يجب أن تظل محفوظة للامبراطور أو للملك. وفي بريطانيا ظلت الفكرة واضحة، وهي: أن هذه السيادة وهذا الحق يعطى للملك، وهو الذي يعين مجلس اللوردات أو مجلس الأعيان، وهؤلاء مع المجلس الآخر الذي ينتخبه الشعب هم الذين يشرعون ويحللون ويحرمون، فكان الصراع هناك صراع بين هاتين النظريتين.

القوانين الوضعية في العالم الإسلامي

القوانين الوضعية في العالم الإسلامي لما استورد العالم الإسلامي القوانين الوضعية -كما ذكر الشيخ أحمد شاكر - جاءت هذه القوانين وأخذوا يطبقونها، فبدأت تركيا ثم مصر ثم تلتها دول أخرى. وكان مما أخذوه: إعطاء حق السيادة والتشريع وإصدار القوانين وتنفيذها لغير الله، كأن يكون لرئيس الدولة دائماً أو في حالات معينة، وقد يكون بعد ذلك لمجلس الشعب أو البرلمان، وقد يكون لمجلس قيادة الثورة أحياناً. ويقصدون بالشعب: أن الشعب عليه أن يختار ممثليه وهم الذين يحكمون الناس باسم الشعب، لأن الشعب هو الذي اختارهم ورضي بهم، ولذلك كان كل من يحكم بغير ماأنزل الله مع اختلافهم يدَّعون الديمقراطية حتى أشد النظم ديكاتوريةً واستبداداً تدعي الديمقراطية، لأنهم يرون أنه حكم الشعب لنفسه، أو حكم الشعب بواسطة الشعب، إما مباشرة، وهذا غير موجود الآن في الوقت الحاضر، وإما عن طريق ممثلي الشعب الذين هم المجالس التشريعية.

تقسيم السلطات التشريعية

تقسيم السلطات التشريعية وبالنسبة لتقسيم السلطات التي تملك السيادة فيقسمونها إلى ثلاث سلطات، وهذا التقسيم ظهر لأول مرة في فرنسا ودعا إليه بعض الفلاسفة بقوة، ومنهم الفيلسوف مونتيسكيو وغيره الذين دعو إلى الفصل بين السلطات، وإلا فإن إحداها يمكن أن تستبد بالأمر دون الأخرى. فقالوا: السلطة الأولى: هي السلطة التشريعية ووظيفتها التشريع وسن القوانين المختلفة. والسلطة الثانية: هي السلطة القضائية، وهي بالنسبة للتشريعية عبارة عن سلطة تنفذ ما تقرره السلطة التشريعية، فالتشريع يسن ويقرُّ أولاً ثم ينتقل إلى المحاكم فينفذ على آحاد القضايا، والقاضي إذا خالف ما سنته السلطة التشريعية فإن حكمه يكون باطلاً غير شرعي. وقد حكم أحد القضاة في قضية شرب الخمر بما أنزل الله، فأبطلوا حكمة وفصلوه من القضاء؛ لأنه مخالف للدستور الرسمي المكتوب!! وأما السلطة التنفيذية فمهمتها أن تنفذ ما يحكم به القضاء واللوائح وتلتزم بالدستور وتتعهد بالمحافظة عليه وتقسم اليمين الدستورية لتنفيذ الدستور الذي هو القانون الأساسي الذي تقره السلطة التشريعية. ويحدث أن تأتي حكومة تنفيذية -مجلس الوزراء- فتقدم استقالتها، فمثلاً: في الجزائر قبل أيام استقالت الحكومة، ويحدث كثيراً في بعض الدول أن السلطة التنفيذية تمسك بالأمور جميعاً، فيصبح التشريع حقاً لها، ويصبح القضاء تابعاً لها، وهذا هو الواقع في العالم الإسلامي، وهذا هو الاستبداد، حتى إن السلطة التنفيذية هي التي تملك كل شيء، ولا يوجد فصل بين السلطات إلا نظرياً، ولكن حتى لو فصلوا فإن، حق التشريع والتحليل والتحريم يعطى لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وذلك لا يجوز أبداً. ففي الواقع تحدث مخالفات، لكن في الجانب النظري نجد أن القوانين والدساتير في البلاد العربية أو الإسلامية عموماً -بحكم الانتماء الجغرافي أو التاريخي- تنص على إعطاء الحق لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وسوف نستعرض بعضها حتى نعلم خطورة هذا الشرك العصري، ولنعلم أن من قام مجهادها بما استطاع فقد قام بواجب على الأمة، وهو مأجور على ذلك، ويجب أن ينصر ولو بالحجة العلمية؛ فهذا شرك خبيث جديد لم يقع في تاريخ الأمة إلا في أيام التتار كما ذكر أحمد شاكر، وقد رفضته ولفظته الأمة آنذاك، ولكنه الآن أصبح هو السائد والرائج والمنتشر، وإذا اعترض عليه أحد اتهم بأنه أصولي متطرف ويرغب في السلطة ويريد الحكم، واقرءوا الصحف التي تتعرض لما يحدث في تونس أو الجزائر أو غيرها، فبمجرد أن يكون كان هناك دعاة أو شيوخ يطالبون بإلغاء هذه الدساتير فإنهم يتهمونهم ويقولون: هؤلاء أصوليون ومتطرفون، وغرضهم السلطة، ولا يريدون إلا الحكم، ويجرون البلاد إلى الهاوية وإلى الدمار وإلى الفساد، كما اتهم الرسل من قبل. نحن الآن أمام من يقول: نريد حكم الله، ومن يريد حكم الجاهلية، فكيف تنحاز الصحافة ضدهم، وتجمع على أن هؤلاء الذين يسمون بالإسلاميين يستحقون أن يكبتوا ويسجنوا ويُنَكَّل بهم؛ لأنهم يريدون تغيير السلطة، ويرغبون في الوصول إلى الحكم؟! بينما لا يتجاوز الأمر في كثير من الأحيان مجرد الإنكار على هؤلاء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله؟! وهذا الأمر واجب، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يقتدون بهديه، ويهتدون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقتدون بغير هديه، ويهتدون بغير سنته، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}، فلا بد من مجاهدتهم ولو بالحجة العلمية، وأن يقال للناس هذا كفر بواح، كما فعل الشيخ أحمد شاكر في كتابه عمدة التفسير.

تحكيم القوانين الوضعية في الدول الإسلامية

تحكيم القوانين الوضعية في الدول الإسلامية سوف نستعرض ما يدل على هذا في واقع هذه الدول التي تدَّعي الإسلام.

الغزو التشريعي في جمهورية مصر العربية

الغزو التشريعي في جمهورية مصر العربية أولاً: مصر وهي أهم دولة عربية، وأكثر دولة عربية تعرضت للغزو التشريعي، وأصبحت مرجعاً للدول الأخرى في هذا، ويوجد في العالم نوعين من أنواع التشريع: 1 - التشريع المكتوب. 2 - التشريع بنظام العرف والسوابق. والاتجاه الفرنسي يأخذ بالتشريع المكتوب وبالتقنين، ومصر ومثلها سوريا ولبنان نقلت قوانينها عن القانون الفرنسي، ثم نقلت عنهم بقية الدول العربية، ومن العجب أن السنهوري وهو أكبر قانوني ظهر في مصر، والذي كتب من المجلدات في القانون ما يعدل حمل بعير -نسأل الله العفو والعافية- ولو أنه بذل هذا الجهد الكبير، وأنفق هذا الوقت الكثير في تعلم دين الله وكتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنفع الله به نفعاً عظيماً، ولكن {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] فاختار أرذل الأمر، وأخذ يبحث في هذه القوانين حتى أصبح كبير القانونيين، وهو الذي وضع القانون المدني المصري، يقول في أول كلامه عن وجود القانون في مصر 'إن واضع القانون المدني المختلط الذي هو أصل القانون المدني المصري هو محامي فرنسي وضعه بطلب من نوبار باشا ' إلى آخر هذا الكلام. وسوف نقف عند هذه القضية: نوبار باشا رجل ماروني نصراني، وصل به الحال إلى أن يكون رئيساً لوزراء مصر بحكم نصرانيته وصليبيته وحكم ولائه للغرب فإنه قد أتى بمحام فرنسي، فوضع له القانون المدني، ثم يأتي بعد ذلك المنتسبون إلى الإسلام أو من يدَّعون الانتساب إلى الإسلام، ويطورون هذا النظام، ويطعمونه ببعض القوانين الانجليزية والفرنسية والألمانية إلى أن أخذوا من قوانين أمريكا اللاتينية، وأصدروا التقنين الجديد الذي يرون أنه أفضل تقنين وضع، وأصل هذا القانون هو المحامي الفرنسي. فأمة تترك كتاب الله وتترك سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتعرض عما جاء فيهما، وعما استنبط العلماء وتوسعوا فيه من مباحث فقهية عظيمة لا نظير لها في الدنيا على الإطلاق، وتتحدى أحداً أن يأتي بما يناقض هذا الشيء، فتترك هذا كله وتتبع نوبار باشا ومحاميه الفرنسي الذي وضع هذا القانون نقلاً عن القانون الفرنسي حرفياً، وجاء السنهوري ومن معه، وأضافوا إليه، وصار هذا هو القانون المتبع في مصر مع الأسف، ثم من مصر اشتقت أكثر الدول العربية تشريعاتها، والذي لم يؤخذ من مصر أُخِذَ من سوريا ولبنان، وهذه هي المصيبة العظمى التي حاقت بالمسلمين. يقول دستور جمهورية مصر العربية المادة (109) بالنسبة لسن الأنظمة: {{لرئيس الجمهورية حق اقتراح التشريع}} كأن يقترح أن يشرع تنظيماً للزنا أو للاغتصاب والمادتان (112،113) تنظمان حق رئيس الجمهورية في التصديق على القوانين والاعتراض عليها، وبعد أن يقر رئيس الجمهورية القانون إما أن يُصَدِّق عليه، فيصبح شرعاً نافذاً، وإما أن يعترض عليه ويرده ويطعن فيه، فالذي يملك حق التشريع هو رئيس الدولة.

التشريع في الدستور السوري والليبي والمغربي

التشريع في الدستور السوري والليبي والمغربي أما الدستور السوري الذي صدر عام (1973م) وحصلت بسببه مشكلات كثيرة جداً واكتفى في أن يرضي الناس بقوله: {{إن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلماً}} إسكاتاً وإرضاءً للناس لمطالب بعض من الناس والشعب والدعاة لتحكيم الشريعة، فالكثير في هذه الأمة يريدون حكم الله، فقالوا: نجعل رئيس الدولة مسلماً! وهذه الأمة مصائبها مركبة فليست مصيبة واحدة، لأن هذا الرئيس المسلم الذي أرضوا الناس به هو باطني نصيري، والنصيرية مرتدون كفرة لا يعدون من المسلمين لا في قليل ولا في كثير، ولكنهم أرضوا وأسكتوا الناس حيث جعلوا مادةً تقول: إنه مسلم، ثم لو فرضنا أنه من أهل السنة وأبوه وأمه ينتسبون كابراً عن كابر إلى أهل السنة وإلى آل البيت، أو إلى آل أبي بكر أو إلى آل عمر، وكلهم على السنة والجماعة، ولكنه التزم هذه التشريعات والقوانين، فهل يكون مسلماً؟ فالمصيبة مركبة من جهة الأصل، حيث إنه باطني خبيث، ومن جهة الحكم بغير ما أنزل الله والتشريع والتحليل. ومع ذلك فالمادة (110) أعطته أيضاً حق اقتراح القوانين، والمادة (98) أعطته حق إصدار القوانين والاعتراض عليها، فالمقصود أن الحكم عندهم لهذا الرجل! نسأل الله العفو والعافية. وكذلك الدستور المؤقت للجمهورية الليبية بعد ما قامت الثورة المجنونة، وقالوا: نغير بعض الأشياء، فضحكوا على بعض العلماء، وجاءوا بالشيخ محمد أبو زهرة، وجاءوا بغيره من المشايخ، وقالوا: نجعل للدولة دستوراً مؤقتاً، ثم بعد ذلك يكون هذا خطوة لتطبيق الإسلام، وأعلنوا أن النظرية الثالثة التي وضعها هذا العبقري الملهم في كتابه الكتاب الأخضر التي تقول: لا شرقية ولا غربية، لا النظام الرأسمالي ولا النظام الشيوعي، وهذه نظرية جديدة تقوم على الإسلام وهو مرتَكز لها، لكنها نظرية جديدة مطورة، فهي عندهم أعلى حتى من الإسلام ومن الاشتراكية ومن كل شيء، وإنما الإسلام مرتكز لها، فوضع دستوراً ووسموه بأنه دستور مؤقت حتى تتفتق العبقريات ويأتي الوحي في النهاية، وصار الأمر إلى كفر أشد من هذا. فيقول هذا الدستور المؤقت في المادة (20): {{إن مجلس الوزراء يدرس ويعد مشروعات القوانين}} فهو قد أعطى الحق للسلطة التنفيذية، وأخذ حق السلطة التشريعية وأعطاها للسلطة التنفيذية، وهذا موجود في كثير من الدول العربية، والمادة (18) تقول: {{إن مجلس الثورة هو الذي يوافق على التشريعات ويصدرها}} فحق التشريع لم يعط لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يرجعوا إلى حكم الله وإنما إلى مجلس الثورة، فإن أقر مجلس الثورة شيئاً مما أنزل الله عملوا به؛ لأن مجلس الثورة أقره، وإن لم يقر شيئاً مما أنزل الله وخالفه ولو كان صحيحاً صريحاً في القرآن أو صريحاً قطعي الدلالة في السنة، فإنه لا يعمل به؛ لأن مجلس الثورة الذي يملك حق التشريع أو الاعتراض عليه لم يوافق عليه. وكذلك دستور المملكة المغربية الصادر سنة (1972م) حوالي سنة (1392) هـ في الفصل رقم (26) يقول: {{للملك حق إصدار القوانين والتشريعات}} فالمرجع والحكم عندهم هو شخص هذا الحاكم، ثم قال في الفصل (66، 87) من الدستور المغربي: يعطى للملك ثلاثة حقوق وهي: الحق الأول: أن يصدر التشريعات. والحق الثاني: إعادة النظر في التشريعات، الذي يسمونه قراءة القانون من جديد. والحق الثالث: طرح القانون للاستفتاء الشعبي وأخذ الموافقة عليه، فيقوم باستفتاء الشعب كما هو الآن في بعض الدول، فيقولون: إن الشعب يريد الدستور، ولأن الشعب قد اختار الدستور فإنه يحكم بين الناس بغير ما أنزل الله -نسأل الله العفو والعافية- فالحاكم له حق في إصدار التشريعات الجديدة وأن يغير ما يشاء، وله حق أيضاً في طرح ذلك للاستفتاء الشعبي.

التشريع في الدستور الكويتي والأردني والتونسي

التشريع في الدستور الكويتي والأردني والتونسي دولة الكويت في المادة (65) أعطت للأمير حق التشريع بالرغم من أن الكويت قبل الحرب، وعندما اجتمعوا في جدة أجمعوا على مشروع دستور برقم (63)، والآن حتى من بعض الدعاة الإسلاميين من يطالبون بتطبيق الدستور، سبحان الله! إذا لم تستطع أن تقول: نريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تقعد ولا تحضر معهم ولا تشاركهم، وأيضاً فبإمكانك في المؤتمر الذي عقد في جدة أو الآن أن تقول: نريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هناك أناس ينسبون أنفسهم إلى الدعوة الإسلامية، ويقولون: نحن نطالب بدستور (63) الذي يكفل الحريات والحقوق والانتخابات، وبعضهم يتأول ويقول: إذا طبق هذا الدستور، وعرض للاستفتاء وعرض أمر القوانين والدساتير وأمر الشريعة الإسلامية على الشعب، فالشعب لن يختار إلا الإسلام. وهذا كلام يقال في الخيال لكن الواقع غير ذلك، وحتى لو عرض الشرع على الناس، فلن يختاروا إلا الشرع؛ فهل حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على سبيل التخيير؟!! فنقول: نحن على ثقة أن الناس سيختارون حكم الله، وأيضاً لو فرضنا أن الناس لم يختاروا شرع الله، فنكون قد جعلنا حكم الله للتخيير وهذا كفر -عياذاً بالله- لأنهم لا يقرون بشهادة أن لا إله إلا الله، والرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54]، فهم معترفون بأن الله هو الخالق، ولكنهم يجعلون الأمر لغيره، فجعلوا حكم الجاهلية هو الحكم، فإذا اعترض معترض، وقال: لا نريد حكم الله ولا نريد حكم الشريعة -نسأل الله العفو والعافية- فإنه لا يعاقب؛ لأنه مارس حقاً قانونياً له، والدستور يعطي كل مواطن الحق في أن يختار ما يريد، ولو لم يكن في المليون إلا رجل واحد يقول أريد غير حكم الله! كل الخلق ملزمون ومتعبدون ومأمورون بأن يتبعوا حكم الله وحده وإلا فليسوا بمسلمين، ومعنى كلمة الإسلام هو هذا، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، والسلم: هو الإسلام، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، كله لا بد أن يكون لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا كان كذلك فلا تخيير: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} [الأحزاب:36]. وكذلك دستور الأردن؛ حيث إن المادة (31) تعطي للملك حق التصديق وحق الإصدار. وأما في تونس ففيها العجب العجاب؛ لأن رئيسهم هو المجاهد الأكبر -كما يسمونه- ولكنه لم يكن مجاهداً في الله، وإنما كان يجاهد المؤمنين، ويجاهد لتكون كلمة فرنسا وقوانينها هي العليا، فقد أصدر قانوناً ينص على أن حق الاقتراح والفصل في أمور التشريع والاعتراض هو لرئيس الدولة.

نظام الحكم في لبنان

نظام الحكم في لبنان أما لبنان فإن المادتين (56،18) تعطي حق الاقتراح والاعتراض لرئيس الدولة، فمصيبتها كمصيبة سوريا، ولكن من نوع آخر، حتى المسلمين هناك من أهل السنة يطالبون بأن يوافقوا ويقروا المصالحة الوطنية التي تنص على أن رئيس الدولة يكون مارونياً، ورئيس الوزراء يكون مسلماً سنياً، ورئيس مجلس الشعب يكون شيعياً، والمليشيات مقسمة، فتكون هناك مليشيات للدروز، ومليشيات للموارنة، والصليبيين والنصارى ينقسمون إلى عدة فئات، ففئةٌ مع فرنجيه وفئة مع شمعون، وفئة مع الجميل. وذكرت بعض الإحصائيات في مجلة لبنانية: أنه في لبنان خمسمائة نحلة، أي: أن كل الأديان في العالم تقريباً موجودة في لبنان، حتى البهائية والقاديانية والشيوعيين والناصريين والبعثيين والقوميين والشيعة، والباطنية موجودة بجميع أنواعها، فكل نحلة وملة تخطر على بالك تجدها في لبنان ولو مجرد شخص أو اثنان أو ثلاثة أو عشرة من أصحاب هذه النحلة، فيقال: كيف يجتمع هؤلاء على الدستور الذي ينص على المصالحة الوطنية ويطلب حتى من المسلمين أن يقروه ويقر هذا بعض علمائهم هنالك أو في غيرها من الدول أحياناً، فيقرون لهذا الحكم الذي بموجبه يكون رئيس الدولة نصرانياً، وتخضع للرافضي الذي يرأس مجلس الشعب، وهذا السني الذي في الوسط التنفيذي -رئيس الوزراء- يعتبر شكلية إدارية، لأن الوزراء تجدهم على هذا النمط وزيراً من حزب الشيطان والذي يسمى بـ حزب الله، ووزيراً شيعياً من الأمل ووزيراً درزياً وهكذا.

ضرورة الصبر والتضحية لنصرة الإسلام

ضرورة الصبر والتضحية لنصرة الإسلام إن الناس إذا أرادوا دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشرعه، فهو لا يقوم إلا بالجهد وبالدعوة، وبالصبر والتضحيات، وربما أدَّى إلى الجهاد وإراقة الدماء حتى يقوم هذا الدين كما هو الآن في أفغانستان وإرتيريا، لأن هذا الدين لا يقوم إلا بالجهد والجهاد الحقيقي الذي لا جدال فيه، ولكن لو أرادوا غير ذلك كـ الديمقراطية -مثلاً- فهل يحصلون عليها بلا تعب؟! رومانيا لما أرادت الديمقراطية ماجاءتها إلا بعد حمامات الدم التي أرعبت العالم، وأوروبا الشرقية لما أرادت التخلص من الديكتاتورية والاستبداد لم يأخذوها إلا بالجهد والتعب. فالشعوب والأمم التي لا تجاهد ولا تضحي من أجل إقامة دين الله، فسوف يعاقبها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن تضحي وتجاهد وتتعب وتخسر وتريق الدماء من أجل الطواغيت والمجرمين والأنظمة الكافرة المرتدة، فـ حزب البعث في العراق وسوريا، خسرت هذه الشعوب خسارات عظيمة جداً من أجل أن يبقى هؤلاء الزعماء المجرمون، ويبقى هذا الحزب المرتد مسيطراً على البلاد، ولو أن هذه الخسارة في الأرواح والأموال والأنفس والمطاردين والمهاجرين -ومصائب لا يعلمها إلا الله- بذلت لإقامة دين الله لقام هذا الدين في العالم كله، ولو بذل بعض منها لإقامة الدين في تلك البلاد لقام، ولكن الناس ضحوا وبذلوا من أجل بقاء هؤلاء المجرمين، فكانت العقوبة أن يسلطهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم أكثر. وهكذا في كل مكان؛ إما أن يدفع الناس ضريبة الإيمان وضريبة العزة، ولا تنال العزة الإيمانية إلا بجهد، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، ولذلك فقد جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرسل من قبله، وصبروا وصابروا ورابطوا، وكذلك جاهد العلماء الذين جددوا دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومن المعلوم أن الحكومة السعودية الأولى لم تقم على التوحيد الخالص النقي مجاناً، بل بجهادٍ وجهد شديد حتى تأليت عليها القوى الطاغية المجرمة وقضت عليها. وهكذا الدعوات دائماً لو لم تجاهد في سبيل الله فإنها تقدم تضحيات وجهود عظيمة في سبيل الشيطان وتدفع ضريبة الذل، أما ضريبة العزة فكل قطرة دم تراق في سيبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للجهاد ومن أجل إعلاء كلمة الله -كما هو في أفغانستان أو غيرها- لها موقع عظيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهي -إن شاء الله- لبنة من أجل الوصول إلى هذا الأمل الكبير بإذن الله مع تصحيح المسار، وتنقية الصف إلى آخر الشروط الأخرى، ولو فرضنا أن أفغانستان رضيت بالحكم الشيوعي لقامت بقتلهم وانتهاك أعراضهم وأخذ أموالهم كما فعلت في اليمن الجنوبي، وليبيا وغيرها، وكما فعل البعثيون في العراق وسوريا. وكان المسلمون الأفغان سيقدمون تضحيات أكثر وأعظم وهم في ذلة أجارنا الله وإياهم منها! إلى الآن قد خسروا أكثر من مليون شهيد، لكنها بعزة وثمنها والحمد لله عظيم جداً، ولو لم يكن فيه إلا أن الناس أيقنوا أن بإمكان أي شعب أعزل -إلا من الإيمان بالله- أن يقاوم أقوى دولة في العالم، فكيف لو استكملنا الشروط الشرعية، وتجنبنا الموانع الشرعية لتحقيق النصر الكامل، من الوحدة وتوحيد الصف والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم التفرق كما أمر الله بتوحيد المجاهدين والدعاة والمسلمين في كل مكان، فيتوحدون على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح والتواصي بالحق وبالصبر، ويكونون يداً واحدة كما أمر الله تعالى حيث يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال في الآية الأخرى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فهذا سبب من أسباب النصر. والأمر الآخر هو: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فلم يكلفنا الله مالا نطيق، فلا يأت قائل ويقول: روسيا لديها قنابل نووية، ونحن لا يوجد لدينا إلا بنادق، فنقوم بترك الجهاد، فهذا هو الخطأ بعينه، ولكن علينا أن نعد العدة، فإذا وجدنا أننا يمكن أن نقاوم ووجد لدينا بعض التكافؤ، فنقول: باسم الله! يا خيل الله اركبي، فيكون النصر بإذن الله.

التشريع في الدستور العراقي والسوري

التشريع في الدستور العراقي والسوري كذلك في العراق في المادة (51،42) فهؤلاء البعثيون يقولون: {{إن مجلس قيادة الثورة يقترح مشروعات القوانين ويصدرها}} فأعطوا حق التشريع لمجلس قيادة الثورة كما هو في ليبيا، وأما المادة (44) فتقول: {{إن رئيس مجلس قيادة الثورة يوقع القوانين الصادرة عن المجلس وينشرها}} فهو الذي يعتمدها وإذا اعتمدها أصبحت ديناً ووحياً وكتاباً منزلاً -والعياذ بالله- فلا يحيدون عنه ولا يتركونه، وهذا من أسباب وقوع البلاء على هذه المجتمعات والشعوب التي رضيت بتسلط هؤلاء المجرمين، ومكنتهم حتى لعبوا بدينها ودنياها وعبثوا بطاقاتها ومقدراتها، ولم يقم فيهم قائم لله بالحق، ولم يجدوا من يجاهد، بل قام عدد قليل من العلماء، فكبت من كبت، وطرد من طرد، وانتهى الأمر، وخضعت الأمة، فكانت النتيجة لهذا الحزب الصليبي. ونحن لا نفرق أبداً بين عداوة البعثيين الصليبيين وبين عداوة الغرب للإسلام والمسلمين، فالقضية واحدة، وهما وجهان لعملة واحدة؛ لأن هذا الحزب هو حزب صليبي نصراني، ومن أعظم أسسه التي قام عليها هو تقديم النصارى باسم أن رابطة الدم هي التي تربط العرب، فهي أمة عربية واحدة، وإقصاء المسلم إن كان هندياً أو تركياً أو كردياً أيّاً كان قدمه في الإسلام، فلا قيمة له عند البعثيين؛ لأنه ليس قومياً. أما النصراني فمقدم؛ لأن المؤسس هو ميشيل عفلق والنائب هو طارق عزيز، وكان أيضاً في سوريا قبل الحكم البعثي فارس الخوري رئيس الوزراء. فهؤلاء القوميون عموماً والبعثيون خصوصاً لا يوالون إلا في هذه العقيدة الكافرة التي تجعل الكافر الصليبي النصراني مقدماً على غيره. فأقول: الإسلام لا يفرق بين الغرب والبعثيين مهما اختلفوا -وقد يختلفون أحياناً ونحن لا ننكر ذلك- ولكنهم بالنسبة للمسلمين عدو واحد وصف واحد، حتى ولو اختلفوا أو ظنوا أنهم يستطيعون أن يتمردوا على الأسياد في الغرب، فهم في الحقيقة يخدمون أهدافهم، ولن يخرجوا عن هذه الأهداف، لأنهم كلهم يجمعهم الصليب، وتجمعهم العداوة والحقد على الإسلام والمسلمين. وفي السودان أيضاً المادة (155) تعطي رئيس الجمهورية حق الاقتراح، وفي المادة (157) يعطونه حق التصديق، وفي المادة (107) يعطونه حق الاعتراض، فالرئيس هو الذي يصدر القانون، ويعترض ويوقع، فماذا بقي لرب العالمين وخالق الأولين والآخرين؟!

التشريع في الدستور اليمني

التشريع في الدستور اليمني أما دستور جمهورية اليمن الديمقرطية الشعبية التي كانت سابقاً، فالمادة (92) تقول: {{إن مجلس الرئاسة يقترح مشروعات القوانين ويصدرها ويأمر بنشرها}}، فله حق الاقتراح وحق الإصدار والنشر، لأن عندهم في القوانين لا يكون القانون ملزماً إلا بعد أن يمر بصفة النشر، فلا بد أن ينشر، وإلا فسيكون في إمكان أي إنسان أن يطعن أو يعترض بعدم نشر القانون، فترفع عنه الجناية أو التهمة القانونية، وهذا الدستور اليمني قد ألغي، وصوتوا قبل أيام أو أسابيع على الدستور الجديد الذي أحدث هذه الفتنة، التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يقي هذا الشعب المسلم شرها، وأن يجمع قلوبهم على كتاب الله وعلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا الشعب هو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان يمان والحكمة يمانية}، ويكفيهم فخراً أنهم لم يفتحوا بجيش، وإنما انقادوا وأسلموا بلا قتال، وطلبوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرسل إليهم من يعلمهم الخير، فأرسل إليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب، ولما ظهر فيهم المرتد الخبيث الأسود قتلوه وقضوا عليه، فدخلوا في الإسلام طواعية، ثم عندما ارتد العرب أو أكثر العرب قضوا على الردة هم بأنفسهم دون أن يطلبوا من الصديق جيشاً يرسله ليقضي على المرتدين، وهذا دليل على أن الخير والرقة التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم: {هم أرق قلوباً وأفئدة} فالرقة فيهم موجودة، والخير فيهم موجود، فهذا الشعب المسلم يؤتى إليه بقوانين فيعبد ماركس ولينين، والمصيبة أنه بعد الوحدة الذين قبضوا على الأمور هم الذين ينتمون إلى الجنوب لأنهم حزبيون، وهؤلاء الحزبيون هم من أخبث خلق الله إن لم يكونوا أخبث من على وجه البسيطة، لأنهم تغذوا ورضعوا لبن الأفكار الخبيثة وتشربوها، وعندهم مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، ومستعدون أن يصلوا إلى هدفهم ولا يبالون أبداً، ولذلك رأوا أن من مصلحتهم أن ينضموا إلى الشمال بما فيه من طاقات بشرية وموارد خيرة اكتشفت أخيراً. وعندما ضموا الشمال إلى الجنوب أصبحت السيطرة لهؤلاء المجرمين الحزبيين، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكفي المسلمين شرهم، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأن يرجع هذا البلد وكل بلاد الإسلام إلى الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

السيادة في الدستور الجزائري والتونسي والسوداني والبحريني

السيادة في الدستور الجزائري والتونسي والسوداني والبحريني أما دستور جمهورية الجزائر الصادر عام (1976م) فيقول: إن رئيس الجمهورية يصدر القوانين كما في المادة (154)، وله حق طلب مداولة ثانية، أي: إعادة القراءة في القانون، ويتعين حينئذٍ الموافقة على القانون بأغلبية الثلثين، فـ الجزائر تعطي حق التحليل والتحريم لرئيس الجمهورية حسب الدستور، وهذا الذي دفع الإسلاميين والدعاة إلى أن يطالبوا بتحكيم الشرع. وبهذه المناسبة -لأن الكلام الآن عن الجزائر - كنا نود أن تتاح فرصة، لنعطي الإخوة فكرة أوسع عن هذا البلد أولاً: لأن همَّ المسلمين واحد، وهم كما قال صلى الله عليه وسلم: {كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}، وبعض الناس يقول: هذه مناطق بعيدة، وليس بشرط أن نعرف أحوالها، نقول: قد لا يكون شرط باعتباري أنا كفرد، ولكن باعتبار ذلك كأمة لا بد أن نعرف أحوالها. ثانياً: إن وسائل الإعلام الشرقية والغربية لم تتركنا جهلة. أي: أنه لا يتكلم حولها مطلقاً في الإذاعة والتلفزيون، ولا يهمل نهائياً. نقول هذا؛ لأن البعض يفهم الإخوة خطأً ولا يدري ما حقوقها، فلا بد من معرفة أحوال المسلمين وواقع الأمة، وإعطاء الحلول لها والنظر إلى مشاكلها، ويومياً يصب الإعلام على الناس صباً، والناس يقرءون الجرائد ويسمعون الأخبار عن أحداث الجزائر، وما تقوله وسائل الإعلام الغربي وحتى الإعلام العربي التابع للغرب، يسمعونه منها: الجزائر: المتطرفين الأصوليين إلى آخره. إذاً: أمام هذا الزخم الإعلامي الهائل، فلا نستطيع أن نسمعهم -نحن- كلمة الحق! هذا تقصير منا، وقد نأثم بذلك لأن في ذلك تلبيس للأمة وغش لها، وقبل فترة تقول جريدة عكاظ جبهة الإنقاذ تريد جر الأمة إلى الدماء، ما شاء الله! كم من الناس عندنا هنا بالآلف، بل مئات الألوف يكرهون هذه الجبهة لأنها -على حسب فهمهم- تؤدي إلى دمار الأمة، فيكرهون المطالبة بحكم الله، لأنهم قرءوا هذه الجريدة، ويقولون: هذه جريدة سعودية في بلد مسلم -والحمد لله- ولا يخطر على باله غير ذلك، وخاصة إذا لم يعترض عليها أحد، لا من العلماء ولا من الدعاة، -إذاً- هذا كلام صادق. أيها الإخوة: القضية ليس فيها تكافؤ، فلا مقارنة بين ما يتكلم به أعداء الإسلام في وسائل الإعلام وبين ما يتكلم به الدعاة عن هذه القضايا، بل الإعلام يجد له صدى عندنا هنا في الداخل؛ وبهذا يضللوا الأمة عامة عن أحوال المسلمين، ولو أن واحداً يقوم في مكان ما في مسجد ما، ويقول أمام مائة أو مائتين أو ألف -مثلاً- فيذكر لهم الحقائق الصحيحة التي حلت بالأمة، ويحذر من المفاهيم المغلوطة -وهذا الكلام بين أفراد معدودين وليس بين الملايين- يراد له ألا يتكلم عن هؤلاء، وهذه مصيبة وجناية. أقول: من هذا الباب كنت أريد أن نخصص محاضرة عن الجزائر نعرف ما هي أصل القضية، وأنا أتوقع أنه لا يوجد أحد في الشرق أو في الغرب اطلع على تاريخ الجزائر أو سمع الأخبار عنها، إلا ويشعر أن الأمر فيه شيء غريب، وأظنكم كلكم تشعرون بهذا الإحساس، وهذا الإحساس والشيء الغريب هو: أن البلد بلد مفرنج، أو مفرنس بالأصح، مائة وعشرين سنة من الاستعمار الخبيث؛ حيث دمروا وأزالوا فيها كل ما يَمُتْ للإسلام بصلة، حتى اللغة غيروها، وبعد فترة وإذا بالعاصمة وحدها يأتي منها مليون شخص، يقولون: نريد الإسلام، رجالاً ونساءً، شباب ملتحين ومظهرهم إسلامي، ونساء محجبات، يريدون الإسلام، ما السر؟ لماذا لا يظهر في تونس، أو المغرب مثل هذا الشيء؟ ما هو السر؟ أيها الإخوة: إن الجزائر يشبه هذه البلاد بالدعوة، لأن أصل البلد فيه دعوة سلفية، قضي عليها لكنها لم تَمُت في قلوب الناس، والمتأمل إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه يجد أنها متميزة في جزيرة العرب، ولا شك أنها متميزة في التاريخ كله، لكن على غرارها وعلى منهاجها مع اختلافات -لكن المنهج والهدف واحد وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة- فقامت هذه الدعوة على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر، وانتهج الشيخ عبد الحميد بن باديس منهجاً علمياً، وهذا الذي نقوله دائماً: العلم العلم! فلا يأتي من يقول: نترك الجهاد، ونترك الدعوة من أجل العلم، لا، بل العلم أساس الدعوة، والعلم أساس الجهاد، ولكن أي علم؟ العلم الذي على عقيدة السلف الصالح. يقول الشيخ عبد الحميد: لا يمكن أن نبدأ بجهاد الفرنسيين وإخراجهم من البلاد لسببين: أحدهما: لتمكنهم ولسيطرتهم، وهناك سبب آخر هو الأهم وإن كانت تلك من الأسباب المهمة، لكن لأننا لما تركنا العقيدة الصحيحة، وأصبح الناس يتبعون طرق الصوفية والخرافات والشركيات والبدع، وجهلوا الكتاب والسنة، ولأن الأمة ليست لها علماء يوقظونها، ويحركون ضميرها، ويجاهدون بها، فإننا لو أردنا الجهاد، لقادنا فلان وفلان من المجرمين، ومن العلمانيين. إذاً: ما الفائدة؟! قال: أولاً: نؤسس العقيدة في قلوب الناس، ونؤسس العلم الشرعي الصحيح، ثم بعد ذلك يكون -إن شاء الله- الخير، فالشيخ عبد الحميد بقي أكثر من اثنين وعشرين سنة يفسر القرآن، ويدرس العقيدة في أحد المساجد، ويحضر عنده عدد معين من الطلاب، قد يصلوا إلى مائة وخمسين أو مائتين طالب -تقريباً- وكان يتجول أحياناً ويسافر، ويذهب إلى بعض المناطق، فإذا التمس من شاب في الأقاليم المختلفة أنه طالب علم، وفيه نباهة ونبوغ، وفيه خير، أتى به عنده ويصرف عليه من الأوقاف، ويجلس في الحلقة ويتعلم عشرين سنة، فأصبح عنده عدد كبير من العلماء من أقاليم مختلفة، ثم بثهم الشيخ في الأقاليم، يدعون الناس ويعلمونهم السنة، ويحاربون البدع، منهم الشيخ العقبي ومنهم الشيخ الميلي الذي ألف كتاب الشرك ومظاهره، وغيرهما، وبعضهم لهم كتب موجودة، إما زملاء للشيخ أو تلاميذ له، المهم: اتفقوا على هذا الشيء الواحد، وبعد العشرين نظروا وإذا الحمد لله الدعوة والعقيدة قد انتشرتا كل مكان، والفرنسيون: قابضون على البلاد قبضة شديدة، فقال الشيخ وزملاؤه: لا بد أن يكون هناك رابطة علمية، لا سياسية، ولا حزبية، حتى لا يقال: هؤلاء يريدون السلطة -مثلما تتهم مؤسسات الشرق الأوسط بجميع مجلاتها أصحاب الدعوات أنهم يريدون السلطة- ونسميها رابطة علماء السلف، فاجتمع العلماء والمشايخ من كل إقليم من أقاليم الجزائر وكونوا رابطة موحدة على منهج واحد وهو الكتاب والسنة. وهذه -والحمد لله- ميزة، إذا وجد في أي بلد وحدة المنهج، فهذه نعمة عظيمة، كما نحن في هذا البلد، منهج الاستدلال واحد -والحمد لله- وهذا يوفر كثيراً جداً على الدعوة؛ لأنك لا تضطر لأن تقول للشيء: إنه بدعة، والعلماء يقولون: إنه سنة أو العكس، فمنهج الاستدلال على الأقل واحد، وهذه نعمة، أن يكون المنهج هو منهج السلف، كذلك كان الحال في الجزائر، المهم أنهم لما اجتمعوا إذا بهم كلهم منهجهم في الاستدلال واحد، وقالوا: نريد أن ننشئ مجلة ونبدأ نبث وننشر دعوتنا على الأمة، ونطالب الأمة بأشياء، ونطالب الفرنسيين بأشياء، فتحركت الأمة كلها -طبعاً- وهل يعقل أمة يجتمع علماؤها ويصدرون مجلة، ولهم صوت مسموع، ولا تلتف حولهم الأمة؟! لا يمكن، وهذه من نعم الله، والأمة هذه فيها خير كثير جداً. لو اجتمع العلماء والدعاة في أي بلد على أمر واتفقوا عليه، واستمروا فيه، فإن الأمة تجتمع حولهم؛ لأن العلماء هم ضميرها المعبر، وهم الذين تثق فيهم؛ لأنهم يقولون: قال الله، قال رسوله، وتعرف أنهم لا يريدون الدنيا، ولكن لو أن أحد العلماء طالب بمنصب أو غيرها من أمور الدنيا لا تهموهم الناس، لكنهم لا يريدون إلا ما عند الله، فالناس لثقتهم في صدق نياتهم وسلامتهم، وأنهم يقولون كلمة الحق التي تغضب أكثر الناس عليهم التفوا حولهم. إذاً: الأمة الجزائرية، التفت حول رابطة علماء السلف، ولما التفت حولها، بدءوا بالجهاد، وهنا كانت سنة من سنن الله أن الغرب أذكى وأقوى وأكثر بما لا نسبة بينهما، فاستطاعوا أن يقطفوا الثمرة، ويأتوا بالاشتراكيين والخبثاء، ومن قبلهم الوطنيين -كما يسمون- وقطفوا الثمرة وحكموا البلد، ومسخت مسخاً كاملاً؛ حتى صارت اشتراكية، ثورية، ديمقراطية، شعبية، والاختلاط الذي كان الفرنسيون يخافون من تعميمه، عمموه هم، فقد كانت المرأة الجزائرية حتى في المدارس الفرنسية تلبس لباساً أشبه ما يكون بالحجاب، أو قريباً من الحشمة، ولما جاءت الثورة -مع الأسف- استوردوا لهم مدرسين ومدرسات من بعض الدول العربية المعروفة بالتبرج، فنشروا التبرج، مع أنهم لم يأخذوا من الفرنسيين التبرج، لكن لما جاء هؤلاء المسلمون أخذوا منهم التبرج، وهكذا حتى حكمت البلاد بـ العلمانية، وبـ الاشتراكية. ولما أراد الله سبحانه وتعالى لهم الخير، وجاءت الصحوة الجديدة عادت من جديد، والمجتمع فيه بقايا الخير، وفيه آثار الدعوة السابقة، الشيخ سحنون ما زال حياً -إلى الآن- وهو فوق الثمانين، فشكلوا رابطة علماء السلف، فاجتمعت الأمة حول هذا الشيخ وغيره من المشايخ، وقامت الدعوة مرة أخرى، ويريدون -أيضاً- أن تكون هناك دعوة سلفية، ويريدون أن يكون الحكم لله وحده، وبدون أي مقدمات، وبدون أي تكلف، وبدون أي نشاط حزبي قديم؛ وإذا بالملايين الجزائرية معهم لأن الأصل أن الخير موجود، والسلطة التي كانت تفرض عليهم الكفر ضعفت أو اختفت، أو أعطتهم حرية أنهم يقولون: ما يشاءون، فوجد هذا الزخم الهائل، واجتمعت أوروبا عدة مرات، كان آخرها

خطر التقنين على الأمة الإسلامية

خطر التقنين على الأمة الإسلامية الغرض مما تقدم أن نعرف أن هذا شرك عام وكفر طام، وأنه لن يقوم بدين الله إلا من أقامه وأحاط به من جميع جوانبه، فتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعبادة وبالذبح والنذر والخوف والرجاء كما دعا إليها الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم وغيرهم من الدعاة الكرام الذي هو توحيد الألوهية يجب أن ندعو إليه في كل زمان ومكان ولا ننساه أبداً، ولكن مع ذلك فإن الدعوة إلى أن يكون الحكم لله هو جزء منه، وليس خصماً للدعوة ولا لتوحيد العبادة، ولا نقول: إما أن نأخذ هذا أو هذا، بل نوحده سبحانه ولا نبتغي غيره إلهاً، وكذلك لا نبتغي غيره حكماً -كما ذكر الله تعالى في سورة الأنعام- ولا ولياً ولا رباً. ولذلك يجب على المسلمين أن يعرفوا الحق ويعتقدوه، ثم يلي ذلك أن يجاهدوا لإقامته ولو بالدعاء ولو بالحجة العلمية كما أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:1 - 3] أي: عرفوا الحق واعتقدوه وعملوا به: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أي: دعوا إليه. والصحوة الإسلامية اليوم في كل مكان هي في الأعم والأغلب صحوة سلفية أثرية، وهذه من نعم الله على هذه الأمة، ومن أوجب ما يجب علينا أن نجمع كلمة المسلمين على هذا المنهج -منهج السلف الصالح - وكل من أعلن أنه ينتمي إلى هذا المنهج نفتح له صدورنا ونقبله، وإن وجدنا فيه نقصاً أو خللاً سددناه ووجهناه. المقصود: أن الدعوات التي تقوم على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وجد فيها خطأ نرده وننصحها ونوجهها. والدعوات الرافضية والقائمة على منهج علم الكلام -كـ الأشعرية - مرفوضة، وإذا قامت دعوة قبورية شركية، فهذه لا نقبلها أصلاً، بل هي من ألدَّ الأعداء، فلا بد أن نكون جميعاً يداً واحدة على كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نسمح لأعداء الإسلام أن يدخلوا بيننا الفتنة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

قضايا وأحداث معاصرة

قضايا وأحداث معاصرة تناول الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة عدداً من الموضوعات: فكان الموضوع الأول يتعلق بمسألة استخدام السلاح ضد الحكومة في اليمن, موضحاً أن ذلك سوف يضر أكثر مما ينفع. وأما الموضوع الثاني فقد تناول فيه مسألة إطلاق كلمة السلف بدلاً من كلمة أهل السنة والجماعة؛ بغرض التميز بين من يتبع الكتاب والسنة وبين غيره، وقد بين خلال ذلك الفرق بين العبارتين. وأما الموضوع الثالث: فقد علق فيه على من زيارة بابا الفاتيكان لدولة السودان وغيرها من الدول الإسلامية، وبين أن ذلك دليل على ضعف عقيدة الولاء والبراء لدى المسلمين، وأنه لا ينبغي تشريف ذلك النجس بشرف زيارة الدول الإسلامية تحت أي تأويل.

واجب دعاة اليمن تجاه الأحداث

واجب دعاة اليمن تجاه الأحداث Q ما هو واجب الدعاة في اليمن، هل هو العمل الديمقراطي أم الجهادي؟

اعتذار

اعتذار ليسمح لي الإخوة بدقائق في موضوع مهم وحقيقة أنني أراه مهماً, وأنا مهتم بهذا الموضوع، وأنا أطلب المعذرة من الذين سألوني عنه مراراً وما منعني إلا أنّ الوقت لم يسعفني لأن أخصص له موضوعاً منفرداً، وأرى أن هذا الموضوع يتعلق بطرف آخر، وأريد أن أسمع منه، فلم أستطع أن أسمع منه حقيقة، لكن لا بد أن أتكلم وأن أقول نصيحة ينفع الله بها -إن شاء الله- ثم بعد ذلك لا بأس من الاستدراك أو من سماع رأي الطرف الآخر كعادتنا هنا، والحمد لله، اليمن في قلوبنا، هذا السؤال المهم يتعلق بالبلد الذي نحبه ويحبنا, والشعب الذي نحن منه وهو منا، وهم إخواننا الدعاة وإخواننا المؤمنون في الشعب اليمني الشقيق، الذي أراد الله له أن تكون حياته سلسلة من المآسي والفتن، لا يبعد فيها عن كثير من أقطار العالم الإسلامي، فقد تولى عليه الروافض في أول الأمر منذ نهاية القرن الثالث تقريباً، ثم تولت عليه الباطنية بعد ذلك، ثم في العصر الحديث -كما ترون- وبعد جهاد وكفاح طويل مع الباطنيين، انتصر عليهم الترك، ثم أخرج الترك، ثم جاءت الثورة المزعومة، وجاء عبد الناصر، وفعل بهم ما فعل، جزاه الله وعامله بما يستحق، ثم كانت المآسي والفتن التي لا تخفى عليكم إلى اليوم. هذا الشعب المؤمن، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، وهم أرق قلوباً وألين أفئدة وأقبل للبشرى، وهم الذين سيكونون المدد لهذه الأمة -بإذن الله-في حروبها مع الدجال، وفي ملاحمها مع الروم، كما جاءت بهذا الأحاديث، نقول: إخواننا هنالك في حاجة شديدة إلى أن ينصحوا فيما يتعلق بالعمل الدعوي الذي يسيرون فيه، وذلك أن كثيراً من الإخوة أخبروني، وكتبوا لي بأن هنالك من يريد أن يعلن الجهاد المسلح في هذا البلد؛ نظراً لتردي الأوضاع ولفساد أحوالها، ولا يخفى علينا هذا، وبالمقابل هنالك بالطبع -وهم الأكثر- من يخالفهم في هذا القول. فأحببت أن أقدم نصيحة لإخواني هنالك وهي لكل مسلم:

مضمون النصيحة

مضمون النصيحة إخوتي الكرام: إن الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واجب علينا جميعاً، ولا يخفى على أحد منا فضلها وأهميتها, ولكن يجب علينا أن نضبطها بمنهاج النبوة، حتى تكون الدعوة على منهاج النبوة وعلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل حتى تكُون موافقة لسنن الله تعالى في المجتمعات، وفي الكون؛ فإن لله تعالى سنناً، وهذه السنن اتبعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوته، فكانت مراحل كما تعلمون. ومن ذلك أن الجهاد إنما يأتي في مرحلة تالية، في مرحلة تكون السُنَّة الربانية فيها أقرب إلى التحقق، ولسنا أياً من كنا بأشد شوقاً وأكثر تلهفاً إلى الجهاد في سبيل الله، وإقامة دين الله من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرهم في أول الأمر بكف اليد، ويقول: إني لم أؤمر بذلك، حتى هيأ الله تعالى له ما أراد بالهجرة، وما يسر له من إقامة الدولة، وأن يكون هو رأسها وسيدها، فعندئذ أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، وهكذا كان ابتداء الجهاد إذناً وليس أمراً، والإذن إنما يكون بناء على طلب، وتلهف، وتشوق من الناس إليه، وهذا ما حدث في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفضل الجهاد وأثره العظيم لا ينكر، ولو خصصنا محاضرات وكتب في فضله وفوائده للأمة ما أتينا عليها، لكن هذه كلها يجب أن لا تنسينا حقائق لا بد من معرفتها ونحن نتعامل في حقل الدعوة إلى الله، وهي أن مرحلة الصبر والبلاغ والدعوة، والنذارة، هذه مرحلة لا بد أن تسبق ذلك كله، وهذه مرحلة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتجاوز، وهي التي قال فيها رسل الله لأقوامهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم:12]. حتى لو آذونا وسجنونا، وسجنوا من سجنوا، وآذوا من آذوا، لا عمل لنا إلا الصبر والبلاغ وإقامة الحجة، حتى يفتح الله تعالى بيننا وبينهم بالحق وهو خير الفاتحين، أما استعجال سنن الله تبارك وتعالى، وتوريط الأمة في مشاكل لا ندرك ولا نضمن عاقبتها، فهذا شيء يجب أن ندركه جميعاً، لا أقول في اليمن وحده، بل في كل مكان، ويجب أن نعلم أن هناك عقبات لا يصح معها أن يعلن الجهاد المسلح في هذا البلد الذي نحن حريصون كل الحرص أن يحكمه الإسلام في أقرب لحظة، وهذا الذي ندين الله تعالى به جميعاً، وهذا ما نريده لكل بلد في هذه الأرض ألا يحكم إلا بما أنزل الله. لكن لا بد من التنبه إلى الأوضاع الدولية، والنظر إلى العقبات الخارجية، فهل تسمح الأوضاع الدولية الآن بوجود جهاد مستقل؛ لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه، وسوف يكون التعاون بين الحكومة القائمة وبين الشرق أو الغرب، بين قوى نعلمها ولا نعلمها في سبيل القضاء على هذا الجهاد، لأن الغرب والقوى الدولية لا يريدون أن تتكرر مأساة أفغانستان أو إرتيريا , فهم حريصون على طمس هذا الجهاد هنا وهناك، في الفلبين أو في غيرها، هل يسمحون بالجهاد أن يكون في بلد مهم له موقعه المهم كـ اليمن، لا يكون ذلك أبداً. أهم من ذلك -في نظري مثلاً- هل إمكانيات الدعاة ووسائلهم تتيح لهم ذلك، لنكن موضوعيون فيما نعلم وما يظهر لنا، الدعاة لا يملكون العدد الكافي، والدعاة -أيضاً- لا يملكون الإعلام والجيش الكافي، وكثير من الناس لا يعلم عنك أي شيء، وكيف يتعاطف معك وهو لا يعلم عنك أي شيء. والدعاة -أيضاً- لا يملكون الاقتصاد والمال اللازم، وهكذا أمور كثيرة، على أن أهم من ذلك أيضاً أن نقول ما المقصود بالجهاد؟ إن كان المقصود به إعلاء كلمة الله؛ فإن أهم ما تعلى به كلمة الله تبارك وتعالى هو تصحيح العقيدة في قلوب الناس، كما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً إلى اليمن فقال له: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}، وفي رواية: {إلى أن يوحدوا الله}، إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له، هذه أول دعوة، أن نعلم الناس العقيدة الصحيحة، ونفهمهم إياها حتى يتفقهوا فيها، ويعرفوا من يوالون ومن يعادون فيها، وحتى نضمن أنهم إن جاهدوا جاهدوا لله لا لغرض أو مطمع دنيوي. ولا سيما في بيئة معقدة متشابكة كبيئة اليمن، فيها نواحي قبلية ونواحي طائفية، ونواحي مذهبية، وفيها أمور لا يستطيع الإنسان معها أو لا يضمن فيها ولاءً من أحد، وأيام الحرب بين الملكيين والجمهوريين، كان الأمر كان واضحاً، فالقبيلة إن أعطاها الملكيون المال انضمت إليهم، وإن أعطاها الجمهوريون انضمت إليهم، فالنفوس إن لم تكن صادقة متربية مزكاة بتقوى الله، كيف نضمن أنها تقف معنا، وإن وقفت في أول الأمر، أو جاءت بعض الأسباب التي نراها تشجعنا أن نجاهد أو أن نبدأ الجهاد، نحن نخشى أن تتحول العملية -لو قامت وإن شاء الله لن تقوم إلى العكس بل سيفكر الإخوة كثيراً في ذلك- إلى جاهلية وقبلية عنصرية، لا ندري، فقد ينفرط الحبل والزمام، ولا يكون بمقدورنا أن نسيطر عليه، وتتدخل القوى العظمى الخبيثة، لصالح طرف على طرف، أو تتحول اليمن إلى لبنان أخرى، أو أي بلد وهي حريصة على ذلك كما هي حريصة أن تفعل ذلك في السودان وفي أثيوبيا وفي غيرها. فمن المشاكل التي سوف تترتب على قيام مثل هذا: الفرقة بين المسلمين، وكفانا فرقة, وأكثر الدعاة، والمسلمين لن يوافق على هذا الأمر، فسوف يكون هناك من الفرقة بين المسلمين ما نحن في غنى عنه في هذه اللحظة، ولن تكون إلا الفرقة، ولن يكون مثل هذا العمل الذي يختلف الناس إلى نقيضين إلا عند غياب الشورى، فلو كانت الشورى بين الدعاة في الأمور الاجتهادية, ثم الرجوع إلى العلماء في الأمور النصية، ومشاورة أهل العلم في كل مكان لأن الدعوة تهم الجميع في كل مكان؛ فهذا هو الذي يجمع الأمة ويوحد رأيها. أما أن ينفرد أحد برأيه بجهاد أو حتى بدعوة، ويرى الآخرين رأياً آخر، ولا يكون هناك تواصل وشورى لأخذ هذا الأمر وهم في بلد واحد، فإن هذا يؤدي إلى تفريق الأمة، وإلى تمزيق كلمتها، ونحن نعلم من واقع اليمن وهذا يؤلمنا ولكن هذا واقع أكثر العالم الإسلامي -أن القبيلة أو المحافظة أو اللواء قد لا يكون فيها عالم، بل ربما طالب علم، لا يدرك إلا بعض ما يؤدي به الواجب، فالجهاد إذالم يكن هناك علماء يقودونه ويوجهونه، كيف نضمن له أن يستمر، وكيف نضمن له أن ينتصر؟! فالمربي مفقود، بل أكثر من ذلك القائد وهو الذي يكون مربياً وزيادة مفقود، إذ من المربين من لا يكون على قدر من العلم يؤهله في أن يقود طائفة، أو يربي جماعة في مسجد، أو جماعة من الشباب، أو حلقات علم، كيف يربي أمة؟! هذا أمر ليس بالأمر الهين، فحينئذ تضيع الأمور، ويأتي علماء السوء أو من أمثالهم، فيفتوا ضد هذه الأعمال، فتكون المأساة التي نسأل الله تعالى ألا تكون. وقد يقول البعض إلى متى نظل نربي؟ فنقول: نحن لا نستعجل أمر الله، نحن واثقون بوعد الله بالنصر لمن قام بهذا الدين، وكما جاء في الحديث الصحيح: {رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان والرهط، ورأيت النبي وليس معه أحد} بعض الأنبياء ما آمن به أحد، وما تبعه أحد، فعلينا ألا نستبطئ نصر الله، ولا نستعجل وعد الله، وأن نستمر في التربية والتزكية، والتفقه في الدين، وتصحيح العقيدة، والصبر على المخالفين في العقيدة، وفي المنكرات التي يجاهرون بها، حتى يفتح الله سبحانه قلوبهم للخير، وحتى تتكون قاعدة عريضة يمكن أن تقوم بدين الله سبحانه ولا تحوجنا إلى هذه الجهود التي لا ندري كيف تكون نهايتها, أو ما هو مصير هذه الأمور لو قامت؟! وأنا أرى أن القياس على أفغانستان أو على غيرها في غير محله، لأن أفغانستان العدو واضح، هو روسي شيوعي جاء بدباباته واحتل البلد، أما هنا فإن القضية ملبس عليها، فإن الحكومة تدعي أنها إسلامية, وتقول إن الدستور إسلامي، ومن العلماء من يؤيدها؛ فلا نقيس ذلك على أفغانستان، ولا على غيرها ولا ما أشبهها. وقد يقول البعض: ما هو البديل؟ هل ننضم للأحزاب السياسية وندخل البرلمان، ونتحول للعمل السياسي؟ فنقول: لا أيضاً, فليس هذا المقصود، إنما نريد دعوة على منهاج النبوة تبدأ بتصحيح العقيدة، وتفقيه الناس في دينهم وتعليم سنة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفتح هذه الحلقات الطيبة المباركة، من توعية الناس وتعليمهم وتثقيفهم في المحافظات، في الألوية، وفي القرى، وفي كل مكان بقدر الاستطاعة، وعن طريق المعاهد، وعن طريق تحفيظ القرآن، وعن طريق نشر الأشرطة، ونشر الكتيبات وتوعية الناس، دعوة تقوم وتحتسب وتصبر على الأذى, فهذه هي القاعدة الأساسية التي نريدها. أما ما يتعلق بالعمل السياسي وما تورطت فيه بعض الأحزاب من العمل السياسي، فنقول يجب أن تكون الأمور شورى، أن يستشيروا بعض، ويتشاوروا ويتباحثوا في مفاسدها ومصالحها، وهذه مسألة أخرى تحتاج إلى تفصيل وإلى بحث طويل، لأن هذه المشاركة قد يكون فيها بعض المصالح، ولكن في نفس الوقت فيها مفاسد واضحة لا تخفى على أي أحد. فلا بد أن تدرس هذه الأمور بعناية. وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للعمل الصالح وللصواب، وأن يجعل دعوتنا كلها خالصة لوجهة الكريم، إنه سميع مجيب.

تغير المصطلحات

تغير المصطلحات Q يقول: لماذا لا نستخدم عبارة السلف بدلاً من أهل السنة والجماعة؟ A لماذا لا تستخدمها أنت إذا كان أحد لا يستخدمها؟، وأنا أسأل هذا السؤال: وأقول: هل هناك فرق بينهما؟، في الواقع أنه لا يوجد أي فرق بينهما.

الفرق بين السلف وأهل السنة والجماعة

الفرق بين السلف وأهل السنة والجماعة السلف هم أهل السنة والجماعة بلا شك، لكن أهل السنة والجماعة هم السلف وأتباع السلف، فنحن نقول: نحن من أهل السنة والجماعة لكن هل نحن من السلف؟ لا لسنا من السلف، فـ السلف وأتباعهم هم أهل السنة والجماعة، وأخص من يطلق عليه اسم أهل السنة والجماعة وأولى من يطلق عليه هذا الاسم هم السلف الصالح، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال، {تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا من هي؟ قال: هي الجماعة} وفي رواية أخرى، قال: {هي ما أنا عليه وأصحابي} فهذا كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم الجماعة وهم الصحابة، وهم السلف، وفي الحديث {خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم} فالقرون الثلاثة المفضلة هم السلف وهم أهل السنة والجماعة. وإن القرن الثالث يعد القرنين الأولين هم السلف بالنسبة له، والقرن الثاني يعتقد أن القرن الأول هو السلف، وهذا حق فأن كلمة السلف هي كلمة نسبية، لكن إذا قلنا أهل السنة والجماعة؛ فإنه يشمل كل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى قيام الساعة، فيدخل في ذلك دخولاً أولياً الصحابة، فهم أولى الناس وأولهم، ثم التابعون، ثم تابعو التابعين، ثم من سار على هذا المنهج إلى الغرباء، الذين يكونون نزاعاً من القبائل في آخر الزمان، كل هؤلاء هم أهل السنة والجماعة. والعلماء عندما كتبوا كتباً مثلاً: أصول أهل السنة والجماعة فهم لا يعنون إلا غير أصول السلف، ولا يعنون شيئاً غير هذا، والإمام أحمد عندما كتب كتاب السنة، فهو يريد عقيدة السلف، أو الإمام عبد الله بن أحمد كذلك وهو ينسب له وأكثره عن أبيه. إذاً كل ما كتب وكل ما يقال عن السنة أو عن أهل السنة والجماعة فأول من يقصد به السلف الصالح، ومن سار على نهجهم، ولا تستحق المسألة أن تكون مشكلة عند أدنى طالب علم مثلاً. ويأتي الإشكال عند بعض الدعاة وبعض طلبة العلم، مثلاً يقول: إن بعض أهل البدع يدعي أنه من أهل السنة والجماعة، فنستخدم عبارة السلف حتى نخرجهم، فنقول: من يدعي أنه من أهل السنة وليس منهم، فهو قادر على أن يدعي أنه من السلف أو من السلفيين وهو ليس منهم، ثم هل نترك نحن كلمة شرعية عظيمة جاءت في كتاب الله استنباطاً كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] وفسرها العلماء، أن (الصراط المستقيم) قالوا: السنة، ونترك ما جاء في الأحاديث وهي كثيرة جداً {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين} وفي حديث آخر قال: {هي الجماعة} وكلام السلف في هذا يعد بالمئات، بل يمكن القول: إن الآلاف من الآثار ممن يستخدم مثل هذه الكلمة كلمة أهل السنة، فنترك كل هذه النقول من أجل هؤلاء المبتدعة، من أهل الكلام سواء كانوا صوفية أم معتزلة أم أشعرية، أم عصرانية، أم عقلانية، أو أشباههم يقولون: نحن من أهل السنة، نترك الكلمة الشرعية، من أجل إدعاء المدعين. فنقول: لا، السنة لستم من أهلها، فأنتم عقيدتكم كذا، وأهل السنة عقيدتهم كذا، كما ظهر قبل فترة من يقول إن الأشاعرة هم أهل السنة، والحمد لله تصدى لهم من بين أن أصول الأشعرية كذا وكذا، أما أصول أهل السنة والجماعة فهي بخلاف ذلك، فتبين أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة، بل هم من أهل البدعة والضلالة. فنحن بهذا نكون قد حررنا الأصول وميزنا فيما بينها، ووضعنا ضابطاً منهجياً علمياً نعرف به هذه المسألة، فلا تشكل علينا إن شاء الله. وعندما أتينا على شرح مسألة التفاضل بين الملائكة وبين بني آدم، فلما وجدنا عبارة لـ شَيْخ الإِسْلامِ قال: 'وكنت أحسب أن هذا الأمر محدث، فإذا بها قضية سلفية ' فقلت لكم: أنا أفرح عندما أجد هذه الكلمة في كلام الفقهاء الأولين، لأننا -والحمد لله- نحبها ونريد أن نعممها، وننشرها، لكنها فعلاً قليلة، لكن معناها واضح، والمعنى: هو أن ما كان عليه السلف الصالح من دين وعقيدة هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا المصطلح لا يخفى على أحد من الناس.

المعنى العام والخاص لأهل السنة والجماعة

المعنى العام والخاص لأهل السنة والجماعة وهنا ملاحظة لابد من التنويه إليها، وهي أنه يوجد فرق بين أهل السنة بالمعنى العام، وأهل السنة بالمعنى الخاص، أو نقول: أهل السنة المحضة، وأهل السنة العامة. قد يطلق أهل السنة أحياناً بما يقابل الروافض، وقد تقول: أهل السنة ويقابله المعتزلة، أو أهل السنة ويقابله المتكلمون، عامة، أو أهل السنة ويقابلهم الصوفية، فلماذا اختص بمقابلة الرافضة ومقابلة الشيعة، فيقال شيعي وسني؟! A لكثرة ظهور مذهب التشيع وانتشاره, ولأنه من أجلِّ البدع، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ فأصبح كأنه علم على البدعة ' فيقال: هذا الرجل إما سني وإما شيعي، مع أنه قد يكون مقصراً غير شيعي محض، ولكن هذا هو المعنى العام، فالناس الآن مثلاً في الخليج أو في العراق أو في بلاد الشام نقول هم إما أهل سنة وإما شيعة، لكن هل يعني هذا أنهم من أهل السنة المحضة، وأهل الاتباع المتبعين لمنهج السلف الصالح؟ لا، نعني فقط ليسوا شيعة، هذا المعنى الأعم. المعنى الأخص: أن تقول أهل السنة وتقصد في المقابل أهل البدعة، فتقصد بـ أهل السنة أهل الأثر , وأهل الاتباع الذين يأخذون ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصحابته، إيماناً واعتقاداً, وقولاً وعملاً, ولا يعارضون عن ذلك المنهج بأي منهج من المناهج البدعية، ولا بأي رأي من الآراء البشرية، فهم متبعون لا مبتدعون. فهم مقابل ما يسميه العلماء بـ أهل الحديث، أو أهل الأثر، أو أهل الاتباع، أو أهل السنة إلى غير ذلك من الألقاب، هذا هو المقصود بـ أهل السنة في هذا المعنى، عادة أن المقابل لهم هو أي مبتدع كان، وإن كان غير رافضي، فإذا كنت تريد أن تميز فرداً أو شعباً أنه ليس من الرافضة، فتقول: أهل مصر أهل سنة، بمعنى أنهم ليسوا شيعة، هذا وارد، وإن كنت تريد التزكية ليس مجرد التمييز فتقول: فلان من أهل السنة، أي أنه على منهج السلف الصالح، وليس من أهل البدع، لأن البدعة: هي ما أحدثت ولم يكن معمولاً بها ولا معروفة عند السلف الصالح. وأظن أن سبب الإشكال هو دعاوى أولئك، وإلا لم تثر هذه المسائل من قبل، ولذلك لا نجد أن العلماء المتقدمين قالوا: نحن السلفيون -بهذا اللفظ- لكن حقيقتهم هي أنهم كانوا سلفيين قولاً وعملاً واعتقاداً, ظاهراً وباطناً, وخاب وخسر من لم يكن سلفياً في قديم الدهر أو في حديثه لا شك في هذا، لكن هل نجعل أهل السنة والجماعة قسم والسلفيون قسم آخر، ونميز بينهما؟ هذا لا يصح لمجرد أن المبتدعة يدعون أنهم من أهل السنة، بل يوجد من أهل البدع إلى الآن من يقول أو يدعي أن دعوته سلفية، فهل نقره على هذه الدعوى؟ لا، يقر أبداً، فنقول إذاً: لا عبرة بدعوة المدعي وإنما العبرة بالحقيقة نفسها.

بابا الفاتيكان يزور دولة مسلمة

بابا الفاتيكان يزور دولة مسلمة Q تناقلت الأخبار والإذاعات نبأ زيارة بابا الفاتيكان للسودان الشقيق والترحيب والاستقبال له من حكومة السودان، وعلى رأسهم الفريق البشير والترحيب بقوله أنت هبة الله، وحسب ما تناقلته الصحيفة أن البابا أقام الصلوات المسيحية النصرانية على أرض السودان، فينبغي لنا نحن المسلمين أن نستنكر ذلك، باعتبار أن بلاد السودان بلاد إسلامية، نرجو رأيكم وما هي النصيحة في ذلك؟ A من عظم البلاء وعظيم الفتنة على المسلمين أن يتسابقوا لاسترضاء زعماء الكفر، وأن يتنافسوا على ذلك, وهذه لا شك أنها أحد مظاهر ضعف عقيدة الولاء والبراء, وانحراف المناهج الدعوية التي تشهده الأمة في هذا العصر. فالبابا في الفترة الأخيرة هو بين من يزوره وبين من يستزيره، والكل يخطب وده من حكومات العالم الإسلامي، والكل يشيد بدوره، ويتمنى له دوراً أكبر في حل مشكلة السلام، وفي إرجاع الحقوق الفلسطينية وفي غير ذلك، وكل واحد منهم يدعي أن له تأويلاً في ذلك. فهذا يقول نريد أن نؤيد البابا والنصارى، ونستظهر بهم على العدو الصهيوني، والآخر يقول: نحن نريد -كما هو حال السودان - أن نكسر حاجز العزلة، أو الحصار الذي يريد الغرب أن يفرضه علينا، فهذا إمامهم وزعيمهم الروحي يأتينا ونريد أن نثبت لهم أننا لسنا ضد حقوق الإنسان، وحتى لا يقول النصارى في الجنوب لماذا تقاتلونا؟ وغير ذلك، أنا أقول في الحقيقة كل هذه التأويلات مردودة ومرفوضة.

حقيقة البابا

حقيقة البابا البابا هذا عدو الله، وعدو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدو المؤمنين، ومن زاره، أو استزاره، وجامله، فهو لا شك مخالف للعقيدة الصحيحة، ولا شك أن هذا منحدر خطر، يقع فيه كل من فعل هذا العمل أياً كان، ولا يقبل أي تأويل ولا أي تعليل لمثل هذا الأمر، وخاصة أن يأتي إلى السودان وأن يقيم فيها الصلاة والقداس -كما يزعمون- هذا في الحقيقة منكر يجب أن ينكر ويعلن إنكاره، وأن يصل هذا الإنكار إلى من يهمه الأمر في السودان، فنحن جميعاً رحبنا وفرحنا بالخطوات التي قدمت والتي بذلت من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن أجل بناء دولة إسلامية في السودان، وهذا الذي نحن رحبنا به، وفرحنا به ولا زلنا نأمل فيه الخير -إن شاء الله- فلا يصح بأي حال من الأحوال أن يأتوا بمثل هذا العمل الذي لا يمكن أن يقرهم عليه أي مسلم. وأنا أنصح كل مسلم -عموماً- بما أمر الله تبارك وتعالى به من وجوب عداوة هؤلاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فيجب أن نعاديهم، وألا نأمنهم، وأن نعلن عداوتهم، ونحذر مكرهم وخططهم، ومهما ظننا أننا نستفيد من زيارتهم لنا، فالحقيقة نحن خاسرون، هم أمهر منا في السياسة، وأعلم منا بالفائدة المرجوة المتحققة.

نصيحة لدولة السودان

نصيحة لدولة السودان إنني أنصح بصفة خاصة الحكومة السودانية بأن تستقيم على أمر الله، هي وغيرها من الحكومات، لكن أنصحها هي بالذات لأنها ترفع هذا الشعار، أن تستقيم على أمر الله وتعلن الولاء مجرداً لله ولرسوله وللمؤمنين, وتعلن تطبيق الشريعة الإسلامية بكل صراحة وبكل وضوح. وعلى جميع الناس أن يعلموا أنها إذا فعلت ذلك فسوف تخسر الغرب, ولكنها سوف تكسب -أولاً- رضا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا أهم شيء في الدنيا، ثم سوف تكسب مشاعر وتعاطف المسلمين، وكثير من المسلمين مترددين في تأييدها؛ لأنها لم تعلن بقوة وبوضوح وبصراحة معاداة هؤلاء الكفار، ولم تطبق الشريعة الإسلامية تطبيقاً كاملاً، فهناك نوع من التردد، بل نوع من العداوة، ونحن لا نقر أن يعادى أي مسلم على أية حال، لكن موجود هذا في صفوف بعض الإسلاميين، نظراً لهذا التلكؤ والتباطؤ وتمييع بعض الأمور، وللخلل الفكري الذي نحن نعرفه، والخلل في المنهج الدعوي الذي يتبناه الدكتور حسن الترابي ومن معه، فنحن ننصح الحكومة السودانية أن تعرض عن كل عقيدة تخالف عقيدة السلف الصالح وأن تتبنى عقيدة السلف الصالح ومنهج الكتاب والسنة، منهجاً تدعو إليه وتعمل به، وإذا فعلت ذلك؛ فإن الله تعالى سوف ينصرها -هي وأي حكومة- سوف ينصرها ويعينها على الغرب وعلى غيرهم. أما إذا كانت قضية العقيدة قضية عامة أو مائعة، والتقدم إلى الإسلام أو إلى تطبيقه استحياء، وأن هذا نوع من المجاملة، وهذه قضية سياسية، وهذه قضية مصلحية، وهذه قضية كذا وكذا، ضاع الأمر الذي من أجله قامت الدولة، وقامت الحركة واستبشر المسلمون بقيامها، وإن كانت لم تحقق حتى الآن مما يدعو إلى التفاؤل الكبير، ولكن لا يشك أي إنسان أنها حققت أموراً وأشياءً كانت غير متحققة في السودان فيما يتعلق بالجهاد -جهاد النصارى- وبإحياء بعض الشعائر الإسلامية، وتعديل بعض المناهج، وهذه كلها أمور تشكر لهم، ولكن نريد منهم الاستقامة الكاملة والاعتصام بحبل الله والتوكل على الله، وترك هذه المجاملات، ونرجو أن يبلغهم استنكارنا الشديد لمرور البابا في السودان. يجب أن يعلم كل مسلم، أنه لا مكان للبابا ولا لأحد من أعوانه على أرض الإسلام، ولا يجوز أن يمسها ولا لصاحب قداسة، بل لا يجوز أن يعتقد أحد أن هذا الوصف صحيح، أن يقال له: صاحب قداسة، فهؤلاء أعداء الله، وهو زعيم الكفر في العالم، وزعيم الأمة الضالة، التي وصفها الله تبارك وتعالى بالضلال والكفر، فقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] , وقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] فكيف تكون له قداسة، وكيف يصبح له ذلك في بلاد المسلمين. أما وجود نصارى في السودان أو في مصر أو في غيرهما فيجب أن تقام عليهم أحكام الإسلام كاملة، والآيات التي أنزلت في سورة المائدة، آيات الحكم وسبب نزولها -كما تعلمون- هو اليهودي واليهودية اللذان زنيا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحد عليهما مع أنهما يهوديان، فلا يقال إن الشريعة لا تطبق إلا على المسلمين، بل لا بد أن تطبق على كل أحد ما دامت الحكومة حكومة إسلامية، وما دامت الدولة دولة إسلامية. ونسأل الله سبحانه أن يرد هذه الأمة إليه رداً حميداً، وأن يبصرنا بحقائق هذا الدين، وألا يجعل للمنحرفين في مناهجهم الدعوية أو الفكرية سبيلاً إلى تضليل هذه الأمة، وهذه الجماهير المسكينة التي يلبس عليها دينها هاهنا وهاهنا، والله المستعان.

مقاطعة سلع الأعداء

مقاطعة سلع الأعداء Q هل نحن أيضاً نطالب بعدم شراء ثمار الرافضة؟ A مقاطعة السلع الإيرانية وغيرها من بضائع الرافضة واجب، حتى لو لم يفعلوا ذلك، يجب أن نستغني عن بضائع الروافض واليهود والنصارى والمجوس والهندوس، وكل ما يدر مالاً أو دخلاً نتيجة تعامله معنا، وهو عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، يجب أن نستغني عنه بقدر الطاقة، وهذا التفاح يغنينا الله بأنواع أخرى من التفاح موجودة كثيرة من غير هذا الفعل، فكيف إذا فعلوا هذا الفعل؟! لو أنها شركة لأناس صالحين وطيبين ومسلمين، وداخل هذا البلد وعملت هذا العمل؛ لقلنا لا بد أن تقاطع، حتى لو جاء رئيسها واعتذر بعدم العلم، أو أن عندي عمال هندوس لا يعلمون، فلو قوطعت البضائع، ولو لفترة حتى يشعر الناس بأهمية، وبعظمة هذا القرآن وباحترامه وبقدسيته، فكيف والحال كما ذُكر.

الصلاة خلف أهل البدع

الصلاة خلف أهل البدع Q رجل دخل المسجد فوقع نظره على الإمام فإذا به من الأشاعرة المتعصبين, فخرج وأدرك الصلاة في مسجد آخر؟ A ليس عليك شيء، ما دمت عرفت الرجل بعينه وأنه من أهل البدع، وتركته إلى إمام آخر، فنقول بل أنت مأجور، ومشكور على هذا العمل، فمستور الحال -أي من لا يعلم حاله- يصلى خلفه، أما إن علم أن هذا مبتدع متعصب ومصر على بدعته، فهذا لا يصلى خلفه، ولا يتعمد ذلك.

كتب أحاديث الاحتجاج بخبر الآحاد

كتب أحاديث الاحتجاج بخبر الآحاد Q هناك كتاب للشيخ عبد الله بن جبرين بعنوان: أخبار الآحاد في الحديث النبوي، حجيتها، مفادها، العمل بموجبها ينصح الإخوة بالقراءة والاطلاع عليه؟ A الكتب كثيرة في الحقيقة، ونحن عندما اعتمدنا على الصواعق المرسلة، كان هناك سبب, وهو أن نناقش المتكلمين ونرد عليهم ونبسط شبهاتهم، ثم الإسهاب في ردها تفصيلاً، وأكثر من رد عليهم فيه هو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في نقض التأسيس , ومع الأسف أن الجزء المتعلق بهذا الموضوع مفقود كله -أو أغلبه- من الطبعة الموجودة الآن، أما في المخطوط فهو موجود، لكن ابن القيم -رحمه الله- أجمل ذلك، وهذبه واختصره وفضله في الصواعق بكلام عظيم نافع جداً، وأنتم -إن شاء الله- أهل لأن تفهموا كلام ابن القيم، لكن ما كتبه هو أو الشيخ الألباني حفظه الله، أو غيرهما فهذا من الاحتجاج بخبر الآحاد في العقيدة من كتب أو كتيبات أو حتى أشرطة، فالكل نافع وموجود، إن شاء الله، لتصحيح وتأصيل هذا الأصل العظيم من أصول أهل السنة والجماعة.

السؤال عن صفات الله

السؤال عن صفات الله Q هل صحيح -كما يذكر بعض العلماء- أن السؤال في أمر الصفات من الأمور المحدثة، وأن الصحابة لم يكونوا يسألون عنها؟ A هذا كلام مجمل، يجب أن يفصل، إن كان القائل يريد أن يقول: إن الصحابة لم يسألوا عن صفات الله مطلقاً، ولم يسألوا عن معرفة الله، ولم يستوضحوا شيئاً يزيدهم معرفة بالله، فهذا باطل، بل سألوا أسئلة كثيرة في هذا. وأما إن كان مراده أن الصحابة رضي الله عنهم آمنوا بأحاديث الصفات وآياتها، ولم يسألوا عنها ولم يجادلوا فيها ولم يخوضوا في كيفيتها، بل لما قال رجل للإمام مالك أو لـ ربيعة: كيف استوى؟! قال: إنك رجل سوء. وطرده من المجلس، نقول: إن كان هذا فنعم، فالصحابة رضي الله عنهم أجل وأعظم وأقرب إلى الله تبارك وتعالى، وأعرف به من أن يسألوا عن كيفية صفات الله أو أن يجادلوا فيها, أو يخوضوا بما لا علم لديهم ولم يقفوا به علماً، إذاً هذه المسألة. أما سؤالهم عن شيء يتعلق بالله فقد كانوا يسألون، فقد سألوا عن أفعال الله وعن أمور عظيمة جداً ومن الأمثلة على ذلك، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] سأل الصحابة عن ربهم سبحانه: أقريب -ربنا- فنناجيه أم بعيد فنناديه؟! سألوا عن الضحك، سألوا عن رؤية الله سبحانه، حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، لما جاءه أهل اليمن، قالوا جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كان الله ولم يكن غيره شيء، وخلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء}. هذا أعظم سؤال في تاريخ البشرية، لا يوجد سؤال يسأل عنه الناس أكثر من هذا السؤال، حتى الكافرون والملحدون يسألون عن نشأة الكون كيف بدأ، الشيوعيون الذين لا يؤمنون بخالق يبحثون بحثاً طويلاً عن نشأة الكون، وهذا العالم الكبير جداً -عالمهم أوبا ريل -حاول أن يضع لهم نظرية في نشأة الكون وغيره وغيره، فأهم قضية هي كيف نشأ هذا الكون؟ وهؤلاء ليسوا من خلص الصحابة أيضاً، إنما هم من أهل اليمن، وفد جاءوا ليسلموا وجلسوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبلوا البشرى -بعد أن ردها بنو تميم- {اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، قالوا: قبلنا يا رسول الله} فجاءوا وجلسوا وسألوه عن هذا يدل على أن أذكى وأعقل الناس وأبعدهم الناس نظراً، وأعمقهم فكراً هم الصحابة رضي الله عنهم. أما المبتدع في الإسلام فهو يسأل أسئلة تحير الفلاسفة وتقض مضاجعهم, وهم يعلمون أن الجواب الشافي الكافي يأتي من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ وهذا سؤال عظيم جداً، فبين لهم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأول الذي ليس قبله شيء، ثم إنه خلق القلم -وهو المقصود بكتابة الذكر- وأمره أن يكتب كل شيء، فكتب كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم خلق الإنسان، خلق آدم ومنه جاءت الذرية، فعرفنا الجواب الذي يخوض فيه الخائضون ولا ينتهي خوضهم. أما الكيفيات الأخرى، كنظرية الانفجار العظيم، وهي أكثر نظرية يدرسونها في علم الفيزياء وكيف نشأ الكون؟ وأن انفجاراً عظيماً أوجد هذا الكون ابتداءً، كما ذكر في ستة أيام والأيام عند الله سبحانه لا ندري ما هي بالضبط ولا يهمنا منها شيء، قال تعالى {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] المهم أنه هو الذي خلقها وأن يقر الأمر هذا كما أخبر في كتابه، وكما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن التفاصيل التي يسيرون عليها ويتيهون ويضيعون فيها، لا يهمنا كثيراً، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت:20] المهم أننا نصل إلى أن الله تعالى هو الخالق والموجد، وهو الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وهو الذي وضع كل شيء بميزان، هذا هو الذي يجب أن نؤمن به، وهذه خلاصة المتكلمين والمتفلسفين والباحثين في هذه القضايا. الصحابة رضي الله عنهم سألوا حتى عن القدر، قالوا: الأمر أُنف أم بما نستقبل ونستدبر؟ قالوا: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فأجابهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الأمر ليس أُنفاً وإنما قد كتبه الله كما في الحديث المعروف الذي رواه أبو بكر وجابر وعلي وأبو هريرة وأبو الدرداء وجمع من الصحابة رضي الله عنهم وهو أنه لا بد من العمل قال: {اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:4 - 9]} إذاً كل ميسر لما خلق له، ولكن هذا بناءً على عمل.

حوار مع الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي

حوار مع الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي في هذا الحوار تناول الشيخ حفظه الله مسألة الخلاف وحكمه في الإسلام، مبيناً الجوانب التي يسوغ فيها الخلاف، والجوانب التي لا يسوغ فيها، كما شدد على الضوابط التي يجب التقيد بها عند ورود الخلاف. ثم بين دور العلمانيين ومن شاكلهم في الطعن على من ينتسبون إلى منهج أهل السنة والجماعة، عاقداً خلال ذلك المقارنة بين نهج أهل السنة في التعامل مع مخالفيهم ونهج من سواهم ممن ينتسبون إلى المناهج الأخرى. كما بين خلال هذا الحوار المنهج القويم الذي يجب على أهل السنة التقيد به في سعيهم إلى التغيير.

ضوابط الإنكار في مسائل الخلاف

ضوابط الإنكار في مسائل الخلاف Q هناك من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، فهل هذه القاعدة صحيحة، وتؤخذ على إطلاقها؟ ولماذا يتكئ عليها دعاة العصرنة اليوم؟ A الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن القول بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، هو قول قديم مأثور، تداوله بعض العلماء من قبل، ولكنه يستخدم الآن لأغراض خبيثة أوسع وأبعد مما كان من قبل، كغيره من المصطلحات، ومن القواعد التي توسع فيها في هذا الزمن لغرض إفساد هذا الدين. ولا شك أن هذا المصطلح أو هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فإنه ليس كل خلاف يعتبر كما ذكر ذلك العلماء الثقات من علماء أهل السنة والجماعة. فالخلاف قد يكون غير جائز، كمن يخالف نصاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو إجماع السلف الصالح، فإذا كان الخلاف بين رأي أو اجتهاد أو شيء من ذلك، فإن هذا الخلاف لا يعتبر، ولذلك قال بعض العلماء: وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر فما لم يكن له حظ من النظر في الأدلة الصحيحة، كأن يكون الخلاف في مفهوم حديث أو آية، فهذا معتبر، وما لم يكن كذلك فإنه لا يعتبر. وإذا كان الخلاف بين نص عام ونص خاص، فلا شك أن الخاص يخصص العام ويقدم عليه. فعلى هذا -أيضاً- لا ينظر لمن خالف متمسكاً بأدلة العموم في مقابل من تمسك بدليل خاص، أو من تمسك بدليل مطلق في مقابل من يتمسك بالدليل المقيد له. وهذه كلها قواعد مضبوطة عند العلماء في علم الأصول وفي غيره. وكذلك إذا كان المخالف يعتمد على دليل غير ثابت، كمن يستدل بحديث ضعيف أو موضوع أو قياس فاسد، فكل ذلك لا يعتبر، وإن كان هو في الحقيقة خلافاً. وهذا لا يعني أن المخالف نفسه لا يكون مأجوراً، بل قد يكون المخالف مأجوراً؛ لأنه بذل وسعه وطاقته وجهده في الوصول إلى الحق، ولكن هذا هو غاية ما وصل إليه بحثه ونظره واجتهاده، لكن لا يجوز لمن علم أنه لا دليل له إلا هذا أن يخالف الدليل الصحيح الثابت، أو إذا كان الخلاف في الدلالة، فلا يجوزله أن يخالف الدليل القطعي الدلالة، لوجود خلاف سابق، ويقول: إن المسألة خلافية، فالرجوع عند الخلاف إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما هؤلاء العصريون وأمثالهم، فهؤلاء ينطبق عليهم أكثر ما ينطبق المقولة السابقة، وهي: أنه من تتبع رخص العلماء تزندق، فهؤلاء يأتون إلى كل مسألة من مسائل العلم، ويقولون هذه خلافية، وهذا فيه خلاف. وتتشعب هذه الأمور حتى لا تنتهي الأمة إلى شيء. وهذا يذكرني بما يأتي في ديباجة بعض القوانين الوضعية أو الدساتير، فبعد أن يذكروا نصوص القانون فيما يسمونه المصادر الاحتياطية للتقنين، يقولون: يرجع إلى الشريعة الإسلامية على اختلاف بينهم، فبعضهم يجعلها الثالث أو الثاني من المصادر الاحتياطية، فيقولون: يرجع إلى الشريعة الإسلامية دون التقيد بمذهب معين، بل بما يتفق مع روح هذا القانون، دون التقيد بمذهب معين، حتى ولو كان زيدياً، أو رافضياً، أو ظاهرياً، ولو كان قولاً ضعيفاً أو أثر من قبل. وهذه تفتح باباً عظيماً من أبواب الضلال على الأمة، وتشتت وحدتها العملية، كما أنها شتتت وحدتها الفكرية والنظرية.

أنواع الاختلاف

أنواع الاختلاف Q ولكن يا شيخ! مفهوم هذا أن الخلاف لا بد أن يبقى في الأمة، فهل يمكن أن نقول: إن هناك مواضيع يجوز أن يحدث فيها الخلاف، ومواضيع لا يجوز أن يحدث فيها الخلاف؟ الجواب: نعم. الخلاف باقٍ كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] سواء أكان في العقائد، أم في الفروع، وكلامنا نحن الآن في الفروع، في الاستدلال. الخلاف باقٍ؛ لكن يسوغ ويصح ويجوز في موارد الاجتهاد، وهي كثيرة جداً، فيما يسميه -علماء الأصول- تحقيق المناط، وهذا وارد بأن نتفق جميعاً على النص الشرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح. أيضاً قد نتفق على هذه، ولكن نختلف في تحقيق مناط هذا الدليل الصحيح سواءٌ كان كتاباً أو سنةً أو قياساً أو إجماعاً، فهذا سائغ ووارد، ولا بد أن تختلف فيه الأنظار، وهو طبيعي، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى. وكذلك يمكن أن يأتي الخلاف في مسائل تتعلق بالدلالة، كما أشرنا بأن يفهم البعض أن هذا يدل دلالة صريحة، والآخر لا يفهم ذلك، وهذا واقع حتى بين الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن بعدهم من العلماء فهذا حق، وهذا واقع، لكن هذا شيء وما يستدل به أولئك -كما أشرنا- شيء آخر.

الخلاف في الأصول والفروع

الخلاف في الأصول والفروع Q بالنسبة للتفريق في مسائل الخلاف بين الخلاف في الفروع والخلاف في الأصول. كأني أفهم أنك تميل إلى أنه لا يقبل الخلاف في الأصول، فهل هذا القول على إطلاقه؟ الجواب: ينبغي أولاً: أن نوضح معنى الأصول، فنحن نقصد بالأصول: الاعتقادات، أي: الأصول الاعتقادية، وهي ما أجمع عليه السلف الصالح -رضوان الله عليهم- من أبواب الإيمان والعقيدة وهي كثيرة، فهذه مجمع عليها والمخالف فيها لا يكون مجتهداً، وإنما مبتدعاً أو قد يكون مخطئاً إذا كان من أهل السنة والجماعة وخالف في مسألة لم تبلغه أو لم يستطع أن يحيط بها علماً وما أشبه ذلك، ولا يعتبر خلافه ولا يعتد به غيره. ولا شك أن الأصول التي هي العقيدة فيها مسائل فرعية ضمن مسائل العقيدة، مسائل فرعية من فرعيات العقيدة أو هي مما يترتب أو يستنتج من الأصول، وهذه يسوغ فيها النظر كما يسوغ في الفروع العملية. ومن الأصول أيضاً غير قضايا العقيدة: أساسيات الأحكام أو أصول الأحكام، كالأمور المعلوم وجوبها من الدين بالضرورة، أو الأمور المعلوم من الدين تحريمها بالضرورة، فإن الإيمان بها ومعرفتها يدخل في موضوع الأصول، ولا يجوز بحال من الأحوال الخلاف فيها، ولكن قد يقع الخلاف في فروعها، كما ذكرنا في فرعيات أو جزئيات العقيدة.

العصرانيون ومسائل الخلاف

العصرانيون ومسائل الخلاف Q أيضاً: بالنسبة لموضوع مسائل الخلاف خاصة في الفروع وهي التي يكثر الدندنة حولها من قبل العصرانيين في هذا الزمان، نجد أن هذه المسائل التي يشيرون إليها منها ما كاد يكون الإجماع يتم عليه وإن كان هناك من خالف، لكنهم قلة ويُعتبرون شواذ، وهناك مسائل الخلاف فيها دائر، ونجد أهل السنة منقسمين فيها، فهل هناك فرق بين هذا وذاك؟ فمثلاً مسائل الغناء نجد من خالف فيها مثل إبراهيم بن سعد أو ابن حزم وهم شواذ، فليست هذه المسألة من المسائل التي يكثر فيها الخلاف؟ A في نظري أنه ينظر للأمر من زاويتين: الأولى: أن هؤلاء إنما يريدون الطعن في مصادر التشريع الإسلامي بإطلاق، ولذلك يطعنون في الإجماع توصلاً بذلك إلى الطعن في بقية المصادر، لأن الإجماع أقوى الأدلة - كما تعلمون - لأنه لا بد أن يستند إلى نص من الكتاب أو السنة، فمع دلالة النص يضاف إلى ذلك الإجماع في فهم النص ودلالته، فيطعنون في الإجماع، ويطعنون في القياس مهما كان جلياً في الجملة، ويطعنون في دلالة نصوص الكتاب [[والقرآن حمّال وجوه]] كما أُثِرَ ذلك عن السلف - ثم يأتون إلى السنة فيطعنون في ثبوتها، إما جملة وإما بعضها دون بعض على اختلاف مشاربهم ومواردهم، فهم يريدون هدم مصادر التشريع من جهة، فهذا جانب. والجانب الآخر: أنهم يأتون إلى خلاف حقيقي وموجود كما ذكرتم في مسألة الغناء، لكن يتناولون هذه القضية كما تناولها العلماء من قبل بأن يقال: هذه مسألة فيها قول ونحن نرجحه ونميل إليه، وليس هذا فقط. فمثلاً كتب أحدهم كتاباً مستقلاً عن هذه المسألة وبعض المسائل الأخرى، سماه آراء تقدمية في الفكر الإسلامي، فاعتبر أن قول ابن حزم وأمثاله في مسألة الغناء أنه حلال، وأنه رأي تقدمي عصري، ومساير لروح العصر والحياة، وأنه سبق من أتى من بعده من المتأخرين، ورأوا أن هذه الموسيقى والغناء ضرورة عصرية، فرأى أن هذا هو التقدم العصري والرأي التقدمي، وأن تحريم الغناء هو رأي -بالمقابل- رجعي، مع أنه هو الثابت وهو الصحيح، وهو الذي دلت عليه النصوص. فليست المسألة ترجيح قول أو أخذاً لقول دون قول، وإنما تقديم لقول مرجوح، وبشكل يزري ويطعن في الرأي الآخر جملةً وتفصيلاً، فهذا خطر كبير، ولا شك أنه يترتب عليه آثار تصل إلى حد التقديم بين يدي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورد النصوص بمجرد الرأي والهوى نسأل الله العفو والعافية.

مسائل الخلاف ومسايرة العصر

مسائل الخلاف ومسايرة العصر Q إذاً: هذا يفضي إلى الطريقة التي يرجحون بها في مسائل الخلاف، وهذه الطريقة بحسب معرفتي هي طريقة لم يسبق إليها أحد من العلماء، وهي أنهم ينظرون في مسائل الخلاف، ويرون الأنسب لما يزعمونه من أمور العصر، والحقيقة أنه الذي يوافق الهوى، فإن طريقة العلماء السابقين أنهم يوازنون بين الأدلة من حيث قوتها وضعفها وبمرجحات أخرى كما بلغت عند العلماء أوجهاً كثيرة، فهل هذه الطريقة التي يرجحون بها يمكن أن يحكم عليهم من خلالها بأنهم مبتدعة وأنهم خالفوا سبيل المؤمنين السابقين؟ A لا شك -كما أشرنا وكما ذكرتم- أن القضية هي قضية المعيار، فالمعيار لديهم ليس معياراً شرعياً، وليس هو معيار العلماء الذين ينظرون في الأدلة ويُرجحون بينها بناءً على مرجحات، وعلى نظر صحيح واجتهاد سائغ، وإن كان أحياناً خطأً، إنما المعيار لديهم هو الهوى واتباع المتشابه وترك المحكم كما ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا هو الأصل عندهم. فهم يقدمون النصوص المتشابهة على المحكمة، ويأخذون بالأمور والنصوص المجملة ويقدمونها على المبينة، ويقدمون الآراء الشاذة الغريبة على الإجماع، كما في نظرية الطوفي وغيره، وهي تقديم المصلحة على النص، وهذا رأي شاذ لم يسبق إليه ولم يقل به أحد قبل الطوفي في القرن الثامن. ومع ذلك، فإن هذا هو أكبر ما يعتمدون عليه الآن، ولو تأملنا حقيقةً لوجدنا أن الهوى هو الدافع الأساسي، وهو مسايرة روح العصر، وهذا هو الأصل عندهم، ثم بعد ذلك أخذوا ينقبون، فإن وجدوا قولاً شاذاً أو ضعيفاً أو مغموراً، أو أن هناك احتمال شبهةٍ أو شذوذٍ أخذوا به، ولهذا يرجعون إلى عموم الآيات التي يمكن أن يتسع مفهومها لمعانٍ واسعة جداً، فيعارضون بها الأدلة الصحيحة الصريحة الأخرى. فمثلاً: عندما ينظرون إلى الميراث ومعاملة المرأة -مثلاً- يستدلون بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. ولا يشك أحد أنها آية عظيمة في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتضع معياراً ومنهجاً في التعامل بين الناس؛ لكنهم يعارضون بها أحكام القوامة -قوامة الرجل- وأحكام الميراث، وأحكاماً أخرى كثيرة وهكذا قس على ذلك بقية الأمثلة، فهم بلا شك مبتدعة، وهذا هو منهج ما كان عليه أهل البدع من جهمية وخوارج ومرجئة ولو تأمل المتأمل، فإنه يجد أن العصرانيين هم خليط متمازج من هذه المذاهب القديمة، وأيضاً من آراء الباطنية وإخوان الصفا وأشباههم، ثم أضافوا إليه زبالة وحثالة الفكر الغربي الذي أخذوا منه، من هنا وهناك، ودرسوه، ولذلك لا نجدهم يجتمعون على أصول وقضايا محددة، كل ما يجمعهم هو نسف هذه الأصول، وهذه المصادر، وهذا التراث، ثم بعد ذلك يطلق العنان للشهوات، والآراء، والشبهات، حتى تذهب بالأمة يمنة ويسرة.

العصرانيون واجتهاداتهم في مسائل الخلاف

العصرانيون واجتهاداتهم في مسائل الخلاف Q فإن قالوا: نحن مجتهدون، وهناك قاعدة تقول: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فماذا نقول؟ A أما القول بالاجتهاد فهذه دعوة مردودة، فإن المجتهد له شروط، والعلماء بينوا شروط الاجتهاد من العلم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولغة العرب، ووجوه الخلاف، والاطلاع على كلام الأئمة في هذا الشأن، سواء كان الاجتهاد اجتهاداً مطلقاً أو اجتهاداً في قضية معينة. فالاجتهاد له شروط، وبعض هؤلاء -ونحن نعرفهم شخصياً ونعرف كتبهم- يجهلون الكتاب والسنة جهلاً فاضحاً، وإن عرفوا شيئاً فإنما عرفوا نُتفاً من الكلام، جمعوها من هاهنا وهاهنا، وإن أجادوا أو أتقنوا شيئاً فهو من شبهات المستشرقين، وآراء المفكرين الغربيين، فهذه هي بضاعتهم التي يؤثرونها ويقدمونها، ويقيسون عليها بعد ذلك ما يجدونه في تراث الإسلام، فلا يحق ولا يصح لهم ولا لمن كان غير أهلاً للاجتهاد أن يدَّعي أنه من أهل الاجتهاد.

من صفات أهل السنة والجماعة

من صفات أهل السنة والجماعة Q لعل هذا الحديث يجرنا إلى الحديث عن منهج أهل السنة والجماعة وهي الطائفة المنصورة بنص حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهل يمكن أن نحصل على أهم ملامح لمنهج هذه الطائفة؟ A هي كثيرة، ويمكن أن نجملها في أنها متبعة للكتاب والسنة، أي: ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، كما جاء في بعض روايات حديث الافتراق. وأنها تحيي الدين وتجدده، بل وتقاتل عليه كما جاء في بعض الطرق الصحيحة: {لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم} فهم يحيونه أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، وجهاداً في سبيل الله عز وجل. هذا أعظم ما يميزهم أنهم أهل اتباع، وليسوا أهل ابتداع، وأنهم أهل دعوة كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. فهم أهل دعوة وأهل أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وهم أولى الناس بقوله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. ويتجلى أمرهم ودعوتهم في بيان الحق وتبيلغ السنة وإحيائها، سواء منها السنة الاعتقادية أو العملية أو القولية، إلى أن يصل الأمر إلى إنكار المنكر باليد، ثم إلى أن يصل إلى جهاد الكفار والمنافقين، وهو أعلى درجات الجهاد، كل ذلك من صفات أهل السنة والجماعة. كما أن من أعظم ملامحهم صفاتهم: التأسي برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته الكرام في التخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، فهم يجمعون بين صحة الاعتقاد وصحة المنهج الدعوي، واستقامة الأخلاق، والسلوك والمعاملة مع الخلق. ويترتب على ذلك أنهم أعدل الناس مع الناس، ولو اختلفت جميع الفرق فإن الذي يحكم بينهم وينصف بينهم هم أهل السنة والجماعة، لأنهم أعظم من قام بقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، فهم أعدل الناس، وهم أرحم الناس بالناس، ولذلك من عدلهم ورحمتهم أنهم يُخطِّئون ولا يكفرون إلا من كفَّره الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثبت عنه ذلك، وتوفرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع.

منهج أهل السنة وشمولية الدين

منهج أهل السنة وشمولية الدين Q بعض الناس يظن أن أهل السنة والجماعة ينبغي أن يقتصر كلامهم على العقائد والأحكام والوعظ ونحو ذلك، وأنهم لا دخل لهم في أمر الواقع وبخاصة الكلام في السياسة وما يهم واقع المسلمين من جميع الجوانب السياسية، والتي تجعلهم ضعفاء في أوساط هذا العالم المتلاطم الأمواج، ويقصر مفهوم أهل السنة والجماعة على ما أشرنا إليه سابقاً وينحيهم عن الكلام في هذه المواضيع، فما رأيكم في ذلك؟ A هذا لا شك أنه خطأ، وربما يكون انحسار عقيدة الإسلام، ومفهوم الدين، ومفهوم أهل السنة والجماعة، وتخلف المسلمين في الواقع هو الذي جعلهم يبررون هذا الواقع بمثل هذه الدعاوى، وإلا فإذا نظرنا نظرة حقيقية علمية منصفة، وفي نظري لو نظرها أي إنسان غير مسلم فضلاً عن المسلم، فإنه يجد أن عقل المسلم هو العقل الوحيد المفكر في هذا الكون تفكيراً شمولياً عالمياً. أي عقل في الدنيا أو مذهب أو مبدأ يمكن أن يُفكر في هذا الوجود من أوله إلى منتهاه، ويمتلك أدوات التفكير الصحيحة، لا يوجد غير عقل المسلم. فنحن -والحمد لله- نؤمن ونعلم -بالتفصيل-بداية هذا الكون، وكيف نشأ، وما الذي حصل، كما في حديث وفد اليمن المروي من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- الذي أفرده شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بشرح مستقل {جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان}. نحن نعلم بالتفصيل ما حار وما تحار فيه عقول أكبر العلماء -علماء الطبيعة-ولن يصلوا إلى شيء من ذلك من نشأة الكون ونشأة الإنسان. فنحن نعلم -بالتفصيل- الأبعاد الزمانية والمكانية لهذا الكون، ولا يمكن أن يعلم غيرنا ذلك إلا التخمينات والظنونات، فأخبار أبينا آدم عليه السلام ثم ما بعده من الأمم، كنوح عليه السلام وماذا حصل له، ثم عاد، ثم ثمود إلى إبراهيم عليه السلام. أما أهل الكتاب فإنما تقتصر معلوماتهم على إبراهيم عليه السلام وما بعده، وأما ما قبل ذلك فلا يعلمون شيئاً إلا عن آدم عليه السلام، وأما نحن -أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنملك التصور الكامل في الماضي. ثم ننتقل إلى المستقبل فنجد أننا نملك تصوراً سليماً عنه كأننا نرى هذه الأحداث أمامنا، نعلم أن ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفتن، ومن أشراط الساعة، ومما يقع في آخر الزمان، ثم كيف يكون النفخ في الصور، ثم الحشر، ثم البعث إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فكل هذه الأبعاد الزمانية لا يمكن لأي عقل بأن يصل إليها، ولكن الإنسان المسلم يجد ذلك، بل العجوز المؤمنة تشعر بذلك، وهذا دليل واضح على أن عقل المسلم هو الذي يُفكر تفكيراً شمولياً، وتفكيراً عالمياً. وقد جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين من عند الله، فنقل العرب من محيط التفكير القبلي المحدود، حيث كان الشاعر يتغنى في معشوقته، وفي ناقته، وفي أمجاد قبيلته، إلى التفكير العالمي، حتى أصبح العرب يتحدثون عن الفرس والروم وعن مصائر الأمم. يجلسون المجلس ويتكلمون عن التأريخ السحيق، عن عاد وثمود، أو يتكلمون عن المستقبل البعيد، عن أحداث آخر الزمان، كيف سيكون الروم، كيف ستكون الملاحم، بل ويتحدثون -أيضاً- عن واقعهم، كيف ستكون أحوالهم؟ حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- في الصحيح لما ولى الفرس ابنة كسرى، قال: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة}. وهكذا أحداث عالمية كانت تقع ويتفاعل معها الواقع في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الكرام، كما في أول سورة الروم، بشارة الله تبارك وتعالى أنه من بعد غلبهم سيغلبون وهكذا. فعندما نتأمل مثل هذه الأمم، نجد أن الأصل في التفكير الإسلامي العادي هو هذه الشمولية، فكيف بالدعاة الذين يتصدرون لإصلاح أوضاع الأمة، وهم في وضع معقد، متشابك، متداخل الفكرة، أو المبدأ. إذا حدث أمر بالمسلمين في باريس أو موسكو أو نيويورك تكون لدينا ويراها الملايين من أبناء هذه الأمة، فكيف يليق بنا عملياً ولو لم يكن نص على ذلك؟ من الناحية العملية، على الأقل، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا بد أن نعرف هذه الأمور، وأن نعرف كيف نقاومها، ونعرف كيف نواجهها، وعندنا نماذج من هذا التفكير، والحمد لله هذا الإمام أحمد رحمه الله، عندما نستعرض سيرته، ونستعرض كتبه ككتاب الإيمان، وكتاب الأشربة، وكتاب الزهد وغيرها، نجد العجب العجاب. كان الإمام أحمد رحمه الله له معرفة ودراية وبصيرة بالرجال، فيعرف مذاهبهم وآراءهم واعتقاداتهم، وهذا مذكور في كتب الجرح والتعديل وهو معلوم للجميع. كذلك كان رحمه الله على اطلاع واسع وعجيب. فمثلاً: بالنسبة لأحوال الناس المعيشية، كان يسأل عن بعض النواحي من بغداد، فيقول: هذه الأراضي كانت وقفاً، وهذه اغتصبها الظلمة، أخذها بنو فلان، فهذا التفكير شمولي، ومستوى عالٍ، وهو إمام أهل السنة والجماعة بإجماع العلماء رضي الله عنه وأرضاه. أيضاً بالنسبة للفرق، كان بصيراً بمآخذهم وأسباب ضلالهم، وفي كتاب الإيمان نجد نوادر عجيبة عنه مما ذكر الخلال، وفي المسند نجد أموراً عجيبة جداً تدل على فقهه وفطنته رحمه الله، حتى إن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ذكر عن الإمام أحمد، أموراً عجيبة في مسألة المشابهة، وكان يعرف أن هذه من عادات المجوس، ومن عادات النصارى، وهذه من عادات كذا، مما لا نعرفه نحن مع الأسف -الآن- بل قد يكون في بيت أحدنا أمور من شعائر النصارى، أو المجوس، أو ربما تكون في ملابس أهله، أو مع أبنائه، وهو لا يدري، ولا يعلم بها، هذه ليست أبداً من منهج أهل السنة والجماعة. وإذا انتقلنا إلى مثال آخر، وهو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وقد ضرب في كل علم بسهم، فعندما يسأل عن مسألة جزئية، يبتدئ حديثه من كلام اليونان فيها، فينقض كلام أرسطو، وأفلاطون، ومن بعدهم، ثم يعرج على الفلاسفة الآخرين من الهندوس وغيرهم، ثم يعرج على الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين، ثم يأتي على المعتزلة، ثم على الرافضة وهكذا حتى يبين الحق ويرد على أهل الباطل في هذه المسألة. هذا منهج واضح، وهذه الكتب والمجلدات - التي ألفها- وهي كتب نفيسة، متعمقة، عظيمة، ويمكن أن نستخرج منها شتى أنواع العلوم: في الفلك، والطبيعة، والرياضيات، والأحياء، والسلوك، وعلم النفس، وعلوم أخرى كثيرة، وكثير من الباحثين في الغرب والشرق لم يتوصلوا إلى مثل ما توصل إليه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- في هذه العلوم، وفي هذه القضايا، فإنه إذا تكلم عن أي فن، فإنك تشعر وكأنه من أهله، حتى عندما تكلم عن الخرافات، وانحرافات المشعوذين، والسحرة، فإنه يتكلم عنها كلام البصير، العارف كيف يستحوذون على عقول العامة بهذه المخاريق الكاذبة، حتى دعوى النصارى للمعجزات التي يسمونها المعجزات، يبين بالأدلة العلمية كيف أنها ما هي إلا حيل شيطانية ويذكرها بكلام لا يدركه أحد من الناس إلا من كان متخصصاً في الكيمياء أو في الفيزياء أو نحو ذلك. وأما النموذج الثالث وهو: الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- مع أن دعوته كانت محدودة الاطلاع من ناحية الصلات الخارجية، لكنها كانت عالمية المنحى والتفكير والمنهج، وكانت مستوعبة لواقعها في الجزيرة استيعاباً كاملاً كما كانت تتلمس المصادر عن العالم الخارجي، ولذلك انتشرت -والحمد لله- في أطراف إفريقيا وغيرها، والهند، وغيرها. فكانت دعوته منطلقة من واقع معرفته ودراسته وخبرته. في الحقيقة أن القول بأننا لا نفقه الواقع، أو أنه لا ينبغي معرفته، أو أنه لا تجب معرفته، هذا مخالف لما هو مقرر بالبداهة في العقيدة الإسلامية الصحيحة، التي هي العقيدة، والدعوة العملية التي تسعى إلى إقامة هذا الدين، والذي لن يقوم أبداً إلا برجال يدركون هذه الأمور إدراكاً صحيحاً واعياً.

أهل السنة والجماعة وتكوين تنظيم لهم

أهل السنة والجماعة وتكوين تنظيم لهم Q نعود للحديث عن الفرقة الناجية، فرب سائل يسأل ويقول: كثر الحديث عن أهل السنة والجماعة، وكل يأمل أن يكون من أهل السنة والجماعة، ويسأل أين هذه الفرقة الناجية لكي ننضم إليهم؟ فما الجواب يا شيخ؟ A إن فإن الوصية من الله تعالى ورسوله بالجماعة والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يلزم منه أمران: الانضمام إليهم عضوياً، وهذا هو الذي يشكل على الناس اليوم. يقول: أين هم كأعضاء؟ وكيف أنضم إليهم عضواً وفرداً؟ ولكنه يشمل -أيضاً- ما هو أهم من ذلك، وهو الانضمام إليهم معنوياً، أي أن يكون الإنسان على منهجهم، ومتبعاً لآثارهم، ومقتدياً بهم، وهذا هو الأصل. فالمنهج هو الأصل، والاجتماع إنما يكون على المنهج، فالأفراد يجتمعون وفق المنهج، وعلى هذا فمن جهة المنهج فإنه موجود والحمد لله، وهو محفوظ بحفظ الله عز وجل، وهو ميسر لمن أراده. أما الأفراد، فإنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، ولا تخلو الأرض من أهل السنة والجماعة؛ بل هم موجودون ومنتشرون، لكن الذي قد يخطئ فيه بعض الناس، تصورهم أن أهل السنة والجماعة لا بد أن يكونوا بالضرورة حزباً سياسياً معيناً أو حزباً من الأحزاب الموجودة على الساحة، وأن الذي ينضم إليهم يكون منهم، والذي لا ينضم إليهم لا يكون منهم. وهذا غير صحيح؛ لأن صور التجمع العضوي تختلف بحسب العصور والأحوال، وأما الاجتماع في ذاته، فإنه مطلوب ولا شك، لكن تختلف صورته بحسب مقتضيات ذلك الاجتماع، فقد يجتمعون في عمل من أعمال الخير والدعوة، وقد يجتمعون اجتماعاً عضوياً متكاملاً، فيما لو اقتضى الأمر أن يكونوا كالجسد الواحد فعلاً، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الجهاد في سبيل الله عز وجل، كما يكون في بعض المجتمعات وأن يكون تحت إمارة واحدة، وجهاد واحد في سبيل الله عز وجل. والحمد لله، نحن نرى بوادر الخير في العالم الإسلامي، من وجود هذه التجمعات أو المدارس على اختلافها، وكلها -والحمد لله- على منهج أهل السنة والجماعة، الذي هو الأساس، مع أن بعضهم لهم نوع اجتماع يختلف عن الآخرين، بل أنواع مختلفة من الاجتماع، كمدرسة, أو جامعة، أو عمل دعوي، أو غيرها، فهذه كلها موجودة، ونرجو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يُبارك هذه الجهود، وتكون نواة للاجتماع العام الكبير المنشود لـ أهل السنة والجماعة في هذه الدنيا، حتى يكونوا يداً واحدة من شرق الدنيا إلى غربها، يحاربون أهل الشرك والكفر، وأهل البدع والضلالة.

أهل السنة بين المسميات والتحزب

أهل السنة بين المسميات والتحزب Q في هذا العصر يُسَّمى الدعاة أعمالهم بأسماء مختلفة، ربما اقتضى الأمر والحاجة إلى ذلك، فهل مجرد هذه التسمية تعني الانضمام أو عدمه في طائفة أهل السنة والجماعة؟ وهل يمكن أن تشمل الطائفة كل هذه المسميات التي نسمعها في هذا العصر أو بعضها؟ الجواب: المسميات منها المحمود ومنها المذموم ومنها ما لا مشاحة فيه، والأساس هو المنهج والاتباع. فإذا كانت التسمية لا تحمل أي مفهوم للتحزب على غير ما أمر الله به ورسوله، ولا تحمل مفهوماً اعتقادياً معيناً، أو اقتداءً أو انتماءً لأحد غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحيث يؤخذ أمره ويطاع ويتبع منهجه دون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أقول: إذا لم تكن كذلك، وكانت مجرد اصطلاح فلا حرج فيه، وقد وجد في التأريخ الإسلامي مثل هذه الأسماء، ومثل هذه المصطلحات. لكن كما نرى من خلال الواقع، أن من مفاسد ذلك: أنه قد ينجم عنه سوء الظن، أو قد ينتج أيضاً عنه: التحزب والتعصب أحياناً، فنرى أن الأولى البقاء على الاسم العام، اسم الإسلام واسم السنة، إلا إذا كان الاسم مجرد اصطلاح على نوع من أنواع العمل، أو نوع من أنواع الاجتماع التي لا تُثير شيئاً مما ذكرنا.

كيفية الانتساب لمنهج أهل السنة والجماعة

كيفية الانتساب لمنهج أهل السنة والجماعة Q في بعض هذه التجمعات شيء من الخلل، هل يُخرجون من مسمى أهل السنة والجماعة؟ A نعم، العدل في هذا الأمر هو كما نعلم من منهج وطريقة السلف الصالح -رضوان الله عليهم-في الجرح والتعديل وهو أن الاعتبار إنما يكون بالمسلك والمنهج وأصل الطريقة والتمسك والاتباع، فمن كان متبعاً لكتاب الله ولسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللسلف الصالح في الجملة والأصل، متحرياً للحق، مجتهداً في اقتفاء آثارهم، فإنه يكون منهم، أي: من أهل السنة والجماعة ومن أتباع السلف الصالح، وإن أخطأ. وليس مجرد انتساب الإنسان لـ أهل السنة والجماعة أن يكون معصوماً، بل لا يزال كل بشر عرضة للخطأ، فمهما أخطأ في بعض الأمور، فإنه يظل من أهل السنة والجماعة، أما إذا كان الخلاف عن اتباع لأصل من أصول أهل البدع، فإنه يلحقه ما يلحق أهل ذلك الأصل، من الذم، أو اللوم، أو القدح، أو الطعن. ومن الاتباع ما قد يكون مخرج من الملة -نسأل الله العفو والعافية- ومنه ما يكون صاحبه مبتدعاً ضالاً مذموماً بحسب درجته، والمقصود هو أن نُفرق بين الخطأ الذي لا يؤثر على المنهج وبين قصد مخالفة المنهج، وهذا واقع في القديم والحديث، ولنضرب مثالاً بالواقع، حتى يتضح الماضي: الآن من دعاة الإسلام من يقول: إن في الإسلام اشتراكية، أو يقول: إن الإسلام لا يتعارض مع القومية؛ لكنك لا تستطيع أن تقول: إن فلاناً اشتراكي أو قومي، بمعنى أنه مثل دعاة الاشتراكية المستوردة من الدول الشرقية، أو من أتباع الحركة القومية المعروفة، لكنه متأثر بهم، يميل إليهم في بعض آرائهم وهكذا، فإن هذا قد يقع في القديم، مثل ما يُقال: في فلان تشيع، فيه إرجاء، أو أنه قال قولاً موافقاً لإحدى الطوائف البدعية، ولكن ذلك لا يخرجه عن دائرة أهل السنة والجماعة، وقد يوافقهم في بعض الأمور عن اجتهاد وخطأ، بل إنني وجدت من خلال قراءتي عجباً في هذا. بعض الناس يقول: أنا أشعري، ويظن أنه بذلك يمدح معتقده لأن الأشعري -في نظره- هو صاحب الإبانة، التي قال فيها: نحن على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل بخلاف الآخر الذي يقول: أنا أشعري. ويقصد معنىً بعيداً جداً وهو المذهب الكُلامي الكلابي الذي تبرأ منه الإمام أبو الحسن الأشعري في الأخير وهكذا. ولذلك -في الحقيقة- ليس العبرة بمجرد الانتساب أو مجرد الأسماء، بل لا بد أن ننظر لحقيقة الرجل وإلى منهجه، ومن غلب عليه الصواب والحق، فنرجو أن الله سبحانه يُكفر عنه خطاياه التي أخطأ أو تأول فيها، أو كانت لديه فيها شبهة، أو ما أشبه ذلك، ولا سيما في العصور المتأخرة عندما تكاثرت الفتن وضعف أهل السنة، ولـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله كلام قيم في مسألة ضعف أهل الحديث وضعف أهل السنة أو كثير منهم -في العصور المتأخرة- عن إقامة الحق. بل الذهبي -رحمه الله- عندما تحدَّث عن ابن عربي، وقال: إن الذي جعل ابن عربي وغيره من أهل الزندقة يتطاولون أنهم نشئوا في عصر، والمحدثون فيه أمثال فلان وفلان، وذكر أسماءهم لكن الذين عاشوا في أيام الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحي بن معين، وعبد الله بن المبارك، وسفيان ووكيع، وشعبة، وغيرهم من الأئمة الأعلام، ما كان أحد منهم يستطيع أن يجاهر بمثل هذا الكلام، فظهور آثار النبوة والرسالة له ميزة في الحكم على الناس فيما بينه وبين الله. فنحن تعبدنا الله باتباع الحق ومعرفته والسعي إليه، ثم بعد ذلك بالنسبة للحكم على الناس تعبدنا الله تبارك وتعالى، وأمرنا بالعدل والإنصاف في هذا الأمر.

المعاملة بين أهل السنة ومن خالفهم

المعاملة بين أهل السنة ومن خالفهم Qكيف تنظر طائفة أهل السنة والجماعة للاثنين وسبعين فرقة الأخرى؟ وكيف يحكمون عليها؟ وكيف تكون علاقتهم بها؟ A الحديث واضح الدلالة، على أن الطائفة الناجية واحدة، وأما ما عداها فغير ناجٍ أو أن ماعداها يمكن أنه ينجو ومن الممكن أن لا ينجو. وحتى لا نفهم العبارة خطأً، يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: معناه إن الحديث بيَّن الفرقة الناجية، وما عداها، فهو لم يحكم عليها بالهلاك مطلقاً؛ لأن المقصود منه بيان طريق النجاة، وأنه في الكتاب والسنة بمعنى النجاة في الدنيا من الضلال، والنجاة في الآخرة من النار، لكن لو أن أحداً انتسب إلى منهج آخر، فلا يعني ذلك أنهم لا بد أن يكونوا هالكين وأنهم لا بد أن يكونوا جميعاً من أهل النار ولا ينالون النجاة، هذا أمر آخر. وسبب ذلك أن الناس لهم حسنات ولهم سيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته -كمن كان يعتقد بدعة اعتقادية- كما نعلم ممن يؤولون في الصفات أو لديهم شبهة في باب القدر أو ما أشبه ذلك، ولكن له فضل علم ودعوة وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعند الله تبارك وتعالى تنصب الموازين، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -كما ذكر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يظلم أحداً، وإن تك مثقال ذرة يضاعفها. فهذا لا يضيع الله تبارك وتعالى عبادته، وما وافق فيه الحق والسنة فإنه يُثاب على سعيه واجتهاده وهكذا، لكن الناجي بإطلاق المقصود منه هو من تمسك بهذا المنهج بإطلاق، أما البقية من الفرق فالقول الصحيح والراجح أنها ليست خارجة عن أهل القبلة، فالاثنتان والسبعون فرقة هم من أهل القبلة. فبهذا الاعتبار وهذا المفهوم فإن من خرج من أهل القبلة فإنه خارج عن الاثنتين والسبعين فرقة، بمعنى: أن الثنتين والسبعين فرقة تشمل من هو في دائرة الإسلام من أهل القبلة وتشمل غيرهم، ولكن الصحيح والمعيار والضابط هو أن الأمة التي هي أمة الصلاة وأمة القبلة هي ثلاث وسبعون فرقة، وأن من عداهم فهو خارج عنهم، كما خرجت الباطنية، فلا تعد من طوائف الأمة الاثنتين والسبعين فرقة. وبهذا الاعتبار فإن الثنتين والسبعين فرقة يدخل فيها أهل الكبائر مادمنا قد حكمنا أنهم من أهل الصلاة، وأهل القبلة ومن المقرر في أصول أهل السنة والجماعة أن الكبيرة قد تكون اعتقادية كما هو في أهل البدع وقد تكون كبيرة عملية كما هو في أهل المعاصي والفجور، ويكون التعامل في الآخرة بناءً على هذا الأساس. فإذا قررنا هذا الأصل، واعتبرناهم مسلمين، فإن لهم الحق الذي هو لكل مسلم، ولكنهم -أيضاً- يبغضون ويرد عليهم، وتكره وتحارب بدعهم وضلالاتهم، وتحذر الأمة منهم، ولكن لا يهدر حقهم بالكلية كمثل الكفار، ولا يعطون الولاء الكامل كمثل من كان على الكتاب والسنة، أما على الاعتبار الآخر، إذا قلنا: أن أهل البدع والضلالة خارجون عن الملة، فهؤلاء يأخذون حكم الكفار غير حكم أصحاب البدع المغلظة، كبدع الخوارج -مثلاً- وما أشبهها. فهؤلاء جاء فيهم النص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، وهذه قاعدة وأصل عظيم، يندرج فيه قاعدة التعامل مع أهل البدع، وأنهم يقاتلون ويهجرون، وهذا كله وارد؛ لكن لا يضيع مالهم من حق الإسلام ماداموا مسلمين، كما قال علي رضي الله عنه لهم، لما قالوا: لا حكم إلا لله، قال: [[إن لكم علينا ثلاثاً: ألاَّ نمنعكم من مساجد الله، وألاَّ نمنعكم من فيء الله، وألا نبدأكم بقتال]] وهذا كله مع كشف شبهته وبيان ضلاله وخطئه وردعه وهجره بالأسلوب الشرعي المناسب.

أسباب هجوم العالم الغربي على أهل السنة والجماعة

أسباب هجوم العالم الغربي على أهل السنة والجماعة Q العالم يشهد هجمة شرسة على أهل السنة، ويوصفون بأوصاف فيها شيء من التنفير، إذا ما ارتبطت ببعض الهيئات التي تصدر من بعض الأفراد أو الجماعات، وتجسد هذه الأخطاء، ومن ثم يوصف الجميع بهذا الوصف رغبهً في التنفير منهم، فمن هذه المسميات التي يوصف بها أهل السنة الأصولية. فما أسباب هذه الهجمة؟ وما سر اختيارهم لهذا التوقيت في هذه الفترة من تاريخ المسلمين؟ A هذه من الابتلاءات، وهي من السنن الربانية، والله تبارك وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]، وما من نبي بعثه الله إلا أوذي، وقد قال ذلك ورقة بن نوفل -رضي الله عنه- لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند أول نزول الوحي -كما تعلمون-: {ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} هذه سنة جعلها الله للرسل ولأتباع الرسل أن يبتلوا وأن يؤذوا، ومن الأذى: أن ينبزوا بمثل هذه الألقاب في القديم والحديث، ولو قرأنا التاريخ لوجدنا العجب! كيف كان ينبز أهل السنة والجماعة، ويقال لهم: الثابتة، المجسمة، الحشوية إلخ. كانت كثير من التهم توجه إليهم، بل لا نقول: إن التهم من أهل البدع فقط، بل وقع في ذلك بعض المؤرخين ممن هم من أهل السنة عن حسن نية، وعن متابعة غير مقصودة، وهذه سنة ربانية، وقد لقبت قريش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأتباعه بالصباة وهكذا. والآن -في هذا الزمن- اشتدت الهجمة والحملة لأسباب: 1. أن ذلك امتداد لهذه السنة، وهذا لا غرابة فيه. 2. أن العالم الغربي الآن يعيش نوعاً من الرعب -إن صح التعبير- أو من التخوف من هذا العملاق لو أنه استيقظ. العالم الغربي -ولا سيما بعد الأحداث الأخيرة في أوروبا الشرقية - بدأ يدرك أن المواجهة ستكون مع عدو آخر. وكما عبر بعضهم بأن الصراع هو صراع بين حضارتين: الحضارة الإسلامية وبين الحضارة المسيحية، ولذلك هم يتخوفون جداً من هذه الأمة التي تمتلك من وسائل القوة البشرية والمادية والمعنوية ما لا تملكة أية أمة أخرى. ولو نظرنا -مثلاً- إلى الصين -كمثال- كتكتل بشري ضخم يوازي في عدده تقريباً عدد المسلمين، ودين مستقل مخالف للدين الغربي، وأيضاً تمتلك قوة نووية. لو نظرنا إلى نظرة الغرب إلى الصين ونظرتهم إلى العالم الإسلامي، نجد الفرق كبير جداً يتعامل الغرب مع الصين كأي دولة، ورغم حساسية الغرب منهم لكنها لا ترقى إلى معشار النظرة إلى الأمة الإسلامية، التي لو ظهرت فيها حركه صغيرة طلابية في إحدى جامعاتها في إحدى عواصم دولها أو دويلاتها، لأثارت الصحافة الغربية، وتحدثوا عنها على أنها بعبع وعملاق، وخطر يهدد المصالح الغربية في المنطقة، هذا الرعب هو سببه -والله تعالى أعلم- أن لديهم إحساساً وشعوراً بأن حقيقة الصراع هي مع هؤلاء، وهذا الإحساس ليس مأخوذاً من مجرد النظر والتخطيط، وهم أهل تخطيط بعيد، لا، بل نؤكد ونقول: حقيقة يجب أن يعلمها المسلمون، وهي أن هذا مأخوذ من كتبهم الدينية. ولهذا فإنهم بعد الأحداث الأخيرة تكلموا ونشروا في إحدى المجلات المشهورة جداً في أمريكا، التي يقرؤها الملايين أن المعركة من أجنادين إلى هرمجدون، وأجنادين هي المعركة التي خاضها عمرو بن العاص رضي الله عنه مع الروم، وبعدها دخلوا فلسطين، وهرمجدون هي المعركة التي تكون في فلسطين في آخر الزمان، حيث يأتي المسيح، ويقتل الوثنيين وهم -بحسب زعمهم- المسلمون، وأنه يقدر عدد الجميع بمائتي مليون كما ذكر في بعض شروحهم، وأنهم يبادون ويموتون، ويرفع المسيح النصارى فوق السحاب وينجون، والمقصود أن إحساسهم بالعداوة للأمة الإسلامية هي حقيقة تؤكدها أديانهم وآراؤهم الاعتقادية، كما تؤكدها دراساتهم وتخطيطاتهم المستقبلية، وهي بالنسبة لنا أمر طبيعي جداً، لأن الله تعالى أخبرنا بها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلعنا عليها.

نظرة المسلم للمستقبل

نظرة المسلم للمستقبل Q في هذا العصر الذي تسود فيه هذه الدول الغربية على كل أنحاء البسيطة تقريباً، وينظر المسلم ويعلم أن ما هو عليه هو الحق، وأن أولئك ما هم عليه هو الباطل، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابتعث هذا الدين ليكون للناس كافة، فكيف تكون نظرته لواقعه ولمستقبله، ومستقبل الإسلام؟ A الإجابة في هذا تطول، لكن نقول: أهم ما ينبغي أن يعلمه المسلم: أن سيطرة الكفار وعلوهم في الأرض واستكبارهم إنما هو أمر موقوت محدود، وأن لهم نهاية ولهم عاقبة، كما ذكر الله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59]. فكل أمة لها نهاية، وإنما قص الله تبارك وتعالى علينا أخبار عاد وثمود وفرعون وأشباههم لنعلم ونعتبر، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] ولنعلم أن مصير هؤلاء هم كمصير أولئك، وأن هذا من الاستدراج، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس:2]، وهكذا آيات كثيرة تدل على أن مصير هؤلاء لا بد أن يندرج تحت هذه السنة، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يهلكهم ويزيلهم. في المقابل -أيضاً- نجد أن الاستضعاف الذي يعيشه المسلم والغربة التي يشعر بها، هي -أيضاً- مقدمة بإذن الله تعالى إلى الاستخلاف والتمكين، كما ذكر الله تبارك وتعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]. هذه قاعدة عامة، وقد تحقق ذلك لبني إسرائيل، كما وعد الله تبارك وتعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وكذلك هذه الأمة المؤمنة استضعفت وأوذيت في أول أمر الدعوة حتى هاجر من هاجر إلى الحبشة، وأوذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضيق عليهم حتى كادوا أن يتخطفهم الناس، ثم شاء الله تبارك وتعالى أن ينعم عليهم، فجاءت السنة الربانية بالاستخلاف والتمكين، وأظهر الله تبارك وتعالى دينه على العالمين. ونرجو -وهذا وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نؤمن به ونصدقه- أن هذه الأمة ستعود -بإذن الله تبارك وتعالى- إلى الاستخلاف والتمكين والقوة، وسوف يديل الله تبارك وتعالى هذه الدول، وينالها كما نال الأمم قبلها، لكن لله تبارك وتعالى سنة، وهي أنه لا بد أن يكون هذا بجهد منا نحن البشر وبعمل منا، وهذا ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كما في غزوة تبوك وفي غيرها، وكانوا في الفتوحات يواجهون هذه القوى، ونصرهم الله تبارك وتعالى عليها، وأعدوا لها العدة بقدر ما استطاعوا، وهزموا في بعض المعارك، وقُتِل من قتل من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في فتوح الشام وفارس وفي النهاية أظهر الله تبارك وتعالى هذا الدين. فلا بد لنا مع هذا اليقين في وعد الله تعالى وعدم اليأس، أن نتوكل على الله ونعد العدة، وأن نقاوم به هذه القوى الطاغية المستكبرة في الأرض، وحينئذٍ ينصرنا الله عز وجل كما وعد.

نظرة إلى التجربة الجزائرية

نظرة إلى التجربة الجزائرية Q بالنسبة لموضوع الأصولية، وكما طُرِحَ قبل قليل بأنه تستغل بعض الأخطاء التي تصدر من بعض الحركات الإسلامية، ومن ثم تُشوه بها سمعة هذه الصحوة على وجه العموم، ولدينا تجربه مثل الجزائر وغيرها من البلدان، فكيف تقيمون التجربة الجزائرية؟ وما هي في نظركم الإيجابيات والسلبيات التي برزت من خلال ممارسة الحركة الإسلامية في الجزائر. ؟ A أما تضخيم الأخطاء أو النفاذ منها إلى الطعن في الدعوة الإسلامية فهذا أمر واقع، ولكن ما هو الخطأ؟ الخطأ في نظرنا نحن الذين نزن الأمور بميزان الكتاب والسنة، شيء، والخطأ في نظر الغرب وأتباعه شيء آخر، قد يكون العمل صحيحاً وسليماً ومستجمعاً لشروطه الشرعية الصحيحة، ولكنه يكون عند أعداء الدين خطأً، ويستغل ويضرب باسمه العمل الإسلامي والدعوة الإسلامية. لكن على مفهومنا -نحن- للخطأ نقول: نعم الدعوة الإسلامية وقعت في أخطاء، وتقع في ذلك، ولا أرى غرابة فيه؛ لأن أمة نامت بضعة قرون في غفلة، وبُعدٍ عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخيم عليها الاستعمار البغيض، أو الاستعباد الكالح البغيض، وأراد أن يمسخها ويطمس هويتها، لا نتوقع منها أن تفيق في أيام معدودات أو بضع سنوات، والصحوة في الجزائر أوضح مثال على ذلك، فهو شعب مسلم -والحمد لله- متدين بفطرته، وغيور وشجاع ومقدام بطبيعته وبفطرته. ولكن هل مرت هذه الدعوة بمرحلة التمحيص والتربية على منهج علمي، عقدي، دعوي، متوازن شامل، كما مرت غيرها من الجماعات الإسلامية كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عندما أخذت واهتمت أولاً بجانب العقيدة والعلم الشرعي، ثم بدأت قليلاً قليلاً، وكان الاعتماد والتركيز على ترسيخ مفهوم العقيدة الصحيحة في القلوب، وتحويل هذا الاعتقاد إلى طاقة عملية؟ في الواقع أن الوضع في الجزائر كان فيه نوع واضح من التعجل في قطف الثمرة، وربما كان هناك -أيضا-ً شيء من الإعجاب بهذه الجماهير المتجمعة التي لا ينقصها الحماس، ولا نشك -إن شاء الله- في حماسها، لكن الحماس وحده لا يكفي، فلا بد من المرور بهذا المنهج والتمحيص، ولذلك نجد من نكص على عقبيه، وخرج من الصف الإسلامي بالكلية، ومن باع نفسه للسلطة، ومن فعل أفعالاً كثيرة تدل على أن الصف لم يمحص في الأصل. ومن حكمة الله تعالى كما نجد في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- في آيات غزوة أحد من آل عمران وغيرها، نجد أن هناك تمحيصاً وابتلاءً وتنقيةً للصف في النهاية، ما كان أصحاب الضرار إلا فئة معدودة محصورة من المسلمين، وبقيت قلة قليلة ضئيلة من المنافقين تعيش في غمرة المجتمع الضخم الكبير، ويعرف المسلمون بعضهم ببعض علاماتهم، ويعرف القلة من المنافقين حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يعرفهم بأسمائهم، فما لم نصل إلى دقة التربية مع ترسيخ مفاهيم العقيدة وتصحيحها في الناس إلى مثل هذا، فإنه لن نتوقع إلا نتائج سريعة، وهذه النتائج السريعة تتعوض سريعاً. وهنا أرى أنه يجب أن أؤكد على أمر، وهو: ألاَّ يصيبنا ذلك بإحباط أو خيبة أمل، فهذه ليست إلا محاولة تخفق وستنجح، وإنما نجاحها مرهون بتطبيق الكتاب والسنة وفهمهما فهماً صحيحاً، والدعوة إليهما على منهاج النبوة، ومنهج السلف الصالح، هذا هو الذي يجب أن يكون، وهو العبرة الكبرى التي تؤخذ من هذه الأحداث. وأنا -في الحقيقة- أعتبر أن ما حدث في الجزائر وغيرها، هو تقدم بالنسبة للعمل الإسلامي لو لم يكن فيه إلا التجربة. وأنا أقول أيضاً بالإضافة إلى التجربة فهو تقدم في بعض المجالات وحسبك أنك ترى أن الأمة الإسلامية وأن الشعب في كل الولايات يشعر شعوراً عاماً وإسلامياً موحداً، هذا أمر يُعد تقدماً بالنسبة لأمة كان يراد لها أن تمسخ وأن تصبح قطعة من الأمة الفرنسية لا دين لها ولا عقيدة. فلاشك أن هذا تقدم، وأن هذا الشعور وهذا الحماس وإن خمد، فإنه بإذن الله قابل لأن يعود في المستقبل، ولهذا لم يذهب سدى؛ بل تخوف الاستعمار منه والغرب، فلقد أوعزوا إلى المغرب، وليبيا، وتونس، أيضاً أن يقوموا بضربات مماثلة. وأظننا سمعنا قريباً في هذه الأيام ما حدث في تونس وما يحدث في دول أخرى من مثل هذه الأعمال، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعهد فقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُه} [الحج:40].

منهج أهل السنة والجماعة في التغيير

منهج أهل السنة والجماعة في التغيير Q هل يمكن أن نحدد في نقاط معينة منهج أهل السنة والجماعة في التغيير؟ A هذا صعب جداً، ويمكن إجمالها فيما يلي: 1. التمسك بالكتاب والسنة في المنهج. 2. الصبر على الابتلاء، وهذا لا بد منه. 3. الدقة في رصد الأحداث والتخطيط للمستقبل. 4. الأناة وعدم العجلة في قطف الثمرة؛ بل لا بد من التريث والتأني حتى تتمكن الدعوة ويصلب عودها وتقوم. 5. الثقة، وهي في نظري ضرورية جداً، أن تكون الدعوة في كل مراحلها -حتى في أشد مراحل الاستضعاف والأذى- واثقة من نصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإظهار دينه، واستخلاف هذه الأمة في الأرض. 6. التعاون بين جميع فئات الأمة، وألاَّ تنحصر الدعوة في طائفة منها دون طائفة، فالدعوة تحتاج إلى العامل والتاجر، وتحتاج إلى الجندي والموظف وأصحاب المهن، وكل من يهمه أمر هذا الدين، وهم محتاجون إلى أن يؤمنوا بهذه الدعوة وأن ينشروها كل في محيطه، وأن يقوم بها، وكل ما يمكن أن أقوله، فهو راجع إلى سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ذكر الله تبارك وتعالى أيضاً من سير الأنبياء من قبله، ففيها النبراس، وفيها المنهاج الواضح.

السلام العالمي الجديد وتأثيره على العالم الإسلامي

السلام العالمي الجديد وتأثيره على العالم الإسلامي Q نحن نلمس أن أي تحرك لأي اتجاه إسلامي في أية بقعة من بقاع الأرض يضرب بشدة، وتخشى الدول الاستعمارية من أن تقوم للمسلمين قائمة، وما حدث في الجزائر وغيرها من البلدان من أكبر الأدلة على هذا، ونحن نجد أنهم الآن يتوجهون بدعوة براقة، وهو ما يسمى بالسلام العالمي، والنظام العالمي الجديد، فما رأيكم في مدى تأثير هذه الدعوة على العالم الإسلامي؟ A الغرب له تجاربه وله خططه في هذا المجال، وما يُسَّمى النظام الدولي الجديد أو السلام العالمي الذي سيحل في هذا النظام هو شعار غامض، كما صرح زعماء الغرب. أي: أنه ليس فكرة محددة، وإنما هو بهرج وستار لأحداث معينة بدأت بعض بوادرها تظهر، والبعض الآخر سيظهر مع الزمن. النظام العالمي أو النظام الدولي الجديد هو في حقيقته تمكين للعالم النصراني بزعامة أمريكا من السيطرة على العالم. وكما ذكرت أن له تجاربه في ذلك، ونستعرض تجربتين قريبتين: التجربة الأولى: أنه عندما قامت الحرب العالمية الأولى وكان يراد بها تقويض الدولة العثمانية وما يتبعها من الدول، وكان معظم العالم الإسلامي ومنطقة ما يسمى بالشرق الأوسط تابعة لها، فقوضت الدولة العثمانية وهدمت، وتمت سيطرة أوروبا على المنطقة بحجة الانتداب، والانتداب هو: أن تنتدب عصبة الأمم دولة معينة على دولة معينة، فانتدبت إيطاليا مثلاً على ليبيا، وانتدبت بريطانيا العراق وفلسطين، وانتدبت فرنسا على بلاد الشام، والصومال قُطِّعت، فكل دولة انتدبت على جهة، وسموه الانتداب. وقالوا: إن المقصود من الانتداب أن هذه الدول إلى الآن عاجزة أن تدير شؤونها بنفسها، وتحت المظلة الدولية التي هي عصبة الأمم في ذلك الزمن تتم إدارتها انتداباً حتى تقوم على ساقها وتنهض، وكما نعلم جميعاً أن هذا هو الاستعباد الذي يسمونه الاستعمار، هذه هي حقيقته، انكشفت الحقيقة وتجلت واضحة للدول كلها في العالم كله، فقامت الحرب العالمية الثانية وأريد التخلص من هذه الصورة من صور الاستعباد. وجاءوا بفكرة تقرير المصير، وتغيرت اللافتة الدولية من عصبة أمم إلى هيئة الأمم وميثاق سان فرانسيسكو، وقالوا: لا بد من إعطاء الشعوب حق تقرير المصير، الذي تطمح إليه كل الشعوب، بمعنى أنها تستقل وتتحرر، ولكن تقرير المصير هو مشروط بأن تكون في المسار الديمقراطي وهو ظل الشرعية الدولية التي هي عصبة الأمم، فالحلفاء هم الذين يمثلون الديمقراطية، وأعداؤهم يمثلون الاستبداد والديكتاتورية الخ. وقامت الأمم المتحدة بناءً على هذا الشعار، وتسلط الطواغيت الخمسة الكبار على مجلس الأمن الدولي وعلى بقية العالم. وكان أكثر تركيز للعداوة هو على العالم الإسلامي الذي استبعد كلياً أن يكون له وجود دائم في مجلس الأمن؛ بل هو مطمع الدول جميعاً، وهو مطمح أنظار كل الغاصبين والمعتدين والمجرمين لنهب خيراته وثرواته وتقطيع أوصاله ومنعه من القيام بأي دور حضاري أو رسالي في هذه الحياة. وعندما برز العملاق الشرقي كما كان يُسمى، وجد الغرب أنه لا بد أن يقضي عليه، وعملوا لذلك، وأثمرت هذه الجهود فيما نراه هذه الأيام من هذا الانهيار المتسارع في تلك الامبراطورية الضخمة. احتاجوا إلى شرعية -كما يسمونها أي: مسوغ ومبرر جديد- للسيطرة على العالم ولا سيما على هذه المنطقة التي أصبحت تمثل العدو الحقيقي في المستقبل للغرب. فجاءوا بشعار جديد هو شعار الشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد، هذا النظام تكون أمريكا هي الشرطي الوحيد فيه الذي يكون مدججاً بكافة أنواع الأسلحة، والبقية هم من السكان الذين لا يختلفون، وإن اختلفوا فهذا الشرطي يأتي ويقمع هذا، ويردع هذا، ويسجن هذا، ويضرب هذا، ولكن تحت مظلة الأمم المتحدة والشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد. والمستفيد الأكبر من هذه الشرعية المزعومة التي لا شرع لها -لأن الشرع في الحقيقة هو ما شرعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الشرع الذي نؤمن به نحن المسلمين- والمستفيد الوحيد منها هم اليهود بالدرجة الأولى في هذه المنطقة وأمريكا عموماً بالنسبة للسيطرة على العالم وامتلاك ثرواته ومقدراته وفرض هيمنة الإنسان الغربي الدينية والأخلاقية والفكرية والحضارية عموماً على بقية شعوب العالم.

فكرة توافق مصالح الإسلام والغرب

فكرة توافق مصالح الإسلام والغرب Q يقول البعض: أنتم تبالغون في النظرة نحو الغرب بأنه يكره الإسلام والمسلمين ويخطط للقضاء عليهم، وإنما هي توافق مصالح، فأرى أن مصالحه الآن تتوافق مع الإسلام ومع المسلمين فنسعى نحو هذا التوجه، فما رأيكم؟ A نعم، هذه التهمة تُقال، وقد وجهت إلينا كثيراً وإلى من يشاركنا في هذا، ولكن نحن نقول: أولاً: حقيقة إن هذه التهمة ليست موجهة إلى الأشخاص الذين يتحدثون عن خطر العداوة اليهودية والنصرانية بقدر ما هي موجهة إلى أصل العقيدة وإلى أصل نظرتنا إلى اليهود والنصارى، كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالله عز وجل هو الذي أخبرنا في كتابه الكريم أنهم سيظلون أعداء لنا وأنهم سيعادوننا في آيات كثيرة جداً. كما ذكر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وآيات كثيرة لا نستطيع أن نأتي عليها ولا على بعض منها أو بعض من الأحاديث في هذا الشأن، أما التاريخ فهو شاهد كبير وواضح جداً على هذا. لكن ننتقل إلى الواقع المعاصر الآن نقول إن كانت المسألة مسألة مصالح، فلنأخذ بعض الأمثلة: اسأل أي مثقف أمريكي: ما مصلحة أمريكا من إسرائيل؟ مع أنها هي الأمة المادية التي لا تؤمن إلا بالدولار. ولا تعبد إلا الدولار، كل فرد في أمريكا لو تأمل لوجد أنه يدفع الضرائب من دخله الفردي الخاص لهذه الدولة. وأنه يعطيها أرقى أنواع الأسلحة، وأن إسرائيل تشترط أن كل سلاح يصبح قديماً فإنها تعيده إلى أمريكا وتأخذ بنفس ثمنه السلاح المطور، وأن إسرائيل خارجة خروجاً واضحاً عن كل ما تلزم به أمريكا دول العالم الأخرى، بل حتى ما تلتزم به أمريكا لا تلتزم به إسرائيل. وهذا تدليل عجيب ظاهر، مع أن مصالح أمريكا توجد في العالم الإسلامي، مثل: البترول وهو أهم مصالحها، وكذا المصالح الاقتصادية، والثروة السكانية، أو التجمع السكاني الكبير الاستهلاكي، الذي يستهلك كل المنتجات الأمريكية هو يوجد في العالم الإسلامي وهكذا، الولاء من الحكومات العربية أكثر من ولاء حكومات الدول الأخرى، ومع ذلك كيف تنظر أمريكا إلى هذه الدول؟ وكيف تنظر إلى هذه الشعوب التي فيها الطاقات المخزونة، وفيها سوق الاستهلاك والإنتاج، وفيها أيضاً الحكومات والأحزاب العلمانية الموالية لها؟ إنها تنظر إليها نظرة مجحفة تماماً، فهي لا تعدها شيئا ولا تنظر لها ولا تعتبر لها أية قيمة، مع أنها تشكل تكتلاً بشرياً وجغرافياً هائلاً جداً، وإسرائيل قطرة في هذا البحر! كيف يمكن أن يفسر هذا إذا نظرنا إلى الأمور نظرة مادية مجردة؟! المثال الآخر: ننتقل إلى مثال آخر غير أمريكا، وهو الاتحاد السوفيتي، والذي يهمنا هو سؤال واحد: لماذا تكون مسألة المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي هي أعظم وأهم المسائل التي يبحثها الرئيسان في عدة اجتماعات؟ والتي بناءً عليها جعلت أمريكا الاتحاد السوفيتي الدولة التي تعامل معاملة الأفضل بشرط السماح بهجرة اليهود إلى إسرائيل، والنظر إليها على أنها قضية إنسانية مع أنها حتى الجانب الإنساني مفقود؛ لأن حشر مجموعة من الناس بالقوة وتحديد مسارات معينة لهجرتهم ولرحلتهم إلى مكان معين وينزلون فيه بالقوة، ثم منعهم من الخروج من هذا البلد بالقوة، هذا لا يمكن أن يقال بأنه عمل إنساني، ومع ذلك فإن هذا هو الواقع أيضاً بالتعاون بين أمريكا وبين روسيا. ثم ننظر إلى كيفية تعامل روسيا وأمريكا والغرب مع الصين أو كيف يعاملون الهند؟ نجد أن التعامل يختلف جداً، فلا شك أنها عداوة دينية كما ذكر الله تبارك وتعالى وكما يشهد بها التاريخ، وكما يشهد بها العاقل المنصف المتأمل في الواقع المعاصر، وأنه لو حدثت مبالغات من بعض الناس أو بعض العبارات، فالمبالغة لا تعتبر، لكن الأصل يظل صحيحاً وسليماً.

كلمة توجيهية للصحوة الإسلامية

كلمة توجيهية للصحوة الإسلامية Q في ختام هذا اللقاء، لو كان هناك كلمة في ترشيد هذه الصحوة الإسلامية وتحذيرها من الانزلاق في متاهات أو في شراك تقاد إليه، وربما كان ظاهر هذه الانزلاقات براقاً، ولربما وضعت عليه شعارات أيضاً تشترك معها ظاهراً، وتحتها السم الزعاف، فلو كان منكم كلمة حول هذا المعنى بارك الله فيكم؟ A ما دمنا نتكلم عن الصحوة في الجملة، ولا نخص مكاناً أو وضعاً دون وضع، فلتكن النصيحة عامة، وهي ما نوصي به أنفسنا وإخواننا في الله في كل مكان وهو: أولاً: التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً واعتقاداً، واتباع منهج السلف الصالح، وأن نعتقد اعتقاداً يقينياً جازماً أن منهج السلف الصالح هو سفينة نوح، التي من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، وأنه لا يمكن أن نصل إلى عمل، ولا دعوة، ولا استخلاف، ولا تمكين، ولا خير أبداً، لو تركنا هذه العقيدة الصحيحة، وتمسكنا بأي منهج آخر. ثانياً: العلم، فإن العلم هو الذي يُضيء لهذه الصحوة طريقها، وهو الذي يُحول الحماس إلى طاقات منضبطة تعرف كيف تعمل، وأين تعمل، وهو الذي يوجه هذه الطاقات، ويسدد مسيرتها، فلا بد من العلم الشرعي، وهو العلم الذي أمر الله تبارك وتعالى به، وأوله وأصله: العلم بالله ومعرفة أسمائه وصفاته، وحقه على العباد، وتقديره حق قدره تبارك وتعالى، وكذلك برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعرفة سيرته وسنته وأحواله للاقتداء به، وكذلك معرفة ما يجب على الإنسان أن يعرفه في حدود ما أتاح الله له، مما يتعبد به لربه حتى يعبد الله على بصيرة وبينة وبرهان. وكذلك مما أوصي به، وأرى ذلك من ضرورات ترشيد هذه الصحوة: الآداب والأخلاق الإسلامية التي هي مطلوبة من كل مسلم، وحاجة الدعاة إليها أشد وهم إليها أحوج، ومن ذلك العدل. وأنا أعجب! عندما نجد العدل يكاد يكون مفقوداً أو مختلاً لدى كثير ممن يمثلون هذه الدعوة وهذه الصحوة الإسلامية في كل مكان: العدل في الأقوال، والعدل في الأعمال، وكذلك التخلق بالأخلاق النبوية، أخلاق الأنبياء التي عَّلمنا إياها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتي بها فتح المسلمون العالم، فإن حقيقة الأمر أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إنما فتحوا قلوب العباد، ولم يفتحوا مجرد الأراضي، فتحوا قلوب العباد بأخلاق النبوة، يرون فيهم أخلاق الأنبياء. لأنهم كانوا يقتدون ويتأسون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أخلاقهم، ويجدون من رحمته وشفقته وحسن رعايته ولطفه وإنصافه ما يجعل العدو يضطر أن يحترمه ويقدره ويحبه. ونحن نلحظ نوعاً من الجفوة في التعامل بين كثير ممن ينتسبون إلى هذه الصحوة الإسلامية سواء فيما بينهم أو مع الناس، وهذه كلها مما يؤثر ويضر بالدعوة إضراراً كبيراً، ولنعلم أننا إن لم يكن لنا جسر إلى قلوب الناس بهذه الأخلاق العليا -التي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها كما قال: ((ِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] فلتكن صفتنا هي الربانية في الإيمان، في العلم والخلق- فإن ذلك لا يمكن أن يؤدي إلى الثمرة المطلوبة المرجوة منهم. كما نُحذِّر هذه الصحوة، أشد الحذر من كيد الأعداء، فإن الأعداء في الداخل، والخارج، وفي كل مكان، يكيدون ويخططون، ويسعون إلى احتواء هذه الصحوة في أي شكل من أشكال الاحتواء وتضليل المسيرة وتفتيت الجماعة التي تسير على هذا الطريق، وتمزيق الصف المسلم في كل مكان، هذا أمر يجب أن نتنبه له، وأن نتفطن له، وهو من أعظم أساليب الأعداء الملتوية، أنهم يجتهدون له، وهذا يريحهم من المواجهة المباشرة التي تجلب تعاطف الجماهير مع الدعاة، وتعطيهم زخماً واقعياً كبيراً. وكذلك يتنبه الدعاة من المنافقين، لأنهم يندسون في الصف، وعن طريقهم تخترق الدعوة، وعن طريقهم يمكن أن يُحقق الأعداء أعظم المكاسب، فهم مثل الألغام الموقوتة التي تدخل في داخل الأبنية، أو في داخل أية سيارة، أو في أي شيء يراد تفجيره، وفي اللحظة المناسبة يقومون بتفجير هذا الوجود، وهذه الصحوة. وهذه الأحداث الأخيرة التي حصلت في واقع الدعوة الإسلامية تبين وتدل أن هذا من أهم ما يجب أن تتنبه له الصحوة الإسلامية، وهو تمحيص الصف، والتحرز الشديد من أن تخترق من داخلها. وكذلك يجب على حملة هذه الصحوة الإسلامية أن يحذروا مما يوقعه أعداء الإسلام من المنافقين أو اليهود وأمثالهم من التحريش فيما بينهم، فإن أهل الإسلام في الجملة يجمعهم ويربطهم من أسباب التعاون والأخوة الشيء الكثير، والواجب أن يكونوا جميعاً كذلك، مهما اختلفوا، فكيف بـ أهل السنة وخاصة الدعاة منهم؟ وأي خلاف فإنه يُحَلُ وفق هذا المنهج، وقد فصَّل الله تبارك وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك تفصيلاً: كيف يكون الرجوع عند الخلاف؟ وكيف يمكن التحاكم إلى المنهج؟ بل إنه لو تغاضى طرف عن طرف، بأن سكت طرف عن هجوم الطرف الآخر وتشنيعه والتشهير به ولومه واتهامه، مهما كان جائراً، مهما كان جاسراً، لو سكت الطرف الآخر واحتسب ذلك عند الله، فإن ذلك خير له وللدعوة. وإن الدخول في هذه المهاترات والردود لا يجنى ثمرته إلا أعداء السنة وأعداء أهلها، ولذلك نوصي بأن يكون أهل السنة والجماعة يداً واحدة، علماء، وطلاب علم ودعاة وعامة. ومن أخطر ما يجب أن نتنبه له الحذر من أن يدخل المنافقون أو المفسدون فيحدثوا فجوة بين أهل السنة وبين علمائهم، بين العامة وبين الدعاة بألوان وأنواع من الكيد، يدخلون بها لإحداث هذه الفجوة، وعند ذلك يقطعون الرأس عن الجسد، ويتمكنون من السيطرة على هذه الصحوة وتضليلها. كذلك أحذر وأؤكد على عدم العجلة والاستعجال في أمور الدعوة، لأن هذه العجلة تجعل أعداءنا يعرفون كيف يستفزونا بمواقف معينة، ويعلمون أننا نتعجل ونتسرع، فنقع في الفخاخ والشراك التي ينصبونها لنا. ثم بعد ذلك يكون ضرب الدعوة بناءً على هذه المبررات، ويقولون: هذا ما وقع، وهذا يستحق العقوبة؛ فلذلك يجب أن ينتبه المسلمون والدعاة من أن يُجروا إلى مواقف معينة تبرر القضاء عليهم وتبرر ضربهم من قبل أعدائهم، وأن يعتصموا بعد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشورى، فيما بينهم، وألاَّ يتصرف فرداً بأي موقف قد يجر المصيبة والبلاء على الأمة كلها، بل يجب أن يكون أمرهم شورى بينهم، وأن يتباحثوا في أي شأن من الشئون، حتى يكونوا يداً واحدة، وموقفاً واحداً ما أمكن، فإن كان هناك اجتهاد فليتح لكل إنسان أن يجتهد في مجاله، لكن دون بغضاء ولا تحرش ولا اتخاذ موقف يكون سبباً لأن يقضي عليهم أعداء الله تبارك وتعالى. ونختم هذه الوصايا بوصية الله تبارك وتعالى إلينا وإلى من قبلنا: أن نتقي الله في أقوالنا وأعمالنا وسرنا وعلننا، وأن نخلص أعمالنا لوجه الله، ولا نبتغي بأي عمل من الأعمال أحداً سواه تبارك وتعالى، وأن نكون كما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.

احفظ الله يحفظك

احفظ الله يحفظك لقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وعندما أردف ابن عباس وراءه على دابته حدثه بكلام موجز عظيم لخص به معاني الإيمان وثمراته، وفي هذا الدرس تناول الشيخ حفظه الله هذا الحديث بالبيان والشرح، ووضح معنى حفظ العبد لربه ومعنى حفظ الله لعبده، وارتباط ذلك بتوحيد السؤال والاستعانة، والإيمان بالقضاء والقدر، وأتبع ذلك ببيان اقتران كل من العسر واليسر، والفرج والكرب، والنصر والصبر، موصياً الحاضرين بالدعوة إلى الله.

وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس

وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه، أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: نحمد الله تبارك وتعالى ونشكره على ما أنعم وتفضل به علينا من مجالس الذكر والعبادة والإنابة. ونسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منكم ومنا جميعاً، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب. تحدثنا في الدرس الماضي عن الوصية الأولى من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الطهور شطر الإيمان}. واليوم سنتحدث عن الوصية الثانية وهي حديث عظيم من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أعظم وصايا هذا الرسول! وكيف لا، وهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؟! الذي أخرجنا الله تبارك وتعالى به من الظلمات إلى النور فما أجدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتأمل وأن نتدبر كلامه ومواعظه ووصاياه!

نص الحديث

نص الحديث وهذا الحديث الذي هو الوصية الثانية، قال عنه بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش' فالله أكبر! القلوب التي تتدبر وتتفكر وآتاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوة الفهم والمعرفة واليقين لا تحتمل بعض الأحاديث أو بعض الآيات، بل تكاد تطيش. وهذا الحديث هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته المشهورة، للغلام النبيه النجيب الذكي، الذي نوَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قلبه بالإيمان، وجعله حبر الأمة وترجمان القرآن. عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وعن أبيه عندما أوصاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}، وفي رواية أخرى: {تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.

السلف الصالح والتفكر

السلف الصالح والتفكر وتحت كل جملة من هذه الجملة عبر ومعانٍ عظيمة لا نستطيع أن نأتي عليها، وإنما نشير بما فتح الله تبارك وتعالى به علينا، حاثين أنفسنا وإخواننا جميعاً على تدبر كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما هذه الوصايا الجامعة المانعة. ولا نتعجب من قول ذلك العالم في هذا الحديث، فقد قرأت منذ أمد ليس بالطويل أن الإمام العابد الزاهد أبا سليمان الداراني -رحمه الله تعالى- نادى غلامه أحمد بن أبي الحواري فقال له: ائتني بماء، فجاءه بماء ليتوضأ لقيام الليل، يقول أحمد بن أبي الحواري: [[فلما أذن الفجر، أذن وهو على حاله، ويده في الإناء ولم يرفعها ولم يتوضأ! فقلت له: الصلاة رحمك الله! أذن الفجر]] أي أنه طوال كل هذه الليلة كان يتفكر في حاله مع الله عز وجل، تفكر فنسي واستغرق ولم يفعل شيئاً، وهذا التفكر هو عبادة. أقول: لا نستغرب أن من تدَّبر وتفكَّر وأمعن النظر قد يحدث له شيء من هذا، فمثلاً: عندما تأملت هذا الكلام وتعجبت منه تذكرت أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر قصته مع ابن عبد ياليل وما جرى له من الأذى، فقال: {انطلقت هائماً على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب!}. وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى الناس زماماً، وأثبتهم نفساً، لكن الهمّ الذي ركبه واستغراق التفكير جعله يمضي وينطلق ولا يفيق إلا وهو في قرن الثعالب، واستغراق التفكير في المشي والسير أعظم منه والإنسان جالس.

ثمرات التفكر

ثمرات التفكر أقول هذا لأنبه الإخوة لعظم التفكر في آية، أو في حديث، أو في عبرة، أو في حكمة؛ فهذا التفكر ثمرته عظيمة جداً؛ لأنه يورث لك علماً عظيماً جداً؛ بحيث إنك كلما قرأت، أو تعلمت، أو رأيت أيَّة عبرة وأخذتها بهذا العمق بالتفكير والتدبر والتأمل، فإنها تفيدك كثيراً جداً، وما ميَّز الله تبارك وتعالى أهل التقى السابقين -وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم- بكثرة الرواية، ولا بكثرة المسائل في العلم، ولكن بهذا العمق في الفهم واليقين والتدبر. إن عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يكونوا يحفظون كتاب الله، وإنما حفظه نفرٌ معدودون منهم، والحديث كذلك لم يكن يجمعه أو يجمع أكثره والآلاف منه إلا نفر معدودون، لكن كان اليقين يقر ويثبت في قلوبهم بآية واحدة أو بحديث واحد. فهذا اليقين يستغرق قلبه، ويفتح الله تبارك وتعالى به عليه معارِفِ عظيمة، فيلج على قلبه من الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية ما يجعله ينسى كل شيء في هذه الدنيا، فحكمة واحدة يأخذها ردة واحدة يردها إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى هذا النعيم الصافي العذب، تروي قلبه، وتنبت فيه شجرة الحكمة، فيجني ثمارها هو ومن بعده. لذلك انظروا إلى كلامهم! ورحم الله الحافظ ابن رجب حيثن كتب كتاب " فضل علم السلف " فقال: 'الكلمة الواحدة من كلام السلف تزن مجلدات من كتب الخلف' وما أكثرها الآن في المكتبات! وما أكثر المحاضرات والكلمات، لكن أين كلامنا وأين علمنا وأين خطبنا ومحاضراتنا من كلمة واحدة من كلام السلف؟! فالسلف رحمهم الله أخذوا هذا الدين عن إيمان ويقين.

معنى"احفظ الله يحفظك"

معنى"احفظ الله يحفظك" إخوتي الكرام: تدبروا هذا جيداً، وتدبروا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احفظ الله يحفظك} من الذي لا يسعى في دنياه إلى أن يحفظه الله تبارك وتعالى من أي سوء؟! يجتهد الناس في هذه الحياة الدنيا إما لجلب النفع أو دفع الضر، وإذا تأملنا هذا الحديث وجدنا كل ما جاء فيه متعلقاً بهذا الموضوع. فكل الناس في هذه الدنيا إنما يسعون ويجتهدون ويعملون من أجل أن يحققوا لهم في أنفسهم ما ينفعهم في العاجلة أو الآجلة، ويدفع عنهم ما يضرهم، ومحور ذلك وجماعه كله في هذه الوصايا التي أوصى بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (احفظ الله يحفظك) أي: في دنياك وآخرتك.

مجالات حفظ العبد لربه

مجالات حفظ العبد لربه احفظ الله كما ذكر الله تبارك وتعالى وبيَّن في كتابه. فعندما ذكر صفات المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] فجعل من صفاتهم: الحافظون لحدود الله، أي أنني أحفظ الله بأن أحفظ حدود الله. ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] فاحفظ هذه الآلة، وهذا العضو، وقد بيَّن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطورة هذا العضو وضم إليه عضواً آخر، فقال: {من يضمن لي -أو من يحفظ لي- ما بين لحييه ورجليه أضمنْ له الجنة}. احفظ اللسان، واحفظ الفرج، فالله تعالى استودعك هذين العضوين، وما أكثر من دخل النار بسببهما! فإذا حفظتهما فهذا من جملة ما تحفظ. ومن أعظم المحافظة التي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها المحافظة على الصلوات: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فحافظ على الصلاة؛ فمن حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة. والمحافظة على هذه الأعضاء، كما قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وهل تظن أنك يا عبد الله في هذه الدنيا تقول ما تشاء، وتصنع ما تشاء، وتنظر إلى ما تشاء؟! لا والله! إن السمع والبصر والفؤاد، حتى الفكر وهمُّ القلب وخطراته وما يأتي فيه لا ينبغي أن يكون إلا لله وقد تجاوز الله لنا عما حدثتنا به أنفسنا ولم نعمل به، لكن لا يجوز ولا ينبغي لنا أن نعزم على معصية؛ لأن العزم مقدمة العمل. بل يجب علينا أن نعلم أن هذه ودائع استودعنا الله تبارك وتعالى إياها، فلنحفظها ولنحافظ عليها، فإذا حفظ العبد جوارحه، وحفظ حدود الله، وحفظ ما أمر الله تبارك وتعالى به وامتثله، وحفظ ما نهى الله تبارك وتعالى عنه فلم يقربه، نال النتيجة، وهي حفظ الله له.

حفظ الله للعبد

حفظ الله للعبد إن رحمة الله تعالى أوسع من أعمالنا وأعظم من ذنوبنا، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ولو تدبر الواحد منا إلى كيفية حفظ الله له، ثم نظر إلى حاله مع الله: هل هو محافظ على ما أمر الله به؟ هل هو حافظ لحدود الله؟ لرأى الفرق، ورأى العجب العجاب! الله تعالى يحفظنا بالمعقبات، أي: الملائكة كما فسرها الصحابة ومن بعدهم، وهي ملائكة وتحفظنا من الشياطين، تحفظنا من أن يصيبنا شيء، إلا ما قدَّره الله علينا وكتبه فلا بد منه. فالله تعالى يحفظنا من الشياطين، وما أكثر ما تحاول الشياطين أن تتخطفنا وأن تغوينا! ولكنه يحفظنا في أبداننا، وفي إيماننا من هذه الشياطين، فالله عز وجل يحفظنا بحفظه حياتنا، وإلا فمن الذي يرعانا؟! ومن الذي يربينا بنعمه؟! ومن الذي يغذينا بآلائه؟! أين نحن من هذا كله؟! الواحد منّا همه أن يطعم الطعام وينام، فمن الذي يسيره ويدبره ويُصّرفه فينال كل عضو منه ما كتب الله له أن يناله الطعام أو الدواء أو الماء. فالله عز وجل هو الذي يحفظنا، حتى أنفسنا لا نملكها ولا نستطيع أن ندبرها، ولو وكل الله إلى واحد منا أن يدبِّر عينه فقط، لما اشتغل في الدنيا إلا بعينه، ولو وكل إليك أن تدبِّر معدتك أو قلبك حتى يتحرك، لذهب عمرك كله وأنت تحرك القلب أو تحرك المعدة أو تحرك الكبد أو المرارة أو إلخ. انظروا هذا الصنع العجيب: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] من الذي يُدَبِّر هذا الخلق العجيب، خلق الإنسان؟! ومن الذي يسيره؟! ومن الذي يسخره؟! {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:59] أنحن أم الله؟! الله عز وجل منذ أن وضعت النطفة فالله هو الذي خلقه، ونحن لا نخلق ولا نرزق ولا نعطي ولا نهب ولا نمنع، وكل شيء إنما هو بقدرة الله تبارك وتعالى وبتدبير الله. فيجب علينا أن نحفظ الله ليحفظنا، لكن قد يقول قائل: كيف يحفظني الله؟ هل يحفظني فلا يصيبني أذى، ولا يصيبني بلاء، ولا يصيبني مرض أو مصيبة أو نكبة؟ فنقول: هذا جزء من الحفظ، ولكنَّ هناك حفظ أعظم من هذا كله! إن الله عز وجل إذا حفظته فإنه يحفظك في دينك، وفي إيمانك، وعقيدتك، وفي يقينك، ومعرفتك بالله عز وجل، وهذه هي أغلى شيء في هذه الدنيا، فأعظم شيء في هذا الوجود ليس هو الدنيا فقط أو الأعراض الفانية، فهذه كلها تذهب ولا تنفع. فمن حُرِمَ لذة معرفة الله تبارك وتعالى فقد حرم ألذ الأشياء، كما قال بعض السلف رضي الله تعالى عنهم: [[مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها ولم يذوقوا ألذ ما فيها، قيل: وما ألذ ما فيها؟ قال: ذكر الله عز وجل ومعرفة الله]]. إذا طعمت أكلة لذيذة من ألذ الأطعمة، وأكثرت منها وزدت، فإنك تجد تعباً ومغصاً وتتمنى أنك ما أكلت، وذهبت تبحث عما يُسَّمى بالمهضِّمات! وقد تعجب الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ذلك، وقالوا: [[أمرنا بأن يكفي أحدنا لقيمات، وأنتم تحدثونا عن المهضمات!]] هذا شيء عجيب! وألذ متعة يتلذذ بها أهل الدنيا هي متعة النساء، والذي يحفظ الله يحفظ الله له هذه المتعة، أما الذين يزنون -والعياذ بالله- ويهدرون شبابهم في الزنا، فهؤلاء هم أقل الناس تمتعاً بالحلال إن تزوجوا بعد ذلك. والذين يمارسون هذه الفاحشة القبيحة سواءٌ أكانت زناً أم لواطاً -وهو أقبح وأخبث- يبددون قوتهم، ويبددون متعتهم، ويهدرون طاقتهم، ولذلك لا يتمتعون إلا فترة قليلة من عمرهم! وقد أجريت مقابلة في أحد الكتب مع رجل ممن أصيب بالهربز، فقيل له: كم تمتعت؟ فقال: خمسة عشر سنة -أي أنه: كان يزني والعياذ بالله ويرتكب الفواحش خمسة عشر سنة- ويقول: هذه مدة تعتبر كافية! فهذا مسكين والله! أيها الإخوة: انظروا إلى سير الصحابة -رضي الله عنهم- يبلغ أحدهم الستين والسبعين عاماً وربما أكثر، وهو متزوج ولا يزال يولد له، وعنده الإماء وهو في أحسن الصحة والعافية سبحان الله! يحفظون الله فيمتعهم. والأمثلة على هذا كثيرة، فالشهوات الظاهرة البدنية لا يتذوقها ولا يجد طعمها -على الحقيقة- إلا من حافظ على حدود الله، فما بالك باللذة والنعمة التي لا تقاس بهذا كله؟! بل هي أعظم وأعظم، والتي يحرمها أهل الدنيا، وهي معرفة الله والأنس به ولذة الضراعة إليه ولذة دعائه عز وجل. وكثير من الناس لا يعرف هذه اللذة! ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله وذكر ذلك ابن تيمية وغيره ممن أشاروا إليه: 'بعض الناس تصيبه المصيبة فإذا أصابته أخذ يدعو الله، ويتضرع إليه، ويستغيث به، فيجد من لذة الدعاء والضراعة والاستغاثة إليه والانكسار بين يديه ما ينسيه تلك المصيبة بالكلية، فتكون المصيبة خيراً، فقد فتحت له باباً عظيماً ما كان يعلمه، وتراه يقول: الناس مساكين ما عرفوا هذه النعمة! ومن أين عرف هذه النعمة؟ عرفها بهذه المصيبة! ومن هنا لا يكره الإنسان المصائب، ولا يجزع ولا يقنط من القدر'.

قدرة الله النافذة

قدرة الله النافذة ولذلك قال عقب هذا مباشرة: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا} لو اجتمع كل من فوق الأرض على أن ينفعوك بأي شيء تتخيله لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، فهو الذي يُدبِّر، يُسيِّر، ويُسيِّر ويسخِّر. والخلق مساكين ينقطعون عند الأسباب الظاهرة الحسية الموجودة، كما ضرب لهم مثل بمن رأى الناس يشربون الماء، فرأى ماسورة فيها حنفية يفتحها أحدهم ويشرب ويغتسل ويتوضأ، فذهب واشترى ماسورة، وركَّبها في الجدار، ثم فتح الحنفية فلم يجد ماءً لأنه ظن أن الناس يأخذون الماء بهذه الطريقة، ولم يعلم أن هناك أسباباً أخرى خفية لا يراها ولا يعلمها، وهذا الذي يراه إنما هو سبب ظاهر فقط. بعض الناس يظن أن الوظيفة بيد فلان المسئول، وأنه لو وافق فسيُوظَّف، فهذا سبب آخر من الأسباب الظاهرة، أما الأسباب الخفية الحقيقية فهي بيد الله عز وجل.

الدعاء حق من حقوق الله

الدعاء حقٌ من حقوق الله ولذلك لاحظوا ترابط الحديث، قال: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله} فلا يملك المخلوقون شيئاً، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يملك كل شيء، فلا تهن نفسك ولا تذلها لأحد غير الله عز وجل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ومن آمن بقدر الله فلن يسأل غير الله ولن يستعين بغير الله، وسيطمئن غاية الاطمئنان إن كان في حال النفع وإن كان في حال الضر؛ لأن الأمر قد قضي: {رفعت الأقلام وجفت الصحف}.

الإيمان بالقدر وأثره

الإيمان بالقدر وأثره كل شيء قد كتب كما بيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة} ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] من قبل أن يخلقها، بل من قبل أن يخلقكم، بل من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة! فلابد أن يكون موقفنا مما يقع هو: الرضا والتسليم لله تبارك وتعالى والصبر والاحتساب؛ لأنه من عند الله، ولهذا كان بعض السلف يقول: [[لا أبالي بأي شيء أصبت]]، لا أحد يتمنى أن يصيبه مكروه، لكنه يقول: من أين يأتي ذلك؟ ومن الذي يقدره عليه؟ هذا الأمر الذي أكرهه أنا وأغضب وأجزع منه، من الذي كتبه وقدَّره؟ أليس الله عز وجل؟ فالرضا يكون من جهة أن الله تعالى لا يقدر إلا الخير.

ملازمة الخير للمؤمن

ملازمة الخير للمؤمن وأمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكانت له خيراً، وإن أصابته ضراء صبر فكانت له خيراً. فاحمد ربك، وأيقن واصبر، واعلم أن كل شيء قد قضي، ولا يضرك ما يكيد لك الخلق، وما يمكرون أبداً، والله تعالى سلَّى هذه الأمة فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120]. فما أكثر ما يُكاد لهذا الدين الآن في كل البلاد! كما ترون في البوسنة وفي الفلبين وفي إرتيريا وفي الصومال وفي عدة دول، حتى تنتهي الأمة الإسلامية ودولها وطوائفها. وكم يُكاد لهذا الدين من اليهود، والنصارى، والمنافقين، ومن الفجار، والمفسدين، ومن كل عدو لهذه الدعوة ولهذا الدين!

واجبنا تجاه مكائد الأعداء

واجبنا تجاه مكائد الأعداء الواجب علينا ألا نشتغل عن التقوى والصبر بالحديث عن كيد العدو وتتبعه. لا تشتغل بعدوك وتحمل هم عدوك أكثر مما تحمل هم السلاح الذي تتقي به عدوك، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن كيفية المعالجة من الحسد ومن العين وما أشبه ذلك: 'من أعظم ما يُعالَجُ به ذلك توحيدُ الله عز وجل، وأن تحفظ الله وأن تراقب الله وأن تحفظ جوارحك عن معصية الله، وهذا إذا اشتغلت به كفاك الله تبارك وتعالى كل مؤذٍ وكل شرير وكل حاسد وكل كائد، ولكن إذا اشتغلت بكيد الأعداء وانقطعت عن الصبر وعن اليقين لم ينفعك اشتغالك إلا هماً وغماً'. وهذا ينطبق على واقعنا الآن؛ فمن يشتغل بخطط الأعداء وكيدهم ومكرهم دون أن يكون له زاد من الصبر واليقين، فإما أن يقنط، وإما أن يجزع، وإما أن يهتم ويغتم ولا نتيجة ولا فائدة، لكن يجب علينا التحلي بالصبر واليقين والتقوى مع معرفة كيدهم ومكرهم، مع أنه لا يشترط أن يعرف مكرهم وكيدهم كل أحد، لكن ينبغي ألا يضيع في الأمة؛ لأنه فرض كفاية. أما الأساس الذي يجب أن يكون لدى كل واحد في هذه الأمة فهو الصبر والتقوى التي ندفع بهما بإذن الله تبارك وتعالى هذا الكيد وهذا المكر. ولذلك لا يبالي المؤمن بأذى الخلق؛ فهم لو اجتمعوا على النفع أو على الضر، لم يضروك ولم ينفعوك بشيء من عند أنفسهم استقلالاً، فإن نفعوك بشيء فقد كتبه الله لك قبل أن تُخلق، بل قبل أن يُخلق هذا الكون بخمسين ألف سنة، وإن كان شراً فكذلك.

عواقب سؤال غير الله

عواقب سؤال غير الله إذا أيقنا بذلك، أيقنا أن المستحق أن يسأل وأن يستعان به، وأن يشكر هو الله وحده لا شريك له، الذي إليه المنتهى، والذي عنده خزائن كل شيء، والذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، ويُضحِك من يشاء ويُبكِي من يشاء، ويحيي من يشاء ويميت من يشاء، ويُدبِّر ملكه كما يشاء. وهذا يزيد المؤمن إيماناً وتوحيداً، ويعطيه قناعة عظيمة، وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: {وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} وكما قال في الحديث الآخر صلوات ربي وسلامه عليه: {إن الغنى غنى النفس} فإذا أغناك الله عز وجل وأعطاك الصبر، فقد أعطاك من الخير ما لم يعطه أحداً غيرك، فاحمد الله تبارك وتعالى عليه، ومن هنا إذا سألت فاسأل الله. وقد أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جملة من الصحابة ألا يسألوا أحداً، منهم: أبو بكر وثوبان وأبو ذر رضي الله تعالى عنهم، حتى كان الواحد منهم إذا وقع سوطه، لا يقول لأحد: "ناولني السوط" ولكن ينزل فيأخذه بيده، وإذا انفلت منه خطام ناقته لا يقول لأحد: "أعطني" لكنه ينزل ويأخذه حتى لا يسأل أحداً إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن السؤال -مهما كان- فيه ذل وفيه إشعار بالاحتياج. ولا ينبغي لك -يا أخي المسلم- أن تسلِّم نفسك إلا لله، وألا تشعر أحداً أنك محتاج إليه إلا الله عز وجل، إلا إذا اضطررت فهذا أمر آخر، فالناس للناس، والكل بالله عز وجل. فليكن الأصل الذي تسير عليه هو ألا تسأل الناس وألا تتشكى، وألا تتسخط لديهم. ولهذا كان بعض السلف عندما يرى بعض الناس يشكون، يقول له: أتشكو الخالق إلى المخلوقين؟! فبعض الناس إذا أصابه مرض ذهب واشتكى للناس، وهؤلاء -نسأل الله العفو والعافية- يحرمون أنفسهم من الأجر ويتألمون؛ لأن الشكوى يصحبها عادةً الألم، فتكون المشاكل عندك غير موجودة، فإذا شكوت إلى أحد منهم فإنك تتألم ثم تتألم، فالذين يشكون ويتسخطون عند الناس يعاقبون بالألم ويُحرمون من الأجر، وهذا كما جاء في الحديث: {فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط}. فينبغي للمؤمن أن يتدبر، وأن يتفطن، لهذا ولذلك قال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: 'من صبر فما أقل ما يتحمل، ومن سخط فما أكثر ما يجزع' فإذا صبرت فما أقل ما تتحمل، ولو صبرت العمر كله، فالعمر كله قليل، وما أقل هذه الدنيا بالنسبة للآخرة! كما قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] فالعمر كله قليل، فما بالك والأمر ليس كذلك؟! فلن تصبر عمرك كله؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل للكرب دواءً، وللعسر شفاءً، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعلم أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}. فإذا أصابك أمر فاعلم أن الله تبارك وتعالى سيجعل لك معه يسراً وسيجعل لك منه مخرجاً. وعندما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله} فهذا من أعظم التوحيد، ولذلك نقرأ في صلاتنا هذه السورة العظيمة السبع المثاني الفاتحة في كل ركعة، ونقرأ فيها: إياك نعبد وإياك نستعين. والدعاء يشمل العبادة بل هو العبادة كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فندعو الله تعالى في كل ركعة ونقول: "ندعوك وحدك"؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة، فدعاء المسألة داخلة فيها، "ونستعين بك وحدك" إياك نعبد، أي: نعبدك وحدك - كما هو معلوم في اللغة العربية. وإياك نستعين، أي: نستعين بك وحدك؛ فالاستعانة والعبادة لله وحده لا شريك له، فنجد أننا بذلك نرقى بدرجات عالية، ولا نكاد نحلم فيها أو نتخيلها إلا إذا حققنا ذلك فِعلاً في حياتنا، فالغنى عن المخلوقين يورثك عزاً تجد حلاوته. ولهذا قالوا: 'اسأل من شئت تكن أسيره' أي: اسأل من شئت أن تطلبه تكن أسيره لأنه يأسرك بما يعطيك ويقدم إليك. 'واستغن عمن شئت تكن نظيره ' فأي إنسان تراه كبيراً عند أهل الدنيا استغن عنه تكن نظيره؛ لأنك مُستغنٍ عنه وهو مستغنٍ عنك؛ فأنتما في مستوى واحد وإن كان الناس يرونه كبيراً، فما دمت مستغنياً عنه فأنت نظيره. ' وأعط من شئت تكن أميره ' فإن أعطيته كنت أميره؛ لأنه أصبح أسير نعمتك وعطائك. وهذا لا يعني أن الإنسان لا يسأل إذا احتاج، وإنما المقصود أن يكون أصل نظرتك في الحياة وأصل منهجك الذي تسير عليه كذلك. لأن بعض الناس يذل نفسه من أجل علاوة قد تأتي وقد لا تأتي، أو من أجل مبلغ بسيط، أو من أجل شيء من الدنيا لا يستحق أن تذل نفسك من أجله أبداً. أما الضرورة فهي أمر آخر. لكن عندما ترى حال المسلمين اليوم -بل حال كثير من طلاب العلم- تأسف وتألم لما يذلون به أنفسهم من السؤال وإظهار الفقر والحاجة إلى المخلوقين، ولهم في الله عز وجل الغنى كل الغنى.

عاقبة ذكر الله في الرخاء

عاقبة ذكر الله في الرخاء ولذلك قبل هذا يمكن أن نأتي بالعبارة التي وردت في الرواية الأخرى التي رواها الإمام أحمد وغيره، قال: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة}. يقول الضحاك بن قيس رحمه الله: [[اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة -كأنه يشرح الحديث، ثم ذكر مثلين فقال: إن يونس عليه السلام لما كان يذكر الله تعالى في الرخاء ذكره الله تعالى في الشدة، فقال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]]] فلما دعا بهذه الدعوة العظيمة التي هي من أعظم أدعية الكرب، والتي قيل: إن فيها اسم الله الأعظم، وهي: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) دعا بها يونس عليه السلام في الظلمات: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، دعا فاستجاب الله تعالى له فأنجاه وأخرجه وألقاه الحوت في الساحل، ثم ذكر الحالة الأخرى، حالة الذي لم يعرف الله وقت الرخاء، فقال: [[وانظروا إلى فرعون كان غافلاً عن ذكر الله، مستكبراً على الله، فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]]]. فيونس أنجاه الله، وفرعون لم ينجه، وكلاهما في حالة متشابهة؛ لأن ذلك كان يعرف الله في الرخاء، فعرفه الله تعالى في الشدة، وكان معه، وهذه هي المعرفة الخاصة والمعية الخاصة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فالمعية الخاصة هي معية النصر والتأييد، والمعرفة الخاصة هي أن يعرفك الله تعالى المعرفة الخاصة، وإلا فهو العليم بكل شيء، لكن المعرفة الخاصة لأوليائه أن يقضي حوائجهم، وأن يستجيب دعاءهم، وأن يكشف كرباتهم وما يهمهم وما يغمهم.

طريق الدعوة

طريق الدعوة الدعاة إلى الله اليوم هم أحوج ما يكونون إلى أن يتعرفوا إلى الله تبارك وتعالى في الرخاء؛ لأن الدعوة إلى الله لا تقوم إلا على الشدة والابتلاء والامتحان والمشقات. إن واقعنا نحن شباب الصحوة وشباب الدعوة عجيب؛ فأكثرنا يرى العمل ببعض الواجبات الظاهرة، أو التمسك بالسنن -وهذه نعمة- ويرى أنه في نعمة وفي عافية، ما أراد أن يحضره من المحاضرات حضره، وما أراد أن يسمعه من الندوات سمعه، وما أراد أن يشتريه من الأشرطة اشتراه، والذي لا يناسبه من هذه الأمور فإنه يتركه، وهو في وظيفته وفي عمله مرتاح، وله إخوة في الله يزورونه ويزورهم، فيجد فيهم العوض عن أهل الشر. ولا شك أن هذا خير وأن هذا من بركة الهداية وأنه قبل ذلك لعله كان في رفقة السوء، وكان في بلية وفي ضيق وضنك. لكن ألهذا الحد نقف؟! وهل هذا هو المطلوب منا فقط؟! أيقوم الدين ويقوى عوده، ويدحر الله تبارك وتعالى أعداءه وأعداء دينه بهذا فقط؟! أم أن هناك واجبات ومهمات ومشقات؟! إن طريق الدعوة شاق؛ فكيف نقوى عليها؟! فأحياناً عند أول ابتلاء يمس الوظيفة، أو يمس السمعة، أو بمجرد أن يتكلم فيه الناس والأقارب والأرحام والأصدقاء ترى الداعية بدأ يهتز، ولو جاءت محنة أشد قليلاً، فإنك تراه يكاد يطير، ولو جاء سجن أو شيء آخر، فيمكن والعياذ بالله أن يذهب دينه كله! وهذا لأننا قد نتكلم عن طريق الدعوة، لكن لا نتكلم عن الزاد، ولا نحمل همَّ الزاد، ولا نتزود من هذا الزاد -زاد التقوى واليقين- الذي يعينك فتمضي في هذا الطريق.

سنة الابتلاء

سنة الابتلاء ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه} وفي إحدى رواياته قال: {الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون}، فالعلماء لأنهم ورثة الأنبياء يقومون مقام الأنبياء. وانظروا كيف كان صبر الإمام أحمد، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم من الدعاة والعلماء قبلهم وبعدهم. فكل من دعا إلى الله من العلماء بحق وحقيقة وقال كلمة الحق، ولم يخش في الله لومة لائم، فلابد أن يُؤذى وأن يبُتلى، وأن يُمتحن، وهذه علامة على أنه على الطريق، فلا تقنط، واحمد الله أنك على الطريق، واسأل الله السداد، واصبر على ذلك. ولذلك نقول: هذا الحديث عجيبٌ جداً، وكل عبارة آخذة بعنق ما بعدها، فلذلك قال: {واعلم أن النصر مع الصبر} فإذا أردت أن تنتصر فاصبر. اصبر أولاً على نفسك، هذه الدابة الحرون التي تجمح بك يميناً ويساراً، لو أطعتها ألقتك في النار، فاصبر على ترك ما تريده من رغبات ومن شهوات، وأقل شيء تريده منك أن تنام وتؤخر صلاة الفجر، وهذا الذي قد يحدث لكل واحد منا، وتريدك أن تتغدى وتنام وتؤخر صلاة العصر. وإذا جئت تذكر الله أو تقرأ القرآن جاءك التعب وجاء التثاؤب، وإذا جئت تحمل نفسك على الذهاب إلى الدرس أو إلى حلقة من حلقات العلم والذكر تثاقلت، وجاءتك الهموم والمشاكل والارتباطات، فانتصر على النفس التي هي العدو الذي بين جنبيك، ثم على الشيطان ثم على أعدائك، وما أكثرهم! اصبر، فالنصر على العدو أياً كان إنما هو بالصبر. فهذا عمر رضي الله تعالى عنه وهو الحكيم الذي أعطاه الله تعالى الحكمة، جاء إليه وفد من بني عبس، من قوم عنترة، فقال لهم: بم كنتم تغلبون العدو؟ قالوا: بالصبر. وهو يريد أن يُعلِّم، أما هو فيعلَم ذلك، فمعنى قولهم: إننا نألم كما يألمون لكن نصبر. وعنترة بن شداد هذا الفارس المشهور في الجاهلية ما جالد رجلاً إلا غلبه، إما أن يقتله أو يفر، فبعض الناس يظن أن عنترة لا يخاف من شيء أبداً، فسألوه: كيف تغلب أعداءك؟ فقال عنترة " بالصبر! كلما أردت أن أفر أقول: أصبر قليلاً لعله يفر هو، فيفر فأدركه فأقتله، أو يهرب فأنتصر عليه" فكل الناس عندهم نوازع الخوف، وما يميز بينهم إلا الصبر. والعمر هو هذه الأيام والليالي فقط، قد تموت الليلة، وقد تموت غداً، وقد تموت قريباً، وقد تتأخر فاصبر، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[الموت عقبة كئود، وسوف تعبرها]] فتحمل هذا اليوم وغداً وبعد غد، وإذا بك تحمد صبرك، كما يقال في المثل: ' عند الصباح يحمد القوم السرى ' أي": أنهم يتعبون في مشيهم بالليل، فإذا جاء الصباح نظروا، فرأوا أنهم قد قطعوا مسافة كبيرة بالليل ففرحوا بسراهم بالليل عندما جاء الصباح، وآخرون ناموا بالليل، فإذا هم في الصباح متخلفون عن أولئك، فتراهم في حزن يقولون: هؤلاء قد وصلوا ونحن منقطعون. فاصبر واعلم أن النصر مع الصبر، لا ينفك أحدهما عن الآخر ويوضح ذلك قوله بعد ذلك: {وأن الفرج مع الكرب}. ورحم الله من قال: ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرجُ فغالباً ما يأتي الفرج بعد الضيق والشدة والكرب، ويأتي النصر بعد أن تعاني ما تعاني، وما أكثر الأمثلة على ذلك! ولو بقينا في الأمثلة لاحتجنا إلى لقاءات طويلة في ذكرها.

نماذج من صبر الأنبياء

نماذج من صبر الأنبياء أول الرسل نوح عليه السلام: عانى الكرب! ولهذا يقول الله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] قضَّى ألف سنة إلا خمسين عاماً كلها دعوة، ثم أمره الله عز وجل بعد يأسه من قومه, أن يصنع الفلك {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38]. وتلك مرارة عظيمة أشد من الرجم أحياناً، وكانوا يقولون: كان نوح رسولاً، والآن أصبح نجاراً، يقطع الخشب ويأتي بالألواح والدسر، ماذا تريد يا نوح؟! وهذا يسخر، وهذا يضحك قد أحاط به الكرب، وبعد ذلك نجَّاه اللهُ من هذا الكرب. إبراهيم عليه السلام: جُمع له الحطب الكثير، وأوقدت فيه النار العظيمة، وجيء بالمنجنيق ووضع الخليل فيه، وقذف به، فلما ألقي فيها: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. وصبر إبراهيم عليه السلام على كل ما نزل به، ولم يأتِ الفرج إلا بعد الكرب والشدة، عندما انتهى الأمل في نصر البشر، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]. أي: أن النصر يتنزل على الرسل في أحلك الظروف، وذلك إذا استيئسوا وظنوا أنهم قد كذبوا، وانتهت كل الأسباب المادية، فإبراهيم قد ارتفع في الهواء، وما بقي إلا أن يقع فتحرقه النار، وإذا بها برد وسلام. وإسماعيل عليه السلام: كذلك أنجى الله إسماعيل من الذبح، قال تعالى:: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] فقد تله للجبين، وأمرَّ السكين، وبلغ الكرب غايته بالأب والابن، فالأب قد استسلم لما أمره به ربه، وإسماعيل لما عرض عليه أبوه الأمر {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر ُ} [الصافات:102] فلما صبرا كان لهما هذا الجزاء من الله تبارك وتعالى، مع شدة الكرب فجاء الفرج من الله، وفداه بذبح عظيم. فلا تكره شدة الكرب أيها الداعية؛ لأن الفرج مع الكرب، بل إذا كنت ما زلت في أول الطريق فاحمد الله واصبر، فإذا اشتدت وجاء الكرب، فسوف يأتي الفرج بإذن الله. وموسى عليه السلام: بغى فرعون وطغى، وأفسد في الأرض، كما أخبرنا الله تبارك وتعالى عنه في سورة القصص وفي الفجر وفي الأعراف وغيرها، وفعل الأفاعيل العظيمة المنكرة بهذه الطائفة الذين هم بنو إسرائيل، وسلَّط الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على فرعون وقومه الجراد والقمل والضفادع والدم لعلهم يتوبون ويؤمنون، ولكنهم ظلوا في عنادهم وكبرهم. ثم قال موسى لقومه: إن الله قد أمرنا أن نخرج، فخرجوا ولحقهم فرعون وجنوده، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] وكأنهم يقولون: "يا موسى! ليس لنا الآن حيلة، قد أدركَنا جيشُ فرعون الذي أو لم يقهر، ولا حيلة ولا مهرب؛ فالبحر أمامنا وهذا فرعون وجنوده خلفنا! وانتهى كل شيء. فيأتي الفرج من الله عز وجل مع هذا الكرب الشديد، ومع استحكامه! وعيسى عليه السلام: لما مكر به اليهود وأحاطوا به، وما بقي إلا أن يقتلوه ويعلقوه على الصليب، رفعه الله تبارك وتعالى إليه، وألقى الشبه على الذي نمَّ ودل عليه، فوضع مكانه وصلب!

نماذج من السيرة النبوية

نماذج من السيرة النبوية أما رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما أكثر ما مر عليه من الكروب صلوات ربي وسلامه عليه، وهذه سيرته بين أيدينا. في يوم الغار يقول أبو بكر رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا} ولا حيلة لهما، فهما اثنان، وصناديد قريش بعدتهم حول الغار، وقد أغروا من يأتيهم بمحمد أو بـ أبي بكر حيين أو ميتين بمائة ناقة، وهي أعز وأعظم مال عند العرب كرب شديد، إذا دخلوا عليهم الغار، فأين المهرب؟! فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ أبي بكر: {ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! ويقول له أيضاً: لا تحزن إن الله معنا!} سبحان الله! فعند شدة الكرب يأتي الفرج من الله، وانصرفوا عنهم، بل قيَّض الله لهم من يصرف الناس عنهم بعد أن كان طامعاً في قتلهم، فكان سراقة يقول لهم: {أما هذا الجانب فقد كفيتموه} اطمئنوا فليسوا هنا أبداً، ابحثوا في مكان آخر، فلقد أراد الله أن يصرف عنه السوء حتى يصل إلى المدينة. واشتد عليه الكرب صلوات ربي وسلامه عليه يوم أحد كما تعلمون، ثم جاءه الفرج من عند الله، ونزلت ستون آية عظيمة من سورة آل عمران تُبَيِّنُ الحِكَمَ العجيبة والنعم الباطنة الخفية ضمن هذه الحادثة المؤلمة. ويوم الأحزاب تألبوا واجتمعوا عليه حتى قال المنافقون: "يعدكم محمد بملك كسرى وقيصر، ولا يستطيع أحدكم أن يقضي حاجته!! ". والمنافقون هذا شأنهم في كل زمان ومكان! فهم الآن يقولون لنا: أنتم تزعمون أن الله ينصر الإسلام ويعز الدين، فهاهم المسلمون في كل مكان يقتلون ويهانون! وهذا كلام المنافقين؛ لأنهم رأوا الجولة الأولى، والشوط الأول فقط! فنقول لهم: انتظروا! ما زالت المعركة طويلة لم تنته بعد، فلا تتعجلوا! ثم استحكمت حلقاتها بنقض بني قريظة للعهد، والمدينة محاصرة، وجميع قبائل العرب ضدهم، وإذا ببني قريظة -وهم من أهل العهد والذمة، وهم بداخل المدينة - ينضمون إلى الكفر وإلى العدو المحاصِر، فماذا بقي؟! ويأتي الله عز وجل بالنصر، ويأتي بالفرج من عنده، ويرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يروها ويذهب كيدهم ومكرهم، ويهزم الله الأحزاب وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فله الحمد وحده، فهو الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وكم من أحداثٍ عظيمة في السيرة النبوية!

بشائر الفرج لأهل الابتلاء

بشائر الفرج لأهل الابتلاء كلما استحكمت حلقات الضائقة، وكلما اشتدت الكروب، وكلما رأيت أن لا مخرجَ ولا حيلةَ، فاعلم أن الفرجَ قريب. وفي الحديث الذي تقدم معنا في أحاديث الصفات، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده وقرب غيره} إذا امحلو حطوا وأجدبوا. وترى الناس كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:49] تراهم مبلسين يائسين، قانطين جزعين؛ فلا ماء، والدواب قد هلكت، والأرض قد يبست، والرياح تعصف بأراضيهم الغبار، ففي هذه الحالة يضحك الله تعالى لما يرى من قنوطهم وجزعهم وإبلاسهم، وقرب غيره، إنه قريب، ولكنهم لا يدرون إنما هي أيام أو أسابيع، وإذا بالغيث والنعمة المنشورة والرحمة تأتي من كل مكان! وإذا بالخضرة! وإذا بالورود والأزهار والطيور والخيرات والبركات! ثم تأتي إلى هؤلاء فتقول لهم: أتذكرون تلك الأيام، فيقولون: يا شيخ! لا تذكرنا بتلك الأيام، فقد مضت. لا يريدون أن يتذكروا تلك الأيام، وكأن هذا هو كل شيء!! يضحك الله عز وجل من قنوط البشر مع أن رحمته قريبة تبارك وتعالى. ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأن مع العسر يسراً} وهذا كما في كتاب الله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6]. ومن أعظم نعم الله عز وجل -وقد عبَّر عنها جماعة من السلف، كلٌ منهم بأسلوبه: الصبر واليسر والرضا. من أعظم نعم الله عز وجل على الإنسان أن يذيقه حلاوة الصبر، باستشعاره أن مع العسر يسراً، فمهما نزل به من كرب، ومهما ألمت به من مصيبة، ومهما يرى أنه قد أحيط به، فإنه يعلم أن مع العسر يسراً، فيبرد ذلك قلبه، ويخفف لوعته، ويطفئ مصيبته، ويستيقن أن الله عز وجل لن يضيعه. فالنصر مع الصبر مقترنان لا يفترقان، والفرج مع الكرب مقترنان لا يفترقان، فبإذن الله لا يقع هذا إلا مع هذا، ولو جاء النصر من غير صبر لما كان له طعم. فلو ذهبتم لتقاتلوا عدواً، فلما أشرفتم عليه هرب، وأخذتم الغنائم ورجعتم، لما كان لذلك طعم، كما إذا قاتلتم أياماً وليالٍ مثل أيام وليالي القادسية، والتي كانت شديدة على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم جاء نصر الله عز وجل؛ فالنصر بعد التعب له لذة وحلاوة. وكذلك الفرج لا يأتي إلا بعد الكرب، فليتحمل الإنسان ذلك، وكذلك اليسر أو اليسران، فهما يسران يأتيان بعد العسر ومعه، فإذا تضرع الإنسان واستعان بالصبر، نال النصر، والفرج، واليسر بإذن الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2 - 3] أي: كافية من كل شيء تبارك وتعالى.

الواجب بعد سماع الوصية

الواجب بعد سماع الوصية إخوتي الكرام: قد أجملنا إجمالاً، وأشرنا إشارات لما يتضمنه هذا الحديث الشريف العظيم، من الوصايا الجامعة المانعة والحكم العظيمة التي نريد أن تكون بإذن الله زاداً لنا في حياتنا. فأوصي نفسي وأوصي إخواني جميعاً: أن نعمل بهذه الوصية وأن نهديها إلى كل من نحب، وأن نكون من المتدبرين لهذه الوصايا فهماً، والممتثلين لها عملاً، والداعين إليها، والموقنين بما فيها، وأن نوقن بها حق اليقين. فهذا كلام رسول رب العالمين صلوات ربي وسلامه عليه، وهذه وصيته، لم يوص بها عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وحده، بل هي لنا جميعاً؛ ولهذا تحدث جمع من الصحابة عن هذه الوصية التي أوصاها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي لكل من يريد الخير من هذه الأمة، أن يكون حافظاً لحدود الله، وأن يكون راضياً وصابراً على أقدار الله عز وجل، وأن يتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفه الله في الشدة، وألا يسألَ إلا الله، وألا يستعين إلا بالله تبارك وتعالى، وأن يصبر ويعلم أن عاقبة ذلك هو نصر الله تبارك وتعالى له وتوفيقه وتأييده وحفظه ورعايته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فالحمد لله، كما هو مشاهد وأقول لإخواني دائماً: لا تنسوه، فوالله إنكم تعيشون وتتقلبون في نعم يحسدكم عليها أهل الدنيا الذين حرموها وأنتم لا تشعرون بها. وهم إما أنهم لا يعلمون بما نحن فيه، ولو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، أو أنهم يعلمون ولكن لا يستطيعون نيله؛ لما حجبوا به من الشبهات والشهوات. أنتم والله في نعم عظيمة، فأنتم تقرءون كتاب الله، والحرف الواحد منه بعشر حسنات، أليستْ هذه نعمةً عظيمة؟! أنتم -والحمد لله- عرفتم العقيدة الصحيحة التي ينجو بها العبد عند الله، أليست هذه نعمة عظيمة؟! أنتم عرفتم طريق الدعوة إلى الله، وكثير من الشباب في العالم الإسلامي يتمنَّى أن يأتي إلى هذه البلاد منحة أو دراسة أو بأي شكل؛ ليتعلم هذا العلم ويدعو إلى الله، وقد وفقكم الله لهذه النعم كلها، فاشكروه عليها، واعلموا أن الله سائلكم عنها.

الإبلاغ والتذكير

الإبلاغ والتذكير ومن الواجب أن ندعو إلى الله عز وجل وأن نذكر أنفسنا وإخواننا بهذا؛ وإلا فلماذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}؟! إذا بلغك حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبلغه لأخيك، وأحب له ما تحب لنفسك. فإذا قرأت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {"لا حول ولا قوة إلا بالله" كنز من كنوز الجنة} واستبشرت بالكنز، فدل أخاك عليه، وأخبر جماعة المسجد وقل لهم: هناك كنز عظيم ثمنه كلمة! فوالله لو قلت لبعض الناس: " هناك كنز في مكان بعيد لم يعرفه أحد بعد، ولو حفرتم لوجدتم الذهب، لرحلوا معك ولو إلى آخر الدنيا! دلهم على كنز عظيم أن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله! ودلهم على شيء خير من الدنيا وما فيها: ركعتا الفجر! ودلهم على شيء لا يجدون عنه عوضاً في دنياهم، لو قال الواحد منهم: "سبحان الله وبحمده" مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وما أحوجنا إلى هذا! يجب علينا أن نستشعر أهمية الدعوة، وأن ندعو الناس إلى الله عز وجل، وألا نكتنز هذا العلم والخير وهذه المعارف والحقائق لنا، وندع الناس في غفلتهم وفي لهوهم وفي مشكلاتهم. لا تغركم مظاهر الناس؛ فإنك تجد الواحد منهم في القصور أو في الفلل، وتجد السيارات والحشم والخدم والرواتب والوظائف، فإذا دخلت إلى أعماقهم فإنك تجد الكرب والحزن، وتجد الزوجة تخاصمه، والأبناء في عقوق له، والبنات أيضاً لا يسمعن له، والسائق يغشه، ومدير العمل يخونه، وفلان يغضبه، والموظفون يكرهونه. سبحانه الله! ادخل إلى قلوبهم فوالله لن تجد إلا النكد والألم! وكل من تعلق بغير الله وكل إليه، فمن تعلق بالدنيا وُكِل إليها، ومن تعلَّق بمخلوق وُكل إليه.

التحلي بمشاعر الحب

التحلي بمشاعر الحب أيها الإخوة: لا يكفي أن نتعلق بالله -ونسألُ الله تعالى ذلك- ونتعلق بحب الله وما أضعفنا في ذلك، ثم نترك الناس يتعلقون بما شاءوا ويحرمون من هذا الخير، بل نحبه لأنفسنا، ونرثي لحالهم، فهم والله مساكين، كما قال هذا العالم من السلف: (مساكين الذين ما عرفوا الله). والله! إن الذي تفوته حلقات الذكر مسكين، والذي تفوته الصلاةُ جماعةً مسكين، والذي لا يحجب زوجته وبناته ويمنعهن من النظر إلى ما حرم الله مسكين، هذا يستحق الرثاء. ولذلك كان بعض السلف يستعين على دعوته، برثائه للخلق وبرحمته لهم، وله أسوة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح الدم عن وجهه، ويقول: {اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون!} إن الناس لا يعلمون أننا نُحب لهم الخير، فتراهم إذا نظروا إليك أحياناً يكادون أن يزلقوك بأبصارهم وأن يبطشوا بك، وأنت لا تريد لهم إلا الخير، حتى الذي ترى أنه أعدى عدو لك، أو أنه يمكن أن يتسلط عليك ويقتلك ويفعل بك ما يشاء، فإنك تحبه وتريد له الخير، وتقول له: إذا تبتَ وآمنتَ فأنا أغفر لك وأسامحك من كل شيء، حتى وإن كنت قد فعلت بي ما فعلت وأسأت إليَّ ما أسأت، فما دمت قد عرفت الله وتبت إليه، فغفر الله لك! ونحن من اليوم إخوة أحبة في الله، فنحن لا نريد منهم شيئاً. لكن هل يعلمون أننا نُكِّنُ لهم هذا الشعور؟! ما أظن كثيراً منهم يعلم بذلك، لأننا ما أشعرناهم بذلك وما أعلمناهم به، وما رأوه منا، ولهذا يتصور كثير من الناس أن هؤلاء الدعاة وهؤلاء الشباب وحوش، ينتظرون الفرصة لينطلقوا عليهم ويفتكوا بهم ويعبثوا بهم، كالذئبين الجائعين إذا فتكا بفريسة! ونحن لا نريد لهم إلا الخير فدنياهم هذه التي يخافون عليها لن ننافسهم على شيء منها، ولو كانت أضعافاً مضاعفة! فلا نبالي بشيء منها ولا نريدها، إنما نريد وجه الله، ونريد ما عند الله، ونريد أن يحرروا أنفسهم من العبودية لغير الله؛ فالدراهم والدنانير والزوجة والمجلة والفيلم والشهوة كلها عبوديات. فأقول يا إخواني الكرام: ليجعل كل واحد منا له ورداً من كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وردت هذا المورد العذب الزلال، وتنعَّمت بهذه النعمة، فاقطف من ثمراتها شيئاً، وقدمه لجيرانك ولإخوانك ولزملائك في العمل ولمن تحب ولمن تستطيع أرسل به رسالة إلى واحد في آفاق الدنيا، واصرف في ذلك من مالك؛ سواءٌ كان في أمريكا، أو في الشرق، وفي الغرب، وبين له هذا الخير وهذا النور، فقد يفتح الله على يديك ما لا تعلم. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لهذا، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

حدود الله عز وجل

حدود الله عز وجل Q ما هي حدود الله التي أمر بحفظها؟ وما معنى " احفظ الله تجده تجاهك"؟ A حدود الله: هي كل ما شرعه الله وحفظ حدود الله يكون بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، والصبر على طاعته والصبر عن معصيته، والصبر على قضائه وقدره، فهذا كله من حفظ الله ومن حفظ حدوده. أما معنى " احفظ الله تجده تجاهك " فهي تعني المعية الخاصة. " احفظ الله تجده تجاهك " أي: معك معية خاصة؛ لأن من الصفات الثابتة لله المعية، وهي نوعان: المعية العامة: وهي معيته للخلق أجمعين، كما قال تعالى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فهذه لكل الناس فهو معهم كلهم. وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:16 - 17]. فهذه معية عامة لله تعالى، فهو مع كل الناس بعلمه، وهو تبارك وتعالى مُطِّلعٌ على أحوالهم، ولا تخفى عليه منهم خافية. والمعية الخاصة: وهي المقصودة في الحديث، وهي مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]. هذه المعية الخاصة كما قال الله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحزن إن الله معنا} أي: يحفظنا وينصرنا ويرعانا ويوفقنا. وهنا نشير إشارة فاتتنا من قبل، فنقول: إن من أعظم نصر الله، وتوفيقه ومعيته، وحفظه لك أن يحفظك عن الذنوب والمعاصي، ولهذا قال الحسن البصري، وقال أبو سليمان الداراني وغيرهما من الأئمة الذين تكلموا في هذا الموضوع العظيم، موضوع الإيمانيات والرقائق: "إنما عصوه لهوانهم عليه -أي: أن أهل المعاصي هؤلاء، إنما عصوه لهوانهم عليه- ولو كرموا عليه لحجزهم" أي: لو كانوا كرماء على الله لمنعهم من الوقوع في المعاصي، لكن من هوانهم على الله تركهم يقعون في الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. فكل من عصى الله فلهوانه على الله عز وجل، ولو كرم عليه لحجزه ولعرَّفه به تبارك وتعالى، وإذا عرف الله وعظَّم الله لم يعصِ الله عز وجل، فهذا من أعظم ما يجده العبد من أنواع المعية الخاصة.

حكم الواسطة

حكم الواسطة Q كثير من الناس إذا أراد عملاً أو وظيفة في مكان ما، يبحث عن واسطة، ويقول بعضهم: لا بد من واسطة، فهل هذا ينافي التوكل التام على الله تبارك وتعالى؟ A الأسباب لا بد منها، وهي لا تنافي التوكل، وهذا موضوع آخر غير الموضوع الذي نحن فيه، لكن الآن الكلام جرَّنا إلى الحديث عن الواسطة، فلابد أن نشير إلى شيء مهم، وهو أن الناس كلما أحدثوا ذنوباً أحدث الله لهم عقوبات، يعلمونها أو لا يعلمونها، فالواسطة عقوبة من العقوبات، أن بعض من تولَّى لم يتق الله فيما تولاه من عمل، فمن تولى على شركة أو إدارة أو وزارة أو مصلحة معينة، لو اتقى الله ولو توكل على الله؛ فمن جاء إلى وظيفة، فلن يحتاج إلى الواسطة؛ لكن لأن المسؤول لا يتقي عقوبة الذنوب التي عليه وعلى من تولى؛ ولأن السائل ضعيف اليقين وضعيف التوكل، فإنه احتاج إلى هذه الواسطة. حتى إن بعض الناس يقولها لك بصراحة: عندك واسطة؟! أنت تأتي بالأوراق كاملة وهو يقول: عندك واسطة؟! وهو في نفس الإدارة التي تذهب إليها! ما الذي أحوجنا إلى أن نتوسط بالمخلوق إلى المخلوق الضعيف؟! نحن نشتكي من الضعيف إلى الضعيف، ونستشفع بالفقير إلى الفقير، ونستدل بالأعمى على الأعمى، ضعف إيمان مشترك من الطرفين، ولو صدق يقيننا في الله لرزقنا، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً} فليس لدى الطيور مستودعات ولا ثلاجات ولا خزانات ولا إلخ لكنها كل يوم تروح في أرض الله خماصاً خاوية البطون، وترجع بطاناً قد أشبعها الله من فضله، لكننا نحن في طمع وشره، فالمسئول يريد الواسطات؛ لأنه لو جاء صاحب الطلب وأوراقه مكتملة، ومشى أمره، فلن يستفيد من ورائه مصلحة أما في حالة الواسطة فإنه يستفيد؛ إذ إن هذا الواسطة يبادله بمصلحة مماثلة عند الاحتياج، ويخضع له ويحترمه. وهكذا النفوس إذا خوت من مراعاة تقوى الله؛ وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} فلو أن كل إنسان اتقى الله وعرف هذا الحديث فلن نحتاج بعد ذلك إلى الواسطة. فأول ما بدأ قال: {فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته} فذكر أكبر ولاية، ثم ضرب مثالاً لأصغر ولاية فقال: {والخادم راع في بيت سيده} وهي ولاية الخادم. فما بين الولايتين كلهم مسؤولون، فعليهم أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه سائل كل راع عما استرعاه؛ فإذا اتقوا الله فلن نحتاج بعد ذلك لا إلى واسطة ولا إلى غيرها.

علامات قبول التوبة

علامات قبول التوبة Qكيف يعرف العبد إذا ارتكب معصية أن الله تاب عليه؟ A هذا سؤال عظيم، فكثير من الإخوان من يقول: أنا تبت، فكيف أعرف أن الله تاب عليَّ؟ فاعلم يا أخي الكريم أن من علامات قبول الحسنة أن تفعل الحسنة بعدها، فإذا أديت الحج، فإن علامة قبوله أن تكون في محرم وفي صغر في طاعة الله، فتكون قد انتفعت بذلك الحج فاستقمت، وإذا صمت رمضان فإنك تكون في شوال مستقيماً على الطاعة ومحافظاً عليها وهكذا. فعلامة قبول التوبة الاستقامة على أمر الله، فإذا استقمت فاعلم أنك قد كرمت عليه، فلما كرمت عليه بالتوبة حجزك ومنعك عن العودة إلى المعصية، لكن لو رجعت إلى المعصية فأنت عليه هين، فلم يحجزك ولم يمنعك، فارجع إليه، ولا تمل بابه؛ فهو الكريم الذي لا يجوز أن نمل سؤاله أبداً، ولا ملجأ لنا ولا منجى إلا إليه. وقد ذكر بعض العلماء قصة الصبي، وهي تدعو إلى التفكر والتدبر، وهناك من ينظر ويأخذ العبر، وهناك من لا يأخذ العبرة. رأى بعض العلماء صبياً خرج من بيت أمه وقد أغضبها، فتوعدته، فخرج من البيت ثم لما جاع وذاق حر الشمس، إذا به يرجع ويدق الباب وينادي أمه: " يا أماه افتحي"، ففتحت له أمه واحتضنته، وقالت: ألم أقل لك يا بني: لا تذهب ولا تبعد عني؟! وأنا رحيمة بك وأنا أعطيك، وأنا كذا، قال: فتذكرت على الفور رحمة الله عز وجل، وباب الله عز وجل! أيها الإخوة: الواحد منا يشرد بالمعاصي والذنوب عن الله، وباب الله تبارك وتعالى مفتوح فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار} يبدل السيئات حسنات لمن تاب، لكنَّ الذي يهرب والذي يشرد إنما هو نحن، فإذا هربنا فإلى أين؟! وإلى متى؟! إننا سوف نرجع إليه وندق بابه مرة ثانية! فيجب علينا ألا نهرب ولا نبتعد عن الله عز وجل، ولا نتبغض إلى الله بالمعاصي، بل نتحبب إليه بالطاعات ليفيض علينا جزيل النعم، ومهما هربنا فلابد أن نرجع إليه، فلنعد إليه ولا نبتعد عن طريقه ولا عن بابه الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

حقيقة النصر

حقيقة النصر Q النصر للداعية والدعوة قد يكون بانتقال الداعية إلى الله، فتبقى الدعوة ويأتي النصر لمبادئ الداعية، أليس كذلك؟ A بلى! فهذا ممكن، كما فعل الملك الظالم بأصحاب الأخدود حفر الأخاديد وأجج النيران وألقاهم فيها، وانتهت القصة كما في سورة البروج، وإذا قرأنا سورة البروج، فليس فيها ذكر لانتقام الله من الظالمين، ولا يوجد في القرآن في موضع آخر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى انتقم من صاحب الأخدود ونجَّى أولئك فتتعجب! إنما قتل أتباع الغلام وأُحرقوا، والملك باقٍ ولكن في الحقيقة انتصر الغلام، وانتصر الذين أحرقوا وخدّت لهم الأخاديد، انتصاراً عظيماً وبقي التوحيد، ولو لم يظهر الله عز وجل نصرهم إلا بأن يبعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بمئات السنين، وينزل عليه هذه السورة العظيمة، ويظهر لنا انتصارهم، ونقرأ هذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم نتحدث عن انتصارهم على الكفر وعلى الشرك وعلى نار الدنيا، وأن الله تعالى وعدهم بالفوز الكبير في الآخرة.

بشائر النصر

بشائر النصر السؤال يقول: هل الأحداث والكروب التي تحدث للمسلمين في زماننا هذا؟ A نعم! فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب} فهي بشرى خير، لكن يجب أن نكون أهلاً لنصر الله، انظروا البوسنة كمثال، ولا أريد أن أطيل عليكم بها، كان المسلمون في البوسنة والهرسك لا يعرفون الله، واسألوا أي إنسان من إخواننا هناك، لكن لمّا جاءت هذه المحن وهذه الكروب بدءوا يعرفون الله، ويعرفون الدين، ويعرفون الفرق بين المسلم والكافر! فالصليبيون من الصرب والكروات والغرب ومن وراء الغرب ومن مع الغرب ومن يعطي للغرب الأموال، كل هؤلاء حفروا جرحا عميقاً في الجسد الأوروبي لن يندمل أبداً. نحن موقنون أننا بإذن الله سنفتح روما، وهذه الأحداث مقدمة لفتحها، وهؤلاء حتى لو وقعوا الصلح واتفقوا كلهم، فالمجاهدون لن يضعوا السلاح -تأكدوا من هذا- وسيستمرون، وهذه المآسي والكرب والاغتصاب والانتهاك سيندم عليه الصليبيون ندماً عظيماً، لكنهم لا يدركون الآن ذلك، إذا كانوا نادمين؛ لأنهم تورطوا في الصومال، فما بالكم بـ البوسنة؟! لكن نظرتنا قاصرة، نولول ونقول: انتهى كل شيء انتصروا، دمروا، فعلوا! هذه عقوبة الذنوب أصلاً، لكن سيأتي الفرج بإذن الله تبارك وتعالى، وما يحدث في فلسطين وفي أي مكان، فلا يأتي هذا الكرب وهذا الأذى وهذا البلاء، ونصبر ونحتسب إلا وبعده النصر بإذن الله، فإن أبطأ النصر فنحن السبب، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. إن وعد الله لا يتخلف، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] في الحياة الدنيا، وليس فقط في يوم القيامة.

حكم شكوى الهموم إلى المخلوقين

حكم شكوى الهموم إلى المخلوقين Q قلتَ: إنه لا يجوز أن تشكو لأحد همك، ونلاحظ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشكو هم قومه إلى زوجه؟ A الأصل أن لا تشكو إلا إذا اضطررت أن تسأل مخلوقاً أو تستعين بمخلوق كأن تشكو إلى طبيب ليعالجك فهذا بقدره، لكن الأصل ترك الشكوى إلا إلى الله تبارك وتعالى. ونختم بسؤال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الجواد، المنان، ذو الفضل العظيم، واسع العطاء، واسع الرحمة أن يغفر لي ولكم ما قدمنا وما أخرنا، وأن ينفعنا بما قلنا وما سمعنا , وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأوليائه المتقين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.

واجب المسلم تجاه مجتمعه

واجب المسلم تجاه مجتمعه بدأ الشيخ حديثه بذكر أهم الواجبات التي تقع على عاتق المسلم تجاه مجتمعه، مدعماً ذلك بذكر بعض الأمثلة من واقع الصحابة ومن واقعنا، ومؤكداً على ضرورة تطبيق الأخلاق الإسلامية، في واقع الحياة، موضحاً أن صفة الخيرية لا تزال ملازمة هذه الأمة حتى قيام الساعة.

الحقوق الواجبة علينا

الحقوق الواجبة علينا إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا إنك أنت العليم الحكيم. إن الموضوع الذي نريد أن نتذاكر وإياكم حوله ما هو عليكم بجديد، وإن كان الناس في هذا الزمان قلَّ أن يتحدثوا عن الواجبات ولا سيما عما يجب عليهم هم. فكما ترون الواقع اليوم: أكثر الناس إلا من رحم الله من أهل العدل -وقليل ما هم- هم الذين يتكلمون عما يجب عليهم، وعما يجب لهم، فإنما يتكلمون عما يجب لهم فقط ولا يتحدثون ولا يبحثون ولا يفكرون فيما يجب عليهم نحو أصحاب الحقوق الأخرى. فمثلا: نجد أن الرجل أو الزوج كثيراً ما يتحدث عن حقوقه على الزوجة، ونجد الزوجة كثيراً ما تتحدث عن حقها على الزوج، ولكن قل من الرجال من يتحدث بإنصاف عن حق المرأة على الرجل، وكذلك قلَّ من النساء من يتحدثن بإنصاف عن حق الرجل أو الزوج على المرأة. كما نجد أن الآباء أكثر ما يتحدثون عن حق الآباء على الأبناء، وقلَّ من الآباء من يتكلم عن حقوق الأبناء على الآباء. ولو نظرنا إلى ما هو أكبر من ذلك، فإنا نجد أن الحكام أكثر ما يتحدثون أو يتكلمون عن حق الحاكم على المحكومين، ولكن يندر أن تجد من الحكام من يتكلم عن حق المحكومين على الحاكم. وكذلك إذا نظرت إلى الرعية، فإنك أكثر ما تجد الناس يتكلمون دائماً عن حقهم على الحكام، ولكن هل تكلموا عن حق الحكام عليهم هذا قليل. وهكذا حال الناس إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وذلك لما ركب في طبع الإنسان وخلقته من الظلم والجهل الذي لا يعصمه منه، إلا أن يستمسك بهدى الله -تبارك وتعالى- كما قال عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]. ولذلك يجب على الإنسان المؤمن أن يعيد الأمر إلى نصابه، وأن يكون قواماً بالعدل قواماً بالقسط. وإن تحدث فليكن أكثر ما يتحدث فيه عما يجب عليه؛ لأن الذي لك إن لم تأخذه في الدنيا فسوف تأخذه في الآخرة، لكن الذي يجب عليك، سوف تسأل عنه في الدنيا وفي الآخرة.

مجتمعات اليوم وأسلوب تعاملها مع الفرد والمجتمع

مجتمعات اليوم وأسلوب تعاملها مع الفرد والمجتمع نحن نجد اليوم أن المجتمعات في هذه الأرض، وفي هذا العالم المزدحم بالأمواج من الفتن والآراء والأهواء والنظريات والفلسفات، على فريقين: الفريق الأول: مجتمعات أو أمم تهضم حق الفرد، فلا ترى للفرد حقاً ولا تكاد تقيم له وزناً، وهي الدول العقائدية، أو الدول التي قامت على نظريات فلسفية منذ القدم، منذ أن نَظَّر أفلاطون لجمهوريته، وإلى الماركسيين المعاصرين في كثير من دول العالم، وكذلك الحكومات القومية في العالم الإسلامي وغيره، هذه كلها مجتمعات تجحف حق الفرد وتتناساه، وتربي الناس على حق الأمة وواجب الأمة وما ينبغي للأمة. الفريق الثاني: المجتمعات الرأسمالية، وهي إنما تنزع إلى إحياء وبعث وتعميق النزعة الفردية، فالحق عندهم للفرد، ولا ينظرون إلى المجتمع إنما المهم هو الفرد والإنسان في ذاته. وهذا -أصلاً- موجود في الفطرة فالإنسانية، الإنسان محببٌ إليه أن يسعى وأن يعمل لذاته وحدها، ولكنَّ ذلك أُصِّل وفق نظريات ومناهج في العالم الغربي الرأسمالي منذ أيام الرأسماليين الأوائل مثل آدم إلى ريكاردو وإلى الآن. فإن الواقع الذي تعيشه الامبراطوريات المالية -كما يسمونها في العالم الغربي- نجد أفراداً أو قلة قليلة تتحكم في أكثر من ثلثي أو ثلاثة أرباع ثروة المجتمع ومُقدراته وإعلامه ورأيه وفكره. وهكذا نجد أن الظلم الذي نجده في أنفسنا نحن المسلمين أو الجانب الذي نحاول أن نحاربه في أنفسنا ونشعر به، نجد أنه على مستوى العالم الآخر يكون كأشد ما تكون حالات الظلم وضوحاً وتجلياً، وما ذلك إلا للانحراف عن هدى الله، ومنهجه -تبارك وتعالى- الذي أنزل علينا الكتاب مفصَلاً، والذي تمت كلماته صدقاً وعدلاً، والذي أعطى كل ذي حق حقه، فلا يجور الفرد على المجتمع، ولا يجور المجتمع على الفرد، وإنما لكل منهم حقه المشروع، فلا تتصادم الحقوق ولا تتعارض، ولكن تنسجم وتتلاءم، وكلها فيما يرضي الله -تبارك وتعالى- فينال كل ذي حق حقه بالقسط، دون أن يحيف أو يجور في حالة من الحالات.

الحقوق الواجبة علينا تجاه مجتمعنا

الحقوق الواجبة علينا تجاه مجتمعنا نرجع إلى أصل قضيتنا: وهو أنه لا بد للواحد منا -والمقصود بالمسلم عندما نقول: "واجب المسلم" نحن طلبة العلم خاصة- أن يتذكر دائماً أن لهذا المجتمع حقاً علينا، أن المجتمع الذي تعيش فيه سواء كان مجتمع الحي الذي تقطنه، أو القرية التي تسكن فيها، أو المدينة التي تعيش فيها، أو البلد أو الأمة بأكملها، فإن عليك حقوقاً وواجبات تجاهها لا بد أن تُفكِّر فيها، وأن تعمل على أدائها بما يعينك به الله تبارك وتعالى. وهذه الحقوق لا نستطيع أن نستعرض كل ما جاء فيها من نصوص وأحكام، فهي كثيرة جداً، لكن لابد أن نعلم -جميعاً- القاعدة التي تعلَّمناها من خلال اطلاعنا ومعرفتنا بالمصطلحات والألفاظ في البيان القرآني، أو في البيان النبوي، أن هناك جملة من الألفاظ والمصطلحات والمفردات، وإن تنوعت دلالتها عند الاقتران، فإنها لا تختلف عند الإفراد، مثل: البر، والتقوى، والخير، والهدى، والصلاح وأشباه ذلك، فإنها تُؤدي -جميعاً- إلى حقيقة واحدة ومؤدى واحد، وهذا من بلاغة البيان القرآني والبيان النبوي، وسمو وجمال اللغة العربية التي اختارها الله تبارك وتعالى، لتكون أداة لحمل هذا الدين، ولله الحمد.

النصيحة

النصيحة يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جانب المعاملة وجانب الحقوق: {الدين النصيحة} انظروا! كيف كانت الجملة! مبتدأ وخبر، مسند إليه ومسند، بأبلغ وأوجز ما يمكن من العبارات، ولكن ذلك يشمل الدين كله، والخير كله، والبر كله، ولهذا لما قال أصحابه صلوات الله وسلامه عليه وعليهم جميعاً: لمن يا رسول الله؟ قال: {لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم} أي: وكأن الدين كله تجمعه كلمة واحدة، وهي كلمة النصيحة، فلا بد أن يكون المسلم ناصحاً. والنصيحة تجمع أمرين: تجمع الإخلاص، وتجمع الصدق، فكأنك بهذه الكلمة تقول: كن مخلصاً وكن صادقاً، فإن الرجل إذا نصحك، ولو كان كلامه، وتوجيهه وإرشاده لك حقاً، ولكن لم يكن عن إخلاص، فإنه لا يُسمى ناصحاً، وكذلك لو كان مخلصاً في قوله، ولكن لم يكن صادقاً فإنه لا يُسمَّى ناصحاً. فحقيقة النصيحة ما يجمع معنيين: الإخلاص والصدق، ولهذا قال الرسل الكرام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62] {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] فكأن عمل الدعاة يتلخص في أن الواحد منا يجب أن يكون ناصحاً أميناً، ينصح لهذه الأمة، كما بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينصح لله أولاً، ولكتاب الله تبارك وتعالى، ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم للأمة خاصتها وعامتها، فلا بد أن يسأل الإنسان نفسه عن ذلك: هل أنا ناصح فعلاً؟ وهل نصحت؟ وهل قمت بهذا الواجب؟ هذه أسئلة لا بد للإنسان منا أن يتأملها مع نفسه ومع إخوانه في الله، لينظر ما موقعه من هذا الحديث الشريف العظيم، الذي هو من جوامع كلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أحب لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك

أحب لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك ومثله وقريب منه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} هذا كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونأخذ من الحديث أهمية المحبة، وهذه المحبة لا تتعارض مع النص بل تقتضيه ويقتضيها، أن أحب لأخي ما أحب لنفسي. والمقصود هو: أخوك المسلم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {المسلم أخو المسلم}، وكما قال: {وكونوا عباد الله إخواناً}. إذاً: لا بد أن تعلم أن أخاك المسلم يجب عليك أن تحب له من الخير مثل ما تحب لنفسك، فإن كنت تحب الجنة، فلابد أن تسعى لتجعل أخاك ممن ينالها ويسعى في طريقها، تريد أن تنجو من النار، فأحب لأخيك أن ينجو من النار، تحب أن تؤتى الخير، وأن تعطى من الدنيا أو من خير الدنيا أو خير الآخرة، فأحب ذلك لأخيك المسلم، تحب أن يُسمع لك، فاسمع لأخيك المسلم، تحب أن تُطاع فأطع أخاك المسلم، تحب أن تُحترم، فاحترم أخاك المسلم وهكذا ضع نفسك مكانه وليكن ميزانك ميزان العدل والقسط. فحينئذٍ تجد أنك تحقق -بإذن الله- هذا الواجب العظيم، الذي قلَّ من يرتقي إليه من المسلمين، وبذلك تصبح ممن يعيشون في درجة عالية، وعظيمة جداً، يغبطك عليها أكثر الخلق وأنت لا تشعر بها؛ لأنه ليس في هذه الدنيا من هو أكثر سعادة في حياته من الإنسان الذي سلم قلبه من الغل والحقد والحسد والغش لإخوانه المسلمين أبداً، هذا هو الإنسان الذي يعيش في اطمئنان. إنْ كَثَّر الله خير إخوانه المسلمين وعافيتهم وأرزاقهم، فرح بذلك واطمأن، وإن ضاقت عليهم الدنيا ورأى من حالهم ما لا يرضى فإنه لا يشمت بهم، مهما آذوه، وإن كان بينهم أشد ما يكون من الخلاف، بل إنه يسأل الله تبارك وتعالى أن يعافيهم وألاَّ يبتليه، فيعيش مطمئن البال قرير العين مما وصل إليه من هذه الأمانة وهذا العدل، لأنه تحمل الأمانة حق التحمل، حتى أصبح يزن بميزان العدل الذي قلَّ من يتمسك به، ولا سيما في أواخر الزمان. فالإنسان المسلم يستشعر هذا الواجب دائماً، الجار يشعر بواجبه الذي عليه لجاره، وكذلك الجار الآخر وهكذا نجد جملة من الحقوق تنظم حال المسلم ودنياه.

الرسول صلى الله عليه وسلم والاهتمام بمن حوله

الرسول صلى الله عليه وسلم والاهتمام بمن حوله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته الكرام هم المثل والنموذج الأعلى في أداء الحقوق، فكيف كانت حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ كان هو معلم الأمة، وكان هو الحاكم والوالي فيها، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الزوج الذي قام بحقوق الزوجية كاملة، وكان هو القائد الذي يقود الجيوش في المعارك، وكان هو المربي، وكان هو الشفوق والعطوف الحنون على الفقير والمسكين والأرملة، وهكذا جملة عظيمة من الحقوق قام بها صلوات الله وسلامه عليه خير قيام، مع أنه صاحب الفضل على هذه الأمة جميعاً، فهو الذي أخرج الله تبارك وتعالى به الأمة من الظلمات إلى النور. كيف كان أصحابه الكرام؟ هل تعلمون أحداً من الصحابة أو حتى من العلماء التابعين أو تابعي التابعين كان يعيش هو وطلابه وحدهم منعزلين، يجتهدون فيما ينفعهم وحدهم، ولا يفكرون في حال الأمة ولا ينصحون لها، ولا يحسنون إليها، ولا يشفقون عليها؟! لا تجدون ذلك أبداً، بل هم أشفق وأرحم الناس بالناس، هم الذين إن وجدوا الضعيف، وإن وجدوا الأرملة، وإن رأوا المحتاج أو المعتوه أو الأسير أو الفقير، فهم أول من يبادر إلى بذل الخير له والإحسان إليه، وحث الخلق على ذلك. هم الذين بلغ بهم ذلك الموقف الإنساني الرفيع حداً لا يصدق، حتى كان الواحد منهم إذا اكتسى حلة يكسو غلامه، ويقول: هكذا علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هكذا كان في عصر كانت الشعوب يستعبد بعضها بعضا، ويستذل بعضها بعضاً. وأما اليوم فهل سمعنا عن بعض أرباب العمل وأصحاب الشركات والمؤسسات -مثلاً- من يشعر بالشفقة نحو عماله إلى حد أنه إن أكل أكلاً لذيذاً أو لبس لباساً نظيفاً، يتمنَّى مثل ذلك لعماله ولو أمنية بالقلب إلا من رحم الله؟! هؤلاء قوم لم يكونوا يتخطون أقرباءهم ولا جيرانهم ولا من حولهم من المجتمع، إلى من ورائهم، وهم إنما يتخطونهم بالخير والهدى والنور، ولكن نورهم وعلمهم شمل تلامذتهم، وجيرانهم، ومجتمعاتهم، وشمل حكامهم ومحكوميهم، حتى أصبحت حياتهم كلها خيراً ويمناً وبركة! الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستوقفه المرأة العجوز في الطريق فيتنحَّى لها، ويقف ويستمع حتى يقضي حاجتها، ثم ينصرف. رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس، وتأتي إليه المرأة تجادله في زوجها، وينزل الوحي من السماء: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]. انظروا! إلى هذا الاهتمام بأحوال الناس، وبواقع حياة الناس، لكي يأخذ بأيديهم صلوات الله وسلامه عليه إلى الطريق القويم، وربه تبارك وتعالى من فوق عرشه العظيم يوحي إليه ويسدده ويوجهه ويبارك خطواته وأعماله وأقواله، وهكذا كان أصحابه الكرام.

الصحابة والقيام بالحقوق

الصحابة والقيام بالحقوق كيف عاش عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ هل عاش عمر بن الخطاب لنفسه أو لأهله؟ لا! أمَّا ما بين العبد وربه، فقد قاموا بحق الله -تبارك وتعالى- خير قيام. وحسبهم أن يثني الله -تبارك وتعالى- عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، وغير ذلك من الثناء: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وهكذا أثنى الله تعالى عليهم، وزكَّاهم فيما بينهم وبينه، وما بينهم وبين غيرهم من الناس، لذلك نقول: عبادتهم لله قمة لم نصل إليها، لكن كيف كانوا في معاملتهم لعامة الخلق؟! كيف كان عمر رضي الله عنه مع الأرملة؟! كيف كان مع العجوز؟! كيف كان مع الذمي الذي يراه هرماً كبيراً؟ فيقول: [[ما أنصفناك أخذنا منك الجزية شاباً وتركناك كهلاً]] فيصرف له من بيت المال ما يكفيه! وحتى العلماء والصالحون كان تعاملهم بالبر، وكان الواحد منهم مع شدة حاجته وما يعتريه من العوز، يتصدق بالصدقة يعطيها أخاه، فيأخذها الأخ فيعطيها أخاه، فيأخذها الآخر فيعطيها أخاه، فلا يدري الأول إلا وقد رجعت إليه، ومن كثرة تعاونهم حققوا قول الله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. حققوا معنى الأخوة الإيمانية، وكما كانت بعثته صلوات الله وسلامه عليه، ودينه رحمة للعالمين، كانت حياتهم وأخلاقهم وتعاملهم رحمة للعالمين!

واقعنا في الاهتمام بمن حولنا

واقعنا في الاهتمام بمن حولنا أقول: لو استطردنا في هذه الأمثلة لوجدنا العجب العجاب، ولكن ما واقعنا نحن؟ وكيف حالنا في مثل هذه الأحياء التي نسكنها ونعيش فيها؟ مع الجيران والأهل والجماعة ومع القبيلة والزملاء في العمل وغير ذلك؟ هل نحن على هذه المثل والقيم الرفيعة العظيمة التي علَّمنا إياها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه وعلماؤنا الأجلاء، أم نحن دون ذلك؟ الملاحظ أن بعض الشباب، وبعض طلبة العلم همَّه نفسه، يتعلم العلم ولا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فيعلمه ذلك العلم، لا يعلم الزوجة ذلك العلم، ولا يعلم جاره ذلك العلم -ولو شيئاً منه- حتى أبناءه أحياناً! وتتراكم لديه المسائل، ويجمع المسائل والأحكام بعضها فوق بعض، إلى أن يُذهِب آخرها أولها، وينسي بعضها بعضاً، ولم يخرج ولم ينفق منها شيئاً. يرى الناس يتهافتون على المعاصي، ويراهم يتسابقون على طريق النار والعياذ بالله، يراهم تفتك بهم الفتن والمحن والأهواء والشهوات من كل جهة، وهو مطمئن بما أعطاه الله من العلم والهدى والخير، وغاية ما يقول: الحمد لله الذي عافاني من هذا الأمر الذي وقع فيه كثير من الخلق! نعم! الحمد لله على ذلك، ولكن ما الذي فعلت؟ ما واجبك نحوهم؟ الحمد لله الذي وفقك فعرفت حق الله عليك في صلاة الجماعة، لكن ما واجبك نحو جارك الذي لا يُؤديها جماعة، وربما لا يؤديها مطلقاً. الحمد لله الذي علَّمك أن تُطعم الفقير والمسكين، لكن هل بذلت مثل هذه النصيحة لجارك أو زميلك صاحب المال -صاحب العمل- صاحب المؤسسة فيمد يده بالخير إلى المحتاجين والمحسنين الآخرين، أم أنك أنت تؤدي ما عليك إن أديته، ولا تبالي أن يؤدي الآخرون؟ وهكذا؛ وبذلك وقع التخلخل في المجتمع.

نظرة الناس إلى طالب العلم إذا لم يهتم بهم

نظرة الناس إلى طالب العلم إذا لم يهتم بهم أصبح الإنسان المسلم ينظر إلى طالب العلم ويتأمل، أو يظل يُفكر ماذا يريد مني؟ الآن لو أن أحدنا قدم على جماعة من الناس ورأوه: ماذا يتوقعون؟ يفكرون بماذا سوف يأمرنا وماذا سيطلب منا! وكأنا أصبحنا نأمر فقط ونطلب، لكن ماذا نعطي؟! وماذا نقدم؟! كان الناس إذا رأوا أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشون وتتهلل أساريرهم ويفرحون، لأنه جاء يعطيهم، ويبث لهم من هدايا الخير وعطاياه، يعطيهم آية من كتاب الله تبارك وتعالى، يُعلمهم سورة من القرآن، يُعطيهم حديثاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينصح لهم، بل ربما أعطاهم من ماله. أما نحن فيتوقع منا أوامر، يتوقع منا إنكاراً، وغلظة وشدة. فإذا رآك ليناً هيناً، فرح واستبشر واطمأن، وقال: يا أخي! بارك الله فيك، يا ليت الناس كلهم مثلك! يا ليت طلاب العلم يعاملونا هذه المعاملة! قد شعر بأنك غريب ومعاملتك غريبة؛ لأنه لا يوجد أحد يُشعر الناس حقيقةً بهذا الخير الكامن في قلوبنا، لم نحوله إلى واقع، وعمل، إلى محبة، وتآلف، أصبح الشاب المسلم إذا اهتدى، كأنه مثل الذي نجا في جزيرة من الجزر بنفسه ونأى بحاله، فلا يريد أن يمد جسراً إلى الآخرين لينجوا، كلما رآهم يغرقون يفرح، وربما يشمت بهم وهم يغرقون! مُدَّ إليهم الحبال! مُدَّ إليهم جسور الخير! عَبِّدِ الطرق كي ينجو إخوانك كما نجوت!

طرق الاهتمام بالمجتمع وفعل الخير

طرق الاهتمام بالمجتمع وفعل الخير كثير منا لا يفعل ذلك: وكثير منا يقول: وماذا نفعل؟! وماذا نصنع؟! هل ضيق الله تبارك وتعالى علينا طرق الخير ووسائل الخير التي بها نحقق هذا الواجب علينا؟ لا! يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. أليس سبيل الله واحداً؟! قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. إذاً: طريق الله واحد، وسبيله واحد، فعندما يقول هنا: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، هذه طرق الخير، فالخير له طرائق كثيرة! والجنة لها ثمانية أبواب، ومن الناس من يدخل من باب، ومنهم من يدخل من آخر، فلم لا تعمل يا أخي المسلم لكي تُدعى من أكثر أبوابها، إن لم يكن من أبوابها كلها؟! ابحث عن السبيل الذي أهّلك الله به ومكنك منه أن تدخل إلى الخير، وإلى رضا الله وإلى إصلاح حال هذه الأمة، فلا تتردد فيه ولا تدع الفرصة تفوتك منه. اغتنم شبابك وعمرك ووقتك وما أُهِّلت له، لتدخل من هذا الباب إلى رضوان الله -تبارك وتعالى- وهداية الخلق، واعلم أن رجلاً واحداً يهديه الله -تبارك وتعالى- على يديك خيرٌ لك من حمر النعم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}. واعلم أن {موضع سوط أحدنا في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس} كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذن: لماذا لم تبادر إلى أي عمل من أعمال الخير؟ لا تقل: ليس عندي إلا القليل من العلم! إن كنت طالب علم فابذل من هذا العلم، فما لديك فابذل منه، وتوقع أو تخيل أو تصور أنك أنت طالب العلم الوحيد في هذا الحي! أو أنك أنت صاحب المال الوحيد في هذا الحي، أو أنك أنت الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الوحيد في هذا الحي، لكي تعمل كثيراً ولا تستكثر أي عمل تعمله. وإذا عمل كلٌ منا كذلك رأينا الخير -بإذن الله تعالى- يعم وينتشر في المجتمع كله، ولكن انظر إلى واجبك أنت، واعلم أنك لو لم تنفق إلا ريالاً واحداً، فلعلك تضع هذا الريال في يد رجل يرفع يده إلى السماء ويقول: اللهم بارك له، اللهم ارزقه، اللهم وفقه، فيبارك الله -تبارك وتعالى- لك في مالك وأعمالك، ويدفع عنك شراً عظيماً جداً بهذا الريال الذي وضعته وأنت لم تلق له بالاً، وربما قلت كلمة، فهدى الله تبارك وتعالى بها من لم تكن تطمع ولا يطمع غيرك أن يهديه الله تبارك وتعالى. وليس شرطاً أن ترى ثمرة كلمتك الآن، ربما رميت الحبة وأنت تحرث أو تبذر الزرع فوقعت على حجر ولم تنبت شيئاً، ولكن قد يأتي بعد شهور أو أيام وتأتي الرياح وتأتي الأمطار وتدحرج تلك الحبة وتلقيها في الأرض وتنبت وتثمر وتصبح شجرة عظيمة، وجناها وثمرتها لك، وأنت لا تعلم، وأنت لا تدري متى ألقيتها وأين ألقيتها، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو الذي ينمي ويربي الخير ويزكيه، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة من فضله وجوده تبارك وتعالى. فلا تحقر شيئاً من الخير، ولا تحقر شيئاً من المعروف، ولو أن تلق أخاك بوجه طلق، تقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتصافحه؛ فتتحات ذنوبكما كما يتحات ورق الشجر، سبحان الله العظيم، فلماذا نفوت هذا الخير؟!

تنافس الصحابة الكرام على الخير

تنافس الصحابة الكرام على الخير اشتكى الصحابة رضي الله عنهم عندما جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، فقالوا: {يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور} وهذا التنافس ليس هو تنافس الفقراء والأغنياء، كما صورته الرأسمالية والشيوعية الكادحون، والطبقات البرجوازية ضد الطبقات الرأسمالية! لا، بل تنافس في الأجور: {ذهب أهل الدثور بالأجور} أي أهل الأموال، ثم قالوا: {يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم} أي: زادوا علينا بالصدقة، ونحن لا نملكها، فعلمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {تُسبحون الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين}، ففعلها أولئك، وقالوا: الحمد لله! وجدنا باباً عظيماً من أبواب الخير نسبق به إخواننا. فلمَّا فعل إخوانهم ذلك، جاءوا وشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -انظروا التنافس إلى الخير- فقالوا: {يا رسول الله! قلنا ذلك فقالوا كما قلنا -أي: ما الحل؟ - قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}. ابتلاكم لتصبروا بالفقر، وابتلاهم ليشكروا بالمال وبالنعمة، لكن هذا هو الواجب أن نتنافس -جميعاً- في هذا الخير وأن نذكر الله، وإن لم نجد شيئاً فلندع الله تبارك وتعالى.

الاهتمام بالمسلمين والدعاء لهم

الاهتمام بالمسلمين والدعاء لهم من منا لا يألم عندما يرى هذا الواقع المحزن المؤلم لهذه الأمة من أقصاها إلى أدناها؟ ويتذكر أن الدين النصيحة، ويتذكر أنه {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، ثم يقول: لا أملك شيئاً، لا، بل أنت تملك ما لا يستطيع أي عدو للإسلام أن يملكه، وما ليس في إمكان أية قوة في الدنيا أن تملكه، وهو الدعاء، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رب أشعث أغبر ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره}، الله أكبر، يقسم على رب العالمين، ويبره رب العالمين! لله سبحانه أولياء، وله عباد صالحون لهم عنده من الشأن والمنزلة ما الله به عليم، فلِمَ لا ترفع يديك؟ ارفع يديك وتضرع إلى ربك تبارك وتعالى بسجدة في جوف الليل لا يراك أحد، قبل السلام في كل الصلوات، وأنت ذاهب إلى بيت من بيوت الله, وأنت تضع اللقمة أو الريال في يد فقير أو محتاج، وأنت ترأف بمسكين أو تشفق عليه. ادع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كم من هؤلاء الذين إن شفع فهو جديرٌ بألاَّ يُشَّفع، وإن خطب فهو جدير بألا ينكح ولا يُزوَّج، وإن طلب فهو جدير بأن يرد ولا يعطى، ولكنْ بينه وبين الله باب مفتوح، لو رفع إليه يديه بصدق وضراعة لحصل الخير، كما يريد الله تبارك وتعالى. إذاً: ارفع يديك وادع الله، واعلم أنك لو دعيت لنفسك فربما يستجاب لك، وربما لا يستجاب لك، وإن كنت على أية حال لست بخاسر أبداً، لأنه كما جاء في الحديث: {إن ربكم حي كريم يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً}. أي: يردهما خاليتين، فلا يمكن ذلك ولو ذهبت إلى أي كريم من الناس وطلبته وأنت تعرف كرمه، واجتمعت فيه الصفتان الكرم والغنى، هل يردك؟ يستحيل على كريم غني أن يرد أي واحد يأتيه، ولو بشيء بسيط، فكيف بمن له الغنى المطلق والكرم المطلق، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الذي طلب منا أن ندعوه، والذي يصدق فيه ما قال الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضبُ وقد قال الكريم الغني المفضال تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، يريد أن ندعوه، ادعه، ولن تكون خاسراً، بل أنت كاسب في أي حال من الأحوال، لكن ربما يحول بينك وبين الإجابة شهوات أو شبهات، أو ارتكاب لذنوب، أو محرمات، أو أكل مال حرام، أو أي حائل من الحوائل، لكن إذا دعوت لأخيك يستجاب لك بإذن الله تبارك وتعالى، لأنها دعوة عن إخلاص، لأن ذنبك أنت وتقصيرك لا ينسحب عليه فتدعو الله تبارك وتعالى له، فيقال: آمين ولك مثل ذلك! إذن لماذا نترك هذا الدعاء؟!

ما يمكن أن نعمله من أعمال الخير

ما يمكن أن نعمله من أعمال الخير نستطيع أن نعمل ما هو أكثر من الدعاء؟! ألسنا نستطيع في كل حي من الأحياء، بل في كل مسجد أن نوجد لجنة أو أكثر من اللجان، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللخير وللإحسان وللشفقة، ولنتواصى بالمرحمة كما أمر الله تبارك وتعالى، لنحنو على ضعيف أو مسكين، أو إنسان استهوته الشهوات أو الشبهات، فتاه وضل عن الطريق المستقيم، ألا نستطيع؟ ألم يعمل الإخوة الكرام -بارك الله فيهم- لجنة لمكافحة التدخين؟ هل أثمرت أو لم تثمر؟ ما رأيكم؟ أثمرت نجاحاً عظيماً جداً، كم من صاحب محل الآن يكتب نحن لا نبيع الدخان، عندما تجلس معه يقول: الله يجزيهم خير! الحمد لله، أنا أصلي وأصوم وأحب الخير، وإذا رأيت الإنسان من بعيد لا يدخن، حمدت الله، وإذا رأيته يدخن استعذت بالله منه، وابتعد عن طريقه، وهو الذي كان بالأمس إذا رأى المدخن استبشر، وكان إذا قلت له: لا تبيع الدخان، قال: الزبائن لا يأتون إلا من أجله، لو لم أبعه فلن أعمل، لكن كيف تحول، كيف تغير؟ لما وجدت لجنة ودعوة ونصيحة، انتفع، ولله الحمد. لجان للفقراء، لجان لمناصحة أصحاب المنكرات في الأحياء، وأنا أطالب الإخوة أن يتركوا الأسماء هذه، لا يهم سموها لجنة أو جمعية، أم لم يسموها شيئاً، لا يهم هذا، المهم يكون منا ثلاثة أو أربعة أنفار يذهبون ويمرون على صاحب المحل: ماذا تبيع؟ يقول: عندي أغاني، يقال له: يا أخي الكريم! اتق الله، يقول لك: عندي تصريح، قل له: ما أتيت أخاطبك للتصريح ولا نحن من موظفي الإعلام، نحن جئنا نقول لك: إن هذا حرام، يفتح الله له نور قلبه، وتستنير بصيرته ويتوب قبل أن يدركه الموت، وهو على هذه المعصية. إنسان آخر يتهاون بصلاة الجماعة، فهل الذي يعد نفسه آمراً بالمعروف، يخبر الهيئة ليوقفوه؟! ليست مهمة الهيئة أن يأتوا ليأخذوه، اذهب أنت في ثلاثة نفر، وقل له موعظة يخشع لله، ويرق قلبه، ثم يأتي معك إلى المسجد، فتكون قد كسبته إلى الخير، وبعد ذلك تكسب به من وراءه إن شاء الله. وهكذا إذا كان معك في كل حي أو في كل مسجد أو جماعة أو قبيلة أو مجلس تجلسه فيه شيء من هذا التعاون والتواصل، بدلاً من أن تضيع الأوقات أو يتشتت المجتمع، إما أن نضيع أوقاتنا في لهو ولعب وغيبة ونميمة، وإما نتشتت فلا يلتقي منا اثنان كل مشغول في دينه، والخير في هذه الأمة مهمل ومنسي.

خيرية الأمة الإسلامية وضمانات البقاء

خيرية الأمة الإسلامية وضمانات البقاء اعلموا أن هذه الأمة فيها خير عظيم, خير لا نكاد نتصوره نحن، ربما وجدت ذلك الإنسان الذي مظهره من بعيد يشعرك بالمعصية -مثلاً- أو يشعرك بالتقصير، ربما لو قدحت هذا الخير الذي في قلبه لأصبح نوراً عظيماً يشع ويضيء للحي كله، أو للبلد كله، ولكن من الذي قدح ذلك الخير؟ من وعظه؟ ومن ذكره؟ ومن جالسه؟ ومن صاحبه؟ ومن أهدى إليه؟ أهد إليه هدية: كتاباً، شريطاً أهد إليه هدية من هدايا الدنيا، أشعره أنك تحبه، ثم خاطبه من جسر المحبة. أمتكم -الحمد لله- على خير! هذه الأمة فيها الخير إلى قيام الساعة، لا تظنوا أن ما وقع فيها من شهوات أو شبهات، سيمحو منها الخير. إن ما انتشر في المجتمع الإسلامي من فواحش أو رذائل أو موبقات إلى غير ذلك، إنما هو بفعل الشهوات النفسية والشيطان، والاحتكاك بالغرب، لكن لا تزال المجتمعات الإسلامية اليوم، هي أفضل أنواع المجتمعات وأكثرها تواصلاً ولله الحمد، فالمجتمعات الأخرى تفككت ولا يرتبط بها أحد بآخر. قد يكون هناك تماسك في المجتمع، لكن الصلات الأسرية مفقودة تماماً، ونحن -والحمد لله- لدينا الكثير من طرق الخير. انظروا كيف كنا قبل رمضان، فلما جاء رمضان اجتمعنا في بيوت الله، واستمعنا إلى ذكر الله، وتسابقنا إلى الصناديق لنتصدق وننفق، وأخذنا نتساءل: كم عندكم في الحي من أرامل؟ كم عندكم من محتاجين؟ هل فعلتم كذا؟ هل جمعتم كذا؟ وإذا بكل واحد منا يدل الآخرين على الخير، ثم ذهب رمضان فتراخينا، وإذا بنا الآن نقول: ما هو الحل؟ فجاء الحج وهو موسم جديد، وفيه خير، وفيه وفيه وهكذا، ولا يأتي موسم إلا وبعده موسم تتحرك الأمة فيه. فالأمة الإسلامية بنيان، لكن على ماذا يقوم هذا البنيان؟ لا يقوم على اللبن، أو الحجارة، ولا يقوم على أي شيء، ولكن الحديد الذي بداخله هو أساس قيامه، وهم طلبة العلم وأهل الخير في هذا الحي أو في أي حي، هم مثل الحديد، إذا قام الحديد وقوي، فسيجتمع عليه بعد ذلك ما يوضع من البناء، ويكون كله قوياً بإذن الله تبارك وتعالى. فالواجب علينا رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، أياً كان موقعنا، أن نتذكر هذا الواجب وأن نسعى إلى نشر هذا الخير، وأن يعلم كل منا أنه مسئول أمام الله تبارك وتعالى في حدود ما يستطيع، وأن الواجب علينا أن نكون أمة داخل الأمة، أن نكون كما أمر الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] هذه الأمة وهذا عملها داخل الأمة التي قال الله تبارك وتعالى فيها: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، وكما قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]، فنحن طلبة العلم ورواد بيوت الله، والذين نحب الخير أمة داخل الأمة الإسلامية الكبرى، نحن مجتمع داخل هذا المجتمع، لا ننفصل عنه ولا ننعزل، لكن نقوم بواجب القِوامة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيهدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بنا هؤلاء ونكون ممن يدعون الناس، فهم بعد ذلك يستجيبون لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم، ولمن يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى من دعاة الخير والهدى والإصلاح في المجتمع.

من مظاهر التعاون على البر والتقوى

من مظاهر التعاون على البر والتقوى أقول: أي شكل من أشكال التعاون لا تضيعوه، لا تفتقدوه فيما بينكم، واعلموا أن كل حي فيه الكبير في السن الذي له قيمته، والذي لديه وجاهة عند الناس، وفيه الموظف الذي يُمكن أن يؤثر على الحي وعلى غير الحي، فيه التاجر الذي يمكن أن ينفع الله بماله في هذا الحي، فيه الشيخ أو طالب العلم الذي ينبغي أن ينفع الله تعالى بعلمه في هذا الحي. فيجب أن نتعارف، كثير من الإخوان يقول لي: لماذا لا نتعاون؟ وأقول: لأننا أصلاً لم نتعارف؟! فكيف نتعاون ونحن لم نتعارف، ونحن في شبه غيبوبة عن العلاقات التي أمرنا الله بها، لكن عندما نتعاون ونتعارف ونتحاب، ونشيع الخير فيما بيننا؛ فإن ذلك مما يرفع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به رءوسنا ويعزنا، ونشعر بحال أمتنا خارج حدود حيناً أو مدينتنا، سنشعر بأحوال إخواننا المسلمين الذي يقتلون في كل مكان. وأحياناً نقول: لماذا -نحن أهل هذا الحي- لا يكون لنا عمل معين في بلد من بلدان المسلمين، لماذا لا يكون هناك مركز إسلامي دعوي -مثلاً- في مدينة من مدن الصومال أو كشمير، أو البوسنة لهذا الحي، وباسم هذا الحي؟ لماذا لا يكون باسمنا -نحن أهل الحي- طبع كتاب دعوي خمسين ألف أو مائة ألف نسخة وترسل إلى أنحاء العالم؟ حينئذٍ نفرح ويهنئ بعضنا بعضاً: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. لو نجحنا في إيجاد شبكة مجاري أو مياه أو شبكة هاتف -وهذا أمرٌ مطلوب- فإننا نفرح ونقول: ما شاء الله! مجلس الحي حقق هذا المشروع ولكن لماذا لم يجتهد -أيضاً- في أمر آخر من أمور الدعوة؟ لماذا لا يكون هناك أشرطة كل أسبوع توزع؟ إن كان حجاً عن الحج، وإن كان صياماً عن الصيام، وهكذا إذا توكلنا على الله فعلاً وفقنا الله لذلك. بعض الأحياء يكثر فيها الفقر، وبعض الأحياء يكثر فيها العمال، وبعض الأحياء يغلب عليها الترف والبطر، وهكذا تختلف الأحياء في كل مكان بمقتضى حالنا وواقعنا، فمن يعالج هذا الواقع وهذا الحال بالعلاج الرباني؟ وبهذا الدين الذي أعطانا الله؟ وكل الإخوة في حيهم يستطيعون أن يضعُوا بنفس التفصيل الأعمال الخيرية للحي، والتخصيص يترك لهم، ولا أستطيع أنا أو الأخ أو الشيخ فلان بن فلان، لأنهم أعلم بالحي وأعلم بظروفه وأعلم بواقعه. أرجو ألاَّ أكون أطلت عليكم، وأرجو أن يجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا اللقاء مذاكرة فيما بيننا ليشعر كل منا بواجبه، ويستشعر ما ينبغي أن يفعله تجاه إخوانه حتى تكتمل -أو تقارب الكمال- صورة ونموذج المجتمع المسلم الحي الذي يشد بعضه: {كالبنيان يشد بعضه بعضاً} كما ضرب المثل بذلك الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان من أسئلة حول هذا الموضوع خاصة فيمكن أن نستعرضها إن شاء الله، وأرجو ألاَّ يخرج أي واحد منا إلا وقد وضع في ذهنه أي تصور، حتى لو لم تستطع أنت أن تفعل شيئاً من هذا ضعه في يد مندوب الحي، قدمه إلى إمام المسجد، أو إلى خطيب الجمعة، أو إلى مدير مركز الدعوة، أو إلى داعية من الدعاة، قدم له ما تراه من مثال أو نموذج لكي يكون المجتمع متآخياً مترابطاً، ويحقق كل أخ لإخوانه المسلمين ما ينبغي أن يكون بإذن الله تبارك وتعالى.

الأسئلة

الأسئلة

الوالد الذي لا يصلي

الوالد الذي لا يصلي Q ما واجب المسلم نحو والده الذي لا يصلي ولا يطيع الله ورسوله، ويشتم الدين الإسلامي، ولكنه يصوم رمضان ولا يصلي؟ A حسبنا الله ونعم الوكيل، نعوذ بالله، اعلموا أن حق الوالدين عظيم -ولو كانا مشركين؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] لا تطعهما فتشرك بالله أو تعصي الله سبحانه، ولكن مع ذلك قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]. أي: بأن تحسن إليهما، وترعى شئونهما، وتقوم بحقوقهما، وتشتري لهما كل ما يحتاجان إليه، وما طلباه من الخدمة تقوم به، ومع ذلك تجتهد بأن تنصح للأب أو للأم أو كليهما، اجتهد أن تنصح لهما، ولكن لا تطعهما في معصية الله. وإنَّ من معصية الله عز وجل، والتي يغفل عنها كثير من الناس في باب الحقوق والواجبات، أن بعضهم يقول: إن من واجب الأب عليه إذا أمره أن يظلم زوجته أو أخاه أو جاره، أن يفعل ذلك! ويقول: أبي أمرني، أو أمي أمرتني!! لا يا أخي الكريم! لا يجوز لك أن تعصي الله تبارك وتعالى براً بأحد وتقول بأنك تبر بأحد، لكن أنت من واجبك أن تتحمل أنت لأمك أو لأبيك، أما أن تظلم أخاك أو زوجتك أو جارك بأمر من أبيك، فلا يجوز ذلك، فتنبهوا لهذا، جزاكم الله خيراً. أما كونه يصوم رمضان ولا يصلي، هذا لا ينفعه ولا يتقبل منه، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم وهم خير القرون، وهم الذين إجماعهم هو آكد الاجماعات، أن تارك الصلاة كافر، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر سوى الصلاة، وقد ثبت ذلك بالإجماع عن بعضهم وعن بعض التابعين، أن ترك الصلاة تركاً مستديماً بحيث لا يصلي لله تعالى فريضة، أن فاعل ذلك كافر، لا حظ له في الإسلام، ومستند ذلك الإجماع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وغير ذلك.

الاهتمام بالعلم وترك الدعوة

الاهتمام بالعلم وترك الدعوة Q إنني أسكن في حي من أحياء جدة وفي الحي طلبة علم كثير، ولكن لا ينصحون ولا يذكرون ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وهمهم فقط حضور الدروس العلمية والتجمعات في المساجد والمنازل، وليس لديهم مجهود يذكر لحيهم، يقول: وإني في الحي وحيد، أذهب إلى مساجد كثيرة، وأسمع أكثر من خمس مواعظ وألقيها في الأسبوع، وألاحظ أن الناس بحاجة إلى المواعظ، وتذكيرهم بدينهم، والشيطان يثبطني أحياناً، ويقول: انظر إلى الشباب مستريحين، وأنت تدور على المساجد، وأحياناً يقول لي: إنك ليس لديك إخلاص، وأنا أخاف الرياء؟ A هذه مصيبة عندما توجد مثل هذه الشكوى، انظروا كيف هذا الأخ المسكين، من غربته في الحي بدأ الشيطان يشككه، ويوسوس له: أنك تعظ إلا لأنه ليس عندك إخلاص، تريد الناس أن يمدحوك، وهذا من الشيطان نعوذ بالله منه، ويريد أن يدخل منها إلى قلب هذا الأخ، نسأل الله أن يثبتنا وإياه على الحق. الواجب على الإخوان في كل حي، أن يتآزروا ويتعاونوا، ويتعاطفوا، وأرجو من الإخوان أن يجربوا، وكثيراً ما نتكلم، ولكن ربما لو جربنا لرأينا ثمرة ذلك. بعض الأحياء جربت أن ما يمر واحد منهم إلا ويقول "الصلاة"! ينبه كل أهل المحلات في الطريق، كل من يراه جالس من الناس في دكان يقول له: "الصلاة الصلاة"! جربوا شهرين أو ثلاثة أشهر، وبعد ذلك مُرَ ولا تتكلم، فمن بعيد يراك ويقول لك: "طيب طيب" مع أنك لم تتكلم؛ لأنه تعود منك هذا الشيء، ولأنك أحييت شعيرة من الشعائر، ولك أجرها وأجر من عمل بها. لكن إذا سكتنا، وأصبحوا يروننا مع بعض نقول: ما رأيك في الكتاب الفلاني؟ ما آخر شريط؟ ما آخر محاضرة؟ ونتحدث ونمر على الناس، وهذا لاهي، وهذا يسمع الغناء، وهذا فاتح الدكان وقت الصلاة، وهذا ينظر إلى امرأة، وهذا يتفرج التلفزيون، وكأن الأمر لا يهمنا أبداً، وتعودوا هذا منا. أصبحوا يقولون: والله لا ندري ما عندهم هؤلاء؟! دائماً كلام كلام! فما علموا منا إلا هذا الشيء المبهم الذي لا يعلمونه وتأتي الأجهزة الإعلامية الشيطانية من أمريكا ولندن ومن الشرق والغرب، وتقول: المتطرفون، الأصوليون، الإرهابيون، فيقولون: انظروا هؤلاء، والله مثل صورة ذاك الإرهابي الذي رأيناه ذاك اليوم! لأنه ما رأى منك إلا هذه الصورة، لا تقل: لماذا ينظر لي هذه النظرة؟ فماذا علمته أنت غير هذه النظرة؟! هذه شكوى، وليست من هذا الأخ وحده، وإنما -كما أتوقع- من أحياء كثيرة، ومن طلبة علم كثيرين.

الشباب الذين يعبثون أثناء الصلاة

الشباب الذين يعبثون أثناء الصلاة Q أرجو أن تقدم لهؤلاء نصيحة، وهي أن بعض الشباب يكثرون من العبث بالغترة والعمامة في الصلاة، نرجو النصح وجزاكم الله خيراً؟ A الصلاة يا إخوان روحها الخشوع، وكما قال بعض الصحابة: [[لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه]] وكما علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل المسيء صلاته إذا ركعت فاركع حتى تطمئن راكعاً، واسجد حتى تطمئن ساجداً، علمه الطمأنينة في الأركان. فلا شك أن الإنسان الذي يعبث بالغتره أو بالمنديل أو بالساعة، أو يتأمل في الزخارف أو غيرها، أنه يفقد من صلاته بقدر ما يفقد من الخشوع، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم عبادتنا، وأن يرزقنا فيها الإخلاص والخشوع؛ إنه سميع مجيب.

القرى المليئة بالمنكرات

القرى المليئة بالمنكرات Q إني أسكن في قرية مليئة بالمنكرات والمعاصي، وإن أغلب أهلها لا يصلون -حسبنا الله ونعم الوكيل- حتى الصلاة المكتوبة، ولا يدخلون المسجد إلا في الجمعة، وقد لا يحضرونها، بل وهم مقيمون على السهرات والرحلات والمجالس المليئة بالمنكرات، وهم يستهزئون بالشباب الملتزم وهم قلة في هذه القرية، فما العمل؟ A أنا لا يهمني كثرة المنحرفين أو الغافلين، هكذا الحال! كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وكما قال: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، هكذا أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالأكثرية ليست المشكلة، لكن المشكلة هي ما الذي يمكن أن تعمله هذه القلة من طلبة العلم في هذه القرية وما حولها من القرى؟ لماذا لا نوصل الخير إليها، عندما لا يكون فيها من يوصل إليها الخير؟ لماذا عندما يتخرج الواحد منا يقول: عينوني داخل المدينة، فإذا عينوه داخل القرية آثر الراحة على العمل! وهذه مشكلة فعلاً، وكأننا لا نريد إلا الراحة، ولا شك أن الإنسان من حقه أن يطلب الراحة، ولكن لماذا لا نطلب الراحة العظمى عند الله؟ لماذا لا نضع سير الخطط والبرامج لتشمل هذه القرى؟ الإخوان في مركز الدعوة لا يقصرون، والبرامج الدعوية مهيأة من الرئاسة، ونسأل الله سبحانه أن يوفق الوالد سماحة الشيخ عبد العزيز -حفظه الله- فهو يبذل جهداً من البند الخيري، ومن البند الرسمي، ومن جهده الخاص، لكي تنتشر الدعوة في القرى والمناطق النائية، ويحثنا على ذلك كلما لقينا، والحمد لله سبل الخير موجودة؛ فرتبوا البرامج وأعينوا إخوانكم في هذه القرية وفي أي قرية فإذاً: يجب أن تصبر أنت وإخوانك في القرية وأن تتحملوا، وأن تُشعر الإخوان أين تقع هذه القرية ليدرسوا أحوالها، ويبتعثوا إليها.

الذي لم يجد أثر النصيحة

الذي لم يجد أثر النصيحة Q إذا أنا نصحت جاري بالصلاة، ولكنه لم يصل، فهل يلزمني شيء بعد ذلك؟ A ليست النصيحة مجرد السلام والأمر بالصلاة فقط، بل اسمع له، وزره، وسلم عليه، وقدم له هدية، وارفق به، فقد يهديه الله سبحانه فيصبح قوياً في الحق وكل قلب له مفتاح، فانظر مفتاح قلب هذا الرجل من أي نوع، فإن كان مفتاحه الغيرة فذكره بالغيرة، وإن كان عنده غفلة فأعطه موعظة يصحو ويفيق، وإن كان الشيمة فحدثه عن الشيمة، وإن كان المروءة والأخلاق، فخاطبه باللغة التي تظن أنها توصل الخير إلى قلبه، بأسلوب طيب. حاول أن تظهر له أنه قريب من الخير وأعرض عليه هل يريد خدمة أو طلباً فقدمه له. قدم الدعوة مع شيء من الخير، بعد ذلك إذا رفض فما عليك إلا البلاغ، لأن هذا ما أوجبه الله على الرسل وهم خير منا، لكن ثقوا تماماً أننا نستطيع أن ندعو كثيراً من الخلق إلى الله، فيهتدوا -بإذن الله- إذا نحن أصلحنا أساليبنا في الدعوة، ووسعنا أنفسنا ومداركنا، وتبقى القلة الضئيلة التي لا تستجيب، فهذه موجودة في كل زمان ومكان.

الحزبية

الحزبية Q تعلم أن المسجد هو خير مكان تنطلق منه توعية الناس ونصحهم، ونحن في حي مزقته الحزبية، أئمة المساجد جميعهم متحزبون، لذلك قد حرم سكان الحي الخير، رغم أنك إذا زرت ذلك الحي ترى كثيراً من السكان ظاهرهم الصلاح، ولكن لا نشاط لهم في الحي، والله المستعان؟ A هذه الأمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فتنتها المال وعذابها الفرقة} عذابها الفرقة والاختلاف، والتحزب: تحزب قبلي، تحزب في العمل الدعوي، التحزب في الآراء، التعصب المذهبي، في كل شيء تجدها أحزاباً، والله سبحانه نهانا عن هذا فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159] نهانا الله سبحانه عن ذلك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. فالواجب على الإنسان أن يتبع الحق، وأن يتحزب للحق، وأن يكون من حزب الله، فحزب الله هم أهل الحق، أينما كان الحق وعلى أي لسان قيل، لا يكذب ولا يجور على مخالفه، ولكن لا يتعصب أيضاً لرأيه، وإنما يقبل الحق أينما كان، والقضاء على الحزبية لا يكون بحزبية مقابلة، وإنما يكون ببذل النصح للجميع، بمحبة الجميع، بإيجاد ترابط وعلاقات من الجميع وإلى الجميع وتذكيرهم وتخويفهم بالله تبارك وتعالى، وأياً كان مصدر هذه الحزبية فهي شر ووبال ودمار، ولا سيما في العمل الدعوي بين الشباب.

واجب المسلمة نحو مجتمعها

واجب المسلمة نحو مجتمعها Q ما واجب المسلمة نحو مجتمعها المسلم، وهل تنحصر في بيتها فقط؟ A المسلم يخاطب أكثر من المسلمة، لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يجعل لها من الوسائل ويمكنها من الإتصال بالناس ما جعل للرجل، فأعظم واجب عليها هو بيتها، لكن من بيتها تستطيع أن تعمل الكثير، أن تزور وأن تستزير، أن تصلح أبناءها، وجاراتها وقريباتها وهكذا، وإن كانت ممن تعمل في التدريس -مثلاً- فكذلك تصلح مدرستها وطالباتها، ويمكن أن تكتب الرسائل النافعة، والآن الحمد لله تنشر بمئات الألوف رسائل كتبتها واحدة في قعر بيتها والحمد لله. فالأخت المسلمة عليها نفس الواجب، إلا أن الوسائل في حقها تنحصر في الوسائل الشرعية اللائقة بكرامتها وفكرها وصونها.

دور المسلم في البلاد التي لا يطبق فيها شرع الله

دور المسلم في البلاد التي لا يطبق فيها شرع الله Q ما واجبي الحقيقي نحو مجتمعنا المسلم الذي تصيبه الأوبئة الجماعية والأمراض، وهل هي ابتلاء أم حياة ضنك تصيب مجتمعنا، وما دوري كإنسان عادي خاصة إن لم يطبق الشرع الإسلامي في هذا المجتمع؟ A كأن الأخ يتحدث وكأني أشعر أنه من إحدى البلاد الإسلامية التي نكبت به الأوبئة والأمراض والحياة الضنك، وعدم تطبيق شرع الله سبحانه، نسأل الله سبحانه أن يرفع عنا البلاء، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة. واجبك يا أخي أن تكون كراكب السفينة إذا استطاع أن ينصح لها ولربانها وركابها فليفعل، فإن لم يكن ذلك فليستقل بنفسه ولو على خشبة، ولينج هو وأهله ومن يستطيع؛ إما داخل المجتمع الذي هو فيه، أو يهاجر إلى خارجه، إلى أي مجتمع آخر من مجتمعات الخير. أما المجتمعات التي يُحارَبُ فيها الإسلام علانية بقوة الحديد والنار، كما في الجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق وغيرها فلا. وهذه المجتمعات نفسها فيها الخير الكثير والحمد لله، فيها قبول، واستجابة، وكأنني أتأمل وأرى هؤلاء الظالمين والمجرمين والعلمانيين والاشتراكيين، الذين يُمسكون بأزمّة الأمور في هذه البلاد، أو عملاء اليهود والنصارى وإن لم يكن لهم راية ولا مذهب، وهم يتحسرون على ما قبل عشرين سنة مضت حينما كان في إمكانهم أن يبطشوا، وأن يفعلوا ما شاءوا وهم في أمن. أما الآن فالحمد لله، وأنا أبشركم بهذا وأنا مطمئن (العملاق قد خرج من القمقم) كما يقولون، ولم يعد بإمكانه أن يرجع إليه. العملاق الإسلامي بدأ يفيق وينتشر ويستيقظ وتقوى عضلاته يوماً بعد يوم. الآن يستحيل أن تحشر الأمة بالحديد والنار، لكي ينصرفوا عن دين الله وعن تطبيق شرع الله!! فليفعلوا ما شاءوا، في مصر أو الجزائر أو تونس أو أي مكان، فنهايتهم خسارة، وكانوا كلما حدثت أشياء في مصر يقولون: سنة الحسم مع الجماعات الأصولية، ويحسمه الله ويذهب ويأتي غيره، والإسلام باقٍ والحمد لله؛ لأنه ليس قضية جماعات كما يقولون. ولكن يجب أن نصبر كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] وكما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وكما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]، العاقبة لنا بإذن الله، يستحيل أن يُقَاوَمَ هذا الدين. في جمهوريات الاتحاد السوفيتي -كما يُسمى- ظنوا أنهم طمسوا هذا الدين ومحوه، ومع ذلك يأتون إلينا يحفظون كلام الله، ويتكلمون العربية الفصحى، ويطلبون منا كُتباً ما كنا نظن أنهم يعرفونها!! من يستطيع أن يحارب الله؟! ولكن كما قال تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20] يظن الكافر أنه قد يقضي على كل شيء فيحدد موعداً معيناً، ويعقد المؤتمرات. يقول من خلالها: هدف المؤتمر أو هدف الزيارة القضاء على الإرهاب، أو القضاء على الأصولية! غرور فقط!! وفي النهاية يذهب ويذهب سيده، ويذهب مؤتمره والحق باقٍ، والحمد لله. فاطمأنوا فنحن لا نخاف -والحمد لله- بعد اليوم على هذا الدين، إنما نخاف على أنفسنا من ذنوبنا، من أخطاء الدعاة، ومن عيوبهم، وعدم صبرهم، وعدم تمسكهم بالحق، وتناصحهم فيما بينهم، ومن عدم التخطيط الواعي الجيد لمواجهة هذه الأحداث، فهذا الذي نخشى وهذا الذي نخاف. أما أن نقول: {إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض}، فهذه لا تقال الآن؛ لأن صحوة الأمة كلها في كل مكان، لو عذبت طائفة فطوائف كثيرة تقوم بالواجب؛ فاصبر يا أخي في مجتمعك وادع الله. وأنا أقول لكثير من الإخوان: لأن تكون في هذا المجتمع داعيةً، صابراً، مجاهداً، ولو مسجوناً، خير لك من أن تهاجر إلى بلد تبحث عن عمل، أو تأوي إليه، فتهان وتضطهد ولا تعرف قيمتك، لأن قيمة كل إنسان في بلده، مهما كان، ونحن أمةٌ واحدةٌ وبلد واحد بلا شك، ولكن قيمتك في بلدك وبين عشيرتك، ولو كنت مسجوناً فستظل عندهم قضية هذا الدين قضية حية، لكن إذا غبت وابتعدت، وغيرك ابتعد، تركنا الأمة فريسة للإعلام المفسد الضال المضل، فتعود بعد سنين إلى بلدك، وتجدهم قد ابتعدوا كثيراً، وانقطعوا عن طريق الله المستقيم.

مراتب الإنكار

مراتب الإنكار Q كثير من الناس يلومون بعض الدعاة على إنكاره بعض الأمور، ويقولون: يكفيك أن تنكر بقلبك، فأرجو أن توضحوا مراتب الإنكار باليد واللسان والقلب، وكيف يكون مراتب الناس على حسب أحوالهم؟ A الذي يلوم هو محاد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه} شاء ذلك أم أبى!! فهو يحاد قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رتَّب الإنكار بحسب الاستطاعة، أنت في بيتك يجب أن تنهى وتأمر بيدك، لأنك في بيتك، أنت في إدارة المدرسة أو رئيس الإدارة فلتغير المنكر عملياً، فإن لم يكن كذلك كأن تكون فقط إماماً في الحي، ولا تستطيع أن تغير فيه إلا باللسان، فيجب أن تنكر بلسانك، أما الإنكار بالقلب فهذا أدنى المراتب، وهو لمن لم يستطع المرتبتين الأوليين، ولهذا قال: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}. ثم ما معنى الإنكار بالقلب؟ الإنكار بالقلب ليس معناه: أن أعلم أنه حرام، وأن أعلم أنه منكر، فهذه معرفة القلب، وهناك فرق بين مجرد المعرفة وبين الإنكار، الإنكار معرفة مع شعور بالواجب وإحساس بالألم، كما قال بعض السلف: [[وددت لو أن جسمي يقرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل]]، يتمنى أن يقرض جسمه ولا يرى معصية. فيجب أن تكون لديك غيرة على محارم الله، وغيرة على حدود الله، يتقطع قلبك ويتألم أن ترى المنكر، ولكن لا تستطيع أن تقول: إنه منكر، ولذلك تغضب ويتمعر وجهك، وتدعو الله أن يزيل هذا المنكر، وتبحث عن وسيلة لكي تستطيع أن تغير باللسان وهكذا. هذا الإنكار بقلبك، ليس كإنكار الغافل الذي يمر على المنكر ويقول: أعلم أنه حرام، ثم يذهب، فهذا حال أدنى المراتب؛ فما بالك بما فوقها من المراتب؟! د فالإنكار هو على هذا المنكر هداه الله.

قراءة سورة معينة عند الحج

قراءة سورة معينة عند الحج Q لقد ظهر في قريتنا بل على المناطق ظاهرة، لا أدري هل هي مبنية على دليل، وهي قولهم: إذا ذهبت الحج فاقرأ سورة يس أو غيرها من القرآن سبع مرات، فهل هذا صحيح، وهل يعمل به؟ A لم يصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه علّم ذلك أصحابه، والقرآن لا شك كله خير، وكله بركة، ولكن تخصيص سورة معينة وتقرأ بعدد معين، لا نعلم من ذلك شيئاً، إلا أن الواجب أو ينبغي على المسلم إذا خرج أن يدعو بأذكار الخروج وأذكار الطريق، وأن يسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً من فضله، يدعو في الصباح بأذكار الصباح، ويدعو في المساء بأذكار المساء، ويقرأ القرآن، والله -سبحانه- سوف يبارك له في ماله وفي وقته، ويستجيب له بإذن الله.

نصيحة للمعلمين

نصيحة للمعلمين Q إن للمعلم دوراً في المجتمع، فهل من نصيحة لإخواننا المدرسين؟ A المعلم هو أكبر المربين في المجتمع هذه الأيام، لأني أنا وأنت والأخ الآخر، لو حسبنا كم نجلس مع أبنائنا، لوجدنا أن المعلم يجلس معهم أكثر مما أجلس أنا وأنت، وأنا لو كنت معلماً لجلستُ مع أبناء الناس أكثر مما أجلس مع أبنائي! إذاً هذا واجب عظيم ودور كبير على المعلم، فليكن أباً، وليكن واعظاً، وليكن معلماً، فلا يجعل من التعليم فقط أداء المنهج، إنما أب شفوق حنون عطوف، وواعظ يذكر طلابه ويرشدهم ويوجههم، ومعلم يعلمهم الخير ويعلمهم العلم الذي وُكل إليه أن يعلمهم إياه؛ لينال أجره حلالاً طيباً بإذن الله تبارك وتعالى. وأيما أمة صلح معلموها وصلحت مناهجها، فاعلم أنها إلى الصلاح أقرب، وصلاح المعلم به يصلح المنهج؛ لأن المعلم يستطيع أن يعلم أبناءه الحق، حتى ولو كان في المنهج خلل، فلو وجد خلل في المنهج ولكن المعلم داعية حكيم، فإنه يستطيع أن يوجه طلابه إلى ذلك، لو كان يعلم علماً لا منفعة له في الآخرة، فإن في استطاعته -أيضاً- أن يعلم أبناءه الخير وما يقربهم إلى الله وإلى الدار الآخرة، فلا شك أن واجبه كبير، ولا تتسع لتفصيله هذه الدقائق.

أهمية إقامة الداعية في بلده

أهمية إقامة الداعية في بلده Q تحدثت عن بقاء الداعية في بلده وبين عشيرته من أجل دعوتهم، وعدم الهجرة إلى أي بلد آخر لما يلاقيه من ذل واضطهاد، هل يكون ذلك إذا قدم إلى بلاد الإسلام الطاهرة، ليتعلم أمور دينه، في بلد الحرمين وجزاكم الله خيراً؟ A إذا كان خروجك لطلب العلم في هذه البلاد أو غيرها، ثم تعود، فلا بأس؛ فإن هذا كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] لكن أنا أتكلم بصفة عامة لئلا يفهم الناس أنه إذا وقعت محنة أو فتنة أو أزمة على الدعاة أن عليهم أن يخرجوا ويفرغوا البلد للمفسدين، وأن يقيموا في بلاد أخرى بلا إقامة، وبلا وسائل معيشة، وبلا أمور تعينهم على الحياة، فيهربون من ذل إلى ذل دون أن يحققوا الهدف المنشود.

منكرات الزواج

منكرات الزواج Q يسأل عن منكرات الزواج. A منكرات الأعراس كثيرة، خذوا نموذجاً من حياتنا، الزواج في الإسلام وإلى عهد قريب من حياة آبائنا كان الزواج في أيامهم أمراً يسيراً، يخطب الرجل المرأة من أبيها وهما جالسان. يقول لأبيها: هل تزوجني ابنتك؟ فإذا وافق، يأتي العاقد فيعقد بينهم، ثم يعملون حفلة بسيطة، وتأتي النساء التي عندها ثوب تلبسه، والتي ليس لديها تستعير، وذهبوا بها إلى العروس وانتهوا! أمور ليس فيها تعقيد، سهلة ميسرة، وكانت الأمة تعيش بهذا الوضع، جئنا الآن فجعلنا عقبات كبيرة بحيث لو اتفق على الزواج؛ لا بد أن يتفق الآن على أن الزواج في العطلة الكبيرة. ونبدأ في التأثيث، وفي التعقيدات، والمطبلات، ثم ليلة الزواج أو قبلها أو بعدها، الروتين الطويل والمراسم الطويلة العريضة، وكأن الزواج شيء نادر لا يقام في البلد إلا مرة في السنة مثل العيد، كل الناس يتزوجون، وكل الخلق الذين أمامك هم إما ذكور وإما إناث، وكل واحد سيتزوج ما كتب الله له، لماذا التعقيد، والمفاخرة والمباهاة والترف والديون العظيمة؟! وغالباً ما تكون القطيعة وتكون المخاصمة بين الأرحام في ليلة الحفل، لأننا لا نخالف سنة من سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وجدنا عاقبة ذلك خصاماً وخسارة وذلاً في الدنيا قبل الآخرة، ولو أقمنا سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنفسنا وأحوالنا كلها، لرأينا الخير والسعادة، والراحة والنعمة بإذن الله سبحانه. فمنكرات الأعراس كثيرة، وتعقيداتها كبيرة، وما ذكر الأخ إلا واحدة منها فيما يتعلق باستئجار المطبلات وغيرهن، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهن، وهذا من أخبث الكسب والعياذ بالله أن يكون كسب الإنسان كذلك.

حكم العمل في البنك الربوي لمن لم يجد عملا

حكم العمل في البنك الربوي لمن لم يجد عملاً Q بحثت وأنا أعول أسرة ولم أجد أي عمل مناسب إلا أن أعمل في بنك القاهرة السعودي، هل أقبل هذا العرض؟ A لا تقبل العمل في أي بنك من البنوك حتى يلتزم بأمر الله، ويقيم دين الله، ويترك محاربة الله بهذا الربا، وأرجو أن يعوضك الله تبارك وتعالى خيراً، واصبر ولا بد بإذن الله أن تنال الخير، فعليك أن تصبر وتحتسب، وأن تبذل وتجتهد في أبواب الرزق وهي كثيرة، وهذا نتيجة تقصيرنا في التعاون، وهذا من الأشياء التي أقول: إنه لا بد أن ندرسها في الأحياء، وأن نوجد فرص عمل، لأي أخ في الحي، لا يشترط أن يكون مثل هذا الأخ، يمكن أن يكون عاملاً قادماً من بلاده في غربة ولا عمل له، ويحاول أن يجد فرصة ليعمل. فنقول لهذا الأخ: لك أن تعمل في أي عمل مفيداً فإن أكثر الشباب اليوم الوظيفة عنده هي المصدر الأساسي، فيبحث عن الوظيفة مع أن هناك وسائل أخرى غير الوظيفة، ولو اتبعتها لفتح الله عليك، ولأصبح بعد سنوات صاحب الوظيفة يقول: ياليتني عملت مثل علمك، وكثيراً ما يفتح الله بمثل هذا، لكن نحن ضيقنا على أنفسنا. الحمد لله بلد مثل هذا البلد، فيه خير كثير، وفيه كثافة سكانية كثيرة، وفيه مجالات عمل كثيرة، لا تنقصنا مجالات عمل أبداً، لكن ينقصنا تفكير في وسيلة عمل تكون مناسبة، فإذا كان لا يستطيع أن يفكر، أو يخطط، نفكر له نحن، جمعية الحي وجماعة المسجد في إيجاد فرص عمل، فأرجو من هذا الأخ أن يتقدم إلى مندوب الحي أو جماعة المسجد، ويفكروا ويتشاوروا في حال اجتماعهم في الحي في إيجاد هذا العمل وذلك إعانة له.

من عليها قضاء صيام، وتريد صيام الست من شوال

من عليها قضاء صيام، وتريد صيام الست من شوال Q امرأة عليها قضاء صوم عدة أيام من رمضان، هل تستطيع أن تصوم الست قبل القضاء، وإذا صامت وكان نيتها بالصوم القضاء، وبعد ذلك غيَّرت نيتها فأرادت صيام الست قبل القضاء فما الحكم؟ A الأفضل أن تتم ما عليها من قضاء شهر رمضان، ثم تعقب على ذلك بصيام الست من شوال، أما تغيير النية بأن تصوم قضاء ثم تنوي أنها الست، فلا يصح ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إنما الأعمال بالنيات}، فما نوته قضاء فهو قضاء، وإن كانت قد نوت الست من شوال، فإنما صامت الست من شوال وليس القضاء، ولا تغير النية بعد أن تكون قد صامت، ويجوز لها أن تقضي إلى رمضان القادم، كما قالت عائشة رضي الله عنها: {كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان} أي: الذي بعده، فلا بأس بذلك -إن شاء الله- على القول الآخر للعلماء، فبعض العلماء يرى أنه لا بأس أن يصوم الإنسان الست من شوال، ثم يتم قضاء ما عليه من رمضان؛ لأن النافلة وإن كانت نافلة وهي مؤخرة عن الفريضة، إلا أن النافلة إذا كان وقتها مضيقاً، فلا بأس أن يؤخر قضاء الفريضة إذا كان وقت القضاء موسعاً، وهذا على كل حال اجتهاد، وكل واحد من العلماء نظر نظرة، والأولى وهو ما يفتي به كبار علمائنا هنا في هذه البلاد، هو أن الأولى البدء بالصيام الواجب، ثم بعد ذلك يعقب بصيام التطوع، أو الست أو غيرها.

صحون البث الفضائي

صحون البث الفضائي Q أنا إمام مسجد، وبعض أهل الحي لا يصلون في المسجد، والبعض قد ركب دشوش على منازلهم فما هو واجبي نحوهم؟ A الصلاة أمرها هو كما بينا من قبل، وهذه الدشوش: هي تعبير عن شيء داخل في النفس، إذا رأيت هذه الصحون على العمائر، فهي تعبير عن انفتاح القلوب، واستعداد القلوب لاستقبال أي شيء يأتي من الخارج، فليست المشكلة الحديد والشبكة الصغيرة هذه، المشكلة استعدادنا من داخلنا للاستقبال، وإذا لم نقطع الاستعداد الداخلي، لاستقبال ما يبث علينا من أعداء الله، فيمكن أن نستقبله ولو من تحت الأرض، ليست المسألة مسألة الدش، فإنما هو وسيلة، إنما نحن أمة ضعفت عندها مفاهيم الإيمان والعقيدة، والتربية الإيمانية ضعفت: في وسائل الإعلام، في المساجد، في الأسواق؛ فبقدر هذا الضعف، نجد استقبالنا لما يبثه الكفار علينا. يا أخي الكريم: المسلم المعتز بإيمانه وعقيدته، لو يعرض عليه المفسد أو الكافر أن يعطيه المال ويركب له الدش ويدخل عليه التلفزيون، لقال له: ما أقبل أبداً، فكيف أنا أشتريه بمالي وربما أتدين حتى آتي بهذا الفساد! هذا يدل على الخواء الداخلي في القلب والاستعداد للاستعمار. ألم نقل نحن الآن: الاستعمار فعل بنا؟ ما ذنب الاستعمار، نحن لدينا قابلية للاستعمار الفكري أو المادي، والقابلية الموجودة لدينا جعلته يفعل فينا ما يشاء، يرسم مجلة، يبعث خطاباً، يبث أغنية ماجنة فيتلقفها الناس ويتتبعونها، فهل الذنب، واللوم عليه وحده، أو من يتلقفها ويتقبلها؟ إذاً: نحن الآن نفتح صدورنا، ونقول: يا أعداءنا افعلوا بنا ما شئتم! ونرحب بالتنصير والمجون والدعارة والفساد! افعلوا ما تشاءون فنحن مستعدون، وقلوبنا مفتوحة لكم بخوائها من معرفة الله ومن العقيدة الصحيحة ومن الموالاة والمعاداة. ولذلك نُذَّكِر الأمة بالموالاة والمعاداة ووجوبها، حتى تعرف أن عدوك لا ينالك منه خير، ألم يوقف البث المباشر سنوات في أوروبا حتى تستطيع أوروبا الغربية، أن تواكب المحطات الأمريكية خشية وخوفاً على الغرب من أمريكا! باريس تخاف من فساد أمريكا! وما الفرق بينهما؟! مكة هي التي يجب أن تخاف الأرض الطاهرة هي التي يجب أن تخاف من الفساد العالمي، أما هم فما الفرق بينهم؟! هم يقولون: هذا غزو حضاري وتدفق حضاري مدمر، يدمر القيم، وهانحن نستقبله! وأنا أريد بهذا الكلام أن تخاطبوهم وتذكروهم بالله وتخوفوهم به من هذه الفتنة ومن غيرها، فإذا قطعت شجرة حب الدنيا والشهوة، فالعصافير المضللة تصبح ولا تجد ما تقع عليه؛ لأن الشجرة من أصلها استأصلت، فيجب أن تقطع شجرة الشهوات من قلوب الناس، وإلا فماذا يستفيد من يرى هذه المناظر؟! لا يستفيد شيئاً والله.

الرجولة

الرجولة تحدث الشيخ عن أهمية الرجولة، وأنها ذكرت في القرآن وصفاً للأنبياء، وبيَّن أن الرجولة الحقة تتمثل جلية في أعظم -الرجال محمد صلى الله عليه وسلم- ثم أجاب عن تساؤل طرحه وهو (أين محضن الرجولة؟) فبيَّن أنه المسجد، وتحدث عن بعض المحاضن الأخرى مبيناً أنها لا تغني عن المسجد، بل ذكر بعض مساوئها، ثم عقد مقارنة بين دور المسجد في العهد النبوي، ودوره في عصرنا الحاضر، وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المسجد، داعياً إلى تعظيمه وتفعيل دوره الحقيقي في قيادة الأمة وتسيير شئونها. ثم اختتم حديثه بالتبشير بظهور ملامح الرجولة الحقيقية في جيل الشباب، داعياً إلى تبنيها توجيهاً وترشيداً لتستفيد منها الأمة.

أهمية الرجولة

أهمية الرجولة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ اللهم بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فالرجولة أصل عظيم من أصول التربية على هذا الدين والإيمان به والدعوة إليه، وإنه حيثما توجد الرجولة، وحيثما تكون البطولة، فإنه يكون عزالدين ومنعته، وغلبة الحق وقيام الدعوة إلى الله، وإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويجب أن نفرق بين مجرد الذكورة وبين الرجولة؛ فإن الله عز وجل خلق الزوجين الذكر والأنثى، فجعل بني آدم زوجين إما ذكر أو أنثى، لكن ليس كل الذكور رجالاً.

الرجولة في القرآن

الرجولة في القرآن الرجولة في القرآن وصف آخر فيه زيادة على مجرد الذكورة؛ فالله تبارك وتعالى بدأ بأنبيائه في هذا المنصب، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7] والله تبارك وتعالى أرسل رجالاً مواقفهم الرجولية واضحة لمواجهة الفساد، والشرك، والطغيان، والانحراف، والجور، والظلم وكل ما من شأنه أن يخدش أمراً مما أنزله الله، ولذلك كانت تلك المواقف البطولية، التي لا يقفها إلا أعظم الرجال وأقواهم وأشجعهم: مثل وقوف إبراهيم الخليل عليه السلام أمام النمرود، ووقوف موسى عليه السلام أمام فرعون، ووقوف نوح عليه السلام أمام أمة عاتية ماكرة ألف سنة إلا خمسين عاماً، ووقوف هود عليه السلام أمام أمة مستكبرة متجبرة يبنون بكل ريع آية يعبثون، وإذا بطشوا؛ بطشوا جبارين، كما أخبر الله عنهم على لسان نبيه هود عليه السلام، وكل الأمم لا يقف لدعوتها ويتصدى لجبروتها إلا رجال.

بطل الأبطال وأعظم الرجال

بطل الأبطال وأعظم الرجال وإن أعظم هؤلاء الرجال هو خيرة الله ومصطفاه من خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو استعرضنا المواقف الرجولية لانقضى الليل كله وما زلنا نتحدث عن موقف واحد من مواقفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! يكفيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مواقف الرجولة أن يقف وحده، والناس كلهم قاموا ضده، وأن يدعو إلى الله ويحطم الأصنام جميعاً، ترتجف قلوب ملوك الروم والفرس منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجف مداد صلح الروم بعد! كما ثبت ذلك في الصحيح وفي قصة هرقل. أية رجولة هذه التي عُلِّمَها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه، وخَلَقَه وَجَبَلَه عليها، ثم عَلَّمها أصحابه من بعده صلوات الله عليه وعليهم أجمعين؟! أية رجولة أعظم من قيامه على الصفا لينذر عشيرته الأقربين؟! ثم ذلك الموقف الشجاع العظيم الذي وقفه في هجرته. مواقفه العظيمه في الجهاد في سبيل الله إذ يخبر أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لولا أن يشق عليهم لما بقي خلف سرية تخرج في سبيل الله، ولما تخلف عنها قط!! وقال أصحابه رضوان الله عليهم [[كنا إذا حمي الوطيس (اي اشتدت المعركة) احتمينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] وقد تمثل هذا الأمر يوم حنين إذ أقبلت هوازن وما أدراك ما هوازن؟! وقد أعدت وأجلبت؛ حتى قال بعض مسلمة الفتح ممن لم يتمكن الإيمان في قلبه: لن يردهم اليوم إلا البحر! وقال الآخر: بطل السحر اليوم! ومع ذلك وقف -صلوات الله وسلامه عليه- وقد كاد أن يتولى أكثر المسلمين، وقف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ينادي: يا أصحاب بدر! يا أصحاب الشجرة! حتى اجتمعوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ثابت في مكانه، ثم تحولت المعركة لصالح المسلمين، وانتصروا بفضل الله. وهناك مواقف عظيمة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة أصحابه الكرام في اليرموك، والقادسية، ونهاوند، وغيرها، لا تعد ولا تحصى، ولكننا سنضطر أن نتجاوزها كلها، لنتحدث عن أمر يجب أن يتنبه له المربون والدعاة الوعاظ فيما يتعلق بالرجولة، وهو من أين تنبع الرجولة؟ وأين توجد الرجولة؟ وكيف نربي في شبابنا الرجولة؟ كل منا يوصى ابنه كل يوم (كن رجلاً) (نريد أن تكون رجلاً) باختلاف اللهجات والمقصود منها واحد؛ فأين يكون محضن ومهد هذه الرجولة؟ وكيف نربيها؟ وكيف ننميها؟

منبع البطولة

منبع البطولة الله تبارك وتعالى عندما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استجاب له الشباب، وكفر به الشيوخ؛ وإذا أردت أن تعرف دليلاً واضحاً على ذلك، فانظر كم عاش أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده، عاشوا أربعين سنة وخمسين سنة ونحو ذلك، فهذا دليل على أنهم لو كانوا من جيله أو قريباً من جيله (كـ الصديق رضي الله عنه) لتوفي أكثرهم في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل كان أكثرهم شباباً! بل المساجد إنما يرتادها ويكثر فيها من المصلين في دهره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى اليوم الشباب، ممن نقول إنهم الأطفال على سبيل التجوز وإلا فليسوا بأطفال، لماذا؟ لأن الله تبارك وتعالى عندما وصفهم، وصفهم بأنهم رجال فقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37]. لو أن كل واحد منا صحب أبناءه إلى المسجد لوجدنا أن أكثر من ثلاثة أرباع المسجد من الأطفال أو الشباب! أليس كذلك؟! إذا كان كل منا عنده أربعة أو ثلاثة أو اثنان أو خمسة، فيكون الأكثرية كذلك، فينطبق عليهم أنهم رجال، كيف خرجوا من الطفولة إلى الرجولة؟ هل هو بالانتقال إلى المرقص أو الملهى أو الملعب؟ لا والله؛ بل هو بالانتقال من البيت إلى المسجد، ينتقل هؤلاء من وصف الطفولة إلى وصف الرجولة كما دلَّ عليه كتاب الله. إذن الرجل -أولاً- يتلقى مبادئ الرجولة من المسجد، انظر إلى من تراه رجلاً بجثته؛ لو قلت له: قم أمام الجماعة في قرية فقط وألقِ كلمة، أو تقدم صل بالناس (وهو مجرد ذكر ليس برجل) يخاف ولا يستطيع!! لكن لو أتيت إلى رجل من هؤلاء الرجال -حفظة القرآن- فإنه يتقدم ويصلي بنا ويقرأ الأجزاء الطويلة! أليس هذا رجلاً؟! هذه الرجولة من أين تعلمها؟ من المسجد، ولو قلت له: قم اخطب الجمعة، لقام وخطب! وهكذا تربى الصحابة الكرام على هذه الرجولة، وتنافسوا فيها. وأبناء الصحوة الإسلامية المباركة كل من كان في ميدان من ميادين العلم والجهاد والدعوة، هؤلاء يجب علينا -نحن المربون- أن نعيد فيهم هذه الرجولة، ونربيهم على هذه الرجولة؛ إذ لا رجولة غيرها، وكل ما عداها فهو لهو، وعبث، وتضليل، بل ربما كان فتنة لهم، بل ربما كان إخراجاً لهم من دينهم وإيمانهم وعقيدتهم؛ فالرجولة إنما تنمو إذا اقترنت بإحياء المساجد، وبإقامة الدين، وبتحفيظ كتاب الله تبارك وتعالى، وبالأمر بالمعروف، وبالنهي عن المنكر، وبالدعوة إلى الله عز وجل، هنالك يكون محضن الرجولة، وهنالك يصبح الصغير رجلاً، ويصبح بطلاً؛ كـ محمد بن القاسم، وطارق بن زياد، وأمثالهما من الفاتحين الذين فتحوا أمماً عظيمة، وهم في سن لا نقارنه ولا نقيسه إلا بشباب ما يسمى بالثانوية!

التربية على الرجولة

التربية على الرجولة وإنها والله مأساة، أن يكون أبناؤنا الذين لآبائهم ماضٍ عريقٍ في الجهاد والعلم والدعوة محرومين من التربية على تلك الرجولة؛ عندما تريد أن تتأكد وتطلع على هذا الحرمان فانظر على أي شيء يربى الطفل لو لم يربط بالمسجد، انظر إلى ذلك، وأين البطولة فيه؟ انظر إلى طفل نشأ في أحضان والدين غير متعلمين -لا نقل جاهلين؛ لأن هناك فرقاً بين الجهل وعدم العلم! الجهل من جهل الله عز وجل، وليس الذي لا يحسن القراءة والكتابة- وهما يريدان له الخير، ولكن الله لا يكلفهما ما لا يطيقان، هما لم يتربيا ولم يتعلما، فكيف يدعوانه إلى الله؟! مع أننا نعلم أنه لا يوجد أب وأم لا يدعوان ابنهم إلى الصلاح، إلا من مسخ الله!! فكلنا يتمنى أن يكون في ابنه من الخير والصلاح والهدى والاستقامة ما يجعله مضرب المثل في قريته وقبيلته، هكذا يريد منا آباؤنا وأمهاتنا لكنهم معذورن، فلا يجد الأبناء من يربيهم على هذه الرجولة. فتتلقفهم المدرسة، أليس حراماً أن يمضي الطفل اثنتي عشرة سنة: ست في الابتدئية، وست في متوسط وثانوي، ثم يتخرج ولا تستطيع أن تصفه بأنه رجل! سبحان الله! أية تربية هذه؟! أين كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يربون؟! اثنتي عشر سنة كفيلة أن تحوله إلى طاقة، إلى شعلة، إلى قائد، إلى مجاهد، إلى عالم، إلى مفتٍ، إلى محدث، إلى فقيه، إلى نحوي، إلى لغوي، واقرءوا سير العلماء، في أي سن كانوا عندما بلغوا مبلغ الفتوى، والعلم، والحفظ، والجهاد، والدعوة؟! أي ظلم يُظلَمُه الفتى المسكين؟! الذي ولد وله نفس العقل الذي كان لأولئك، وفي نفس البيئة، ولكنه ظلم بأن يظل يدرس، ثم يدرس، وتمضي عليه هذه السنوات، ثم لا يكون مستحقاً أن يقال عنه رجل إلا القليل! وقد يقال: إنه ربما يعوض ذلك الإعلام، وربما يعوض ذلك المجتمع؛ وأظن أن الحديث في الإعلام أصبح من الكلام المكرر، والكلام فيه أشبه باللغو؛ لأنه لا يمكن أن يربي على خلق ولا على فضيلة ولا على جهاد، ولا تربى عليه نشء إلا نشأ في أودية أخرى!! لا نريد أن نتحدث عنها أصلاً؛ لأنها بعيدة عن الله واليوم الآخر والدار الآخرة، فهي لن تربطه بالله ولا بتقوى الله ولا بطاعة الله! إن قلب المجتمع النابض، إن حقيقة المجتمع، إن انتماء المجتمع مرتبط بأصل أصيل وركن ركين، وهو {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] إنه مرتبط بالمساجد هذا هو الأصل، وهذا هو المنطلق {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] سبحان الله! هكذا الرجولة، الرجولة مرتبطة ببيوت الله، بالطهارة، بالبيوت التي أسست على تقوى من الله، والتي رفعت بذكر الله، والتي هي لله عز وجل.

المسجد مدرسة الرجولة

المسجد مدرسة الرجولة

دور المسجد في العهد النبوي

دور المسجد في العهد النبوي كان مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو دار الحكم، ودار القضاء، ومقر القيادة العسكرية، ومقر الفتوى، والعلم، ومقر ذوي الصدقات، والتبرعات، وغيرها، عدِّد ما شئت من ضرورات الأمة وأساسيات حياتها، أين تجدها؟! إنها في المسجد!! وهكذا كان الصحابة الكرام، من أين تخرج العلماء الذين درسوا على يد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس رضي الله عنه، والذين حفظوا هذه الآلاف المروية عن أبي هريرة رضي الله عنه الدوسي الجهراني ومعاذ؟ أين تعلموا؟ ثم العلماء من بعدهم الإمام أحمد ومالك والشافعي، وأولئك الأئمة الأعلام في الحديث وغيره، حتى اللغويون (علماء اللغة) أين كانوا يعلمون اللغة؟ سبحان الله! كل شيء كان ينطلق من المسجد! ولهذا نقلل من قدر المسجد جداً إذا سميناه جامعة! مع أن جامعاتنا ومعروفة الآن! ومعروف ماذا تخرج!! فلا أريد أن أقلل من شأنه، وأقول: "كان جامعة" إلا على سبيل التجوز، يؤخذ فيه كل أنواع العلوم فهو جامع وجامعة، ومقر قيادة، وإمارة، وحكم، ودعوة إلى الله عز وجل.

المسجد في عصرنا

المسجد في عصرنا لكن اليوم، أين مساجدنا؟! أين دورها في التربية والرجولة؟! لماذا أقفرت المساجد من المواعظ؟ لماذ أقفرت من حلقات العلم،؟! أين ذهبت حلقات تحفيظ القرآن الكريم؟! أين المربون، والمعلمون، والمفتون، والموجهون؟! أم أن المسجد للصلاة فقط؟! وحتى هذه قصرنا فيها!! نصلي مع تأخرٍ أحياناً أو تقاعس وتخلف، نصلِّى فيها ثم تقفل سبحان الله! ولذلك يعشعش في الأذهان ما يريد العلمانيون والمفسدون أن ينشروه من أن الدين لا علاقة له بالحياة، إذا كنت متديناً فصلِّ واخرج، وبعد ذلك إن أردت الربا فتعامل به! وإن أردت الاختلاط فهو ميسر! وإن أردت اللهو واللعب فله مجالاته! وله ميادينه ومؤسساته! أي لا يمكن أن تظل متديناً أو مرتبطاً بهذا الدين إلا بالارتباط بالمسجد!! والبعض لا يأتي إلا يوم الجمعة!! فبالله عليكم أية رجولة في أمة هذا حالها؟! إنها أبعد ما تكون عن حقيقة الرجولة؛ فيها ذكورة، ولكن الرجولة فيها قليل، هذا حالنا، وهذا حال مساجدنا؛ عندما حصرنا الدين بمعنى واحد هو جانب من جوانبه، وحصرنا عمل المسجد في ذلك، ثم نرجو خير الدنيا والآخرة!! كيف يأتي خير الدنيا من المطر والنعمة والغيث ودوام المال والرفاهية والصحة؟! وكيف نريد الجنة، ونريد الفوز برضا الله، ونريد أن نرى وجه الرحمن تبارك وتعالى، وهذا مقام بيوت الله عندنا؟!

المسجد وتعظيمه

المسجد وتعظيمه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ذات يوم فافتقد امرأة -جارية سوداء- ليس لها أية قيمة في المجتمع؛ ولو ذكر الناس جميعاً، فإنها تنسى ولا تذكر، ماذا كانت تعمل؟ كانت تقمُّ المسجد، كانت تجمع النوى والعيدان من المسجد كما جاء في الحديث! هذا عملها فلم تكن تعظ في المسجد ولا تذكر ولا تعلم ولا تفتي؟ فافتقدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل عنها، {قالوا: يارسول الله! إنها توفيت البارحة. قال: وماذا فعلتم بها؟ قالوا: دفناها قالوا: كيف نزعج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل من أجل جارية أمة سوداء!! ما كان لها من عمل إذا خرج الناس من المسجد إلا أن تأتي فتجمع القمامة! فالصحابة حباً للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيثاراً لراحته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأوا أن الأمر قد قضي، ويكفي {قال: هلا آذنتموني، أين قبرها؟ فانطلق وانطلق معه أصحابه، فصلى عليها صلوات الله وسلامه عليه!} انظروا {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وهو إمام المتقين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والله! إن من يقم المسجد هو خير عند الله ممن يسكن القصور في معصية الله عز وجل! لكن كيف نعرف؟! مشكلتنا أننا كبَّرنا وعظَّمنا الدنيا وأهلها، وأصبحنا نتفاخر، يقول الله في القرآن: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] زينة وتفاخر وتكاثر!! وأصبحنا نقول: فلان عنده وعنده!! ومات فلان صاحب الأموال والمؤسسات وصاحب الملك! لكن لو مات واحد من السودان كان ينظف المسجد، قلنا: الله يرحمه، قال: ماذا كان عمله؟ وماذا كان عنده! والله لو أعدنا المعايير الشرعية كما في كتاب الله وكما تربى عليها الصحابة، لعظمنا بيوت الله، وعظمنا كل شيء يتعلق ببيوت الله عز وجل، يكفي أنه: {من بنى مسجداً لله كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة} الله أكبر، بيت في الجنة! سبحان الله بيوت الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، الشجرة فيها يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها!! هذه بيوت الجنة! لو عُظِّمت بيوتُ الله، لبنيت ورفعت وشيدت، كيف ترفع؟ ترفع حساً وترفع معنىً؛ أما رفعها حساً، فتكون أجمل وأنظف وأفضل، بشرط أن يخلو ذلك عن الأمور التي قد تدخل في المكروه والبدعة، ولكن تعظم ويختار لها الموقع المناسب، فيختار لها البناء الجميل والفرش الممتاز، وكل ما يخدم المرافق والمصالح والمنافع التي تتعلق بها، ثم ترفع معنىً (وهو المهم) ترفع في القلوب، وتعظم، ويُجلُّ كلُّ من كانت حياته وقيمته مستمدةً من هذا المسجد، وفي هذا المسجد؛ من جاء ليعلم أو يتعلم، من جاء ليعظ أو يستمع لذكر الله ويُوعَظ، فهذا هو الذي نحبه وهذا هو الذي نعظمه، وهذا هو الذي نقدره؛ كما عَظَّمَ صلوات الله وسلامه عليه شأن هذه الجارية ولم يستهن بعملها. أكثر ما يشغل بال الشباب الزواج! ولا سيما مع هذه المصائب والفتن والمغريات والملهيات والمثيرات التي تريد أن تقحمهم إقحاماً في الرذيلة، والدعاة المضلون كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {دعاة على أبواب جهنم} ينعقون في كل إذاعة ومنبر ومجلة وصحيفة يريدون أن يغروهم بالرذيلة، هؤلاء الشباب ألم يفكروا في الجنة وما فيها من الحور العين؟ ألم يسألوا، ما هو مهر الحور العين؟ ألم يعلموا أن كنس قمامة المسجد هو المهر؟! كنس القمامة من المسجد هو مهر الحور العين، لماذا؟ هب أنني شاب نظيف ولا أريد أن أظهر أمام الناس إلا بأنظف مظهر، ولكنني من أجل بيت الله أذللت نفسي! ولكن لمن؟ لله، أما غير الله فلا نذل له، نذل لله ولكل من أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن نذل له من الطاعة، والمراد به وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا أتيت لأقم المسجد فأنا بهذا العمل أدفع مهر الحور العين. ولذلك من عرف الله عز وجل، ومن عرف الجنة، والنار، ومن عرف قيمة ذكر الله، فليسابق إلى مثل هذه الأمور، إلى التنافس لإحياء بيوت الله، وإعمار بيوت الله، وإحياء ذكر الله تبارك وتعالى في كل مكان، أن يرفع النداء!! النداء الذي نسمعه، ولكننا نغفل عن معناه! من منا لا يسمع (الله أكبر)؟! من منا لا يسمع: (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة وحي على الفلاح؟!) نسمعها لكن هل تدبرنا ووعينا معناها ومدلولها في حياتنا؟! كيف نقول: الله أكبر، ونسمع الله أكبر، ونأتي إلى بيت الله، ثم لا نُعظِّم بيت الله، ولا من دعا إلى الله، ولا من قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مِن أبنائنا وممن يُعلِّم أبناءنا، لا لذاته ولا لشخصه، ولكن لارتباطه بهذا الدين، لأنه يدعو إلى الله وهو أكبر تبارك وتعالى من كل شيء؟! يجب أن يكون كل ارتباط في سبيل الله، وكل ما أريد به وجه الله أكبر عندنا من كل شيء، وأعظم من كل شيء! نحب أبناءنا إذا حفظوا كتاب الله، من يحفظ شيئاً من القرآن، يكون أحب الناس إليك في القرية أو في المدينة! وكذلك من يدعو إلى الله، ومن يعظ، ومن يذكر، تحبه لله، وفي الله، يرتبط قلبك بقلبه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الأرواح جنود مجنده، ما تعارف منها ائتلف، وماتناكر منها اختلف}، يراك فيشعر أنك تحبه، وتشعر أنه يحبك؛ لأنه من جنود الله، ولأنه من أولياء الله، ولأنه ممن يأوي إلى بيت الله، ولأنه ممن يرفع ويعظم شعائر الله، هكذا يجب أن تكون أواصرنا القلبية، ومن هنا تعود إلينا البطولة فيصبح طفلنا وذكرنا وأنثانا وشاعرنا وفقهينا وعالمنا ونحوينا كلهم في ميزان واحد، وهو ميزان التقوى، ويصبح لهذه الأمة معنى آخر، وتنال موقعاً لا تستطيع أن تناله أية أمة في التاريخ.

حياة القلوب وميزان التقوى

حياة القلوب وميزان التقوى إن الله إنما يرفع الناس وإنما يضعهم بهذا الدين، هذا هو المعيار! الارتفاع والاتضاع بذكر الله، وبالتقرب إليه، وبعبادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبالجهاد في سبيله، وفي بذل النفس والنفيس من أجله وحده لا شريك له، وإن غضب الناس فلا يضروك والله. أبشركم وأطمئنكم أنه لا يدعو أحد إلى الله خالصاً من قلبه، مجتهداً في النصح لهذه الأمة، يريد لها الخير إلا ويلقي الله تبارك وتعالى محبته في قلوبها! هذه قاعدة! وهذه من أسرار القلوب التي لا تدخل تحت أنظار أهل الموازين الدنيوية، ولا يستطيعون أن يدركوها، بل هم أنفسهم يعجزون عنها، لماذا؟ لأن سرها عند الله عز وجل، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله إذا أحب عبداً، نادى جبريل عليه السلام ياجبريل، إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} وأنت بحسك البسيط، وبنظرتك الأولية، انظر إلى وجوه اجتمعت على ذكر الله في بيت من بيوت الله، من القسمات من التعبيرات والعيون ترى الصفاء والخير والنور!! ثم انظر إلى وجوه قوم اجتمعوا على غير ذلك! ماذا تجد؟! المؤمن ينظر بنور الله، وغير المؤمن لا يستطيع أن يميز، لا يستطيع أن يرى؛ لكن الذي آتاه الله البصيرة والفراسة يميز بين الوجوه. والله! إذا عرض عليك اجتماع تستطيع أن تقول هؤلاء يجتمعون على ذكر الله! أو تقول: هؤلاء يجتمعون على معصية الله! لماذا؟ لأن كل إناء بما فيه ينضح، لأن القلوب وما يعتلج فيها يظهر على صفحات الوجوه!! هذا سر أودعه رب العالمين لا يستطيع أحد من الناس أن ينفك عنه، بل السعيد من اكتشفه، ومن عرفه، ومن آتاه الله البصيرة، لكي يدركه ويستمتع به ويحمد الله تبارك وتعالى على هذا.

جواذب القلوب

جواذب القلوب كل منا مر بهذه التجربة، لكن البعض أكثر من بعض، لماذا؟ لأن منا من نشأ مهتدياً وفي بيئة من الخير والإيمان، يأتي عليه العارض أو ماسماه الله تعالى {طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف:201]، فيقع في ظلمة، فيحضر مجتمعاً للخير، فتنجلي عنه الظلمة، فيحمد الله عز وجل، والبعض قد يكون ممن مرت به حالة مظلمة جداً، ثم يرى شيئاً آخر، وأذكر تعبيراً عبر به رجل كان مغنياً مشهوراً ثم اهتدى!! حدثني أحد الإخوة من الدعاة، فقال: ذهبت إلى منطقة من مناطق المملكة، فدخلت إلى محل غناء لأعظ صاحبه، فإذا بفلبيني نصراني يريد شريط لـ كات استيفن، والكآبة تخنقه، فقُلت له: هل تعرف استيفن؟ فقال: نعم، فقلت: أتدري ما حصل له؟ قال: لا، فقلت: أسلم، قال: فأنا مسلم من الآن، ولا يدري ما هو الإسلام وذلك من شدة إعجاب الناس به! يوسف إسلام لما سئل: كيف شعورك؟ قال: لا أستطيع أن أعبر إلا أن أقول: إنني كنت في ظلمات بعضها فوق بعض، وخرجت إلى نور لا نهاية له. سبحان الله!! الليلة الواحدة بملايين الجنيهات وبمئات الألوف من الجنيهات، والجماهير تعلق صورته على الصدور وفي كل مكان، وصاحب الدخان يقول: ضع سيجارة شركتي في فمك فقط وخذ كذا ملايين! وصاحب السيارة يقول: قف جوار السيارة، وضع يدك عليها، لنأخذ لك صورة وخذ كذا ملايين. أدنى حركة يمكن أن يتحدثوا عنها؟! كيف حذاؤه! وهل يحب البطاطس؟! هل يأكل البيض؟! كل فعل يريدون أن يعرفوه! يعبدونه كما يعبدون الأصنام!! وهو يقول: والله مع هذا الشعور عند الناس، أنا أحتقر نفسي وبعد أن يغني يذهب إلى البيت لينعزل عن الناس كلهم بنفسه، يشعر بالنقص والاحتقار! ومن النماذج: امرأة أوروبية مشهورة، وإن كانت لم تسلم بعد، ونحن ما نزال في تواصل معها لتسلم ولكنها اعتزلت الفن كلياً؛ تقول: كلما أرجع إلى أي فيلم من أفلامي أقول: كم كنت سخيفة جداً عندما أمثل هذا! وكم قالت لي ابنتي الصغيرة أما كنت تستحين يا أماه وأنت تمثلين هذا الدور؟! سبحان الله!

المحاسبة والرجولة

المحاسبة والرجولة الذل داخل الأعماق!! لكن من الذي يراه؟! لا بد أن يحاسب الإنسان منا نفسه ويتفقد موازينها؛ حتى يكون رجلاً، انظر إلى نفسك، إلى قلبك، معيارك وميزانك بين جنبيك، بين أضلاعك، انظر إلى قلبك، إلى إيمانك متى يزداد؟ متى ينقص؟ انظر في قلبك وإلى منزلة شعائر الله والقائمين بها في هذه الأرض، واعلم أن موقعك عند الله من كرامته ومنزلته عندك، من الإقبال لتعظيم شعائر الله، ومن إحيائك لذكر الله، ومن حبك لبيوت الله، ولحلقات تحفيظ القرآن، ولندوات العلم والخير والهدى والصلاح.

فقدان الرجولة

فقدان الرجولة ومن أراد أن يفقد معاني الرجولة فلينظر إلى الطرف الآخر، انظر إلى أصحاب اللهو، والغناء، والسكر، والعربدة، والفجور، هل يمكن أن يتصفوا بهذه الصفة النبيلة، صفة الرجولة؟؟ إن الرجولة تجمع صفات الغيرة، أو الشجاعة، والكرم، والنبل، فهل يتصف بها أصحاب اللهو والغناء والسكر والفجور؟! هيهات! إن أحد هؤلاء إذا شرب المخدرات أو إذا سهر من أجل المجون والخلاعة، جاءت الدياثة في بيته! فرضيها أو لم يعلم عنها!! هكذا واقعهم، تُفقَد الرجولة!! يمسخ الإنسان! كما أنه يفقد صفة عظيمة من صفات الرجولة وهي الكرم، والكرم لا يتصف به إلا الرجال، هل عند هؤلاء السكارى والعرابدة كرم؟! لا، بل هم أبخل الناس. إن المضيع للصلاة ولطاعة الله يبخل حتى على أبيه وعلى أمه بالريال أو بالدرهم، فإذا جاءه الصاحب في الخبث والفجور، يدفع ويتبرع ويستدين وأكثرهم مَدِين من أجل اللهو والفساد! لا ينفقه على أهله وأولاده!! بل يضيعهم ويحرمهم من ضرورات الحياة من أجل متعة محرمة، أين الرجولة؟! لا عرض، ولا غيرة، ولا مسئولية، ولا كرم! أين الرجولة؟ إنهم يفقدون حتى معاني الرجولة المعروفة لدى الجميع والبدهية لدى الجميع، والتي هي أقل من الرجولة الحقيقية التي يعرفها المؤمنون.

الرجولة الحقيقية

الرجولة الحقيقية إن الرجولة الحقيقية بمعناها العميق العظيم والتي يتصف بها المؤمنون هي: إيقاظ القلب، وتحريك الجوارح، وابتعاث الهمة؛ لإعلاء دين الله تبارك وتعالى، وإرغام أنوف الكافرين والمنافقين والجاحدين والمعاندين من أجل كلمة الحق، من أجل (الله أكبر)، من أجل (لا إله إلا الله)، هذه هي الرجولة التي يجب أن نتربى عليها ويجب أن نتعلمها.

بشائر الرجولة

بشائر الرجولة وإننا لنحمد الله عز وجل، ونفرح ونفخر بأن هذه المعاني بدأت تنغرس في القلوب، بدأنا نشاهد حلقات التحفيظ، نشاهد الاجتماعات الخيرة الطيبة، نشاهد احترام العلم، وافتتاح مكتبات وتسجيلات إسلامية، انتشار الكتيب الإسلامي بل الكتاب الإسلامي، انتشار المؤسسات والمدارس الخيرية، والأعمال التعاونية في كل مكان، ونتفاءل بقول القائل: إن الهلال إذا رأيت بدوه أيقنت أن سيصير بدراً كاملا ويقول الآخر: أول الغيث قطرة؛ فأصبحنا نرى من أبناء أمتنا من تخرج وتعلم، وإذا به منارة في منطقته وفي قريته! وإذا الناس كلهم -شيخ القبيلة أو شيخ القرية والأمناء والإمام والناس- يحبونه بينما تراهم يكرهون ذلك الفاجر العاصي الذي يتبع اللهو واللعب، ويرتكب ماحرم الله. لكن يحتاج الخير منا إلى دعم، وإلى تشجيع، وتأييد، ومساندة، وأن نشترك في الخير، ونتسابق إليه، ونتنافس عليه، كل منا بقدر ما يستطيع، من لم يجد إلا الدعاء فليدع، فليحب الدين والخير والصلاح والإيمان والتقوى والفضيلة، وحفظة كتاب الله عز وجل، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أَحِبَّهم، ادعُ الله لهم؛ فهذا وحده خير عظيم. وإن استطعت أكثر من ذلك فافعل، لماذا؟ لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، ومقام الرجولة يقتضي منك أكبر من ذلك، لكن أقل شيء أن تحبهم، وأن تدعو لهم، وأن تعلم أبناءك، وأن تغبط من الآباء كل من كان ابنه حافظاً لكتاب الله ومقيماً لحدود الله نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام بدأ الشيخ حفظه الله حديثه عن مستقبل الإنسانية، ثم تطرق إلى حضارة الرجل الأبيض كما تسمى مبيناً أنها زائلة، باستقراء أحوال الحضارات الماضية، ومستدلاً بكلام كبار فلاسفة الغرب وأدبائهم. ثم تحدث عن معارك آخر الزمان بين المسلمين والنصارى واليهود، وبشر أن النصر سيكون للإسلام. ثم سلط الضوء على شيء من عدالة الغرب المزعومة، موضحاً أن العدل كل العدل في الإسلام، وأن الإسلام هو الدين المسيطر والمهيمن على ما سواه، وداعياً إلى الوثوق بموعود الله تعالى لأهل دينه.

حضارة الغرب في الميزان

حضارة الغرب في الميزان الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونحمد الله تبارك وتعالى الذي وفقنا لنتحدث عن أمرٍ عظيم جليل يهم كل مسلم ومؤمن وغيور وداعية، ألا وهو مستقبل الحضارة الإنسانية، ومستقبل الجنس البشري على هذه الأرض. لمن سيكون المستقبل في هذا العالم الذي يموج ويضطرب بالأحداث ويتفاعل بالقضايا؟ حتى أصبح هذا الكوكب الأرضي مسرحاً ومعتركاً للأفكار والآراء، وللحروب والعقائد المختلفة، فمن الذي سيفوز في النهاية؟ وأي دين أو جنس أو مبدأ سوف يسيطر على هذه البقعة من كون الله وخلقه؟ إن الحديث عن المستقبل لا بد أن يسبقه حديث عن الحاضر، فالحاضر هو الطريق إلى المستقبل، بل هو جزء منه في الحقيقة؛ لأنه بدايته، إذاً لا بد من النظر إلى الحاضر الذي نعيشه اليوم. فمن الذي يقود الإنسانية؟ ومن الذي يتحكم في الجنس البشري؟ ومن الذي يسيطر -ولو ظاهراً- على هذا الكوكب؟ لننطلق بعد ذلك لمعرفة المستقبل، ولمن سيكون، والغيب عند الله تبارك وتعالى، ولكن الله قد أظهرنا على شيء منه فيما يتعلق بهذه القضية، وأودع سنناً كونية من تأملها، وكان لديه بصيرة بعواقب الأمور عرف ما ستؤول إليه الأحداث. إن الحاضر الذي نعيشه اليوم لا يخفى على أحد ذي اطلاع في هذه الدنيا أن الحضارة المتحكمة في هذا الزمن هي الحضارة الغربية، ونحن عندما نتحدث عن أوروبا أو الحضارة الغربية فإننا نعني بذلك الامتداد الطبيعي، أو الفكري للقارة الأوروبية، أي: الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي بكلا النظريتين، وبجميع الدول التي تخضع لهاتين الفكرتين.

حضارة الرجل الأبيض

حضارة الرجل الأبيض هذه الحضارة الغربية هي التي تتحكم اليوم في الجنس الإنساني فكرياً ومادياً - ولو ظاهراً - وهي التي عبر عنها الفيلسوف الغربي الكبير برتراند رسل حين سماها: قيادة الرجل الأبيض، أي: الجنس الذي سماه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن، وسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الروم) أو الجنس الرومي، كما سيتبين لنا من الأحاديث التي تطلق في الكتاب والسنة على هذه القارة اسم الروم. لأن الامبراطورية الرومية والتي كان زعيمها هرقل، هي التي كانت تتحكم في هذه المنطقة من العالم، بل في بلاد الشام ومصر قبل أن يفتحها المسلمون، فكلمة الغرب أو الحضارة الغربية أو أوروبا هي التي ترِد بمعنى الروم. فالحضارة الغربية هي التي تتحكم اليوم في قيادة العالم مادياً وفكرياً، فهل هنالك من ضمانات لاستمرار هذه القيادة؟ أم أن هنالك مؤشرات وعوامل واضحة للانهيار، وبناءً على ذلك يكون بلا شك مستقبل البشرية؟ الواقع أننا لا نتكلم كلاماً عاطفياً، فلدينا الأدلة الصحيحة الصريحة على أن المستقبل للإسلام، وإن غَضب الروم، وإن كَثروا، وإن قَووا.

مؤشرات انهيار حضارة الغرب

مؤشرات انهيار حضارة الغرب نحن لن نتكلم بمجرد العاطفة، أو بمجرد التفاؤل، إنما نتكلم بمنطلق النظر في هذه النصوص الشرعية، وهي كافية وفيها الغنى بلا شك، ولكن لكي يكون الإقناع التام، ولكي تكون الفكرة الواضحة، لننظر ولننتهج المنهج العقلي الحيادي المجرد ونحن نبحث في هذه المسألة. يقول برتراند رسل: "لقد انتهى دور الرجل الأبيض"، وقبله كتبت كتابات لم يكتبها أشخاص متشائمون، وإنما فلاسفة الغرب، وعباقرة الغرب بأنفسهم قرروا وكتبوا عن مصير الحضارة الغربية والأمثلة على ذلك كثيرة. ومن أوضح الكتب على ذلك كتاب أُلف في العشرينات من هذا القرن، وهو كتاب (انحطاط الغرب أو سقوط الغرب) الذي ألفه الفيلسوف والمفكر الألماني رسوالد شبنجلر وهو كتاب ضخم ترجم للغة العربية باسم تدهور الحضارة الغربية ترجمه أحمد الشيباني، وملخص ما ورد في هذا الكتاب، على طوله وسعته، أن هنالك عوامل ومؤشرات معينة إذا ظهرت في أي حضارة من الحضارات فإن مآلها إلى السقوط. فقد درس هذا المفكر الحضارة المجوسية، والحضارة اليونانية، والحضارة الرومانية، وإلى حد ما الحضارة التي يسميها العربية وهي الحضارة الإسلامية، ثم الحضارة الغربية فوجد أن كل عامل من عوامل الانهيار في أي حضارة من الحضارات المنهارة البائدة موجود ومتحقق في الحضارة الغربية، ودرس ذلك كثير من الأدباء، منهم على سبيل المثال (جورج أورويل)، بل ظهرت طبقة من الأدباء الغربيين هي الطبقة التي سماها كولن ولسن اللامنتمي، وهم مجموعة من الأدباء من السويد والنرويج وبريطانيا وفرنسا وغيرها وهؤلاء يطلق عليهم اسم اللامنتمي، وهؤلاء كلهم ينذرون بانهيار الحضارة، ومتشائمون بإفلاس الحضارة الغربية إفلاسا مريعاً ذريعاً. ولعلنا نستعرض قضيه واحدة، وما أكثر القضايا والمؤشرات التي تدل على إفلاس الحضارة الغربية، لكن هناك قضية واحدة قد تعجبون لها، وهي فعلاً جديرة بأن يتعجب لها. يقول (شبنجلر) لما نظر إلى الحضارات جميعاً وجد أن هناك عاملاً مشتركاً، بمثابة القاسم المشترك الذي تنهار الحضارات به، فما هو هذا العامل؟ قال: إذا خرجت المرأة من البيت -إذا تركت المرأة دورها كأم- لتعمل وخالطت الرجال؛ ونافستهم فيما خلقوا له، فإن ذلك من عوامل انهيار الحضارات، فيقول: إن هذا قد وجد في الحضارة اليونانية، ووجد في الحضارة الرومانية، ووجد في الحضارة المجوسية، وهو الآن متحقق في الحضارة الغربية. وهو يكتب هذا الكلام في بداية الثلث الأول من هذا القرن، قبل أن يصل خروج المرأة إلى الحال الذي وصل إليه الآن، وقبل أن يتحقق الأمر الذي ربما لم يجر له على بال. فهو يقرر هذه القاعدة، فالرومان انهارت حضارتهم في الوقت الذي كانت فيه المسارح الرومانية المختلطة في قوة المجد والأبهة والنشاط، فكان ذلك أحد العوامل في انهيارها، وكذلك الحال في الحضارة الغربية، ويستدل على ذلك بشواهد من كلام الأدباء والمؤرخين الأوروبيين في عصره، على أن الحضارة الغربية سيكون مصيرها إلى السقوط والانهيار، وأن أحد هذه العوامل الواضحة الجلية هو خروج المرأة من البيت ومشاركتها للرجل في العمل. وحقيقة المسألة هي: أن الأمة التي تكون المرأة فيها أماً، هي أمةٌ متجددة الشباب بطبيعة الحال، ولهذا يلاحظ أن الأمم الشرقية عامة كـ الهند والصين، ممكن أن يتجدد شبابها في أي قرن وفي أي مرحلة من المراحل، أما الضعف التكنولوجي فيمكن أن يعوض وأن يأتي جيل جديد ويستوعب التكنولوجيا وينطلق ويحقق تقدماً حضارياً، لكن الأمة التي تخرج المرأة فيها من البيت وتشارك الرجل في العمل هذه أمة هرمة، ستهرم بعد جيلين أو بعد ثلاثة، فمهما يكن فإنها ستهرم. وكما قال المؤرخ الإنجليزي العالمي المشهور أرنولد توينبي حينما ذكر هذه القضية، واستدل عليها بحقيقة تاريخية إحصائية، وهي أن العالم الغربي - أوروبا - كانت أكثرية في القرن التاسع عشر، وما تزال هي من أكثر بلاد العالم بالنسبة للكثافة السكانية، وإذا استمرت الحياة في الغرب على هذا النمط، فإن أوروبا ستصبح بعد أجيال أقلية بالنسبة للعالم، بل نص هو على ذلك فقال: إن نسبه التوالد عند المسلمين هي ضعف أو أكثر منها عند الأوروبيين، ومعنى ذلك أنه بعد أجيال سوف يصبح العالم الغربي أقلية بالنسبة للعالم الإسلامي بالذات. وأضاف أرنولد توينبي نقطة أخرى فيقول: "إن العالم الغربي ستفتك به المخدرات والخمور، في حين أن العالم الإسلامي لا يشرب الخمر"، وهذا وضعه كعامل من العوامل، إذا نظرنا إلى أمة شابة فتية يتضاعف سكانها، ونظرنا إلى أمة تهرم مع الزمن، وكلما يأتي جيل يكون عدد سكانها أقل، وفي نفس الوقت تتعاطى المهلكات كالخمور والمخدرات، فبلا شك -على نظره السطحي الظاهري وإن كان له حقيقة- أن العاقبة ستكون لتلك الأمة ولن تكون لهذه الأمة، فالعالم الغربي يتفوق اليوم بأسباب واضحة أعظمها وأجلاها هو التفوق العلمي الصناعي التكنولوجي. وقد أثبت الباحثون والمفكرون ذلك نظرياً، وثبت - الآن- واقعيا أن التقدم التكنولوجي ليس بتلك المعجزة التي يعجز عنها خلق الله الآخرون، كما كان يزعم بعض الغربيين، فقد استوعبت الحضارة الغربية والتكنولوجيا الغربية شعوب شرقية، واستطاعت أن تقف على ساقيها وأن تنافس العالم الغربي في صناعاته، فـ اليابان أصبحت تنافس هذه الدول منافسة جلية واضحة حتى غزتها في عقر دارها، وهي محافظة على تقاليدها وبوذيتها ومجوسيتها. وبإمكان الهند أو باكستان أن تستوعب القنبلة الذرية، وهي سر قوة الغرب وتستمر أكثر من ذلك، والصين قطعت خطىً لا تقل عن خطى روسيا جارتها الشيوعية، وكذلك الكوريون فكما يقال: الكوريون قادمون، أيضاً تايوان (الصين الصغرى) ودول كثيرة وكذلك العالم الإسلامي، وإن كنا سنؤخر الكلام عنه. كل ذلك يثبت أن التفوق التكنولوجي ليس تلك المعجزة التي ستظل حكراً على الإنسان الغربي إلى الأبد، وإنما في إمكان الشعوب الأخرى أن تشارك، ففي أول الأمر تتعلم ثم تشارك ثم تنافس وفي النهاية سوف تتفوق، وهذه قضية أصبحت تُخيف العالم الغربي بشكل مزعج جداً، لكن السنن الربانية لا يمكن لأي أحد أن يدفعها، إذاً هذا جانب. الجانب الآخر من جوانب تفوق الغرب هو: تفوقه الحضاري الفكري؛ فبلا شك ولا ريب أن العالم اليوم خاضع إلى حد كبير إلى الفكر الغربي، بمعنى أن اللغات الغربية، الانجليزية أو الفرنسية تكاد تكون لغات التخاطب العالمية، وأن مناهج تعليم الأفكار والأنماط السياسية كـ الديمقراطية والاشتراكية وأمثالها كلها شعارات وأفكار وثقافات ونظريات غربية، وهي التي تكتسح معظم العالم اليوم، لكن حتى هذه ليست بتلك الأزلية الثابتة أبداً.

مستقبل التدين في الغرب

مستقبل التدين في الغرب يتبين من الإحصاءات التي تجري سنوياً أن الذين يدخلون في الهندوسية والبوذية وحدها -فضلاً عن الإسلام- من الأمريكان والأوروبيين يتزايدون آلافاً مؤلفة سنوياً، ومعنى ذلك أن الثقافة الأمريكية والحضارة الغربية سوف تنطبع حتماً بطابع جديد وبمؤثرات جديدةٍ عليها، لأن الإنسان الأمريكي أو الأوروبي مهما كان فقناعته بحضارته وبثقافته نظرياً، فهو حينما يذهب يلهث وراء أي دين من الأديان. وحينما يذهب إلى نيبال أو إلى سيام أو بورما ليبحث هنالك عن الدين ويعتنق أي دين فإنه يعبر تعبيراً صارخاً عن إفلاس الحضارة الغربية عقائدياً وفكرياً، وبالتالي فإنه لا بد أن تظهر بصمات واضحة وآثار جلية في الحضارة الغربية سوف تخسر بها كثيراً من نظرياتها التي يزعم أو يتوهم أصحابها أنها خالدة، وأنه لا يمكن لأحد أن يغيرها ولا أن يزحزحها. فالتفوق الفكري للعالم الغربي ليس بذلك الذي لن ينقضي إذا ما قارناه بالثقافات المجوسية وبالثقافات البوذية والهندوسية، وهي ثقافات بشرية وضعية وثنية قديمة منحطة تتنافى كل المنافاة مع واقع الإنسان الغربي، ومع ذلك فإن الكفة الآن تميل لصالح الإنسان البوذي ضد الإنسان الغربي، وإن كانت الأفكار الغربية اجتاحت الهند والصين، إلا أنها أفكار جاءت عن طريق حكومات علمانية أو شيوعية تسيطر على تلك الملايين المؤلفة من البشر، وتفرض عليهم نظاماً غربياً، إما العلمانية في الهند وإما الشيوعية في الصين على سبيل المثال. ولكن الشيء الثابت والأساس هو أن الأفراد الغربيين أنفسهم بدءوا هم يدخلون في الدين البوذي، في حين أن المثقفين الهنود والصينيين بدءوا يعيدون النظر في موقفهم من الحضارة الغربية، ويقولون: ليس للغرب أية ميزة، ونحن لنا حضاراتنا ولنا أمجادنا، فإن الشيوعية التي تسيطر بقوة الحديد والنار في الصين قد حدثت فيها عدة انتفاضات ضدها، وبدأ الإنسان الصيني يراجع نفسه ويقول: لا بد أن نرجع إلى البوذية، لا بد أن نرجع إلى ديننا إلى دين الآباء والأجداد، ولماذا نأخذ نظريات ماركس ولينين وأمثالهما، ونحن عندنا أفكار بوذا فيها ما يغني وفيها ما يكفي وفيها ما يضمن لنا الحياة المستقرة الهادئة المطمئنة؟ مع أن كلا الحضارتين وكلا النظريتين باطلٌ ووثنيٌ جاهلي، إلا أن هناك رجحان في كفة هذه على تلك.

دعوة الأمة إلى الأخذ بأسباب التوبة

دعوة الأمة إلى الأخذ بأسباب التوبة إذا كان هذا بالنسبة لتلك الأمم فما هو الحال بالنسبة للعالم الإسلامي وللأمة الإسلامية؟ الأمة الإسلامية اليوم تشهد صحوة ويقظة، وإذا استخدمنا التعبيرات الشرعية -وهي الأصح والأولى- فإننا نقول ونسميها توبة، فالعالم الإسلامي اليوم يعيش بداية توبة وإنابة ورجوع إلى الله تبارك وتعالى، وذلك لعدة أمور:- أولاً: أن من داخل العالم الإسلامي حركات ودعوات ضمير يحرك العالم الإسلامي للعودة إلى الدين نقياً سليماً صافياً، وهذا الضمير الموجود في هذه الأمة يعبر عنه وجود طائفة من هذه الأمة لا تتزحزح ولا يتزعزع إيمانها مهما ذهبت بقية الأمة؛ ومهما انحرفت ومهما انجرفت مع التيار، وهي الطائفة التي أخبر عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق حين قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله}. وأمر الله هو الريح الطيبة التي تهب قُبيل قيام الساعة فتقبض أرواح المؤمنين، فلا يبقى إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، عافانا الله وإياكم من ذلك. إذاً: فهذه الطائفة المنصورة موجودة وجوداً حقيقياً حسياً وموجودة وجوداً علمياً، فالقرآن -ولله الحمد- موجود وكأنما أنزل اليوم، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجودة، بل ظهر من الاعتناء بها في هذا العصر الشيء الذي لم يظهر مثله في قرون كثيرة مما سبق، وكتب السلف الصالح ودعاة الأمة والمجددين موجودة بين أيدينا، وتجاربهم موجودة بين أيدينا. فإذاً هنالك عامل ورافد من روافد العودة والإنابة والتوبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موجود في قلب الأمة الإسلامية أو في ضمير الأمة الإسلامية وهذا لن يموت، ولن يخفت بإذن الله تبارك وتعالى. والأمر الآخر: أنه بقدر ما يظهر إفلاس الحضارة الغربية، وانهيار الحضارة الغربية وانحطاطها وتدهورها والسفول الأخلاقي البهيمي الذي تعيشه، بقدر ما يوجد لدى المسلمين -كما وجد لدى غيرهم من الشعوب- القوة والاعتزاز بالنفس والشعور بالانتماء وبالذات، ورفض التبعية والتقليد والانتماء لتلك المناهج التي أعلن أصحابها إفلاسها، وأعلنوا حيرتهم وضياعهم وشقاءهم. فكل من هذين العاملين كلاهما يؤيد الآخر في أن الصحوة الإسلامية أو العودة والتوبة، أصبحت حقيقة واقعة يراها الإنسان في كل مكان من بلاد العالم الإسلامي. والذي يبشر بالخير أكثر فأكثر: أن هذه العودة هي عودة إلى المنابع الأصلية، إلى القرآن والسنة وإلى سير السلف الصالح، فلم يشهد عصر من العصور انتشاراً لكتب السلف الصالح وأئمتهم ودعاتهم وعلمائهم كشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله أجمعين- كانتشارها في هذا العصر في شتى البقاع، وبلغات شتى، وفي هذا دليل على أن الأمة الإسلامية بدأت تعرف أين هو، وما هو المصدر الحقيقي الذي تكون الانطلاقة منه صحيحة وسليمة؟ ولا بد أن تتحقق النتيجة بإذن الله تبارك وتعالى.

الأدلة على سقوط المنهج الغربي

الأدلة على سقوط المنهج الغربي وما سبق إنما هو بالنظرة المجردة للواقع، كواقع بالنسبة للعالم الغربي وبالنسبة للعالم الإسلامي، لكن إذا ما نظرنا إلى النصوص وإلى الأدلة الشرعية فإننا نجد ما يؤيد ذلك تأييداً قوياً جلياً صريحاً.

سقوط الكنيسة الشرقية وملك فارس

سقوط الكنيسة الشرقية وملك فارس يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما سأله أحد التابعين قال له: {يا عبد الله أيُّ المدينتين تفتح أولاً: مدينة هرقل أم روميا؟ -يعني القسطنطينية تفتح أولاً أم روما - فأخرج عبد الله بن عمرو كتاباً من صندوق كان لديه، وفتحه وقرأه وقال: أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ونحن نكتب- أن مدينة هرقل تفتح أولاً}. ما معنى ذلك؟ إذا تحدثنا بالنظرة الفكرية بغض النظر عن القضية الجغرافية، فإن العالم النصراني ينقسم إلى كنيستين كبيرتين: الكنيسة الشرقية، والكنيسة الغربية، والعالم الصليبي هو أعتى وأقوى أعداء الإسلام، وهو الذي -كما سنعرض في الأحاديث- سيظل العدو اللدود للإسلام إلى قيام الساعة. هذا العدو ينقسم إلى كنيستين: الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية. الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية ومقرها القسطنطينية، والكنيسة الغربية الكاثوليكية ومقرها روما، وعبد الله بن عمرو يُسأل فيقال له: أي المدينتين تفتح أولاً؟ ونلاحظ من هذا السؤال أن التابعي ليس لديه شك في أن كلاً من القسطنطينية وروما ستفتح، وما سأله هل ستفتح روما وإنما سأله أي المدينتين ستفتح أولاً؟ فعنده يقين بأن المدينتين ستفتحان لكن أيهما تفتح أولاً؟ فقال له عبد الله بن عمرو عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مدينة هرقل تفتح أولاً. فالكنيسة الشرقية هي أول ما ينهار في طريق الزحف الإسلامي المظفر، وقد حصل ذلك، وقد اجتاحها المسلمون فبدءوا بـ بلاد الشام، وقد كانت قاعدة حكم الامبرطورية الرومانية لـ هرقل، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: {إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل} وقد أنفقت كنوزهما في سبيل الله عز وجل. ولما أن كانت القصة المعروفة المشهورة -التي رواها الإمام البخاري في أول الصحيح- ولم يؤمن هرقل ولكنه كاد أن يسلم ثم بقي على دينه، فلما أن جاء الزحف الإسلامي وتقدم إلى دمشق ففر هو إلى حمص، فلما تقدم الزحف الإسلامي إلى حمص، قال هرقل الكلمة المشهورة: سلاماً عليك يا سوريا، وداعاً لا لقاء بعده. فقد علم بذلك من قَبل لما جاءه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {والله ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين} فقد كان يعلم ذلك، فهم يعلمون أن هذا الدين سيظهره الله على الدين كله ولو كرهوا وقاوموا، فانسحبت جيوش هرقل.

سقوط الكنيسة الغربية

سقوط الكنيسة الغربية أما الكنيسة القبطية التي في مصر فقد اضمحلت -ولله الحمد- وتلاشت إلا ما بقي من الأقباط، وبدخول محمد الفاتح إلى القسطنطينية سقط معقل الكنيسة الأرثوذكسية، أي النصف الشرقي من العالم الصليبي النصراني، سقط في أيدي المسلمين وبقي من العالم القسم الغربي وهو الذي قاعدته روما. يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه الإمام مسلم: {تغزون جزيرة العرب فيفتح لكم، ثم تغزون فارس فيفتح لكم، ثم تغزون الروم فيفتح لكم، ثم تغزون الدّجال فيفتح لكم}. وبهذا الترتيب نجد أن الذي وقع فعلاً هو ذلك، فـ جزيرة العرب فتحت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتهى أمرها، وثبتت في أيام أبي بكر بعد القضاء على المرتدين، وظلت وستظل بإذن الله قاعدة للدين الإسلامي {لا يجتمع فيها دينان} كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا خبر ولكنه حكم يجب أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، فلا يبنى فيها كنيسة ولا معبد لأي دين من الأديان، ولا يقيم فيها غير مسلم إلا الإقامة المؤقتة، لا يسكنها ولا يقيم فيها اليهودي ولا النصراني إلا بصفة مؤقتة للضرورة، وإلا فهي معقل الإسلام الذي يجب أن يصان عن رجس الشرك. {ثم تفتح فارس} وقد فتحت فارس فتحاً كاملاً، اجتاح المسلمون ملك كسرى إلى أن وصلوا إلى حدود الصين، فكسرى مزق كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يمزق ملكه، فمزق الله ملكه ولم يبق منه شيء، وهرقل احترم كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هذه إحدى الدلالات البينات من دلائل النبوة، وكاد أن يسلم كما أشرنا- فبقي له جزء من الامبراطورية الغربية بعد أن تقدم المسلمون إلى بلاد الشام وإلى أن حاصروا القسطنطينية في أيام معاوية بن أبي سفيان، ثم من بعده رضي الله عنهم. قال: {ثم تفتح الروم} والفتح الحقيقي للروم كما يظهر من الحديث -لأنه قال {ثم الدجال} - يكون إذا فتحت المدينة الأخرى وهي مدينة روما، وحينئذ تكون الكاثوليكية أو بمعنى آخر: تكون قاعدة الدين النصراني الكبرى قد سقطت هي الأخرى في أيدي المسلمين كما سقطت من قبل مدينة هرقل وهي قاعدة الكنيسة الشرقية، ونتيجة لذلك لن يقوم للنصرانية قائمة بعد ذلك بإذن الله تبارك وتعالى.

ملحمة آخر الزمان

ملحمة آخر الزمان بقي لدينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال كما في الحديث الذي رواه مسلم وكان بحضرة عمرو بن العاص وشهد له {تقوم الساعة والروم أكثر الناس}. وفي الحديث الآخر الذي جاء من عدة طرق وروايات: {أن الروم يقاتلون المسلمين ويغزوهم حتى ينزلون بـ الشام} وهذا يدل على أن هناك كرةً أخرى سوف تستعيد فيها أوروبا قوتها ونشاطها وتغزو العالم الإسلامي، حتى أنها تنزل بـ الأعماق في أرض الشام وهناك تكون الملحمة المشهورة التي في أرض الشام. هذه هي الملحمة النهائية الفاصلة التي لا قيامة بعدها للروم، وفيها تكون المعركة الحاسمة، حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفها وذكر أيامها وأهوال هذه الحرب، وبعد انتهاء الملحمة بهزيمة الروم يكون تفوق العالم الإسلامي، وتفوق المسلمين النهائي على العالم الغربي، رغم أنهم قد يكونون أكثر منهم مناعةً وقوةً وعتاداً وسلاحاً. فالمهم أن هذه الملحمة لا بد منها، ولا بد من أن تتفوق وتنتصر فيها الأمة الإسلامية ولا تقوم بعد ذلك للروم قائمة، وفي نفس الوقت نجد أحاديث صحيحة تدل على أن المسلمين سوف يقاتلون اليهود وينتصرون عليهم انتصاراً ساحقاً، كما في الحديث: {حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله}. وتصوروا كيف تكون حالة العالم إذا قضى المسلمون على اليهود وقضوا على النصارى، ما الذي سيبقى؟ العالم الغربي -الآن- أشبه بوحش كبير جداً يسيطر على الدنيا ومنها العالم الإسلامي، وهذا الوحش على رأسه تلك الأفعى اليهودية توجهه يميناً وشمالاً، تمتص خيرات هذا العالم، وتوجهه ليحارب من شاء ويترك من شاء، فإذا قضى المسلمون على اليهود والنصارى -كما بشر بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لن تقوم حينئذ للعالم الغربي قائمة فيندحر بذلك ويندحر أقوى وأعتى أعداء الإسلام، ويتحقق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار} ويدخلون في دين الله أفواجاً. هذه نظرة عجلى على النصوص التي تدل على أن المستقبل -بإذن الله تبارك وتعالى- للإسلام، وأن الحضارة الغربية هي بلا ريب وبلا شك مآلها إلى الانهيار والدمار.

بين عدالة الغرب وعدالة الإسلام

بين عدالة الغرب وعدالة الإسلام إذا عدنا إلى المستقبل القريب الذي يعيشه العالم اليوم، وأردنا أن ننظر إلى بشائر العودة إلى الله والإنابة والتوبة إليه من جهة، وإلى واقع العالم الغربي من جهة أخرى، فإنه تتعارض لدينا قضيتان. القضية الأولى: التفوق العلمي، والتفوق التكنولوجي والمادي الذي يعيشه العالم الغربي، بحيث إنه يمتلك من العتاد والسلاح والأساطيل والصواريخ والقوى ما يجعل مجرد التفكير في حربه ومقاومته -كما يبدو ظاهراً- أمراً صعباً ومريعاً للغاية، أو مستحيلاً لا يمكن أن يفكر فيه إلا مغامر مهووس لا يقدر العواقب والأمور، كما يتصور ذلك العالم الغربي على الأقل. لكن في نفس الوقت نجد أن هذا العالم الغربي لديه الخواء النفسي والروحي الرهيب، فلديه الذعر الذي يسيطر عليه من داخله، وتسيطر عليه الجريمة، والإدمان بجميع أنواعه، والانهيار الاجتماعي وتفكك الأسرة من الداخل. إذاً كما قال المفكر الإنجليزي (جود): 'نحن مثل الذي يملك قوة العفاريت ولكن بعقول العصافير، هذا العالم قوة عفاريت ولكنها بعقول العصافير'. فإذا فقد الروح هذا الهيكل العظمي الحديدي الذي يتمثل في الأساطيل وفي الصواريخ وفي الصناعات، إذا فقد الروح فإنه مهما كبر فلن يؤدي أي دور على الحقيقة، بل هناك نظرية معروفة الآن على المستوى السياسي والدفاعي وهي ما يسمى بنظرية "توازن القوى" بمعنى أن الأمة التي تمتلك قنبلة ذرية أو هيدروجينية متفوقة على الأمة الأخرى، فإذا امتلك الخصم قنبلة مناظره أو مقابله معنى ذلك: أن كلا الطرفين لن يستخدم السلاح النووي، فسيضطر الطرفان أن يعقدا الاتفاقيات للحد من الأسلحة النووية، لأنه لا يمكن أن يستخدمها لا هذا ولا ذاك في المعركة؛ لأن كلاهما خاسر في المعركة فيها، فتعود الأمور إلى الأسلحة التقليدية. وهناك ما هو أعظم من ذلك حين تعود المسألة إلى المعنوية النفسية، وهذا أمر مشاهد، فالإفلاس عند الإنسان الغربي في ضميره وروحه وأخلاقه، فكيف كانت أحوالهم وهم يحاربون في فيتنام بل وإلى الآن، فقد نشر أن في القواعد الأمريكية في بريطانيا قد يصبح الشخص مدمناً على المخدرات بحيث إن بقاءه في القواعد لا يصلح، وهذا يؤدي إلى أن يطرد يومياً شخص على الأقل ما بين ضابط إلى صف ضابط إلى آخره. وانظروا إلى هذه العوامل إذا استمرت كيف يكون الفتك، وكيف إذا انتشرت الأوبئة والأمراض التي أصبحت حديث العالم وهَمَّ العالم، وهي منتشرة بلا شك بين العالم الغربي، ومنه جنوده هؤلاء، فنقول: إن عوامل الانهيار الذاتية في العالم الغربي تجعله يوماً من الأيام يستسلم ويركع أمام أي عدو. فكيف إذا كان الخصم المقابل هو من يملك النور والهداية والبرهان والحق المبين، والعالم الغربي يفتقر اليوم إلى العدالة، ومن الذي يملك العدالة؟ فالعالم الغربي أحوج ما يكون اليوم إلى العدالة، فلا تغرنا مظاهر ما يسمى بـ الديمقراطية أبداً، فإن هذا عالم يحتاج إلى العدالة. يقول (تومبي): "إن الديمقراطية -المزعومة بشعاراتها الثلاثة البراقة (الحرية، الإخاء، المساواة) - شعار براق لأن حياة الغرب في الحقيقة ما هي إلا صراع بين مبدئين: الحرية والمساواة"، كيف هذا؟ هذا كلام قد يستغربه بعض الناس، فيقول: إن حقيقة الديمقراطية ليست هي الحرية والإخاء والمساواة! بل إن فإن حقيقتها أن العالم الغربي يعيش في صراع بين مبدئين، وهما نفس المبدئين اللذين جاءت بهما الديمقراطية، بين مبدئي الحرية والمساوة، ولا يمكن على الإطلاق أن تتحقق المساواة مع الحرية، ولا أن تتحقق الحرية مع وجود المساواة أبداً، فكيف يأتي هذا المبدأ ويرفع شعارين متناقضين في وقت واحد، ويؤمن به العالم الغربي، وهو يعاني هذا الصراع. ويقول: الكسس كاري في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): إني أتعجب كيف تصبر الإنسانية على هذا الشعار السقيم أو العقيم، ولن يدوم صبر الإنسانية على هذا الشعار -يعني الديمقراطية - لماذا؟ يقول: لأنها تقضي على الفرد الممتاز، فـ الديمقراطية والمساواة المطلقة في أي وقت وزمان تقضي على الفرد الممتاز المتفوق؛ فبالتالي فإنها تحشر الناس قوالب كبيرة جداً في أطر معينة، فإن فتح المجال للحرية ظهر التفاوت الكبير الذي لن تتحقق معه المساواة. فالعالم الغربي يفتقد للعدل، يقتل عدد من رؤساء الدول أو رؤساء وزراء الدول بتدبير من شركات السلاح، وتستمر القضية (20 سنة) وأكثر ولا يعلم القاتل، أين العدالة؟ إن هذا ليس بشراً عادياً، إنه هذا رئيس الدولة، ولا يعلم قاتله، ولا تقتص العدالة من الجاني، إذاً هذا العالم يعاني الإفلاس الرهيب من العدالة، فأين توجد العدالة؟ وأين يوجد العدل؟ وأي أمة على ظهر الأرض تملك العدل؟ هل في الطرف الآخر الشيوعية؟ كاتب غربي مشهور يدعى (آرثر فوستلر) جرب الشيوعية وجرب الرأسمالية، ثم كتب عن ذلك كتاباً يقول فيه: كثير من الناس يتكلمون عن مساوئ الشيوعية وينسون مساوئ الرأسمالية، وكثير منهم يتكلم عن مساوئ الرأسمالية وينسى مساوئ الشيوعية، أما أنا فأقول: لعن الله كليهما. يقول: إن الاثنين كلاهما مفلس، وهذا كاتب كبير على مستوى العالم، وأظنه فاز بجائزة نوبل، يقول: إن الاثنين ملعونين، وإنهما سواء ليس هناك من عدل. إذاً: فمن الذي يملك العدل؟ إنها الأمة الربانية التي تملك شريعة الله التي لا تحابي ولا تجامل أبداً، الأمة التي علمت الناس العدل. ونضرب مثالاً واحداً على العدل، وما أكثر الأمثلة على ذلك العدل وغيره. كانت مصر مستعمرة للدولة الرومانية، التي هي قبل الحضارة الغربية في سلم التسلسل الأوربي للحضارات، وكان الروم طبقتين -نفس الشعب على طبقتين- طبقة الأسياد، وطبقة العبيد، وطبقة العبيد في الدولة الرومانية يتحكمون في أبناء الشعوب المفتوحة مثل مصر والشام، فكانت منزلة الإنسان المصري أو السوري هي طبقة عبيد العبيد للامبراطورية، وما الذي حصل عندما دخلوا في دين الله عز وجل؟ بعد أن فتح المسلمون مصر ودخلوا فيها، وأتى - ابن عمرو بن العاص ابن القائد الفاتح الذي يحكم مصر - فلطم أحد أبناء الأقباط، فما الذي وقع؟ يأتي هذا القبطي ويشد رحله -ناقته- ويسير المسافات والأيام إلى أن يصل المدينة ويقول لـ عمر: إن ابن فلان لطمني، ودعونا من عدل عمر المعروف، ثم دعونا من قضية الإسلام، وأنه لا يُقر لأحد أن يعتدي على أحد، مهما كان هذا المعتدي كبيراً أو ابن كبير، فهذا منكر وجريمة لا يقرها الإسلام، وهذا معروف، لكن انظروا ما الذي جعل القبطي يثأر لكرامته، ويرحل هذه المسافات البعيدة ليقتص ممن لطمه، وهو منذ سنوات كان هو وأعظم شخصيات بلده عبداً لعبيد الامبراطورية الرومانية، فهذا الانقلاب الكبير أحدثه الإسلام، وأحدثته عدالة الإسلام. يفتح جيش قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله وهو من كبار قواد المسلمين، وكما في تاريخ الطبري، وابن كثير من قرأ فيهما يجد ما لقي المسلمون من عنت شديد من أهالي سمرقند وما حولها من البلاد، يصالحون ثم يغدرون، ويصالحون ثم يغدرون، حتى تعب المسلمون وخسروا أبطالاً عظاماً. فـ قتيبة بن مسلم رضي الله تعالى عنه ورحمه صالحهم، ولما صالحهم وهو يعلم أنهم سيغدرون بدأ بهم فهاجمهم؛ فتمكن منهم فقضى عليهم، فجاءت العدالة التي لا يؤمن بها أولئك الوثنيون ولم يسمعوا عنها، فقالوا: لا بد أن نذهب ونشتكيه؛ لأن هذه أمة لا ترضى الظلم، فذهبوا إلى الخليفة. وكان الأمر قد آل من سليمان بن عبد الملك الذي أرسل قتيبة إلى الخليفة العادل الراشد عمر بن عبد العزيز، فقالوا: يا عمر إننا قد صالحنا جيشك ثم غدروا بنا، ونحن جئنا نشكوهم، فقال: أهكذا كان؟ قال المسلمون: نعم -فليس لدينا كذب فنحن أمة العدل- لماذا؟ قالوا: لأنهم غدروا بنا مرات، فقلنا: لابد أن نصالحهم ثم نغدر بهم وتمكنا منهم فقال: لا، وأمر الجيش بأن يخرجوا وأن يبقى الصلح. فليغدر عدونا ما شاء وليكذب ما شاء، فنحن لا نكذب لأننا أمة العدل، إذا أردنا أن نحاربهم ننبذ إليهم على سواء، ونقول لهم: انتهى الصلح الذي بيننا وبينكم فاستعدوا، فلما رأوا ذلك تعجبوا وظنوا أن الأمر كذب وإذا به حقيقة، وإذا بالجيش ينسحب، فما كان منهم إلا أن أسلموا عن حق وحقيقة ودخلوا في دين الله، وبقيت معقلاً من معاقل الإسلام، ونسأل الله تبارك وتعالى أن تعود كذلك. هذا من ناحية إفلاس العالم الغربي في العدالة، وإفلاسه في القيم، والأمن، والأسرة المتماسكة. هناك أيضاً قضية مهمة جداً وهي: أن الوهم الذي كان يسيطر على العالم، وهو أن العالم الغربي لن يستطيع أن يقاوم صواريخه وأساطيله أية أمة من الأمم، هذا الوهم قد تبدد وتبخر بنموذج إسلامي حي معاصر وهو أفغانستان، شعب أعزل يحارب بالبنادق المصنوعة في القرن التاسع عشر، على نمط البنادق القديمة التي تحاربت بها النمسا وفرنسا في القرن التاسع عشر -قديمة جداً- يسلب من عدوه الرصاصة الواحدة، ليعيدها إلى صدر عدوه، ومع ذلك يحارب أعتى دولة في القسم الشرقي من العالم. وتعلمون جميعاً -ولله الحمد- كيف آلت أمر هذه الحرب، وبدون أية مساعدة وتدخل عسكري من أي دولة إسلامية أخرى أبداً، هذا الشعب الأعزل بمفرده يقاوم هذه المقاومة العنيدة الأبية الصامدة مع ضعف في التربية بلا شك، ومع تفرق ابتليت به الأمة الإسلامية، ومع عوامل كثيرة لا يهمنا الآن أن نعددها، ولكن الذي يهمنا هو أنه مع هذه العوامل

الخاتمة

الخاتمة بقي أن نقول كلمة بين يدي ختام هذا الحديث وهي: هل يقيننا وإيماننا الذي لا يتزعزع ولن يتزعزع -بإذن الله- بأن المستقبل للإسلام، هل يعني ذلك الركون والدعة والتكاسل؟ وهل يعني ذلك أن هذا العدو اللدود -ولاسيما العالم الغربي- سوف يستسلم لنا بسهولة ويخضع لنا بسهولة؟ A إنه لا يمكن أبداً، بل سوف تكون المعركة على أشد ما تكون، وهذا يستدعي من كل واحد منا أن يجعل نفسه فعلاً على ثغر من ثغور الإسلام، والله الله أن يؤتى الإسلام من قبله. احم بيتك من تأثير هذه الحضارة الفاسدة الكاسدة، احم أبناءك من سمومها، احم نفسك من ذلك، وقاومها ما استطعت أن تقاوم، لتبدأ الطريق من أوله، وإذا كان غاندي رفع شعار المقاومة السلبية التي تعني ألا تشتري من الإنجليز ولا تركب في مواصلاتهم إلخ كلها مقاومة سلبية، وحقق الانتصار لبلاده، فكيف المسلمون؟ كيف لو حققنا أو بدأنا ببيوتنا فنظفناها، وبدأنا بأموالنا فحفظناها من أن نبذرها على شهواتنا في تلك البلاد؟ بل حتى الأمور الحاجية، فلا نأخذ إلا الضروريات ونقف عند شيء من الحاجيات، فضلاً عن الكماليات، فضلاً عن المحرمات. يجب علينا أن نعرف أننا أمة مستهدفة ومحارَبة وهي أيضاً محارِبة، فلابد أن نبدأ الطريق من الآن، ولا بد أن نهيئ أنفسنا وشبابنا بالإيمان القوي، لأن هذا العالم الكافر العنيد القوي لن يقاومه إلا من آمن بالله تعالى حق الإيمان. كما كان المؤمنون في أيام اليرموك، وفي فتوح فارس، يأتي المئات من جنود الروم أو الفرس مسلسلين بالسلاسل بعضهم مع بعض ويتقدمون صفاً واحداً حتى لا يتزحزحوا، ويأتون معهم بالفيلة، ومعهم الرماح الطويلة، ويهجم المسلمون حتى أن بعض المسلمين كـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ألقى الدرع، وأخذ يواجه هذه الكتائب المسلسلة وهذه الفيلة بصدره وهو حاسر، وتقدموا وثبتوا حتى نصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. يجب أن يكون شبابنا قوياً في إيمانه، ويجب أن يكون قوياً في جسمه، فسموم الحضارة الغربية وشهواتها تفتك بشباب المسلمين في جسده، وفي عقله، وفي إيمانه، وفي كل شأن من شئونه، بل حتى في ماله، فلا بد أن نخلص شبابنا من ذلك، وهذا هو بداية النصر، وهذا هو بداية المعركة. والمعركة الآن قائمة معلنة من طرف واحد، وهو طرف العالم الغربي ونحن غافلون. وانظروا -وأنا أذكر مثالاً من قضايا كثيرة- ماذا تكتب وسائل الإعلام والصحافة في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه عن العالم الغربي من اختراعات وبطولات عظيمة، حتى الجريمة الغربية تكتب وكأنها شيء جديد وحضاري، ولكن انظروا ماذا يفعل الغرب لو حققنا أعظم إنجاز، ما يكتب عنه الغرب إلا على سبيل الاستهزاء، أو الشماتة، أو التشاؤم، أو التحقير، وهذه الصحف الغربية أنتم أعلم مني قطعاً بها؛ لأنكم تقرؤونها بلغتها، وربما منكم من يقرأها يومياً، فلا يمكن أن تكتب عنا خيراً، لا صحافتهم ولا تلفازهم ولا وسائل إعلامهم. فإلى متى يا شباب الإسلام؟ إلى متى تظل الحرب قائمة ومعلنة من طرف واحد والطرف الآخر مستسلم؟ نحن نقول هذا على مستوى الأمة الإسلامية ككل، وعلى مستوى الشباب المتنبه والغير متنبه، يجب أن نكون جميعاً أمة الإسلام يداً واحدة نقاوم هذا العدو، ونبدأ المعركة ونستشعرها -أقل ما يكون- في شعورنا الذاتي الخاص، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى.

مشاركة من طالب أمريكي

مشاركة من طالب أمريكي هناك أحد الإخوة يريد أن يعرض علينا بعض ما سماه (نبذة عن تدهور الغرب) من خلال واقع عاشه أثناء دراسته في أمريكا، فليتفضل: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. أنا آسف لأني قد أخذت من وقت المحاضر، ولكن هناك بعض الأمور تدور في خاطري فأحببت أن ألقيها على مسامعكم، فأسأل الله عز وجل أن ينفع بها. في الواقع إن لما سأذكره صلة بالموضوع وإلا لما طلبت ذلك، ففي أثناء دراستي للماجستير في الولايات المتحدة كان هناك من المواد التي درستها مادة اسمها (الإعلام)، وأتى المحاضر بشريط فيديو وعرض علينا هذا الشريط واستمر العرض لمدة ساعتين، وكان يعرض فيه جميع أنواع الإعلانات في التلفزيون الأمريكي، وطلب منا كطلبة أن نأخذ ملاحظات على كل إعلان من هذه الإعلانات، فعندما أتاني الدور وقال لي البروفسور: أعطني ملاحظاتك على ما رأيت من إعلانات، فقلت له: لدي ملاحظتان فقط: الملاحظة الأولى هي: سوء استخدام المرأة في الإعلان، وما أن انتهيت من كلمتي هذه إلا وقلن البنات اللاتي كن في الصف: هو محق نحن مظلومات في هذا المجتمع، المرأة تستخدم استخداماً سيئاً في هذا المجتمع، وما يقوله نحن نعانيه، فإذا بأحد اليهود -وهو من الطلبة وقد كان جالساً معنا- ضج لهذه القضية، وكأنهم سبحان الله العظيم هم وراء هذا، فما استطاع أن يمكث في الفصل وخرج، ثم ضج بعد ذلك الفصل وأخذوا يتكلمون بين معارض ومؤيد، ولكن البنات أجمعن على أن ما تحدثت به هو الحق، وأن المرأة تستخدم استخداماً سيئاً في الإعلام. وحتى ألطف الجو قلت له: أريد أن أنقد إعلاناً آخر من الإعلانات التي رأيتها، وهو يدل على تدهور الحضارة الغربية، وهو أن هناك إعلاناً يأتي على الشكل التالي: تأتي إحدى السيارات تنحرف يميناً وشمالاً، ثم تأتي سيارات الشرطة من كل جانب لتحيط بهذه السيارة وعنوان هذا الإعلان: ' if you drink its your business but if you drink and drive its our business' ومعناه أنك تشربت الخمر بحريتك، لكن إذا شربت الخمر وقدت السيارة فإننا سوف نمسك بك. فالحاصل أن هذا الإعلان لا يؤدي دوره، لأن الذي يشرب الخمر يفعل الأفاعيل، فقد يزني بأمه -والعياذ بالله- وقد يقتل أمه وقد يقتل أباه، فما بالك بمن يركب السيارة ويسوق، فأنت لم تعالج قضية شرب الخمر بل عالجت ظاهر القضية وهي أنه إذا شرب الخمر لا يركب السيارة وهذا شيء غير صحيح، فتلطف الجو عندما ذكرت هذا النقد الثاني. والحقيقة أن التجارب التي رأيناها كثيرة، وهي التي أثبتت فعلاً أن المستقبل لهذا الدين، وأبشركم بشارة أنه لا تكاد تخلو مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية من وجود مسجد يُعبد فيه الله عز وجل، بل إن هناك إحصائية قالها أحد المسلمين وهو بروفسور في جامعة نيويورك قال: إنه لا يوجد مسافة أطول من خمسين ميلاً في الولايات المتحدة في جميع الاتجاهات إلا ويوجد فيها مسجد، فهذه من البشائر التي تدل على عودة هذا الدين، أقول قولي هذا واستغفر الله. قال الشيخ سفر: شكر الله للأخ، وأنا واثق ثقة تامة أن كل من عاش أو ابتعث إلى الغرب -وهم منكم كثير بحكم عملكم- فإنه لو وقف هنا لجاء بمثل ما ذكره الأستاذ عبد الرحمن، وأكثر العجائب والغرائب لا تنتهي في تلك البلاد، وكلها -ولله الحمد- دلائل ومبشرات ومؤشرات على أن المستقبل هو لهذا الدين، وعلى أن التبعة علينا نحن المسلمين عظيمةً جداً في إصلاح الإنسانية وفي قيادة الإنسانية، وأنه قد آن الأوان لنا أن نقود الجنس البشري: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل .

الأسئلة

الأسئلة

حديث (إن الله زوى لي الأرض)

حديث (إن الله زوى لي الأرض) Q ورد في الحديث أنه سيبلغ حكم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زوى له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأرض متى يتم ذلك؟ وكيف؟ وهل نحن على أبواب ذلك؟ A متى، العلم عند الله تبارك وتعالى، لكن هذا الحديث من جملة الأحاديث التي تبشر بأن المستقبل للإسلام وهو يتظافر مع ما ذكرنا من أحاديث، وأن ذلك كائن لا بد، أما متى فالله أعلم، ولا يهمنا متى بقدر ما يهمنا أنه آتٍ، وهل نحن على أبواب ذلك؟ الحقيقة أن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن الله عز وجل أعطانا نحن من الأسباب ما لو بذلناه لو شئنا لبدأنا من اليوم على أبواب ذلك. فنعود إلى الله تعالى عودة صادقة، وندعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نُحكِّم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنكون على الأبواب؛ لأن هذه هي الضمانة، وهذا هو المنطلق، فإن أخرنا ذلك فالتأخير منا، كما أن الإنسان بإمكانه أن يبادر إلى الصلاة أو يتكاسل عنها -والعياذ بالله- وهذا بإمكانه، فإن النصر آتٍ آت. ولكن بيدنا نحن إن شئنا بعد توفيق الله عز وجل وبعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بلا ريب، وإن بقينا هكذا فسوف تتأخر بالنسبة لنا فقط، وإلا فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] إذا تخلى العرب سخر الله العجم أو البربر أو الزنوج أو حتى الفرس أو أية أمة، ولا يهم ذلك المهم أنها تقوم بدين الله فتستحق بذلك الوراثة في الأرض وقيادة البشرية.

نظرية سقوط الحضارة بسبب خروج المرأة من منزلها

نظرية سقوط الحضارة بسبب خروج المرأة من منزلها Q قلت مؤكداً نظرية الفيلسوف الألماني بأن نزول المرأة من منزلها، وملاحقتها بالمساواة مع الرجل من علامات انهيار حضارة الأمة الغربية، فما رأيكم وقد أصبحت كثير من الدول العربية والإسلامية يحدث فيها مثلما قال الفيلسوف الألماني، أليس هناك من خطر في ذلك علينا كعرب ومسلمين؟ A بلى هو الخطر الماحق، إذا كانت الأمم القوية المتفوقة في الحضارة المادية تنهار إذا وجدت فيها عوامل الانهيار، فكيف تتصورون الأمم التي ما تزال تحبو في بدايات النمو، وفي بدايات التقدم المادي، بلا شك أنها ستنهار وهي في أثناء الطريق إلى التفوق، فإذا كانت الأمم المتفوقة تنهار فالأمة التي لا تزال تطمح وتطمع بأن تتفوق بلا شك أنها سوف تنهار إذا هي أخذت بأسباب الانهيار، ومن ذلك خروج المرأة، فالمكان الصحيح للمرأة هو البيت، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33]. هذا هو المكان الأصلي، وكل ما عدا ذلك من الاستثناءات، كأن تعمل في مدرسة أو طبيبة أو في أي عمل مما يلائم فطرتها فهو استثناء، أما أن تعمل عملاً لا يلائم فطرتها فلا يجوز بأية حال من الأحوال، ولا في أي زمن من الأزمان، ولا يجوز شرعاً ولا يصح ولا يجوز واقعاً، وهذا الكلام الذي نقوله الآن بعبارات قليلة معدودة هو خلاصة ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة، وخلاصة ما جربه وذاقه الغربيون وطبقوه لمدة قرنين أو أكثر من جهة أخرى، ومن أراد الحق فهو واضح جلي، ومن أراد وأبى إلا مصادمة الفطرة، فإنه لا بد أن ينهار. الكسس كاري قال: إن الحضارة الغربية لا بد أن تنهار لأنها حضارة لا تلائم الإنسان، وكل أمر مخالف للفطرة لا بد أن يدفع ثمنه، ولا بد أن تدفع ضريبته. فكل شيء مخالف للفطرة فإن هناك عقوبات شرعية، وهناك عقوبات كونية، فالعقوبات الشرعية: إذا خلا الرجل بالمرأة يعزر، وإذا زنى بها يجلد أو يرجم. والعقوبات الكونية ما هي؟ إذا خلا بها أو زنى بها تنهار الأمة، ويضعف الاقتصاد، ويهبط مستوى التعليم، وتتحطم الأسرة، وتنتشر الجريمة، فهذه عقوبات قدرية وكل من العقوبات تتحقق في المسلم الذي يفسق أو يخرج عن دين الله، فرداً كان أو مجتمعاً.

أحاديث معركة آخر الزمان

أحاديث معركة آخر الزمان Q في أي كتاب نجد أحوال المعركة التي ستكون بين المسلمين والروم في الشام؟ ثم إنكم ذكرتم أحاديث تخبر بأن المستقبل لهذا الدين، فماذا عن صحة هذه الأحاديث هل كلها صحيحة؟ A الأحاديث كلها صحيحة، ومن ضمنها حديث المعركة التي ستكون بين المسلمين والروم في أرض الشام، وهو حديث رواه الإمام مسلم، ورواه غيره والذين شرحوا هذه الأحاديث كـ النووي والقرطبي والقاضي عياض قد أفاضوا في شرحها، وكذلك ذكرته الكتب التي تتكلم عن الفتن، ففي الإمكان أن تراجع في جامع الأصول فستجد مجموعة منها هناك.

صحة حديث: (ستكون النبوة ما شاء الله أن تكوة)

صحة حديث: (ستكون النبوة ما شاء الله أن تكوة) Q ما مدى صحة الحديث الذي يخبر بأنه سيكون الحكم خلافة راشدةً ثم وراثة ثم جبرية؟ الجواب: {ستكون النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يكون ملك جبرياً، ثم يكون ملك عاضاً، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة} هذا حديث صحيح في أول سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وقد ذكر بعض ما ذكرت أنا من هذه الأحاديث بنفس العنوان. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والحمد لله رب العالمين.

الكيد للدعاة

الكيد للدعاة Q هذه الأيام بدأت التوبة أو الصحوة بأوسع أبوابها، وهذا من فضل الله ونسأل الله المزيد رغم كيد الكائدين وعدم رضاهم عن هؤلاء التائبين، وهؤلاء الكائدين هداهم الله كثيراً ما يوجدون في الشركات، وهم ضد كل شاب يبدأ ويلتزم ويحاولون إلخ؟ A الأخ يشتكي شكوى بأنه يوجد من يكيد للدعوة. في الحقيقة يجب أن نعلم أنه ليس هناك أية غرابة في أن يوجد للمسلمين ككل أعداء، وفي أن يوجد للشاب المسلم بفرده عدو أو خصم، فإبراهيم عليه السلام كان أبوه عدو له، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عمه عدواً له، وكثير من أقربائه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] فقد يضايقك أبوك أو أخوك أو زميلك في العمل، وربما رئيسك، لكن لا بد من الصبر ومن التحمل، ولا بد من الدعوة بالحكمة، ولا يحملك شدته عليك أو معاداته أو كيده على أن تخرج أنت عن منهج الدعوة الصحيح ولكن ارفق به، فربما أن هذا الأب أو الأخ أو الرئيس أو المسؤول أو الموظف لو عرف من الحق والنور ما عرفت لكان أكثر تمسكاً به منك، وما أكثر من انقلب فأصبح مؤيداً للحق بعد أن كان عدواً له. ففي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان خالد بن الوليد رضي الله عنه وحمزة بن عبد المطلب وعمرو بن العاص رضي الله عنهم كل هؤلاء كانوا أعداء ألداء للإسلام، ثم أصبحوا جنوداً له، فلا نيأس ولا نجزع إذا عودينا بل نصبر، ونعلم أن هذه بداية النصر والطريق بإذن الله تبارك وتعالى، وإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال لأصحابه: {ولكنكم قوم تستعجلون} فوالله لنحن أعجل منهم، أعجل وأعجل بكثير، يجب أن نأخذ الأمور على مهل وبتؤدة، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تكون العاقبة للمتقين، وإنها كذلك بإذن الله.

أسباب انحطاط العالم الإسلامي

أسباب انحطاط العالم الإسلامي Q ما هي الأسباب التي كانت سبباً في انحطاط العالم الإسلامي؟ وما هي الأسباب التي تساعد في إعادة الحضارة الإسلامية على ما كان عليه السلف الأول والقرون الأولى؟ A يقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وهذه هي القاعدة الذهبية في هذا المجال، وهي ما ذكرت من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبر عن الفرقة الناجية، فقال: {ما أنا عليه اليوم وأصحابي} فإذا كنا على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فالعاقبة مضمونة والنصر مضمون بإذن الله. لماذا انحططنا؟ لأنا خالفنا ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فمن ذلك: التفرق في الدين، كان المسلمون أمة واحدة على السنة فخرجت الخوارج والشيعة والمعتزلة والجهمية وغيرها من هذه الطوائف المنحرفة، ثم تلتها الصوفية فيما بعد، وهذه فرقت المسلمين عن دينهم وصرفتهم عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت مع العدو الذي جاء إلى بلاد المسلمين، فكانت من عوامل الانحطاط. لم نفهم معنى العبادة وحقيقة العبادة، وظننا أن العبادة هي أن يؤدي الإنسان بعض الركعات ثم يذهب يسرح ويمرح في دنياه كما شاء، ولم نأخذ بأسباب القوة المادية التي أمر الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] وفهمنا التوكل على أنه تواكل. لما حصل هذا للأمة الإسلامية وفهمت التوكل على أنه تواكل، وتركت العمل كانت الهزيمة، انحطاط علمي وانحطاط في الأوضاع العامة، وفي الحياة الاجتماعية، وفي كل مجال، فهذا كله حصل نتيجة البعد عن تطبيق الأحكام الإسلامية وعن التمسك بالسنة القويمة والمنهج السليم. ففي كل زمان سبب الانهيار هو البعد عن الكتاب والسنة، وعن الدعوة إلى الله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبب التقدم والعودة والتفوق هو إقامة كتاب الله، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم التشبه بالكفار، فكل هذه الأمور هي التي تضمن لنا بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العودة والنجاح.

دور أبناء الإسلام

دور أبناء الإسلام Q يعيش الشباب الأمريكي والأوروبي منذ فترة حالات من الضياع والحيرة، وكل يوم نسمع عن (تقليعة) إن صحت الكلمة تعبر عن هذا الضياع، والملاحظ أن كثيراً من شباب الإسلام يقتدون بهذه (التقليعات). فما هو الدور الملقى على أبناء الإسلام خصوصاً عندما يجد هؤلاء الأوروبيون ذلك النور الإلهي؟ A يقول الشاعر: ومن جعل الغراب له دليلاً يمر به على جيف الكلاب الإنسان الأوروبي حائر أعمى لا يعرف إلا الجيف في حياته كلها، فإذا اقتدى به هؤلاء الشباب فإن حالهم لن يكون أحسن من حالهم، فالأعمى إذا اقتدى به أعمى مثله ضاعا، ولذلك فإن الإنسان الأوروبي يصيح ويبحث عن دليل، فهم يسافرون إلى نيبال، وقد رأيت صورهم، وأخبرني عنهم بعض الإخوة، ولماذا خصصت النيبال؟ لأن نيبال تعتبر أحط دولة في العالم من ناحية الحضارة، ليس فيها أي أثر من آثار الغرب إلا العجلات -كما يقولون- التي يركبون عليها وتقودها الدواب، يقولون: نريد أن نذهب إلى بيئة بعيدة كل البعد عن الغرب وعن تأثير الحضارة الغربية، لا يحمل معه ساعة ولا قميصاً من صناعة غربية أمريكية، ولا أي شيء غربي أبداً، يذهب هناك يقول: أبحث عن الفطرة. هذا الأعمى الضائع الحائر يأتي الشباب المسلم الذي بين يديه كتاب الله وسنة رسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويلقي بهذا النور جانباً، ويمشي وراء هذا الأعمى في الظلام فأين سيذهب به؟ لا شك أنه سيؤدي به إلى الهلاك والدمار، ومن هنا وجب علينا أن نبدأ بهذا الشباب، فمسئوليتنا الأولى هي تصحيح حال هذا الشباب المسلم، ثم الانطلاق إلى الشباب الغربي الحائر هناك. فالمسلم إذا عرف دينه تحول إلى رسول هداية إلى ذلك الضال الحائر المسكين، هذا هو الذي يجب أن يكون بإذن الله، أما (التقليعات) فلن تنتهي ولا تنتهي إلا بالعودة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكلما خفت حدة أمر من الأمور جاءت أمور أخرى، وصنع أعداء الله وأعداء الإنسانية تقليعات وصراعات وفتن جديدة.

الصلاة لمن يعمل في أماكن خطيرة

الصلاة لمن يعمل في أماكن خطيرة Q إذا كنت أعمل في منطقة خطيرة ينبغي فيها الحرص الشديد وذلك أثناء نوبتي في مصفاة بترومين، ودخل علي وقت الصلاة ولا أستطيع مغادرة هذه المنطقة، هل أؤدي الصلاة على أية حال كنت فيها؟ وهل هذا يجزي. أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A الحقيقة لا ينبغي الإجابة على هذا السؤال المتسرع بسرعة من خلال هذه الكلمات، ولابد من التفصيل عن حالة هذا الإنسان، وحالة هذا الموقع، وهل بإمكانه أن يغادر مكانه أو لا، وهذا الشخص لا بد أن يتوضأ قبل أن يأتي المكان، ثم هل لا بد أن يكون منحرفاً عن القبلة، وهل يؤثر ذلك في ركوعه وسجوده، وهل يؤثر في عمله، إلى غير ذلك من الأمور التي لو بسطها هذا الأخ في رسالة، وبعث بها إلى هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة للإفتاء، لنفع الله بها إخوانه؛ لأنه ليس هو الوحيد في هذا العمل. فمثله إخوة كثير في شركات أخرى، وفي قطاعات كالجيش وأمثاله، أو الخطوط، فإذا كان الجواب من هنالك فسوف يكون أعم وينشر بشكل أعم وأفضل للجميع -إن شاء الله- ولكن عموماً ومبدئياً {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ليتق الله الأخ هذا ما استطاع، ولو أن يؤخر الصلاة قليلاً أو يقدمها، ويتق الله بقدر ما استطاع من ناحية السجود والركوع والاتجاه إلى القبلة، وبحسب الضرورة التي يكون فيها، ويمكنه أن يخبر مدير الشركة، ونحن لا ندخل في الحلول؛ لأن هذه القضية تطول، لكن يمكن أن يوضع في هذا المكان من الكفار الذين يعملون في هذه الشركات؛ ويوضع المسلم في مكان آخر، ولو لمدة الصلاة فهي دقائق معدودة إلى غير ذلك من الحلول، ونحن في الحقيقة نرجو أن يبقى السؤال مفتوحاً، لأنه قد توجد مناطق لا يكون فيها إلا مسلم، ولكي نعرف الجواب بدقة.

الدعوة في أثناء العمل

الدعوة في أثناء العمل Q هل الدعوة إلى الله داخل منطقة العمل لا تجوز؟ وإذا كان الداعية في عمله محافظاً على عمله على الوجه الأكمل فهل للمسئول الحق في منع الداعية من الدعوة داخل العمل، ويقول: الدين داخل المسجد وليس في العمل؟ A لا يوجد مسئول مسلم يقول: لا تدعو إلى الله إلا في المسجد، إلا إن كان لا يعرف حقيقة الإسلام، لكن لا بد أن ننظر إلى الموضوع دائماً في كل أمورنا نظرة الإنصاف ونظرة الاتزان، بمعنى: أننا كما نقول للمسئول لا يا أخي كيف تقول له: لا يدعو إلى الله، نقول أيضاً لهذا الأخ: ما معنى الدعوة إلى الله؟ تمسك كتاباً وتقرأ في أثناء العمل؛ وتقول: هذا من الدعوة إلى الله؟ وتطيل النقاش مع إنسان في قضايا فقهية وعلمية وتقول: هذا من الدعوة إلى الله، وأنت مكلف بهذا العمل؟ فلا يجوز الإفراط ولا يجوز التفريط لا من المسئول ولا من الموظف، وإنما يجب أن نكون جميعاً يداً واحدة، نؤدي مصلحة العمل ونؤدي مصلحة الدعوة، وهذا هو الذي يجب أن يكون فنقتصد جميعاً. فلا أظن أن مسئولاً مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر ينكر الدعوة إطلاقاً، ولن يستطيع أن يكمم فمك لأنك ستتكلم مع زميلك ومع جارك، لكن لو أنك أنت أسرفت في ذلك وتركت العمل، فمن حقه حينئذٍ أن يتدخل لأنه مسئول، فيجب أن يكون من الطرفين مراعاة للعدل والاتزان ويكون الهدف للجميع هو رضا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ليلة النصف من شعبان

ليلة النصف من شعبان Q ما صحة الأحاديث التي جاءت في فضل ليلة النصف من شعبان؟ A لم يصح في تخصيص ليلة النصف من شعبان أي شيء، أي: أنه لم يصح في تخصيصها بعمل من الأعمال أية رواية ولا أي حديث، وإنما هناك بعض روايات ضعيفة تدل على أن لها فضلاً -فقط- وهو أن الله تعالى يغفر فيها الذنوب إلا للمشرك والمشاحن، وهذا فضل وليس عملاً معيناً خاصاً بها، وهذه الروايات ضعيفة فلا يعمل بها. وبعض العلماء يقول: هذه الروايات يجبر بعضها بعضاً، فتكون النتيجة أن لهذه الليلة هذه الميزة، أن الله يغفر فيها إلا للمشرك وللمشاحن، وهذا أكثر ما ورد فيها، وأما تخصيصها بعبادة أو بعمل أو بدعوة أو باحتفال فهذا كله بدعة، ولسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رسالة مستقلة في ذلك، لكن أحببنا أن ننبه عليها لاقتضاء المقام ذلك.

نصيحة لكل مسلم

نصيحة لكل مسلم Q نطمع منكم أن توجهوا النصيحة إلى منسوبي بترومين، راجياً من الله أن يوفقكم وإياهم لما يحب ويرضى؟ A ليس هناك من نصيحة تخص إخواننا في هذه الشركة، إلا ما ننصح به أنفسنا وننصح به إخواننا المسلمين دائماً، وهو وصية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للأولين والآخرين حيث قال جل شأنه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فتقوى الله هي خير وصية نوصي بها أنفسنا ونوصي بها إخواننا في بترومين وفي خارجها. وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى وأن يختم بالصالحات أعمالنا، وأن يوفقنا لأن نكون هداة مهتدين، ودعاة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ما يحب ويرضى، إنه سميع مجيب.

لقاء مع طلبة الجامعة

لقاء مع طلبة الجامعة تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن بعض الآداب والأخلاق التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم، فذكر أهمية الإخلاص فيه، ثم بين وجوب الحرص على الوقت وتنظيمه واستغلاله أثناء الطلب. مركزاً على أهمية الأخوة والمحبة بين طلاب العلم, ثم أجاب عن بعض الأسئلة المتعلقة بطلب العلم, ومنهج السلف في العقائد, مختتماً الحديث بالكلام عن بعض المذاهب الفكرية المعاصرة.

نصائح في طلب العلم

نصائح في طلب العلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأل الله تبارك وتعالى بفضله وكرمه أن يكتب لنا جميعاً أجر هذا الدرس، وأن يجعلنا من المقبولين، وأن يثيبنا، وأن يرزقنا حسن الاستماع والقول، وأن ينفعنا بما نقول ونسمع؛ إنه سميع مجيب. أحب بين يدي هذا اللقاء بكم والسماع إلى بعض استفساراتكم أن أتقدم أولاًَ بكلمة أرجو الله أن ينفعنا جميعاً بها. نحن ننتمي -ولله الحمد والشكر- إلى طلب العلم، ولم يجمعنا إلا رباط العلم، وهو علم قائم على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه نعمة عظيمة أن يُهيئ الله تبارك وتعالى لنا أن نطلب العلم في البلد الأمين، وأن يُكثر لنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما ترون من الوسائل والتسهيلات التي تمت بفضل منه عز وجل، ثم بجهود الإخوة القائمين على هذه الأنشطة والوسائل، وهذا يستوجب منا شكر الله تبارك وتعالى، ويستتبع واجبات يجب أن نعلم أنها مُلقاة على أعناقنا.

الأمانة الملقاة على طالب العلم

الأمانة الملقاة على طالب العلم إن كثيراً من الناس يريد أن يطلب العلم في هذه البلاد وفي بلاد أخرى، ويتمنى ويحرص على أن يأتي إلى هذا البلد الأمين, ويطلب العلم ويتلقاه من هذه المنابع النقية الصافية، ولكن لا يتاح له ذلك، وهذا يوجب على من أنعم الله عليه بهذه النعمة أن يُعطيها حقها من الشكر، والإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في طلب العلم, ومن الدعوة إلى الله عز وجل ونشر هذا العلم، وتحقيق ثمرته، ومن التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، في سبيل نشر هذا الدين؛ الصبر على طلب العلم، والصبر في سبيل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وإن مما ينبغي لطالب العلم أن يعلمه: أمر الأمة الإسلامية وحالها لا يخفى على أحد منكم، وأنتم خلاصة مختارة، وصفوة منتقاة من هذه الأمة، والآمال بعد الله تبارك وتعالى معلقة عليكم, سواءٌ كان الواحد منكم من المملكة أومن خارجها، فلا بد أن وراءه من ينتظره؛ المدرس تنتظره مدرسته، وتنتظره مدينته، أو بلدته، أو قبيلته، وأي عمل من الأعمال فالآمال تعلق على شباب جاءوا لطلب العلم, ويريدون وجه الله تبارك وتعالى, ويراد منهم أن ينفعوا هذه الأمة التي تعاني -كما ترون جميعاً- من نقصٍ في المتخصصين في العلم الشرعي الداعين إلى الله تبارك وتعالى على بصيرة وبينة. إنّ أمتكم -ولله الحمد- في إقبال وهذه بشرى، ونحمد الله الذي منَّ بهذه الرجعة والأوبة والتوبة إلى الله، فالأمة الإسلامية في حالة غليان، وفي حالة توبة وأوبة وعودة إلى الله عز وجل، ولكن من الذي يرسم لها معالم الطريق؟! ومن الذي يأخذ بيدها إلى النهج القويم؟! ومن الذي يرشد هذه المسيرة والأوبة والتوبة؟! إن الأمانة -بلا شك- مُلقاة على طلبة العلم من أمثالكم، وهذه الأمانة لا يقوم بها إلا من بدأ يعد العدة للقيام بها، ويجب أن نعلم أن هذا الإعداد مُتنوِّع وثقيل, ولكن لا بد منه, وإلا فليتهم الإنسان نفسه.

الإخلاص في طلب العلم

الإخلاص في طلب العلم نحن نخشى على أنفسنا -جميعاً- من النفاق, ولا نستنكف ذلك؛ فإن أحد التابعين وهو ابن أبي مليكة رضي الله عنه يقول: [[أدركت ثلاثين -وفي رواية ثمانين- من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم كان يخشى على نفسه النفاق]] عافنا الله وإياكم من النفاق! فطلب العلم إذا كان خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى, وصاحبه يريد أن يدعو إلى الله، وأن يحقق ثمرة هذا العلم؛ فإن علامة ذلك وآيته: أنه يعد العدة من الآن لهذا العمل الجليل، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا بحال المنافقين حينما أخذوا يعتذرون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحلفون في غزوة تبوك، فقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46]. فبيَّن الله تعالى كذب المعتذرين الذين تخلفوا وخُذلوا عن القيام بأمر الله -عز وجل- مهما حلفوا من الأيمان، ومهما ظهر عليهم أو أظهروا من علامات البراءة والصدق, فأبطل الله -تبارك وتعالى- دعواهم هذه بحقيقة مهمة جلية، وهي: أن الذي يريد الحق وسعى إليه ثم حال دونه عذر، فإنه يعد العدة، ولكن يمنعه العذر. أما هؤلاء فإنهم لم يعدوا العدة لذلك {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة:46]، أي: لو كانوا حقاً يريدون الخروج لأعدوا له العدة، ولكنهم كانوا متخاذلين متكاسلين إلى أن انتهت الغزوة وعاد الجيش, فأخذوا يقسمون الأيمان ويحلفون أنهم صادقون، وأنهم يريدون الخروج. فالإخلاص في طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أول ما يجب على طالب العلم؛ وكما تعملون أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة -كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنهم: العالم المرائي أو القارئ المرائي طالب العلم الذي تعلم رياءً أو طلب العلم من أجل الدنيا. وقد عقد الشيخ الداعية المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في " كتاب التوحيد " باباً بعنوان (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا)، وذكر فيه قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16] أي: ليسوا من أهل التوحيد أهل المعاصي, لأن المؤمنين الموحدين من أهل المعاصي ما داموا على التوحيد والإيمان، فإن لهم في الآخرة الجنة وإن دخلوا النار، لكن الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار هم الذين تمحَّضت قلوبهم ونياتهم وتجردت عن الإخلاص، وتمحَّضت لغير الله تبارك وتعالى, وذكر بعد ذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد القطيفة} إلى آخر الحديث، وفيه الزجر والوعيد لمن يسعى ويعمل ويكدح من أجل الدنيا ومن أجل طلب هذا المتاع الفاني. فأوصي نفسي وإخواني بالإخلاص في طلب العلم لوجه الله تبارك وتعالى، وبتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي هي وصية الله للأولين والآخرين.

الحرص على الوقت

الحرص على الوقت وإن مما يجب أن أوصي نفسي وإخواني به: أن نَجِدَّ في طلب العلم، وأن نحفظ أوقاتنا, فما أكثر ما تضيع الأوقات للأسف الشديد!! يجب علينا أن نضيِّق الأسباب المضيعة لأوقاتنا، سواءٌ منها ما كان متعلقاً بالنظام، أو ما كان منها متعلقاً بالسكن وبظروف الحياة؛ فإن هذه ولا شك تقتطع من وقت الإنسان جزءاً غير هين. لكن يجب أن نغالب هذه الأسباب, ونبذل جهدنا لكي تكون أوقاتنا معمورة دائماً بالخير والنفع، وبما يقربنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تكون مجالسنا في السكن وفي الجامعة مجالس خير وذكر ومساءلة وطلب علم وحرص ومحبة لبعضنا بعضاً، وأن نستفيد من هذه الفرصة المتاحة لنا، وهو أننا طُلاَّب وما نزال في مرحلة الطلب, وكلنا إخوة ولا يعاب على أحدٍ أن يسأل مهما بلغت منزلته من العلم، أو أن يقول: الله أعلم؛ فهذا من أصول السلف الصالح ومن آدابهم، لكن مع ذلك طالب العلم وهو ما يزال في مرحلة الطلب هو الذي لا يجد غضاضة في أن يسأل وأن يناقش وأن يبحث، فهذه فرصة مهيأة. والإنسان إذا تصدَّر للحياة فيما بعد التخرج سيجد نفسه تجد أن السؤال ثقيل، وقول: الله أعلم تجده ثقيلاً، وهذا من أمراض النفوس التي يجب أن تُحارب، لكن ينبغي لنا ألا نتيح الفرصة لهذه النفس ولهذا الشيطان الماكر؛ فالشيطان يمتلك الكثير من الوسائل لأن يوسوس وأن يخدع ويغرر بهذه النفس، فينبغي أن تكون أوقاتنا دائماً كذلك، وأن يسأل بعضنا بعضاً، وأن نسأل أساتذتنا الكرام ومن نثق بعلمه لنستفيد جميعاً.

المحبة والأخوة أهمية الأخوة لطالب العلم

المحبة والأخوة أهمية الأخوة لطالب العلم وهناك أمر أرى أنه لا بد أن أنبه إليه, وهو: أن تكون علاقة بعضنا ببعض علاقة الأخوة والمحبة والنصيحة, فالأمر المؤلم والمؤسف أن يوجد -أحياناً- إخوة في كلية واحدة، وفي سكن واحد ولا يتعارفون, وأشد ألماً أن يكونوا غير متحابين وغير متوادين, فهذا أمر لا ينبغي، فنحن يجب أن نكون إخوة في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يحب بعضنا بعضاً، وأن نتناصح، فالأخ المقصر نعامله بالرحمة والشفقة، وكل منا يتودد إليه وينصحه ويتحبب إليه، وكُلٌّ بأسلوبه الخاص، ولعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينقذه مما هو فيه. ولنعلم -جميعاً- أن الأمر هو كما قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، فنشفق ونرفق بالأخ الذي فيه تقصير دون أن نجامله ونداهنه ونقره ونرضاه على معصيته, لا! أخ يتخلف -مثلاً- عن صلاة الفجر، أو عن بعض الصلوات!! لا نقره على ذلك, ولكن نخاطبه بالمحبة وبالمودة، وكذلك أخ فيه معصية أو منكر يجب علينا أن نتعاون -جميعاً- قبل أن يصل الأمر إلى الجهات المسئولة في الجامعة أو في غيرها نحاول أن نتدارك هذا الأخ، ولا نعين الشيطان على أخينا، وإذا نصحناه وبذلنا الجهد، ثم بعد ذلك حصل له ما حصل، فإننا لا نلوم أنفسنا, ولكن أرأيتم إذا وقع إنسان في أوحال المعاصي, أو قبض عليه, ونحن لم نعذر إلى الله بالنصيحة, كيف يكون شعورنا بالألم؟! لا شك أن كلاً منا يقول: يا ليتني نصحته! وربما لو نصحته لانتصح! وكذلك ما قد يوجد من بعض الأفكار أو الآراء أو بعض البدع التي قد توجد سواء بيننا أو خارجنا, فنحن لا نستغرب أن يوجد أمثال هذه لأننا أمة أصيبت بعلل وبأمراض, ولكن نحن الأساتذة والأطباء الذين نعامل الناس بالرفق، ونحن أحرص ما نكون أن نستأصل هذه الأمراض بالأسلوب الطيب، وهذا واجبنا جميعاً. فيرفق بعضنا ببعض, وينصح بعضنا بعضاً، ويُحب بعضنا بعضاً، وأرجو ألَّا يكون للشيطان بيننا مجال بتشهير أو ببغضاء أو شحناء، فإن هذا أفضل ما يتمناه عدو الله. ولا ينبغي أن نعطي له الفرصة لينزغ فيما بيننا. وتأكدوا وثقوا أن كل عملٍ خالصٍ لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فإنه لن يجد الإنسان نفسه به إلا في محبة لإخوانه, ولن يجدها على أهل الشر والبدع والفسق إلا مشفقةً عليهم راحمةً لهم حريصةً على هدايتهم. وفي رسول الله صلى الله عليه سلم أسوة حسنة كيف كان صلى الله عليه سلم؟ كيف قابله المشركون بصنوف الأذى والتهم؟ ولكن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يقابلهم بالصبر الجميل, بالهجر الجميل, ويقابلهم بالإعراض، وإن أعرض كان إعراضاً لا قطيعة معه، ولكنه ترفع عن سفاهتهم وعن إيذائهم. فهذا ما أحببت أن أنصح به نفسي وإخواني، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول, وأن نكون طلبة علم مخلصين لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, داعين إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة, والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله

الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله Q أغلب النصوص القرآنية التي تتحدث عن الإيمان باليوم الآخر، تربطه بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فما الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله؟ ولماذا لم يذكر أي ركن آخر من أركان الإيمان مع الإيمان باليوم الآخر؟ A قد ورد في غيرما آية من الكتاب ذِكَر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله عز وجل، ولكن أيضاً قد وردت أركان الإيمان الأخرى مع الإيمان بالله كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل. فليس الأمر على إطلاقه، وأما الحكمة فنحن نتلمس ونحاول, ولكن قد لا يكون ما نقول هو عين الحكمة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل القرآن، وفيه من الحكم والعبر والعظات ما لا يطيقه كل أحد وما لا يستطيع أن يستوعبه أو يفهمه كل أحد، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي منَّ علينا بهذا القرآن، وأنزله شفاء ورحمة وهدى، وأمرنا أن نتدبره ونتفكر في آياته الكونية والمحسوسة، وأيضاً آياته المنزلة وهو كلامه الحكيم. ذكر الإيمان باليوم الآخر مقروناً بالإيمان بالله, لأن الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر لا يكون مؤمناً بالله -تبارك وتعالى, والإنسان إذا لم يؤمن باليوم الآخر, فلا معنى لكونه يكون مؤمناً بالله في هذه الحياة الدنيا؛ لأن العمل في الحياة الدنيا يرتبط أساساً بالإيمان بالآخرة. وأيضاً لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غيب، وكذلك اليوم الآخر من أمور الغيب؛ فذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الغيب, وإنما أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفاته، وعرَّفنا بنفسه عز وجل، وكذلك عرَّفنا باليوم الآخر وبأحواله. وأيضاً لأن أول علامة للمؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وهذه أول ميزة وعلامة, ثم تتفرع عنها بعد ذلك كل أمور وشعب الإيمان؛ والذي لا يؤمن بالآخرة لا يمكن أن يعيش الحياة الإيمانية، وإن قال: أنا أومن بالله؛ فإن ذلك لن يكون إلا فكرة في عقله أو خاطرة في فؤاده، ولا يكون حقيقة واقعة في حياته. ومن هنا نعلم أهمية الإيمان بذلك اليوم, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُذكِّرنا بذلك -أيضاً- في هذه السورة العظيمة في السبع المثاني، والتي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي أعظم ما أنزله الله تبارك وتعالى في الكتب جميعها, وهي سورة الفاتحة, وفيها عرفنا الله تبارك وتعالى بنفسه، وبأنواع التوحيد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد الربوبية. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد الأسماء والصفات. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيها الإيمان باليوم الآخر. ثم بعد ذلك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد الألوهية، الذي هو أول واجب على العباد، والذي بعث الله تبارك وتعالى به الرسل، وأنزل به الكتب. فيأتي الإيمان باليوم الآخر بين ثنايا أنواع التوحيد، وبأنه تعالى مالك يوم الدين، لأن من لم يؤمن باليوم الآخر وبأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو مالك ذلك اليوم العظيم، فإنه لا ينفعه إقراره بربوبية الله أو بأسمائه، أو بأن الله وحده هو المعبود، وبالتالي فلا يرجو ثواب الله وما عند الله في اليوم الآخر. ولهذا قال السلف الصالح رحمهم الله تعالى تلك العبارات العظيمة: [[من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق -الذين يقولون: إننا نعبده لذاته ولا نرجو الآخرة، ولا نطمع في الجنة، ولا نخاف من النار فهؤلاء زنادقة- ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: خارجي- ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن]] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين!

الإمامة في الدين

الإمامة في الدين Q كيف تنال الإمامة في الدين؟ A قد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم بما تنال الإمامة فيما أخبرنا به عن بني إسرائيل، حين قال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فهذان شرطان أو ركنان عظيمان لتحقيق الإمامة في الدين. والإمامة في الدين لا تكون إلا بهما: الصبر واليقين، فالصبر يشمل الأنواع التالية: الأول: الصبر على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ الصبر في طلب العلم، الصبر على أداء ما افترضه الله وما أوجبه. والثاني: الصبر عما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالصبر على غض البصر عن غير المحارم، الصبر على كف اللسان عن الغيبة والنميمة، الصبر على كف القلب عن الغل للمؤمنين وعن الحسد وما أشبه ذلك. والثالث: الصبر على أقدار الله الكونية؛ فإن هذه الدنيا مليئة بالمصائب والمتاعب، فلا بد من الصبر عليها. أما اليقين، فإنه يشمل العلم، إذ لا يقين لمن لا علم لديه، فهو يشمل العلم ويشمل حسن الظن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يقين لمن ليس له ظَنٌ حسنٌ برب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وصدقٌ ويقين بوعد الله الصادق له, واليقين هو عمل قلبي يكون تحقيقاً للدرجة أو للمرتبة العليا من مراتب الدين، وهي مرتبة الإحسان؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فهذه عبادة الموقنين جعلنا الله وإياكم من الصابرين والموقنين، ورزقنا الإمامة في الدين! فعندما نعرف أن هذه الدعوة لا تكون إلا لمن حقق هذه الشروط العظيمة، وما يتبع ويدخل ضمن كل شرط منها من فروع بالغة الأهمية؛ فإن ذلك يوجب علينا أن نجتهد وأن نكدح وأن نسعى، وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحقق لنا ذلك، وما ذلك عليه بعزيز.

ترك الطاعات خوفا من الرياء والعجب

ترك الطاعات خوفاً من الرياء والعجب Q أحد الإخوة يقول: عندما آتي لأنصح أحد الإخوة يأتي الشيطان ليلقي في نفسي العُجب؛ فعند ذلك أترك النصيحة؟ A العُجب داءٌُ خبيث، والشيطان لا يبالي بأي وادٍ هلك الإنسان؛ فإن أهلكه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحسن, وهذا ما يريد, وإن غلبه الشاب التقي، وقال: لا يمكن أن يخدعني الشيطان، لابد أن أدعو إلى الله وأن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، كيف والدين النصيحة؟! كيف والله تعالى أمرنا {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]؟! إذًا أنا لا أطيع الشيطان في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله. ولكن إذا أخذ يدعو إلى الله أتاه الشيطان بأمراض القلب؛ أتاه بالعجب والغرور والرياء, وليس ذلك حرصاً منه على علاج قلبك من هذه الأمراض, ولكن ليقول لك: إن دعوت إلى الله فإنك ستعجب بهذا العمل، ويدفعك ذلك إلى الرياء، فخير لك أن تسكت وألاَّ تدعو, فهو يأتي من باب الناصح المشفق المحب، ومتى كان عدو الله ناصحاً مشفقاً؟! ألم يقاسم أبوينا في الجنة إنه لهما لمن الناصحين، وإنه مشفق، وإنه يريد لهما النعيم والملك الذي لا يبلى، وأن يكونا ملكين وغيرها من الوعود والغرور الكاذب؟! ولهذا نقاومه من الجهتين:- - من جهة أننا لا نترك الدعوة إلى الله، ولا طلب العلم، ولا عبادة ربنا عز وجل من أجله. - ومن جهة أننا إن جاءنا فقال: اتركوا هذه الطاعات خشية الرياء, فإننا لا نطيعه. لكن مع ذلك لابد أن نحذر من العجب والرياء, ونحذر من كل ما يحبط أعمالنا، لأن هذه المحبطات تجعل أعمالنا هباءً منثوراً, وما قيمة العمل والجهد إذا كان هباءً منثوراً؟! وما قيمته إذا كان لغير لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! فنحن نقاوم ونحارب العجب والغرور والرياء، ونعمل, ولكن لا نثق في أن هذا العدو ينصحنا ويحذرنا من العجب, فتكون نتيجة ذلك أننا لا ندعو إلى الله ولا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر.

كيفية تصحيح النية في طلب العلم

كيفية تصحيح النية في طلب العلم Q إن الإنسان عندما يبدأ بطلب العلم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالصاً يلاحظ دخول الرياء بين فترة وأخرى على نفسه، وأيضاً يجد أنه يريد شيئاً غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من طلب الشهادة والوظيفة والمكانة؛ فكيف يصل إلى تصحيح النية في طلب العلم الشرعي؟ A الذي جاء وبدأ في طلب العلم أو في أي عملٍ من أعمال الطاعة، وهو لا ينوي بذلك وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن عليه أن يتوب وأن يستغفر الله وأن يصحح نيته ويحولها لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وأما الذي وُفِّق من أول الأمر لأن تكون نيته لله, ولكن يسأل: كيف يثبت تلك النية ويجردها لله؟ فليعلم أن حالنا مع أنفسنا كحالة جهاد عدو لا يفتر؛ عدوٌ أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومكَّنه من قلوبنا يجري منا مجرى الدم, ونفسٌ أمارة بالسوء تحب أن تخلد إلى الأرض, وشهوات ومغريات من كل جانب, ودعاة على أبواب جهنم يريدون إلقاء الناس فيها. فلا يكفي أنني أبتدئ بالعمل وأنا مجرد للنية خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن هؤلاء الأعداء لا يتركونني أبداً، أنا في طريق قُطّاعه كثير، وعقباته كثيرة, ومفاوزه مهلكة موحشة، ولا سبيل إلى الاهتداء إلى هذا الطريق إلا بالحذر واليقظة؛ بأن يكون القلب يقظاً في كل حين ألَّا يخرج ولا يحيد عن الإخلاص, وعن طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعن طلب الحق والدعوة إليه كما أمر الله وكما شرع؛ فلا بد من الجهاد. والنفس قد تغلب تارة, والشيطان قد يغلب تارةً أخرى, ولكن نحن نغلبه -بإذن الله- بالاستغفار وبالتوبة وبتصحيح النية وبتجديدها، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب}. فلا بد من تجديد الإيمان, ونعلم أنه إذا كان يبلى ويضمحل إلى أن يتلاشى، فلا بد أن نجدده في كل وقت، ولهذا من نظر إلى عبادتنا, وجد أن الله تبارك وتعالى شرع هذه الصلوات الخمس، لنجدد إيماننا في كل يوم وفي كل حين؛ كل يوم خمس صلوات، وشرع الله لنا حلقات الذكر, ومجالس العلم وقراءة القرآن, والتفكر في الآخرة, وما أشبه ذلك؛ كل ذلك ليتجدد الإيمان في قلوبنا. وإلا فقد كان يكفي أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولوا: "لا إله إلا الله" وقد قالوها بصدق وحق وإخلاص ثم ينطلقوا، ولا شيء عليهم بعد ذلك!! لكن كم عانوا! وكم عانى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعب في تربيتهم حتى استكملوا الإيمان، ووصلوا إلى الدرجة العليا التي أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بها! ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يلحقنا بهم, إنه سميع مجيب.

الرد على من نسب التأويل والتعطيل للسلف

الرد على من نسب التأويل والتعطيل للسلف Q أحد الإخوة يسأل عن تفسير قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، وذكر بأن ابن كثير قال: 'عن ابن مسعود وابن عباس والشك من ابن جرير {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] قال: عن أمر عظيم، كقول الشاعر: أصبر عناق إنه شر باق قد سن قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق وقال صاحب التفسير: قال العوفي عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] يقول: حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة، وكشف الأمر عنه' فما رأيكم في هذا التأويل؟ وكيف نوفق بين ذلك وبين من ينفي وجود التأويل بالنسبة لآيات وأحاديث الأسماء والصفات عند السلف رضوان الله عليهم؟ A الحمد لله! هذا ليس بتأويل، ويجب أن نعلم جميعاً أن السلف الصالح رضوان الله عليهم ولا سيما أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أبداً أن يكون فيهم مبتدع، ولم يوجد في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبتدع ولا مؤول، ولا معطل، ولا خارجي، ولا مرجيء، ولا جهمي، ولا شيء من هذه البدع، والحمد لله رب العالمين، فهو جيل مطهر نقي من هذه البدع والضلالات، بل هم الذين حاربوها وأنكروها. ولكن هل كل واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم عن الخطأ؟ لا. وهل كل واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوى العلم كله؟ طبعاً لا. فقد يخفى على أحدهم شيء من العلم, وأيضاً قد يقع آحاد منهم في الخطأ. فهذه الآية صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معناها (يكشف الرحمن عن ساقه عز وجل) فهل هذا الحديث بلغ كل صحابي؟ لم يقل أحد من العلماء أنه لا بد لأي حديث أن يبلغ جميع الصحابة أبداً، فعندما قال هؤلاء الصحابة عن الكشف عن الساق: أنه الهول والكرب والشدة هل قالوا ذلك تأويلاً؟ الصحيح لا, وإنما قالوا ذلك استناداً إلى لغة العرب، فلغة العرب هي أحد المصادر التي نعرف بها التفسير، ولكن نستعمله إذا لم نجد من كتاب الله ما يفسره، ثم من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك أقوال الصحابة، ثم اللغة, وهم يجتهدون حسب اللغة؛ لأنهم أهل اللغة المتمكنون فيها، وفي لغة العرب لا يُسمى هذا تأويلاً, لأن الكناية يعلم من درس منكم ذلك في لغة العرب لا تقتضي نفي الحقيقة, وهم يمثلون في البلاغة بقول الخنساء في أخيها: رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا وإذا قلنا: إن فلاناً كثير الرماد, فهذه كناية عن الكرم, فبدلاً من أن أقول: فلان كريم، أقول: فلان كثير الرماد، فالعرب تمدح بعض الناس أنَّ كلبه لا يهر, أي من كثرة ضيوفه, وهذه كناية عن الكرم، لكن الكناية لا تقتضي نفي الحقيقة، فإن وصفي إياه بأنه كثير الرماد لا يقتضي ذلك أنه لا رماد عند بيته أو أنه ليس عنده كلب، أو أن كلبه لا يهر، فقد يكون فعلاً كثير الرماد -حقيقة- بأن يكون هذا الرماد موجوداً عند البيت، وأيضاً قد يكون كلبه لا ينبح لأنه كريم, لكن أنا لم أقصد هذا المعنى الذي يتبادر من ظاهر اللفظ، وإنما قصدت لازمه الذي كنيته عنه أنه كريم، وكذلك لا يلزم من أن يكون الكشف عن الساق كناية عن الشدة وعما في ذلك اليوم من مواقف رهيبة، لا يلزم من ذلك نفي الصفة وأن نقول: ليس لله تعالى ساق. نلخص ونقرب ذلك ونقول: هل قال ابن مسعود أو ابن عباس: (إنه ليس لله تعالى ساق أو ليس لله يد)؟ لم يقولوا ذلك كمثل المعطلة والمؤولة الذين قالوا: 'ليس له ساق' فهذا فرق عظيم بين القولين، بين من نظر أن الأمر كناية أو لم يبلغه الحديث، وبين من نفى نفياًَ مطلقاًَ هذه الصفة التي صح بها الحديث. وليس في الصحابة ولا في السلف مؤول؛ ولهذا نقول: ليس من مذهب السلف التأويل, وكل ما يقال: إن فيه تأويلاً، فإن هذا إنما أتي القائل به من سوء فهمه للغة العرب ومن سوء فهمه لعقيدة السلف، ومن بدعته إن كان من أهل البدع، أو بالخطأ في ذلك إن كان من أهل السنة , ونعيد هذه القاعدة ونقررها لا نقول: إن كل واحد من أهل السنة معصوم، ولا أن كل أحد من الصحابة معصوم عن الخطأ حتى في العقيدة, لكن العبرة بأنهم إذا أجمعوا فإنهم لا يجمعون على ضلالة ولله الحمد, وكل من أخطأ فإنه يرد إلى الأصل وإلى المنهج القويم، وهو كتاب الله، وسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أجمع عليه السلف الصالح.

كيفية قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وفهمها

كيفية قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وفهمها Q كثير من الإخوة يسألون عن كيفية الوصول إلى فهم كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وما هي الكتب التي تعين على ذلك؟ وكيف يمكن التعرف على عقيدة أهل السنة والجماعة؟ A بالنسبة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية (ولا نقول ذلك تعصباً، ولا نقوله مجرد عاطفة، ولكن نقول ذلك حقاً وصدقاً) نقول: إن هذا الرجل نابغ وفذ, ولو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية كان لدى أية أمة من الأمم, بل أنا أحدد وأقول: لو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ظهر في أوروبا , وظهر منه فقط ما يتعلق بالفلسفة والمنطق، لألَّهه الغربيون ولعبدوه؛ لأنهم أمة جاهلية، ألهت " نيوتن ". يسمون " نيوتن " إله العلم. ويسمون " دارون " إله العلم. ويسمون " هيجل " إله العلم. هكذا يطلقون عليه عياذاً بالله! ولا إله إلا الله! ونحن أمة لا تؤله إلا الله، عندنا لا إله إلا الله حتى رسول الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عبد ولا نؤله أحداً غير الله. لكن نقول: هذه الأمة التي تعبد عظماءها ومفكريها، لو أن هذا الرجل كان منها لعاملته أشد من أولئك، لأنه سبق هؤلاء جميعاً في مسألة نقد الفلسفة والمنطق اليونانيين اللذين لم تقفز أوروبا وتنهض من كبوتها وتدخل في عصر النهضة إلا عندما تخلصت من الفكر اليوناني، ومن المنطق الصوري الذي فرضه أرسطو ومنهجه، ومن الفكر الفلسفي الذي فرض على أوروبا تقليدها وتبعيتها للفكر الإغريقي ولليونان وللجاهلية القديمة. فيجب على كل طالب علم أن يحرص على اقتناء الكتب، ويبذل جهده لفهمها، ومع أن العصر، والأسلوب، والموضوعات كلها تختلف، ولكن كل شيء يستعان عليه بالمران وبالمراس؛ فمن قرأ له مرة ثم مرة، فإنه سيجد أسلوبه سهلاً شيقاً. بل من يقرأ لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله, ثم يجد من ينقل عنه ولم يشر إلى هذا النقل، فتقرأ في ثنايا الكلام سطرين أو ثلاثة أسطر، فيقول لك قلبك: هذا من كلام شَيْخ الإِسْلامِ , وإن كان الرجل لم يذكر ذلك؛ لأن له أسلوباً متميزاً جداً في غاية القوة من الناحية اللغوية وبالمعاني العظيمة التي يتضمنها أسلوبه, ولا غرابة في ذلك؛ لأن الغذاء الذي تغذَّى به قلبه وفكره وعقله هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام السلف الصالح. فالفضل إذاً لذلك المنهج الذي أخرج ذلك الرجل وأمثاله، وسيخرج أمثاله بفضل الله تعالى الذي منَّ علينا بهذا المنهج الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضوان الله عليهم. وبهذه المناسبة أكرر وأقول: إن بعضاًَ من كتب شَيْخ الإِسْلامِ ومن آرائه العظيمة التي ألفها تكاد تكون شروحاً لعبارات الإمام أحمد رحمه الله، وتعلمون ما أعطاه الله من الفضل، المنزلة، الكرامة، الإمامة في الدين. فمن أراد الخير والحق والهدى، فليتعلق بهذا المنهج الكريم وبهؤلاء الرجال الأفاضل، وليأخذ من حيث أخذوا، وليتبع آثارهم وليقتد بهم، وسيكون -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فاهماً لكلامهم، وداعية إلى ما دعوا إليه، وعاملاً كما عملوا وكما جاهدوا. وأما الكتب التي تطلبون فهي معروفة لديكم, وأول كتاب أوصي به إخواني في الله هو كتاب الله عز وجل، كتاب الله: العقيدة، الأحكام, الإيمان، اليقين، الإخلاص، الإخبات الذي تحتاجه قلوبنا، الإنابة، التوكل، الرغبة عن الدنيا والرغبة في الآخرة، كل ذلك نحصل عليه وأضعافه إذا قرأنا كتاب الله عز وجل قراءة المتدبر المتفكر المتعقل، وقرأنا في تفسير السلف الصالح رضوان الله عليهم من التفاسير الموثوقة، وكذلك سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فقد حفظ لنا أئمة السنة رضي الله تعالى عنهم أبواباً عظيمة أو كتباً ضمن السنن؛ كتاب الإيمان -كتاب القدر- كتاب التوحيد, وكتاب الرد على الجهمية وغير ذلك من الكتب الموجودة في الصحيحين وغيرهما, هذه المصادر الأساسية وما تبعها من شروح ومن كتب ككتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم , وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله أجمعين, وكتب الشيخ حافظ حكمي رحمه الله, فهذه مما تعينكم بإذن الله على معرفة العقيدة الصحيحة التي كان عليها السلف الصالح، جعلنا الله وإياكم من أتباعها.

أخذ العلم والرواية عن أهل البدع

أخذ العلم والرواية عن أهل البدع Q حول كتاب أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى وما ذكر في كيفية معاملة أهل البدع, وقد يكون لبعضهم من لديه شيء من العلم، هل يؤخذ عنه العلم الشرعي؟ A بالنسبة للكتاب، هو كما ذكر صاحبه أنه جمعه من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية , وهو يحتوي على فوائد طيبة، منها هذا الجمع، ومنها ما ذكره فيما بعد من كلام حسن, وجدير بنا أن نقرأه. وأما بالنسبة للبدعة فقد يقع ذلك, والأمة -كما تعلمون- تتمحض للخير وتتمحض للشر, وبين ذلك أمور متفاوتة، والحال أنه وقع في هذه الأمة في العصور المتأخرة أن التمحض للخير قليل, فلا بد أن يؤخذ شيء من الحق إذا أريد أن يؤخذ الحق ومعه شيء من الباطل, ولكننا نرفض الباطل ونأخذ الحق وحده بحسب المستطاع, وهذا بعد أن نكون عرفنا أن هذا الرجل مبتدع فعلاً، أي أن هذا الكلام مما ثبت عنه. وهنا أنبه إلى قضية أخرى قد يتعلق بها بعض أهل البدع، وهي قضية الرواية عن أهل البدع، وهو أمر آخر غير تلقي العلم عنهم، لأن الرواية أساسها هو الضبط والثقة والصدق، ولهذا قد يُروى عن أهل البدع الذين لا يكذبون، وكذلك الذين ليسوا من الغلاة في بدعهم والذين ليس لما رووه أثر في بدعتهم، فقد يروى عن بعضهم لضبطه ولثقته, ونحن أهل السنة أمة الإنصاف, وإن لم ينصف أهل السنة فمن ينصف؟ أهل البدعة؟! وإن لم يعدل أهل السنة فمن يعدل؟ أهل البدعة! فنحن إن كان للإنسان فضل من علم أو ضبط وحفظ وإتقان أو زهد وعبادة وفيه بدع, فإننا مع تحذيرنا من بدعته وعلمنا بها لا ننكر فضله فيما له فيه فضل, هذا لا بد منه. أما من تمحَّض في الشر كـ غلاة الرافضة أو غلاة الخوارج الذين أنكروا بعض سور القرآن، أو كان من الباطنية وأشباهها، ممن ارتد عن الإسلام وتمحَّض للشر وللكفر، فإن هذا لا تقبل روايته، لا يروى عنه ولا يقبل علمه، ولا يُتلقى عنه العلم مطلقاًَ، هذا ما أستطيع أن أوجزه. والله أعلم.

منشأ الحداثة وغيرها من المذاهب الفكرية المعاصرة وكيفية علاجها

منشأ الحداثة وغيرها من المذاهب الفكرية المعاصرة وكيفية علاجها Q نسمع كثيراً عن الحداثة والحداثيين، فما المقصود بـ الحداثة؟ A الكلام عن الحداثة لا نستطيع أن نستوفيه، لكن نحن نضع الأصل الذي تعرفون به هذه الفكرة وغيرها من الأفكار، وهي أن هذه الفكرة لم تنبت ولم تخرج من بلاد الإسلام ولا من التراث أو الفكر أو العلم الشرعي الإسلامي أبداً، إنما هي فكرة غربية، وحسبنا أن نعلم أنها غربية, وأية فكرة وافدة، فالواجب علينا أن يكون موقفنا حيالها أياً كانت قبل أن نؤمن بها أو نعتقدها أو نعمل بها أن نشك ونتوقف فيها؛ لأن مصدرها هم هؤلاء الكفار الغربيون. وما وصل إلينا في مجتمعنا من الحداثة ما هو إلا الفقاقيع, لأن الأصول الفكرية أصلها في الغرب منذ قرن أو قرنين, وأصل هذه الفكرة أنها تستمد من النظرية الداروينية نظرية " دارون ", وتستمد من " الفرويدية " نظرية " فرويد " في حيوانية الإنسان, وتستمد من الماركسية , وتستمد أيضاًَ من المذاهب الأدبية الأوروبية التي عانى منها الغرب مثل المذهب الرومانسي كردة فعل له أو متأثرة به والمذهب الرمزي الذي ظهر في القرن التاسع عشر وهو مذهب أدبي رمزي -أيضاً- طوره البعض وطعنوا في تلك النظريات وأصبحوا يدعونه ويسمونه بهذا الاسم, والحقيقة أن هذا المصطلح هو مصطلح عام يشمل عدة مدارس وعدة اتجاهات هناك في الغرب ومعظمها في فرنسا بالذات، ويصعب حصرها حتى أن بينها من الشقاق ومن العداء ومن الاختلاف الشيء الكثير. هنالك الاتجاه الوجودي أو ما تطور عن الوجودية وهؤلاء لهم اتجاه, الماركسيون الشيوعيون هؤلاء لهم اتجاه, والشيوعيون أنفسهم لهم أكثر من اتجاه, وهناك أيضاً الاتجاه الكاثوليكي الذي ظل متمسكاً بالتراث، أي الاتجاه الشيوعي المتمسك بمبادئ لينين وماركس. وهناك الاتجاه الشيوعي المتطور، الذي كان من دعاته " رجاء جارودي " الذي ألف كتاب " ماركسية القرن العشرين " وقد اعتنق الإسلام بعد ذلك, أي أن هناك عدة اتجاهات فكرية، وذلك نتيجة مجتمع لا يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نتيجة مجتمع غلا في الجاهليات وأشبع بها من قرون. تصوروا أن هناك جماعة من هذه الجماعات في باريس واسمها جماعة الضفادع وجماعة الخنازير، وهذه جمعيات أدبية ويجتمعون ولهم فكر، ولهم شعر مختلف عن الآخرين، فضلاً عن البنيوية ومؤسسها رجل يهودي، وأيضاً من المؤسسين لمذهب الحداثة في الاتجاه الشيوعي رجل شيوعي معروف اسمه " رولانده " وآخر اسمه " لفيفر ", وكلهم دعاة للشيوعية، وهم مكشوفون ومعروفون في بلادهم. وقد جاءتنا إما لأن فينا سماعين لهم، وإما لأسباب كثيرة غيرها أدَّت إلى أن يتأثر بهذا الغزو الفكري شواذ من الشباب, وهذا يجب أن نحسب حسابه كأحد المؤثرات للاحتكاك الفكري مع الغرب؛ فالصراع الفكري مع الغرب أحد الأوجه للغزو الوافد إلينا, ووجه من الوجوه الكثيرة جداً. وبهذه المناسبة أذكر ما حذر منه وزير الثقافة الفرنسي منذ سنوات حيث وقف يحذر أمته وبلاده فرنسا من خطر السيطرة الفكرية الأمريكية يقول: 'إن الذوق الفرنسي أصبح أمريكياً والهدف الفرنسي أصبح أمريكياً والأفلام تأثرت بأفلام هوليود ' وهكذا رجل في باريس يحذر من هوليود!!! ولا فرق بينهما عند المؤمن. وإذا كانت هذه الأمم تحافظ على أصالتها كما تزعم، وترى أن أصالتها لا تكون إلا بأن تحمي نفسها من خطر الغزو الفكري القادم إليها من أمم غربية مثلها لا تختلف عنها من حيث المادية عدم الإيمان بالله إنكار الدين ومن حيث الإباحية والانحلال، فكل ذلك سواء هنا أو هناك, لكن يرون أن ثقافتهم لا بد أن تتميز، فما بالكم بالمسلم الذي يؤمن بالله، والذي يستمد إيمانه وعلمه وفكره وثقافته من كتاب الله ومن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلم الشرعي الصحيح؟! كيف تكون مقاومته؟! وكيف يكون تحذيره من هذه الآراء؟! فهي موجة من موجات الغزو الفكري الوافد, ولا بد أن تنحسر, وتأكدوا أنه لا بد أن تنحسر، لكن لا بد -مع ذلك- من التنبه لهذه الأخطار جميعاً. وإذا أردنا أن نعالجها, وأنا أقول هذا لأنني أمام إخوة -ولله الحمد- على مستوى العلاج, كيف نعالج هذه الظواهر السيئة؟ ابدءوا بالوقاية، انشروا العقيدة الصحيحة، والعلم الصحيح، والدعوة إلى الله, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، وأنتم بذلك تجعلونه في وقاية محصنة تامة عن أية فكرة وافدة, لكن إذا اشتغلنا بفكرة ما، قد يشغلنا بها أعداء الله لمدة عشرين أو ثلاثين سنة ثم يغيرونها، كما يغيرون من الإباحية إلى الشيوعية ومن الشيوعية مثلاً إلى الحداثة، وهكذا وقد يغيرون ويغيرون، ولا ننتهى أبداً من الجهل، لكن إذا نظرنا إلى الأصل الوقائي, فلا بد منه لنا لكي نكون مؤمنين ومسلمين حقاً، وهو أن نعبد الله على علم وبينة وبصيرة, وأن ندعو إلى الله على بصيرة وأن نوعي أمتنا, بحيث لا ترتكب معصية ولو صغيرة فضلاً عما ترتكب من الإلحاد، فإن هذا يعطيها وقاية عامة، ولولا الخواء الموجود لدى شباب العالم الإسلامي من العقيدة الصحيحة، ما تقبلوا أفكار الغرب وما رضوا بها، وهم يعلمون أن وراءها الأيدي الهدامة، وأن وراءها اليهود، وأن وراءها المستشرقين والمبشرين. إذاً محاربة هذا الخواء هو بتعبئة هذا الفراغ الروحي بالإيمان الصحيح بالله والعقيدة الصحيحة، هذا الذي به نقاوم جميع العلل وجميع الأدواء بإذن الله تبارك وتعالى، ومع ذلك فإن وجد فينا متخصصون في الرد على هذه الضلالات وكشف زيفها بالتفصيل، فهو أفضل.

مقتضيات ولوازم الأخوة

مقتضيات ولوازم الأخوة Q أحد الإخوة يسأل عن حد الأخوة، وما هي المقتضيات العامة لها؟ لأنها تستخدم كشعار عند كثير من الإخوة عندما يكون له رغبة ومراد في بعض الأمور التي يسعى لتحقيقها؟ A الأخوة المطلوبة هي الأخوة الإيمانية التي تقتضي أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وتقتضي أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وتقتضي أن ينصحه لأن الدين النصيحة، ومن ذلك النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وتقتضي حسن الخلق مع المؤمنين جميعا، ً والتعاون على البر والتقوى، وتقتضي عدم الشذوذ عن أهل الإيمان والخير والصلاح، الشذوذ إما ببدعة أو برأي أو بتخاذل عنهم، وهكذا مقتضيات واضحة جاءت في الكتاب والسنة. نعلم بها أن الأخوة الإيمانية هي تحقيق لموالاة المؤمنين، والبراءة من الكافرين ومن المعاصي والفجور وأصحابها. فكون بعض الناس قد يستغلها سُلَّماً أو ذريعة لغرض غير شرعي، نعم! قد يوجد، لكن ذلك لا يجعلنا نتخلى عنها، المؤمن الشاب التقي -جعلني الله وإياكم كذلك- الذي يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتخلق بأخلاق المتقين، بأخلاق أولياء الله وعباده الصالحين، ولا يبالي أن غيره يستغل ذلك الأمر. نعم! المؤمن فطن وحذر، ولكن ربما يكون في أخلاقك وتمسكك بالدين ما يردعه ويعلمه تعليماً عملياً أن يكون مثلك بإذن الله عز وجل، فالأصل في هذا أن تُقَابِل الإساءة بالإحسان، وأن تُقَابِل الجهل بالحلم، وأن تُقَابِل الاستغلال أو الانتهازية بالإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وما دمت تحتسب ذلك عند الله فلا تُبالِ بأهداف المخلوقين ومآربهم وبأغراضهم. لكن لو شعرت أو رأيت أن إنساناً ما؛ إما صاحب هوى أو بدعة أو معصية ليس غرضه إلا أن يصل إلى ما أراد، وأنت عرفت ذلك يقيناً, فإنه لا يصح أن تتخلى عن هذا الخلق مع غيره من الناس, لكن معه ينبغي لك أن تحذر منه وألاَّ تتيح له فرصة, ومع ذلك لا تكف عن الدعوة له، ولو بدعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له أن يهديه وأن يوفقه للحق, كيف ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو للمشركين أن يهديهم الله وأن يأتي بهم مؤمنين وأن يسلموا؟! فكيف بنا نحن مع المؤمنين؟! فيجب أن يكون خلقنا أرفع وأسمى من كل هذه المؤثرات، وفي نفس الوقت أن يكون منهجنا في الدعوة هو التعامل على السنة الصحيحة التي لا محاباة ولا مداهنة ولا مجاملة فيها في الحق، ولا تحريف للحق من أجل إرضاء أي إنسان كائناً من كان, لكن التعامل شيء آخر, فإن التعامل قد يتغير بسبب المواقف، أما التمسك بالمنهج فهو شيء آخر, التمسك بالحق مبدأ, والمبادئ ثابتة لا تتحول ولا تتغير.

الجمع بين قول الله: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وحديث (كل مولود يولد على الفطرة)

الجمع بين قول الله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) وحديث (كل مولود يولد على الفطرة) Q يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه}، فكيف نأخذ من ذلك كون الإنسان يولد على الفطرة مع أن الآية تبين أنه على الدين؟ A ليس بين الآية والحديث منافاة -ولله الحمد- بل صريح القرآن يدل على الحديث، وهو قول الله تبارك وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، فإن الله خلق النفوس على هذه الفطرة النقية التي هي الإسلام، وهي التوحيد، وهي هذه الملة القويمة، وكما أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى روايات الحديث: {كما تنتج البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء}، أي: البهيمة تلد بهيمة مستوية كاملة الخلقة, ليس فيها جدع ولا شعار ولا إشارة, وبعد ذلك يضع الناس هذه الرموز وهذه الإشارات وهذه العلامات للانتماء لشيء ما. أما الآية {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فهذا إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن حال الناس أن منهم المؤمنين وأن منهم الكافرين، وأنه خلقهم جميعاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وحكمته وقدره بالأزل اقتضى أن يكون منهم مؤمنون وكافرون, مع أن كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فيصبح الخلق على نوعين: كافر ومؤمن, مع أن كلاً منهما قد ولد على الفطرة, فلا منافاة إذن بين الآية والحديث، والله أعلم.

حكم الاستثناء في الإيمان

حكم الاستثناء في الإيمان Q ما حكم الاستثناء في الإيمان، وما هو قول أهل السنة في ذلك؟ A الاستثناء في الإيمان هو أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله, وخلاصة القول فيه بإيجاز: إن أراد الإنسان أن يبعد عن نفسه شبهة التزكية، كما قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] فيقول: "أنا مؤمن إن شاء الله", فإنه لا بأس بذلك، ويقصد بذلك كمال الإيمان، أي: أنه مؤمن الإيمان السلفي الذي هو أعلى من درجة الإسلام, الذين وصفهم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. فمن السلف من كان يتحرج عندما يقرأ هذه الآيات ويُسأل أمؤمن أنت؟ وقد سُئِلَ الحسن البصري رحمه الله عن ذلك فقال: 'إن كان من هؤلاء الذين وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] إلى آخر الآيات في وصفهم فلست منهم، وإنما أرى نفسي ممن قال الله عز وجل فيهم: ((وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102] '. فهذا من باب حط النفس واتهامها وعدم تزكيتها، وأما بالنظر إلى كمال الإيمان وتحقيقه فإنه جائز، وأما إن قالها على سبيل الشك عياذاً بالله، ويقصد بالإيمان الإسلام أنه مؤمن إن شاء الله - يعني أنه شاك في إسلامه- أي: أنا مسلم إن شاء الله، على سبيل الشك، فذلك لا يجوز. وهذا يجمع ما ورد عن السلف من الاستثناء وما ورد عنهم من النهي عنه, فمن نظر إلى كمال الإيمان وإلى التزكية استثنى، ومن لم يستثن فإنه نظر إلى أن المؤمن لا يشك في دينه، كما قال قائلهم: أشك في كل شيء إلا في إيماني، فأنا مسلم، ويقصد من ذلك أنه لا شك عندي بأن الله حق وأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فكيف أستثني وأقول: أنا مسلم إن شاء الله بنية الشك، وبهذا يجمع بين القولين ولا منافاة بينهما، ولله الحمد.

وحدة المسلمين تكون بالاجتماع على الكتاب والسنة

وحدة المسلمين تكون بالاجتماع على الكتاب والسنة Q ألا ترى بأن التركيز على منهج أهل السنة يعتبر معاداة للملل والفرق الأخرى، وبالتالي فإنه يؤدي إلى نبذ الوحدة بين المسلمين, واليوم نحن في حاجة إلى الوحدة وهدم الخلاف وترك التشكيك في بعضنا؟ A لا خيار لنا في أن ندعو إلى السنة، وهذا الأمر ليس من النوافل ولا من التطوعات, بل هو الواجب الذي يجب على طلاب العلم جميعاً وعلى الدعاة إلى الله وعلى كل مسلم أن يدعو إلى السنة وإلى منهج أهل السنة والجماعة، ليس لنا خيار في ذلك؛ لأن ما عدا السنة هو البدعة وهو الضلالة, أما أن ذلك يفرق فننظر يفرق بين من؟ إن كان يفرق بين أهل السنة، فإن هذا لا يتصور, لأن أهل السنة إنما يريدون السنة ويريدون الحق، فلا يمكن أن يفرق بينهم من يدعوهم إلى السنة، وليس عند أهل السنة شيء أفرح من أن يظهر فيهم أو يدعوهم أحد إلى السنة، ويبينها لهم ويعرف أنهم كانوا على خطأ، ثم ظهرت لهم السنة، أو كانوا على بدعة فبانت لهم السنة، هذا أحب شيء إلى نفوس أهل السنة، فلا تفريق بين أهل السنة الراغبين في الحق وفي الكتاب والسنة أبداً. وأما إن كان القصد أن يفرق بين الأمة، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبرنا في الحديث الذي يُروى عن كثير من الصحابة عن أبي هريرة، وأنس، ومعاوية {أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل من هم يا رسول الله ما أنا عليه وأصحابي} وهم أهل أهل السنة. إذاً الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أهل السنة، وكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتخلف {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:2 - 3]، لا بد أن يقع التفرق, فلو قال قائل: نريد أن نجمع هذه الثلاث والسبعين وندمجها لتكون سبعين؟ نقول: لا تستطيع أبداً؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: على ثلاثٍ وسبعين. فالتفرق حقيقة قائمة، أي لا يمكن لنا واقعاً أن نجعل الأمة الإسلامية كلها واحدة، كما أننا مأمورون أن ندعو أمم الأرض جميعاً إلى الإسلام، ولكن في الواقع هل نستطيع أن نقضي على اليهود والنصارى والمشركين مع أن ذلك واجب علينا ونحن نسعى إليه، ونحبه، ونبذل جهدنا فيه؟ هذا الواقع لا يكون إلا إذا أنزل الله عيسى عليه السلام، وخلت الأرض من الشرك نهائيا، ً هذا أمر آخر، لكن في واقعنا نحن الآن لا نستطيع ذلك, ومع ذلك ندعو إليه ونحبه. فكذلك السنة ندعو بأن تكون أمة الإسلام أمة واحدة, ونحرص على إزالة كل سبب يفرق ويباعد بينها, ونبذل جهدنا لئلا تتفرق, لكن الواقع أن الأمة ستظل متفرقة, فهل نقول: نضحي بالعقيدة الصحيحة وبالمنهج الصحيح من أجل أن تجتمع الأمة, وهي لن تجتمع أصلاً، هذا عكس ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فالتفرق واقع، والمأمور به أن نعتصم بحبل الله, وحبل الله هو: منهجه وطريقه وسبيله، وهو الكتاب والسنة، نعتصم بالكتاب والسنة ولا نتفرق. فندعو الأمة -جميعاً- أن تتحد على الكتاب والسنة، ومن الخطأ أن نقول: اللهم اجمع كلمة المسلمين فقط, بل نقول: اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، فما الفائدة على أن يجتمع المسلمون كلهم على أن يكونوا خوارج أو روافض أو صوفية -عياذاً بالله- فعند أهل الحق الاجتماع ليس مطلباً في ذاته, إنما الاجتماع على الحق هذا هو الصحيح. والواقع أنه لا يجمع المسلمين شيء غير الكتاب والسنة أبداً، لأنك لو دعوت الناس إلى مذهب فلان من الناس، فإنه سيقابلك آخر برأي آخر، فيرى أن مذهب فلان الآخر هو الأفضل، وبهذا لا يمكن أن نجتمع، لكن إذا قلت لهم: الكتاب والسنة فسيوافقني -ولله الحمد- كثير من الناس, فالذي يجمع الأمة الإسلامية الكتاب والسنة, وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة ومن شذ عنه فلن يشذ عن إمام أو طائفة أو شيخ طريقة أو فرقة أو أمير دعوة وإنما سيشذ عن الكتاب والسنة. فقد حكم على نفسه بالشذوذ, وأخرج نفسه من أهل الحق، وسوف يحاسب يوم القيامة على ذلك، لم يخرجه أحد بل هو أخرج نفسه, لكن أي شيء يجمع المسلمين غير ذلك؛ فإنه قد يخرج عنه من هو من أهل التقى والإيمان والحق، وقد يدخل في ذلك الاجتماع من هو من أهل الفجور والضلال والباطل، لأن المعيار وهو اتباع الكتاب والسنة، فلا أحد أحرص في هذه الأمة على المحبة بين المسلمين والألفة والاتفاق من أهل السنة والجماعة. لكن لا يكون ذلك بالتضحية بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموالاة في الله والمعاداة في الله, وذلك لا يكون أبداً, وإلا فسنكون أضعنا هذه الأهداف العظيمة, وعصينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وخالفنا أمره؛ لنحقق هدفاً نحن صنعناه، ولن يتحقق في الواقع أبداً.

ضابط الأصول والفروع في الدين

ضابط الأصول والفروع في الدين Q ما أصل ضابط كل من أصول الدين وفروعه؟ وكيف نعرف الأصول من الفروع؟ A بالنسبة للأصول والفروع عامة، لا نفترض فيها الضبط المنطقي الدقيق حسب الحدود المنطقية الدقيقة، لكن ما كان متعلقاً بأمور الاعتقاد -العقائد والإيمان- فهو من الأصول، وأما الأعمال والشرائع العملية فهي من الفروع، ثم بعد ذلك العقيدة نفسها فيها أصول ويتبعها فروع لنفس الأصول التي هي الاعتقادات. فمثلاً: الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو من الأصول، لكن -مثلاً- من الفروع مسألة الاستثناء في الإيمان، وأن ننظر إلى فلان والتطبيق الواقعي له. من الفروع أن ننظر إلى بعض الأمور التي اختلف فيها السلف في مسائل واقعية أو عملية تتفرع عن مسألة الإيمان أو القدر أو الصفات أو ما أشبه ذلك. فمثلاً: الأصل العام في الصفات أننا نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل، قد يكون من الفروع لها ما هو صفة من صفات الله عز وجل ورد بها حديث رأى بعض العلماء صحته ورأى بعض العلماء عدم صحته، هذه من الفروع، لكن -مثلاً- من يرى أن الحديث صحيح فيجب عليه ألَّا يؤول هذا الحديث, لأن ذلك يُعتبر نقضاً للأصل، أما الإنسان الذي يقول: "أنا الآن لم يثبت عندي" وهو عالم متبع للحق وللسنة, فهذا من الفروع. مثلاً: إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين هو أصل من الأصول، والمخالف فيه ضال مبتدع, لكن مسألة هل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه ليلة الإسراء أو لم يره، هذا من الفروع، وهكذا. الخلاف في مسائل الفروع فيها الراجح والمرجوح، فالأمر فيها دائر بين الخطأ والصواب، أما المخالفة في الأصول فهي دائرة بين السنة والبدعة، بين الهدى والضلال، ولذلك يجب علينا أن نعرف أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يضيع الأصول بحجة أن بعض الفروع فيها خلاف. مثال: بعض السلف لم يثبت صفة الساق فهل نهدم أصلاً كبيراً وهو توحيد الأسماء والصفات وما يبنى ويترتب عليه لهذا السبب؟! لا. لو أن الخلاف في الأصل نفسه، لكان المخالف مبتدعاً لا يُعتد بخلافه أصلاً، أما إن كان من الصحابة أو من أهل السنة في مسألة من فروع العقيدة فإنه يحتمل النظر والاجتهاد، فإن هذا يجعل المسألة تدور بين الصحة والخطأ -كما قلنا- ولا يتعدى ذلك إلى إبطال الأصل، في أي حال من الأحوال، ومن فعل ذلك فهو إما جاهل وإما ملبس يريد أن يلبس على المسلمين ويفسد عليهم عقيدتهم متعللاً بما قد يتعلق بهذه الأمور، ويقول: إنها كلها أصول.

إثبات أن الأراضي السبع هي غير السموات السبع

إثبات أن الأراضي السبع هي غير السموات السبع Q هل كل سماء هي أرض بالنسبة لما فوقها؟ A القول بأن كل سماء هي أرض لما فوقها هو قول خاطئ ليس بصحيح, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] السماء الدنيا هي سماء من الناحية الاعتبارية المجردة. لكن لا تسمى أرضاً بالنسبة لما فوقها من سماء، فما كان من السماء الدنيا جهة الأرض فهو سماء، وما كان منها جهة السماء لا يُسمى أرضاً. والأنبياء الذين قابلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء والمعراج في السماء الأولى، ثم في الثانية، ثم في الثالثة، وجبريل يستفتح له ويفتح له الباب، ولم يقل أحد: إنه قابلهم في الأرض -أي: في الأرض التي بالنسبة للسماء- فلا يصح هذا, هؤلاء في السماء وهم مرفوعون عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا هو الملأ الأعلى. وإنما قصد بعض الناس التخلص من مسألة كيف نقول: إنها سبع أراض, بينما ليس هناك إلا الأرض هذه وهي واحدة, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يقل: إن الأرض سبع أراض, وإنما قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] , هذا شيء. الشيء الثاني: أن الحديث يدل على ذلك وهو: {من ظلم شبراً من الأرض طوقه من سبع أرضين} لأنها كلها تحت بعضها، حتى استدل بها العلماء -كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح - على أنه من ملك شيئاً فإنه مباشرة ملك باطنه وأرضه، لأنه إذا أنت ملكت قطعة من الأرض، فلك أن تحفر بئراً إلى الأعماق, فأنت تملك ذلك، فالمسألة إذاً هي كونها من السبع الطبقات، هي السبع، التي يقول علماء الجيولوجيا أو سبع أو خمس ولا يهمنا هذا وهي قضايا نظرية، لكن يهمنا أن الله جعل من الأرض مثلها -أي: سبعاً- كما ورد في الحديث، وكما دلَّ عليه ظاهر القرآن، ويكفينا أن نقف عند هذا.

العرش وإحاطته بالكون

العرش وإحاطته بالكون Q قرأت أن العرش كمثل القبة على السماوات والأرض. فكيف ذلك؟ A بالنسبة للأرض فهي من جميع الجهات محاطة بالسماء وهذا معروف، لكن لعله حديث: وما نسبة السماوات السبع جميعاً إلى الكرسي، وما نسبة الكرسي إلى العرش، والعرش شكله كالقبة، كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشبَّك بين يديه هكذا، نحن الآن أصبحنا نتكلم في خيال، فنحن عندما نُفكر في الكيفية نفسها، فإن الكيفية خيال محض، لا نستطيع أن نتصورها على الإطلاق، العقل يتقاصر عن الكيفية, لكن من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا أن الله أوحى إلينا أننا نعرف ذلك على سبيل التقريب, نعرفه نظرياً، لكن كيفيته؟ لا نستطيع أن نعرف ذلك، والقائل بهذا القول ينبغي أن يُبين له إن شاء الله، ولا يدخل في ضمن الابتداع إن شاء الله. والسماوات مثل سبعة دراهم ملقاة على ترس بالنسبة إلى الكرسي -أي: أعظم منها وأكبر وسعاً- ولا يشترط أن يكون وسعها بأنه يتضمنها ويحويها، ولكن يكفي أن يعلم أنه أعظم منها، وهذا يكفي، وسعه أعظم منها بكثير، كما تقول العرب: وسع حلم فلان جهله، بمعنى أنه اتسع عنه فاستوعبه، وليس هو شرط الإحاطة الحسية. وفي الرسالة العرشية لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية المجلد السادس من الفتاوى، ذكر فيها مسألة العرش والأفلاك وشكل الكون، والله أعلم.

حكم تحديد أسماء الثلاثة والسبعين فرقة

حكم تحديد أسماء الثلاثة والسبعين فرقة Q هل الثلاثة والسبعين فرقة هي فعلاً ثلاثة وسبعون أم أن الرقم لغرض التكثير فقط؟ A قد يحتمل التكثير وقد يحتمل العدد نفسه، لكن عندما ننظر في الحديث أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين، والنصارى اثنتين وسبعين، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين، فهذا يجعلنا نرجح أن الرقم محدد، لكن أيضاً هذا لا يعني أن نفعل كما فعل بعض المصنفين، يقول: ثلاث وسبعين ويقسم الخوارج ويقسم المعتزلة ويقسم كذا، حتى ينهي ثلاثاً وسبعين، وبعد قرن -مثلاً- تظهر فرقة جديدة. فلا يقال: إن هذه الفرقة هي كذا وهذه رقمها كذا إلا بدليل، هذا لا يمكن؛ لأن أحداً لا يعلم الغيب، ولا يعلم ما سيكون من الفرق وما يظهر منها، فنفهم من هذا أن الثلاث والسبعين هي عبارة عن ثلاث وسبعين سبيلاً ومنهجاً، وقد يدخل في الفرقة الواحدة عدة فرق، لكن طرقها ومناهجها ومناحيها هي كذلك، وهذا يريحنا من التكلف في أن نعين ونعد ونحدد كل فرقة وكم رقمها والله أعلم.

التوحيد وعلم الكلام

التوحيد وعلم الكلام Q ما صحة من يقول: إن علم الكلام هو علم أصول الدين وعلم العقيدة؟ A من يقول: إن علم الكلام هو علم أصول الدين والعقيدة فهو مخطئ، هذا الكلام غير صحيح، ونرد عليه بما رد عليه السلف الصالح، الذين أنكروا علم الكلام، فمثلاً في أول شرح العقيدة الطحاوية ذكر الإمام ابن أبي العز رحمه الله كلام الإمام أبي حنيفة وكلام الإمام الشافعي وكلام القاضي أبي يوسف رحمه الله وغيرهم من الأئمة. يقول الشافعي: 'حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء من خالف الكتاب والسنة'. وكيف يكون علم الكلام هو علم التوحيد، وكلامه هذا غير توحيد، ولو رجعنا إلى كتب وشروح أصول أهل السنة والجماعة ككتاب اللالكائي وغيره من الكتب، نجد الذم والنقد لمن تعلم علم الكلام. وكل الكتب التي كتبت في بيان العلم: ما هو العلم الصحيح الشرعي، ككتاب فضل علم السلف على علم الخلف , وهي كتب كثيرة من كتب الأئمة الذين يُقتدى بهم، والذين عاصروا علم الكلام يعتبرون الكلام ليس من الدين. وتجدون -أيضاً- المتكلمين ليسوا من العلماء، بل في فتاوى الحنفية وغيرها يقولون: لو أن رجلاً أوقف مالاً أو أوقف وقفاً وقال: هذا الوقف للعلماء لم يدخل فيه أهل الكلام، هذه عقوبة لأنهم ليسوا من العلماء، فكيف نقول: علم الكلام هو علم التوحيد؟! هذا إن كان القائل بهذا لمجرد أنه أخطأ أو أنه تربى أو تعلم في مكان ليست السنة منتشرة فقد يُعذر، لكن أن يقول: إن علم التوحيد هو علم الكلام!! هذا لا يجوز.

فرقة الإباضية

فرقة الإباضية Q فرقة الإباضية ما هي علاقتها بـ الخوارج؟ A الإباضية في هذا العصر هي الإباضية التي في كل العصور، فليس هناك أي تناقض، وهم فرقة من الخوارج. وبالنسبة لتصنيف الخوارج نجد أن الإباضية هي أخف الخوارج غموضاً، فأكثر الخوارج غموضاً هم الأزارقة يرون من عداهم من الأمة أنهم كفرة حتى من كان من الخوارج وهو مقيم في دار المسلمين يعتبرونه كافراً، بل أشد كفراً من اليهود. وأخف منهم بقليل النجدات أتباع نجدة بن عامر قال: هؤلاء المسلمين كفار لكن من كان على منهجنا وأقام عندنا لا نكفره، أي أنهم أخف لكنهم على نفس الغموض. أما الإباضية فإنهم قالوا: من كان مخالفاً لمنهجنا فإنه كافر، ولكنه كافر كفراً لا يخرجه من الملة هذا في الأصل، فهؤلاء أخف بقليل من الفرقتين السابقتين. ثم بعد ذلك دخل في عقيدة الإباضية في باب الأسماء والصفات مذهب المعتزلة، فأصبحت الإباضية تعتقد -وإلى يومنا هذا- أن من يؤمن بأن الله عز وجل يرى في الآخرة فإنه كافر، ولازم ذلك أن أهل السنة والجماعة كلهم كفار، ونحن نؤمن بذلك، بل والله نسعى إليه ونشتاق إليه، بأن نرى ربنا وأي فوز أعظم من هذا كما قال الزمخشري أي: من دخول الجنة, مع أن أعظم فوزاً من ذلك أن يرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الجنة. ويقولون -أيضاً-: إن القرآن مخلوق, فما كان غير الله فهو مخلوق، ففرقة الإباضية التي أسسها عبد الله بن إباض التميمي أضافت إلى مذهب الخوارج بدعة الاعتزال وإنكار الصفات وإنكار الرؤية, وصاحب الكبيرة عندهم كافر، لكن الكفر عندهم لا يخرج من الملة. والذين يقولون: إن القرآن مخلوق هم قوم ابتدعوا هذه البدعة، وتأثروا باليهود والنصارى، حيث فلاسفة اليهود ومتكلميهم، قالوا: إن القرآن مخلوق، أي: مثل سائر المخلوقات كما أن الله خلق الناقة وخلق الإنسان، فكذلك خلق القرآن. وهذا تكذيب لكلام الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الله أخبر أن القرآن كلامه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وهذا كلام الله، وكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفته، فهل يكون شيء من صفات الله مخلوقة؟! لا يمكن ذلك أبداً! ولهذا لو قال واحد: أقسم بالقرآن، أو بالذكر الحكيم، أو بآيات الله المحكمة؛ لكان هذا القسم صحيحاً، لأنه لا يجوز أن يُقسم إنسان بالمخلوق، وهذا أقسم بغير المخلوق، أقسم بكلام الله، بصفة الله، والقسم لا يكون إلا بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يعهد عن أحد من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه قال: إن القرآن مخلوق. ولهذا فإن بعض السلف من باب الإلزام بذلك، جعلهم بين أمرين: إما أن يكون السلف علموا أن القرآن مخلوق كما قال هؤلاء أو لم يعلموا، فإن قال: ما علموه, فهم يرون بذلك أنهم جهال، وإن قال علموه، قيل: إما أن يكونوا بلغوه أو كتموه، فاحتار وبهت الذي كفر، لأنهم لو بلغوه لنقل إلينا ذلك, ولو قال: إنهم كتموه لكان هذا قدحاً فيهم أو أننا أعلم منهم, وهذا لا يمكن! فعلى أي حال يكون هذا بدعاً من القول.

الشباب المسلم بين العقل والعاطفة

الشباب المسلم بين العقل والعاطفة تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن قضية هامة وهي: قضية الشباب المسلم بين العقل والعاطفة. فبين في حديثه: كيفية التوفيق بين التصرفات المحكمة وبين ما تمليه العاطفة، مدعماً ذلك بذكر بعض الأمثلة من حياة الأنبياء والسلف الصالح. ثم تحدث عن مفاسد الميل نحو العاطفة الغير منضبطة، مبيناً أن ذلك يؤدي في كثير من الأحيان إلى الوقوع في الخطأ نتيجة للاستعجال، أو الخروج عن المألوف، وكذلك قد يؤدي إلى الخطأ في تطبيق مفهوم الولاء والبراء على وجه الخصوص.

بين التفكير العقلي والميول الوجدانية

بين التفكير العقلي والميول الوجدانية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلَّى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الدرس خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا جميعاً به، إنه سميعٌ مجيب. وبعد إننا نسير -ولله الحمد- مسيرةً طيبة مباركة، وأمتنا الإسلامية -والحمد لله- تعيش هذه الأيام عودة وتوبة وإنابة إلى الله تبارك وتعالى مشهودة يراها كل ناظر، ولكن توجيه هذه الأوبة وتسديدها، والنصح لأهلها ولشبابها هو من أعظم ما ينبغي على من لديه شيءٌ مما يظن أنه ينفع الله تبارك وتعالى به في تصحيح المسيرة، وفي توجيه هذه الطريق إلى السداد، وإلى ما يرضي الله تبارك وتعالى، ولذلك فإنني أحب أن أتناول القضايا بمنتهى الإيضاح والتفصيل. وموضوعنا هو: قضية العقل والعاطفة. الله تبارك وتعالى خلق الإنسان مركباً من أمور، ومنها هذان الشيئان: العقل، والعاطفة، ومن نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الإنسان أن النفس الإنسانية مرنة واسعة وأن الله شرع لها هذا الدين القويم، الذي يلبي احتياجاتها أياً كانت، وفي أي زمان وفي أي مكان، وبأي طبعٍ ركب في الإنسان أو جبل عليه. أما العقل فهناك من يبالغ فيه، وهم الحكماء كما يسمون، فيجعلون كل الأمور بالعقل المحض المجرد، وهناك من يبالغ في العاطفة كالشعراء وأمثالهم، فيجعلون الأمور عواطف بحتة. والحق أنه لا هكذا ولا هكذا؛ فالإنسان مزيج ومركب من مشاعر كثيرة. وأقول هذا كمقدمة؛ لأننا لا نتنكر للعقل ولا نتنكر للعاطفة، وليس الأمر خياراً بين هذا أو ذاك، ولكن كيف نستطيع أن نوفق بين التصرفات المحكمة؟ بين تصرفٍ أفكر فيه وأستشير وأستخير ثم أعمل، وأيضاً مع ذلك أتوقع الخطأ، وأتابع العمل لئلا يقع فيه الخلل حتى ينتهي، وبين عملٍ يأتيني فأتدفق حماساً، وأفيض مشاعر وإقدام، فأعمل ما تمليه عليَّ العاطفة في تلك اللحظات الحاسمة، دون حسابٍ لأية عاقبة من العواقب.

كيفية التوفيق بين التصرفات المحكمة وما تمليه العاطفة

كيفية التوفيق بين التصرفات المحكمة وما تمليه العاطفة أقول: هذه هي القضية، وهذه هي قضية الشباب، والعاطفة مطلوبة، ولا يمكن أن يقوم دينٌ ولا دعوة إلا بهذه العاطفة، والله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن، الذي فيه الشفاء والموعظة والعبرة، ومع ذلك فإن أقوى الحجج العقلية في كتاب الله تبارك وتعالى تصاغ بأكثر الأساليب إثارةً للعاطفة والوجدان، وهكذا عباداتنا كلها -ولله الحمد- عبادات تنمي في الإنسان جانب التهذيب الأخلاقي، والانضباط، والسلوك العقلي القويم، وفي نفس الوقت تنمي فيه الإيمان والإحساس، والمشاعر الوجدانية الإيمانية، وأيضاً تنمي فيه المعاملة والتعامل، فالكل شيء واحد. لكن نحن الشباب نحتاج إلى أن نضبط أمورنا لتوافق هذا المنهج الرباني القويم، وإلا فإنه سوف يقع الخلل عندما يطغى أحد الجانبين على الآخر، وكلا الجانبين موجود، إما طغيان عقلي، أو قد يسمى علمي -وأنا أردت وتعمدت أن أقول هو عقلي- أو طغيان عاطفي. والجانب العقلي هو أن تؤخذ القضايا دائماً بقوالب منطقية جامدة، أن تؤخذ مجردة عن المشاعر، وعن العواطف، فالأخ الذي يربي يربي وهو لا يتنبه لهذه الأمور، والأخ المتلقي يتلقى بعيداً عن هذه الأمور. وأقول: لم تقم دعوة مجردة على الإطلاق من العاطفة الجياشة القوية، وقد كان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم العبرة في ذلك عندما يقوى هذا الجانب، ولكنه وجدانٌُ وعاطفةٌ قويمة مستقيمة.

أمثلة من حال الأنبياء

أمثلة من حال الأنبياء الخليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه يحطم الأصنام، ويجعلها جذاذاً إلا كبيرها، بهذه القوة، وبعاطفة الشباب المتحمس، لكنها قوة في الحق وبأسلوب سليم وبموقف قويم، حسب حسابه، وانتصر في النهاية، ولله الحمد، ولو أن هذا الفتى أو هذا الشاب كان مسايراً لوضعه ولعصره دون أن تحدث منه هذه التي عدَّها قومه طيشاً ونزوة، لما غيَّر شيئاً.

أمثلة من حال الصحابة

أمثلة من حال الصحابة وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه إنما كانوا يواجهون هذه الدعوة، ويتحملون أعباءها بتلك القوة العاطفية الوجدانية، التي أخرجوا بها الناس من الظلمات إلى النور، كيف كانت شجاعتهم؟ وكيف كان إقدامهم؟ وكيف كان تعاونهم؟ وكيف كانت هجرتهم؟ لم تكن مواقفهم وثباتهم إلا نتيجةً لهذه العاطفة ولهذا الوجدان، ولكنه وجدانٌ إيمانيٌ منضبط. وقد يقع أن تثور العاطفة، ولكنها أيضاً تضبط وتنضبط، وفي مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثيرة المتعددة ما يبين ذلك، فمثلاً في موقفه يوم الحديبية، عندما كاد أن يعترض على ما اتفق عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقره مع الكفار: كان يقول: {يا رسول الله، ألسنا المؤمنين؟ أليسوا مشركين؟ فكيف نرضى الدنية في ديننا} ويصرخ ويضطرب ويتألم. فهذه عاطفة إيمانية، وموقفٌ حميدٌ في أصله من حيث المنبع، لكن في إخراجه وفي كيفيته خطأ، ولهذا يقول بعد ذلك الموقف: عملت لذلك أعمالاً، حيث كان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك إذا تذكر موقفه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية يتصدق ويعتق وينفق ليكفر عن ذلك الموقف. وأيضاً موقفه من المنافقين، فالرجل الذي ترك التحاكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأراد أن يتحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى كاهن جهينة، كيف كان موقف عمر رضي الله تعالى عنه منه؟ وأيضاً الرجل اليهودي الذي أراد أن يختبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرى هل الصفات التي في التوراة موجودة فيه أو غير موجودة، فيأتي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويشده شداً، ويجذبه جذباً، فيقول عمر رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه}. ومواقف كثيرة يقول فيها الفاروق: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه} لكن ماذا حصل للفاروق رضي الله تعالى عنه عندما أصبح هو الخليفة، هل ضرب عنق أحد بمثل هذه السرعة؟ إنما بذلك الموقف كان هيبة وقوة للدين، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنالك، فإن فعل أمراً فبأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نتيجة عاطفته هو واندفاعه، وإن لم يفعله حصل المراد، وهو الهيبة لهؤلاء المنافقين وأمثالهم، وحصل إظهار لعزة الدين ولمنعة المؤمنين، وفي نفس الوقت لم تحصل المفسدة التي لا يريدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مثال من أمثلة كثيرة.

مفاسد العاطفة الغير منضبطة

مفاسد العاطفة الغير منضبطة لو وُظَّفت العاطفة توظيفاً صحيحاً، لاستطعنا - بإذن الله تعالى- أن نستفيد من وجودها في الشباب، طاقةً، وحيويةً، ونشاطاً، لو وظفت توظيفاً صحيحاً لاستطعنا بإذن الله تعالى أن نحقق المكاسب الكبرى منها دون أن تحصل المفاسد التي قد تقع، والتي سوف نتعرض لأمثلة منها.

مفسدة الاستعجال

مفسدة الاستعجال ومن ذلك أيها الإخوة الكرام: أن عاطفة الشباب دائماً تؤدي إلى العجلة، وهذه صفة كانت موجودة حتى في صحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنها تعرضت للانضباط كما أشرنا. الصحابة رضوان الله تعالى عليهم عندما أتوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو نائم في ظل الكعبة فأخبروه عما فتنتهم به قريش، وغير ذلك من المواقف، قال لهم: {ولكنكم قوم تستعجلون}. وأقول: إن العجلة هذه موجودة في الشباب، والعجلة في أصلها دليل خير، وعاطفة خير، -مثلاً- يستعجل الشاب في أن يتعلم حفظ القرآن في أقصر مدة، أو يريد أن يتعلم علم الحديث والرجال والأسانيد والمتون في أوجز مدة، بل ربما يقول البعض: أجمع هذه العلوم جميعاً، فأتخصص وأتبحر في القرآن وعلومه، أو في الحديث وعلومه، وأقوم بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبالتربية، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإضافة إلى أعمال خاصة، مع رعاية الزوجة إن كان متزوجاً، أو الاشتغال بشأن الزواج، ويريد ذلك دفعة واحدة! وهذا من العجلة. والحقيقة أنك تجده سنتين وثلاثاً وأكثر، بدأ بهذا الكتاب فلم يأخذ منه إلا الربع، وكتاباً آخر أقل منه، وآخر جزءاً يسيراً، ثم ترك هذا، ثم سمع عن هذا، ثم سمع بشيخ من المشايخ فذهب إليه، ثم لم يحصل له المراد، ثم سمع بشيخ آخر في بلد آخر، فسافر إليه، وانتقل من هذا إلى هذا، ثم ترك الكلية هذه إلى كلية أخرى، وإذا به في النهاية لم يحصل على الذي يريد، مع أن الأصل أن ذلك دافع خير، ولكن العجلة هذه إن لم تضبط فإن هذه هي نتيجتها، وقد حصل هذا لكثير من الشباب. وهناك أيضاً عجلة في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالشاب كلما يتذكر -وأظن هذا الشعور مشتركاً- كيف كان عندما كان بعيداً عن الله وعن الاستقامة على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن كان تارك صلاة فإنه يقول لنفسه: سبحان الله! كيف لو مت وأنا تارك الصلاة؟! كيف لو مت وأنا أشرب الخمر وأتعاطى المحرمات، أو أفعل الفواحش وأشياء تؤرق الشاب. ولا شك أن المؤمن يؤرقه ذلك لمَّا يرى أن إخوانه في البيت أو إخوانه المسلمين يعانون مما كان يعاني، ويخاف عليهم مما كان يخشاه على نفسه، ويحمد الله الذي أنقذه منه ومَنَّ عليه، وإلا فقد كان كذلك من قبل، فيندفع بسرعة، ويريد أن يرى ثمرات الدعوة إلى الله عاجلةً سريعة -هذا أحد الأسباب- ويريد أن يدعو الناس فيستجيبوا. يأتيني بعض الشباب، يقول: عندي والدي وأمي وإخوتي، وزميلي في العمل كلمته فلم يسمع، وكررت عليه عدة مرات وما سمع وهكذا، سبحان الله! ليست القضية "كم مرة" يا أخي! انظر كيف صبر أنبياء الله! وكيف صبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ومتى يكون الوقت المناسب؟ وكيف يكون الأسلوب المناسب! انظروا إلى عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبي طالب - ما كان يشك لحظةً واحدة في صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ولو شك ما حمى الدعوة، وما وقف معه، وما حوصر معه في الشعب، ولما تحمل الأذى والألم والتعب أبداً، لكن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوه ويبين له، حتى -كما تعلمون قصته- عند الموت، أراد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يموت عمه على الإسلام يقول: {يا عمِّ! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله}، وصبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مع الموالي والمحب للدعوة، ولكن لم يدخل فيها. ومع الأعداء صبر أيضاً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبر الأنبياء من قبل، ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق عليه: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد} سبحان الله! هل يستطيع أن يقول أحد: إن هذا من ضعف دعوة هذا النبي، عياذاً بالله! أو من عدم بذل الجهد، أو من عدم الحكمة في الدعوة، نبي يعطى الحجة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويوحى إليه من الله وليس معه أحد! ونحن نقول: في الحي ما استجاب لي أحد، وفي البيت ما أطاعني أحد، فهذا عجيب! والله تعالى قص علينا حتى في واقع البيوت عن امرأة نوح، وامرأة لوط، وابن نوح، وأبي إبراهيم، وذلك لنأخذ العبرة، نفس الشيء ونفس القضية، ونفس الصبر، ونفس المحاورة، كما حاور إبراهيم عليه السلام أباه كما في سورة مريم. وهكذا يجب أن نعرف أن هذا طريق طويل، وأننا كلما صبرنا وتأنينا، وعرفنا كيف نخاطب من نواجه، فإن ذلك أجدر وأحرى أن يستجيب بإذن الله تبارك وتعالى، فإن لم يستجب فلنبق على الطريق نفسه، ولنصبر على الأذى، كما صبر أولئك الصحب الكرام، ولنحتسب عند الله تبارك وتعالى كل ما ينالنا ونتحمل؛ حتى يعلموا أننا ما أردنا لهم إلا الخير، وما أردنا لهم إلا النجاة من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الدنيا والآخرة. لكن يحصل مع الاستعجال أشكال أخرى من التصرفات التي قد تلتصق أكثر بمسألة العجلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أن الإنسان ربما استعجل فتصرف بما لا ينبغي، فكانت نتيجة ذلك أن يصر صاحب المنكر على منكره، بل ربما تعاضد المجتمع معه على هذا المنكر، لأنه يرى هذا الشاب -بطريقة هوجاء أو انفعالية أو عصبية- يمس أمراً والمجتمع كله متعارف عليه، يقول: سبحان الله! كل الناس تفعل كذا، وكل الناس مقرة لهذا الشيء، والعلماء يعلمون ذلك وفلان يدري، وفلان ما أنكر، وفلان كذا، فماذا يريد هذا الشباب الذي أتى دفعة واحدة يريد أن يغير هذا المنكر؟! وهذا الشاب لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا لتحرقه ولتألمه ولعلمه أن وراء هذا المنكر فسادٌ عظيم، ونقص في الخيرات والبركات، ووراءه فساد القلوب، ووراءه تخطيط أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم كثيراً مما لا يعلمون -لا شك- لكن كيف تنقل إليهم شعورك هذا؟ لا تنقله إليهم بأن تأتي فتحسم الأمر في لحظة واحدة ودفعة واحدة، وتقضي على هذا الشر وانتهى الأمر، ولو كان الأمر كذلك لكان الرسل والصحابة الكرام هم أجدر الناس بأن يفعلوه، وقد أراد ذلك الصحابة الكرام، لكن لا بد من حكمة، ولا بد من الأناة، والصبر. وتعرفون قصة أبي ذر رضي الله تعالى عنه لما أصر على أن يعلن إيمانه كيف ضرب! ولما بايع الأنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعة العقبة، قالوا: [[يا رسول الله! إن شئت ملنا على أهل الموسم بأسيافنا، فمنعهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]]. فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمشي بخطى وئيدة ولكنها مدروسة -وهذا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- نحن يجب علينا -أيضاً- أن نفكر وأن نجتهد، وإذا اجتهدنا وظننا أن هذا الأمر مدروس بفكرة، وحكمة، واستشارة، واستخارة، وأخطأنا فهذا من الله، وكل شيءٍ من الله، ولكن فرق بين هذا وبين أن نستعجل فنقع فيما لا خير فيه. فالعجلة في التغيير وفي الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذه هي نتائجها، ربما انقلب صاحب المنكر -الذي كان يمكن أن يقبل منك لو لاطفته ولاينته- عدواً لدوداً لأهل الحق حيث كانوا، بل ربما يستعجل شاب واحد، فيضيع الفرصة على آخرين كان يمكن أن يُسمع منهم. صحيح أن بعض الإخوان يقول: يا أخي! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متروك، ويكاد يكون مفقوداً في المجتمع، من قبل طوائف كثيرة من الناس، ونحن نحييه! نعم نريده أن يحيا، لكن يحيا بالبصيرة وبالحكمة، ولعلك إن بدأت شيئاً، يتم الله تبارك وتعالى ما بدأت على يد غيرك، أما أن تأتي به كله جملةً واحدة، تريد أن تضعه، فإن هذا مخالفٌ لسنة الله تبارك وتعالى.

مفسدة الخروج عن المألوف

مفسدة الخروج عن المألوف وهناك -أيضاً- أمور مما يخطأ الشباب فيها، وهي من جانب العاطفة، والشكاوى منها كثيرة. الشاب في حال ضلاله أو بُعده قبل توبته وقبل هدايته، يرى ما هو عليه -قبل أن يستقيم- أنه مألوف لدى أكثر الناس، وهذا في الغالب، فلما استقام أصبح غريباً، وأصبح متميزاً عنهم، ولا شك أن الحق متميز عن الباطل، وأن الطاعة متميزة عن المعصية، وأن المعروف متميز عن المنكر، لا شك في ذلك، ولا بد أن تستبين السبيل وأن تتضح. فالنفاق والمداهنة ليست من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن إلى أي قدر يصل ذلك؟ وإلى أي حد؟ فيأتي الشاب وهو في هذا الشعور الجياش الفياض بالإيمان، فيُرى بعيداً عن كل ما مِنْ شأنه أن يشوب إيمانه أو يُعكِّر عليه هذه الاستقامة، فيعتقد قاعدة ترسخ في ذهنه، وهي أن الخروج عما عليه الناس وعما ألفوه هو الخير، فيظن أن الأصل في ديننا أن تخرج عما عليه الناس، والصحيح أن الأصل أن تخرج من الباطل إلى الحق، لكن هكذا يزين الشيطان. فيبدأ الإنسان يخرج عن المألوف، ولا نقصد أنه خرج عن مألوف من يسمعون الأغاني، ويرون هذه المسلسلات الفاجرة، ويذهبون إلى الأسواق، ويسافرون، ويفعلون المنكرات، فالخروج من هذا المألوف إلى هذا المجتمع الطيب شيء جميل، لكن لا تقف العاطفة بالشاب عند هذا الحد، بل يدخل في القضايا العلمية، وهنا تكون المشكلة، مع وجود العلماء -والحمد لله- ومع وجود المفتين، ومع وجود المنهج العلمي، وإن لم يوجد في الواقع بالشكل الذي نريد لكنه موجود في الكتب. مع وجود كل ذلك يأتي الشاب، فيخيل إليه من منطلق الخروج عمَّا ألفه الناس أنه لا بد أن يتصرف في أفعاله غير ما يفعلون، فالناس يسبلون الثياب، وهو قد تمسك بالسنة -والحمد لله- وترك هذا الفعل المحرم، فقصَّر الثوب، وهذا شيء عظيم، فهل يقف عند هذا الحد -مثلاً- لا، بل يريد أن يتميز عنهم في الصلاة، وهذا جميل جداً، فيرى الناس لا يخشعون في صلاتهم، ولا يضعون أيديهم حيثما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده، ولا يطمئنون، وغير ذلك مما هو موجود في المجتمع، فيطبق صلاته لتكون على السنة وإن خالفت الناس، وهذا جميل جداً، ثم يستنير بعد ذلك، فيدخله الشيطان، أو هذه العاطفة تأتي به فتوقعه في أمور أخرى، حيث يجتهد بعض الشباب فيها، وهي خارجة عن المألوف، وينسى مردودها في واقع الدعوة. وبعض الشباب قد قرأ في صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً صحيحاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زاد في التسليم على السلام عليكم ورحمة الله: (وبركاته)، وهذا طيب -والحمد لله- لأنه قد صح الحديث فيها، فذهب يصلي بالجماعة، فكيف يكون شعوره عندما وجد هذا ووجد أن الناس لا يفعلونه، وأن المساجد كلها لا تقول: وبركاته؟! فيعزم على أنه لابد أن نحيي هذه السنة، فربما قد تأتيه مشاعر، ويقول في نفسه: نحن متى كنا نتبع آراء الناس؟ فلينكر من ينكر، وليغضب من يغضب، المهم أن يفعل هذا الشيء، إذا صح شيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليذهب الناس إلى ما يريدون، لا يهمنا، المهم ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم إنه صلَّى بهم الصلاة ثم سلَّم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله؛ فيبدأ الناس يتهامسون في المسجد، وربما وُجد فيهم -من أصحاب البدع- من يقول: "أنا قلت لكم: هذا الولد -الإمام- يقول: إن المولد بدعة! ". أو ربما يكون هذا القائل صاحب ربا، يقول: "هذا الإمام يقول: إن التعامل مع البنوك ربا، وهذا كذاب، وانظروا كيف زاد في الدين، هذا هو الدين!! والبنوك موجودة من زمان، والعلماء رأوها، والناس أيضاً رأوها، وما تكلم أحد عنها، وهذا يحرم في آخر الزمان، وكل يوم يأتي بشيء جديد". وإذا بالناس سبحان الله! ضجوا به، وإذا به يصيح بهم: يا جماعة! هذا الحديث صحيح، وهذا الكتاب، انظروا! فيقولون: نحن نسمع الحرم كل يوم، ونسمع المساجد فلا أحد يقولها، فمن أين أتيتنا بهذا، وأدى بهم ذلك إلى أنهم لم يعد يسمعوه. فلو تكلم أو قام وقرأ عليهم الآيات في الشرك، وهو أكبر ذنب عُصِيَ الله به، وأكبر قضية في القرآن قضية الشرك وتحقيق التوحيد، لو قام وتكلم فيها بعد ذلك لقالوا: هذا صاحب: وبركاته! فلا يسمعونه أبداً وهكذا، فيجعلون تلك الجزئية حجة لترك ما هو واضح الأدلة، ومعلوم ومشتهر كالشمس في رابعة النهار، فيقولون: اتركوه ولا تسمعوا منه، أمور تأتي والسبب فيها مثل هذه التصرفات وبسبب الخروج عن المألوف. وأنا قلت: تخرج عن المألوف، ولم أقل العمل بالراجح أو المرجوح، فالمسألة هنا لا أعتبرها مسألةً علمية، قبل أن تبحث الحكم من الناحية العلمية في مثل هذه الأمور، انظر فعلاً إلى أثره، وإلى مردوده، أي: قبل أن تجتهد لتصل إلى خلاصة في هذه المسألة، انظر ما موقعه من دعوتك. وأوضح أكثر ما أريد أن أقول: عندما أدعو الناس للاستقامة، وإلى السنة، وإلى الخير، فإن أول وأجدر ما يمكن أن أدعو إليه هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أن يؤمنوا بالله، وأن يستقيموا على دين الله، وأن يعرفوا الله، وأن يتجهوا إلى طريق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وينصرفوا عن الشرك أو الضلالات الفكرية والانحرافات العقائدية والبدعية التي تنتشر بين الناس، هذه هي قضيتنا الأساسية، ثم بعد ذلك، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكرات، نجتهد في الدعوة إلى النهي عن المنكرات التي تلي ذلك وهي الفواحش المحرمة، وكل ما هو محرم، وبعد ذلك ندعو الناس إلى ترك المكروهات، ولا نعني بالتدرج هذا أننا نتكلم مع الناس فقط في التوحيد وترك الشرك إلى ما لا نهاية، ثم ننتقل بعد عشرين سنة أو مائة سنة إلى مرحلة أخرى، لا! إنما المدعو الذي عرف التوحيد وعرف الله، وانقاد لدين الله، ننصحه ونبين له المنكرات الأقل، فإذا انقاد أكثر، قلنا له: هذا من السنة، وهذا من الدين، وهذا من الفطرة وهكذا، فلا نبدأ بالعكس. هكذا الأسلوب الصحيح في التربية، أما ذاك الذي لا يزال في أول الطريق فإننا نظل نخاطبه بما نقوله لمن هو في أول الطريق، لكننا أحياناً نعكس القضية. فيجب علينا أن نحسب حساب تصرفاتنا وأنها محسوبة على هذه الدعوة، وما جاء رسول إلى قومه إلا واتهموه -صلوات الله وسلامه على رسوله وأنبيائه أجمعين- بأنه خرج عنها، وشذَّ عنها، وخالف ما كان عليه الآباء والأجداد، كما فعلت قريش لما أرسلت عمرو بن العاص إلى النجاشي -مثلاً- وذكر له أن جريمتهم أنهم خرجوا عما نحن عليه. وهناك صفة اجتماعية معروفة في جميع المجتمعات، وهي أن المجتمع لا يحب من يخرج على وضعٍ قد ألفه، وإن كان هو قبل عشرين سنة لم يكن على هذا الوضع، وبعد عشرين سنة لن يكون على هذا الوضع، لكن هو يقبل التدرج البطيء في التغيير، ويرفض الطفرة والسرعة في التغيير. فنقول: يجب أن نهتم بمثل هذه الأمور، نعم! نحيي السنن، لكن يجب أن نضع الشيء في موضعه، وأن نسأل أنفسنا متى نحييه ومع من؟ أنا أقوله لكم، إذا كنت في مدرسةٍ لتحفيظ القرآن -مثلاً- أو في مركزٍ من المراكز الطيبة، وفي مكان كلهم طلبة علم، يمكن أن تقول أو تدعو إلى بعض هذه الأمور أو تظهرها، لكن أمام العامة من الناس فإن الحال يختلف، فهناك فرق بين مقام التعليم أو مقام طلبة العلم وبين مقام العامة، وهذا كمسألة القراءات -مثلاً- وقد وقعت، ويسأل عنها البعض، هل نقرأ الآن القرآن بغير قراءة حفص؟ لو أنك في مدرسة تحفيظ القرآن، أو في مجتمع كلهم من الحفظة الذين يعرفون القراءات، فإنه لن يقول لك أحد من العلماء: حرام عليك أن تقرأ بأية قراءة من القراءات، لكن إذا عينت إماماً بين عامة، وذهبت تقرأ بغير القراءة المشهورة، ماذا سيكون مردودها وصداها؟! إنها سوف تسبب مفاسد كبيرة جداً، فبعض الناس لا يعرف القراءات أصلاً، ولم يسمع عن شيء اسمه قراءات، والبعض الآخر يسمع ويغالط نفسه، يقول: ليست قضية قراءات، لكن هؤلاء شباب شذاذ مبتدعون، يريدون أن يخرجوا عما نحن عليه، ويريدون ويريدون، ويكيل لك التهم الكثيرة وهكذا. والأمثلة لا أحب أن استطرد فيها لكثرتها، ولكن لأنني أعاني منها أو من بعضها، أحببت أن أشير فقط إلى كيف أن العاطفة تغلب، وأن الإنسان يظن أنه بهذا العمل يخرج عمَّا ألفه الناس من الواقع المخالف، ولكنه يقع في مفسدة أكبر وأعظم.

أخطاء في مسألة الولاء والبراء

أخطاء في مسألة الولاء والبراء ومثل ذلك أيضاً عاطفة الحب، ونحن، نحتاج أن نحب في الله، وأن نوالي في الله وأن نعادي في الله، ولولا ذلك لما كنا مؤمنين حقاً، فهذه فضلها عظيم، ودرجتها عالية، كما نص على ذلك بعض العلماء، فقالوا: 'أعظم قضية بعد التوحيد ونبذ الشرك في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي قضية الموالاة والمعاداة' الموالاة في الله والمعاداة فيه، لكن كيف يكون التطبيق؟ وكيف يطبقها الشباب؟ هنا تدخل العاطفة وتطغى حتى ينسى الإنسان الأصل الذي منه انطلق، بعض الشباب يحب شيخاً -مثلاً- أو عالماً أو داعيةً -معاصراً أو قديماً- ويوالي في ذلك حتى يصبح أشد من المتعصبين المذهبيين، واسمحوا لي أن أقول هذا، أي: لو سمعت أحدهم يقول: أنا شافعي، أو أنا حنفي، فإن بعض الشباب يكاد ينفجر فيه، ما هذا التعصب؟ نحن نتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا الشاب نفسه يحب شيخاً قديماً أو حديثاً، ويذهب به الإعجاب به كل مذهب، حتى أنه لو نسب إلى الشيخ قول وهو ما قاله، قال هذا الكلام صحيح، ما دام الشيخ قاله، وهو في الحقيقة لم يقله، إنما نسب إليه، فإذا قيل له: الشيخ يقول غير ذلك، قال: فهو كما قال، ويرجع إلى قوله الثاني. إذاً وماذا تنقم أنت على المقلدين؟ وماذا تأخذ عليهم؟ وإذا بك تخرج وتشتط، وتقع فيما تحذرهم منه وتزجرهم عنه، ولو أننا جعلنا هذه العاطفة منضبطة لأحببنا كل العلماء، وكل الدعاة، وكل المصلحين الداعين إلى الله تبارك وتعالى، وأخذنا من هذا، ومن هذا، وسددنا وقاربنا، واستفدنا من الجميع، ولم نبالغ، ولم نغلُ في أي أحد منهم. كذلك فيما يتعلق في معاملتنا -نحن الإخوة- مع بعض، بعض الإخوة يحب البعض الآخر حباً شديداً جداً، يخرج أحياناً عن كونه حباً في الله -الأصل أنه في الله إن شاء الله- يخرج حتى يصبح محبة في ذات الشخص، فيريد أن يراه وأن يجلس معه وأن يعيش معه هكذا، وربما غلب ذلك، وغطَّى على بعض الحقوق التي هي على هذا الأخ المحب لأهله وزملائه الآخرين، وربما أدَّى هذا إلى بغضاء وعداوة وشحناء بين الإخوة الشباب المجتمعين في مدرسةٍ، أو في دعوةٍ، أو في عملٍ من أعمال العلم والخير، بسبب هذا الغلو، والذي يحصل من أحد الإخوة، وقد يقابله الآخر بغلوٍ معاكس، والعاطفة -عموماً- هي ثورة وانفجار، وقد تؤدي إلى الخير، ولكن قد تقذف أحياناً بما قد يؤدي إلى العقوبة المذمومة. فكذلك نقول: إن عاطفة الحب يجب أن تضبط ضبطاً محكماً قوياً، ونحن -أيها الإخوة في الله- لسنا كمشجعي الكرة، واسمحوا لي إذا قلت هذه العبارة، فلا نريد أن نتحول إلى ما يشبه عمل المشجعين، كل طائفة تشجع شخصاً، كما أنهم يشجعون فريقاً ويتعصبون له. نحن يجب أن تكون لدينا الضوابط الهادئة المتزنة التي نعقل بها الأمور، ونناقش ويستدرك بعضنا على بعض، ثم نأخذ القضية أخذاً سليماً صحيحاً بعيداً عن هذا التعصب، ولذلك نجد أننا بعد حين إذا هدأت هذه العاطفة -ولا بد أن تهدأ، لأن العاطفة تهدأ مع الزمن- تتعجب من نفسك كيف كنت أولاً؟! فتجد نفسك فعلاً كنت لا شيء، ولم يكن ذلك الموقف مبنياً على دليل ولا تصورٍ معقول سليم.

العاطفة في قول الحق والجهاد في سبيل الله

العاطفة في قول الحق والجهاد في سبيل الله العاطفة -أحياناً- في قول الحق والدعوة إليه والجهر به، ولا شك أنه يجب علينا أن نقول الحق وأن نصدع به، وأن نجهر به، فالأصل في ديننا ذلك، لكن كيف؟ ومتى؟ ليس الأمر هكذا مطلقاً، فالشباب أحياناً ينسى إلا أنه يجب أن نصدع بالحق، وأن نقول كلمة الحق ولا نبالي، أو أن نعمل للحق وبالحق ولا نبالي، فتكون النتيجة كما ذكرنا في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الاستعجال لأنهما متلازمتان، تكون النتيجة أن الحق -هذا الذي أردنا أن يقوم فقط- قد ضيعنا من أجله فرصاً كثيرة على الدعوة، كان يمكن بالأناة وبالحكمة أن تؤدي إلى الخير، وإلى الثمرة الطيبة. وكثيراً ما نضع الأمور في غير موضعها، فنضع القوة في غير موضعها، فنريد أن نجاهد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن مِن المسلمين لا يحب الجهاد؟ لكن هذه العاطفة جاشت وفاضت حتى أصبحت لا تجد صغيراً ولا كبيراً إلا وتريد أن تحمله على رأيك في هذه المسألة، وهنا تلعب العواطف دوراً رهيباً في إيجاد مفاسد كثيرة، وقد عاناها الكثير وتحدثوا عنها، وهناك أيضاً القوة في مسألة مواجهة المنكرات أو الانحرافات، وقول الحق، وهو أنك تقول أمام صاحب الباطل: أنت كذا، وأنت كذا، وهذه مواقف دعوية لكن ممن؟ هنا نقف، أي إنسان يقف هذا الموقف؟! فرق بين أن يقف عالم له كلمته، وله قيمته، وله وزنه، ويقوم لأي ظالم أو جبار أو بطاش أو منحرف أو مبتدع ممن له عند الناس شأن، ثم يقول له: أنت كذا، وبين أن تأتي -أنت المسكين- بعاطفة وانفعال وتقف ذلك الموقف، الأمر ليس كذلك! وبعض الأمور قد لا أمثل لها مع كثرتها؛ لأن التمثيل قد يفهم خطأ، ولأنكم تعيشون هذه القضايا جميعاً، إنما نقول: هي عبارة عن وجهة نظر في تلك المسائل والقضايا. أقول: يجب أن نتدارك أمورنا وأن نعيد النظر، وأن نحاسب أنفسنا في منهجنا، وفي تصرفاتنا، فأنظر هل أنا أتصرف تصرفاً منضبطاً متزناً بالفعل، أم أنها العاطفة وحدها هي التي تسيرني؟ هذه هي القضية. وكل ما ذكرت فهو مجملات أو أمثلة مبسطة، أرجو أن أكون وفقت في تقريبها إلى أذهانكم.

الأسئلة

الأسئلة

الحكمة في تكسير إبراهيم للأصنام والفرق بين الهمة والعاطفة

الحكمة في تكسير إبراهيم للأصنام والفرق بين الهمة والعاطفة Q ما معنى قولك: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كسر الأصنام بأسلوب حكيم وبنظر بعيد، ثم صارت العاقبة أن أراد قومه حرقه، وهل يوجد فرقٌ بين الهمة والعاطفة؟ A المقصود يتضح بالمقابل، فإنه بالنظر إلى الخليلين: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، كل منهما حطم الأصنام، وكل منهما جعله الله تبارك وتعالى إماماً للناس في الإيمان والتوحيد، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل:123]، فالله هو الذي جعله إماماً للناس، ولا شك في إمامته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس. أقول: إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه خطط وعزم أنه إذا ذهب الناس إلى لهوهم، فإنه سوف يحطم الأصنام جميعاً، ويستبقي الكبير ويضع الفأس في عنقه، يعلقه عليه، ثم يقول: إني سقيم، هكذا يفعل، حتى الإعداد للمناظرة، فإنهم قالوا: من فعل هذا؟ قالوا: سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم، فجاءوا به، أأنت فعلت هذا؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون، وهذا تصرف بعيد جداً عن العاطفة. لو قال: نعم أنا أكسرها وأكسر رءوسكم -كما يقول بعض الشباب- فهذا لا يصلح، لأن هناك قلوب ميتة، وهناك عواطف ميتة، الفطرة ماتت في قلوب هؤلاء الناس، ما الذي يحركها لتصحوا وتفيق على أنه لا إله إلا الله؟ يكون ذلك عندما يرى معبوده وربه جذاذاً، وهو الذي كان يدعوه، ويتمسح به، ويستغيثه، ويذبح له، الآن أصبح جذاذاً، ويُحاكم هذا الفتى لم فعلت هذا؟ وكيف تفعل ذلك؟ فيقول: لم أفعل، واسألوا كبير الآلهة، والفأس معلق في عنقه. إذاً يمكن أن يكون هو الذي فعل، والحقيقة أنها لا هي التي دافعت عن نفسها، ولا هذا الكبير دافع عنها، ولا هو الذي حفظ نفسه وسلم، ولا يستطيع هو أن يفعل شيئاً، ولا تلك التي تحطمت، فرجعوا إلى أنفسهم، وقالوا: إنكم أنتم الظالمون. والموقف لو تأملتموه لوجدتم أنه موقف -فعلاً- فيه الحكمة، وفيه وضع الشيء في موضعه، رغم أنه لا شك لا يقوم به إلا ذو وجدان حي متوثب. ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان في مكة، وهو يطوف ويعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومعه الصحابة، لم يحطموا الأصنام، ولكن متى حطَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأصنام؟ حطمها عام الفتح، لما فتح مكة، ودخلها ودخل الناس في دين الله أفواجاً، حطمها حينئذٍ، لأن المصلحة هنا، والحكمة تقتضي ذلك، فكلا الرسولين حكيم، وكلاهما وضع الشيء في موضعه. وأما بالنسبة للشق الآخر من السؤال وهو هل يوجد فرق بين الهمة والعاطفة؟ أنا لا أحب أن أدخل في تعريف العاطفة، والعقل، والهمة، والدافع، والشعور وغيره، وهذا كله موجود في علم النفس، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام}. وهذا مثال من الأمثال: وبعض الناس يسمي ولده الأول: حارث، والآخر: همام، لماذا؟ قالوا: لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام}، والحقيقة أن القصد هو تحبيب هذا الاسم، ولا يعني ذلك تفضيل هذا الاسم على غيره، مثلاً إذا سمينا شخصاً بجميل، يمكن ألا يكون جميل، ويوجد كثير من الناس يسمي نفسه بشيء وهو عكسه تماماً، -مثلاً- رجل اسمه كريم، قد يكون بخيلاً، وهكذا. لكن التسمي بحارث أو همام -مثلاً- إنما هو تعبير صادق على أي إنسان، فإن كل إنسان هو صاحب خير، أو صاحب شر، وأياً كان حاله، فهو حارث وهمام، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ} [الانشقاق:6]- عام: لكل إنسان- {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، فهذا حارث، أي: كادح يحرث إما معصية أو طاعة، المهم أنه يحرث، وكذلك همام، فإن كل إنسان يهم كل يوم، وكل واحد في هذه الدنيا، كافر أو مؤمن -أياً كان- كل يوم يفكر في شيء ما، ويريد أن يحققه وهكذا، ومن هنا تكون الهمم متفاوتة، وتكون الهمم مختلفة جداً ومتباينة، فالهمة هذه تستنفر العقل، وتستنفر الوجدان. وأكثر وأعظم الناس همة هم الذين يريدون الله والدار الآخرة، وهذه هي الهمة العالية، وشخص يقول: أنا كدحت بعرقي وبجبيني حتى عملت مؤسسة، وصار عندي فروع للشركة؛ والآخر يقول: كدحت واجتهدت حتى أخذت درجة عليا؛ والثاني يقول: أخذت المرتبة العاشرة أو الثانية عشرة، يا سبحان الله! هذا من العاجلة قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27]. أما المؤمنون فإنهم أصحاب الهمة العالية، عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يقول: [[تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما وليتها، تاقت نفسي إلى الخلافة، فلما وليتها تاقت نفسي إلى الجنة]] فهذه هي الهمة العالية، وليس معنى هذا أنه سعى إلى الخلافة ورغبها، لكن قد تأتي كل إنسان خواطر، لو كنت كذا، لو أني حصلت على كذا، لكن الهمة العالية هي بأن يريد الإنسان رضا الله والدار الآخرة، ويريد الجنة جعلنا الله وإياكم من ورثتها.

ميزان العاطفة المجردة والعاطفة الإيمانية

ميزان العاطفة المجردة والعاطفة الإيمانية Q أكثر من سؤال تكرر يقول: ما هو الميزان الذي يزن به الشخص عمله؟ هل هو عن عاطفة مجردة أو عن عاطفة وجدانية إيمانية، وجزاك الله خيراً؟ A هذا الميزان، يا ليته كان موجوداً جاهزاً، فنشتريه، ونضعه في جيب كل شخص، وهذه هي المشكلة الحقيقية، لهذا أنا قلت: هذه وجهة نظر أو مقدمة لِأنْ نبدأ ونبحث عن الميزان، فمن الناحية النظرية -الحمد لله- هو موجود، وكل شخص يقول: كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل السلف الصالح، لكن هذا الكلام المجمل العام لا يكفي، بل يجب أن نفكر، فنسأل أنفسنا: في أي موقعٍ نحن الآن من الدعوة إلى الله؟ ثم ننظر في الأدلة التفصيلية أو الإجمالية أو القواعد، وكيف يمكن أن نسير؟ وأذكر لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه كلاماً جليلاً عظيماً، معناه: أنه ليس العالم أو الفقيه من يقول: هذا حرام، وهذا حلال، وإنما الفقيه أو العالم هو من يعرف أرجح المصلحتين، وأفسد المفسدتين، ثم يفتي بأرجح المصلحتين وبما يدفع أكبر المفسدتين، أي أن تفتي الناس بشيء يحقق لهم أرجح المصلحتين، أو تفتيهم بشيء يدفع أكبر المفسدتين. أما مجرد أن تقول: هذا حرام، وهذا حلال، فيمكن للإنسان، أو نستطيع مباشرة من خلف الميكرفون أي سؤال يأتي أن نقول: هذا حرام، وهذا حرام، والفيديو حرام، والأغاني حرام، والزنا حرام، يمكن هذا، والحمد لله، ويستطيع الناس -أيضاً- ذلك، لكن نحن الدعاة عموماً نفكر بشيء غير ذلك، أي: عندنا أشياء لا شك أنها حرام -كمثل التبرج والسفور- لكن كيف نتصرف لتغييرها؟ وكيف نعمل لننقل ما نشعر به من إحساس بخطرها وضررها ودمارها إلى من يعملونها؟ هذا هو التحدي، وهنا المحز. فنحن نحاول أن نجتهد لمعرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوته وصبره على ذلك، ولا شك أننا إذا قرأنا ذلك، فإنه يعطينا قواعد عامة كما يعطينا أدلة تفصيلية، ونستعين بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تحقيق ذلك، ثم نستعين بآراء إخواننا، وكلما انفرد الإنسان برأي فإنه ينبغي أن يتوقع أن هذا الرأي قابل للاستشارة، وكلما استشرت فإنه أجدر أن يكون إن شاء الله صواباً، وأن يكون خيراً، ولا سيما في قضايا مألوفة ومعروفة، لست أنا أول من يجتهد في تحقيقها إن كانت معروفاً أو في إزالتها إن كانت منكرات موجودة. فإذاً ما دامت الدواعي والمقتضيات قائمة فإنني أنظر إلى من يرى نفس الموقف، ويشاركني ويشاطرني نفس الرأي وماذا لديه من وجهة نظر، ثم أجتهد معه. ولا أكتمكم أن بعض الشباب يستطيع أن يعرف هل هذه عاطفة أو عقل، ويعرف ذلك، وتجاربهم تدل عليه، والدليل على ذلك أن بعضهم يقول: لا يوجد داعي أن أسأل فلاناً، وأستشيره، أنا أعرف رأيه مقدماً، فهذه هي العاطفة، أنت تعرف رأيه مقدماً إذاً لا تستشيره، إذاً تستشير الذي يشير عليك بما تريد، فهذه عاطفة قد تؤدي بك إلى الخطر، وهكذا في أية قضية، وفي أية مسألة، أحياناً العقل يقتضي أن تسأل المعارض لا أن تسأل الموافق، فإن صممت أن تعمل شيئاً فاسأل المعارض، إن كان عنده موانع، قبل أن تعمل، فإن وجدت أنها ليست موانع حقيقية، فإنك تعملها وأنت مطمئن، ولذلك تجد الذي يندفع بهذه الطريقة بعد أن يذهب بعيداً يرجع إلى المخالف، ويقول: يا ليتني فعلت! يا ليتني استشرتك! يا ليتني قبلت! ويكون قد أضاع الفرصة على نفسه.

الخلل في العاطفة

الخلل في العاطفة Q بعد أن بينتم لنا طرفاً من العاطفة، نرجو أن تبين لنا الطرف الآخر الذي قد يؤدي إلى التهاون في بعض المنكرات، مثل: جلوس الناس أثناء الصلاة أي بسبب التعقل الزائد عن المطلوب؟ A نحن عندما تحدثنا كان موضوعنا فيمن يعمل، ولكنه يعمل إما بعقلٍ أو بعاطفة، وقلنا: لا انفصال بينهما في الحقيقة، لكن مسألة الذي لا يعمل، هذه ليست عاطفة، ولا نسميها عاطفة، وحقيقة هذا يحتاج إلى أن ينصح بأن هذا تقصير، وهذا تفريط، وقد يفلسفه أصحابه بأنه عقل, ولا يفلسفونه بأنه عاطفة، فيقول: أنا عاقل، فمن يوم ما التزمت لم أتشاجر مع أحد من الناس! وأنا لا أدري ما هو هذا العقل! شخص استقام ولم تقع له مشكلة مع أحد، فإن هذا عليه أن يراجع نفسه؛ لأنه لا بد أن فيه مداهنة، ولا بد أن هذا من التقصير في الدعوة، ولو دعوت، فلابد أن تجد من يعاديك لذاتك، كما هو الحال الآن، فإنَّ كثيراً من الناس يعادى لذاته، سواء قال حقاً أو باطلاً، فهو عدو، لأنه يدعو إلى خلاف ما عليه هذا المعادي. والتهاون في إنكار المنكر مرض، وعدم إنكاره وعدم اهتمامه بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تقصير وتفريط ومرض، وهو من دواعي عذاب الله، ومن دواعي انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الأمم ومن الأفراد -نسأل الله العفو والعافية- فالضعف الذي يعترينا جميعاً -وكلنا ضعيف- نحتاج فيه إلى أن نتناصح لننهض، ولنقوم، وليس داخلاً كما يخيل لي في موضوعنا الأخص بالذات.

كيفية تنظيم الأوقات للاستفادة منها

كيفية تنظيم الأوقات للاستفادة منها Q نحن نعاني من عدم قدرتنا على تنظيم أوقاتنا، فكما تفضلتم تجدنا يعجبنا كتاب فنشتريه، ثم نرى كتاباً آخر فنترك الأول، قبل أن تنتهي منه وهكذا نضيع كثيراً من أوقاتنا، فبماذا تنصحوننا في توزيع أوقاتنا، والاستفادة منها؟ A هذا الأخ صادق، ومعاناته صحيحة، وكلنا عانينا ذلك، وهذا الكلام، لم أقله لأني بريءٌ منه، بل عانيناه، وما نزال نعاني منه، وكلنا معرضون لعاطفة تفور أو لتفريط وضعف -نسأل الله العفو والعافية- لكن نقول: هذه القضية بالذات هي قضية القضايا من حيث المنهج العلمي عند الشباب، أول شيء أن بعض الشباب يتصور أنه يجب أن يكون هو وجميع من يدعون إلى الله علماء، وهذا من أعظم الأخطاء في هذا المجال. ولذلك تجد أن هذا الأخ المسكين الذي لم يؤهل لأن يكون عالماً يضيع ويتعب، لأنك تكدح به في غير ما خلق له، ما خلق لهذا الشيء، فهو لما استقام واهتدى جئت به إلى شيخ، فجلس أسبوعاً، أسبوعين، أو شهراً، أو شهرين، ثم تعب، ولم يستطع أن يواصل، أعطيته كتاباً أعجب به، قرأه ثم لم يستطع أن يكمله، فأخذ الكتاب الثاني، والثالث، والرابع، والقضية ليست في الكتاب إنما هي في ضعفه. وفي جميع عصور التاريخ العلماء يعدون على الأصابع قلة، لكن هل الدعاة قلة؟ هل من يغير حال الأمة من الشرك إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن البدعة إلى السنة قلة؟ هذا مستحيل، لو كانوا آحاداً لما تغيرت، كيف كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله عليه؟ كيف علمه؟ لكن انظروا كيف كان لما غير المنكرات، ولما حارب التتار، ولما حارب الروافض والباطنية، كانت معه أمم وألوف، والدعوة إلى الله هكذا. نحن الآن مشكلتنا أننا نريد أن كل من يهتدي أو يستقيم، نقصره قصراً، ونصبه في قالب طلب العلم، وبعض الناس يكون مسكيناً، فيترك وظيفته، ويقول: أطلب العلم، وقد يأتيك شخص ضابط، أو يأتيك شخص مهندس، يقول: ما رأيك أدخل الجامعة الإسلامية، أو معهد الحرم! لماذا؟ أنت أين تشتغل؟ يقول لي: كذا وكذا، لكن أريد أن أطلب العلم. يا سبحان الله! ولماذا تطلب العلم؟ ومن قال لك أنك من الضروري أن تطلب العلم، أنت يكفيك أن تحضر وأن تتعلم ما ينفعك من الأساسيات التي تعبد ربك تعالى بها، وتستقيم وتعرف طريقك في الحياة، وتعرف الحق في الجملة، لكن التبحر والتوسع في المسائل هذا ليس من شأنك. ونحن لا نقول هذا تحيزاً ولا تعصباً، لكن بعض الناس يفهم ذلك خطأً. لكن هذا الأخ في موقعه الذي هو فيه ينفع الله تعالى به، ونقول له: أنت ادعُ الناس، وادعُ في مجالك، وانفع الإسلام بما تستطيع في مجال عملك الذي أنت فيه، أما أن تتركه وتأتي لطلب العلم، فهذا غير معقول أن تتحول الأمة كلها إلى طلبة علم يجلسون في المساجد، أو في المدارس ويتحلقون حول العلماء! هذا غير معقول أصلاً. فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم أطهر وأفضل جيل. وأحرصهم على العلم والحق والخير، لكن كم كان علماء الصحابة؟ وكم كان المكثرون من الحديث؟ وكم هم المتعرضون للفتوى من الصحابة وكذلك من التابعين؟ عدد قليل، لكن الكل كان يدعو إلى الله، الكل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يغير بحسب موقعه، وبحسب بيئته، وبحسب ما يستطيع، أما من يتصدر لقضية العلم بالذات فليس كل أحد. فإذاً يا أخي قد يكون بعض هؤلاء -كما شكا السائل- لم يؤهل لأن يكون طالب علم، لكن هذا السائل يمكن أن يبذل من ماله للدعوة إلى الله، ويمكن أن يبذل من وقته في إنكار المنكر، ويمكن أن يبذل من خبرته العملية في معرفة بعض الأمور التي تعين الدعوة على أن تتوسع في المجالات المختلفة، وأن تدخل في جميع القطاعات، فيكون هذا باباً عظيماً للخير، وأنت تريد أن تجعل منه تابعاً صغيراً في الحلقة! فهذا أحد الاحتمالات. الاحتمال الآخر: هو العجلة والملل، فالشاب يمل، ومن طبيعة الإنسان الملل، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لكل عملٍ شرة}، ولكن بعد الشرة فترة، فيأتي الاندفاع، ولكن يعقبه الفترة ويعقبه الضعف، وقد يكون هذا هو السبب. ومما يعين الإنسان على ذلك أنه في الأصل يبدأ بمنهج معقول، فلا يحلم في الخيال، لكن يأتي بشيء معقول يستطيع أن يحققه، ويسلك ذلك مع إخوة له في الله ليعينوه، فكلما ضعف سددوه وأعانوه وساعدوه، حتى يصل الجميع بإذن الله إلى ما يريدون، ولو انضبطت الجوانب العلمية عندنا على مناهج معينة لما وجد ذلك الحرج، أي: يكون عندنا كتب أساسية يجب أن تدرس في العقيدة وفي الفقه وفي غير ذلك، وهذه يجب أن تدرس وأن تعلم بالنسبة للدعاة وطلبة العلم. فمهما وجد الإنسان فيها من تعب أو ملل أو صعوبة فإنه يجب أن يوطن نفسه، وأن يحتسب صبره ليكمل الكتاب، كما يحتسب صبره على طاعة الله، وكما يحتسب صبره عن معاصي الله التي حرم الله، فيحتسب أيضاً صبره حتى يفهم هذه المسألة، وحتى يفهم هذا الكتاب. ثم مسألة أخرى أو جانب آخر، قد تكون أنت مهيأً لأن تكون قارئاً أو مفسراً لكتاب الله، لكن لست مهيأً لعلوم الحديث والرجال، فلا تقصر نفسك على هذا أيضاً، وهذا شيء آخر: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع وبعض الإخوان يريد أن يلم بالأصول وهو لا يستطيع عليها، لكن يقدر في الفقه، فليجعل نفسه في الفقه أو العكس وهكذا. فكن مع سجيتك وطبيعتك وموهبتك التي أعطاكها الله تبارك وتعالى.

أضرار العاطفة في فهم الأحكام الشرعية

أضرار العاطفة في فهم الأحكام الشرعية Q التزمت بدين الله -ولله الحمد- فبدأت بتقصير الثوب، ولبس العمامة؛ لكني وجدت ظروفاً وانتقاداتٍ حزت في نفسي؛ فعدت إلى خلع العمامة وعدم تقصير الثوب، فأصبح زملائي يقولون عني: إني عدت عن الالتزام، وعدت إلى الضلال، فماذا أفعل؟ A نعم! انظر كيف تتراجع العاطفة وتتأرجح إلى العكس، وقد ذكر السائل -جزاه الله خيراً- قضية يقع فيها بعض الشباب؛ فأول ما يبتدئ في الالتزام -فعلاً- يضع العمامة مثلاً؛ فيبدأ الناس ينظرون إليه. فيقول: مالي وللناس؟ أنا اهتديت، ولبست العمامة. أقول: أولاً كما قلت: ما موقع العمامة من الدين؟ بمعنى أنه قبل أن يفكر بذلك، كان عليه أن يسأل حتى عن أحكام الدين أو بعض أموره، فيرتبها أو يسأل عن ترتيبها، فالعمامة ما موقعها؟ والتمسك بها ما موقعه من الدين؟ ثم بعد ذلك ينظر هل المصلحة أن يلبسها في هذا الوقت؟ وما الحكم فيها؟ فيسأل عالماً ممن يفتيه، ويبين له موقعها من الدين، ثم بعد ذلك يقول: هل أطبقها؟ وكيف أطبقها؟ وهكذا في كل شيء. إذاً ليست القضية قضية العمامة فقط، فأنا أعرف كثيراً أو بعضاً من الشباب -والحمد لله- تمسك واستقام واهتدى، فما خطرت له العمامة على بال، لماذا خطرت لهذا وما خطرت لذاك؟ لأن الآخر لا يرى ذلك، وليس لأنه سأل العلماء، فقالوا له: حكم العمامة؛ بل إنه في ذاته قال: لا داعي للبسها، وأنا أجزم أن هذا واقع. وقد يقول قائل: هذه قضية لا فائدة منها. أي أن هناك أموراً يمليها على الإنسان وجدان خاص -مشاعره الخاصة- وكأنه يريد أن يعرف حكمة معينة لديه، وأن هذا العمل ما ينبغي؛ بغض النظر عن كونه قد يطبقه أو لا يطبقه؛ لكن هذا في البداية ومنذ اللحظة الأولى، بعد ذلك تأتي القواعد أو العلم التفصيلي ليضبط لك كل أمر في موضعه، فهناك أمورٌ تعرفها -أنت- بالبداهة وبالتجربة والواقع، وأما بالعلم فهل شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسن أن نلبس عمامة؟! لا بد أن يفكر بها ويضعها هكذا، نقول: لا، حقيقةً ليس هذا مما شرع. ونريد أن نوضح قضية مهمة في هذا المجال، وهي أن التمسك بالظاهر سهل جداً؛ ولهذا إذا أراد المنافق أن ينافق فذلك سهل عليه، كأن يأتي أحدهم ويريد أن يعمي علينا، فإنه سيعفي لحيته مثلاً، ويقصر ثوبه ويأتي ليصلي كما كان المنافقون يصلون خاصة الظهر والمغرب، أما الفروض التي يكون نائماً فيها فلا يأتي. إذاً فالتمسك بالظاهر سهل؛ ولكن ما هو الصعب؟ إنه الإيمان الباطن؛ وكلاهما لا ينفصل عن الآخر، ويجب أن نقيمهما معاً، ولا نتهاون في شيء منهما. بعض الدعاة الآن إذا رأوا الظاهر، يقولون: الأمر بسيط يا شيخ، فالثوب ليس مشكلة، واللحية ليست مشكلة، ونحن لا نتكلم فيهما. فما دامت يسيرة بهذا الشكل فافعلها يا أخي! وحقيقةً أنها تكون يسيرة بالنسبة للإيمان الباطن، لكن لا بد أن نقوم بهذا الدين جملةً واحدة، ونحيط به من جميع جوانبه، واضعين كل شيءٍ في موضعه؛ فكل من لبس العمامة، وحصل له مثل هذا الأخ الذي لبسها على أنها من الدين، فلتكن مشاعرك وأنت تلبسها ليست شعور إنسان طبق سنة؛ بمعنى أني أنا -مثلاً- أو أي شاب مستقيم في سنوات طويلة قرأ في كتاب من الكتب، ووجد سنة من السنن التي طبقها ببساطة جداً. لكن -هذا الأخ- أول ما اهتدى لف العمامة وكأنها ركن، وكأنها رمز الأصالة، ورمز للتحدي للماضي، وكأنه يقول: إني ابتعدت عنكم يا أصحاب الشماغ أو الغتر! وأنا الآن تميزت وانفردت، وأنا كذا وكذا، ولا يقصد العمامة في ذاتها، بل يقصد ماذا؟ أي: أنني الآن استقمت -بمعنى- وكأنه يقول: الآن اهتديت، والآن استقمت فأصبحت في مظهر غير مظهركم، فإنه ومن هذا المنطلق يكون قد انطلق من منطلقٍ سليم ولا شك في ذلك؛ لكن من حيث الحكمة في العمل، ومن حيث تحقيق المصلحة فلا، وأنا أقول للأخ الذي استقام حديثاً: أما بالنسبة للعمامة فإنها لا تلبس، وليست من مجتمعنا. فإخواننا في السودان يلبسون العمامة، فالبس العمامة، ولا بأس في ذلك، فإخواننا المسلمين يلبسونها، وديننا دين -والحمد لله- واسع، ونحن لا نفتي الناس في السعودية، ألا يلبسوا العمامة، فديننا واسع، وأهل كل بلد يجوز لهم أن يلبسوا ما اعتادوا أن يلبسوه ويرتدوه؛ ما لم يكن حراماً. فلتبق عليه ما لم يكن حراماً وما لم يكن إثماً، وحتى إن كان فيه شيء من المكروهات فأخرها قليلاً. وأما الثوب فأيضاً في المرحلة الأولى: أنصح بأن يقتصر الشاب -مع إيمانه القوي بضرورة تطبيق السنة واتباعها- على رفعه عن الكعبين فقط، فيرفعه عن الكعبين بقدر لا يثير عليه أحداً، لأنك الآن مثل إنسان ملك سلاحاً ضعيفاً، أي: بالنسبة للباطل، فسلاحك مسدس -مثلاً- لكنك تستثير عليك من يملك المدافع والقنابل وهذا لا يصح، فبعض الشباب مسكين لما رآه أبوه والثوب هكذا -أي: قصيراً إلى الركبة تقريباً- والعمامة أيضاً، وبدأ أيضاً يترك أصحابه كذلك، وبدأ ينتقد المدرسة وينتقد الحياة بشكل عجيب! لا شك أن هذا يؤدي إلى أن يعتبر الأب أن هذه انتكاسة كبرى، فيصر إصراراً عنيداً على أنه لا بد أن يكون مسبلاً، وأن يكون عاصياً ومجرماً وفاسقاً. فأقول: أما الإيمان فاجعلوه إيماناً حقيقياً باطناً، والأعمال الظاهرة التي قد تثير مشاعر الناس وينتج عنها مفاسد، نطبقها في حدود اجتناب المحرم؛ فأما المحرم فليس فيه نقاش، ويجب أن نجتنبه إلا في الحالات الخاصة، ونقول هذا الكلام: لأن بلاد المسلمين ليست هي السعودية فقط، ولا نستطيع مثلاً أن نتكلم عن واقعنا الآن فقط، فالكلام يجب أن يكون -في الجملة- عاماً. فالواجب أحياناً في مواقع خاصة قد يؤخر لمصلحة الركن؛ لأن الأصل أن نحقق الركن أولاً، فنقوي إيماننا لكي نعرف كيف ندخل إلى هؤلاء الناس من مدخل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ثم بعد ذلك تأتي هذه السنن -بإذن الله- تباعاً. أما إذا جعلنا السنة ركناً؛ فإننا سننسي بقية الأركان، وهذه قاعدة معروفة، وهي أن الإنسان إذا فرط في جانب أو غلا في جانب؛ فلا بد أن يفرط في الجانب الآخر. فـ الخوارج أول ما خرجوا كانوا يرون أن من كذب أو زنى أو سرق -أي: أن من ارتكب كبيرة- كفر وخرج من الملة، حتى آل بهم الأمر -عما قريب- إلى أن أنكروا سورة يوسف، وأنها ليست من القرآن -والعياذ بالله- فالغلو لا يؤدي إلى خير، وإن شئت فقل "الشطط العاطفي" سواء كان في خروج عن الدين أو خروجٍ عن الحكمة أو عن مقتضيات المصلحة. فعلى الإنسان أن يضبط نفسه منذ البداية، وأن يقف الموقف الصحيح ولا يبالي بعد ذلك بكلام الناس. فنقول لهذا الأخ الذي رجع: لا يصح ولا يجوز لك أن ترجع إلى الإسبال؛ لأن الإسبال حرام، وأما العمامة فاتركها، والبس كما يلبس الناس، وليس عليك أي إثم بالرجوع، فإذا قالوا: الآن اهتديت أو عدت. نقول: إنك قد انحرفت عن الالتزام، فلا تبال بكلامهم، وانظر إلى ما يحقق المصلحة. والنصيحة للجميع في مثل هذه الأمور؛ لأننا في مجتمع، ويجب أن ننظر إلى كيف نخاطب مشاعر الناس، فلا نثيرها ولا نجرحها.

أهمية دور الملتزم في إظهار الصورة الحسنة عن هذا الدين

أهمية دور الملتزم في إظهار الصورة الحسنة عن هذا الدين Q إن له بعض الأقارب إما أنهم يسكنون عندهم، أو يأتون لزيارتهم بين آنٍ وآخر، فيرتكبون بعض المنكرات أو المحرمات، فلا ندري هل ننهاهم عن ذلك؟ أو إذا حدثت مفسدة فكيف نفعل؟ وآخر يقول عن والده: إنه متشددٌ ومتعصبٌ لمذهب معين، فإذا فعل ابنه أمراً يخالف ما عليه المذهب؛ يعترض عليه الأب، فماذا يفعل معه؟ A المشاكل كثيرة من هذا النوع، ويجب أن نعلم أن هذا هو الأصل، وأن هذه هي حقيقة الداعية، وأنه لا بد أن نعاني من أمثال هذه الأمور، وإلا لو كان الناس على الصورة الأخرى لما احتجنا إلى دعوة، فلا بد أننا نحتاج إلى الدعوة على أية حال وفي أي زمان ومكان؛ إما للتوجيه فأقول: إن هذا أمر طبيعي، وهنا نأخذ أو نذكر قواعد كلية، أما التفصيلات فكل إنسان بحسب حاله، وكل مسألة بحسبها أيضاً، لكن -في الجملة- الأصل أن الشاب المسلم -إذا استقام- يجب أن يشعر أبوه وأمه وأهله وأقاربه أنه تحول من الشر إلى الخير، وبالذات ونحن نتكلم عن مجتمعنا المسلم -والحمد لله- ولا نتكلم عن إنسان يكون أبوه نصرانياً أو يهودياً ثم يسلم؛ لكن نقول: يجب أن يكون هذا هو الشعور العام في المجتمع، أن الشاب إذا اهتدى فإنه تحول من الشر إلى الخير. وأما أن يوجد شعور عام -يقل أو يكثر- بأن الشاب إذا اهتدى، فقد تحول من الخير إلى الشر، فهذه مشكلة لا نرضاها أبداً، ودليل على خلل في تمسك هذا الشاب، بمعنى أن الأب عندما كان يحبك وأنت على حالك الأول، وكنت تحبه وتخدمه وتطيعه وتذهب به إلى أي مكان - كالخادم أو كالسائق - وتفعل ما يرضيه؛ فإن استقمت واهتديت وتمسكت، تركته وأهملته؛ لأنه يشاهد كذا، ولأنه يفعل كذا، ولأنه يقول في المتمسكين كذا، فأقول: هذا خطأ، وهذا خلل، لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] أي: والديك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] أي صاحبهما بالمعروف حتى وهما يدعوانك إلى الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجاهدانك لكي تشرك بالله، ومع ذلك (صاحبهما في الدنيا معروفاً)، وكذلك إذا شعرت الأم أيضاً أن ابنها لما استقام واهتدى، بدأ ينفر من خالاته وبنات خالاته ومن عماته؛ من أجل موضوع الكشف -مثلاً- فبدأ يتكلم فيهم ويكرههم ويقطع الأرحام، ويفعل كذا، وأصبح شريراً، لكن العكس يجب أن يكون؛ أن يستشعر الجميع: الأم والأب والأهل والمدرس والمجتمع أنه استقام واهتدى، فكان الخير، والدعوة إلى الله خير بلا ريب، حتى وإن خالفها من خالفها، فهم يعلمون أنها خير ولكنهم لا يجرؤون على الكلام، فأكثر ما يتكلمون عنه هو تصرفات الشباب، وقليل منهم الذي يتجرأ فيتكلم في نفس الطاعة، أو في نفس السُّنة، بل إنه يقول: لا، فالدين طيب ويسر، إنما يتكلمون في التصرفات. ولهذا أقول: يجب أن تكون التصرفات بما يضمن -بإذن الله تعالى- أن نكسب هؤلاء الناس، فإذا لم تستطع أن تكسب أقرباءك للدعوة، فمن تكسب بعد ذلك؟! فاصبر وتحمل، وأكرمهم، وأحسن إليهم , واحترمهم وقدرهم، حتى يشعروا بأنك لمَّا استقمت واهتديت بذلت لهم من الخير أكثر، فبدأت تطيع والديك أكثر، وبدأت تحب إخوانك أكثر، ولكن واجب هذه المحبة وهذا الحرص أن تقول لهم: يا أخي! اتق الله، يا أبي ويا أمي! هذا حرام، يا أخي! إني أخاف عليك عذاب الله، كما ذكرنا في مناظرة الخليل عليه السلام وموعظته لأبيه، وكما كان حال الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم والدعاة إلى الله جميعاً. وبعد ذلك من كُتِبت له الهداية سيهتدي، ومن لم يهتدِ فسيظل يحبك على الأقل، وذكرنا مثال أبي طالب، وأنه لم يهتدِ، ولم يؤمن، لكنه كان يحب صاحب الدعوة صلوات الله وسلامه عليه. فالمقصود أنه يجب أن تكون أخلاقنا ومعاملتنا أفضل وأكرم وأحسن منها في حالة استقامتنا من ذي قبل، وأن يكون الحب وجلب الناس وكسبهم إلى الخير هو رائدنا، حتى ونحن نتكلم مع صاحب المعصية، نعم أقول هذا! ولا تعتبروه استطراداً -إن شاء الله- لنفرض أنك مررت -كما نشاهد الآن- بمحل يبيع أفلام موسيقى أو محل فيه أشياء محرمة والله المستعان، فعندما تخاطبه لا تخاطبه بأنك -أنت- مستقيم ومتمسك، حتى ولو لم تقل هذا أحياناً، لكنه شعورك. فلو بدأت مع أي إنسان تخاطبه: كلنا مقصرين، وقد يمكن أنك أكبر مني سناً أو أصغر مني؛ لكن الحقيقة أنه بدافع المحبة، أحببت أن أقول لك كلمة وإن شاء الله تنفعك ففكر فيها وإذا كان عندك فيها نظرة فأنا مستعد أن أتفاهم معك فيها إلى أن تقول له: إن هذا حرام وكسبه حرام؛ بلطف وبأدب جم، وعندها يرد الرجل: فيك الخير، وجزاك الله خيراً، وأنا كذا. فالحمد لله! الغالب -إن شاء الله- أن مجتمعنا فيه فطرة، لكنك لو أشعرت الناس أنك أنت مستقيم، وأنهم منحرفون ضالون زائغون، وليس فيهم فائدة وليس فيهم خير؛ فتأكد أن هذا لن يُؤدِّي -أبداً- إلى استجابة ولا إلى ثمرة؛ لكن خذ الناس بالحسنى وباللين، بل حتى لو قلت شيئاً مما لا يستحقونه -أحياناً- من بعض الثناء بقصد أن تجلبهم إلى الخير، فهذا -إن شاء الله- لا حرج فيه، ولا يعد من الكذب إن شاء الله.

كيفية كبح جماح الشهوة

كيفية كبح جماح الشهوة Q كنت أزاول العادة السرية، ولكن الله منَّ عليَّ بالهداية بعد أن عرفت أضرارها وعقوبتها؛ ولكن مشكلتي هي أنني تثار لدي الغريزة الجنسية لأدنى سبب، فما هو العلاج لذلك، وجزاكم الله خيراً؟ A أولاً: حقيقة أن هذه الغريزة مشكلة؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلها غريزة طبيعية وجبل الناس عليها هكذا، فدخل منها أعداء الله، ودخل منها المجرمون والمفسدون والَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، فدخلوا من باب هذه الغريزة؛ فهذا يبيع الأفلام، وهذا يبيع المجلات، وهذا يفعل الدعاية لبضاعته عن طريق النساء، وهذا يروج بالحرام و، فنجد أنه تستثار هذه الغريزة بشكل يخرجها عن موضعها الصحيح، أما نحن فلا رهبانية في الإسلام -والحمد لله- ولسنا من النصارى في شيء في هذه المسألة، ولا من البوذيين أو غيرهم؛ فديننا دين الإسلام الذي يعطي كل شيء حقه. فهذه الرغبة وهذه الغريزة أو هذه النزوة لا بد أن تشبع؛ لأنها أمر فطري جبلي، وأما هذه الدوافع وهذه المثيرات في واقعنا الآن فإنها قد خرجت عن حدها، وخرجت عن طورها؛ بحيث أصبح الشاب مشدوداً ليل نهار إليها؛ فإن دخل مكتبة وجد قصص الغرام، وإن التفت إلى المجلات فكلها صور نساء إلا ما رحم ربك في بعض المكتبات، وإن رأى الأفلام فكذلك، فكل ما يجد ويرى يثيره ويشده. فنقول: أولاً: هذه مسئولية تقع على أعباء المجتمع بأكمله، وكل إنسان مسئول -بحسب موقعه ومكانه- بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل حادثة زناً تقع نتيجةً لهذه الإثارات، فكل من أثارها -أو أذن بأن تثار- مسؤول بين يدي الله بقدر تفريطه في إثارتها، الذي يستطع باليد مسئول أن يغير ذلك؛ الذي يستطيع باللسان مسؤول أيضاً وإن كان أقل مسؤولية. وهكذا فالمسئولية مشتركة على الجميع، ونحن لا نقول: إنها دائماً مسئولية الحكام، أو مسئولية العلماء والدعاة، أو المدرسين؛ لأننا كلنا مسئولون بين يدي الله؛ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته} فكلنا مسئول بين يدي الله تبارك وتعالى عن الترويج للفواحش في مجتمعنا المسلم الطاهر. وهذا الأخ قد ذكر مسألة الإثارة، والإنسان مهما كانت قوته إذا لم يتعرض للمثير فإنه لا يستثار؛ وقد يكون هناك أناس لديهم خروج عن المألوف، ولنفرض أن إنساناً ما، عنده حالة مرض؛ فأصبح يريد أن يعاشر أو يباشر بشكل غريب جداً، فأقول: إن هذا صار مرضاً؛ لكن كقاعدة عامة فالأصل أن السبب هو الإثارة، وإن كان - هذا الأخ- ممن مرض وصار لديه المرض؛ فليذهب إلى أي طبيب ممن يعالج الأمراض التناسلية ولا سيما إذا كان ديناً موثوقاً به، والآن وبفضل الله لا يوجد تخصص إلا وفيه من يوثق بدينه -والحمد لله- وليتعالج على يديه، وربما يعينه بشيء من المهدئات، والمقصود أن لديه العلاج فهذا اختصاصه. وتأتي مسألة أخرى إذا لم يكن مرضاً؛ وإنما كان بعامل المثيرات فما الحل؟ الحل -وهو للجميع- كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] فلا بد من غض البصر، ولا بد من حفظ الفرج، وأن يصرف الإنسان هذا الوقت وهذه الطاقة فيما يبعده عن ذلك، فيذهب إلى إخوة له. فكلما كان مع إخوة في الله كلما كان أبعد، وإذا كان وحده فليتذكر اليوم الآخر، وليتذكر سكرات الموت وعذاب القبر، ثم يتذكر الوقوف خمسين ألف سنة بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والشمس على مسافة ميل، وكل إنسان منهم من يبلغ عرقه إلى أن يلجمه ومنهم يبلغ عرقه إلى الترقوة، ومنهم يبلغ إلى السرة، ومنهم من يبلغ إلى الركبة، فكل إنسان في هذا الموقف العظيم يتذكر ما أمامه من أهوال. أقول: كلما تذكر الإنسان هذه القضايا يجد أنه لا مجال ولا مكان لمثل هذه النزوات أن تستعر وأن تلتهب، والله المستعان.

المغالاة في الحب وأضرارها

المغالاة في الحب وأضرارها Q ذكرت الحب في الله، والغلو في الحب، فكيف يكون الحب في الله حقاً؟ ثم إن المغالاة في حب الصاحب قد ذكرت أنها تؤدي إلى البغضاء في المجتمع، أتقصد أن نحبه في إطار محدود؟ وأقول أيضاً: إني أحب جميع علمائنا ومشايخنا، لكني إذا رأيت أحد إخواننا في الله يعايش أحد المشايخ الذين أحبهم تهب فيَّ الغيرة نرجو النصيحة؟ A أقول: أولاً الحب في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لدينا كالشمس في رابعة النهار؛ كيف كان حب المهاجرين للأنصار وحب الأنصار للمهاجرين؟ وكيف كان حب المتآخين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وكيف كان يحب بعض الصالحين بعضاً؟ وهذه والحمد لله واضحة، وأقصد في الجملة التي نريدها الآن: الانضباط وعدم الغلو. وأما مسألة المغالاة في الحب فقد تؤدي إلى البغضاء. فإذا غاليت أنت في حب أحد فهذا يؤدي بمن يخالفك إلى أن يبغضه، ولو أنك كنت معتدلاً قائماً بالقسط؛ لربما كان مثلك معتدلاً أو قريباً منك، لكن عندما غلوت في الحب غالى هو أيضاً في البغض، وهكذا عادة الناس أنهم يقابلون الشيء بضده في الغالب، فإذا أخذهم الإنسان بالحسنى وقرب إليهم الأمر اقتربوا منه، وهذا هو المقصود. أما بالنسبة للإخوة الذين يجمعهم عمل واحد أو مدرسة واحدة أو أي أمر من الأمور المشتركة، فإنه إذا غالى أحدهم في حب إنسان، فإن الحسد يدب في قلوب الإخوة الآخرين فيبغضونه ولا ذنب له، وهذا قد يؤدي إلى نوع من القطيعة وهي مجربة ومشاهدة في الواقع. أما قوله: إنه يحب جميع العلماء والمشايخ فهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لكنه إذا رأى أحد الإخوة يعايش أحد المشايخ تدب فيه الغيرة، فإن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعرض لمسألة الصوفية كيف يريد كل شيخ أن يكون المريدون له خاصة، وإذا انتقل المريد إلى شيخ آخر تكون العداوة ونحوها، فإن شاء الله نحن أبعد شيء عن هذه الضلالات. لكن إن كانت المسألة مسألة الحرص على الخير، تقول: يا ليتني كأخي فلان، أي غبطةً وحرصاً منك على أن تكون مثله، تعايش العلماء وأهل الخير، وتكتسب منهم فلا بأس -إن شاء الله- إن كان هذا هو المقصود والعبارة خانتك، وإن كان غير ذلك فهي عاطفة ينبغي -كما ذكرنا- أن تهذب.

أخطاء الشباب في انتقاد العلماء

أخطاء الشباب في انتقاد العلماء Q ما رأيك في بعض الشباب الذين إذا رأوا خطأً واحداً من أحد العلماء فإنهم يتركون جميع مؤلفاته وجميع ما قدم وجميع آرائه؟ A علماء الأمة هم خيرتها وصفوتها، ومن فضل الله تبارك وتعالى أنه لا يزال في كل زمان وفي كل عصر من يرفع راية الجهاد وراية الحق ويقول الحق، وتجد من يسير وفق القواعد الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح، وهؤلاء هم منارات الهدى للأمة، وإن من حبنا لديننا، واحترامنا وتقديرنا له أن نحب ونحترم ونقدر علماءنا، وأظن أن هذه قضية أساسية والتفريط فيها لا يجوز بأي حال من الأحوال. أما مسألة أن البعض إذا رأى عالماً قد أخطأ في مسألة فإنه يترك الكل، فهذا حيف وجور، وظلم وعدوان، وإن من الوصايا العشر التي أوصى الله تبارك وتعالى بها في كل كتاب وجاء بها كل رسول قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] فبعض الناس لأنه يعلم أن شيخاً أخطأ في مسألة يقول عنه: ليس عنده علم، أو ليس فيه خير، أو كذا، فسبحان الله!! هذا ليس من العلم، وأيضاً يقول تعالى {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء:183] وبهذه المناسبة في أحد أعداد مجلة البيان -وتعرفونها جميعاً- كتب أحد الإخوة عند هذه الآية جزاه الله خيراً، وأنا أنصحكم بقراءتها. ونحن لا نبخس الكافر شيئاً، فلو جاء إنسان وقال لك: إن أمريكا متأخرة، وليس عندها شيء، ومطاراتها وطرقها غير جيدة، فهل تقول له: هذا صحيح ما داموا كفاراً؟ بل نقول: هذا كلام خاطئ، فلا نبخس الناس ما عندهم ولو كانوا كفاراً أو مبتدعين أو غير ذلك، فكل إنسان يجب أن يأخذ حقه، كافراً أو مسلماً ولا نبخسه حقه أياً كان؛ بل نعدل في القول ونكون كما أمر ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] وفي الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] وهكذا يجب أن يكون الشباب المسلم بإذن الله. وننبه إلى مسألة أن العلماء ليسوا معصومين مبرئين من العيوب. وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه فقد يقال عن العالم الفلاني أنه مقصر في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذاً نترك علمه وفضله؟ فنقول: سبحان الله!! لم لا يقال عنه جزاه الله خيراً، فقد بحث وحقق ومحص حتى يقول لنا حكم الله في كثير من المسائل. ولا يعني ذلك أننا نقتدي به إذا كان مقصراً فنقصر مثله، ولكن نأخذ منه العلم ونجبر التقصير؛ فكلنا أمة واحدة نسعى إلى الخير والتكامل، حتى لو استطعنا أو كان منا من يستطيع وبأسلوب وأدب جم أن يقول للشيخ: يا شيخ! لو تنكر ولو تتكلم ولو تفعل، فهذا أيضاً من الخير، ولا ندعي العصمة لأحد؛ بل ننصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وهؤلاء من الأئمة، وأئمة العلم كأئمة الحكم ينصح لهم، فننصح لهم من جهة، ولا نقول: لا يليق بنا أن نفعل ذلك فهم علماء، فكيف نرد عليهم؟! ومن جهة أخرى لا يعني ذلك أن نترك ما عندهم من خير أبداً، فكما أن من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينكر المنكر، فلا يعني ذلك أن يكون عالماً أيضاً، فالإنسان قد لا يُلم بالمواهب المتعددة، فبعض الناس برز خطيباً وأعطاه الله تبارك وتعالى موهبة الخطابة، فإذا زعمنا أنه عالم وعارضنا فتوى العالم بقول الخطيب فيها برأيه فهذا خطأ؛ لأن هذا خطيب وهذا عالم، وكل إنسان له مجاله، وكل إنسان له طاقته، والمقصود أننا لا نبخس الناس أشياءهم.

تغليب المصالح على المفاسد

تغليب المصالح على المفاسد Q لو ترتب على قول الباطل حقٌ ظاهر أكبر من الباطل، فهل يجوز قول الباطل في هذه الحالة؟ A أولاً: لا يصاغ السؤال هكذا، بل نقول: لو ارتكبت مفسدة ظاهرة، أي: مفسدة من أجل مصلحة ظاهرة، فهل يجوز أن ترتكب المفسدة سواء كانت قولاً أو فعلاً؟ أي: نرتكب مفسدة من أجل تحقيق مصلحة أكبر، والجواب أن القضية هي قضية أننا (ندفع أكبر الضررين، ونرتكب أخف المفسدتين، لنحقق أكبر المصلحتين) أي: ليست الأمور دائماً كما يقال في المثل: أبيض أو أسود، لا، لكن أحياناً قد تأتي أمور مشتركة، فأنت لا تستطيع أحياناً أن تنكر المنكر إلا بتلبسٍ بشيء منه -مثلاً- أو بشيء مما يسببه هذا المنكر، ففي هذه الحالة نعم لا بأس بذلك.

الخروج عن المألوف

الخروج عن المألوف Q هل يعتبر إظهار بعض الأحكام غير المنتشرة خروجاً عن المألوف؟ A نعم يعتبر خروجاً عن المألوف، فتقصير الثوب إلى نصف الساق يعتبر خروجاً عن المألوف، لكن هل كونه خروجاً عن المألوف يعني أننا لا نطبق السنة؟ فالمألوف هو ما يقتضي أنه يكون طيباً أو حقاً، ولكن المألوف عند الناس اليوم هو الإسبال، فإذا قصرت خرجت عن المألوف؛ لكن هل خرجت عنه إلى حق أم إلى باطل هذه مسألة أخرى. فنقول: ما كان مألوفاً في الناس فإننا نتعامل فيه بحكمة حتى يكون الخروج عنه، وهناك أمور يصدع بها، كمسألة الشرك والتوحيد، فيجب أن نصدع بها، ولا تقبل النقاش، فهناك أمور نقولها بهدوء، أو بتدرج، وهناك أمورٌ نؤخرها، بل وربما هناك أمورٌ لا نذكرها، فهي على سلّم ودرجات، وهذا هو المقصود. فالمألوف منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل، وليس المعيار عندنا هو المألوف في الحكم، لكن المعيار للمصلحة. إذاً كيف يكون موقفنا من هذه المسألة؟ فمثلاً إذا كنت في بيئةٍ كبيئتنا هذه، فيمكن أن تقف في أي مكان وتتكلم في الصوفية، وتقول فيها ما هو حق إن شاء الله، لكن لو ذهبت إلى بلد كله صوفية، فإذا قمت مباشرة وتكلمت في الصوفية، فإن هذا لا يكون -في الحقيقة- من النصيحة ولا من الحكمة؛ لأنك خرجت عن المألوف، بينما هو يعتبر هنا متماشياً مع المألوف، ولا يعني ذلك أن المألوف هناك حق أو أنه سنة.

مجاهدة النفس في الطاعات

مجاهدة النفس في الطاعات Q أحياناً لا أجد القدرة على حفظ الورد الذي فرضته على نفسي من القرآن؛ بحيث أجد في نفسي إعراضاً وضيقاً، وهذا لا يحدث قليلاً بل كثيراً مما أدى إلى استيائي وخوفي من سوء العاقبة، فما العلاج، جزاك الله خيراً؟ A إن الله لا يمل حتى تملوا، فالإنسان يأخذ نفسه باليسر، فإذا كان الأخ قد ألزم نفسه بقسط كبير فليخففه، وإذا وجد أن نفسه غير قابلة لهذا الخير، ولهذا النور العظيم، وأنها قد صدأت وأظلمت؛ فليرققها قبل أن تتسلط عليه، وليعظها وليذكرها بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وليعالجها؛ ثم بعد ذلك يأتي إلى ما يريد من الخير، ولا يكره نفسه على أمر هي تكرهه؛ فربما تنفر منه، ولا شك أن هذا دليل على شيءٍ في القلب، وقلَّ من ينجو قلبه من مثل ذلك، وهذه حكمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأنت قد تخشع في صلاة الفجر ولكنك قد تجد قلبك قاسياً في صلاة الظهر، سبحان الله! وهكذا في المغرب والعشاء رغم أنهما متقاربان، فتجد خشوعاً في هذه وقسوة في تلك، وهكذا تجد أننا نحتاج إلى أن نجدد وأن نتعاهد إيماننا، وأن نأخذ أنفسنا بما نستطيع ولا نكلفها ما لا تستطيع، وأن نجاهدها في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنجدد إيماننا دائماً، ونذكر أنفسنا باليوم الآخر، وبما أعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الفوز العظيم لمن أطاعه، ومن الشقاء والعذاب -عافاني الله وإياكم- لمن عصاه وخالف أمره، وأن نُذكِّرها بحال السابقين الصالحين لتقتدي بهم وتتأسى بهداهم وهكذا، فلعلها تستنهض الهمة فيها -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يشق الإنسان على نفسه فيصبح في مثل هذه الحالة الحرجة.

أمثلة على ارتكاب المفسدة لجلب المصلحة

أمثلة على ارتكاب المفسدة لجلب المصلحة Q عندما أجبتم على جواب تقديم المفسدة على المصلحة أو ما شابه ذلك، يقول: نرجو التوضيح ببعض الأمثلة حتى يتضح الأمر في أذهاننا؟ A المفسدة أو المصلحة كثيرة جداً في واقع الحياة، فمثلاً: إذا أردت أن تنكر على إنسان يسمع الأغاني، فأول ما تفعله هو أنك إذا زرته فدخلت ورأيته يسمع الأغاني، فهل تبدأ بإقفالها؟ بذلك يمكن أن تتشاجرا معاً، فأنت في هذه اللحظة ستسمع الموسيقى أثناء كلامك له، ولكن من أجل إفهامه. أو إذا كان المنكر هو التدخين، أو شيئاً من هذا، فالتلبس -أحياناً- بشيء مما فيه مفسدة لا بأس به، بل ربما تدخل على من هو أشنع من ذلك كمحل فيديو مثلاً فتراه يعرض أشياء محرمة أو شيئاً من ذلك، حتى وأنت تكلمه فإنك تعرض عِرْضك لشيءٍ من الشبهة، فلو مر أحدهم فربما يقول: هذا يريد أن يشتري فيلماً، فيظن بك ذلك، فهذا فيه مفاسد كدخولك ورؤيتك وسماعك، وهكذا بعض الإخوان يكون ذلك في حقه واضحاً جداً وأكثر، كالإخوان في الهيئة أو الجمارك أو الإعلام والمراقبة، فهو يرى المنكر نفسه، فيرى هل هذه المجلة تدخل أم لا تدخل ويتصفحها، فيرى فيها الصور المخزية -أحياناً- وغيرها. فنقول: مثل هذه المفاسد تهدر ولا ينظر إليها؟ لأننا نحق مصلحةً عامةً فوق ذلك، وأهم من ذلك وهو درءُ هذه الأمور بالكلية إن شاء الله تعالى. والأمثلة أعتقد أنها يومية ومتكررة بالنسبة لمن يمارس الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

المنهج العلمي للطالب المبتدئ

المنهج العلمي للطالب المبتدئ Q كيف يبدأ الإنسان بطلب العلم وما هي الكتب التي يبدأ فيها؟ وما هي الوسائل التي ينتهجها لذلك؟ سؤال آخر يقول: إن فضيلة الشيخ سفر قد بدأ بكتابة رسالة توضح كيف تكون بداية طالب العلم، فنرجو أن يكون ذلك صحيحاً، وكذلك نرجو التنويه على ما ذكرناه في السؤال؟ A بالنسبة للمنهج العلمي، فلا يخفى عليكم في الجملة ما يجب أن يبدأ به طالب العلم، والرسالة التي ذكر الإخوة أو الوريقات، -ولعل الله تعالى أن ييسر لتكتب- ما هي إلا شيء مما يعين على ذلك، وإلا فالأمر واضح، وعندنا -والحمد لله- مناهجنا المعروفة الآن والمقررة في المدارس الخيرية في المساجد. وأظن أنكم تعلمون جميعاً ما يدرسه الدعاة -غالباً- وهذه كلها منضبطة والحمد لله على هذا الشيء، وهو: البدء بالمتون الأساسية حتى تتدرج، ففي التوحيد -مثلاً- الأصول الثلاثة، ثم القواعد الأربع، ثم كتاب التوحيد، ثم فتح المجيد، ثم تيسير العزيز الحميد، وفي موضوع العقيدة -الأسماء والصفات- تؤخذ الواسطية، ثم الحموية بعد ذلك، ثم تنتقل إلى شرح العقيدة الطحاوية إلى أن تقرأ في مجموع الفتاوى وأمثاله. فأما في الفرق -مثلاً- فتأخذ شيئاً مبسطاً ثم تتوسع، وفي التفسير أرى أن تبدأ بـ تفسير ابن كثير ولا أرى غير ذلك. لكن يمكن أن تبدأ بقراءة الكتب التي تعرف المعاني مجملةً، فيعرف المراد منها في الجملة، ثم بعد ذلك تتدرج في معرفة أنواع التفسير والأحكام والخلافات والاستنباطات، وأمثال ذلك، فهذه أظنها بدايات طبيعية، والكتب إن شاء الله تعالى يعرفها ولا يجهلها الكثير، وما وعدت به أرجو أن يعينني الله تعالى على تحقيقه. والحمد لله رب العالمين.

كيف ندعو إلى الله

كيف ندعو إلى الله الدعوة إلى الله تعالى هي طريق الأنبياء والمصلحين، وهي أحسن قول يقرب من الله عز وجل، لكن هذه الدعوة لابد لها من ضوابط وآداب ينبغي مراعاتها، ومن هذه الضوابط وجوب مراعاة التعامل مع كل فئة بحسبها، فمن كان متقبلاً للدعوة فأسلوب التعامل معه يختلف عن أسلوب التعامل مع المعرض عنها، كما يختلف عن أسلوب التعامل مع المحارب لها.

مكانة الدعوة

مكانة الدعوة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين، الذي دعا إلى الله حق دعوته وجاهد في الله حق جهاده، وكان قدوةً ونموذجاً ومثالاً لما يريد الله -تبارك وتعالى- من الدعاة إليه إلى أن تقوم الساعة، وبعد: فنشكر الله تبارك وتعالى الذي وفقنا وإياكم إلى أن نكون من الدعاة إليه، السائرين على منهج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، وأسأل الله عز وجل لنا ولكم الثبات والإخلاص والعزيمة، إنه سميع مجيب. إن أمر الدعوة إلى الله من الفقه، وفقه الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ليس من الفقه الكبير؛ أي: من فقه الأحكام والفروع، بل من فقه الأحكام الأكبر؛ الذي هو: توحيد الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، فلما كان أشرف شيءٍ وأعظمه في هذا الدين هو توحيد الله تبارك وتعالى، وكانت الدعوة وسيلة إلى توحيد الله، فإنها تكون أعظم الفقه، فهي من الفقه الأكبر الذي يجب على الدعاة إلى الله وعلى طلبة العلم أن يعرفوه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}. إن منهج الدعوة إلى الله دين، فهو لا ينفصل عن التوحيد ذاته، وعن الأوامر الربانية، فهو من جملتها، وهو منهج اتباع لا ابتداع. إن هذا الدين أنزله الله تبارك وتعالى لكل زمان ومكانٍ، وفرضه على البشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالأحوال تختلف، ولكن الذي لا يتغير أبداً هو هذه الأصول الثابتة في الدعوة إلى الله، والتي لو اتفق عليها الدعاة إلى الله، وسار طلبة العلم على نهجها لما اختلفوا إلا فيما يجوز الاختلاف فيه.

سبيل الدعوة وغايتها

سبيل الدعوة وغايتها

نقاط في طريق الدعوة

نقاط في طريق الدعوة هناك نقاط مهمة ينبغي للداعية أن تكون نبراساً في طريق دعوته إلى الله:

الإخلاص

الإخلاص يجب علينا أن نراجع أنفسنا دائماً وكل حين في قضية الإخلاص، في هذا الأمر العظيم، فإنه النقطة الأولى في طريق الدعوة، التي لا يجوز ولا ينبغي أن نتجاوزها إلى ما بعدها إلا وقد تحققت، وهي أن تكون دعوتنا خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا دعونا الى الله، ائتلفت القلوب بإذن الله تبارك وتعالى، وتحقق الخير.

لا نستعجل النتائج والثمرات

لا نستعجل النتائج والثمرات وحينئذٍ لا نستعجل النتائج والثمرات، لأننا ندعو إلى الله، والله هو الذي تكفل بقيام هذه الدعوة، فما علينا إلا البلاغ، ولسنا بأكثر في ذلك من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] فلذلك لا نخطئ الطريق.

لا نقيس عمر الدعوة بالزمن

لا نقيس عمر الدعوة بالزمن فلا نقول: لم يتحقق هدف الدعوة إلى الله كما تقول بعض الدعوات: مضى علينا كذا من الزمن ولم يتحقق الهدف، هذا لا يوجد عندما ندعو إلى الله، إنما يوجد المحاسبة والمراجعة، وإن دعونا إلى الله حقاً، وعلى المنهج الصحيح، فالثمرة متحققة ولابد ولو لم يكن من تلك الثمرة، إلا أننا دعونا إلى الله. هذه ثمرةٌ عظمى أننا عرفنا طريق ربنا -عز وجل- وسبيله، ودعونا إليه سواء استجاب لنا أحد أو لم يستجب، فلنا أسوةٌ بالأنبياء الكرام، الذين رآهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال: {رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط، أو الرهيط، والنبي وليس معه أحد}. إذاً ليست المسألة حساباً عددياً، أو بكثرة الأتِّباع أيضاً، وإنما هي بالاتباع لا بالأتباع، أدعو إلى الله على بصيرة، وبالحكمة، كما في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125].

الدعوة إلى الله على بصيرة

الدعوة إلى الله على بصيرة تفكروا في هاتين الكلمتين: كلمتان لو بحثنا في اللغة العربية، فلن نجد أدق وأبلغ منهما في معناهما الذي تؤديان إليه (على بصيرة) و (بالحكمة) ماذا يعني ذلك؟ البصيرة: تعني: العلم، وهل يمكن أن تصف جاهلاً بالبصيرة؟! أو تصف أي يائس قنوط بأنه على بصيرة؟! أو تصف المتهور بأنه على بصيرة؟! والبصيرة تعني أيضاً الثبات، والبصيرة تعني معنى الحكمة، والحكمة تدل على البصيرة، والحكمة لم توصف، فقد وصف الله تبارك وتعالى الموعظة بالحسنة، ووصف المجادلة بالتي هي أحسن، أمرٌ فوق أن يكون حسناً، بل بالتي هي أحسن، ولكن الحكمة لم توصف، والبصيرة كذلك، لأن الكلمة في ذاتها تدل على الكمال، ولو حدث خللٌ أو نقص لما كانت بصيرة، ولو حدث عيب في الأسلوب لما كانت حكمة. وكلمة الحكمة تطلق على: 1 - القرآن. 2 - تطلق على السنة. 3 - وتطلق على الدين. 4 - وتطلق على الحق. 5 - وتطلق على كل رأيٍ أو فعلٍ صواب. كما أن كل تصرفٍ حسن حق يوصف صاحبه بأنه عمله على بصيرة، على حجة من الله وعلى علم وعلى دراية بثمرته أو بنهايته. إذاً لابد أن تكون على بصيرة. ثم قال: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، سواءٌ كان: على بصيرة أنا ومن اتبعنى، أو بالمعنى المفهوم للآية بحسب الوقف، وهي أن تكون الدعوة على بصيرة، إما الدعوة على بصيرة، أو أنا ومن اتبعني على بصيرة، وكلاهما يُؤدي إلى مفهوم واحد، وهو أن اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعون إلى ما دعا إليه من البصيرة وإلى ما دعا إليه من الحكمة. وهنا نقف -قليلاً- عند مسألة وهي: هل نحتاج إلى أن نجتهد ونفكر في مناهج وطرائق للدعوة إلى الله، حتى في دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل نحتاج إلى أن نفرد أحاديث معينة، ونتخيل أنها هي أحاديث الدعوة؟ في الحقيقة لو تأملنا لوجدنا أن حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها دعوة، منذ أن نزلت عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1 - 2] إلى أن لقي الله، كل حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة إلى الله. إن حارب المشركين فهي دعوة، وإن ربَّى المؤمنين فهي دعوة، وإن وعظ في المسجد فهي دعوة، وإن أخذهم للجهاد فهي دعوة، وإن علمهم الأحكام فهي دعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله انظروا هذا التكامل لو ارتقت آفاقنا وأذهاننا إليه، كيف يكون حال الدعوة إلى الله؟! لم يكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفتياً عالماً، يفتي الناس في أمور الدعوة، ثم يذهب إلى منزله، والناس يفهمون الفتوى ويطبقونها ويتصرفون فيها كما شاءوا، لم يكن هذا من هدي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط، ولم يكن كذلك قائداً سياسياً، يدبر الخطط، ويدير الأمور، ولم يكن كذلك قائداً حربياً يرسم الخطط، ثم يأمر الجيش بأن يطبقها، ثم ينتهي الأمر. إنما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً إلى الله في كل حال من أحواله، أو يذكر الله، حتى وهو يقوم الليل كان حاله كله دعوة، فقد كان يُعلِّم أصحابه الدعوة إلى الله، وُيعلِّمهم كيف يتزودون في الدعوة إلى الله عز وجل. ولهذا لا نحتاج إلى أن نقول: كيف ندعو؟! ومن هذا نفهم قضية أساسية في فقه الدعوة، وهي أن الدعوة إلى الله، يجب أن تشغل كل وقت الإنسان الداعية إلى الله عز وجل، وإن الدعوة إلى الله تحتاج إلى أن تفرغ لها كل طاقتك، ووقتك، وجهدك، إن أعطينا الدعوة فضول أوقاتنا فلن تقوم دعوة، ولن تنجح، ولا نسمى دعاة، ولا نستطيع أن نصف أنفسنا بأننا دعاة. ولا يعني ذلك أن يتخلى الإنسان عن عمله أياً كان! انظروا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أصحابه الكرام، لم يتخلوا عن أعمالهم، بمعنى الانقطاع الكامل عن الدنيا والالتحاق بأهل الصفة، ما فعلوا ذلك، وإنما كان التاجر في تجارته هو داعيةٌ إلى الله، والمحارب في جيشه هو داعية إلى الله، والطالب في طلب العلم كذلك، وكل واحد منهم كان يقوم بحق الزوجة وبحق الأبناء وبما فتح الله عليه من أعمال دنيوية، ومن خلال ذلك هو متبع لطريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو داعية إلى الله. ومن أولى منهم بذلك؟ لا أحد، ومع ذلك كان هذا طريقهم، وكانت الدعوة إلى الله هي روحهم وحياتهم وهدفهم كله، ليس هناك من هدفٍ آخر لديهم، بل عندما قال بعضهم: إن الله قد أظهر دينه، وأعز نبيه، فلو أننا ذهبنا إلى أموالنا، وإلى ضياعنا، أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] كما فسرها أبو أيوب رضي الله عنه، فكان الانصراف عن الجهاد والدعوة، والاشتغال بالزرع والضياع، كان ذلك هو الإلقاء إلى التهلكة. لكن المطلوب أن نظل كما كنا ندعو إلى الله، ومع ذلك نتزود لدنيانا، ونقوم بحق أنفسنا، وحق أهلينا، ولكن من خلال دعوتنا إلى الله عز وجل. ولهذا لما انفصلت وسائل الدعوة، ولما أصبح الدعاة إلى الله إما عالماً يفتي ويعلم، ولكنه لا يربي، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يعايش ويعاني واقع الدعوة عند العامة والخاصة، حصل خلل كبير، وإنه لأمر مؤسف، مع ما فيه من خير وثمرة مرتجاة للدعوة، وكذلك تحول بعض الدعاة إلى طاقات نشطة تعمل ليل نهار في الدعوة، ولكن على غير علم، وعلى غير بصيرة، فكانت النتيجة ليست بالثمرة الصحيحة، فهي إن سلمت من الابتداع، لم تسلم من الخلل في التربية، والله يقول: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. الانتماء في الدعوة أمر مهم جداً، إلى من أنتمي في دعوتي؟ إذا كانت غايتي أن أدعو إلى الله فمن الطبيعي جداً أن يكون انتمائي إلى الإسلام، قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، فلا نوالي ولا نعادي إلا في الإسلام وبالإسلام، والبراءة التامة من المشركين، كما قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] كما فعل إبراهيم مع وقومه، وكما فعل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومه أيضاً، وكما هو طريق الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان. الانتماء هو إلى الإسلام والمسلمين عامة، قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] لا نحصر هذا الانتماء في فئة أو طائفة، فتكون النتيجة هي التحزب المقيت والتفرق والاشتغال بالتعصب وبالصراعات بين الدعاة عن واجب الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وذلك قد يعود بالفساد على النية، وقد تفسد الإرادة، وإذا فسدت الإرادة، وشاب الإخلاص أية شائبة، فإن العمل يفسد، بقدر ما تشوبه شائبة الرياء، أو شائبة الهوى والتعصب.

موقف الجمهور من الدعوة

موقف الجمهور من الدعوة أما في المنهج فإننا نجد أن الآية قد أوضحت أنواع الناس، أو حالات الدعوة بحسب أحوال الناس، فالناس الذين يخاطبهم الدعاة من الأنبياء فمن بعدهم، هم على ثلاث أصناف:

محب للحق وموافق عليه

محب للحق وموافق عليه الصنف الأول: محب للحق وموافق لك عليه، يريد أن يصل إلى مرضاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويريد أن يسير معك في الطريق القويم، لا بد أن تدعوه إلى الله ولا تقل: انتهيت، علمته الفاتحة، وعرفته بكيفية الصلاة. إذاً فليصبح هو داعية، لا بل هو مدعو، وكل إنسان مدعو، حتى أكبر العلماء علماً، فهو مدعو بالنسبة إلى من يعظه أو ينصحه أو يذكره.

موافق للحق في غفلة عنه

موافق للحق في غفلة عنه الصنف الثاني: الذي يوافقك في الحق، ويؤمن بما تؤمن به وتدين به، ولا يخالفك فيما تدعو إليه، ولكنه في حالة غفلة، وغلبة هوىً أو شهوة، أو إعراض عما تريد أن تدعوه إليه.

معاند للحق مكابر وعدو

معاند للحق مكابر وعدو الصنف الثالث من الناس: هو الصنف المعاند المكابر المعادي لك، إذا دعوته إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولن تجد من الناس غير هذه الأصناف الثلاثة، وهذا الآية العظيمة، قد بينت لنا كيف ندعو الناس بحسب هذه الأحوال، فيقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، الحكمة مع من؟ الحكمة مع الراغب في الحق، المتبع له، الساعي إليه، الذي جاءك يسعى وهو يخشى، هذا تدعوه إلى الله بالحكمة، وتعلمه بالحكمة. فمن جاءك يريد أن يطلب العلم على يديك ليدعو إلى الله، فإن الحكمة هنا أن تبدأ معه بصغار العلم قبل كباره، أن تبدأ معه بالأساسيات والضروريات قبل التفصيلات والتفريعات، أن تبين له أهم هذه العلوم ثم ما يليه ثم المهم إلخ. مثلاً: في جانب العلم، وفي جانب الدعوة: تبين له المنكر الأكبر الذي يجتنبه، ثم المنكر الكبير ثم المكروهات، وفي جانب الواجبات تبين له أول ما يلتزم به ويحرص عليه، ثم ما يليه ثم الذي يليه وهكذا، وهذا هو أحد جوانب الحكمة معه.

ومن الحكمة

ومن الحكمة الجانب الآخر في الحكمة، وكثيراً ما يغفل الدعاة عن هذه الجوانب، وينسون أنها من الحكمة: أنك عندما تدعو هذا الإنسان، وعندما تربيه، فإنك تحتاج معه إلى نوعين من التعامل: إلى اللين والرفق، وإلى القسوة والغلظة، هذا الجانب كثير من الدعاة لا يفقهونه، بل يظنون أن الحكمة تعني: اللين، وأن الحكمة معناها الرفق، لا بل الحكمة أن تضع اللين في موضعه، وأن تضع الشدة في موضعها، فإذا زجرت ابنك حال نصحه وعلَّمته أمراً من الأمور بالهدوء وبالإحسان فهذه من الحكمة. فإن كبر هذا الابن، ثم علَّمته أكثر وأكثر، ففعل ما تستقبحه وقد حذَّرته منه فضربته، فهذا من الحكمة، فالضرب في هذه الحالة من الحكمة، لا يصدك عنه أحد، ويقول لك: إنه ليس من الحكمة في التربية والدعوة، بل كل من عليه لك ولاية، تستطيع أن تضربه فاضربه، وهذا من الحكمة!! أضرب لكم مثالاًً من واقعنا: رجل الحسبة ورجل الهيئة إذا أمسك إنساناً وأخذ عليه التعهد، وأوقفه يومين أو ثلاثة، هل يقال: الهيئة ليس عندها حكمة في الدعوة إلى الله، لأن الدعوة إنما تكون باللين. أتريد منه أن يمسح على كتف قاطع الصلاة، ويقول له: الصلاة واجبة، ثم يتركه على هواه؟! لا! بل هذا رجل موقعه من المجتمع أن له سلطة عقابية، والأمر الآخر: أنه يدعو إلى أمر واضح لا يحتاج إلى أن يقال: لماذا؟ من الذي يجادل في أهمية الصلاة؟ من في مجتمعنا يجهل أنها واجبة؟ ومن في مجتمعنا من يجهل أنه يجب أن يفلق متجره وقت الصلاة؟ هذه قضايا بدهية. يقول البعض: نُربِّت على كتفه ونكلمه ونعظه، ونأتي له بالآيات والأحاديث، لا بل اضربه عندما يقتضي الأمر ذلك. المهم أن تستخدم الأسلوب الصحيح. فالحكمة هنا أن تعاقبة عقاباً يجعله يرتدع، ويحس بالخطأ ويعود إلى الحق، فقد تكون الحكمة -أيضاً- في العقاب، وهي كذلك في كثير من الحالات.

دعوة الراغب المحب للحق

دعوة الراغب المحب للحق الحكمة تكون باللين في التعامل مع الراغب المقبل للحق، ويكون التبيين له بالرفق، وبالهدوء قليلا ًقليلاً. وأيضاً: من الحكمة مع هذا الراغب: أنك قد تقسو -أحياناً- عليه وإن كان حبيباً عزيزاً مخلصاً وحريصاً على الدعوة، ولكنك تلين مع إنسان أقل من ذلك بكثير، وهذا من الحكمة. تأملوا في فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الثلاثة الذين خلفوا، وماذا قال لـ كعب، وهو من أهل العقبة ومن معه كانا شهد بدراً، والذين قيل لهم: {اعملوا ما شئتم فقد غُفر لكم} ومع هذه المنزلة، وهذه القدم الراسخة بالإيمان وبالدين، نزلت بهم تلك العقوبة، عقوبة قاسية، ويكفيكم في بيان قسوتها، أن الله عز وجل وصفها، فقال: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]. عقوبة شديدة جداً ومع ذلك جاء المعذرون من الأعراب، والمنافقون جاءوا يقولون: والله يا رسول الله، والله ووالله يحلفون الأيمان، فيقبل منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذهبون، أين العقوبة؟ لماذا لم تنزل عليهم حينذاك؟ هذه هي الحكمة، هذا الشاب المستقيم الذي عرف الحق والدعوة، إذا ارتكب موبقة، فإنك تقسو عليه، لا قسوةً تنفره ولكن قسوة تردعه، لأنك تضمن رجوعه بإذن الله، لما تعلم لديه من الإيمان، ولما تعلم أن قسوتك عليه وقولك له: أنت مخطئ وما كنت أظنك تعمل كذا، هذا كذا وكذا بقوة، هذا تجعله يخاف ويرتجف ويرتعد لأنه وقع في خطأ عظيم، لكن ضعيف الإيمان أو الذي في أول أمره من الدعوة. قد تقول له: استغفر الله وتب ولا تعد إلى ذلك، ولا تيأس وهكذا، فهذه من الحكمة.

دعوة الغافل العارف بالحق

دعوة الغافل العارف بالحق الصنف الثاني من الناس: وهو الذي يعرف الحق ولا يمانع منه، ولكنه في غفلة عنه، وهذا ندعوه إلى الله: بالموعظة الحسنة. تأتي إليه وتقول له: يا أخي! هذا حرام، وأنت تعلم أنه حرام، وما كان ظني بمثلك أن يفعل، وأنت كذا، وأنت كذا، لأن الله عز وجل قال: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فلتجعلها حسنة، لتهذب عبارتها وأسلوبها بلين الكلام واستعطاف قلبه واستفزاز غيرة الإيمان وحمية الإيمان فيه كأن تقول له: أنت الذي كنا نأمل فيك الدعوة إلى الله، تفعل هذا وهذا، أنت الذي كنا نتوقع منك أن تقوم بواجب الهداية؟ تنحرف، أنت تفعل كذا؟ أنت الذي عندك هذا القدر من العلم، تفعل هذه البدعة -مثلاً- أو توافق على هذه البدعة، فأنت بهذا الكلام، تستثيره، فتجد أنك بهذا الكلام تجعله يقبل إليك ويستغفر الله، وهذه حالات كثيرة مما قد يقع فيه الدعاة، وربما يمارسونه يومياً تقريباً.

دعوة المعرض المعاند للحق

دعوة المعرض المعاند للحق الصنف الثالث: وهذا الذي مشكلتنا اليوم معه وإن كانت مشكلة الشباب من الصنف الأول الآن في نظري أهم، فمشكلتنا معهم أهم وأخطر من مشكلتنا مع المعرضين عن الحق، لأننا لو ربَّينا هؤلاء بالحكمة، بأن نعايشهم، وأن نعاني ما يعانون، وأن نعيش مشاكلهم، وأن نوجههم بالدليل، لتغير ذلك تماماً، لكن كأننا الآن ننصرف إلى أن ندعو الفجار، والفساق، فنكسب للدعوة أعداداًَ وأفواجاً جديدة من الناس ليستقيموا، ونحن لم نقم بواجب التربية الحقة مع هؤلاء الذين يأتون ويريدون أن نوضح لهم: بم يبدءون؟ وكيف يتعلمون؟ وكيف يدعون؟ فقد ننشغل عنهم، ونذهب إلى ذلك المعرض ونفرح بأنه تاب ورجع إلى الله، ولاشك أن هذا أمر عظيم أن يتوب أهل الفسوق، ولكن هذا لا يشغلنا عن هؤلاء. فأقول أيضاً: مشكلتنا مع الصنف المعاند المعارض، أن من الناس من لا يدعوهم إلى الله، ويظن أنه داعية، ونعني بهم الذين يظنون أن الدعوة إلى الله هي موعظة، هي تعليم في المسجد فقط، وهذه الموعظة لايسمعها إلا طلبة العلم، وهذا العلم لايحضره إلا طلبة العلم، لا. ليس هذا، بل يجب أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن نواجه هؤلاء المعرضين عن الله، فندعوهم إلى الطريق المستقيم، ومن الناس من يدعوهم ولكن على غير المنهج الصحيح، فكيف ندعوهم؟ ندعوهم ونجادلهم بالتي هي أحسن، وليس بالمجادلة الحسنة فقط، ولكن بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى -أيضاً- في حث أهل الكتاب: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، الذين يقولون: عيسى بن الله، وعزيز بن الله والذين قال الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31]. فالمعارضون لك، الذين قد لا تطمع على الإطلاق في أن يهتدوا، ولكن ترضي ربك بإقامة الحجة عليهم، وتبين لهم أنك على الحق، وتبين لهم أنهم على الباطل، كيف تدعوهم إلى الله؟ تدعوهم إليه بالمجادلة بالتي هي أحسن، تقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] هات ما عندك، لا تتهرب مني هات ما عندك نتناقش، نتباحث نصل -إن شاء الله- إلى الحق. أحدهم يقول لك: هذا ليس حراماً، تقول له: الحرام ما حرمه الله، والحلال ما أحله الله، اسمع إلى قول ربك عز وجل، اسمع إلى قول نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعرض عليه الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين له أن هذا حرام، ثم تعرض له مفاسد ذلك ومخاطره، وغضب الله -عز وجل- على من فعله وهكذا. فيقول لك: لا! هذا يجوز، هذا فيه اختلاف، اختلف العلماء، إنما أنتم متشددون، يجادلك، فعليك أن تجادله، بالتي هي أحسن، ولو ثرت وغضبت، وانفعلت، لخسرت هذا الرجل ربما إلى الأبد، نسأل الله العفو والعافية. فيجب أن تكون بالتي هي أحسن، فإذا كانت الدعوة إلى الله على بصيرة وبحكمة، وكانت بحسب أحوال الناس، وبحسب مواقفهم من هذه الدعوة، ووضعت كل أمر في موضعه، وكل كلمةٍ أو موعظةٍ أو عملٍ في موضعه الصحيح، ونظرت إلى عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمت أن حياته كلها دعوة، وأنه في كل أحواله داعية إلى الله، وأنه قدوة لك في كل هذه الأمور، ووفقك الله عز وجل إلى أن تعرف اللين، وأين تضع الرفق، وأين تنزل كل دليل من أدلة السنة والسيرة في محله الصحيح، فهذا هو الذي وفق إلى الخير. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم جميعاً من الموفقين لذلك، وأن يبصرنا بديننا وبدعوتنا إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

وصايا عامة

وصايا عامة أُنزل القرآن على قوم كان منبع فخرهم فصاحة اللفظ وبلاغة البيان، فكان للكلمة مدلولها وأثرها في قلوب ذلك الجيل؛ ولذلك من آمن منهم بالله وقرأ كتاب الله تمسك به، وعمل بمقتضاه، وعرف فضله على ما كان موجوداً عندهم من كلام فصيح وأشعار بليغة، وعرف أن هذا القرآن إنما هو كلام الله وليس من كلام البشر؛ ولذلك أنزلوه منزلته، وتنافسوا في أخذه، وتفاضلوا بناءً على ذلك، كما أنهم عرفوا فضل من بُعث به، وهو نبي الهداية محمد -صلى الله عليه وسلم- وعرفوا أن حبه ومنزلته إنما بلغها بما جاء به؛ فأحبوه حباً أدى بهم إلى صدق اتباع هديه، والسير في الطريق الذي حدده لهم؛ وأكبروا فعل من خالفه وقاتلوه أشد القتال، وأيقنوا أن الله قد أتم دينه، فما كان موجوداً لديهم من علم وقول أو فعل عملوا به وما بعد ذلك لا يكون إلا الغواية والتردي في مسالك الهوى والزيغ والضلالة الموصلة حتماً إلى سخط الله وعقابه.

قيمة القرآن في نفوسنا

قيمة القرآن في نفوسنا الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وبعث نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:

الغفلة عن القرآن القرآن

الغفلة عن القرآن القرآن إن مشكلتنا نحن المسلمين جميعاً مع تفاوت فيما بيننا أننا قد ننسى قيمة هذا القرآن، ولو فكرنا في أسباب ذلك فلعلنا نهتدي إلى علاجه، وإلا فكيف يهجر القرآن ولا يؤبه له؟! مع أن هذا القرآن جعل الله آياته تحيي القلوب، فأحيت أمماً وشعوباً, وأيقظتها إلى الهداية والخير والصلاح. كيف نغفل عن كتاب الله عز وجل؟!! وقد جعل الله فيه الهداية والسعادة الكاملة، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] في كل أمر من الأمور، وكم يختلف الناس، في أمور دنياهم، وفي أديانهم، وتقربهم إلى الله تعالى، وفيما بينهم، وكيف يكون الأفضل؟ وأين الصواب؟ وما من علم ولا فن ولا أمر من الأمور، إلا وللبشر فيه آراء وآراء، وخلافات، فأين هو الطريق الأقوم؟ وأين الهداية في خضم ذلك الخلاف؟ يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ورحم الله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، فإنه في تفسير هذه الآية قد أجاد وكتب ما لم يكتبه غيره، فجزاه الله خيراً. ولو أننا تدبرنا كتاب الله عز وجل من خلال فهمنا لهذه الآية وأمثالها، لصلحت أحوالنا، فالقلوب الميتة، والعيون العمي، والآذان الصم تحيا -بإذن الله- وترى الحق وتتبعه، عندما تقرأ وتتدبر كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. والشقاء والضياع والخسارة التي تعاني منها الأسر والمجتمعات والأمم، كلها تتبدد خيوطها وأوهامها إذا أقيم كتاب الله تبارك وتعالى، وإذا أقيمت حدوده، ووقف عند أمره ونهيه، واتبعت سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.

مدارس تحفيظ القرآن تعيد قيمة القرآن إلى نفوسنا

مدارس تحفيظ القرآن تعيد قيمة القرآن إلى نفوسنا ومن فضل الله تعالى أن وجدت مدارس متخصصة لتحفيظ القرآن الكريم، وهذه نعمة كبرى، وأنا أغبط طالب ومعلم تحفيظ القرآن الكريم لأنهم هم المورد المفقود في العالم الإسلامي، ولأنه حين يوجد شاب يحفظ كتاب الله تعالى، ويجيد قراءته، إلى جانب القدرة والكفاءة ليتعلم أي علم من العلوم الدنيوية معه، فهو بذلك يوجد الشيء المفقود من هذه الأمة. وحيث أن أمام الشاب اليوم في العالم الإسلامي طريقين: إما أن يسلك طريق القرآن؛ فتوصد في وجهه أبواب الرزق والوظيفة، وإما أن يسلك طريق الدنيا وتعلمها بأي سبب من الأسباب، ولا يجيد القرآن ولا يحس به، إلا ما يقتطعه من وقته في أوقات فراغه إن كان لديه فراغ. ولكن أنتم يا معلمي القرآن من أجل القرآن تعملون وتشتغلون، ويأتيكم الطلبة من أجل كتاب الله، وكم من أب حريص كل الحرص على أن يدخل ابنه مدرسة تحفيظ القرآن، ولو أن يدفع ما يطلب منه أن يدفع، ولو أن يضحي بما أمكن أن يضحي به، فقد يأتي من مسافة بعيدة، ولكنه يحب أن يدخل ابنه في هذه المدرسة، وقد يضحي بأمور كثيرة، وهذه الخصيصة التي تعطى لمن يدعو إلى الله، ويعلم كتاب الله، وهذا الأجر الذي يعطيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو خير وأبقى. فهذه تجعل علينا جميعاً مسئولية مشتركة تجاه هذا الكتاب، وتجاه تنمية الطالب والأستاذ، فنريد الطالب أن يعي ويتدبر ويفهم أهمية وقيمة هذا الكتاب وقيمة ما يتعلمه، فإن الحجارة في الأرض كثيرة، ولكن الذهب فيها هو القليل، وإذا كنا نريد أي طالب فالدنيا مليئة بالمدارس، وبالطلاب، ولكننا نريد طالباً يحفظ كتاب الله، ويقيم حدوده، ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه. وهذا هو الذهب النادر، وهذا الذي نحرص عليه، وهذا هو الذي مهما ضحينا من أجله، فلا خسارة في الجهد ولا ضياع، لأنه في سبيل الله ومن أجل كتاب الله عز وجل، وهذا الذي يجب أن نتعاون عليه نحن الآباء والمدرسين والمجتمع كله، هذا هو الثمرة، وهذا هو الخلاصة.

المفاضلة بالقرآن

المفاضلة بالقرآن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفاضل بين أصحابه بالقرآن، وكذلك في قيادة الجيش، وفي إمامة الصلاة، يتفاضلون بالقرآن لأنهم عاشوا في مجتمع أو جاهلية جهلاء، وعرفوا نكدها وشقاءها، ووثنيتها وشركها، ولما جاءهم فضل القرآن أحسوا بقدر النعمة، وعرفوا قيمته, وتمسكوا به، فكان ربيعاً لقلوبهم، وجلاءً لأحزانهم، وذهاباً لغمومهم. فكانوا يلجئون ويهرعون إلى القرآن والصلاة، وإلى قراءته في الصلاة، أو في غيرها؛ إذا حزبهم أمر من الأمور، كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما كان أصحابه من بعده، كانوا يستعينون بقراءته، فتذهب همومهم وأحزانهم، والتي هي هموم في سبيل الله عز وجل، وفي الدعوة إليه، فما بالكم بقلوبٍ همومها في الدنيا، وأحزانها للدنيا؟! فهي أحوج إلى أن تذهبها, وأن تجلي من صدئها بكتاب الله عز وجل. فإذا التحقت بمدرسة تحفيظ القرآن، فاحمد الله، واعلم أن الله يختبرك في أمر عظيم، فإما أن تكون طالباً تستحق حفظ كتاب الله، وإلا فإنها فتنة وستسقط في ذلك الامتحان، وإذا كنت مدرساً لتحفيظ القرآن، فإن هذا يجعلك تستشعر هذه المسئولية، وإلا فالمدرسون كثير والمدارس كثيرة، فلماذا أنت في تحفيظ القرآن الكريم؟! إذاً هناك أمر عظيم، هناك اختبار من الله عز وجل لك، فإما أن تكون من أهل القرآن وحملته، وإما أن تخفق -عافنا الله وإياكم- فيكون أشد وأعظم بلاء من ذلك الذي يأخذ أجراً على عمل يقوم به لغير كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذا القرآن يوجب على كل واحد منا أشياء: فالحاكم يوجب عليه القرآن أن يقيم حدود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من خلاله، وعلى المربي أن يربي الشباب عليه، وأن يكون بين ناظري الأب ليقوم به في بيته وفي أسرته، وأن يكون موضع اهتمام الابن ليحفظه ويتعلمه، وكل منا مخاطب بهذا القرآن، وكل العالمين مخاطبون به أيضاً، ولكن مسئولية من تصدَّر لتعليمه ولتحفيظه كبيرة، وكذلك الأجر الذي يحسب له بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كبير إذا قام بواجب هذا القرآن وعلمه وحفظه، وخرج من تحت يديه جيل يصح أن يسمى جيلاً قرآنياً، كما كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذه المهمة وهذا هو الواجب الذي يستشعره الإنسان مع فرحته وشعوره بأنه يعيش في جو يزكيه ويطهره بتلاوة كتاب الله عز وجل، إلا أنه يجب علينا أن نستشعر المسئولية، وأن نذكر أنفسنا أولاً وإخواننا ثانياً بعظم هذه المسئولية الملقاة على عواتقنا، وأن نتوكل على الله عز وجل، ونعرف قيمة هذا القرآن، وندعو إليه، ونعمل به، ونحيي قلوبنا بذكر الله، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تكفل لمن قام بهذا القرآن وعمل به ودعا إليه، أن ينصره في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فلا طريق إلى النصر، ولا إلى الفلاح والنجاح والسعادة إلا بالقرآن، نسأل الله أن يجعله ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، إنه سميع مجيب.

خطر بدعة المولد

خطر بدعة المولد من البدع المشهورة بدعة المولد التي راجت في ديار الإسلام والتي تحتاج إلى تنبيه وتوضيح خطرها، وكلنا يعلم خطر البدعة، وشر البدعة، وشؤم البدعة. وأول بدعة ابتدعت في الدين، وترسخت في جماعة، وعملت بها فرقة، هي بدعة الحرورية، الخوارج، ومع شدة عبادتهم وكثرة اجتهادهم، التي قال عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم}، وفي وقت الصحابة وهم أهل العبادة والفضل، كان أولئك الخوارج أكثر منهم عبادة، وأكثر منهم قراءة، حتى إن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، لما دخل عليهم هو وأبو سعيد الخدري عجبا من شدة عبادتهم واجتهادهم، لما رأيا أن جباههم وركبهم عليها مثل ركب الإبل، من شدة وكثرة السجود، ومع ذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر فيهم من الوعيد الشديد، أنه لو أدركهم لقاتلهم كقتال عاد وثمود. وقد كان علي ومن معه من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرحين مستبشرين لما أظفرهم الله تبارك وتعالى على الخوارج وقتلوهم، لأنهم أصحاب بدعة مع هذا التعبد الشديد. وهكذا البدع مهما كان عليه أصحابها من العبادة والتقوى في ظاهر حالهم، أو فيما يعلمون من أمور دينهم، لكنهم يتعمدون هذه البدع، فيكون لها من الشؤم ما يفسد تلك العبادة، والعياذ بالله!

تحقيق محبة النبي صلى الله عليه وسلم

تحقيق محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تمام الإيمان برسالته؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}، فهي من أصول ديننا، ومن معاني الإيمان به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحبه حباً يفضل حب أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، هذا هو الذي نعتقده ونشهده في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولكن كيف نعبر عن هذه المحبة وما مقتضى هذه المحبة؟ هذا هو الذي يخطئ فيه كثير من المسلمين، فمنهم العامد الهدام، ومنهم الذي لا يدري، ومنهم الغافل الذي يظن أن هذه قربة يتقرب بها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والقلب البشري كالإناء لا يحتمل إذا وضعت فيه عسلاً أن تضع فيه ماءً أو غير ذلك، وكذلك عمل وعمر الإنسان، فإما أن يعمر العمر بالطاعة، وأن يكون العمل كله طاعة، وإما أن يكون محل الطاعة معصية، أو مكان السنة بدعة، وهذا لا بد منه، لأن القلب لا يحتمل غير ذلك، فإذا أحدثت بدعة في الدين، فإنها تحل محل السنة، وكما روي ذلك في حديث عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: {ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها} وهكذا. أنزل الله هذا الدين تعبداً لجميع حياة الإنسان، وأي جزء من حياة الإنسان يصرفه في بدعة، فقد رفع شيئاً من السنة بلا ريب وبلا شك.

نشأة بدعة المولد

نشأة بدعة المولد وهذه البدعة التي يسمونها المولد، عندما تتبعت كيف وجدت وكيف نشأت، تأكد لي أن أول من أوجدها هم العبيديون، الذين يسمون أنفسهم بالفاطميين أتباع الدولة الفاطمية في مصر، وهذه الدولة دولة يهودية أثبت ذلك علماء الإسلام، وتكلم علماء الإسلام والمؤرخون أنها يهودية، القدماء منهم والمتأخرون، حتى من كان باطنياً على دينهم، ثم رجع عنه، وكتبهم الآن طبعت وحققت ولله الحمد. ويدعون أنهم ينتسبون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واليهود كما نعلم أعداء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعداء المسلمين، واليهودية سممت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذراع الشاة التي أنطقها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا شك في ذلك. فهل يعقل أن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفضل القرون القرون الثلاثة لا ينتبهون أن هذا من محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعملونه ويعلمونه، وينتبه اليهود لذلك؟! فالذي حيَّرني في هذه المسألة أن هناك سراً، ولعل السر والله أعلم، أن مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ثابت، ولا ندري في أي يوم ولد، وفي أي شهر، فقيل: إنه في ربيع، وقيل: إنه في رمضان، وقيل: في أول الشهر، وقيل في آخره، وكان العلماء كـ ابن عبد البر والمالكية يرجحون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد في رمضان، بدليل أن القرآن أنزل في رمضان، وهذا ثابت في القرآن، والقرآن أنزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تمام الأربعين سنة، ونحو ذلك من الأدلة، فوقت مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير معروف. فنحن لا نتكلم عن مناقشتهم بالأدلة، بل نحلل القضية بالتحليل التاريخي والعقلي، وما وراء هذه المسألة، فإذا كان مولده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ثابت، مع أن وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابتة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، فما الذي يتوقع من اليهود أن يفعلوه وهم أعداء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فقد جعلوا تاريخ وفاته المؤكد أنه في الثاني عشر من ربيع الأول عيداً لهم، وموهوا على المسلمين؛ لأنهم كانوا يحكمونهم. وكان المسلمون يعلمون أنهم كفرة، وأنهم زنادقة، وخاصة في مصر والمغرب لأنهم كانوا متضايقين منهم أشد الضيق، ولذلك عندما جاء صلاح الدين وقضى على دولتهم لم يبق في مصر والمغرب رافضي واحد ينتمي لهذه الدولة، من شدة ما كان الناس يكرهونها. فكيف يستطيعون أن يهدموا ويفعلوا ويموهوا على هؤلاء الشعوب وعلى المسلمين، وأن يفعلوا احتفالاً بالوفاة، قالوا: احتفالاً بالمولد فجعلوه مولداً، يوقدون فيه الشموع، ويبسطون الموائد، وتأتي الخيول، وتقام المهرجانات والاحتفالات، وهناك يظهرون الفرح والابتهاج، لماذا تفرحون؟ قالوا: الناس يفرحون على أنه مولد، واليهود يفرحون على أنه موت. وإن شئتم بعض الأدلة على ذلك، فإن محمد الفاتح؛ عندما فتح القسطنطينية، فإن أوروبا تألمت ألماً شديداً -اليهود والنصارى- وخاصة النصارى، تألموا جداً أن عاصمتهم تفتتح، فماذا عملوا؟ جعلوا يوم وفاة محمد الفاتح عيداً، يقدمون فيه الولائم في كل أوروبا، ويجمعون الناس، ويذبحون الذبائح، ويبتهجون يوم وفاته. وهذه من عادة أولئك القوم، فمن عادة اليهود والنصارى وبعض الشعوب أن تجعلوا يوم وفاة أكبر عدو لها عيداً تحتفل به وتبتهج، ومن هنا كان المولد أول من أحدثه: هم هؤلاء الزنادقة اليهود، وجعلوه عيداً واحتفالاً، لأنه يوافق موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذا هو التحليل التاريخي، بغض النظر عما تعلمونه من أدلة ونصوص، فإن الإنسان لا يجوز له أن يحتفل بأية بدعة، وكفى في ذلك ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أي: مردود على صاحبه غير مقبول، بل هو مأزور غير مأجور، وعليه إثم البدعة، وهذه الأحاديث والنصوص الكثيرة التي جعل الله التمسك بالسنة وترك البدعة أمراً. إحدى وصايا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآيات العشر التي أنزلها عليه الله، قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] وهي السنة، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] وهي البدعة {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ومع هذا التأكيد إلا أن أهل الضلال والبدع لا يزالون في غيهم يعمهون. حتى أنهم جعلوا عزاءهم يوم كربلاء ومولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متشابه الكلام والأناشيد والنغمات، فمع اختلاف موضوعهما وكل منهما في جهة إلا أن أعداء الإسلام يقولون: هدمنا هؤلاء بالتشيع، فلنهدم هؤلاء بالتصوف والبدع، ولا يبقى للإسلام قائمة، هذه عقول تخطط وتعمل ليل نهار، يمكرون ويخططون، ويوحي بعضهم إلى بعضٍ من الجن والإنس، لكي يفسدوا هذا الدين، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يعلم ما يبيتون، وهو الذي يعلم ما يمكرون وما يخططون، ومن أجل ذلك بيَّن لنا الله المحجة البيضاء، وأوجب علينا سلوكها، لنجتنب أولئك.

كيفية القضاء على هذه البدع

كيفية القضاء على هذه البدع ولن نتقي شر البدع وأهلها إلا باتباع ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قالها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قالها في أمر يسير عادي وهو الذكر قال: [[إما أن تكونوا على ضلالة وإما تكونوا أهدى من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] ففي كل بدعة تقام إما أن يكون أهدى من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما أن يكون على ضلالة، وهكذا كل بدعة لم يفعلها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذا أحببت أن أنبه على هذه المسألة. ومن كان في حي أو منطقة غافلة عن هذا الموضوع، فعليه أن ينبههم ويذكرهم، فقد ينتبه الغافل، ومن كان في مجتمع أو في بيئه يظهر فيها هذا الأمر فليبين لهم بالأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالأسلوب الهادئ المقنع، ويحرص على من يعلم اقتناعه بهذه البدعة من كبار هؤلاء القوم كالتجار ونحوهم، ويتودد إليهم ويكلمهم بالحكمة، ويبين لهم أن نفقة المال إن لم تكن في سبيل الله فلا خير فيها، وأنكم تريدون الأجر وتضعونه في الإثم وأمثال ذلك. وليستعن بإخوان ليعينوه، لأنه -كما تعلمون- هدفنا الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن يترك الناس هذه الضلالات والبدع، ولو كان همنا إقامة الحجة لكان الأمر أهون من ذلك، لكن القضية أكبر من إقامة الحجة، وهو أن نطمع في الهداية، فتحصل بإذن الله عز وجل، فكم منهم من اهتدى وتاب والحمد لله، فهذه السَنَة يقول: أنا كنت أعمل ذلك في العام الماضي، ولكن هذه السنة فهمت، فنقول: جزاك الله خيراً، وهذا المال مثلما كنت تنفق في البدعة فانفق منه على السنة، والجهاد في سبيل الله، وتحفيظ القرآن، وأعط الفقراء والمساكين، واعمل الخير وتصدق، وهذا يكفر عنك ما كنت تعمل. أصحاب البدع والضلالات كثير، وعندنا ليست المسألة كثير أو قليل، لكن المسألة عندنا اتباع أو ابتداع، وأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم القدوة في هذا الشأن، والسلف هم القدوة وحدهم، فما عملوه نعمله وإن خالفهم من بعدهم، وما لم يعملوه لا نعمله، وإن عمل به من بعدهم كائناً ما كان عددهم، فالعبرة عندنا هي بهذا.

الاشتغال بالجهاد

الاشتغال بالجهاد وأما القضية الأخرى وهي قضية الانشغال بالجهاد: أولاً: يجب أن نلزم أنفسنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالجهاد، فإن هذا مما يظهر الله به الحق على ألسنتهم، فهم يقولون: إن الصحابة اشتغلوا بالجهاد، ونحن اشتغلنا بالموالد والموائد، ولولا الموائد ما كانت الموالد! إذاً هذا يقول: الصحابة في وادٍ وأنا في وادٍ آخر، وهذه شهادة على نفسه، لأن الصحابة الذين جاهدوا ما كانوا يجاهدون فقط بحمل السيف، إنما جاهدوا بالدعوة، وبالعلم، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم كتاب الله عز وجل وبث سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأحوج ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية هذا الجهاد، فأين الفراغ الذي عندكم؟ ثم يعترفون ويقولون: إن الصحابة لم يحتفلوا بالمولد لأنهم انشغلوا بالجهاد والدعوة وسواها، وهذا أيضاً من العجب! تقولون: لم يفعلوه لأنهم انشغلوا، ونحن حتى إذا لم ننشغل لا يجوز لنا أن نفعله، وإلا كما قال عبد الله بن مسعود عن حلقة الذكر التي رآها: 'إما أنكم أهدى من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما أنكم على ضلالة' ولا بالكثرة ولا عبرة بقضية الانشغال. كم من الأمور التي أهملناها! وكم تركنا من ديننا! وليس الجهاد هو العائق الوحيد، لكن العائق الذي وقف أمام أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثل هذه الأمور وغيرها، هو أنهم يعلمون أن صاحب البدعة مأزور غير مأجور، ولأنهم كانوا وقافين عند كتاب الله، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذلك لم يفعلوها، وإلا فهي أيسر عليهم من الجهاد، وقد يقال: إن الذين على الرباط وفي الثغور في الفرس والروم منشغلون بالجهاد، لكن الذين كانوا في المدينة، فليلة في السنة لا تؤثر على وقتهم، وخاصة في عمل فيه محبة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الذين كانوا أكثر الناس ألماً لوفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولفقده، وأكثر حباً له. تعلمون حديث أم أيمن لما زارها أبو بكر وعمر، فوجداها تبكي على وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن؟ أما تعلمين أن ما عند الله خيرٌ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه الدنيا؟! قالت: والله ما أبكي وإني لأعلم أن ما عند الله خيرٌ لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه الدنيا، لكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء، فبكيا رضي الله عنهما. أبو بكر رضي الله عنه جاهد بماله كله وتصدق، ويقول له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ما أبقيت يا أبا بكر؟ فيقول: الله ورسوله}، فلماذا لم ينفق من ماله شيئاً ليحيي ليلة مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لأنه يعلم أنها بدعة، وأن محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحياء سنته وباتباعه، وبتعظيمه في قلوبهم، وتعظيم أمره ونهيه، وأن ذلك أفضل وأعظم عندهم من أن يبتدعوا في دين الله عز وجل ما ليس منه. يقول أحد السلف: [[ما عبدت الأصنام إلا بالشبهات]] أي: أن الكواكب والحجارة ما عبدت إلا بشبهة، يقولون: هذا الحجر مبارك، لأن هذا البيت بناه إبراهيم، وهذا الحجر منه فأخذوه، ثم طافوا حوله وعبدوه، فبالشبهات والتلبيسات عبدت الحجارة من دون الله. فلا نستغرب من أية بدعة من البدع أن يكون حولها شبهات وتلبيسات وتوهمات، فهذه طبيعتها، فلو جاء الكفار مثلاً وقالوا: اكفروا، لما كفر أحد، ولو جاء إبليس وقال: لا تصلوا، فلن يطيعه أحد، لكن يجعل حولها شبهات وتلبيسات وشهوات، ويقول للإنسان: الآن لا يجب عليك الصلاة، وستصليها فيما بعد، حتى يضيع المرء الصلاة، وهكذا. وهناك قضية أهم من قضية المولد، وهي إهمالنا نحن في تمحيص العقيدة، وفي نشر العلم الشرعي الصحيح، والأمة التي تعلم أن كتاب الله حق، وتعرف العقيدة الصحيحة، والتوحيد الصحيح، مهما حاول الدجالون معها فلن تقبل منهم، لكن مع الجهل ومع الخواء، ومع تخاذلنا وتكاسلنا بالقيام بالدعوة، صار كل من هب ودب يقول ما شاء، ويُسمع له، ولو قال أحد: أنا رسول يوحى إلي، لصدقوه وعبدوه! كما جاء أن الدجال يقول: (أنا الله) فيصدقونه ويتبعونه، كم يؤمن بالدجال؟ كثير، وكم يحارب الدجال؟ قليل، فدعوته يلقى لها رواجاً، لكن متى هذا؟ في غياب الحق، ولو ظهر الدجال والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحياة، هل كان يجد هؤلاء الأتباع؟! ولو ظهر أحمد القادياني، هل يجد ما وجد من الأتباع؟ لكن الآن أي ناعق يظهر بدعوة سيجد الأتباع، لوجود الخواء في قلوب الناس. إذا كان طالب العلم شحيحاً بما تعلم، ويقصر في تبليغ الدعوة إلى الله عز وجل، والعامي مشغولاً بدنياه، ويريد أن يعبد الله وتأتيه هذه اللحظات، وهذه الحسنات، ويقول: أنا أعبد الله من خلال الدين، وأؤدي عن نفسي هذا الواجب، حتى إذا قيل له: أنت يا أخي ليس عندك دين فإنه يحضر المولد، ويبرهن لك ويقول: أنا على دين! إذا كان هذا حالنا نحن في تقصيرنا وإهمالنا، فلا نستغرب أن توجد أية بدعة، فمثلاً: كان أحد الدجالين ساحراً دجالاً وكان في مكان قريب من هذا المكان، وكان هناك عشرة شباب يذهبون إليه في الساعة الواحدة ليلاً ويسهرون عنده، ليعلمهم السحر واستحضار الجن، كيف يذهبون إليه ويصدقونه؟ لأن العلم غائب عنهم، حتى هدى الله واحداً منهم ثم شاء الله وكتب، ووضع ذكرياته عن هذا الرجل وذكر اسمه، وكيف كان يعلمهم، وكيف كان كذا وكذا إلى آخره. وهذا وقع نتيجة الجهل لغياب الدعوة إلى الله عز وجل، ولغياب نشر العلم الشرعي، كلكم -ولله الحمد- تعلمون، وكلكم أفضل مني في هذا ولا شك، لكن هل نحن يد واحدة؟ هذا يعقد مجلساً، وهذا يقيم ندوة، وهذا يكتب مقالة، وهذا كذا، فنحول القطرات إلى تيار. فإذاً لا بد أن نتعاون جميعاً في مثل هذه المناسبات، ونذكر أنفسنا بهذا الشأن أينما كان، ونتعاون في تأدية الواجب لله، وندعو إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونحيي سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيكون لنا عند الله الأجر الذي وعد به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحيا سنته. والحمد لله رب العالمين.

الصبر على الابتلاء

الصبر على الابتلاء تحدث الشيخ حفظه الله عن أمور مهمة تتعلق بالصبر، وحاجة الناس إليه، وعلى وجه الخصوص الدعاة إلى الله، وذلك لما يقابلهم من عقبات تحتاج إلى الصبر، ثم بين ما يترتب على الصبر من الثواب الجزيل، مستعرضاً بعض النماذج من صبر الدعاة الأوائل، مبيناً أنه لابد من الابتلاء وعليه فلابد من الصبر، فهو حيلة من لا حيلة له، وهو أساس النصر، وكلما زادت مسئولية الانسان صار الصبر في حقه أولى وأحرى.

أهمية الصبر وفضله

أهمية الصبر وفضله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على خير خلقك محمد سيد الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: أتحدث إليكم أيها الإخوة وأنتم -ولله الحمد- رجال الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الرجال القائمون على الفريضة التي تركتها الأمة، وغفلت عنها ونسيتها، فاعتراها ما اعتراها من الذل والضعف والهوان، وفيكم بعد الله سبحانه وتعالى، وبعد توفيقه وتأييده الأمل -إن شاء الله- بإعادة هذه الأمة -مع من ييسر الله ويوفقه للتعاون على البر والتقوى- إلى رشدها، وإعادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به قِوام حياتها، والذي هو سِر أفضليتها على العالمين. والحمد لله أنكم تقومون بهذا العمل أيضاً في بلد الله الحرام، وهذا جهاد على جهاد في هذا البلد الذي شرفه الله تعالى وعظمه، وقال في حقه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فإذا كان هذا عقاب الذي يريد فقط؛ فكيف بالفاعل؟! وأنتم تحولون -ولله الحمد- دون فعل الموبقات والمجاهرة بالمنكرات في بلد الله الحرام، وهذا وإن كان واجباً على كل مسلم، لكنكم تضطلعون به رغم قلة الإمكانيات والجهود ففي هذا -إن شاء الله- غبطةٌ لكم من إخوانكم الذين يغبطونكم على هذا العمل الجليل، وفيه تذكير لكم أيضاً بواجب الاحتساب لله تعالى، والإخلاص لوجهه الكريم، لتنالوا بذلك أجركم كاملاً غير منقوص. فنحن نشكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي هيأ لنا مثل هذا اللقاء، ونشكر -كذلك بعده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذين كانوا السبب في هذا الاجتماع الطيب المبارك سواء في رئاسة الهيئات، فضيلة نائب الرئيس العام، أو في مكة فضيلة الشيخ الفراج، أو المسئولون في هذه الجامعة، الذين حرصوا على إقامة هذه الدورة، وحياكم الله جميعاً، وأسأل الله العظيم الجليل لي ولكم التوفيق والسداد في القول والعمل. الموضوع عن الصبر والكلام يطول فيه جداً كما قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه: إن الله ما عظَّم شيئاً في كتابه كما عظَّم الصبر، فقد ذكره في أكثر من تسعين موضعا.

فضل الصابرين ودرجاتهم

فضل الصابرين ودرجاتهم وأما فضل الصابرين ودرجات الصابرين فمنها: ما ذكره الله من مضاعفة الأجر لهم كما في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص:54]. ومنها: ما ذكر من توفيتهم أجرهم بغير حساب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. ومنها: بيان وذكر معيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، ومنها ما ذكره عز وجل في الاستعانة بالصبر على ما يواجه الإنسان، كما في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45] وكما في قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:96] وكما في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:11] وكما في الوصية به كما في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. فلا يتم للإنسان حقيقة اليقين والإيمان إلا بالصبر، هذا في حق كل مسلم، وفي حق كل مؤمن، ولكن عندما نتحدث عن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، يكون الكلام أخص من ذلك، وتكون الحاجة إلى الصبر أعظم من ذلك.

حاجة الدعاة إلى الصبر

حاجة الدعاة إلى الصبر لعل فيما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في وصية لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] إنَّ التعقيب بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيه إشارة إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو أحوج من غيره إلى الصبر؛ وأن كل من دعا إلى الله وآمن بالله لابد أن يبتلى وأن يمتحن، ولا بد أن يعادى كما قال سبحانه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُواءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] أي لا يمكن ذلك، ويقول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان:31]. فكل نبي وكل صاحب دعوة له أعداء من المجرمين، وكل آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر له أعداء من المجرمين، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُصادم الناس في رغباتهم، وفي شهواتهم، وفي مطامعهم، وفي مآربهم وملذاتهم؛ والناس يتهافتون عليها كما مثَّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بأنهم يتهافتون في النار كما يتهافت الفراش والذباب، ولكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {فأنا آخذ بحجزكم عن النار} وهذا العمل لا يقوم به من بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا العلماء والدعاة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، لأن الناس يتهافتون على ما يضرهم. فلو أبيح الزنا -عياذاً بالله- لتهافتوا عليه كما يتهافت الذباب على القاذورات، ولو أبيحت الخمرة؛ لشربها أكثر من ترى من الناس، ولو أبيح أي نوع من أنواع الفساد؛ لرأيتهم يتهافتون عليه، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام:116]. وأما إذا اجتمعت مع هذه الشهوة والرغبة شهوات أخرى؛ كأن يكون الرجل ذا منصب، أو كأن يكون ذا مال وجاه عند الناس؛ فإن ردّه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون أكبر، فيستعظم ويستفظع أن رجلاً في مرتبة كذا ينتقد عليه وهو صاحب الرتبة والمرتبة والجاه والسلطان ويقول له: اتق الله، فهذا حال من أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] نعوذ بالله من ذلك، ولكن هذا أصبح حال أكثر الناس الآن. فإذا كان هذا في زمن كثر فيه الفساد , واشتدت غربة الدين -كما ترون- وضعف فيه سلطان أهل الحق، وأصبحوا لا يخلو حالهم من قلة أو ذلة، فإن الأمر يكون أشد، وإن الصبر يكون أحوج ما يكون له العبد ما تحتمله هذه الكلمة من أنواع الصبر.

الصبر على أذى النفس والأهل

الصبر على أذى النفس والأهل نعم. الصبر على أذى النفس، وعلى هوى هذه النفس الأمارة بالسوء والتي تقول لك: يا عبد الله. الناس مرتاحون, الناس لا يعادون خلق الله, الناس يأكلون ويشربون، الناس في وظائف مرفهة منعمة, الناس في أجور عالية, وأنت في هذا المجال، ماذا تقصد، وما فائدتك؟ فهذه سهوة لا بد أن تردها وأن تقمعها, وأن تقول لها: أيتها النفس: اخسئي ولا تتكلمي؛ فإنني أعمل عمل الأنبياء. وهذا العمل لو لم نتقاض عليه أي أجر فإن رسل الله الكرام قالوا لقومهم -كما ذكر سبحانه-: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:164] ولكن ما جاء من عند الله فهو خير. ولاشك عند من يُقَدر حال الدعوة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أن أولى ما ينفق عليه ومن أحق الناس بالعطاء الجزيل هم رجال الحسبة؛ لكن إذا لم يحصل ذلك فهنا لا بد من الصبر. والصبر يكون كذلك مع الأهل: لأن بعض الناس قد يصبر وقد يقاوم نفسه، ولكنه قد ينهزم أمام أهله -الزوجة أو الزوجات أو الأبناء- الذين يقولون: لقد أضعتنا، فالليل في دوريات، والنهار في دوامين، لم لا تفعل كذا أو تأتي بكذا؟ إذاً: نحن ماذا؟ دعك من هذا العمل، اترك هذا العمل، أرحنا منه، وافتح محلاً إلخ. وهذا من الفتنة والابتلاء، فقد ابتلى الله سبحانه تعالى نوحاً عليه السلام بامرأته وابنه, وابتلى لوطاً بامرأته, وابتلى إبراهيم بأبيه، فلا نستغرب هذا، فقد ابتلي به كل الأنبياء. فلابد من الصبر على ابتلاء الأهل وعلى ما يقولونه، وكذلك يكون الصبر على الابتلاء الحاصل في العمل نفسه.

ابتلاء هذه الأمة بالفرقة والاختلاف

ابتلاء هذه الأمة بالفرقة والاختلاف إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كرم هذه الأمة، فهي أمة مكرمة مفضلة؛ لكنها لابد أن تأخذ عقوبتها إذا عصت الله، وإن كانت عقوبتها أخف من غيرها، تكريماً لها وتشريفاً لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستجابة لدعائه، {لمَّا قال سبحانه: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] فقَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك، فقال الله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هاتان أَهْوَنُ -أَوْ قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا أَيْسَر} رواه البخاري والترمذي وأحمد. وعن عامر بن سعد عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا} رواه مسلم وأحمد. أي: أعطاه ألا يهلك أمته بعذاب من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم؛ ومنعه مشكلة الفرقة والاختلاف في الرأي، وفي الاجتهادات. أقول: بالنسبة للعمل: فأنت ترى أن إنكار المنكر يكون بهذه الطريقة، ورئيسك المباشر قد يرى غير ذلك، والرئيس الذي أعلى منه قد يرى خلاف ذلك، فالمفتش له رأي، والرئيس العام -أحياناً- يكون له رأي وهكذا، وأنتم كلكم ليس لكم غرض إلا إنكار المنكر، لكن الفرقة تدب، ثم يجعلها الشيطان مشكلة، ثم يجعلها أحزاباً وخصومات وأحرص ما يحرص عليه الشيطان: أن يوقع الفتنة والعداوة بين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, وبين العلماء وبين الدعاة, وهذا هو مكسب الشيطان. إن الشيطان لا يريد أن يوقع العداوة بين من يشربون الخمر -مع أن شرب الخمر من ضروراته حصول العداوة- أو من يلعبون القمار والميسر إلخ. لكن الشيطان أحرص ما يكون على هذه الحالقة؛ كما جاء عن الزبير بن العوام قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ} رواه الترمذي وأحمد، فالفرقة والخصومة والنزاعات بين الإخوة العاملين في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشكلة كبيرة جداً؛ فلو تخلص الإنسان من مشكلة النفس وهواها وهوى جنسها، ومشكلة الأهل؛ فقل أن يسلم من مشكلة العمل وسيره والخلافات فيه.

عقبات تقتحم الصبر

عقبات تقتحم الصبر إننا لو اتفقنا نحن في العمل - في المركز أو في الإدارة أو في الرئاسة- كلنا على منكر ما واتحدنا وأردنا الخير وكانت المسألة واضحة ولا تحتاج إلى نقاش ولا إلى خلاف؛ لوجدنا العداوة من غيرنا، وصاحب الشهوة أو صاحب المنكر يأتيك ويجلب عليك كل عداوة، وتأتيك العداوة من الشرطة، وأحياناً تأتيك من الإمارة مثلاً. فأقول: من نذر نفسه في هذا العمل فليتوقع العداوة من كل أحد؛ توقع أن يأتيك أمر بالنقل أو بالفصل أو بالطرد أو بأي شكل من الأشكال، وما ذنبك إلا أنك قلت لأحدهم: اتق الله، أو غضبت عليه وهو على منكر أو جرم يجب على كل مسلم أن ينكره عليه، وليس عليك أنت -فقط- الذي وظفت أصلاً لهذا العمل، وستحاسب لو قصرت فيه. إذاً: فهي مشكلة: إن قمتم بواجبكم حوسبتم، وقيل: أنتم عملتم وأسأتم، أو يقال: شككتم الناس في أهاليهم -هذا إذا قبض على أحدٍ وكان مستوراً فانفضح بأن كان عنده مصنع خمر مثلاً- أما إذا لم تعملوا شيئاً قالوا: لا يخافون الله، يأخذون الراتب دون عمل، يتكلمون ويشربون القهوة، ثم بعد هذا يأخذون الراتب آخر الشهر. إذاً: ماذا نعمل؟ إن عملنا نلام بلاحق، وإن سكتنا نلام على ذلك! فأقول يا إخوان: هذا لا بد منه، وما دام لا بد منه فلا حيلة لكم إلا الصبر، فقد أرشدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى ذلك، وأن أي أمر لا حيلة لنا فيه فالحيلة معه الصبر، فإن الصبر حيلة من لا حيلة له؛ ولهذا إذا قدر الله تعالى على أي إنسان مصيبة -نسأل الله أن يحفظنا وإياكم - فوقعت وانتهى الأمر؛ فلا حيلة له إلا الصبر، ومتى يكون الصبر؟ عند الصدمة الأولى، وأما بعد ذلك فكل الناس تسلو كما تسلو البهائم؛ لكن المؤمن يصبر ويحتسب عند الصدمة الأولى؟ لأن الأمر قد انتهى، فمات من مات وحصل ما حصل وانتهى فماذا بقي من حيلة؟ بقي الصبر والاحتساب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل هذه العقبات يجدها الداعية ويجدها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في طريقه أينما اتجه.

ابتلاء الدعاة في الوقت الحاضر

ابتلاء الدعاة في الوقت الحاضر إنّ الشيطان إذا جاء وقال لصاحب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذا كان الأمر كذلك فانسحب من هذا الميدان، فماذا يكون الحال؟ وهل هذا حل؟ لا. هذا ليس حلاً، فهنا الخطر، وهنا تكون الفتنة لأهل الشر والفسق والفجور، وما أجرأهم على ارتكاب المحرمات؛ إلا أنهم رأوا أنه كلما برز عنصر طيب في الهيئات سرعان ما ينسحب أو ينتقل، فيكون ذلك فتنة لأهل الفساد، ويكون أيضاً إسقاطاً وخوراً في عزيمة المجتهدين الراغبين في داخل الجهاز، ويكون أيضاً تثبيطاً وتخذيلاً لمن يريد أن يلتحق بهذا الجهاز، وهو يرى أن أهل الخير وأهل الفضل يتركونه. ثم أهم من ذلك: أن هذا الإنسان يأثم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه آثر الراحة وآثر السلامة؛ أي أنه باختصارلم ينجح في الابتلاء، والله تعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُواءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: أنه لا بد من الفتنة، ولا بد من الابتلاء، فهذه سنة ربانية حتى قال بعض العلماء: "إن من لم يؤذَ ويبتلى ويتحمل الأذى، فإن إيمانه لا يعد إيماناً في الحقيقة" فهو مسلم -إن شاء الله- وعلى خير، إن مات قبل الابتلاء؛ لكن إذا حصل الابتلاء؛ فهنا يكون المحك، إما أن يصبر فيرتقى إيمانه ويكون مؤمنا حقاً على تفاوت في الدرجات بين المؤمنين؛ وإما أن يخفق في الابتلاء فيفقد إيمانه -نسأل الله العفو والعافية- وكفى به حرمان. ولا خيار للإنسان، فنحن عبيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، خلقنا وسيرنا واستعبدنا بأن نقيم هذا الدين, وأن ندعو إليه دون اختيار لنا في ذلك أبداً، وأي انحراف أو خروج منا على هذا الابتلاء، أو محاولة في الابتعاد عن هذا الابتلاء فإن ذلك علينا لا لنا.

نماذج الصابرين قدوة

نماذج الصابرين قدوة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] أي: أن كل من اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو داعٍ إلى الله، وهو آمرٌ بالمعروف وناهٍ عن المنكر؛ ولهذا كان الصحابة الكرام جميعاً آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأول وأعظم من كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هم أعظم أكابر الصحابة في الإيمان والتقوى، كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

عمر يأمر بالمعروف ينهى عن المنكر

عمر يأمر بالمعروف ينهى عن المنكر عندما تتفكر كيف كان عمر رضي الله عنه يذهب في الليل ليسمع، ويرى، ويتفقد، وإذا امرأة تقول: "كيف السبيل إلى خمر فأشربها" تغزلت في رجل بشعر وهي نائمة، ولا تظن أن أحداً يسمعها فتقول: ألا سبيل إلى خمر فأشربها أو كيف السبيل إلى نصر بن حجاج فسمع عمر رضي الله تعالى عنه هذا الكلام، وفي اليوم الثاني سأل عمر: من نصر بن حجاج؟ قيل: هو رجل فيه جمال وتُعجَب به من ضُعْف إيمانها, فأمر بأن ينفى من المدينة إلى الكوفة. سبحان الله! وأما اليوم فما يعرض في وسائل الإعلام من مثيرات الشهوات أضعاف أضعاف هذا الشعر! وذاك في عصر الإيمان والنور، ونحن في القرن الخامس عشر. فهكذا كانوا هم أعظم القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل كانوا يبدءون بأنفسهم. دخل عمر رضي الله تعالى عنه يوماً إلى سوق الإبل يتفقد ويستطلع أحوال الناس، إن رأى ضعيفاً أو عاجزاً أعطاه، وإن رأى محروماً أعطاه، وإن رأى منكراً غيَّره، فما رأى منكراً -والحمد لله- فبلد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهله الصحابة ليس فيهم منكر؛ لكن لفت نظره ذلك اليوم أن إبلاً أسمن من غيرها، ففكر! كيف ذلك وكل الإبل ترعى سواء من المدينة؟! فسأل لمن هذه الإبل؟ قالوا: هذه لـ عبد الله بن عمر ثم جيء بـ عبد الله بن عمر وسأله عمر: [[لِمَ يا عبد الله بن عمر هذه الإبل أسمن من غيرها؟ قال: والله يا أمير المؤمنين إن هذه الإبل اشتريتها من مالي، ورعيتها مع المسلمين، واسترعيت لها رعاةً من المسلمين، وهأنذا أريد أن أبيعها فقال عمر: لا. كان الناس يقولون: اسقِ إبل ابن أمير المؤمنين, أورد إبل ابن أمير المؤمنين؛ فلأنك ابن عمر شربت إبلك أكثر، ورعت أكثر، فكانت أسمن من غيرها، لا يا عبد الله: لك رأس مالك, والربح في بيت مال المسلمين قال: سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين]]. فماذا يصنع عبد الله بن عمر أو غيره مع عمر رضي الله تعالى عنه؟! انظروا إلى الحساسية، وكيف بدأ بنفسه في إنكار المنكر، والتعاون على البر والتقوى، ولهذا نصرهم الله ووفقهم.

عاقبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عاقبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان الواحد منهم يذهب إلى الجهاد، وقد يصل إلى أطراف الأندلس أو إلى السند وهو مطمئن، فلن يضيع أهله؛ لأنه لا توجد مغريات أو مثيرات تجعلهم يرتكبون الفواحش -والعياذ بالله- ولن يضيع أبناؤه فالناس في خير وإلى خير والحمد لله، وكل مسلم يستشعر ويحس بمسئوليته نحو الجميع. ولذلك لما جاء رسول كسرى إلى المدينة متطلعاً يريد أن يرى قصور المدينة - وقد جاء من عند الإيوان -البيت الأبيض- وكأنه يسأل: أين البيت الأبيض عند عمر؟ لكن عمر لما هز الدنيا كلها ما كان ليكون له بيت أبيض في المدينة، فدخل الرسول وإذا به لم يرَ إلا بيوتاً عادية جداً, أين أمير المؤمنين، أين عمر؟ قالوا: ابحث عنه في المسجد، فذهب ووجده وحده نائماً في ظل الشجرة، متوسداً حجراً, فما صدَّق أنه عمر! أهذا عمر الذي أرهب كسرى وقيصر؟ فلماذا أوقع الله هيبته في قلوب العالمين يا معشر المؤمنين؟ إنه لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فأولئك عملوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكان حقاً عليه أن ينصرهم، قال تعالى: {ومن أوفى بعهده من الله} [التوبة:111] فنصرهم ورفعهم على العالمين، فوالله ما خسروا شيئاً، بل إنهم ربحوا الربح الأكبر، ولنفترض أنهم جمعوا أموال الدنيا فقد جاء بعدهم مَنْ جمعها، ولكن أين هي؟ أبو الدرداء رضي الله عنه كان يقول: [[يا أهل دمشق، يا أهل دمشق:، مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون يا أهل دمشق، إنه قد بلغنا أن عاداً قد بنوا لَبنة من ذهب ولَبنة من فضة، فمن منكم يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟]] لن يدفعها أحد، فأين عاد؟ ذهبت وانتهت. وكذلك الآن ونحن بعد قرون، لو عُرض على أحد أن يشتري تركة أكبر إنسان ثري في العالم اليوم وبنوكه بدرهمين، فلن يشتريها أحد لأنها ذهبت، ولكنه عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موقوف يحاسب على كل صغيرة وكبيرة.

أهمية الصبر للداعية

أهمية الصبر للداعية إن هذه الشعيرة العظمى، كلما أحييناها في الأمة أحياها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلنصبر على ذلك, ولنحتسب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل ما يصبنا من الأذى؛ وكل ما نلاقيه من محن، وكل ما يعترضنا من فتن، ولنفترض أسوأ الأحوال دائماً، ولنفترض أننا في بيئة لا تقر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إننا في خير لأننا نستطيع أن ندعو؛ وذلك أننا إذا ما قارنا أنفسنا بغيرنا؛ فسنجد أنه لا يوجد في هذا العالم دولة فيها هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا هذه البلاد، وأسوأ من ذلك أنه في تلك البلاد يعذب الإنسان، ويمتحن ويؤذى ويتابع وتكتب عليه التقارير؛ لأنه شوهد وضبط وهو يصلي الفجر عدة أيام في مسجد ما، وهذه مصيبة كبيرة جداً، فالواحد منا إذا رأى كثرة الشر والفساد والمعوقات والأعداء عليه أن يقول: أنا بخير بالنسبة إلى ذلك المسكين الذي توبع لأنه صلى، فأنا على الأقل أستطيع أن أقول: أيها الناس: صلوا. فهذا الركن العظيم وهذه الشعيرة العظيمة عليكم أن تحافظوا عليها، فلا ينظر أحدنا إلى كثرة الشر؛ بل يقارن نفسه بمن هو دونه، فينظر إلى من هو أقل منه أمراً ونهياً عن المنكر فيحمد الله أنه في فسحة، وأنه يستطيع ذلك. إذاً: فالإنسان في مثل هذه الأمور يصبِّر نفسه، ويعزيها، ويسليها، ولا شك أن العاقبة للمتقين، طال الزمان أو قصر، فالله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]. فلا أحد كان يظن أيام الدولة العثمانية -وهي تحكم العالم شرقاً وغرباً حتى وصلت إلى بولندا - أن هذا الشيخ المسكين محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- الذي كان يذهب إلى الناس وإلى أهالي القرية وكلهم يطردونه وكان رجلاً وحيداً أن يكون له هذا الذكر الحسن. فيقبله محمد بن سعود -رحمة الله عليه- ويتحالف معه في تلك المملكة وكانت كلها قرية الدرعية فقط، فما هي بالنسبة للدولة العثمانية أو بالنسبة لـ نابليون وللعالم الذي كان بعد ذلك في أوروبا؟ ولكنها لما بدأت بالتوحيد الخالص لله، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مدها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأظهرها ونشرها، وأبقى له -كما ترون- الذكر الحسن في العالمين إلى هذا اليوم، وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وعادةً يكون انبلاج الفجر عند اشتداد الظلمة, فإذا رأيت الحق يحارب فاستبشر بأن النصر قريب؛ وإذا دارت المعركة بين الحق والباطل بوضوح فاعلم أن النصر قريب؛ لأن الحق هو دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وهو مُتكفِّل به, ولن يُضيع عباده الصالحين أبدا, لكن المشكلة أنهم يأتون من قبل أنفسهم ومن تقصيرهم وتخاذلهم، فإن فعلوا ذلك فقد قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: أنه سيأتي بغيرهم. المهم: أن هذا الدين سيقوم, إن لم يقم على يديك فعلى يدي غيرك, وإن لم يُقَم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على يد الهيئات؛ فسيخرج الله من أبناء المترفين وأبناء المجرمين من يقيمه، فتجد الأب يوزع الخمر والمخدرات، وابنه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر. فهذا دين الله ولا يستطيع أحد أن يسده أبداً، وسيخرج الله له من يقيم الحجة على العالمين، لكن هذه فترات ابتلاء وامتحان لا بد أن تمر.

صبر الدعاة هو من عزم الأمور

صبر الدعاة هو من عزم الأمور كما ابتلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل أحد أكرم أو أمنَّ على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأحظى عند الله من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقد حوصر في الشعب هو وبنو هاشم، إلى درجة أنهم أكلوا أوراق الشجر من الجوع، وكان ذلك لما كتبت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على الكفر -والعياذ بالله- وعلى القطيعة؛ فكان لابد من الابتلاء. وماذا كان يوم أحد؟ وكم كان يوم الأحزاب من الفتن والأهوال التي زلزلت قلوب المؤمنين؟ ولكن في النهاية كان النصر المبين والحمد لله. فالصبر هو أساس النصر حتى عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وقد سُئل الفارس الجاهلي المشهور عنترة بن شداد، فقيل له: كيف تغلب الخصوم إذا بارزتهم؟ قال: كلما قالت نفسي: فر واهرب سيقتلك، قلت لها: اصبري قليلاً لعله يفر قبلي، وما أزال بها حتى يفر؛ سبحان الله! هكذا الإنسان كلما آتاه الله ابتلاء فليصبر قليلاً لعل الله أن يكفيه شره، ولعله هو الذي يذهب؛ وبهذه الطريقة يحصل النصر والله تعالى يقول: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] أي: أن الصبر والتقوى من عزم الأمور، وأهل العزائم معدودون، لكن هؤلاء الأفراد المعدودون هم الذي يعيدون المسيرة كلها؛ لأن هذا الفرد يضع العلامة على الطريق، وهو مثل الذي يتقدم تحت وابل من الرصاص من الأعداء لكي يضع علامة على الطريق ويموت، ثم يأتي الآخر ويضع علامة حتى يمشي عليها الناس، فهذا هو الابتلاء الذي يلاقيه الدعاة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لأنهم يرسمون طريق العودة لهذه الأمة كلها، فإذا تحول الناس إلى الخير، برز النفاق، فالذي كان وقت الشدة لا يعرفك ولا تعرفه، بل وتخلى عنك، إذا أظهرك الله ومكنّ لك جاءك يقول: أتذكر يوم ساعدتك؟ أتذكر كيف أعنتك يوم احتجتني؟ وهكذا حتى في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان النفاق على هذه الصورة، وهو كذلك في كل زمن. والمؤمنون يصبرون في أول الأمر حين يمتحنون ويؤذون, وقد لا يرون شيئاً من النصر؛ فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه، الفتى الذي كان مترفاً في مكة ذهب إلى المدينة ودعا الأنصار إلى الله, فأسلموا حتى ما بقى بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام وقُرئَ فيه القرآن، يُقتل يوم أحد رضي الله عنه، فيأتي الصحابة الكرام وليس له إلا رداءً إن غُطي به رأسه بدت رجلاه, وإن غطيت به رجلاه بدا رأسه، ومات ولم ير شيئاً من النصر؛ لكن الذين عاشوا من بعده كـ عتبة بن غزوان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم، فهؤلاء رأوا كيف أظهرهم الله على كسرى وقيصر وفتحوا العالم؛ لكن من مات في بداية الطريق لم يرَ شيئاً من ذلك ولا أدركه؛ هؤلاء غبطوا ذلك المتقدم، وقالوا: "نخشى أن تكون حسناتنا عجلت إلينا" فخافوا من أن ما أدركوه من الخير ومن النعمة، أن تكون حسناتهم عُجلت إليهم، أما مصعب وعبد الله بن رواحة وأمثالهم رضي الله عنهم فإنهم ماتوا قبل أن تفتح هذه البلاد، وقبل أن تكون تلك النعم. وتشتد الحاجة إلى الصبر كلما كانت الأمة في انحراف، وتحتاج لمن يؤسس لها الخير، ولا أرى أن الأمر قد يحتاج إلى أن أُذكَّر بواقع هذه الأمة الآن، فإنه شيء معرف.

مستهدفون لماذا وما الحل؟!

مستهدفون لماذا وما الحل؟! نحن في هذا البلد نعاني من شيء آخر، رغم ما عندنا من بقايا الخير ومن استجابة في الناس وهي: أننا بلد مستهدف، وما أظن أن أمة في العالم مستهدفة محاربة بشكل واضح من العالم مثلنا رغم أننا لم نؤذ أحداً، وتسمعون ما يثار وما يقال، حتى لو كان عندنا خبر واضح مثل الشمس فلا يمكن أن يروه إلا مزوراً، أو يزيدوا فيه أو ينقصوا، أو يربطوه بشيءٍ لا حقيقة له، حتى من أكرمناهم وأعطيناهم لا يمكن أن يقولوا: جزاهم الله خيراً، أو يسكتوا عن اللوم، وهذا يجعلنا نفكر: لماذا نحن مستهدفون؟ هذا السؤال مهم يصرح به المسئولون والمثقفون والدعاة والذين يقرءون الصحف العالمية ويسمعون الإذاعات العالمية، من الناس من يقول: إن ذلك بسبب الثروة، مع أن هناك من دول العالم من هي أثرى منا، قد يكون عندنا خير كثير، لكن ذلك لا يعد شيئاً وبالنسبة لغيرنا، فإذا قارنت بثروة أمريكا أو اليابان أو ألمانيا الغربية فلا تكاد تصدق مما عندهم من ثروة! وكوننا فتح الله علينا من المال فإنه لا تزال مناطق كثيرة جداً في بلادنا بحاجة إلى بعض الأمور الأساسية من طرق ومستشفيات ومدارس إلخ. فالقضية ليست قضية المال. ورغم أننا أتينا بهم إلى بلادنا وهذا لا يجوز شرعاً، لأن جزيرة العرب لا يجوز أن يجتمع فيها دينان كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفتى بذلك العلماء والحمد لله لكن أقول: مع ذلك أخذوا من الثروة وما سكتوا. وإن قيل: بسبب الأمن، والأمن نعمة عظيمة نحسد عليها، لكن الأمن ما جاءنا من أجهزة الإنذار الإلكترونية المعلقة في كل بيت، ولا يوجد عندما في البيوت مثل هذا، بل عندما ملكنا الكمبيوتر أصبح واقعنا الأمني أقل منه قبل أربعين سنة. إذاً: الأمن له سر وهو نتيجة لشيء آخر تميزنا به هو: هذا الدين، وهذا الإسلام، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] يريدون منا أن نبني كنائس في بلادنا، يريدون أن يدخلوا اليهودية والنصرانية، بل يريدون يجعلوا منا شيوعيين ماركسيين، أو أي ملة من الملل، المهم: لا يريدوننا أن نبقى مسلمين, فكل الحروب مهما اختلفت ومها تنوعت المعارك فهي كلها من أجل هذه العقيدة، من أجل هذا الإيمان، وبالذات أنها -ولله الحمد- عقيدة نقية سلفية صحيحة، هذا هو السبب، ولذلك فالمحافظة على هذه العقيدة، وذب المنكرات التي تحيط بها من البدع والضلالات هو أوجب الواجبات، أي: أن حماية بيضة الدين وأصل الدين هو المحافظة على هذه العقيدة، والإيمان هو أوجب واجب على كل أحد في هذه البلاد، لأن هذا هو السبب، ولذلك نحن مستهدفون، وهناك أخبار كثيرة مفزعة نقرءوها، فلو ربينا الشباب هنا تربية سليمة ما حدثت مثل هذه الأمور. منذ فترة أربعة عشر نفراً من السعوديين قتلوا في شاطىء في بانكوك، في شواطىء الفساد، كم هم الذين أتت من مانيلا جنائزهم، لولا أنها في جرائدنا نحن لقلنا: إنها من هؤلاء الحاقدين المعتدين، وهذا يدلنا على الخواء الذي نعيشه، لما هذا التهافت على الخارج، ما الذي في الخارج؟ نحن الذين العالم كله يغبطنا -كما يقولون- من أجل المال، من أجل الأمن فلماذا نحن نتهافت إليه، نسافر إليه؟ إن الشهوة الرخيصة الشهوة الدنسة تجعلنا نذهب إليه، ثم إذا ذهب الإنسان إلى هناك هل يرجع إلينا يقول: اتقوا الله، هل يرجع يقول: رأيت المنكرات رأيت الإجرام رأيت ورأيت؟ أبداً. مهما رأى فإنما يتحدث، بل إن بعضهم قد لا يرجع أصلاً، وبعضهم يسرق ويذهب، ثم يرجع إلى هنا وهو يقول: إنها بلاد الحرية، أيُّ حرية هذه وقد سلبوك كل شيء؟ لأن الشهوة إذا قادت الإنسان أذهبت عقله ودينه -نسأل الله العفو والعافية- ولذلك فإن حرب مقاومة هذه الشهوة أول ما تبدأ فإنما تبدأ بتأسيس الإيمان والعقيدة الصحيحة ومحاربة البدع، ومحاربة الضلالات، وبناء التقوى وخوف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قلوب الناس، والقبض على المجرمين وملاحقتهم وترصدهم في أماكن وجودهم هذا أمر وعمل لا بد منه، لا شك في ذلك، وبه قوام حياة المجتمع وأمنه.

السبب الحقيقي للاستهداف

السبب الحقيقي للاستهداف إذاً: الأمن له سر، وهو نتيجة لشيء آخر تميزنا به هو هذا الدين (الإسلام) {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] يريدون منا أن نبني كنائس في بلادنا، يريدون أن يدخلوا اليهودية والنصرانية يريدون أن يجعلونا شيوعيين ماركسسين أو أي ملة من الملل، المهم لا يريدون أن نبقى مسلمين, فكل الحروب مهما اختلفت ومها تنوعت كلها من أجل هذه العقيدة، من أجل هذا الإيمان، وبالذات لأنها عقيدة نقية سلفية صحيحة، هذا هو السبب. ولذلك فالمحافظة على هذه العقيدة، وذب المنكرات التي تحيط بها من البدع والضلالات هو أوجب الواجبات، أي أن حماية بيضة الدين -وأصل الدين هو المحافظة على هذه العقيدة- هو أوجب واجب على كل أحد في هذه البلاد، لأن هذا هو السبب، ولذلك نحن مستهدفون. وهناك أخبار مفزعة نقرؤها، فلو ربينا الشباب تربية سليمة ما حدثت مثل هذه الأمور، فقد قرأنا أنه أربعة عشر نفراً من السعوديين قتلوا في شاطىء من شواطئ الفساد بانكوك. كم هم الذين أتت جوائزهم من مانلا؟ ولولا أنها نشرت في جرائدنا لقلنا إنها إشاعات من الحاقدين المعتدين، وهذا يدل على الخواء الذي نعيشه، والتهافت على الخارج، من أجل الشهوة، إذا كان العالم يغبطنا -كما يقولون- من أجل المال من أجل الأمن فلماذا نحن نتهافت عليهم؟ من أجل الشهوة الرخيصة الدنسة؟ ثم إن بعضهم لا يرجع أصلاً، وبعضهم يسرق وينهب، لكن يرجع هنا ويقول: رجعت من بلاد الحرية؛ لأن الشهوة إذا قادت الإنسان أعمت بصيرته وأذهبت عقله ودينه -نسأل الله العفو والعافية- ولذلك حرب مقاومة الشهوة أول ما تبدأ بتأسيس الإيمان والعقيدة الصحيحة ومحاربة البدع، والضلالات، وبناء التقوى وخوف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قلوب الناس، والقبض على المجرمين وملاحقتهم ورصدهم في مظان تواجدهم، وهذا أمر لا بد منه، وبه قوام حياة المجتمع وأمنه.

أهمية العقيدة الصحيحة وإحياء رسالة المسجد

أهمية العقيدة الصحيحة وإحياء رسالة المسجد لا بد من الوقاية بتربية الناس على العقيدة الصحيحة والتقوى وخوف الله، والرغبة في الآخرة، والزجر عن الشهوات من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروئة، ومن خلال خطب الجمعة، ومن إحياء المدارسة في المساجد، وأن يعود للمسجد قيمته حتى يرتبط الإنسان إذا تاب بالمسجد، وبعض الناس إذا تاب لا يدري إلى أين يذهب، إذا أتى إلى المسجد يجد أهله منشغلين بطلابهم، وإذا أتى إلى الهيئة وجدهم مشغولين أيضاً، فلا يدري أين يذهب، ولا يجد من يدله إلى الطريق الصحيح! لا بأس أن تعطيه شريطاً، لكن مع ذلك اربطه بالمسجد، وقل له: اذهب إلى المسجد وصل، واسمع ذكر الله، وتعلم كتاب الله، وإن كنت محتاجاً فأهل الخير سيعطونك من فضل الله تبارك وتعالى، المسجد كله خير، كله بركة، كله نور، فلما جعلناه للصلاة فقط انتهى أثره في حياة الناس، لقد كان المسجد في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة هو مقر الشورى، هو مقر القضاء، هو مقر العلم، مقر الفتيا، وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر، أما نحن الآن فمقرنا المقاهي والملاهي والملاعب التي نضيع فيها الساعات الطوال، والمسجد ليس له إلا تلك اللحظات؛ وهذا لمن يأتي إليه!

أكثر المشاكل تحتاج إلى صبر وتعاون

أكثر المشاكل تحتاج إلى صبر وتعاون أقول أولاً وآخراً: اصبروا واحتسبوا، وأخلصوا العمل لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واعلموا أن كل من يدعو إلى الله عز وجل، وكل من يُعلم الناس كتاب الله، وكل من يدعوهم إلى الخير فهو معكم، وإنما خطؤنا وتقصيرنا هو من أنفسنا، فإننا لا نتزاور، ولا نتعارف، ولا نتعاون، ولا يشدُّ بعضنا من أزر بعض، واعلموا أن بعض الأمور قد تستعصي على عضو الهيئة بينما يستطيع أن يحلها إنسان آخر بطريقة أخرى لما له من معرفة في الشرطة، أو في الإمارة، أو في أي إدارة أخرى، فتحل القضية، ويكسب الأجر العظيم، وتكون الشفاعة الحسنة التي يؤجر عليها صاحبها. إننا قد لا نشعر بمشكلات بعضنا البعض، المحاكم لا ندري ما يدور فيها، فهم متخمون بالادعاءات والمشاكل، وهيئات التمييز تقول: لا نقدر أن نغطي أعمالنا لكثرة ما لدينا من مصائب، المدرس يقول: نحن جداولنا مزدحمة، تحضير في الليل وتدريس بالنهار؛ فهذه الأعمال جعلت كل واحد منا في وادٍ، بينما لو وجد شيء من التنسيق وبذل بعض المجهود لاستطعنا أن نحقق الشيء الكثير بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا يلقي كلمة، وهذا موعظة، وهذا يطرح مشكلته على إخوانه فيجد عندهم الحل. وأضرب لكم مثالاً من واقع المحكمة، باعتبارها محكمة شرعية وهي أقرب شيء للهيئة، وما تراه أنت منكراً لا شك أن القاضي يراه منكراً، أقول: أنا أعلم ما تعاني الهيئات من المحاكم المستعجلة لكن ذلك، لعدم وجود تنسيق ولقاءات خارج الدوام فيما بيننا، حتى نأتي على هذه المشاكل، ولكن كل واحد منا يعمل بدون أخذ مشورة من الآخر، وبعض القضاة يريد أن يطبق شروط الفقهاء -عشرة شروط أو أكثر- في القرن الثاني أو الثالث. فمثلاً: لا يعزره لعدم وجود الشروط، أو يقول: قد وبخت الجاني، وهذا غير لائق. أحد القضاة يأتيني وهو من خريجي الجامعة يقول: أتاني شخص قد شرب الخمر اثني عشر مرة، فلما قلت له: الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا شرب الرابعة فاقتلوه}، قال: القضاء الأعلى لم يفعل ذلك، إذاً: لا بد أن نضع عقوبة رادعة لشرب الخمر لأنه انتشر، ومثل الخمر الخلوة، التي لا يبقى بعدها إلا الفاحشة الكبرى -الزنا- التي يحذر منها حتى الغرب الإباحي، فهذه لا يكفي فيها التوبيخ والزجر كما فُعل مع من شرب الخمر. أقول: لا أريد أن أتكلم في هذه المشاكل لذاتها، لكن أقول: هذا من ضعف التعاون والتنسيق بين المسئولين في الهيئة -ولا تؤاخذوني في ذلك- وبين المسئولين في المحاكم المستعجلة، وبين المسئولين أيضاً والدعاة، وبين كل ما يهتم بهذا الدين، لو كان هناك شيء من التعاون لكان غيرك يستطيع أن يفعل ما لا تفعل أنت، يرفع إلى الجهات العليا ما لا تستطيع أن ترفع، فأنت قد تتهم أنك تتكلم عن شيء لأن لك غرضاً في نفسك، لكن عندما يأتي الأمر من غيرك ممن له قدرة فإنها تصلح الأمور؛ لكن أقول: ما زلنا نتهاون حتى أصبح رجل الهيئة كأنه خصم، وهذا خطأ، فرجل الهيئة محتسب، والمحتسب لا يؤاخذ؛ إن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران، هذا دين الله عز وجل وهذا شرع الله قديماً، وحتى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه هذه فتواه بذلك ومعممة على جميع المحاكم وجميع الهيئات، وما أشاعه الكذابون والمجرمون أن الحسبة أوقفوا حركة المرور، وطلبوا من كل واحد مع امرأة أن يخرج الصك أنها زوجته فهذا تشويه، وهذا الأمر لم يسبق أن حدث، لكن الإرجاف، والإشاعة والكذب تجعلهم يهولون هذه القضايا، ولنفترض أنه حصل واشتبهت الحسبة في أحدهم وسئل: هذه زوجتك أم لا؟ فلا حرج في ذلك، فهم مترددون بين الأجر والأجرين، لكن إذا اتهم المحتسب وظهر أنه يقصد أمر آخر فهنا يفصل عن العمل، ويبحث عن أناس غيره من الطيبين، لكن المهم أن يعمل جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الرجل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر محتسب وليس خصماً، لا أمام المدعي العام، ولا أمام المحكمة، فلا يقال: ادعى رجل الهيئة وأجابه المدعى عليه فلان بن فلان، ويصل الأمر إلى أن يضرب رجل الهيئة والكل ينظر. ولا أقول هذا لإثارة هذه المشاكل، بل أقول: لتصبروا عليها، لأننا في زمن الصبر وإن لم نصبر فلن نفوز، بل هذا الصبر وهذا الابتلاء أساس الفوز، وأساس النصر، وهو أول طريق الخير، وأنا أقول هذا على سبيل التفاؤل لا على سبيل التيئيس، أقول: وهذا دليل على أن الفجر قريب -بإذن الله- والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيسخر لدينه من يقوم به، وسوف يخرج من أصلاب المجرمين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لنا عبر في الأمم الأخرى، نحن الآن نشكوا من التبرج في الأسواق، والعالم من حولنا بدأ يعطينا عبراً، المرأة في الدول الغربية بدأت تطالب بالعودة إلى البيت، في مصر أكثر دولة إسلامية ركز عليها الاستعمار لإفساد جيلها، الفتيات بدأن بالتحجب، ولا يوجد علماء ولا دعاة ولا هيئات تدعمهم، بدأن يتحجبن من ذات أنفسهن في الجامعة، في عدن الشيوعية يخرج البنات من طالبات الثانوية في مظاهرات للمطالبة بالفصل بين الطلاب والطالبات، في الجزائر مليون امرأة تخرج للمطالبة بمنع الرياضة في مدارس البنات، ومنع الاختلاط، وعودة الحجاب. بدأت تعود الأمة لدينها في كل بلد وهي لا تعرف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لما ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممن يجب عليه أن يقوم به، استبدل الله بهم قوماً آخرين ثم لم يكونوا أمثالهم، فقاموا بهذا الدين، لكن ما علينا إلا الصبر، هذا الأمر قد يستمر مائة أو مائتين سنة، وذلك لا يهمنا، الذي يهمنا هو أن نجتهد ونصبر، وأن كل ما اشتدت الظلمة نرتقب الفجر.

الأسئلة

الأسئلة

غلبة الدين وقهر الرجال

غلبة الدَّين وقهر الرجال Q غلبة الدين، وقهر الرجال، نريد منكم شرحاً كافٍ له، وجزاكم الله خيراً؟ A غلبة الدَّين وقهر الرجال هذان هما اللذان استعاذ منهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونستعيذ بالله منها جميعاً، هذا أشد ما يمكن أن يصاب به الإنسان، الهم والحزن: {أعوذ بك من الهم والحزن، وغلبة الدَّين وقهر الرجال} أما الهم فهو لما يستقبله الإنسان من أمره، ولا يدري كيف سيواجهه، والحزن لما فات من أمر، فهو حزين على شيء قد وقع، كخير فات، أو شر نزل أو غير ذلك، وغلبة الدَّين ليس هناك أشد منه، ويقال: إن لقمان الحكيم قال في وصاياه: ' وحملت الأثقال كلها فما وجدت شيئاً أثقل من الدين ' فلا أشد من الدين، ولا أسوأ على قلوب الرجال الشرفاء؛ أهل النبالة والكرامة من أن يأتيه صاحب الدَّين وهو بين الناس أو وحده ثم يقول: متى تعطيني؟ وليس أي دين، ولكن غلبة الدَّين، وإذا كان الإنسان من أهل الكرم والخير والفضل فإنه يورط أكثر، لا يقدر أن يترك بيته، ولا يقدر أن يترك التزاماته، فنسأل الله أن يعيذنا وإياكم من ذلك. وقهر الرجال: لأن الظلم مر، من أَمَر الأشياء الظلم والقهر، كأن يواجهك شخص ويقهرك ويظلمك بشيء واضح لك كالعيان، ولكنك مقهور لا تستطيع أن تتصرف تجاهه، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من ذلك.

الشدة والرفق في الدعوة

الشدة والرفق في الدعوة Q هل يستخدم الإنسان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القوة مع الناس أم يستخدم الرفق؟ A نعم. هذه مشكلة، وأنا أتعجب من بعض الناس حين يأتي يتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكثر من مرة في مجالس كذا يقولون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق، فعندما تقول: صلوا، فإنهم ينفرون منك، ولكن حين تقول: جزاك الله خيراً، أو الله يهديك وتكلمه بالرفق فإنه يأتي إلى المسجد. قلت لأحدهم: إذا كان المركز -مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فيه ثلاثة أعضاء أو أربعة أو خمسة، وهم في حي سعته خمسة كيلو متر مربع أو عشرة، وفي كل سوق أكثر من مائة دكان، وهذه الصلاة التي فرضها الله على كل مسلم، ويرتفع الأذان بها في كل أفق، والأطفال الصغار والعجائز كل واحد يعرف وجوبها، ثم يحتاج كل فرد إلى مداراة ورفق، وإلى أن يتكرر له ذلك كل مرة، فكم تتوقع أن يصلي في المسجد؟ وكيف تتوقع أن يكون الرد؟ لا أقول: إنه لا بد أن نكون جفاة؛ لكن علينا ألا نحمِّل الإنسان ما لا يطيق، وهنا يأتي واجب على كل إنسان، هذا السوق له إدارة تقوم عليه، ومن المفروض على هذه الإدارة أن تأمر الناس بإغلاق الدكاكين بدون حضور الهيئة أو أن تمر الهيئة فتأخذ المتخلف، لا. لابد أن نقول للناس: صلوا، المتسوق الذي يذهب إلى السوق واجب علينا جميعاً أن نقول له: صل وأن نحركه للصلاة، وبهذا نكون قد خففنا من الضغط على الهيئة، وصاحب الهيئة واجبه أن يرى الناس فيه الحزم. فمن أسباب المشكلة، أن الإنسان يؤخذ عليه العهد مرتين أو ثلاثاً وبعدها لا يكون له سلطة، أول ما يدخل يقول: تقسم بالله، ثم يتعهد ولا يبالي لأنه يعرف أنه لا يوجد عندنا غير هذا الدفتر، لو كان يعرف أن هناك حساباً وأن هناك مسئولية لاهتم، كما يهتم بالإقامة، إذا ضيعت الصلاة فلا مشكلة، فأصبحت الإقامة أغلى من الصلاة، وقد صرنا الآن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وقد أخبرنا بكل فتنة-: {يقال للرجل: ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده! وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان} رجل كريم وفيه خير وفيه، لكن لا يصلي، فأي خير في هذا الذي لا يصلي؟ هذا ليس فيه ذرة من الخير، الذي لا يصلي لا يكون عنده ذرة من إيمان. لقد استهنا بأمر الصلاة، وعمر رضي الله عنه لما طعنه المجوسي في المحراب، وسقط مغمياً عليه والدم ينزف منه؛ أفاق وهو في هذه الحالة، وقال: أصلى المسلمون؟ لأنه كان الإمام، فأهم قضية فكر فيها عمر هل صلّى المسلمون؟ هذه القضية الأساسية، نقول: لما تهاونا بأمر الصلاة وأصبحت مسألة شكلية لم يعد يعبأ الناس بمرور عضو الهيئة؛ لأننا تركنا واجبنا نحن، أقول: هذا كالدوريات المنتشرة في الأسواق والتي تركت واجبها، وعندما تقول له: لماذا لا تأمر الناس أن يصلوا؟ يقول: لا نريد أن تكون هناك مشاكل، نحن مختصون بالنواحي الأمنية فقط، نقول: ماذا يخسر العسكري لو أمر الناس بالصلاة؟ هل يؤثر ذلك على عملهم وهم منتشرون في كل مكان؟ لا يؤثر، ولن يخسروا شيئاً، بل هذا فيه تعاون مع أعضاء الهيئة، أما بهذا الشكل فقد أصبحنا أضحوكة أمام الناس، فإذا مر عضو الهيئة من أمامهم قالوا: انتهى الأمر، ويعود كل شخص إلى عمله من بيع وشراء وكأنه لم يحدث شيء، لأنه يعلم أنه لن يعود إليه، ولا يوجد من يأمره وينهاه، فنحن بهذا عرضنا ديننا للسخرية، وهذه السخرية لا تختص برجال الهيئة فالذي يتكلم لا يتكلم في الهيئة وحدها بل يتكلم في المجتمع كله، وفي الأمة كلها. أقول لرجال الهيئة: اتقوا الله ما استطتعتم، عليكم أن تبذلوا جهدكم، وعليكم أن تأخذوا اثنين أو ثلاثة منهم أو أكثر ليكونوا عبرة للآخرين، على رئيس الهيئة أو مسئوليها أن يزجرهم أو يسجنهم أو يحولهم إلى المحكمة بشكل يسمع به الآخرين؛ ومع هذا فالواجب على الدوريات وعلى المتسوقين، وإدارة السوق إذا كان للسوق إدارة، وعلى كل إنسان، ومن ذلك الدعاة أن يأتوا فيقولون: هذا الحي الصلاة فيه قليلة، إذاً لا بد من عمل محاضرة في هذا الحي وفي هذا المسجد عن أهمية الصلاة حتى تقوم الحجة، ولعل غافلاً يسمع ذكر الله، ولعله إذا رأى الناس يصلون أن تتحرك همته ويصلي مع الناس.

التعاون مع الهيئات

التعاون مع الهيئات Q ما سبب عدم زياراتكم لرجال وأعضاء الهيئة؟ A من الأشياء التي نحتاج إليها أننا نجلس دائماً أو نتزاور أو نتلاقى، أنا لا أكتمكم أني ما كنت أدرك بعض ما يدور خاصة في الهيئات، أقول: هذا من الخطأ لأنهم قائمون بجبهة، وهم يقومون بأعمال كثيرة، لكن يمكن أن نذهب مثلاً إلى الأمن العام ونرى كيف يعملون، والمفروض أن نعرف حال بعضنا البعض، لكن لما قرأتُ نظام الهيئات الذي صدر فيه الأمر الملكي وجدت فيه ثلاثة أيام توقيف أو خمس عشرة جلدة، العضو يقوم بالدعوة إلى الله وغير ذلك، فلما أتيت أسأله فإذا بهذا الأمر ما نُفذ، مع أنه منصوص عليه.

حرية الفكر

حرية الفكر Q ما نصيحتكم حول ما يقال من حرية الفكر، وتطبيق الأمر الصادر؟ A أما من يقول: حرية الرأي، فليس عندنا هنا حرية للكفر، ليس عندنا حرية لترك الصلاة، ولكن عندنا حرية إسلامية -والحمد لله- فالإنسان لا يؤخذ بظلم، فلا يحاكم إلا في محكمة شرعية، وهذه هي الحرية التي يفتقدها الذي العالم كله ولا يستطيع أن يجدها؛ لأن أحكامه وضعية وشرائعها وضعية، أما نحن -والحمد لله- فعندنا شرع الله، فالحرية الحقيقة للأمة هي طاعة الله، ووجود إنسان لا يصلي وهو مصر على ذلك مع عدم وجود السلطة والقوة الرادعة بيد رجل الهيئة هذا خطأ، ولا شك أن هذا يجب التنبه إليه من قبل الجميع، كل بحسب موقعه.

مشكلة دوام الهيئة

مشكلة دوام الهيئة Q إن هناك مشكلات حيث إنه يوجد دوامين على فترتين، ولا توجد فرصة لزيارة الأقرباء أو الأصدقاء فما توجيهكم؟ A موضوع الدوامين نحن ذكرنا أن الصبر والاحتساب لا بد منه، وأنا معكم أنه لو كان رجل ضعيف مثلي ما قدر على دوامين، لكن -الحمد لله- أن الله جعل فيها من هم أكفأ وأقدر وأصبر، فاصبروا واحتسبوا الأجر، ولا شك أن هذا أيضاً يستدعي من المسئولين دراسة الوضع، وإمكانية تكثير الوظائف وتكثير العدد، بحيث تكون نوبات، فيتاح للإنسان أن يعود مريضاً، أو يزور قريبا، أو يقوم ببعض شئونه، وهذه لا شك أنها تؤثر على عمله، لأن الإنسان لا يمكن أن يكون جثة بلا روح، ولا يصح هذا، ولكن يأتي وهو راغب، ولديه الإمكانية والاستعداد النفسي، أما إذا جاء وهو مشدود فإنه لا ينفع ولا يعمل، وربما أدى ذلك إلى التسيب ولا سيما إن لم تكن هناك رقابة، خاصة مع ضعف الحوافز المادية.

الوقت الضائع

الوقت الضائع Q ما هي نصيحتكم لمضيعي الأوقات وعدم الاستفادة منها في طلب العلم؟ A علينا أن نستغل فرصة فراغ وقتنا بين أوقات الصلاة -وأي فراغ عموماً- فنأتي بكتاب ونقرأ كل يوم صفحة أو بابا أو حديثاً أو حديثين فتقوى بذلك إيماننا، وتعرفنا بالله عز وجل، وتفقهنا في ديننا، وتجعلنا نقدم على هذا العمل ونحن مخلصون محتسبون. إن هذا العلم نور سواء كان من كتاب الله أم من سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى لو ابتدءنا بالأصول الثلاثة، ثم ترقينا منها إلى كتاب التوحيد ثم إلى فتح المجيد، هذا في الحقيقة يزيدنا علماً وإيماناً؛ لأن هذا كلام الله ورسوله، وأيضاً يجعل الإنسان إذا دعا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يدعو على علم وعلى بصيرة وخير، وأقل شيء أنه خير من كثير من اللغو الذي قد نقع فيه كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وهذا حال أكثر نجوانا وحديثنا، إن لم يكن فيما يضرنا فهو فيما لا ينفعنا إلا من كانت الآخرة نصب عينيه. أقول: نريد الإخوة في المراكز إن كان قد برز منهم في العلم شخص فليعلم الآخرين أو يستفيدون منه، إن كانوا اثنين فليتعاونا، إن كان كلهم كذلك فليتعاونوا. ثم خارج المركز أيضاً لا بد من ذلك، والوسائل -والحمد لله- كثرت هذه الأيام، بما منَّ الله تبارك وتعالى به مثل إذاعة القرآن، ومثل الأشرطة، والكتيبات، ثم الكتب، وكل ذلك أيضاً موجود ومتيسر، وكذلك في غير وقت الدوام يمكن حضور حلقات العلم ومجالس الذكر وندوات الخير في المسجد الحرام وفي أي مسجد، فهذه كلها من عوامل تقوية الإيمان، وزيادة العلم، والزاد الذي نتزود إليه في طريق الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

المكاره في الدعوة

المكاره في الدعوة Q ما توجيهكم ونصيحتكم لرجال الهيئة الذين تواجههم مشاكل مع رجال الشرطة؟ A أصل المشكلة هي أننا نريد عملاً بلا سلبيات أو أخطاء وهذا مستحيل، لا يمكن أن يوجد عمل إلا وفيه أخطاء، بل نقول: لا دعوة ولا عمل إلا بما تكره النفس، وأصل القضية أن أحد العسكر ذهب وتشاجر مع صاحب محل؛ لأنه قال له: صل، فقالوا: إذاً هذا يسبب مشاكل، فإن العسكري ليس له دخل، بل يكون فقط مع العضو ولا يقول للناس صلوا، وهذا ليس بحل، بل إن كان الخطأ من هذا العسكري وتكلم بكلام لا يليق، أو أساء عوقب وحده، ويستمر الباقون في الدعوة، وإن كان الخطأ من صاحب الدكان أو التاجر حوسب وقيل له: أنت تستحق أكثر لأنك رفعت صوتك على إنسان وهو يأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر وذلك عمله الرسمي، لكن للأسف بناءاً علىقضية مثل هذه نقفل الباب كله! وبعد هذا فإن الناس لن يقروا شيئاً من الخير! إذا واحد علم أنك ستداهم مصنع الخمر؛ فهل تتوقع أن يقال لك: تفضل، هذه القوارير، وهذه البراميل؟ إن هذا لا يمكن أن يكون ولا بد من التعرض لشيء من الابتلاء، فإذا قلنا: ما دام يحدث بعض المكاره فلا ننهى عن المنكر، وهكذا كل منكر لا بد أن نتعرض في إزالته لبعض المكاره، فإذا تركنا المنكر لأجل ذلك انتشر الفساد، والمسألة من الناحية الشرعية واضحة جداً فإن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ويراعى مقادر المصلحة والمفسدة، فنعمل على تحقيق المصلحة العظمى ودرء المفسدة الكبرى وأما الصغرى فتلقى كأن لا وجود لها، أما إذا أردنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسير إلا على مصلحة (100%) ولا يوجد مفسدة متوقعة فلن نعمل شيئاً. وهناك شيء أهم من ذلك، وهو: أنه يجب التنسيق مع عضو الهيئة، فإنه يسيء إلى الهيئة ويسيء إلى عملها وسمعتها ويكون هو نفسه متضايقاً من الأمر بالمعروف، هو نفسه لا تهمه الصلاة، بل لا يهمهم أن يمشي معك ليدعو الناس إلى الصلاة، ثم بعد هذا كيف يؤمن على امرأة إذا وقفت عنده أو صبي أو مال؟ نعم يمكن أن يقولوا: هذا يحدث في الشرطة والمجرم مجرم في أي مكان، والذي لا يخاف الله فهو كذلك في أي مكان؛ لكن الهيئة سمعتها غير سمعة بقية الأجهزة، بل لو وقعت بعض المشاكل في الشرطة فلا أحد يعرف عنها شيئاً ولا أحد يلومها على ذلك، أما الهيئة فالنقطة البسيطة تملئ الآفاق. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

المسلمون ودراسات المستقبل

المسلمون ودراسات المستقبل تحدث الشيخ حفظه الله عن الدراسات المستقبلية عند الغرب والمسلمين، وبين موقف الغرب من دراسات المستقبل، فذكر أنواع الدراسات المستقبلية الغربية، من خرافات وأساطير، ونبوءات تزخر بها الكتب المقدسة المحرفة عندهم، وبين الفرق بينها وبين النظر في سنن الله الربانية، والخيال العلمي، والدراسات العلمية المتخصصة في معرفة المستقبل، سواء كانت في موضوع القوة المسيطرة على العالم أو موضوع السكان والبيئة إلخ، ثم ختم درسه بذكر الموقف الشرعي من الدراسات المستقبلية، من حيث وضع الدراسات المستقبلية المصيبة والدقيقة، والتخطيط ضد هيمنة الغرب دعوياً وعسكرياً، واقتصادياً وعلمياً.

التطلع إلى معرفة المستقبل

التطلع إلى معرفة المستقبل بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جمعنا في هذا الدرس، ونسأل الله عز وجل بمنه وجوده وكرمه أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا أئمة للمتقين، إنه سميع مجيب. الموضوع الذي نريد الحديث عنه في هذا الدرس، موضوع كبير وخطير ومهم لكل من يدعو إلى الله تبارك وتعالى ومن يهمه أمر هذه الأمة ومستقبلها وشأنها، ولن نستطيع -بطبيعة الحال- أن نوفي الموضوع حقه، ولكن نرجو أن نوفق -بإذن الله تعالى- إلى أن نعطي كل أخٍ مسلم فكرة عنه؛ بحيث يكون هذا دافعاً له لمزيد من البحث والتحري والاهتمام، فإن أول ما تظهر الأعمال العظيمة - وكل أمر هذه الأمة يحتاج أعمالاً عظيمة - أول ما يكون ذلك هو الفكر، ثم يأتي الاهتمام ثم يكون العمل، وهذا ما نرجو أن يكون، وما ذلك على الله بعزيز. إن التطلع إلى المستقبل والتشوق إليه والتشوف إلى معرفته أمر مفطور في النفوس جميعاً، فليس من البشر أحد إلا وهو يتطلع ويشتاق إلى معرفة ماذا سيكون له أو لأمته أو لغيره، وهذا أمر ركبه الله تبارك وتعالى في النفوس، وهو من حكمة الله عز وجل، ولذلك نجد أن الناس تنوعت مصادرهم في هذا -كما سنبين إن شاء الله- أو تحسّر من تحسر على فقده كما كانت عادة العرب، فظهر ذلك في شعر زهير بن أبي سلمى: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي فكلٌ مشتاق إلى ذلك.

علم الغيب يختص بالله

علم الغيب يختص بالله والله تبارك وتعالى قد بين لنا أصلاً كلياً عظيماً من أصول هذا الدين، التي يجب على كل مسلم أن يعتقدها، وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:65 - 66] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].

من يطلع على الغيب

من يطلع على الغيب فالغيب لله تبارك وتعالى وحده، ولكن فضل الله تبارك وتعالى عظيم؛ فإنه يُطلع بعض رسله ويُطلع بعض أوليائه على شيء مما قد يحدث؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن:26 - 27]. ومن ذلك المبشرات وهي الرؤى الصالحة، ومن ذلك ما أخبر به الأنبياء مما أطلعهم الله تبارك وتعالى عليه من أمور الغيب مما سيقع، إلا أن هناك أموراً اختص الله تبارك وتعالى بعلمها، فهي من الغيب المطلق الذي لم يُطلع الله تبارك وتعالى عليه أحد، ومن ذلك علم الساعة، ووقت قيامها، فهذه علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو تبارك وتعالى، والناس اختلفوا في هذا اختلافاً عظيماً وتباينوا فيه، فإن هذه الحاجة الفطرية في النفوس لمعرفة الغيب دفعت كل أحد إلى أن يسلك طريقاً لمعرفته بحق أو بباطل، فاختلط الحق بالباطل أو الحابل بالنابل -كما يقال- في قديم الدهر وحديثه.

أنواع مصادر علم الغيب

أنواع مصادر علم الغيب هذا شأن كل قضية من القضايا الاعتقادية كالإيمان بالله وملائكته والإيمان بالقدر وغيرها من الأمور التي ضلّ فيها الناس واختلفوا، مع أن الحق فيها قائمٌ وواضح والحمد لله؛ ولذلك نستطيع أن نوجز تقسيم مصادر علم الغيب أو معرفة المستقبل الواقع؛ لأنه لا حديث لنا عن الغيب الماضي وعن نشأة الكون وبداية الخلق، فلا شأن لنا بذلك، وإنما الكلام عن المستقبل. فالناس تنقسم مصادرهم في معرفة هذا إلى ثلاثة مصادر بحسب الحق والباطل الذي فيها:

النوع الأول: المصادر الباطلة

النوع الأول: المصادر الباطلة وهي مصادر باطلة قطعاً، وما توصل إليه فهو باطل، فليست مصادر حق، ومن ذلك ما تعودته كثير من الأمم في القديم والحديث من السحر ومعرفة الغيب، أو ادعاء ذلك عن طريق الكهانة والتنجيم والسحر، وعن طريق الأبراج والشعوذة، وعن طريق الخط والرمل الباطل الذي يزعم الدجالون والمشعوذون أن الله تبارك وتعالى علمه لأحد أنبيائه، فذلك من الحق لا شك كما جاء في الحديث لكن ذلك ليس كما يصنعه الدجالون والمشعوذون عن طريق فك الطلاسم، وعن طريق سر الحروف -كما يسمونه- أو السيمياء، وهذه الأنواع موجودة ومشهورة عند أهل الكتاب وغيرهم. ومن ذلك ما هو موجود في أول تفسير الطبري وأشار إليه ابن كثير رحمه الله في أول التفسير عند قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] وذلك أن اليهود قد ظنوا هذه الحروف المقطعة رمزاً لمُلك هذه الأمة، وأنها ستبقى كذا وكذا من الأعوام، قدروها أول الأمر بـ (150 عاماً إلى 400 إلى 700) على اختلافٍ في الروايات واختلافٍ -أيضاً- في دلالة الرموز، لأنها تختلف دلالة الرموز والحروف، وهذه دلالة قديمة موجودة في كتب أهل الكتاب، كون الحروف رموزاً إلى حقائق من علم الغيب -كما يزعمون- موجود عند أهل الكتاب في كتبهم، وهي موروثة عن قدماء الصابئة والأمم السابقة كالبابليين والكلدانيين وأمثالهم من الوثنيين، فإنه كان من جملة طلاسمهم وشعوذتهم وتنجيمهم أنهم كانوا يستخدمون حروف الجمّل، التي تكتب: أبجد هوز حطي كلمن إلخ ويرمزون لكل حرف برمز، يقولون: إنها تحتوي على أسرار ما كان وما سيكون. وما من مسلم والحمد لله إلا وهو يعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد}. ومع ذلك فإن هذا واقع، وأكثر ما يذكر في هذا على سبيل التمثيل الموجز "القبالة اليهودية" التي قد تكتب "كبالة" باعتبار الحروف اللاتينية، هذه الكبالة علم سريّ عند اليهود يعتمد على السحر والطلاسم، ويزعمون أنهم به يكتشفون ما سيقع في المستقبل، ويؤولون رموزاً موجودة في المزامير وفي الأسفار القديمة، مثل: "سفر دانيال" وغيره، وكذلك ورث النصارى هذا العلم أو جزءاً منه، وأضافوا إليه ما أضافوا، مثل: "رؤيا يوحنا" المشهورة، وهي آخر ما يوجد في العهد الجديد أو الأناجيل من الرسائل، وهي موجودة لمن أراد أن يطلع عليها. المقصود أن هذا العلم -كما يسمونه- من العلم الباطل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد سماه علماً، وإن كان ليس حقاً؛ قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] فالمقصود أن هذا كان متفشياً في الأمم قبلنا. ثم ظهر وتفشى في الأمة الإسلامية -مع الأسف الشديد- وأظهر ذلك الرافضة، عندما ادَّعَوْا أن لديهم كتاب " الجفر " و" الجامعة " وأنه في الجفر يوجد خبر ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة، وأن هذا الجفر منسوب إلى جعفر الصادق، كتب فيه الملاحم إلى قيام الساعة، ويوجد لديهم بعض النسخ إلى الآن في بعض المكتبات، وبعضهم يفك رموزه ويحللها على أنها أحداث معينة وقعت أو ستقع. ولا شك أن الرافضة والشيعة الذين كان مبتدأ أمرهم -كما تعلمون- فكر عبد الله بن سبأ اليهودي تأثروا جداً باليهود وما عندهم وأخذوا منهم، ومن جملة ما أخذوا منهم هذا الادعاء. فهم يزعمون أن أهل البيت يعلمون الغيب، وما كان وما سيكون، وأن هذا هو العلم المخفي أو العلم الخاص المضنون به على غير أهله، الذي لا يطلع عليه سواهم، وقد ادعى ذلك -أيضاً- الصوفية؛ فإنهم زعموا أن أولياءهم وكبارهم يعلمون ذلك بطريق كسبي أو كشفي، ومن ذلك ما هو مشهور عن ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما ممن كتبوا في ذلك، وقد عظمت الفتنة بذلك، ومن العجيب أنه في بداية أزمة الخليج الماضية شاعت عند الناس أبيات نسبت إلى ابن عربي. وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وقف لهؤلاء جميعاً بالمرصاد، وبيّن باطلهم، وزيّف كلامهم، حتى إنه -رحمه الله- دعاهم إلى المباهلة لأنه واثق وموقن أنهم على باطل، فدعاهم إلى المباهلة فيما يدّعون ويزعمون من أخبار مما يقع في آخر الزمان وفي نهاية أمر هذه الأمة وشأن دولها وملوكها، وهذا موجود في الجزء الرابع من مجموع الفتاوى (ص:82) وما بعدها ومثلهم -أيضاً- الرفاعية البطائحية وأشباههم، فانتشر هذا عند الصوفية كما انتشر عند الرافضة، وانتشر هذا عند العامة والخاصة؛ لأنه كما قال ابن خلدون: ' أكثر وأول من يهتم بأخبار المستقبل وقيام الدول وسقوطها هم الملوك والحكام الذين ليسوا على العقيدة الصحيحة؛ فهم يهتمون بأمر ملكهم كم سيبقى؟ وكم سيأتي بعدهم من ملوك؟ إلخ ' لكن الأمر شاع وانتشر حتى أصبح -أيضاً- بين العامة، ومن العجيب لمن يقرأ كلام ابن خلدون رحمه الله عندما يقول -وهذا معنى كلامه بإيجاز-: "إنه يمر كهان أو منجمون جوّالون يتجولون في الأسواق ويستدعون الناس ويقولون لهم: نحن نخبركم بالأحداث التي تهمكم، فيأتيهم الناس يعطونهم النقود ويطلعون -بزعمهم- على ما سيقع لهم". وهذا الذي أخبر عنه ابن خلدون تفشّى في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وهو في الحقيقة لا يزال إلى الآن متفشياً في أكثر العالم الإسلامي، لا نقول: في البوادي، بل في هذه البلاد منتشر في البوادي ولدى الطبقة الخاصة المثقفة في غير هذه البلاد؛ بل إن هنالك في بعض الدول معاهد أو مدارس تسمى المعاهد الفلكية أو المدارس الفلكية مختصة في هذا النوع من الدجل والشعوذة أو الرجم بالغيب لإفساد عقائد الناس وابتزاز أموالهم! وهذا لا شك ولا ريب في أنه خدعة شيطانية يريد الشيطان أن يخرج الناس بها عن الاعتقاد الصحيح، وأن يوقعهم في حبائل الشرك والمشركين، ولهذا ينتج عن هذا النوع الذي هو الخرافات والأساطير والشعوذات -أي: النوع الذي هو المصدر الباطل -ينتج عنه فساد العقيدة، وهو أعظم فساد يقع في الأرض.

النوع الثاني: المصادر الظنية

النوع الثاني: المصادر الظنية لا نقول: إنها باطلة، ولا نقول: إنها يقينية، وسوف تتضح الفكرة عندما نذكر أنواعها وتفصيلها. النوع الأول: من المصادر الظنية لمعرفة ما سيقع هو الرؤى والمنامات الحقة، وليست أضغاث أحلام، فهذه الرؤى مبشرات كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأن تأويلها كذا إلا إذا كان بوحي؛ فرؤيا الأنبياء وحي لا شك في ذلك، وكذلك تفسير الأنبياء وحي كما فسر يوسف عليه السلام فتفسيرهم حق، لكن من عداهم مهما كان معبراً أو محدثاً، فإن كلامه يحتمل الخطأ والصواب، ومن هنا فإن هذا يدخل في النوع المظنون، ولكن من الناس من يوفقهم الله تعالى، فيكون تأويله في الغالب صواباً، ومنهم من يكون دون ذلك، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدّل أو صحح تأويل أبي بكر رضي الله عنه، وهو أفضل هذه الأمة بعد رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يكن تأويله مطابقاً (100 %) بالدقة، وهذا دليل على أنه لا يصح ولا يمكن لأحدٍ بعده أن يدعي أن تأويلاته للرؤى صحيحة وسليمة (100 %). النوع الثاني من المصادر الظنية: هو ما عند أهل الكتاب من أخبار مما لم يأت في ديننا ما يدل على بطلانه، لأن ما عند أهل الكتاب إما أن يأتي في شرعنا وديننا مما يدل على أنه حق وصواب فهو حق، أو يأتي في شرعنا وديننا ما يدل على أنه باطل فهو باطل، والآخر المسكوت عنه الذي لم يأت ما يؤيده ولا ما يبطله، فهذا يظل نوعاً من الظن لا نستطيع أن نجزم ببطلانه، لاحتمال أن يكون من بقايا الحق الذي لديهم، ولكن لا نثبته؛ لأننا نعلم قطعاً أنهم قد حرّفوا وبدّلوا في كتبهم، وجائز أن يكون هذا مما أضافوه وكتبوه، إما بألفاظه، وإما بتأويله، فهذا وارد وهذا وارد، وعلى هذا نقيس كل ما يروى عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما من أخبار الملاحم والفتن التي تكون وتقع في آخر الزمان. - النوع الثالث من المصادر الظنية: هو الدراسة العلمية التي يمكن أن نسميها "الاستنباط العقلي" أو الاجتهاد بالنظر في سنن الله الكونية، فإن الله تبارك وتعالى جعل سنناً في هذا الكون لقيام الدول ولسقوطها ولحياتها ولنمائها، للأفراد وللصناعات وللتجارة وللاقتصاد فلكل أمر من هذه الأمور سنة كونية في حياته وموته، فلله تبارك وتعالى أسرار وحكم ونواميس وسنن جعلها، وبقدر ما يدركها الناس ويعرفونها يستطيعون أن يصلوا إلى الحق، وذلك مثل: ما كتبه ابن خلدون رحمه الله باجتهاده ونظره في أحوال العالم عن قيام الدول والأمم والحضارات وعن سقوطها، وهذا النوع توسع فيه الغربيون -على ما سنشير إليه إن شاء الله- وكتبوا وأفاضوا فيما بعد ذلك، وهذا النوع لا يدخل في الغيب ولا في التنجيم ولا في الكهانة، ولكن -أيضاً- ليس يقينياً وليس بوحي، وإنما هو استنباط من الحق -أي: من الوحي- أو استنباط من الواقع، فيتأملون أحوال الأمم وأسباب انقراض الدول وتدمير الحضارات، فيستنبطون وقد يصلون إلى شيء من الحق والصواب بقدر ما يعطي الله تبارك وتعالى المرء منهم من فهم لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو فهم في تحليل الواقع -واقع هذه الأمم- وكيف تعيش، وكيف تتدمر. فهذا -أيضاً- نوع من أنواع المصادر الظنية التي تقبل الخطأ وتقبل الصواب، لكن الغربيين ركزوا وشددوا عليه تشديداً مطلقاً كما سنبين إن شاء الله.

النوع الثالث: المصادر الصحيحة من الكتاب والسنة

النوع الثالث: المصادر الصحيحة من الكتاب والسنة المصدر الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن فضل الله عز وجل على هذه الأمة، بل على العالمين أجمعين أن بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فمن هذه الرحمة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر هذه الأمة بما تحتاج إليه مما كان ومما سيكون، فلم يقتصر تعليمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بهذه الأمة -رحمته التي رحم الله بها هذه الأمة- على الإخبار عن الله تبارك وتعالى وعن اليوم الآخر وعن الإيمان والشرائع والأحكام والحلال والحرام؛ بل -أيضاً- أخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل ما يصلحهم في أمور دنياهم، ومن ذلك إخباره بما كان وما سيكون مما يحتاجون إليه في دينهم أو دنياهم، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ بعضها أخبر به تفصيلاً وبعضها أخبر به إجمالاً أو إشارة، وكل ذلك بحكمة ومقتضى الرحمة، فإن الفتن الضالة المضلة الكبيرة التي تعمي وتصم أخبر عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفصيلاً؛ حتى لا يقع فيها أحد، سواء كانت أحداثاً تقع أو كانت بدعاً. والأمثلة لا تخفى عليكم، مثلاً: فتنة المسيح الدجال، فصّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القول فيها لعظم شأنه؛ لأنه كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من نبي إلا وقد حذر أمته من فتنته} ففصّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ما تحتاج إليه الأمة: من أين يخرج؟ من الذين يتبعونه؟ ما هي المخاريق التي يأتي بها؟ وكيف تكون نهايته وقتله؟ إلى غير ذلك مما هو معلوم ومما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الفتن. وكذلك أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فتنة الخوارج؛ لأن الغلو أهلك من كان قبلنا كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الأمة يمكن أن يقع فيها ذلك أيضاً، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ الخوارج وصفاتهم وبفتنتهم، فلما ظهروا كانوا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إن علياً رضي الله تعالى عنه أمر أصحابه بالبحث عن ذي الثدية -تصغير ثدي- فلم يجدوه فقال: والله ما كَذبت وما كُذِبت، فابحثوا عنه، فبحثوا حتى وجدوه في ساقية تحت القتلى فأخرجوه، فإذا في عضده مثل الثدية! فعلموا أنه هو الذي أخبر عنه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراق والفتن ليحذرهم منها وليلزمهم باتباع السنة، باتباع الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا افتراق عنه، ولا يجوز التفرق فيه، فأخبرهم بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفصيلاً. وأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتفصيل أنهم سيفتحون الأرض المعمورة، وأن الروم سوف يقاتلونهم في آخر الزمان، وقد جاء ذلك -أيضاً- في أحاديث كثيرة مبيناً فيها طبيعة المعركة، والمدن التي تكون فيها، ومكان نزول الروم، وكيف تكون المعركة عند القسطنطينية أو عند روميا، والأحداث المهمة في ذلك الزمان؛ بيّنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -أيضاً- لشدة حاجة الأمة إلى معرفة عداوة الروم لهذا الدين، وأنهم سيظلون العدو اللدود الأبدي؛ لأن الروم -كما لا يخفى عليكم- كان هرقل زعيمهم وملكهم، ولما وفد إليه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن رأى الرؤيا وأخبر أن ملك الختان قد ظهر وهذا شاهد لما ذكرنا أن علم الغيب يمكن أن يطلع عليه من أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له ذلك لحكمة منه، فرأى رؤيا أزعجته، وعلم أن مَلِك الختان سيظهر، ثم كان لقاؤه بـ أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، وجرى بينهما ما جرى من الحديث الطويل المشهور الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله واشتمل على عدد عظيم من دلائل النبوة، فمنذ ذلك الحين عندما أبوا الإسلام مع معرفتهم بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، ظلوا العدو الأبدي لهذا الدين فلا يفصل بيننا وبينهم إلا عيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا من حكمة الله أنه لا يفصل بيننا وبينهم إلا نزول عيسى عليه السلام؛ لأنه سوف يتبرأ منهم في الدنيا قبل الآخرة، فهو الذي يقتلهم عليه السلام ويقتل خنزيرهم، ويحطم صلبانهم، ويضع الجزية، أي: تنسخ الجزية فلا يقبلها منهم؛ لأنهم الآن وفي كل العصور ينتسبون إليه وباسمه يبيدون المسلمين في كل مكان، ولشدة عداوتهم وعظيم ضررهم فكان من حكمة الله تبارك وتعالى أنه هو الذي يقاتلهم بعد أن يأتي مجدداً ومتبعاً لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصلي خلف المهدي، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {وإمامكم منكم} فيصلي عيسى خلف المهدي من هذه الأمة؛ ليعلم الناس جميعاً أن عيسى -عليه السلام- تابع لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا. وقد صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخبر بما كان وما هو كائن خبراًَ طويلاً عظيماً؛ كما في البخاري ومسلم، ورواه أحمد وغيرهم: {أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناس} وفي رواية مسلم: {أنه صلى الفجر ثم خطب الناس حتى جاء وقت الظهر، ثم نزل فصلى ثم خطب الناس حتى جاء وقت العصر، ثم نزل فصلى ثم خطب حتى غابت الشمس، فأخبرهم بما كان وما سيكون} وفي بعض الروايات قال: حتى دخل أهلُ الجنةِ الجنَة، وأهلُ النارِ النارَ} ولهذا قال الصحابة: فأعلمنا أحفظنا، فحفظ منهم من حفظ، وبعضهم لم يحفظ الكل. والمقصود أن هذا قد أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما يحتاجون إليه بالتفصيل ذكره تفصيلاً، وما كان دون ذلك فهو بحسبه، وما على الأمة إلا أن تتحرى وتجتهد في معرفة وتمييز الصحيح من الضعيف أو الموضوع من هذه الأخبار، فتتلقى الصحيح الثابت والحسن بالقبول وتؤمن به، وما عداه فإنها ترده ولا تقبله، وهذا حق، فهذا مصدر يقين وحق؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق عن الهوى، إنما يظل الخلاف -وهو موضع الاجتهاد- في تفسيره. وهذا له قواعد أحب أن ألفت نظر الإخوة إليها، فلتفسير ما ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الفتن، قواعد علمية لا يجوز للإنسان أن يغفل عنها وأن يفسرها بهواه، وقد ضل كثير من الناس في القديم والحديث عندما فسروا ما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فضلاً عن المنامات أو الأحلام- بمقتضى آرائهم أو أهوائهم من غير اعتماد على منهج صحيح من العلم واللغة، أو من كلام العلماء، أو من دلائل الواقع أيضاً.

أنواع الدراسات المستقبلية الغربية

أنواع الدراسات المستقبلية الغربية في الحقيقة كل ما تقدم هو مقدمة لنصل إلى صلب الموضوع، وهو موقف الغرب من دراسات المستقبل وموقفنا نحن أيضاً من هذا العلم، ماذا عمل الغرب؟ وما هي مصادر هذا العدو اللدود -الروم والغرب- من هذا العلم؟

النوع الأول: الخرافات والأساطير

النوع الأول: الخرافات والأساطير بقيت الخرافات والأساطير عندهم؛ ثم أن اليهود والنصارى وورثوا ميراث أولئك، وزادوا عليه ما عندهم من الخرافات، فهم يعتمدون على الكهانة، ويعتمدون على التنجيم، ويعتمدون على الأساطير، ويعتمدون على كل الوسائل التي قد تخطر على البال أو لا تخطر من مواردالمسلمين وغيرها. بهذه المناسبة أذكر للقارئ مثالاً حياً، حدث الليلة حدثٌ كبير في أمريكا حيث ستجرى الانتخابات، وكل واحدٍ من الطرفين لديه عدد كبير من المنجمين والمنجمات والساحرات يخطون لهم بالرمل من شهور ويتنبئون بفوزه في الحملة الكلية أو في ولاية كذا دون كذا! وهذا معروف جداً، ومن لوازم البيت الأبيض الأساسية، وهذا نقل ونُشر، وهو موجود في كتبهم، وهم لا ينكرون ذلك، فإنهم يعتمدون في التخطيط السياسي على الكهانة وعلى أخبار السحرة والمنجمين والمشعوذين بنفس الطريقة العتيقة القديمة، التي يتحدث عنها العجائز أو من أثر فيهم المشعوذون: كالمطالع، والقرانات، وحركات الكواكب والأفلاك، وهذا المصدر ما زال موجوداً! مثلاً: المذَّنبات، فإنها عندهم دليل على حدث ضخم يقع في الأرض، ويتأول الناس في ذلك ما يتأولون، وهذا موجود عند العجائز وكبار السن، ومن المتداول في القديم وإلى الآن، وهذا اعتقاد الغربيين، أن مذنَّب " هالي " يعتقدون أنه يتلازم مع ظهوره وقوع أحداث دولية أو سياسية كبيرة، وهذا دليل على أن الخرافات واحدة، وإن كانت في ثوب عصري، وبمكان عصري ولعل القارئ يذكر بعض الكتب التي تقرأ ويقرؤها العامة وفيها الملاحم، مثل ملحمة " التبع حسان " هذه الملحمة موجودة في كتاب الزير سالم، وهو من كتب الخرافات والسحر التي تقرأ فيها كيف سيأتي ملك بني أمية؟ فيقولون كيف سيظهر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يأتي ملك بني أمية، ثم بني العباس ثم إلى ظهور المهدي وظهور عيسى عليه السلام في آخر الزمان، ومثل هذا كثير. ومثل لهذا ابن خلدون بأنواع من الشعر كثيرة، فلديهم في الغرب هذه الصورة من الدجل، والحق المشوب بالباطل، والظنون، والتخرصات، كما هو معلوم أن هذه الأشعار والأخبار كتبت بعد الإسلام أصلاً، لكن تفترض أنها كانت قبله، فمثل هذا موجود عند الغرب لكن بصورة أعرق وبطريقة أدق لأنهم يهتمون بتحليل كل شيء حتى الخرافة. ومن ذلك أن رجلاً غريباً ظهر قبل أكثر من مائتي سنة في أوروبا وألمانيا وذهب إلى الكنيسة ودرس في الفاتيكان يسمونه " انوستر دامث " وهذا كتب كتاباً يتنبأ فيه بأحداث، وزعم أن ما يتنبأ به ليس مجرد أخبار أو آراء أو تنجيم أو كهانة، وإنما فيه -أيضاً- من نور النبوة، وفيه من الوحي، ويحتمل أن يكون استنبط كتابه مما عند أهل الكتاب، بل يحتمل -أيضاً- أن يكون اطلع على ما كتبه المسلمون في هذا مما هو مأخوذ من أحاديث الفتن والملاحم وغير ذلك. فهذا الرجل هو الحديث والشغل الشاغل لكثير من الدارسين والمحللين الغربيين في أوروبا وأمريكا، وقد عملوا له فيلماً، ولعل البعض قد رآه، وقد رأيته -الحقيقة- بنفسي، فيتعجب المرء عندما يرى كيف يفكر هؤلاء، وقد قال هذا الرجل مثلاً: إن الثورة الفرنسية سوف تقوم، وإن نابليون سوف يظهر، وإن الدولة العثمانية حالها كذا، وإن أمريكا عالم جديد سيُكتشف أو اكتُشِف، وسيكون العالم الجديد، فيه فلان الزعيم وفلان وفلان من الزعماء الذين لم يكونوا قد ظهروا في هذا الوقت إلى أن قالوا: إنه ذكر مقتل جون كيندي، وأخبر بأن دمار أوروبا سيكون على يد رجل يظهر من الشرق، ويرد في الفيلم مجموعة من العرب مثلوا ما في هذا الكتاب، وجاءوا بالأحداث على أنهم مجموعة من العرب في الصحراء، ومعهم هذا القائد -وهو: قائد دكتاتوري- ويشير إليهم أن أطلقوا الصواريخ! فيطلقون الصواريخ، ويجتمع الرئيس الأمريكي وأركان جيشه، قادة أوروبا فيصدون أول وثاني هجوم، وفي المرة الأخيرة لا يستطيعون صد الهجوم النووي، فتنزل الصواريخ! وترى نيويورك وهي تتطاير وتدمر، وكذلك بقية مدن أمريكا، وتسقط أوروبا، ويسقط الغرب ويخضعون لهذا الفاتح العربي -كما صوره الفيلم- وفيه زيادات. لكن المقصود من هذا الكلام أن هذا الفيلم من أكثر الأفلام رواجاً في أمريكا، وقد عمل عام (1405هـ) الموافق تقريباً (1985م) وفيه تصويرالمسلمين على أنهم العدو اللدود الذي لا يمكن ولا يصح إلا القضاء عليه وتدميره، حتى في ذلك الزمن عندما كان الاتحاد السوفيتي لا يزال قوياً، فإنهم كانوا يعتبرون أن العدو الخطير لهم هو الإسلام وليس الاتحاد السوفيتي، فالعدو الخطير هو هذا العدو الذي ذكره وصوره هذا الرجل وأصحاب هذا الفيلم. وسمعت أن المخرج يهودي وأنه قصد هذه الإثارة، ولا يستبعد ذلك. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبحت هذه النظرية أكثر رواجاً وأكثر قبولاً، وبذلك أصبح الغرب يعتبرالمسلمين هم العدو الأول والأخير الذي يجب أن يقضى عليه، وأن اجتماع الغرب والشرق ضرورة -أي: غرب أوروبا وشرقها- بل حتى يجتمع الهنود، والصينيون، والبوذيون، واليابانيون، وكل العالم للقضاء عليه، ولكن وفق خطط مدروسة. إذاً: عندهم هذه الخرافات والأساطير؛ ومنها ما قاله هذا الكاهن أو المنجم بزعمه، فهذه أحد مصادرهم.

النوع الثاني: نبوءات الكتب المقدسة

النوع الثاني: نبوءات الكتب المقدسة قد أبرزوا ذلك كما في "رؤيا يوحنا" أو رؤيا دانيال وأشباهها، وظهر ذلك جلياً في أثناء الحرب بينهم وبين العراق التي يسمونها حرب الخليج، لكن حرب الخليج حربان، فالمقصود الحرب الأخيرة، والتي أظهروا فيها الأساطير والنبوءات؛ حيث ظهرت ظهوراً عجيباً في تلك الأيام، وأظهروا فيها مكرهم، وعندما أظهروا كيدهم ومكرهم وما في أنفسهم من حقد وتولى كبره التدميريون، والإنجيليون والأصوليون الذين يؤمنون بحرفية ما في هذه الكتب فقالوا: إن هذا العالم الإسلامي هو الخطر وهو مصدر الشر كما قال أولئك، وأن المسلمين هم الوثنيون الذين لابد أن يُدمَّروا، وأن هذه الحرب ستكون تمهيداً لنزول المسيح عليه الصلاة السلام، وأنه إذا نزل يُرفع المؤمنين به -وهم النصارى- إلى السحاب، ولا يبقى إلا الوثنيون -أي: المسلمين- ثم يُدَمَّرون تدميراً كاملاً. وقالوا: إن ما ورد في رؤيا يوحنا من النار المتقدة بالكبريت -أي: الحرب النووية- التي سوف تستخدم في الحرب، فهم أظهروا هذا الكلام حتى قبل أن تنشب الحرب، وهيئوا أذهان الناس في أمريكا وغيرها لقبول خيار الحرب، وأنه لابد من الحرب حتى لو انسحب العراق، ولا بد من تدمير هذه القوة، وأن " بابل الزانية" التي يكثر ذكرها في كتبهم هي هذه بابل، فـ العراق لا بد أن تضرب، ولا بد أن تدمر. وهناك عوامل غير ذلك، فـ الصهيونية واليهود يستخدمونهم ويسخرونهم لمآرب لهم تلتقي مع أهدافهم، لكنهم أرادوا بهذا تدمير العراق وإخضاعه، وهذا هدف مبدئي قريب، ولكنهم إنما يريدون -أصلاً- تدمير العالم الإسلامي، وأن يكون هذا نموذجاً له. فالنموذج لديهم إما أن يكون الخميني: العنف والإرهاب والدموية، وإما أن يكون القذافي: الإرهاب واستئجار كارلوس. وإما أن يكون صدام أو غير صدام فيقال: هذا هو الإسلام، وهذا هو الجهاد المقدس قد أعلنه صدام، فيجب أن نقضي عليه. فأية فرصة تسنح لهم فإنهم ينتهزونها ويستغلون الأحداث لإبراز أن الإسلام هو العنف والدموية والإرهاب وسفك الدماء، والعدو الذي يجب أن يقضى عليه. فعندما كان الرمز هو الخميني، كان صدام بالنسبة لهم هو المُحِق المصيب أو المظلوم في هذه الحرب الذي يطالب بإيقافها من طرف واحد، وهو عادل ومنصف، وهو الذي استجاب لمطالب الأمم المتحدة في هذا، فهو مع الشرعية الدولية. فلما أرادوا تحويله، إذا به هو المجرم والدكتاتور والسفاح وصاحب بابل الزانية، وكل لقب من الألقاب الشنيعة، وهو الوحش لأن في رؤيا يوحنا وحشاً، وهو النبي الكذاب إلى غير ذلك، فهم أوّلوا كل التأويلات عليه. إذاً عندنا إنجيليون حمقى يؤمنون بهذا الكلام حرفياً، ويتأولون بالأهواء وعندنا الساسة الخبثاء الذين يستغلون ما في النصوص ويستغلون كلام الإنجيليين لأغراض وأهداف، وكل هذه الأهداف والأغراض تلتقي على تدمير هذه الأمة وتجميع القوى وتهيئة أذهان الشعوب الغربية؛ لتصدق أن هذه الأمة هي العدو الذي لابد أن يُقضى عليه قبل أية مشكلة من المشاكل التي يعاني منها الغرب.

النوع الثالث: الدراسات العلمية المعتمدة على النظر في السنن الربانية

النوع الثالث: الدراسات العلمية المعتمدة على النظر في السنن الربانية فالنوع الثالث: من أنواع الدراسات المستقبلية الغربية: هي الدراسات التي أشرنا إليها من قبل في النوع الظني، وهي الدراسات المعتمدة على الاستنباط والاجتهاد والنظر في سنن الله الربانية، فهي دراسات علمية. وهذا النوع ظهر أيضاً في أوروبا، وكثر المتكلمون فيه من الفلاسفة الذي يسمونه فلسفة التاريخ، بمعنى أنهم يتأملون كيف تجري أحداث التاريخ، وكلهم تأثر من قريب أو بعيد بـ ابن خلدون. مثلاً: يقول " هيجل " المفكر الأوروبي المشهور: ' إن في العالم صراع النقائض فيما بين الشعوب، وفي النهاية ينتهي بقيام دولة بروسيا التي كان فيها ' فهي الدولة النهائية التي ينتهي عندها حلم البشرية لأنه كان يعيش في ظلها. هذا الكلام أخذه " كارل ماركس " وجعله بصورة أخرى، فقال: ' إن المتناقضات هي همّ الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، وإن الدولة التي ينتهي عندها التاريخ ويقف عندها وتكون نهاية العالم هي الدولة الشيوعية! ' والحمد لله ذهبت وقُضي عليها كلها -البروسية والروسية- لكن هذا نموذج لتفكير الأوروبيين في دراسة التاريخ، هؤلاء فلاسفة، وظهر بعد ذلك باحثون ليسوا بـ فلاسفة لكنهم باحثون لا يعتمدون منهجاً فلسفياً معيناً، لكنهم أكثر وأدق استنباطاً في سنن الله أو في التاريخ. أشهرهم هو المؤرخ البريطاني المشهور: أرنولد توينبي الذي درس الحضارات جميعاً، وتأمل فيها واطلع على أحوالها، وذكر كيف يمكن أن تسقط الحضارات، وكيف يمكن أن تقوم، وتنبأ -فيما تنبأ- بسقوط الحضارة الغربية، وتنبأ -فيما تنبأ- بأن المسلمين سيكونون عدو المستقبل أيضاً، وإن كان في كلامه بعض الاعتراف بالحق، عندما ذكر أن الغرب سوف يسقط بسبب الخمر والفواحش والانحطاط الأخلاقي، وأن المسلمين سلموا من هذه بمعنى أن هذا أحد العوامل -بلا شك- التي بها يرث المسلمون الأرض. وتوينبي في مختصر دراسة التاريخ ذكر هذا الشيء، ومن العجب أن -حتى يعلم القارئ الكريم كيف يعمل هؤلاء ويخططون- توينبي المعروف عند الناس أنه مؤرخ وعالم في الواقع كان مستشاراً لوزارة المستعمرات البريطانية! ومن خلال ما يستنتج من تخطط السياسة البريطانية على وفق ذلك، فلما انتهى عصر الاستعمار البريطاني نقلت الملفات والخبرة والوسائل القديمة وكل شيء إلى أمريكا، وقد أشار كوبلنت " إلى هذا في كتاب " لعبة الأمم " أنه في عام (1958م) نقلوا كل شيء إلى أمريكا، ولذلك عندما حدثت أحداث الخليج الأخيرة ظهرت وثائق في الصحف -منها الحياة - كيف أن ما نفذ في عام (1990م)! وما وقع من اعتداء عراقي ثم هجوم كان سيقع عام (1960م) لكن المنفذ في ذلك اليوم كان بريطانيا، بمعنى أن العملية واحدة، وكل منهم يبني على ما عند الآخر، ويأخذ دراسته ويفيد منها، ثم يضيف إليها ما حصل. أيضاً: عندما تخلى الإنجليز عن مصر والقناة وعن العرب واليهود، ورثت أمريكا نفس الدور البريطاني، والمحادثات التي تجري الآن في المفاوضات حول السلام تشرف عليها أمريكا، وقد كانت تشرف عليها من قبل بريطانيا، وكذلك مؤتمرات كانت في لندن، والإشراف عليها بريطاني، فالعملية واحدة؛ فهم يستفيدون من خبرة من سبقهم ويزيدون عليها، وبعضهم يحيل إلى بعض، والجميع يشعر أنه كيان واحد، وأن العدو الذي يهدده واحد، وهو هذا الدين، والله المستعان.

النوع الرابع: الخيال العلمي

النوع الرابع: الخيال العلمي ظهر نوع آخر -لا بأس بالحديث عنه- وهو الخيال العلمي، وهو نوع من أنواع معرفة المستقبل عند الغربيين، وهو يعتمد على مجرد التخيل، لكنه يستند إلى حقائق: إما حقائق علمية بمعنى النظر في الكون، وإما حقائق عملية بمعنى نتائج تاريخية واستنتاجات من تاريخ وواقع الناس عندهم، وفيهم رجل يسمونه نبي القرن العشرين من كذبهم وافترائهم، وهو " ولز " وقد تنبأ بأشياء كثيرة، وله عدة كتب منها كتاب " رحلة في دنيا المستقبل " وهو مترجم، وهو من الناحية العلمية البحتة. وله أيضاً توقعات أخرى عن سقوط بريطانيا وانهيار الامبراطورية وقيام امبراطوريات أخرى وما أشبه ذلك، وكان " ولز " ممن اشتهر بهذا النوع من التنبؤات وكتب فيها طويلاً. ومنهم من درس دراسة بعيدة عن هذا الخيال العلمي، ولكنه أقرب للحقيقة وهو " جورد أولوي " ألف كتاباً عنوانه " 1985 " وقد ألفه قبل هذا بحوالي (80) سنة، وقال: في عام (1985م) سيكون العالم كذا وكذا، وبيّن أشياء مما تخيل أنه سيكون عليها حال العالم. وهناك دراسات أخرى من نوع آخر، من ذلك ما قام به شبنجلر في كتابه: تدهور الحضارة الغربية، وهو شبيه بعمل توينبي، وهو أنه جمع الحضارات جميعاً، وكيف تقوم، وكيف تسقط، وذكر -أيضاً- أن الحضارة الغربية سوف تسقط وتنهار: ولكن أقول: الخيال العلمي كثير جداً، حتى أنهم تنبئوا بصعودهم إلى القمر، وبالسيطرة على الكواكب، وتنبؤا بحرب النجوم، وبأشياء كثيرة، ليست من الغيب في شيء، إنما فكروا أن العالم سيتطور، وبتطور ما لديه تصبح هذه الأمور حقيقة واقعة، وبعض هذه الأشياء يكونون قد اطلعوا عليها وهي في دور الفكرة ودور المعمل في التجربة، فيفترضون أنها قد وقعت، وبعد سنين ينجح العلماء التجريبيون في الحصول عليها، فيظهر ما قالوا من قبل، فهي ليست تكهناً، وإنما هي خيالات ورؤى تستند على بعض الأمور أو الحقائق الصحيحة، ويمكن أن تسمى تكهناً من باب أنها رجم بالغيب، لكن ليس مصدرها الكهان الذين يخبرون عن الشياطين ويسترقون عنهم. هذه الأربعة الأنواع مع أنها موجودة ولها أثر كبير في الغرب لكنها لا تهم كثيراً مثلما يهمنا النوع الخامس والأخير والخطير.

النوع الخامس: الدراسات العلمية المتخصصة في معرفة المستقبل

النوع الخامس: الدراسات العلمية المتخصصة في معرفة المستقبل وحتى لا أطيل على القارئ من جهة فسوف آتي بأمثلة عامة يمكن إدراكها جميعاً، وما يدق من الأمثلة ندعه.

أمثلة للدراسات العلمية المتخصصة

أمثلة للدراسات العلمية المتخصصة

القوة القادمة

القوة القادمة في هذه الأيام ينشغل الناس -أو ينشغل الأوروبيون- بوحدة أوروبا، وهل ستكون أو لا تكون؟ واتفاقية أمسترخت، وكل منا يسمع هذا الكلام في الإذاعة أو يقرأ في الجرائد: هل تنجح أو لا تنجح؟ ولا يعلم الغيب إلا الله، لكن قبل أن يوقعوها -بغضّ النظر عن بعض الدول التي رفضتها- نستطيع أن نقول: إن أوروبا سوف تتوحد، وذلك للدلائل التاريخية والدلائل النصية! أما الدلائل التاريخية: فإن أوروبا قد توحدت علينا أيام الحروب الصليبية في الحملات الكثيرة التي قامت بها، وكانت تحت راية واحدة، فملك ألمانيا وملك فرنسا وملك بريطانيا ودوق كذا وكذا من الدوقيات، كلهم جاءوا تحت راية واحدة هي: الحرب ضد المسلمين، فلا يُستغرب هذا عليهم مادام العدو هو الإسلام. وأما الدلائل النصية: فإننا نفهم أن الروم سيحاربوننا في آخر الزمان على أنهم جبهة واحدة، ولا يعني هذا أن الأحاديث تنطبق الآن في هذه اللحظة، لكن نقول: تشير الدلائل على أن الغرب أقرب إلى أن يتوحد دائماً. فالغربيون عندما يحاولون تقرير هذا، ويدرسون هذا دراسة تطبيقية تجريبية، فيقولون: هل يمكن أن نتوحد؟ ولماذا نتوحد؟ وما هو مستقبل العالم في القرن العشرين إذا توحدت أوروبا؟ وبناءً على هذا، يقولون: من الذي سيكون القوة العظمى في العالم؟ وظهرت ثلاثة احتمالات، وبعضهم يجعلها أربعة: 1 - الاحتمال الأول: أن تظل أمريكا هي القوة العظمى في العالم، وهذا ما يريده الإنجيليون والأصوليون والتدميريون وأمثالهم أن تظل القوة ل أمريكا، وهم يزعمون أنهم سوف يسيطرون على أمريكا، وأنها هي القوة التي تهيئ لمقدم المسيح ونزوله؛ لأن النصارى عندهم اعتقاد أنه سوف ينزل عام (2000م)، وهكذا سوف ينزل المسيح رضينا نحن أم لم نرض، قلنا حقاً أو باطلاً، هذا هو تفكيرهم، فيريدون تجميع الناس. ومثل ما كانت الحرب الأخيرة هذه فإن هذه التنبؤات ظهرت أنها كذب، ولكن هذا لا يضرهم؛ لأن الشعوب لا عقل لها، ولا أحد من الناس يقول: أنت قلت لي كذا قبل ثلاث سنوات، والآن صار كذا، والمفكرون المثقفون هم قليل، لكن أكثر الناس إذا جاء عام (2000م) ولم يأتِ المسيح، أشغلوهم بقضية ثانية ليسوا القضية الأولى، وهكذا حال الشعوب عموماً. المقصود -الآن- في هذه المرحلة أنهم يهيئون الناس إلى هذا الكلام، ويقولون بأنه سينزل، فإذاً أمريكا هي القوة المحتملة. 2 - الاحتمال الثاني: أن أوروبا الموحدة هي القوة المحتملة. 3 - الاحتمال الثالث: هو أن يكون هناك قوة يابانية أو قوة شرق آسيا، يعني أن تتوحد اليابان وكوريا والصين، وتكون قوة عالمية. 4 - الاحتمال الرابع: الذي يخططون ضده في الخفاء، وله معاهد متخصصة أن الإسلام هو القوة القادمة، وهذا يصرح به من يصرح ويخفيه من يخفيه، كما قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] , والذي ينتج عن هذا عملياً، إذا ترجح لديهم لأنهم دائماً يضعون ثلاثة احتمالات أو أربعة ويضعون على كل احتمال جوابه حتى لا يفاجئوا به: فمثلاً: إذا ترجح أن الإسلام سوف يكون القوة القادمة فإن هذا يترتب عليه القضاء على المسلمين في أوروبا، فمثلاً: المسلمون في البوسنة والهرسك، وهذه دولة مسلمة أغلبية سكانها مسلمون في داخل أوروبا، فلا يصح أن تقوم في أوروبا دولة إسلامية مهما صغرت إذا كانت مستقلة؛ لأنها نواة للخطر القادم داخل أوروبا. فيريدون القضاء على أية دولة وتفتيت العالم الإسلامي خارج أوروبا فكيف تكون دولة إسلامية داخل القارة؟! فالحرب على الملونين المسلمين، وإلا لو كان نصرانياً فمهما كان لونه أو جنسه لا يهمهم، والحرب على المسلمين الذين يقيمون في أوروبا أو في أمريكا أو يقدمون إليها، ولذلك ظهرت موضات غريبة عند الشباب منها حلق الرءوس أي: الرءوس الملساء فترى شباباً غربيين يحلقون شعورهم حلاقة كاملة، وهم إرهابيون مهمتهم اقتناص الملونين، ففي أي مكان يجدونهم يقتلونهم، هذا موجود في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكثير من الدول أي: يتعبدون ويتقربون بقتل هؤلاء المسلمين الذين يرونهم في أوروبا، وقد ذكرت في أحد الدروس بعد شرح الطحاوية بعض كلامهم وقولهم: لا نريد المآذن ولا نريد الثياب ولا نريد هؤلاء أن يأتوا بدين غير ديننا وغير ذلك. فالمقصود أنه في ظل هذا الخيار يظهر لنا لماذا هذا التخاذل وهذا التواطؤ الواضح المكشوف؛ ففي داخل القارة يباد شعب أوروبي في دولة مستقلة اعترفت بها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، تباد وبهذه الوحشية المتناهية التي ما شهد لها التاريخ -كما يكتبون هم- نظيراً، وفي القرن العشرين، وفي ظل حقوق الإنسان والشرعية الدولية والعدالة التي رأيناها في أحداث الخليج، عدالة عجيبة سريعة تقفز من مكان إلى مكان!! ونجد الخذلان المطلق في هذه القضية، بينما ليس الصرب بأقوى من روسيا ولا بأهم منها، فـ روسيا تدلل جمهوريات البلطيق وتنسحب منها، ويضغط عليها الغرب لتعطيها استقلالها وهي دويلات صغيرة في مواقع غير مهمة على الإطلاق من العالم، ولا أحد يدري عنها ولا أين تقع وليس لها أي أهمية، بخلاف البوسنة التي تقع على البحر الأبيض، وقريبة من إيطاليا، وقريبة من الشرق، وهي في موقع مهم جداً، وهي وما حولها من أجمل بقاع العالم -على الأقل عند الغربيين أن أجمل بقاع العالم هي تلك المناطق- ومع ذلك تدمر. وهكذا تختلف المعايير؛ لأن هناك حقداً خفيا ًدفيناً، قد يظهرونه وقد لا يظهرونه، لكن الدراسات الاستراتيجية المستقبلية تقول: يجب أن تقضوا على هذا الخطر، وليس رجال الدين فقط هم الذين ينادون بذلك، بل رجال السياسة الذين يستندون إلى هذه الدراسات، والدراسات تستند إلى ما في الكتب المقدسة هم الذين يخططون ويتنبئون بهذا. إذاً في ظل هذا يمكن أن نقول: إن مستقبل أوروبا يراد له أن تكون أوروبا هي القوة الوحيدة في القرن القادم ويراد لها أن تتطهر عرقياً ودينياً، وتصبح أمة نصرانية متماسكة.

موضوع السكان والانفجار السكاني

موضوع السكان والانفجار السكاني بدراسة بسيطة جداً يستطيع أن يجريها أي شخص منا، فيعرف أنه إذا كانت القرية -الآن- سكانها خمسة آلاف، ويتزوج منهم بنسبة (20%) أو (30%) وكل واحد يولد له في كل سنتين مولود فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة يصبح عدد سكانها كذا، فبهذه الطريقة يتحدثون ويخططون تخطيطاً دقيقاً. طبعاً هذا تخطيط ساذج، لكن هم بتخطيط عميق يخططون ويقولون: إن الغرب في خطر شديد جداً. قالوا: إن العالم الإسلامي الآن مليار، ألف مليون وستمائة مليون، وإذا استمر المسلمون في التكاثر والتناسل في مثل هذه النسبة سيصبحون بعد جيل أو جيلين أكثرية في الأرض، بينما الغرب يتناقص، فالوفيات في الغرب أكثر من المواليد، فبهذا سيصبح الغرب أقلية بخلاف ما كان في أول هذا القرن حيث كان الغرب أغلبية ساحقة، فقد كان سكان مصر خمسة ملايين، وكان سكان بريطانيا خمسين مليوناً. لكن في عام (2010م) سوف يصبح سكان مصر مائة مليون، ويصبح سكان بريطانيا ستين مليوناً تقريباً، فكيف بعد مئة سنة؟!! هذا خطير جداً! واليهود من أقل الشعوب تناسلاً، ومعنى ذلك أنه في عام (2050 أو 2030) -تقديرات- سيكون اليهود (15 مليوناً)، بينما سيصبح عدد العرب الذين حولهم (400 مليون)، وهذا رقم مخيف جداً، وخاصة مع انتشار الأصولية، فلو لم يتدين من الأربعمائة مليون، ويتمسك منهم إلا (10%) لصاروا (40 مليوناً)، فيمكن أن يقضوا على (15 مليوناً)، فهذا عدد هائل ولذلك يهتمون بهذا جداً، لذلك يجعلون من أولويات الدراسة عندهم بالغرب بحسابات دقيقة ودراسة تفصيلية: معرفة النمو السكاني؛ ولذلك كثير من دول أوروبا تعطي لكل مولود يولد منحة أو جائزة، وتحاول بعض الدول أن تسكن أرضها حتى من كان من غير الأوروبيين، فالمهم أن يتكاثر ويندمج هؤلاء مع الشعب؛ مثلما يعبئون الآن من الصومال، فهم يعبئون الآن من أية دولة فيها مآس ونكبات، ولا يهمهم أن الجيل الأول مسلمون، فإن أبناءهم وأبناء أبنائهم سيكونون نصارى ومن أبناء البلد ويندمجون معهم. فشعورهم بالفقر السكاني يخيفهم ويجعلهم يتناسون كثيراً مما يؤمنون به، ويجعلهم يأتون بهؤلاء الناس ويعطونهم جنسيات ويسكنونهم، ففي ألمانيا حتى العمال الأتراك تشملهم الزيادة العددية في السكان حتى يسكنوا فيها ويستقروا وتكون لغتهم الألمانية، وسيكونون مجندين في الجيش "الألماني"، فهم ألمان حتى وإن كانوا أتراكاً وهكذا؛ مع أنهم يحقدون على الأتراك حقداً شديداً، لكن يرون أن هذا ضروري، ففي فرنسا مثلاً: لماذا يعطون الجزائريين والمغاربة الجنسيات؟ السبب لأنهم يشعرون بالقلة العددية. ويصدرون لنا كل يوم أن الانفجار السكاني خطر يهدد مصر ويهدد الدول العربية ويقولون لن يجد العرب ما يأكلون، ولا كيف يعيشون! مع أنهم يعلمون -وهم أعلم بنا من أنفسنا- أن المساحة المزروعة في العالم العربي -فضلاً عن العالم الإسلامي- لا تصل أبداً إلى (5%) من أرضه، أما هم فيستغلون كل شبر من بلادهم، بل حتى البحر يستغلونه في الزراعة! واليابان وغيرها مثال على هذا! إذاً هم يخوفوننا بهذا الانفجار، وهم يخططون في الدراسات المستقبلية لأن يظلوا هم الأكثرية أو المسيطرين بشرياً على العالم، وهذا أحد الجوانب التي توضح للجميع خبايا تخطيطهم ودراساتهم الاستراتيجية المستقبلية.

موضوع البيئة

موضوع البيئة لعلك سمعت -أيها القارئ الكريم- عن مؤتمر الأرض وما جرى فيه من الاهتمام بالبيئة، وهذا علم يمكن التوصل إليه بالدراسة العادية جداً، ونحن المسلمون في غفلة عنه مع الأسف الشديد، فيناقشون كيفية تلوث البيئة، أو خطر فتحة الأوزون كما يسمونه: وهو ثقب في سقف الكون، فيناقشون خطرها وماذا ينتج عنها، والمسلمون كأنهم في غفلة عن هذا، وأعلى نسب للتلوث في العالم هي في العالم الإسلامي، والقاهرة مثال على هذا وغيرها من المدن. إذاً هم يفكرون في كيفية إيجاد البيئة الملائمة للإنسان، والتخفيف والتقليل الشديد من آثار الخطر البيئي، ولذلك هم يعرفون أماكن بناء المصانع، وكيفية تحويلها، وأماكن دفن النفايات النووية، واكتشفت بواخر تدفن النفايات النووية، قرب سواحل بعض الدول الإسلامية بغرب إفريقيا؛ بل قالوا: إنها يمكن أن تدفن في بعض الصحاري العربية، حتى لا تتأثر بيئتهم بما فيها من أضرار وأخطار؛ لأنهم يريدون نظافة وسلامة ونقاوة البيئة وتفاصيل كثيرة. فمثلاً: عندما تمنع زراعة بعض الأمور لديهم؛ لأنها بعد عشر أو بعد عشرين سنة تفسد الأرض، فتأتي شركاتهم تستأجر في بلاد العالم الإسلامي الأرض لمدة عشرين سنة، فيفرح الناس، ويقولون: ستأتي شركة تشتغل في أرضنا، وتعطينا الأموال، وهذا مكسب عظيم؛ لأنهم يستخدمون مدة صلاحية الأرض فقط وهكذا، مما ينتج عنه دمار كامل في المستقبل لهذه الأمة ولمقدراتها، فهذا المثال يدل على أن الدراسات المستقبلية ضرورية لمعرفة مستقبل هذه الأمة سكانياً وأيضاً بيئياً، وهذا ليس داخلاً في علم الغيب، إنما مما يجب أن نستنبطه وأن نتعلمه وأن نبحثه، ونرى آثاره أيضاً على الإنسان والفرد وغير ذلك.

البث المباشر

البث المباشر وأظن الكلام في البث المباشر كثير جداً فلا يحتاج أن أطيل فيه: ولكن أقول: قبل أن يسمح بالبث المباشر على أوروبا أُجّل الموضوع لمدة ثلاث سنوات، ودرست آثار ونتائج البث المباشر الأمريكي لو جاء إلى أوروبا، ووضعت الترتيبات اللازمة، ثم بعد ذلك بدأ بعضهم يستقبل من بعض، بحثوا عن النتائج الأخلاقية، والنتائج الاجتماعية، والنتائج السلوكية، والنتائج اللغوية، فكل هذا درسوه على أنه من الممكن أن يقع وخططوا له، ثم درسوا بعد ذلك نتائجه البعيدة كيف يكون الوضع إذا أصبح العالم فعلاً قرية واحدة، وما أثر هذا على القرار الديني أو القرار السياسي، يقصدون مثلاً بابا الفاتيكان. فهم يقولون: إذاً في عام (2000) أو (2010) نستطيع أن نتواصل مع العالم كله بطريقة سهلة، وهي طريقة التلفزيون، بواسطة الغزو الفضائي، وهكذا نتمكن من تنصير العالم كله وهكذا.

موضوع المعادن

موضوع المعادن كل المعادن إلى نفاد، فهي تقدر عن طريق الأقمار الصناعية، ويكتشفون المعادن، وهذه أصبحت عملية سهلة فيعلمون ما في باطن هذه الأرض بالتصوير الفضائي وقد يميزونه سواء كان ذهباً أو نحاساً أو فضةً، فيقدرون أنه إذا كان كل سنة المخزون منه -مثلاً- من (100 مليون) طن، إذا أنتج منه كل سنة (10 ملايين) طن، فإنه سينتهي بعد عشر سنوات مثلاً. فمعنى هذا؛ أنهم سيبحثون عن البديل بعد ذلك، كيف سيكون وضعهم؟ وكيف ستكون أمورهم؟ وكيف إلخ، وبلغ تخطيط هذا في أمريكا إلى أنهم نشروا وقدروا الانتهاء من البترول الخام والمعادن الخام ومصادر الطاقة في العالم بعد (500 سنة)، أي أنه في عام (2100) سيكون البترول قد نضب ونفد من الأرض، وأن البترول المكتشف حاليا سوف ينفذ بعد ثلاثة أجيال مثلاً، بمعنى أن أولاد أولادنا يمكن أن يشهدوا هذه النهاية، فهم هناك يعرفون كيف يخططون؟ ومما يعملون الآن أنهم يحفرون حُفراً عميقة بعيدة جداً، ويسحبون البترول من جميع الدول المنتجة له، ويودعونه في هذه المخازن الكبيرة جداً، بالإضافة إلى مصادرهم الاحتياطية، بالإضافة إلى الدول التي تدور في فلكهم، أو الذي لم يكتشف ولم يعلن عنه في دول مكشوفة لهم، وفي النهاية يريدون إفقار العالم الإسلامي وليترك ليموت لأنه ليس لديه مصدر ثروة أو مصدر طاقة ويتحكمون هم في مصيره. أما نحن المسلمون فلا نكاد نفكر في هذا، فالمهم أن نبيع اليوم ونأكل ونشرب، ولا نفكر في المستقبل ونقول: الأرزاق بيد الله! وهذا لا شك فيه، لكن لا بد من التفكير في مدة انتهاء البضائع وإيجاد البدائل لها، ولا نقول: إنه لا يوجد تفكير؛ فهناك شيء من التفكير نسمع ونقرأ عنه، لكن ليس بمستوى الدراسات الجادة الغربية العميقة، ثم يوجد شيء آخر: وهو مدى ارتباط هذا التفكير بعقيدة الولاء والبراء، فإن كان مجرد تخطيط بشري فلن ينجح أبداً؛ لأنه يقوم على افتراض أن العلاقات بيننا وبين الغرب حسنة، وأننا وهم سوف نتفق على هذا وأن العملية متبادلة، فهم يحتاجون منا المواد الخام ونحتاج منهم كذا، فالعملية متبادلة. إذاً فلا بد أن تقوم هذه الدراسات على أساس الولاء والبراء لهذه العقيدة العظيمة، وكل عقيدتنا هي قوة دافعة، وطاقة لا تملك أي أمة هذه الطاقة. أرجو أن أكون قد أوصلت شيئاً أو كثيراً مما أريد إليكم.

الموقف الإسلامي من الدراسات المستقبلية

الموقف الإسلامي من الدراسات المستقبلية وتبقى القضية الأخيرة وهي أن الواجب علينا -على هذه الأمة- أن يكون لديها دراسات مستقبلية جادة متخصصة، وهي أقدر الأمم في العالم على ذلك، لأن واقع الناس والعالم الآن في صراع، فأنت إن لم تأكلهم أكلوك، وهذه قضية لاشك فيها، فنحن مأكولون مأكولون! إلا إذا رجعنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأخذنا بالأسباب ومنها هذا. ونقول: نحن أقدر الأمم على أن نضع دراسات مستقبلية مصيبة ودقيقة؛ لأننا -كما ذكرنا في أنواع معرفة المستقبل- لدينا المصدر الوحيد الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فنأخذ هذا المصدر ونبني عليه النظر في سنن الله الكونية، وهذا يمكن أن نصل إليه -أيضاً- بصورة أدق مما يصلون إليه، لأنهم مهما نظروا فهم يعتبرون الدين عاملاً مؤثراً، لكن الدين عندهم هو أيُّ دين سواء كان هو التوحيد أو الشرك لا يعرفونه. فأيضاً حتى دراسة الأوربيين الغربيين لموضوع السنن الربانية، فمهما أصابوا فيها فهم عرضة للخطأ أكثر منا، ونحن نُصيب بلا شك أكثر منهم.

منازعة القدر بالقدر

منازعة القدر بالقدر وهنا قضية أخرى لا بد أن نذكرها وهي أن من ديننا أن ننازع القدر بالقدر أو كما قال عمر رضي الله عنه: [[نفر من قدر الله إلى قدر الله]]. وأضرب لذلك مثلاً: عندما يخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الكعبة -هذا البيت الحرام المعظم- سوف يهدمها ذو السويقتين من الحبشة، فهذا من المستقبل الذي لا يستطيع الغرب أن يتصوروه بدراسات السنن الربانية، وليس عندهم فيه يقين أو وحي فهذا مما نتفرد به، وفي هذه الحالة ليس من المشروع لنا أن نستسلم وندع الأحباش الوثنيين والنصارى، ونتركهم وما يريدون أن يعملوه فيعملونه، ونقول: قد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا وما لنا حيلة، ولا بد أن يأتوا ولا بد أن يهدموا الكعبة!! فهذا ليس بصحيح، وهذا خذلان واتكالية وجبرية، إنما الواجب أن نعمل جهدنا وطاقتنا لئلا يقوم أي حكم غير إسلامي في الحبشة، وفي أثيوبيا كلها، وفي شرق أفريقيا، ونجتهد في هذا في جميع الأوقات فإذا غلبنا، والله أعلم متى يكون هذا، ويقع ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن نحن ندفع القدر بالقدر، فهذا قدر، وهنا واجب علينا أن نسعى وأن ندافع عن ذلك. نحن نعلم أن الروم سيأتوننا وسينزلون في الأعماق أو بـ دابق أي: في بلاد الشام، وهذا معناه أنهم سيجتاحون تركيا ويحتلون البحر، ثم يكون لنا دول في أوروبا سيجتاحونها، ولكن ليس معنى ذلك أن نستسلم لهم ولا نحاربهم في البوسنة مثلا أو تركيا أو في البلقان أو في قبرص! بل نحارب ونحارب حتى إذا نزلوا في الأعماق يكون قد وقع ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهكذا. هذا اليقين الذي عندنا في أننا نتعبد الله بأن ندفع القدر بالقدر، أما هؤلاء المجرمون اليهود والنصارى فإنهم بمقتضى عقيدتهم جواز البداء على الله تعالى الله عن ذلك، والبداء معناه: أن يبدو له أمراً ما -أي يغير رأيه- كان خطأً فيغيره إلى الصواب، هذا من عقيدتهم في التوراة وغيرها، فهم مهما قرءوا في كتبهم أو قرءوا في كتبنا وصدقوا أننا سنهزمهم يقولون: لا! إذا نحن اجتهدنا وعملنا فيجوز أن نجعله يغير رأيه، تعالى الله عن ذلك!! هذا من عقيدتهم وأن الأحبار يقولون للرب: غير رأيك وعدِّل! ويغير رأيه، تعالى الله عن ذلك! إذاً هم عقيدتهم غير عقيدتنا، وإيمانهم غير إيماننا، فهم من منطلق آخر من منطلق إيمانهم بالماديات وبالأسباب يتحركون، ونحن من منطلق آخر ويجب علينا أن نتحرك ونعمل.

أهمية التركيز على الغرب في الخطط المستقبلية

أهمية التركيز على الغرب في الخطط المستقبلية أقول: ما دمنا نحن الأمة الوحيدة التي تمتلك هذا الميراث العظيم ومصدر اليقين ومصدر الحق في أحداث المستقبل؛ فعلينا أن نجتهد لذلك بالدعوة إلى الله، وأن نقيم الدراسات لغزو أوروبا وأمريكا بالإسلام. فلو قال قائل: لماذا لا نغزوا كوريا واليابان، ولدينا طاقات بشرية للدعوة؟ قال الآخر: لا! يجب أن نوجهها إلى أوروبا وأمريكا! فمن الذي يُقَدَّم رأيه؟ الذي يقول: يجب مواجهة الغرب، لأنه هو العدو الذي نحتاج أن ندخل في أعماقه، فهو أكثر عداوة، وأولئك أعداء كفار مشركون لنا، لكن العدو الذي سوف يهاجمنا ويكون أخطر علينا هو هذا. وكذلك تخطيطنا الدعوي وتخطيطنا العسكري يكون ضد الغرب، وتخطيطنا الاقتصادي والعلمي يكون ضد الغرب بالدرجة الأولى والكفار عموماً؛ لأن عندنا يقين أنه سيكون هو العدو كما هم الآن يفعلون. نحن نقابل الضد بالضد، وعندنا يقين، وعندهم خرافات وأساطير باطلة، ثم إن هذا التخطيط هو مقتضى العقول السليمة، فالعاقل يفكر عندما يريد أن يفتح أي محل أو عمل تجاري أو عندما يريد أن يبني بيتاً، وكل هذا قائم على التخطيط ودراسة المستقبل، صحيح أن المستقبل محدود في سنتين أو ثلاث أو عشر مثلاً أو أكثر، وإذا اشترى رجل عمارة هذه الأيام بمليونين لأنه فكر أنه يستطيع تأجيرها خلال (10 سنوات) فيما يعادل مليون ونصف أو مليونين، إذاً هكذا البشر يخططون بمقتضى العقول. فالأمة يجب أن تخطط بالقرون وليس بالعقود -بالعشرات-، ونحن حتى بالعشرات لا نخطط! كانت أمريكا تقول: -وهذا الكلام قبل أكثر من عشر سنوات- مما سوف يعجل بانهيار الإتحاد السوفيتي، أن طاقم الحزب الشيوعي كلهم فوق الستين سنة، ومعنى ذلك -كما قالوا وهذا صحيح وما هو علم غيب- أنه بعد عشر سنوات سيموتون كلهم، أو أكثرهم، والآن، ماتوا -فعلاً- ولم يبق منهم حيّ إلا جورباتشوف؛ لأنه بعد السبعين يبدأ الموت في الناس وهكذا، إذاً هناك أشياء مثل هذه الأمور نحتاج أن نحييها في الأمة عامة وفي أنفسنا، ويكون لدينا نظرة بعيدة لمستقبل الإسلام ومستقبل الدعوة، ونبني عليه خططنا لهذه الحياة، وإلا فلا مكان في هذه الحياة لفوضوي أو عابث أو متخاذل أو متكاسل، وعلينا أن نبدأ، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يحقق المساعي بإذنه عز وجل. وأنتقل الآن إلى هذا المثال وهو أن جريدة الحياة قد جاءت بعنوان: "مذنَّب ضخم مندفع نحو الأرض سيدمر كل أشكال الحياة عام (2116) " والخبر يقول: "يندفع مذنب كبير نحو الأرض وسيصل إليها في (14 آب أغسطس عام 2116)، ويُحدث انفجاراً أقوى من واحد ونصف مليون قنبلة نووية ينهي جميع أشكال الحياة" وهذا مثال لما يتنبئون به -كما ذكرنا- وهو من الرجم بالغيب، فالمهم أن نعلم كيف يتنبئون ويتوقعون واليقين إنما هو عندنا وليس عندهم.

الأسئلة

الأسئلة

الغرب بين القوة والضعف

الغرب بين القوة والضعف Q كأنك مرة تصوَّر الغرب أنه هالك ومرة أنه جاد ومحطِّم لغيره؛ فما عملنا؟ A كيفية الجمع بين أنه هالك، أو أنه قوي وجاد، من خلال أن عوامل الانهيار فيه موجودة وعوامل البقاء فيه موجودة، فنحن إن نازعنا القدر بالقدر وعرفنا سنن الله، قويَ عاملُ الانهيار لديه وانهار، وإن تركناه قويَ وحطَّم غيره، وظل قوياً، فانهياره أو ضعفه بمقدار خلوه من الإيمان الذي عندنا، والحمد لله فإنا نملك الشريعة والعدل والحق ولا يملكونه، وقوته بمقدار ما لديه من قوة مادية وتخطيط نحن لا نملكه، فإذا اجتمع لدينا قوة الإيمان والعقيدة مع التخطيط الصحيح السليم الذي هو قوته المادية -أيضاً- فإننا سوف نهزمه -بإذن الله- والمعركة طويلة، وحتى كلامي هذا هو من باب أن نحث الهمم لمنازعة القدر بالقدر، وإلا فالمعركة طويلة، ولن تنتهي إلى قيام الساعة، ولكن المصيبة هي أن نركن ونتخاذل وأن ندع الغرب يتحكم في مصائرنا، ثم يخرجنا من ديينا أو يُنصِّرنا كما يريد أن يخطط، وللتنصير باب طويل لا نريد أن نتحدث فيه الآن.

الطريقة المثلى لتجاوب الدعاة مع دراسة المستقبل

الطريقة المثلى لتجاوب الدعاة مع دراسة المستقبل Q كيف يتجاوب الدعاة وطلاب العلم مع دراسة المستقبل بما ينعكس إيجابياً على واقعهم، خصوصاً والألم يعتصر القلب عندما يسمع المسلم عن دقة تخطيطهم وعشوائية أعمالنا؟ A نحن مهما بلغنا من الضعف والعشوائية ومن تسلط الغرب المجرمين والطواغيت، ومن انتشار الأفكار الإلحادية والبدع والخرافات، فنحن مهما كان حالنا، فإن لدينا اليقين الذي لا يتزعزع في أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن الله عز وجل قد كتب في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، وأن المستقبل للإسلام. يجب أن نؤمن بهذا وأن نعتقده، فلا يهزنا ما لديهم لحظة واحدة، فنعتقد أن المستقبل للإسلام، وإذا كان واقعنا بهذه العشوائية، وبهذه التفرقة، وبهذا الاضمحلال، فعلينا أن ننطلق ونعمل ولا نقول: إن هذا الواقع يدعو لليأس وإلى ترك المعركة؛ لأنك في معركة شئت أم أبيت، فما دمت واثقاً من أن لك النصر في النهاية، فلا تغرك مظاهر الهزيمة لديك ومظاهر القوة لدى عدوك، ولهذا أساس الانتصار على أنفسنا، وعلى أعدائنا، وعلى الشرق والغرب، وعلى كل خطر أن نعود إلى الله تبارك وتعالى عودة صادقة إيمانية، فإذا آمنا بالله وآمنا بوعد الله أيقنا بما أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإننا حينئذٍ سوف نحطم كل ما يواجهنا بإذن الله مهما طالت الطريق ومهما نالنا من تعب، فهذا دافع إيجابي، لأن تكون حركتنا إيجابية لا سلبية فيها بأي حال من الأحوال، فنكون إيجابيين في تعاملنا مع كل الأحداث ومتفائلين بأن النصر لهذا الدين، وأن ما نراه من هذا الواقع المؤلم هو نفسه بإذن الله سيكون فيه العبرة لهم إذا استطعنا أن ننهض من هذه الكبوة العجيبة ونهزمهم، فإن هذه آية من آيات الله التي نؤمن بها في الدلالة على أن هذا الدين هو الحق، وإلا لو كانت هذه الآلام والمحن والحروب والفتن والتخطيط يواجه أمةً غير المسلمين وديناً غير دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكان قد اضمحل من فوق ظهر الأرض، فعندما قدم التتار اتحدت الرافضة والفرق الباطنية الحشاشون- مع المغول التتار ومع الحملات الصليبية كلها، وشكلت قوة واحدة، ولولا أن هذا الدين من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكان في القرن الثامن أو السابع لا وجود له على الإطلاق، ومع ذلك فنيت تلك القوى وظل هذا الدين والحمد لله.

نتائج الانتخابات الامريكية وأثرها على المنطقة العربية

نتائج الانتخابات الامريكية وأثرها على المنطقة العربية Q هل من نتائج فوز كلنتون على بوش في الانتخابات السماح للصليب بالعبث في المنطقة العربية، لأن أصله يهودي، ولأنه من الحزب الديمقراطي؟ A هما وجهان لعملة واحدة، واليهود الآن في الحملة الانتخابية تقريباً كلهم مع كلنتون لأن عندهم في التلمود أن الأميين لنا كالحمار إذا نفق منهم حمار ركبنا حماراً آخر، ركبوا بوش واستخدموه ويريدون أن ينتهوا منه ويركبوا الآخر لو فاز بوش فالعملية سوف تستمر والخدمة ستستمر في الأصل، لكن سوف يكون أكثر حرية؛ لأنه لا يطمع في ترشيح ثالث، فلا يريد الفوز بأصواتهم، ولا يريد أن يكسبهم هم ولا غيرهم، فيكون لديه نوع من المرونة والحرية وهم لا يريدون هذا، يريدون المرشح الديمقراطي؛ لأنه أحمق، ولأن لديه جذور يهودية توراتية، ولأنه يمكن أن يحقق لهم أهدافاً أكثر باعتبار أن الفضل لهم في الوقوف معه في الانتخابات، ونحن مثل الأسير المكتف المقيد المغلوب الذي يرى وحشين يتصارعان، ويتمنى أن يكون هذا أرحم أو هذا أرحم!! أياً كان منهما فأنت مأكول إلا أن تطلق قيدك وتتوكل على الله تعالى، وتعتمد بعد الله على نفسك وعلى ما لديك، أما هم فلن يفرق الأمر كثيراً، ولا أتوقع أكثر من عشرين في المائة من تغيير في سياستهم الخارجية؛ لأنها تحكمها معايير ثابتة، وليس مجرد آراء الرئيس، وربما عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، بمعنى أننا نكره أن يفوز كلينتون، وما يدرينا أنه إذا فاز بحماقته هذه وتأييده لليهود وسبه للعرب، يكون هذا الذي يوقظنا ويكون هذا الذي يعرفنا قدرنا وقيمتنا، ويكون هذا الذي يحركنا، أما ذاك فإنه يدللنا بالكلام والأخوة والعدالة والشرعية، فننام ونتخدر أكثر، فالله أعلم، ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يختار الخير لهذه الأمة. وبالمناسبة فإن النتيجة غداً، وهذه من فوائد البث المباشر!

إطلاق الروم وبني الأصفر على الأوروبيين

إطلاق الروم وبني الأصفر على الأوروبيين Q يقول الأخ ما وجه الجمع بين حديث: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا بني الأصفر}، وحديث: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الروم}؟ وهل فيهما إشارة إلى تدمير أمريكا وبعد أن تدمر أمريكا يكون الروم هم أوروبا بعد أن يتحدوا؟ A معنى الحديثين واحد وبني الأصفر هم الروم، ولا ندخل في التفاصيل، ولكن الروم يشمل الغرب كله بما في ذلك أمريكا، وسيسلم الروم بإذن الله، وهذا الذي يشجعنا للدعوة؛ لأنه في نفس الحديث: {يقول الروم للمسلمين في الملحمة الكبرى: أخرجوا لنا إخواننا فيقول المسلمون: والله لا نعطيكم إياهم} لأنهم آمنوا بمعنى أنه يوجد روم مسلمون لهم نكاية في روم الكفار وهم مع المسلمين، ففي هذا دليل على أن من الروم من يسلم بإذن الله تعالى.

توقعات من أزمة الخليج في كتاب المسيح الدجال

توقعات من أزمة الخليج في كتاب المسيح الدجال Q ما رأيكم في كتاب المسيح الدجال الذي ظهر قبل أزمة الخليج؟ A في الكتاب حقائق كثيرة، لكن ليس بالدقة والحرفية، إنما يعطيك إشارة إلى نوع من تفكير هؤلاء، والذي سميناه نحن نبوءاتهم وما يفسرون به كتبهم، وهذا الكتاب مثال على هذا النوع الذي لديهم، وقد كان قبل الأزمة، ومع ذلك فيه بعض التوقعات التي حدثت فعلاً في الأزمة.

تبعية الصين للغرب

تبعية الصين للغرب Q فضيلة الشيخ! بعد ذكر أن اليهود يمكن أن يركبوا أمة أخرى غير الأمريكان مثل الصين، فهل هناك علاقة بين ضعف أمريكا اقتصادياً ومحاولة تجديد الرؤساء إلخ؟ A أنا أقول: إن الظاهر لنا أن اليهود ليسوا هم الذين يركبون الصين، بل إن الصين سيظل تابعاً للغرب، وبهذه المناسبة فإن الغرب أراد وخطط لأن تتحول أوروبا الشرقية كلها عن الشيوعية، أما الصين فقد أراد الغرب أن تظل شيوعية؛ لأن الشيوعية دمار وخراب، فلما ضمن الغرب تكوين جبهة غربية واحدة، أخذ هذا الدمار وأزاله عن أوروبا الشرقية، أما الصين فلأنها أمة شرقية، ولم تخضع له في النهاية؛ فقد جعل هذا الدمار باقياً لديها، وربما يدعمون وجود هذا الدمار!

خطر الرافضة

خطر الرافضة Q فضيلة الشيخ! لماذا لا تنبه على خطر الرافضة وغيرهم؟ A نحن نتكلم عن خطر واحد، والأخطار كثيرة، ولا نستطيع أن نتحدث في كل مرة عن جميع الأخطار.

من المشاريع ضد التنصير

من المشاريع ضد التنصير Q ماذا عن مشروعكم ضد التنصير؟ A هذا مشروع بسيط جداً! ونسأل الله أن يكون كبيراً عنده، وإلا فهو بالنسبة لنا ليس كبيراً؛ للواجب الذي يجب أن تقوم به لهذه الأمة، وسوف نحدثكم عنه -إن شاء الله- في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم في جدة، وقد سبق الحديث عنه في القصيم بعنوان: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح".

التفسير الإشاري من سمات الصوفية

التفسير الإشاري من سمات الصوفية Q التفسير الإشاري هل هو من باب ادعاء الغيب أم هو من باب اجتهادات ابن خلدون؟ A التفسير الإشاري ليس من باب اجتهادات ابن خلدون، إنما هو من سمات الصوفية، ويمكن أن تفسر النصوص أو حتى الأشعار تفسيراً إشارياً أو رمزياً، ولا يختص هذا بأحاديث الفتن، وليس خاصاً بطائفة دون طائفة من المسلمين.

خطر الفرقة على مستقبل المسلمين

خطر الفرقة على مستقبل المسلمين Q إن مما يؤثر في مستقبل المسلمين الفرقة التي يعيشونها، ومن ذلك ما يحصل بين أهل السنة والجماعة وغيرهم من الجماعات عموماً؛ علماً بأنهم يلتقون في مبدأ واحد يتسع للخلاف إلخ؟ A لا شك أن الفرقة عامل ضعف، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك فقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فمن أسباب قوة الغرب أنهم يتوحدون، ومن نظر إلى أوروبا الشرقية والغربية يجد أن فيهم العرق الآري، وفيهم الأعراق الأخرى، وفيهم الأرثودكس وفيهم الكاثوليك، وفيهم الأحزاب الشيوعية، والأحزاب اليمينية، والأحزاب اليسارية، والأحزاب الوسط، وفيهم من يتقاتلون مع بعض، وكل هؤلاء مع كل الاختلافات يريدون أن يتوحدوا، ونحن لدينا كل أسباب الاجتماع حتى اللغة؛ فلغتنا واحدة، المسلمون في كل مكان يحبون اللغة العربية، ويتعلمون القرآن أما هم فإن اللغة الألمانية لا يمكن أن يتكلمها الفرنسي، والفرنسية لا يتكلمها الألماني، ومع ذلك يريدون أن يتوحدوا، وأن يكون جيشهم واحداً، ونحن لدينا كل عوامل الوحدة، ولكننا لا نريد ذلك؛ لأن النفوس مرضى؛ ولأن الاقتناع بضرورة ذلك غير موجود، ولن يوجد إلا بالرجوع إلى العقيدة الصحيحة، وبالذات ما يتعلق بالولاء والبراء.

غفلة المسلمين عن المخططات الغربية

غفلة المسلمين عن المخططات الغربية Q ذكرت مكائد الغرب وسلطته وأن المسلمين في غفلة ويُقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يُستأمرون وهم شهودُ وكأننا نرى أن الغرب ملك كل شيء، وما بيدنا شيء؟ A لا! لم نقل هذا، ولا نريد أن يفهم هذا، لكن نريد أن نقول: إن الغرب يعمل ويخطط ونحن نتثاقل ونتخاذل.

تحضير الأرواح

تحضير الأرواح Q هل يعتبر تحضير الأرواح الموجودة اليوم -وخاصة عند النصارى- من ضمن الطلاسم؟ A هو نفس الكهانة لكنها تطورت، بمعنى أن تحضير الأرواح هو نوع من الكهانة واستخدام القرين، وذلك أن لكل إنسان قرينه: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت:25] كما ذكر الله تبارك وتعالى فكل إنسان له قرين وله شيطان، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن الله أعانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قرينه فأسلم، فكل إنسان له قرين، فهذا القرينُ يأتي الخبيثَ من أولياء الشياطين من الإنس، يستعين بطواغيت الجن وملوكهم ويقدم لهم عبادات وخدمات معينة، ومنها إهانة المصحف -والعياذ بالله- وغير ذلك، فيسألون قرينه عن أحوال ذلك الميت، فإذا اجتمعوا في مكان، فربما نطق القرين، وقال: أنا ربما كنت كذا وكنت كذا، ويتكلم عن قرينه الذي مات فيقسم أهله الأيمان أن هذا الكلام حقيقي وأنه خاص ما اطلع عليه أحد، لكن القرين الذين معه يسارحه روحةً وغدواً وعشياً ويرى أفعاله، فهو يخبر بما شاهده، وليس من الغيب؛ لأن الغيب ما خفي، أما ذاك فقد اطلع فيه الجني على وليه من الإنس، مثلما لو أن عند أي شخص مجهر تلفزيوني، أو عين تلفزيونية يرى فيها شخصاً جالساً في مكتبه، وهو في الدور الرابع، فهذا ليس غيباً، وإنما اطلع عليه بوسيلة لا يراها الناس، فظنوا أنه يعلم الغيب، فهذا هو كل ما يقوم به من تحضير الأرواح، إنما هو تسخير للشياطين، كما ذكر الله -تبارك وتعالى- عنهم يوم القيامة: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128]. أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع ونقول، وأن يكون فيما قلناه عبرة وإثارة لهذه القضية المهمة. والحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

وقفات مع آية الولاية

وقفات مع آية الولاية في هذه المادة تكلم الشيخ عن مفهوم الولاية، وبين صفات أولياء الله الذين اصطفاهم لولايته، ثم ذكر بعض خرافات الصوفية المتعلقة بالولاية.

الخسارة الحقيقية

الخسارة الحقيقية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:- فبفضل الله تعالى وتوفيقه، نكمل شرح الحديث العظيم الذي ذكره الإمام الشارح ابن رجب ضمن حديثه عن الولاية، وهو حديث الولي الذي ذكرنا طرفاً منه والحِكم فيه، وقرأنا طائفة من شرح الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، وكان آخر ما وقفنا عنده، هو ما كان يتحدث عنه الحافظ ابن رجب رحمه الله من أوصاف الذين يحبهم الله ويحبونه، بعد أن تحدث عن الفرائض التي تقرب إلى الله تعالى، وذكر الآية وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. قال الشارح رحمه الله: 'من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبوناً ' وهذا كلام عظيم لا يقدر قدره إلا من عرف الله عز وجل وعرف قدر الله، وعظَّم الله حق تعظيمه وقدره حق قدره. يقول: ' من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبوناً -على فرض أنها الجنة- فكيف إذا لم يحصل له إلا نزر حقير يسير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة'. هذه الدار التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء} فكلها لا تعدل جناح بعوضة، ويستمتع فيها الكفار من قديم الزمان إلى نهاية هذه الدنيا، فكم نصيب الكافر الواحد من هذه الدنيا كلها التي لا تعادل جناح بعوضة؟ نسبة عجيبة جداً لو تأملها الإنسان بذهنه وخياله، فهذا آثرها على الله والدار الآخرة، وباع حظه من الآخرة، وحظه من محبة الله، ومعرفته بهذه الفانية العاجلة الحقيرة التافهة.

صفات أولياء الله

صفات أولياء الله ثم قال: ' ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه ' قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فذكر الله صفات هؤلاء وهي: أولاً: أنهم يحبهم الله ويحبون الله. ثم أتى بالوصف الثاني لهؤلاء المحبين 'فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] يعني: أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح (أعزة على الكافرين) يعني: أنهم يعاملون الكافرين بالعزة والشدة والغلظة، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه؛ فعاملوهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ' والوصف الآخر هو أنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم. ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أنها بينت آيات الولاية، فإنه أول ما ابتدأ هذا المقطع والموضوع من الآيات، ابتدأ بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ثم جاءت آية، ثم هذه الآية، ثم بعد أن أكمل هذه الآيات ذكر آية الولاية، وذكر أولياء الله، وأنهم حزب الله فقال: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]. ثم حذر بعدها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:57] إذاً: قبلها آية التحذير، وبعدها آية التحذير من اتخاذ الكفار أولياء، فبين التحذيرين من موالاة الكفار. تأتي صفة المؤمنين الذين يستبدل بهم الله تعالى من يترك دينه، ويعرض عنه، ويرتد، ويتخلى عن القيام بحمل هذه الدعوة، والوفاء بعهد الله، وميثاقه في نصرة هذا الدين، وحمل ميراث النبوة، ورفع لواء سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذروة ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل.

عاقبة الأمة التي تختلف فيها هذه الصفات

عاقبة الأمة التي تختلف فيها هذه الصفات فإما أن تكون الأمة المؤمنة التي أمر الله بها في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] ترفع لواء الجهاد في سبيل الله وتنصر الحق موجودة أو لا توجد، أو ترتد كما ارتدت طائفة كانت تدعي ذلك، فإن الله تعالى لن يضيع دينه، وسوف يأتي بقوم آخرين، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] فيأتي الله تبارك وتعالى بقوم هذه صفاتهم. وهذا دليل على أن الأمة التي تتخلف فيها هذه الصفات، هي أمة متروكة مخذولة ليست من أولياء الله، بل يتخلى الله عنها ويعاقبها بما يشاء، ويسلط عليها أعداءها، ويسلط عليها الفرقة فيما بينها فيشتت جمعها، ويذلها بمن يشاء من عباده المؤمنين أو الكافرين، فيبتليهم بالخوف، ويبتليهم بالجوع، وبما ذكر من المصائب والعذاب الذي حلَّ بالأمم السابقة، أو كما يشاء، ويأتي بالبديل وهم القوم الذين هذه صفاتهم.

أذلة على المؤمنين

أذلة على المؤمنين لما كان هذا الموضوع -موضوع الولاية- بهذه الأهمية، والتحذير عن موالاة الكفار بهذه المثابة وبهذه المنزلة، ذكر من صفات المؤمنين الذين يأتي بهم الله تعالى عوضاً عمن ارتد عن دينه، فذكر من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين، كما علل الشيخ رحمه الله بأن هؤلاء يحبون الله، ويحبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبون الدين، فمن كان من أهل الدين والإيمان، من أهل محبة الله، من عباد الله الصالحين، ومن أهل اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنهم أذلة معه يعاملونه باللين والرحمة والشفقة وخفض الجناح؛ لأنهم ينظرون إلى دينه، وإلى محبوبه، وإلى غايته وهمه ومراده وهو الله واتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيعاملونه بمقتضى ذلك، فهو أخوهم وحبيبهم وخليلهم وقريبهم، حتى لو أخطأ عليهم فإنهم يعفون عنه ويتجاوزن، ولا يغلظون عليه لقوة صلته بالله ومحبته له، ومن أحب الله حقاً فإنه لا بد أن يحب كل من أحب الله من الأحياء أو من الأموات. حتى لو أنك فتحت كتاباً من كتب التاريخ -أي كتاب- فوجدت سيرة رجل عالم عابد داعٍ إلى الله، آمرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر أحببته وليس بينك وبينه أي صلة، وقد يكون من بلاد الهند، أو الترك، أو أطراف الدنيا، لكن لما وجدت سيرته بهذه الحال، فإنك تحبه، وتترحم عليه، وتترضى عنه، وتسأل الله تعالى أن يكثر من أمثاله في هذه الأمة. وكذلك لو لم يكن هناك أي رابطة إلا أن الإنسان المؤمن يقرأ عن الماضين أو المعاصرين في أقاصي الدنيا، أن رجلاً منهم هذا حاله وشأنه من البعد عن الله أو محادة الله ورسوله وارتكاب ما حرم الله؛ فإنه يبغضه. إذاً: هذا أمر يكون في قلب كل مؤمن، ودرجته ومقداره تكون بمقدار إيمان الإنسان ومحبته لله، فكلما عظمت محبة الله تعالى في قلب العبد المؤمن عظمت محبة أولياء الله وأحباب الله، فيكون خافضاً للجناح ذليلاً أمامهم، ولاحظوا كلمة (ذِلة) والذل هل هو صفة محبوبة عند الإنسان أو مكروهة؟ إنها مكروهة فلا يوجد أحد يريدها، أو يتمناها، ولا يصف بها إخوانه، ولا يصف بها أحداً ممن يحب، ومع ذلك جاءت هذه الصفة في وصف هؤلاء، ولم يقل رحماء، وقد قال في الآية الأخرى عندما وصف الصحابة فيما بينهم: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] لكن عندما ذكر شروط هؤلاء القوم، جاء بوصف أبلغ من مجرد الرحمة وهو الذلة؛ لأنك قد ترحم إنسان لكن أن تكون ذليلاً له فهذه مرحلة أعظم من ذلك، فهذا دليل على أن هذا الشرط مهم، ودقيق، وضروري، ولا بد منه لمن يريد أن يكون من هؤلاء القوم. وعليه فإذا وجدت إنساناً غليظاً على المؤمنين، شديداً على الصالحين، عنيفاً على المتقين، بأي سبب؛ حتى لو يرى أنهم ظلموه في دنياه، أو خالفوه في رأي، أو فتيا؛ فاعلم أنه فقد صفة أساسية من هذه الصفات، ولا يمكن أن توجد الولاية أو المحبة لله عز وجل إلا مع وجودها، ولا بد من ترك ما يضادها.

أعزة على الكافرين

أعزة على الكافرين إذا كان الإنسان ذليلاً للمومنين، وفي المقابل مع الكافرين عزيزاً غليظاً عليهم، فقد حقق الشرطين، وهذا لا يتعارض مع العدل، ولا يعني الغلظة على الكافر أنه ظالم للكافر بل هو العدل، ولذلك نحن عندما نجاهدهم فإننا نجاهدهم لأن الجهاد عدل، ونجاهدهم ونغلظ عليهم كما أمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، وقال: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]. فهذه الغلظة من العدل، وليس فيها اعتداء، بل هي حق لا تعني الظلم، ولا تعني البغي، حتى ونحن نجاهدهم فإننا لا نقتل إلا من أمرنا الله بقتله، ولا نقتل من نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله، ففي كل أمورنا نحن مقيدون بالعدل وبالقسط وبالحق. إذاً: هذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة أن يرى عدو الله تعالى منك ما يغيظه ويكدر أمره، إما بكلمة غليظة، ولا نعني بكلمة غليظة أن الإنسان يسب أو يشتم وإنما بالقوة في الحق والموقف، وإما عملاً يسيء إليه، كأن تهدم ما يبني هذا الكافر، وتحبط عمله، وتجتهد في رد كيده، وإفشال سعيه. وأما إن كان أعلى من ذلك كمن يريد بالإسلام والمسلمين حرباً، فتحاربه وتقاتله، وتقتله إذا لم يكف شره إلا بذلك، وإذا لم يخضع لحكم الله، ويدفع الجزية؛ فإنه يقاتل حتى يقتل.

الخلل في تحقيق هاتين الصفتين

الخلل في تحقيق هاتين الصفتين هاتان الصفتان لا بد أن تكونا مقترنتان، ولذلك كان أكبر خطأ يخطئ فيه كثير من الناس أنهم يغلظون على المؤمنين، من أغلظ على المؤمنين؛ فإنه يؤدي به الأمر إلى أن يتساهل مع الكافرين، وهذا أمر يجده كل إنسان من نفسه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل في نفس الإنسان هذان العاملان: أحدهما: الحب ومقتضاه: اللين، والرأفه، والرحمة، والذلة. والآخر: البغض ومقتضاه: العنف، والقسوة، والشدة، والمقاتلة إلخ. فلو أن الإنسان أخطأ في أحدهما، فإنه يخطئ في الآخر لا محالة، فتجد بعض من يلين القول مع الكفار يغلظ على المسلم، فإذا تعامل مع الكفار، ووادهم، وأحبهم، وخالطهم بحيث إذا جاء إنسان وتكلم في الكفار، وحذَّر منهم، وبيَّن أنهم أعداء الله؛ أغلظ وأنكر عليه. وكذلك لو أنه أغلظ على إخوانه المؤمنين وكان شديداً عليهم، فإن هذا قسط من عداوته للكافرين صرفه وحوله إلى إخوانه المؤمنين. فتجد من شغله الله بالطعن والعيب والعداوة للمؤمنين لا يجد وقتاً ولا تجده يفرغ للطعن والحرب والعداوة لأعداء الله الكافرين، ولذلك يجب على المؤمن أن يحفظ هذا الميزان الدقيق وأن يجعل نفسه كما أمر الله تعالى. فقوله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] يجب أن نأخذ هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى، وليس في ذلك غضاضة، فإن ذل المسلم لأخيه المسلم عزٌ له عند الله عز وجل، وهذا يورثه الدرجة العليا، وهي: أن يكون ممن يصطفيهم الله عز وجل، فأنت لا تنظر إلى أن أخاك المسلم أخطأ عليك، أو أخطأ في اجتهاد ترى أنه خالفك فيه، بل انظر إليه هل هو ممن يحب الله ورسوله فتجتمعان في محبة الله أم لا؟ ومن عادة الناس في أمور دنياهم أنهم إذا كان أحد منهم يحب أحداً فإنه يستشفع إليه بمن يحب، حتى ولو كان بينه وبين الرجل أي مشكلة فيعفو عنه لأنه تشفع له من يحبه ذلك الرجل.

محبة الله ورسوله فوق كل محبة

محبة الله ورسوله فوق كل محبة وهل هناك من يُحَب أعظم من الله عز وجل، فكل محبوب في هذه الدنيا تحبه فيجب أن يكون الله أحب إليك منه، لماذا؟ لأنك إن أحببت الوالد، فمن الذي خلق الوالد والوالدة؟ ومن الذي سخرهما لك؟ ومن الذي حفظهما لك حتى ربياك؟ ومن الذي أودع في قلبيهما الرأفة والحنان والشفقة بك؟ إنه الله. لو أحببت الزوجة، فمن الذي خلقها؟ ومن الذي أعطاها الصفات التي أحببتها من أجلها في خَلْقِها أو في خُلُقِها؟ ومن الذي سخرها لك؟ إنه الله. وقد تحب شيخك، أو معلمك، أو أستاذك، فمن الذي أعطاه العلم؟ ومن الذي سخره ليعلمك؟ ومن الذي عقد بينك وبينه هذه المحبة؟ إنه الله. إذاً: كل من تحبه في هذه الدنيا، وتقدِّره، وتعظمه، فالفضل أولاً وآخراً لله تعالى، فوجب أن تحب الله أكثر من محبتك لهؤلاء جميعاً، ولهذا أشد محبة يجب أن يحبها الإنسان هي محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والله يا رسول الله! إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -هل أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لا- قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من كل شيء حتى من نفسك، قال: الآن يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي} وهذه حقيقة الإيمان، لأن من كان يريد أن يكون في مثل درجة عمر، فلا بد أن يصل به الحال إلى هذا المستوى، ألَّا يحب وألَّا يؤثر على محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي شيء؛ حتى نفسه التي بين جنبيه، لأن هذه النفس إنما جاءها الخير والصلاح والهدى من غيرها، وإلا فمن أين جاءنا الخير والصلاح والهدى؟ من أين الوسيلة التي نصل بها إلى النعيم الأبدي الخالد عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ إن ذلك كان من طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

من لوازم محبة الله سبحانه وتعالى

من لوازم محبة الله سبحانه وتعالى يجب أن يكون الله عز وجل أحب إلينا من أنفسنا؛ إن أردنا أن نكون من أهل الدرجة العليا، وهكذا هي محبة الله تعالى، والذلة للمؤمنين والغلظة على الكافرين شرط في حصول ذلك، كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى، ولذلك عقب على الغلظة بالجهاد كما قال تعالى: ((يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)) [المائدة:54]. يقول: ' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب '. إذا كنا نحب الله، فكيف نرضى ونسكت عمن يقول: إن لله تبارك وتعالى ولد؟ كما قال ذلك اليهود والنصارى، وكيف نرضى عن قول اليهود كما حكى الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] وعندما يقول اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وعندما يكذِّبون رسل الله، وعندما يدعي النصارى أن لله ولداً، تعالى الله وتنزه عن هذا القول المنكر المفترى العظيم، الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدَّا، فهكذا يقول النصارى واليهود. والمشركون يعبدون مع الله حجارة وأصناماً، ويظنون أنها تقربهم من الله، وأنها واسطة بينهم وبين الله، فحق الله الذي خلقهم ورزقهم يصرفونه إلىهذه الحجارة وهذه الأوثان والأشجار والقبور، وغير ذلك، وهذا أمر عظيم، فمن عرف الله، وأحب الله، فإنه يجب عليه أن يتقرب إلى الله بقتال هؤلاء -أعداء الله- الذين تركوا عبادته والإخلاص له الذي أمرهم به، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فتركوا ذلك وذهبوا إلى عبادة غير الله، والافتراء على الله، وادَّعوا لله تعالى ما ليس له. وأقول: -ولله المثل الأعلى- هل يعقل أن تحب أحداً من الناس وتقول: أنا أحبه غاية المحبة، ولا تعادي من يفتري عليه أعظم الافتراء، ويبهته أعظم البهتان؟ مستحيل، حتى إن الواحد من الناس يقال له: ألم يكن فلاناً حبيبك، فيقول: نعم، هو حبيبي وأخي، لكن لما رأيته أبغض فلاناً، وافترى عليه، وكذا وكذا كرهته، فلسان حاله يقول: ليس بيني وبينه أي شيء، لكنه أبغض من أُحب، وكَذَب على من أحب، واتهم من أحب، وأبطل حق من أحبه محبة عظيمة؛ فكانت العاقبة أن أقطع ما بيني وبينه. إذاً: هكذا المؤمنون لو أحبوا الله تعالى حق المحبة؛ لعادوا الكافرين أشد العداوة، وأحبوا المؤمنين أشد المحبة، ومنتهى العداوة أن يجاهدوا باليد بعد المجاهدة بالبيان، يجاهدون بالسنان مع إقامة الحجة عليهم بالدعوة والبرهان، وينتقلون معهم من حال المجادلة إلى حال المجالدة، وهذا لا بد منه، ولذلك تأتي هذه الصفة كأنها صفة لازمة. فإنك لو تأملت السياق: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فهل المحبة صفة لازمة أو عارضة للمؤمن؟ لا شك أنها لازمة، وكذلك قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] هل هي لازمة أم عارضة؟ أيضاً لازمة وثابتة، إذاً يجاهدون في سبيل الله لازمة، لماذا؟ لأنه من المستحيل أن تكون بهذه الدرجة، وأن تدعو إلى الله، ولا تجاهد في سبيل الله؛ فلابد من المجاهدة. هذه الأمة في مجموعها لا بد لها أن تجاهد؛ لأن من سنة الله تعالى أنه ما قام أحد بأمر هذا الدين إلا عودي، وهذا ما علمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورقة بن نوفل، فأول ما نزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، لم يكن قد قرأ عن أخبار الأنبياء من قبل، ولا علم ولا عرف ما ابتلوا به، فأتت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلاً كبيراً قد أسنَّ، فذكرت له ذلك، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ومات، فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سمع ذلك فقال: {أو مخرجي هم} لماذا يخرجونني؟ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] هل فيها شيء يتطلب الإخراج أو الأذى؟ فقال له ورقة {ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} وهو لا يعلم الغيب، ولكنه يعلم أنها قاعدة وسنة ماضية للرسل من قبل؛ لأنه يقرأ لأهل الكتاب أنه ما جاء نبي من الأنبياء ودعا إلى الله إلا عودي وحورب وأوذي؛ فمنهم من قتل، ومنهم من طرد، أو أوذي، أو حبس، أو إلى آخره. فلابد من نوع من الأذى والابتلاء يصيب الداعية إلى الله، ولهذا يقول الله تعالى لعبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] فليس فيه جديد {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] نفس العبارة {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] هل كتب قوم نوح وثيقة وقالوا: يا عاد. إن بعث إليكم رسول يقول لكم اعبدوا الله فقولوا له كما قلنا؟ وهل كتبت عاد إلى ثمود إذا جاءكم وبعث فيكم رجل ودعاكم إلى مثل ما دعانا إليه هود فقولوا له كما قلنا؟ أبداً. لم يتواصوا به، إنما هي سنة واحدة، الطغيان واحد، والإعراض واحد، والرد واحد؛ لأنه كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا} [الفرقان:31]، إذاً: ما دام الأمر كذلك فكل من تصدَّى لهذا الدين لا بد أن يجاهد.

الطائفة المنصورة

الطائفة المنصورة الطائفة المنصورة الموعودة بنصر الله تعالى من صفاتها أنهم يجاهدون ويقاتلون في سبيل الله، كما في الروايات الصحيحة {لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم}.

أقسام الناس تجاه الطائفة المنصورة

أقسام الناس تجاه الطائفة المنصورة والناس تجاه الطائفة المنصورة على قسمين: الأول: أعداء؛ فهؤلاء يقاتلون. الثاني: طائفة أخرى يقرون ويوافقون الطائفة المنصورة، لكنهم يخذلونهم ولا يعاونونهم، فهاتان ليستا من الطائفة المنصورة.

الدعوة والجهاد من صفات الطائفة المنصورة

الدعوة والجهاد من صفات الطائفة المنصورة الطائفة المنصورة: تدعو، وتأمر، وتنهى، وتجاهد، فمن خذلهم فليس منهم، ومن قاتلهم فهذا عدوهم، ومن المستحيل أن يكون منهم. ومن العقبات السبع التي ذكرها ابن القيم رحمه الله العقبة السابعة: عقبة المراغمة، والمراغمة هي الجهاد فلا بد منه، فعندما ذكر العقبات مثل: عقبة الشرك، وعقبة الكبائر فإنه يوجد لله عباد لا يرتكبون الكبائر، لكن العقبة التي لا يستطيع أحد أن يتداركها أو يتجاوزها هي المراغمة، لا بد أن يسلط الله تعالى عليه عدواً أو يسخر من يعاديه ومن يؤذيه. ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله عن نفسه في الفوائد قصة سلمان الفارسي عندما قال له أبوه: إما أن تعود إلى ديننا أو القيد، فقال: [[هذا هو الخطاب الذي قالته الأمم لأنبيائهم من قديم]] قال الإمام: 'وهو الخطاب الذي خوطب به الإمام أحمد عندما رفض القول بأن القرآن مخلوق، وهو الخطاب الذي قيل لـ ابن تيمية شيخنا شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، وهو الخطاب الذي قيل لنا'. فهذا لابد منه، وهذا هو الجواب الأخير: إما أن يعود في ملتهم وإما يناله من الأذى ما يستطيعون: رجماً، أو طرداً، أو إخراجاً، أو أذى، وربما وصل الحال كما فُعِل بأصحاب الأخدود، هذا شيء عجيب، وحالة نادرة أن يصل الأمر إلى أن يُحرق المؤمنون، ويرجع الملك إلى ملكه، وتبقى الأمور مستمرة، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت أنه لابد من هذا، كما قال: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].

لا يخافون لومة لائم

لا يخافون لومة لائم قوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] فيه معاني حكيمة وعجيبة، وكل القرآن فيه ذلك لمن تدبره وتأمله، لكن قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ووصفهم بأنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، كلها صفات نستطيع أن نقول: إنها معروفة، لكن لا بد منها وهي ضرورية للإنسان المستخلف الذي يريد أن يمكنه الله تعالى وأن ينصر به دينه.

الخوف من قول الحق

الخوف من قول الحق لكن قوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] كثير من الناس لا يمنعه من قول الحق، أو السير في طريق الدعوة والاستمرار فيه؛ إلا لوم اللائمين، فإن كان قريباً أو صديقاً أو محباً قال: يا فلان أنا أحبك، وأعزك، وأشفق عليك، ولا أريد أن تؤذى، ولا أريدك أن تهان ولا أريدك أن تُخذل، أريدك أن تقعد محترماً، وفعلاً قد يكون يحبه، ولكن هذا من لوم اللائمين. وآخر قد يقول له أبوه أو أمه: تريد الجهاد، أخاف عليك أن تموت فمن يبقى لنا؟ أين نذهب من بعدك إلخ. وهذه حرب أخرى تسمى في مصطلحات الناس اليوم: الحرب النفسية وحرب الأعصاب، والمهم أن هذا اللوم من المهم جداً أن يتجنب، وقد يقال لك: ألا يوجد إلا أنت حتى تقاتل الكفار وتجاهد، وأنت تريد الجنة، كلنا نريد الجنة، ونقاتل، وندعو، ونأمر، وننهى، ولو أوذيت أو عذبت لصبرت لكن المشكلة هي في أن يأتيك اللوم. واللوم ليس شرطاً أن يكون من العدو؛ لأنه لو كان من العدو فلن يؤثر، لكن المشكلة إذا جاءك من المحب، ومن الموافق، وفي صورة الناصح المشفق الحنون الدءوب على مصلحتك، لكنك لو أطعته لتركت أمر الله تعالى، وتركت الجهاد في سبيل الله، ونزلت عن الدرجة التي يريدها الله تعالى لك؛ فالله تعالى يصطفى هؤلاء الأصناف بدرجة عالية عظيمة المقام، كمقام الأنبياء، بحيث يقفون ويقومون مقام الأنبياء، ويرثون ميراث النبوة، ويدعون إلى الله، هذه الدرجة العظيمة ينزلك عنها، نعم هو لا يريد أن يخرجك من الدين، ولا يريدك أن تترك الحق والخير، لكن ينزلك عن هذا المقام إلى مقام بعيد بالنسبة لهذا وإن كنت من المؤمنين، ومن الأخيار، ومن الصالحين الذين هم على خير ويدخلون الجنة، لكن ليس هذا هو الغرض الذي أنت تريده، ولا هو الشرط أو الصفة التي يريدها الله عز وجل فيمن يريد أن يمكنه وأن يستخلفه وأن ينصر به دينه ويظهره.

لماذا لا يخاف الإنسان في الله لومة لائم؟

لماذا لا يخاف الإنسان في الله لومة لائم؟ لا بد أن يهتم الإنسان دائماً بهذا الجانب: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ولا يخاف أبداً ما دامت أعماله حقاً، وبميزان الكتاب والسنة. فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا دائماً يتحرون الحق حتى في الأمور المندوبة، وفي السنن المستحبة، ويعلل أحدهم ذلك بأني لا أخاف في الله لومة لائم. أقول: هذه الجملة من الآية من المهم جداً لطلبة العلم أن يتدبروها، يقول ابن رجب رحمه الله: ' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضاً فالجهاد في سبيل الله دعوة للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان، بعد الدعاء إليه بالحجة والبرهان، فالمحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى بابه' كما قال بعضهم: وددت لو أن لحمي قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل. وهذا من غيرته على دين الله، وغيرته أن تنتهك حرمات الله، ومن تعظيمه لله، ومن محبته لله لا يريد أن أحداً يغضب الله أو يتعدى حدود الله، فيؤثر أن يقرض بالمقاريض ولا يعصى الله عز وجل. فالمحب لله يحب أن يكون الخلق كلهم عبيداً لله طائعين له، ولا يرضى أن أحداً منهم يعصي الله أويتجاوز حدوده، قال: 'فمن لم يجب الدعوة إليه باللين والرفق احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف: {عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل} {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] لا همَّ للمحب غير ما يرضي حبيبه، رضي من رضي، وسخط من سخط'. وابن رجب عادته كعادة ابن القيم يتكلم بروحانية وبشفافية، فيأتي بأساليب وعبارات أدبية، ثم يستشهد بالشعر، وكأنه لا يتكلم بكلام الفقيه أو المؤصل لأنها لا تكفي، فينتقل إلى واحة الشعر والأدب، ويبدأ يعبر هذه التعبيرات الأدبية الجميلة، ويقول: ' لا همَّ للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي، وسخط من سخط، فمن خاف الملامة في هوى من يحبه فليس بصادق في المحبة ثم أتى بهذه الأبيات:- وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم ' وهذه الأبيات يقول فيها بعض الناس: إنها أبلغ أبيات قالتها العرب في الحب، وهذه الأمور ذوقية، وقد ترى أنت أن غير هذا أبلغ، لكن يقال في حق هذه الأبيات أو هذه القصيدة: إنها أبلغ ما قيل في المحبة وفي الحب: ثم قال في البيت الآخر: وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً أين المهان لديك ممن يكرم أي: من أجلك أهنت نفسي، ثم قال: أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم كل من يلوموني أفرح؛ لأنه يلوموني في حبك، فهم يذكرونني بك، كما يقول: لقد نقل الواشون عنك فقد سرني أني خطرت ببالك وهذه قالها أحد شعراء الهوى، يقول: كلما يقولون عنك أنك لا تحبني، أنا أفرح به لأن المهم عندي أني خطرت ببالك، فانظر إلى هذا الحب العظيم العميق، سبحان الله! لكن كيف يكون شعور المؤمن إذا ذكر الله فإنه يستشعر أن الله يذكره، كما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} الله أكبر! جبار السماوات والأرض سبحانه الغني الحميد الذي يقول: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8]، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] يقول: {إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} أي حبيب في الدنيا كهذا، وبدون واسطة يعلم أن هذا ذكره، ثم قال: {وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} فمهما تخيلت من ملأ في الدنيا، فالملأ الأعلى -المقربون عند الله تعالى- هم خير من هذا، ولهذا لما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابي أبي بن كعب: {إن الله أمرني أن أقرأ عليك، قال: أو قد سماني الله عز وجل وذكرني باسمي، قال: فبكى}. هكذا يكون المحبُ المحبةَ الحقيقية، أما أهل الهوى فيقولها في حق المحبوب. فالعملية واحدة، والتضحية واحدة، والتعلق والتعب والمشقة لا بد منها، ولذلك لا تجد أحداً حتى من أكثر الناس تطفلاً على الحب -كما يسمونه- وعلى الغزل، إلا ويكتب: الحب عذاب على سيارته، وعلى أوراقه، وعلى كتاباته، فما دام عذاباً فلا تتعذب من أجل أي شيء، بل ينبغي إذا أحببت شيئاً وتعبت من أجله، فليكن مِنْ مَنْ يستحق ذلك الحب، ولا شيء يستحق أن يُحب على الحقيقة إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن والاه عز وجل، فلهذا يقول العلماء الربانيون، ومن يعرفون الله عز وجل: إن مثل هذه الأبيات التي تقال في حق المحبوبين -لغير الله- لا يليق أن تقال لغير الله عز وجل. مثلاً: أبو فراس له أبيات عظيمة جداً في الحب، يقول: فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب فهذا كلام عظيم جداً، لكن لمن تقول هذا يا أبا فراس؟ كتب الرسالة إلى سيف الدولة، وسيف الدولة ابن عمه وكان يحبه؛ لكن لما اختلفا على الملك تقاتلا فكتب له هذه الرسالة، وكم تقاتل من إخوة وآباء وأبناء على الملك والدنيا، إذاً لا يستحق أحد أن يكون الذي بينك وبينه عامر ولو خرب ما بينك وبين العالمين، وأن تراقب وتراعي رضاه، ومحبته، ورغبته، وما عدا ذلك فكل ما فوق التراب تراب إلا الله عز وجل فقط، أما ما عداه فلا، ولو دققت النظر فإنك تجد أن هذا الكلام يقال على سبيل المبالغة التي لا تصل إلى درجة الحقيقة. لكن بالنسبة لله عز وجل يمكن أن يكون وأن يوجد على الحقيقة.

الانحراف في مفهوم قوله تعالى: (ولا يخافون لومة لائم)

الانحراف في مفهوم قوله تعالى: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) وهنا مدخل للصوفية الذين يكثرون من هذه الأشعار، ومن هذه الدعاوى، فإن الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من الصالحين حققوا هذه المحبة على الحقيقة عملاً في قلوبهم وأحوالهم، أما الصوفية فادعوها دعوى -فقط- بغض النظر عن الزندقة، والكذب، ودعوى المحبة التي ليست إيمانية، ولو نظرنا إلى من يتكلم بهذه المحبة والوجد والهيام والشوق لوجدناها كلها دعاوى، وأشعار تقرأ وتنشد ويبكى عند سماعها، أما حقيقة هذه الأشعار والأذواق والأوجاد فقد عاشها الصحابة رضوان الله عليهم حقيقة، والتابعون، وأولياء الله العباد الصالحون، وإن لم يتمثلوا بها شعراً. فهؤلاء الصوفية مثل الذي يتكلم ويتغزل بمحبوبته، والآخر مثل الذي حصل على ما يحب، وبذل، وأعطى، وأنفق، وأكرم حبيبه، وضحى من أجله بالفعل، هكذا الفرق بين هذا المتمني من بعيد، وبين الذي يحب ويدفع ويبذل ويضحي وإن لم يقل بيتاً من الشعر في هذا المحبوب. فهذه الأبيات إنما تليق بالله تعالى، على تعديل بعض العبارات أحياناً، فقوله: وقف الهوى بي حيث أنت يجب أن تقف رغبتك ومحبتك وميولك حيثما كان أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تكون متقدماً عنه ولا متأخراً، هذا الذي يليق بك أن تكون، لا تغلو فتزيد من عندك في الدين ما ليس منه ولا تقصر؛ لأن السنة كما قال الحسن: [[وسط بين الجافي عنها والغالي فيها]] فلا تتقدم ولا تتأخر عن ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قوله: أجد الملامة في هواك لذيذة نقول: يجب على الإنسان المؤمن أن يجد الملامة في محبة الله، وفي طاعة الله لذيذة. وقوله: حباً لذكرك فليلمني اللوم فليلم اللوم، وليقولوا ما شاءوا، لماذا؟ لأن غاية ما يقولونه، هو نفس ما ذكره شعراء الغزل: وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق أي أنه يقول: دعهم يسبوني وليقولوا: إنني عاشق، فهذا شيء أنا أفتخر به، وهذا المعنى أولى أن يحققه المؤمن؛ لأنه ماذا عسى أن يقول الناس فيك، إلا أنك محب لله، تجاهد في سبيل الله، وتدعو إلى الله؟ فليكن ذلك، وهل هناك شرف أفضل أو أعظم من هذا؟ هذا هو التعرض للوم الحقيقي. وتعلمون أن طائفة من الصوفية سمت نفسها الملامتية، وألف فيهم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي المعروف كتاباً مطبوعاً -وإن كان قليل التداول- سماه الملامتية، وهؤلاء الملامتية لماذا سموا بذلك؟ لأنهم يقولون: افعل أي شيء تلام عليه، واحرص واجتهد؛ لكي يلومك الناس من أجل العبادة، وكما يقول بعضهم: اذكر الله حتى يقال: إنك مجنون، اتركهم يلومون ويقولون مجنون، وقد ووصل الحال ببعضهم إلى أن يشبه المجانين، حتى إن بعضهم -نسأل الله العفو والعافية- غلا في ذلك فأصبح يرتكب بعض المحرمات وهو يعلم أنها محرمة؛ حتى يلومه الناس وحتى يسقط من أعينهم. فهذا فهم ضال في اجتناب الرياء، واجتناب الغرور، أو الاغترار وتعظيم الناس، فانظروا كيف الأدواء النفسية صعبة جداً، والواحد لا يستطيع أن يعرفها، حتى قيل: إن أولياء الله وعباد الله من الصوفية إنما هربوا وفروا عن القضاء، وعن العلم، وعن مجالس الفتيا، وعن التبحر في المسائل، وعن التقرب إلى السلاطين، حتى يجتنبوا الناس، ويجتنبوا الدنيا، ويجتنبوا الاغترار والعجب؛ فلبسوا الثياب المرقعة؛ وأخذوا يأكلون مما يعطيهم الناس من أبسط العيش، وعاشوا بعيدين عن الناس، فسلموا من هذا. ولكن تدرج الحال فأصبح الناس لا يعظمون القاضي لكونه قاضياً، أو الفقيه لكونه فقيهاً، إنما يعظمون من يسمونهم أولياء لله، فإذا وجدوا إنساناً في زاوية من زوايا المسجد يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن، وثيابه رثة عظموه وأكرموه وأجلوه، وقالوا: ادع الله لنا، وتمسحوا به، وتبركوا به، وأينما ذهب يتبعونه، فقالوا: إذا كان أن الأمر كذلك فالحل أننا نخالف مراد الناس، فنفعل أفعالاً يحتقرها الناس، ويتركونا من أجلها، حتى إن بعضهم كان يمشي في السوق فما وجد وسيلة ليصرف الناس عنه -لأنهم كانوا يمشون وراءه ويعظمونه- إلا أن سرق جوزاً من السوق وأخذ يأكلها فكرهه الناس، وقالوا: هذا ليس ولي، فتركوه وتفرقوا عنه. فيقول أصحاب الملامتية، أصحاب المنهج الضال، الذين يعالجون الضلال بالضلال والخطأ بالخطأ: يجب على الإنسان أن يتعرض لما يلام عليه، وأن يعمل أعمالاً يلام عليها، فيسلم من العجب والرياء والغرور وما إلى ذلك.

المفهوم الصحيح لقوله تعالى: (ولا يخافون لومة لائم)

المفهوم الصحيح لقوله تعالى: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- وهو من أعطاه الله من الفقه والحكمة-: 'عجباً لهؤلاء، أطع الله تجد من يلومك' أي: لا تحتاج أنك تعصي الله حتى يلومك الناس، أطع الله، واتق الله، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر؛ تجتمع الدنيا كلها عليك لوماً. فقد ليم الإمام أحمد، وتعرض للوم أيضاً شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فأوذي وعذب وسُجِن وشُهِّر به، وكُفِّر وضُلِّل وبُدِّع، كل هذا تعرض له؛ لأنه استقام. فيقول: ليس هذا حقاً، بل استقم على دين الله، ومن غير أن تطلب اللوم فسوف تلام، وعندها يجب عليك أن تصبر، أما أن تخالف شرع الله من أجل أن تلام فتحتسب هذا اللوم، أو تخالف حتى يدفع عنك الغرور والعجب، فهذا مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فإنهمُ استقاموا على دين الله ولامهم الخلق وعُذِّبوا، وأوذوا، واضطُهِدوا، حتى أقرب الناس إليهم لامهم، فهذا أبو طالب يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا محمد إن قومك فعلوا كذا، وعرضوا كذا، وقالوا كذا، فلم يأبه بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذاً: أنت استقم على الدين، وافعل الخير، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وسيأتيك اللوم، وحينئذٍ لا تأخذك في الله لومة لائم، لأن هذه الصفة، هي كما قال الله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].

حقيقة الولاية

حقيقة الولاية وبعد أن ذكر هذه الصفات، قال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] أي: هذه الصفات لا يمنُّ الله تعالى بها إلا على من يصطفيهم ويختارهم. إذاً: حري وجدير بكل مسلم أن ينافس وأن يسابق؛ ليكون منهم، والذي لا يريد أن يقدم هذه التضحيات، فلن ينال هذه الدرجة وهذا الاصطفاء وهذا الكرم وهذا الفضل، لأن هذا فضل الله يختص برحمته من يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. فعليك أن تجتهد لتكون ممن يختارهم الله ويصطفيهم، ولذلك يقول الشيخ 'وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] يعني: درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] واسع العطاء، عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه، ومن لا يستحقه فيمنعه قال: ويروى أن داود عليه السلام كان يقول: اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك إذا أحببت عبداً غفرت ذنبه وإن كان عظيماً، وقبلت عمله وإن كان يسيراً، وكان داود عليه السلام يقول في دعائه: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتاني ربي عز وجل -يعني في المنام- فقال لي: يا محمد، قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك} وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: {اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب} وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يدعو: {اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر عيني بعبادتك} فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم هَمٌ، إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه -أي: أهل هذه الدرجة همهم في الدنيا هو الحصول على مرضاة الله، ومحبة الله تعالى- قال: قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور' وقد تقدم الكلام في هذا عند الكلام على الحب والخوف والرجاء، ولكن أجمع ما يقال فيها: إن الخوف والرجاء كالجناحين، والمحبة هي الرأس، فليكن عملك كالطائر، الرأس هو الموجه وهو الأساس، والخوف والرجاء جناحان لا يميل أحدهما عن الآخر، ولو طار الطائر بجناح واحد لسقط. إذاً: فتغييب جانب الخوف قد يغير الرجاء، وقد يضعف الرجاء، وإضعاف الرجاء لا ينبغي؛ وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة الله}. قال: 'والعمل على المحبة لا يدخله الفتور' وهذا حق، فأي شيء تعمله وأنت تحبه لا يدخله الفتور، ولو كنت في آخر الليل وتريد أن تنام لأنك مرهق، فجاءك إنسان بعمل تحبه، وتشتاق إليه؛ فإنك تقوم وتنشط وتنسى النوم وتنشغل وتسهر، واليوم الثاني إذا كنت مريضاً فزارك إنسان تحبه، فإنك تقوم وتنسى المرض وهكذا، فالعمل على المحبة لا يلحقه الفتور، ولا يلحقه الممل ولا السأم، ولهذا كان العمل عملاً خالصاً لله تعالى؛ لأن العبد يعمله من محبة، وشوق، ويعمله بهذه الرغبة؛ فيكون ذلك من العمل الصالح الخالص عند الله تعالى. قال: 'ومن كلام بعضهم: إذا سئم البطَّالون من بطالتهم، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك. قال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمَّر على الأمراء -الله تعالى يجعله أميراً مؤمراً على الأمراء- زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك. والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى، يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه' لاحظ كيف أنه يحبهم ويحبونه!

ضرورة تحبيب الله عز وجل إلى الخلق

ضرورة تحبيب الله عز وجل إلى الخلق وقد أضاف الشيخ هناك عبارة عظيمة جداً، وهي: 'ويحببونه إلى خلقه' وكثير من الدعاة وطلاب العلم ينسى هذا المعنى، يقول: أنا أحب الله ويكتفي، لكن لا تبغض الله تعالى إلى الخلق، وحبب الله تعالى إلى الخلق، كيف يحببون الله إلى الخلق؟ بالرفق، واللين والنصح، وبحسن المعاملة مع الخلق، وإذا أحب الناس هذا المخلوق ورأوه يدعو إلى الله، أو أنه عالم، أو مفتي، أو أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فاعلم أن فيه صفة من صفات أولياء الله لأنه عمل الأعمال التي تقرب إلى الله، وعاملهم بالمعاملة اللينة الحسنة التي يحبونها، من غير تنازل أو تهاون أو مداهنة في الدين، فيحبب الله إليهم فأحبوا الله وأحبوا ذلك المخلوق. ولهذا نوصي إخواننا في خطب الجمعة وفي المواعظ: أن تكون من موضوعاتها أو مما تستفتح به موعظتك هو تحبيب الخلق إلى الله، وبيان نعم الله، وتذكيرهم بنعم الله عليهم، فإذا ذكرتهم بنعم الله عليهم؛ أحبوا الله، واستشعروا التقصير والتفريط، وأنه لا يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعم بتلك المعاصي والذنوب، وهذا من الحكمة في الخطابة، مع التخويف أيضاً والوعيد، لكن هذا جانب قد يُغفل عنه؛ لأن كثيراً من الوعاظ يقول: عندما تقول هذا حرام، والله تعالى توعد عليه بكذا، ومن فعله فقد تُوعِد بكذا، فإن الناس ينتهون، وهذا حق لكن لا ينسى الجانب الآخر، وهو أن تذكر الناس بالنعم، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها}. إذاً: علينا أن نعلم الناس أن الله تعالى أحسن إلينا بنعم عظيمة جداً، فإذا عرف ذلك أحب الله، ولذلك يجب أن نكون جميعاً ممن بِخُلُقِه وبتعامله يحبب الله إلى الخلق.

حقيقة عمل الدعاة

حقيقة عمل الدعاة يقول: 'يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم -يوم القيامة- يوم تبدو الفضائح' فعمل الدعاة في هذه الأمة هو النصح، كما قال تعالى حاكياً عن رسله: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] وفي الآية الأخرى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62]، وفي الآية الأخرى عن أحد الدعاة: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُون} [يس:21]. فهم لا يريدون شيئاً كما حكى ربهم عنهم: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص:86] وفي الآية الأخرى {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وفي سورة هود: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} [هود:29]. هكذا قال رسل الله الكرام: أنهم هم ومن يتبعهم لا يريدون من الخلق مالاًً، ولا دنيا، ولا منصباً، ولا جاهاً، إنما نصحاً لهم، وإشفاق، ومحبة وحرص أن يكون هؤلاء الناس على طريق الخير، الذي يؤدي بهم إلى سعادة الدارين، والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

راحة المؤمن

راحة المؤمن يقول: 'أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، وأولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه' كما قال الإمام أحمد رحمه الله: 'لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه'. فترتاح من أي شيء قبل أن تلقى الله، نعم. ما أمرك الله تعالى به فهو شاق، فقد أمرك بقول الحق، وقد يكون هذا مراً وصعباً وعظيماً على النفس، وأمرك بالجهاد، وهذا شاق عليك ومجهد لك، وأمرك بالصلاة، تقوم لصلاة الفجر، وإن كنت تؤثر النوم والفراش والدفء، فتقوم إلى الصلاة لتلبي داعي الله تعالى، وإن كان فيها مشقة عليك، وتنفق من مالك الزكاة الواجبة، أو الواجبات غير الزكاة كالصدقات، والمال أحب إليك، وتقاطع ابنك أو أخاك أو قريبك؛ لأنه أعرض عن طاعة الله، وهكذا فلا راحة في الدنيا. ثم إن أعداء الله لا يتركونك ما دمت حياً. متى ترتاح؟ لا يجد المؤمن الراحة الحقيقية إلا إذا تنزلت عليه الملائكة، كما قال تعالى: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] فدون لقاء الله لا يستطيع الإنسان أن يرتاح، حتى لو سلم من كل شيء فرضاً، فإنه لا يضمن لنفسه حسن الخاتمة، فيخاف والعياذ بالله أن يختم له بخاتمة السوء، فهو دائم الخوف من الله، والخوف مما أمامه. فإذا بشر بهذه البشرى، ولقي الله عليها اطمئن، ولهذا كانوا كما حكى الله عنهم: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] كانوا مشفقين، فأصبحوا بعد ذلك آمنين مطمئنين، بدَّل الله تعالى عنهم هذا بهذا والنتيجة هي: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:35]: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34] إذاً: كانوا في الدنيا حزينين مشفقين، وكانوا وجلين وخائفين، فجاءت الجنة لا حزن فيها ولا خوف ولا وجل، وإنما الطمأنينة، يلقون فيها تحية وسلاماً، ويبشرون بنعم الله تعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الله، وإلى لقاء أو مجالسة أحباب الله، الذين كانوا يحبونهم في الدنيا ولم يروهم، والآن يرونهم. لأنك أنت في الدنيا تحب كثيرين، ولا تستطيع أن تراهم لأسباب كثيرة جداً، أما من مات ممن تحب فهذا أمر قد سبق. فهل نستطيع أن نرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة؟ لا نستطيع ذلك في الدنيا، لكنك تحب هذا، وأيضاًً يأتي أقوام من بعدك تحبهم لكنك ما رأيتهم، ولا تستطيع أن تعيش حتى تراهم، ففي الدنيا لا تستطيع أن تحصل فيها على كل شيء تريده، فهي ضيقة دائماً. لكن في الآخرة من نعيمها: أن الله يجمع لك بين هؤلاء وبين هؤلاء، فتجد وتلتقي بمن تحب، وأعظم محبوب هو الله عز وجل، فالمؤمنون يرون ربهم -عز وجل- في الجنة، وهو أعظم نعيم على الإطلاق. وترى من تحب من الماضين وإن كانوا قبلك بقرون، فلو أحببت أن ترى آدم عليه السلام، أو نوحاً عليه السلام، أو المؤمنين ممن نجوا مع نوح في السفينة، أو الصحابة، أو الأئمة كالإمام أحمد -مثلاً- وأئمة الإسلام وكل من تحب أن تراه وكذلك الذين لم يأتون بعد، فإنك تراهم هناك. فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {وددت لو أنا رأينا إخواننا -كان يتمناها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك، قال: لا، أنتم أصحابي، لكن إخواني قوم لم يأتوا} هم الذين نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، هم الذين وجدوا الكتاب والسنة فاتبعوهما ولم يروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذا يحصل في الجنة بإذن الله تعالى، والشاهد: أن المؤمن لا يجد راحة دون لقاء ربه. قال: 'قال فتح الموصلي: المحب لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين' وبعض هذه الأقوال والآثار المنهج فيها معروف، فهي تحكى ولا يعني أن تلتزم بالدقة. 'وقال محمد بن النظر الحارثي: ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله، وما يكاد يسأم من ذلك' ولا شك أن من أحب الله تعالى حق المحبة، فإنه لا يمل القرب إلى الله ولا يسأم، ولا يكاد يسأم، لكن النفس البشرية بطبيعتها أنها تمل وتسأم، ولهذا ينبغي للمؤمن أن ينوع في العبادة، فهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ألَّا يتكلف في العبادة ما لا يطيق: {فإن الله لا يمل حتى تملوا} فإذا سئمت أو مللت، أو كدت تسأم وتمل من قراءة القرآن أو صلاة أو أي عمل فكف عنه، فإن الله لا يمل حتى تملوا. قال: 'وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دأباً وشوقاً'. ولذلك قال الله في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه} فهكذا المحب لله لا يزال يتقرب إلى الله بكل شيء، قال: 'وأنشد بعضهم: وكن لربك ذا حب لتخدمه إن المحبين للأحباب خدام ' وهذا أيضاً مما ينبه عليه وهو: إطلاق الخدمة على العبادة، وقد تجدون أحياناً في كلام بعض العلماء ذلك، وأكثر من يستخدم ذلك الصوفية، والصحيح أن العبادة أجل من الخدمة. والأفضل في حق الله تعالىألا نستخدم إلا الألفاظ الشرعية، فنقول: عبادته، ولا نقول: خدمته. قال: وأنشد آخر: ما للمحب سوى إرادة حبه إن المحب بكل برٍّ يضرع وهذا أيضاً يؤكد ذلك، فهذا كله في محبة الله تعالى.

كيف تنال ولاية الله؟

كيف تنال ولاية الله؟ ثم قال الشيخ: 'ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من النوافل: كثرة تلاوة كتابه، وسماعه بتدبر وتفكر وتفهم' إذاً: هذا أمر عظيم جداً؛ لأن الكلام عن كيف تنال ولاية الله، وكيف تنال محبته عز وجل، وكيف نتقرب إلى الله. فالتقرب إلى الله بالصلاة، وهذا قد سبق في قوله رحمه الله: 'وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة'. فأعظم الفرائض البدنية للتقرب إلى الله هي الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن، وهذا من فقه الإمام ابن رجب -رحمه الله- أنه جعل أعظم الفرائض الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن. يقول: 'قال خباب بن الأرت لرجل: [[تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه]]. وفي الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً قال: {ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه} يعني: القرآن، لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم' وإذا رجعنا للقاعدة -قاعدة المحبة الدنيوية- فكل من تحب، تحب كلامه، وتحب أن تقرأ له، وتحب رسائله، وتحب أن يخاطبك، أو تقرأ كلامه مكتوباً، وهذه حقيقة نفسية. فالواجب أن يكون أحب شيء إلى العبد هو القرآن، يشغل وقته به، بل يتغنى، ومعنى يتغنى: يغتني به عما سواه، أو يتغنى به: كما أن أهل الدنيا تعجبهم الأشعار فيتغنون بها، ويترنمون بها، ويتذكرونها فيكون هو كذلك، بحيث يكون على لسانه، يقرأه، ويتلوه، ويتلذذ به. قوله: 'لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم، قال عثمان رضي الله تعالى عنه [[لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم]] ' وهذا معيار عجيب اختبر به قلبك، وقلوب الناس. ويوجد كثير من الناس لا يستطيع أن يستمع إلى صفحة مثلاً أو عشر آيات، ولو قلت له: اجلس نقرأ عشر آيات أو استمع لهذا الشريط، فإنه لا يطيق أبداً، إما أن يقفله، وإما أن يقول لك: أنا مشغول -والعياذ بالله- لأن قلبه مطموس كما قال الله عنه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. ومعنى: (ران) أي: مطبوع مختوم عليه، وأُغلق بحيث لا ينفذ إليه شيء من الحق فنعوذ بالله. ومن أعظم مايجعل العبد كذلك، أن يدمن على سماع الأغاني، والأشعار الخالية عن ذكر الله، التي كما جاء في الحديث: {لأن يمتلأ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خيراً له من أن يمتلأ شعراً} فلو أن مدمناً على سماع الأغاني، أو هذه الأشعار الخالية من ذكر الله، قلت له استمع هذه الآيات؛ لا يستطيع ذلك، وإن كانت ذنوبه أقل فإنه يتحمل بقدر أقل وهكذا. فعباد الله الصالحون يقول لهم: [[لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم]] لماذا الإنسان يقرأ ويقرأ، ثم يتعب ويمل أو يضعف؟ لشيءٍ في قلبه، فهذا هو المعيار، فانظر لنفسك فإذا وجدتها لا تطيق القرآن أو لا تستمع إليه، فاعلم أن داءً ومرضاً خبيثاً يداخلك فاجتنبه، وسارع إلى العلاج. وبادر إليه. وبهذه المناسبة أذكر أن أحد الشباب أرسل إلي رسالة يشكو ويقول فيها: إنني كنت أحب طلبة العلم، وأطلب العلم، وأحب المساجد، وقراءة القرآن، والآن لا أستطيع، حتى أصبحت أتخلف عن الجماعة، وأصبحت كذا؟ نسأل الله أن يرده إلى الحق والصواب. فأقول: علينا جميعاً أن نبادر إلى العلاج قبل أن يستفحل الداء، انظر كم من مريض يذهب إلى الطبيب فإذا به بعد فترة قد مات، لماذا؟ لأن المرض قد انتشر واستشرى في جسده. ومرض الأرواح والقلوب ليس مثل المرض البدني، ومن فضل الله أن جعل الإنسان حتى لو كان منغمساً منهمكاً إلى أقصى شيء، يمكن أن ينتشل نفسه بتوبة صادقة إلى الله، فالمهم أن تتدارك نفسك قبل أن تحاول أن تتوب فلا يقبل منك عياذاً بالله. قال: 'وقال ابن مسعود: [[من أحب القرآن أحب الله ورسوله]] '. قال: 'وقال بعض العارفين لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، قال: واغوثاه با لله! مريد لا يحفظ القرآن، فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يناجي ربه تعالى؟! '. وهذا وإن كان من كلام الصوفية، ولكن هذا القول صحيح، فالذي يريد أن يسلك طريق الله، وأن يتعلم ويتأدب وهو لا يحفظ القرآن فبم يتنعم! وبم يترنم! وبم يناجي الله!

انحرافات في الولاية

انحرافات في الولاية من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الصوفية وغيرهم ممن لا يدري: أنهم وضعوا أدعية، وأوراداً وأذكاراً في كتيبات، أو في أوراق، ونشروها بين الناس، ويقال: من قرأها فإن له كذا وكذا، مما لا أصل له في الدين، فيشتغل الناس بها عن القرآن، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الكفر والعياذ بالله. فـ التيجانية يقولون مثلاً: من قرأ صلاة الفاتح خيراً له من أن يقرأ القرآن ستة آلاف مرة، وهذا كفر لا شك فيه، وكلما وجدوا شيئاً غير القرآن يجعلون قراءتها خير منه؟ مادام هو مذنب قولوا فرضاً: من قرأها خير له من أن يتصدق بألف دينار -مثلاً- لكن تقول: خير من أن يقرأ القرآن، هل يعقل هذا؟!!! إنك مهما ابتدعت أو اخترعت أو اختلقت من أذكار، فلا يمكن أن تكون أفضل من القرآن، ولا يمكن أن تأتي بشيء أفضل من القرآن أبداً. وأقول: كثير منهم لا يصل إلى هذه الدرجة من الكفر -والعياذ بالله- لكن واقع الحال عندهم أنهم يأتون بأدعية وأوراداً يقرءونها في الصباح والمساء، ومن هذه الأحراز الجوشن الكبير، والجوشن الصغير، والحصن الحصين، والحصون المنيعة، والعهود السبعة، وأشياء كثيرة منها ما لا أصل له، ومنها ما له أصل، لكن ليس بهذه الكيفية وبهذه الهيئة، ومنها ما يكون جملة من الآيات اختارها صاحب الحرز، لكن لم يرد الشرع بتحديد هذه الآيات، فيشتغل بهذه الآيات عن بقية القرآن أو عما فضله الله، نعم هو من القرآن، لكن هل يستطيع أحد أن يفضل شيئاً من القرآن على شيء من غير أن يبينه الله. فمثلاً: الله عز وجل هو الذي أخبرنا أن آية الكرسي أفضل الآيات، وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وأن الفاتحة أفضل السور، فنحن حتى في هذه نتبع ولا نبتدع، ولكن نقرأ القرآن، ونتلذذ به كله. وإن من أكثر ما يحول بين الناس وبين الخير إما صاحب فجور وشهوة، فيحول بين الناس وبين القرآن، بالغناء، والمزامير، والموسيقى، والأشعار، والقصص وما لا خير فيه، كما تشاهدون الإذاعات في آخر الليل، إذا قرب الثلث الأخير، تجد فيها الغزل والأشعار والهوى والحب سبحان الله العظيم؛ لأن قلوب الناس، ترق في تلك الساعات، فهم جاءوا إليها يرققوها بشيء رقيق، لكنه شهوة وفتنة، هذا هو الجانب الأول. أما الجانب الثاني: الذي يأتي ليسد الحاجة لكن بغير الحق، كالذي يطعم الجائع نشارة الخشب، أو يطعمه ما لا يغني ولا يشبع. فهؤلاء الذين وجدوا الناس محتاجين إلى الذكر ويريدون المناجاة، أعطوهم هذه الأوراد البدعية، والأذكار غير المشروعة، وقالوا لهم: اقرءوها في الصباح، واقرءوها في المساء، واقرءوها إذا قمتم في الليل، واقرءوها قبل أن تناموا إلخ، فأطعموهم مالا يغذي. والحق: أن القلوب إنما يكون غذاؤها وترنمها، وحياتها، وروحها، وريحانها، وشفاؤها بقراءة كلام الله عز وجل. حتى وإن قل التعبد بشيء من الحق ومن الخير فلو لم يقم العبد إلا بعشر آيات، ولو لم يقرأ إلا قل هو الله أحد، ولو لم يقرأ إلا آية الكرسي فهذا خير، لكن كلما زاد فهو خير له، ولهذا جعل الشيخ رأس النوافل قراءة القرآن. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلني وإياكم ممن يتلونه حق تلاوته ويتلذذون بذكر الله تعالى به، وبمناجاته بقراءته إنه سميع مجيب.

حقيقة لا إله إلا الله

حقيقة لا إله إلا الله اشتملت هذه المحاضرة على نواح تتعلق بالتوحيد، تحدث الشيخ حفظه الله خلالها عن التوبة المطلوبة من العبد، وفتح الله باب التوبة أمام العبد، وبيَّن أن العبد فقير إلى ربه محتاج إليه، ثم تحدث عن حقيقة التوحيد، وضرب مثالاً لذلك بصدق إيمان سحرة فرعون، وما كان عليه الصحابة وسلف الأمة رضوان الله عليهم من تحقيق التوحيد وإخلاصه لله تعالى.

إفتقار العبد إلى التوبة

إفتقار العبد إلى التوبة

افتقار العبد إلى ربه

افتقار العبد إلى ربه أيها الإخوة الكرام إن الله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]. والافتقار إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شأن كل مخلوق في هذه الحياة، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاء} [فاطر:15] فخاطب بها الناس جميعاً، فالملوك فقراء إلى الله تعالى، وأصحاب الأموال الطائلة فقراء إلى الله تعالى، والشباب والكبار، والعبيد والصغار فقراء إلى الله، وكل من على هذه الأرض فهو فقير بالذات إلى الله تعالى، والله هو المتفرد بالغنى المطلق، وهو الذي يقول: {يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم}. ومع حاجتنا جميعاً إلى أن يطعمنا ربنا، ويكسونا، وأن يهدينا الصراط المستقيم، ثم بعد ذلك بيَّن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غناه المطلق عنا جميعاً فقال: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً -ثم بين سبحانه كمال غناه في الرفق وفي الخير والعطاء فقال:- يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المِخْيَطْ إذا أدخل البحر}. فانظروا إلى كمال غناه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غنىً مطلقاً من جميع الوجوه، وانظروا إلى شدة افتقارنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو فقر من جميع الوجوه، فنحن مفتقرون إليه في غذائنا، وفي لباسنا، وفي هدايتنا، وفي كل شيء، فما هي حياتك يا بن آدم؟ ما هي أنفاس تدخل وتخرج! إن توقفت لم يعد هذا النفس، وقالوا: رحم الله فلاناً، أصابته سكتة قلبية فمات، فإما أن يصعد الهواء فلا يدخل، وإما أن يدخل فلا يخرج، فهذا هو حال الذي يسير وكأنه يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولاً، فهذه هي حالنا وهذا هو فقرنا وحاجتنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا هو غناه المطلق عنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فتح أبواب التوبة

فتح أبواب التوبة ومع هذا الغنى المطلق، يعاملنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل}، وقال في الحديث السابق: {يا عبادي! إنكم تذنبون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} فسبحان الله! مع غناه عنا يقبل منا التوبة من الذنوب ويغفرها لنا، ومع ذلك {فإن الله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد إذا تاب من رجل فقد دابته في الخلاء، حتى يأس منها، وقال: أنام تحت شجرة حتى يدركني الموت فاستيقظ فإذا دابته أمامه وعليها متاعه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح} أي: أنه فتح عينه وإذا بدابته وعليها غذاؤه وطعامه واقفة أمامه، فسبحان الله ما أغناه وما أحلمه وما أكرمه! انظروا إليه كيف يعامل العصاة -وكلنا عصاة إلا من عصمه الله تبارك وتعالى- ثم انظروا كيف يغذو أمماً ويجود عليهم، وكيف يفتح لهم الأبواب ليتوبوا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم الذين عذبوا أولياءه وأحبابه، كما في قصة أصحاب الأخدود، تلك القصة التي وردت في سورة البروج، التي تحكي أن أناساً يحرقون عباد الله بالنار، ويرمونهم فيها، ويخدون الأخاديد، ويحفرون الحفر العميقة في الأرض ويقذفون عباد الله تعالى فيها لأنهم يقولون، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]؛ لأنهم قالوا: آمنا بالله وكفرنا بك أيها الملك الذي تقول: أنا إله من دون الله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] فيفتح باب التوبة لمن يحرق أولياءه الموحدين بالنار وهم أحياء، فهذه معاملته للعصاة، كما يقول جل شأنه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45 - 46]. يفتح عليهم أبواب كل شيء ليستدرجهم بها، ولو تابوا لأخذوا هذه النعم، وأخذوا نعيم الآخرة، لو تابوا حتى عند وقوع العذاب أو قرب وقوع العذاب لمتعهم في النعم ولكنهم: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] فهذه هي القسوة التي نشكوها إلى الله تبارك وتعالى، ولا تزال تصاحب الإنسان حتى وقت حلول العذاب، ولكن لو آمن قبيل أن يأتي العذاب لكان الحال كما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يونس لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] فقوم يونس عليه السلام آمنوا في آخر اللحظات التي انتهت فيها النذارة، وما بقي فيها إلا تحقق الوعيد، فآمنوا فأنجاهم الله من العذاب لأنهم آمنوا، فهذا على مستوى الأمم. وأما على مستوى الأفراد فيفتح الله باب التوبة والرحمة: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} فما دامت الروح لم تبلغ الحلقوم فباب التوبة مفتوح، فتب إلى الله، تب من الربا، وتب من الزنا، وتب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتب من الحسد، ومن الغيبة، من النميمة، وقطيعة الأرحام، ومن أذى الجار، ومن كل الذنوب التي أنت أعلم بها، فتب إلى الله تعالى فالباب مفتوح. كما أنه لا يقف الأمر عند هذا الحد، ولا يقف الأمر عند حد أن يتوب هذا العبد المذنب المخطئ المحتاج الفقير إلى الله فيعفو الله ويتجاوز عنه، بل هناك درجة أعظم من هذا {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] فسبحان الله! سجلات الإنسان حين يتوب إلى الله عز وجل -وهي سجلات ودواوين من المعاصي- يقلبها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دواوين من الحسنات، فهذا غاية الكرم ولا يفعل هذا إلا الله؛ لأنه هو صاحب الغنى المطلق وهو الكريم واسع الكرم. فإذا تبت وصدقت مع الله وأخلصت في الإنابة إلى الله، فلا تنظر إلى الماضي، ولا تصدق الشيطان وأعوانه، الذين يقولون لك: أَبَعد أن بلغت السبعين من عمرك وفعلت كذا وكذا، تريد أن تتوب، لا تنفع توبتك، كأمثال قطاع الطريق، فهم أعداؤك وأعداء الله، فتب إلى الله في أي لحظة ما دمت لم تغرغر، وما دامت الشمس لم تطلع من مغربها، لأنك حين تتوب إلى الله تجد أن الدواوين التي يخوفونك بها تنقلب إلى دواوين من حسنات بفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

أساس التوبة

أساس التوبة نعيم الله لا ينفذ وغناه مطلق، ولكن هل هناك من أساس للتوبة؟ أقول: نعم لابد من أساس لهذه التوبة، ولا بد من أساس للاستقامة، ولقبول العمل، وأعظم شيء وأساس كل شيء هو: عبادة الله وحده لا شريك له وأن يوحد الله. (أي: أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله) ونحن صادقين في هذه الشهادة، فنحقق هذه الشهادة، فهذا الكرم الذي رأيتموه، يكون لأهل التوحيد، ولأهل النجاة، ولمن حقق الشهادة. أما من أشرك بالله -عافانا الله وإياكم- فلا ينفعهم من أعمالهم شيئاً، وإن اجتهد في الصلاة، والصيام، والإنفاق، والبر والطاعة، ما دام يشرك بالله تعالى، ويدعو ويسأل غير الله، ويستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويطيع أمر غير الله ويعصي أمر الله، ويعلم أن هذا تشريع أو قانون مخالف لما أمر الله، فكل أنواع الشرك، هي الخطر العظيم، وهي التي تجعل كرم الجبار ونعمته وسعة جوده تنقلب غضباً ومقتاً وطرداً ولعناً عافانا الله وإياكم. فمع وجود الشرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} [المائدة:72] فإذا سمعنا أحداً يتكلم في أنواع الشرك فليكن الواحد منا كله أذن صاغية، وإذا سمعنا أحداً يتحدث عن التوحيد فلنلقي إليه بأسماعنا وقلوبنا لنعرف معنى التوحيد ونحقق ذلك التوحيد لأن المسألة ليست هينة. فإذا كان كرم الله تعالى لا يكون إلا لهؤلاء، وكتب أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وحرَّم الجنة على المشركين، ونحن لا نريد إلا الجنة، وكل ساعٍ يسعى من عباد الله في هذه الحياة إنما يريد وجه الله ويريد الجنة، ونعوذ بالله أن تكون نهاية هذا الكدح هي النار نسأل الله أن يعافينا من سوء المصير.

التوحيد أساس العمل

التوحيد أساس العمل التوحيد هو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، للكافر وللمؤمن، ولكن قد يقول القائل: علمنا كيف يكون التوحيد سبيل نجاة للمؤمن، لكن كيف يكون للكافر هذه الخاصية في التوحيد؟ فأقول: إن المشركين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، حتى إذا جاءتهم ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان -فعندها- دعوا الله مخلصين له الدين، فينجيهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بالتوحيد الذي هو مناط النجاة، فهو المفزع الذي يفزع إليه حتى الكافر: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]. فالمضطر أيّاً كان، مسلماً كان أو يهودياً أو نصرانياً، فهو يدعو الله إذا انقطعت به كل الحيل، فيستجيب له الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] أو {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] لماذا؟ لأنهم نسوا الله لما نجوا إلى البر. فالتوحيد ثمرته وفائدته تتحقق حتى في الكافر إذا أخلص في هذه الحياة الدنيا، وإن كان لا يواظب عليها، فبالله كيف نتوقع أن يكون للمؤمن؟ وكيف ينبغي لنا؟! نحن الذين نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذه الكلمة العظيمة، التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلها آخر كلمات حياتنا وأن يميتنا عليها وعلى تحقيق معناها، ويحيينا عليها إنه سميع مجيب.

حقيقة الشهادة

حقيقة الشهادة إن شهادة أن لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة أو مجرد عبارات، لكن حقائق هذه الكلمة التي بعث الله تبارك وتعالى بها أنبياءه جميعاً {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]. فقد بعث الله الأنبياء جميعاً بشهادة أن لا إله إلا الله، ومعنى لا إله إلا الله: أن يكفر بالطاغوت ويعبد الله وحده، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: شهادة أن لا إله إلا الله فلا تقبل الصلاة من غير لا إله إلا الله، كما قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فلا يقبل الله العمل أبداً، بل هو كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف؛ لأنه ليس مبنياً على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى توحيد الله تبارك وتعالى. والتوحيد الذي هذا ثمرته ليس أي كلام، فالإيمان والتوحيد يتفاوت وله حقائق، فالإسلام إن كان وراثياً عن آبائنا وأجدادنا فهذا شيء حسن، ولكن هذا لا يكفي لأنه يحتاج إلى الإيمان الذي إذا جاءته شدة، وإذا جاءت الشهوة من المال الحرام ومن النساء الحرام وأعرضنا عنها ابتغاء وجه الله فهناك نكون موحدين، وإذ جاء الداعي ليدعوك بتأخير الصلاة، أو إلى التهاون بأمر الله وتركته استجابة لأمر الله فهنا اختبر توحيدك، وإن سمعت آيات الله، ووجدت خشوعاً ورّقةً في قلبك فاختبر توحيدك هنا، فإن وجدتها لا تصبر على ما حرم الله من اللهو والغناء وتتلذذ به وتعرض عن سماع القرآن، فاعلم أن توحيدك ناقص أو أنه مفقود.

سحرة فرعون

سحرة فرعون لابد أن نعلم أن السحرة الذين وحدوا الله وآمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كيف كان توحيدهم؟ وكيف كان إيمانهم؟ لما ألقوا حبالهم وعصيهم فألقى موسى عليه السلام عصاه {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:117 - 118]. فما كان منهم لما أن رأوا الآيات البينات الباهرات التي لا يمكن إلا أن يذعن لها القلب ويستسلم لها إلا أن {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسى} [طه:70]، آمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فأجابهم الطاغوت بالتهديد -فرعون-: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71]. فأخذ يتوعدهم ويهددهم كما ورد في آيات كثيرة من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فماذا قال السحرة؟ وانظروا إلى حقيقة التوحيد من أول لحظة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73]. فهذا هو التوحيد، وهذه هي حقيقته، فهناك القتل وهناك الصلب، من جبار طاغوت يملك ذلك، ويتوعد عليه، وأول الأمر كانوا يقولون له: {أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42] إن انتصرتم على موسى فلكم الأجر ولكم الجوائز وإنكم من المقربين، ثم لحظات وإذا به يقول: أقتل وأفعل وأفعل، وهم يقولون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] فهو لن يخوفنا أبداً؛ فمن عرف حقيقة الإيمان وحقيقة التوحيد، فلا يخاف إلا الله عز وجل ولا يبالي في دينه {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. فكانت نهاية فرعون الغرق، ومنذ أن وضع رجله في البحر انتهى فرعون {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] فإنك إن ملكت الجسد لتقطعه فممكن، لكن هل تملك القلب؟ وهل تملك الإيمان؟ وهل تملك أن تنتزع التوحيد؟ لا، فهذه قلوبنا قد وجدت الله، وآمنت، وتعلقت بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي سوف يطهرها ويغفر لها الخطأ الذي كنت تكرهها عليه من السحر، ومما حرم الله تبارك وتعالى. فخوفهم من عذاب الآخرة، جعلهم ينسون عذاب فرعون وصلبه وأمره كله {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].

الترقي في درجات التوحيد

الترقي في درجات التوحيد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من الذين ضربوا المثل الأعلى في تحقيق التوحيد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشاً ثلاث عشرة سنة إلا ليحقق شهادة أن لا إله إلا الله، فهذا أمر ليس هيناً، فما نزلت الصلاة إلا لتكمل ولتزيد شعبة من شعب لا إله إلا الله. وأما في المدينة فنزلت الزكاة والصيام وهما شعبتان من شعب لا إله إلا الله، ومن شعب الإيمان أيضاً لتكون كل حركات، وسكناته المرء لله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فهكذا يجب أن يكون المؤمن، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وستون شعبة فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان}. فكل أعمال البر وكل أعمال الخير كما هو في مذهب أهل السنة والجماعة - شعب من شعب الإيمان، فإذا حققت ما أمر الله في توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيما بينك وبينه، وفيما بينك وبين الناس، وفيما بينك وبين نفسك في كل أمر، فأنت في ذلك تحقق التوحيد وترتقي في درجات الإيمان والتوحيد. وهكذا أوصانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {اتق الله حيثما كنت} فهذا هو جانب المعاملة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فضع هذا في حسبانك، واتق الله حيثما كنت، وأينما كنت في سرك وعلنك في بيتك وفي المسجد أو في أي مكان {اتق الله حيثما، كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها}. فكلما راودتك نفسك وعملت المعصية -وهي أمارة بالسوء وهي لا بد فاعلة- فأتبع السيئة حسنة تمحو لك تلك السيئة، وأما مع الناس فعاملهم بخلق حسن، فإذا أصلحت سريرتك، وإذا حققت هذا فأنت ترتقي في درجات الإيمان والتوحيد، حتى تصبح من المحسنين الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يبين درجة الإحسان حين قال له جبريل عليه السلام: {فاخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}. أي: أن تعبد الله كأنك تراه، فحين تصلي ولا أحد من الناس يتهمك في شيء لأنك تصلي ولكن أن شيئاً من هذه الصلاة -ولو قل- لغير الله فتحاسب نفسك، لماذا كان شيء من هذه الصلاة في غير ما أمر الله ولم يكن لله؟ وأيضاً حين تنفق المال وأخرجت منه درهماً أو ديناراً لغير الله، فتذكر أن هذا لغير الله، وحين تطلب العلم تعلماً أو تعليماً فعليك أن تنظر وأن تتفكر في نفسك هل هذا الشيء لله أو لغير الله؟ نسأل الله أن يجعل أعمالنا جميعاً خالصةً لوجهه الكريم فهذا هو تحقيق التوحيد.

توحيد الرعيل الأول

توحيد الرعيل الأول التوحيد من شدة صفائه ونقائه أن أدنى شيء يؤثر فيه ويخدشه، لأنه أنقى وأعظم الأشياء، والناس كثيراً ما يرتكبون المعاصي اغتراراً منهم بأنهم محققون للإيمان والتوحيد، أو أن هذه المعاصي لا يبرح منها أحد، أو لأنها قد وقعت فيمن قبلنا، وهذا من غرور الشيطان ومن تزيينه. فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لو وقع في زمانهم شيء من هذه المعاصي مع أن إيمانهم وتوحيدهم كان كالبحر العظيم، الذي مهما تلقي فيه بنجاسة من بول أو غائط فلا يؤثر فيه؛ لأنه بحر خضم كبير، ولديهم من قوة الإيمان ومن أعمال الخير والبر الشيء الكثير، فوقع في زمانهم أن فلاناً زنا وأن فلانة زنت، وأن فلاناً شرب الخمر، ولكن أين نحن منهم؟ إنما نحن كبركة صغيرة إن وقع فيها شيء من النجاسة تنجست. فهذه الأمور تؤثر في القلب بقدر ما في القلب من إيمان من حقائق الإيمان والتوحيد، ولذلك الزاني الذي يزني في هذا الزمان هل فيه -وهو أعلم- من الإيمان مثل المرأة التي زنت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ تأتي إليه فيردها وهي حامل، ثم يردها ثم تأتي إليه بالولد وبيده كسرة خبز لتُبِرهن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أنه يأكل وأنه مستغنٍ عنها، لأنها تريد أن يطهرها ثم يرجمها، ويقول: {لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة أو أهل الأرض لوسعتهم}. فهذه التوبة وهذا الصدق مع الله سبحانه تعالى إذا وقع معه الزنى فعلاً، فنقول: إنما هو مثل ما لو ألقيت النجاسة في البحر فلا يضره، فهذا إيمان قوي في هذا العمق، ولم يكن حالهم كحال الذين يزنون ويعصون، ويقولون: عندنا توحيد، فأين التوحيد وأين الإيمان مع الانهماك في المعاصي، ومع مجاهرة الله تعالى؟!

الحياء من الإيمان

الحياء من الإيمان ولقد أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المؤمن بالحياء كما في الحديث: {والحياء شعبة من الإيمان} فأين نحن من الإيمان بهذه الشعبة -شعبة الحياء- التي نص عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فهل عندنا حياء من الله؟! الإنسان منا يأكل والمزمار يُغني أين هذا من حياة السلف الصالح؟ هذا نافع يُحدِّث عن ابن عمر أنه كان ماشياً فسمع مزماراً فوضع ابن عمر يديه على أذنيه، فقال له نافع: لم فعلت هذا؟ قال له ابن عمر: {مرَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا براع وبيده قصبة فوضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده هكذا} فوضع نافع يده -وهو لا يدري بالحكم وكان صغيراً. فهذا جيل يبلغ الحياء من الله بالرجل منهم أنه لا يسمع، ويعتزل المعازف حتى المرء الصغير منهم، ونحن نسمع المعازف والأغاني ونحن نأكل نعم الله، وننام في صحة وعافية، فماذا يقول الإنسان في هذه الحالة؟! أيقرأ الأذكار الواردة؟! أيحمد الله، وينام على السرير؟! وفي السجون وغيرها، فهل يقول: الحمد لله؟ وهل يدعو بالأدعية الواردة أو بدلاً من ذلك يسمع الغناء؟ فأين إيمانه وأين حياؤه؟ ينظر الإنسان إلى امرأة لا تحل له في تلفاز أو مجلة أو في الشارع وهي تعمل وتقوم بما تقوم به من حركات، وتقول: هذا مؤمن، فأين الحياء من الله؟ هذا التعري وهذا التبرج يتنافى مع الحياء تمام المنافاة، وهو الذي حرص عليه إبليس منذ أن أخرج أبوينا من الجنة ووسوس إليهما {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20] فهذه هي الخطة الشيطانية القديمة، فإذا نزع الحياء انتهى كل شيء {إن من مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت}. وإذا لم يوقفنا إيماننا في هذه الشعبة، فأين حياؤنا من الله عز وجل، إذا وجدنا صاحب منكر ولم ننكر عليه، ونمر بأصحاب المنكرات كأن يكون فاتحاً للمتجر والناس يصلون ولا نقول له: صلِّ، فأين حياؤنا من الله؟ وليكن تغييره بالأسلوب الحسن، فالمهم أن تدخل الإيمان في قلبه، ولا نريد تخويفاً ولا ترهيباً، وإنما نريد أن ندخل الإيمان في قلبه، فهل فعلنا ذلك؟ بل ذهب بنا ضعف الحياء إلى أن نؤيد صاحب المنكر على منكره. فهذا غاية الجرأة على الله وغاية التجاوز لحدود الله أن نتعاون على الإثم والعدوان ولا نتعاون على البر والتقوى، فلو اختبرنا إيماننا، وتوحيدنا عند شهوة أو فتنة لسقط فيه إلا من رحم الله. فهذا كتاب الله بين أيدينا، هل فيه آية واحدة علَّق الله فيها دخول الجنة على الإسلام، أو جعل الإسلام شرطاً في دخول الجنة، أو وعد المسلمين أنهم من أهل الجنة؟ لا تجدونه يقول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء:227] إيمان وليس مجرد الإسلام، والإيمان درجة أعلى والحياء شعبة منه، فهل نحن فعلاً مؤمنون؟ هل نطمع بجنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ وهل طَمَعُنَا ورجاؤنا فيها وهم وخيال، أم هو على شيء؟ فيجب أن نراجع أنفسنا، ويجب أن نحاسبها على كل صغيرة وكبيرة، ونحن قادمون على موسم عظيم وهو موسم الحج، وهذه العبادة كغيرها من العبادات إنما بنيت وركّبت وأسست على التوحيد، وهذا البيت أول من جدده إبراهيم عليه السلام، فإبراهيم إمام الموحدين، فقام هذا البيت على التوحيد. وكان هذا البيت قبلة المسلمين جميعاً للتوحد، مبدأ واحد، وغاية واحدة، ومقصد واحد إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] فأول شيء لا تشرك بي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] ثم ابنِ البيت، فبني البيت على أساس التوحيد الخالص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فيجب علينا أن نكون في أعمالنا جميعاً منطلقين من منطلق تحقيق التوحيد، وتحقيق متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يتحقق هذا إلا بهذا، فنصلي كما صلّى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحج كما حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونذكر الله كما ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وندعو إلى الله كما دعا إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي كل أمر من الأمور نتمثل نهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا تحقيق التوحيد والشطر الأول أشهد أن لا إله إلا الله. والشطر الثاني من تحقيق التوحيد هو: أشهد أن محمداً رسول الله، فإذا اتخذنا غيره قدوة، فصلينا على غير طريقته ومنهجه، وذكرنا الله على غير طريقته صلى الله عليه وسلم ومنهجه، فما حققنا شهادة أن محمداً رسول الله، وكأننا نشهد أن الشيخ فلان أو علان هو الذي يتبع، وهو الذي يُقتدى به، وهو الأسوة، وإن كنا نقول باللسان: أشهد أن محمداً رسول الله. فتحقيق التوحيد هو أعظم مطلب، وهو الذي به تنال رحمة الله، وتنال النجاة والفوز في الدنيا والآخرة، ولا يكون هذا الفوز إلا بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وأن يُعبد الله بما شرع، وبما عمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو القدوة، والأسوة، الذي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحيينا ويميتنا على سنته والاهتداء بهديه والاقتداء به، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

هل الصوفية من الإسلام؟

هل الصوفية من الإسلام؟ Q هل الصوفية من الإسلام؟ نرجو التحدث عن طرق الصوفية؟ A أنتم جميعاً -والحمد لله- تقرءون كتاب الله، وتقرءون سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل وجدتم في آية منه أو في أي حديث أن الصوفية من الإسلام؟ لا يوجد، ولكن هل في المسلمين صوفية؟ فنقول: نعم، لكن لا يوجد في الإسلام صوفية، أو تصوف؟! إذاً: الانحراف وقع من المسلمين، فهم الذين أدخلوا التصوف، وأما القرآن فهو بين أيدينا، ولا يوجد فيه تصوف، ولا يمكن للكتاب الذي أنزله الله تبارك وتعالى هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً أن يأتي بهذا المذهب الوثني القديم، الذي يسمونه تصوف، فالناس إنما يقصدون الله، فكثيراً ممن يعبدون الله كرهبان النصارى يظنون أنها لله، وأنها العبادة المقبولة، وكذلك رهبان البوذيين والهندوس يظنون أنها تقربهم إلى الله، وكل واحد يقول هذا، لكن هل هي بالتمني؟ يقول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فعمله مردود. وقد يقول: قصدي وجه الله، وقصدي الخير، فحين نصلي الظهر خمس ركعات فما قصدنا إلا الخير! فلا يقبله الله منهم لأنه ليس عليه أمر الله. وقد يقول: إن الصوفية فيها ذكر لله عز وجل فمثلاً عندما نقول: يا لطيف! إحدى عشرة ألف مرة، وأنت تقول: سبحان الله، والحمد لله مائة مرة، فأين الأحد عشر ألف من المائة؟! فنقول: ليست العبرة بالكمية، وإنما هي بالاتباع، فهل شرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا؟ لا لم يشرعه، فإذاً نقف عنده. وفي القرآن نقول في كل ركعة: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة:6 - 7] {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] صراط واحد مستقيم، فهذا هو الإسلام، أما الصوفية فتنطوي تحتها مئات من الطرق، فافرض أن واحداً من الشباب اهتدى فأي الطرق يتبع؟ فهذه تجعل الذكر بهذا الشكل، وهذه عندها الرقص بهذا الشكل، إذاً فأيها دين الله عز وجل؟ وأيها يقبل الله عز وجل؟ فإذا قلت النقشبندية، فلماذا لم تكن القادرية؟ فهم محرومون ومساكين!! فكم من طريقة لديهم؟ ومع ذلك لو دققنا فإن الله لا يقبل من هذه شيئاً، فهذه هي السبل {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]-أي: الصراط المستقيم- {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. فهذه الطرق ماذا نقول عنها؟ لا يتسع المجال للكلام عنها، ويكفي أن نعلم أن كل ما لم يشرعه الله باطل، وهذه لا أصل لها لا من كتاب ولا من سنة، ومن تصوف من المسلمين ففيه من البدعة بحسبه، فإن تصوف تصوفاً شركيا فهو مشرك، وإن كان على بدعة أقل فهو أقل، وإن كان أخذ شيئاً بسيطاً فهو بقدر ما أخذ. فهذه حقائق الإيمان، وهذا من التنبيه، أتظنون أحداً يغش ويقول لك: أنا غشاش، وهل تتوقعون هذا الشيء؟ فلو كان أحدهم يبيع (طماطم) لا تصلح، فهل سيقول: أيها الناس! تعالوا اشتروا الطماطم الفاسدة؟ لا، وإنما يقول: النظيفة الطيبة الممتازة الرخيصة، وهل تريدهم يقولون لك: هذه هي البدعة وهذه هي الضلالة؟ لا، بل يقولون لك: هذه هي السنة، وهذا هو الحق وهذا هو الدين، فلا ننخدع وفقنا الله وإياكم للطريق المستقيم.

العلم الروحاني

العلم الروحاني Q هل هناك علم يسمى علم الروحانية؟ وهل هو التعامل مع ملائكة الرحمن، لأن هناك من يدَّعي هذا، نرجو التوضيح؟ A يوجد كذابون ودجالون من السحرة ومن الصوفية، وهي مختلطة مع بعضها البعض، فالذين وصلوا في التصوف إلى هذه الدرجة، يقولون: نحن أناس روحانيون، ونتعامل مع العالم الروحاني، حتى إن بعضهم لا يأكل اللحم، ويقول: من أجل أن أتروح، فما يأكل إلا النباتات لكي يتروح، ويعيش مع العالم الروحاني، فمن العالم الروحاني هذا؟ فلو قلت له: اكتب لي شيئاً عن العالم الروحاني، فسيكتب لك هذه الأسماء التي لا تستطيع أن تقرأها، ويقول: هذه أسماء الملأ الروحاني. هذا هو الملأ الشيطاني، وهذه هي أرواح الشياطين التي يتعامل معها، وهذا هو ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح من حديث عياض بن حمار عن الله عز وجل: {وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين؛ فاجتالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم}. فهؤلاء يحرمون ما أحل الله من الطيبات، ومن أكل ذات الروح، أسوةً بِعُبِّادِ الهنود الذين لا يأكلون أبداً أي شيء فيه روح، حتى البيض يقولون: هذا نتيجة شيء فيه روح، فلا نأكله، ولا يأكلون إلا النباتات، فهكذا عباد الهنود، وهؤلاء السحرة والدجالون يعملون مثلهم؛ لأنهم على نفس المنهج، فهذا العالم الذي يتحدثون عنه ليس عالم الروحانية، بل هو عالم الشياطين، والشياطين عالم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} [الأعراف:27]. ويوم القيامة إذا بعثهم الله وسألهم فإنهم يقولون: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] وأما الملائكة الحقيقيون فإنهم يقولون كما ذكر الله ذلك عنهم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] فيدعون أنهم يعبدون الملائكة، وهم في الحقيقة يعبدون الجن، ويعبدون الشياطين من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فلا تصدق أن هناك عالماً بهذا الشكل، فعالم الملائكة الأطهار الأبرار لا يتعامل مع هؤلاء الأرجاس، وعباد الله من الملائكة هم في كل مكان، فيذكر فيهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم يحضرون حلقات الذكر، لهم أعمال؛ فمنهم الكرام الكاتبون، ومنهم السائحون في الأرض، ومنهم ومنهم، فهؤلاء لا يدعون إلى شركٍ عياذاً بالله، ولا يأمرون به، فهم معصومون عن ذلك، وليس هؤلاء من الملائكة، ولا يتعامل تاركوا الدين -هؤلاء الضالون- مع الملائكة، وإنما مع الشياطين.

حكم إتيان الكهنة والعرافين

حكم إتيان الكهنة والعرافين Q ما حكم الذهاب إلى العرافين والسحرة؟ A النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيّن ذلك فقال: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}، والحديث الآخر الذي يقول: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد} ولا يوجد تعارض بين الحديثين، فإنه ذهب إليه ولم يصدقه في كلامه فلا تقبل له صلاة أربعين يوماً. لكن إن صدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن مما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] فهذا مما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن خالفه فقد كفر بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه اعتقد أن أحداً غير الله يعلم الغيب.

حكم قراءة الكف

حكم قراءة الكف Q قرأت في إحدى المجلات أن قراءة علم الكف ليس من علم الغيب؟ A السحر أنواع، والرمل أنواع، والعرافة أنواع، فما الذي يخرج الكف عن ادعاء علم الغيب؟ بأي كتاب أم بأية سنة، ما الذي يستثنيها؟! أجاء فيها نص أم جاء فيها دليل؟ فهذه كلها أخاديع وحيل سواء قرأها في كف، أو طست كبير، أو وضعها تحت الوسادة، فأياً كان، فكل ذلك من ادعاء علم الغيب، ومن صدق أن أحداً يعلم الغيب فقد كفر بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27]. أي: من أطلعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على شيء من الغيب من الأنبياء والرسل، وهؤلاء قد ذهبوا إلى الله، أو عبداً من عباد الله الصالحين، يرى رؤيا حق في المنام، فهذه أمور معروفة محددة، أما هذه الدعوى العريضة، فهي من الباطل، فلا يغركم الشيطان بصحة شيء مما قيل لكم، فهذه يلقيها الشيطان على لسان الكاهن، وبينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديث الصحيحة، أن من الفتنة أن يلقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الشهاب على هذا الذي اقتبس أو سمع من الملأ الأعلى شيئاً من علم الغيب، فلا يصيبه الشهاب حتى يلقي إلى وليه من الإنس كلمة مما سمع، فيأخذها الإنسي، فيجعل معها مائة كذبة، ثم ينشرها بين الناس، فيأتي الشيطان وأولياؤه، فإذا قيل لهم: إن فلاناً كذاب ودجال، فيقولون: أرأيت في ذلك اليوم قبل عشر سنوات لما أخبرنا عن فلان وكان الكلام صحيحاً! فإذا كان ذاك اليوم صدق، فما بال الأيام الأخرى التي كلها كذب! فهم لا ينظرون إلى المائة، ولكن إلى الواحدة، التي جعلها الله فتنة، فما علينا إلا أن نحذر من الفتن عافانا الله وإياكم منها.

القول بحلول الله في خلقه كفر

القول بحلول الله في خلقه كفر Q هناك من المجرمين من يقولون: إن الله يحل في جسم الإنسان بذاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؟ A من ادَّعى ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين، وهو كافر مرتد ويجب قتله بإجماع المسلمين، فهؤلاء الحلولية أو الاتحادية كفار بإجماع المسلمين، وهم أكفر من اليهود والنصارى، كما نص على ذلك علماء الإسلام، ودليل كفرهم قول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] فالذين قالوا: إن الله حل في المسيح كفَّرهم الله، فكيف نقول: حلَّ في فلان وفلان وفي كل شخص، فهم أكفر من النصارى، وهذا حكمهم، أنهم كفار مرتدون لا صلاة لهم، ولا ولاية ولا دين ولا إيمان، وليسوا من هذا الدين في شيء.

أنواع التوحيد

أنواع التوحيد Q نرجو توضيح التوحيد بأنواعه الثلاثة؟ A أنواعه هي: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، وإن شئت فقل توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد والإرادة.

توحيد الربوبية لا يكفي في نجاة العبد

توحيد الربوبية لا يكفي في نجاة العبد Q هل يكفي الإيمان بتوحيد الربوبية من دون فهم لتوحيد الألوهية والأسماء والصفات؟ وما حكم من جحد نوعاً منها؟ A من جحد نوعاً منها فهو كافر، ولكن لا يكفي نوع عن نوع فهي كلها أجزاءً لشيء واحد، فلا يكفي أن تقول: إن الله هو الذي يخلق كل شيء ويدبر كل شيء، ثم يدعو الإنسان غير الله، بل هذا هو الشرك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} [لقمان:25] فهذا قول المشركين، فقد كانوا يقولون في التلبية: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فلم يقبل الله منهم هذه التلبية، فهذا هو الشرك بعينه، وتقول الصوفية في الولي هو لا يملك شيئاً، فالله يملك ولكنه فقط أعطى هذا الشريك التصرف، هذا هو الذي يقوله الصوفية اليوم، يقولون: إن عبد القادر الجيلاني أو البدوي، لا يملك شيء والله هو الذي أعطاه التصرف، وهذه هي نفس الكلمة الجاهلية: (إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فالله يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [الجن:20] فعلينا أن نوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا نشرك بربنا أحداً.

ثمرات التوحيد

ثمرات التوحيد Q هل للتوحيد ثمرات ظاهرة في الدنيا؟ A نعم، فمنها: اليقين، والطمأنينة، والإخبات، والإنابة، وصدق الإيمان في التعامل مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والاستقامة على أمر الله، والأمر بالمعروف، وطاعة الله وتقواه في السر والعلانية، فهذه من ثمرات التوحيد، فكل خير في الدنيا فهو من ثمرات التوحيد، وكل شر أو مصيبة فهي من عاقبة الشرك والمعاصي.

علاقة الإيمان بالإسلام

علاقة الإيمان بالإسلام Q ما معنى كون الإيمان باطناً والإسلام ظاهراً؟ A هذا معنى حديث ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الإيمان في القلب، والإسلام علانية} وهو الذي يبينه الحديث الآخر الصحيح، وهو قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} فالإيمان في القلب، والإيمان عقيدة، والإسلام هو: انقياد الجوارح هذا علانية، ولكن بينهما تلازم فإيمان الجوارح أن تطيع الله وأن تمتثل أمره، كما أن من إسلام القلب الإذعان لأمر الله والانقياد له، وإلا فما هو الطاغوت؟ الطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فأي إنسان تعبده أو تتبعه أو تطيعه فيغ غير ما أمر الله فقد تجاوزت به حده، وإذا تجاوزت في أي إنسان حده فقد جعلته طاغوتاً وعبدته من دون الله، فالأصنام طواغيت، والقوانين الوضعية طواغيت، لأن الله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] فكل من عبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة فهو طاغوت، والشيخ الذي يقول للمريدين: إذا مت فأتوني واعبدوني، طاغوت، وإذا هم عبدوه، فقد جعلوه طاغوتاً وإن لم يكن كذلك.

تفضيل القوانين على الشرع

تفضيل القوانين على الشرع Q ما حكم من يفضل القوانين على شرع الله؟ A نسأل الله العافية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] من فضَّل شرع البشر على شرع الله، فهو مثل من يفضل البشر على الله؛ لأن هذا شرع الله وهذا شرع البشر، فمن فضله فكأنه يقول: البشر أعلم من الله بالمصالح، وأفضل من الله، وأحكم من الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- فأياً كان شرع الله في المسائل المالية، أم في المسائل الاجتماعية، فشرع لنا الحجاب، وحرم الربا، والزنا والاختلاط، وشرع لنا كل ما تعلمونه من الأوامر والنواهي. فهذا هو وحده الحق والخير الذي يجب اتباعه، واتباع غيره وطاعته شرك وكفر، كما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].

القول بحياة الخضر عليه السلام

القول بحياة الخضر عليه السلام Q القول بحياة الخضر عليه السلام هل هو صحيح؟ A لا ليس بصحيح لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] ولو كان الخضر حياً لما وسعه إلا اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدخول في دينه، ومجاهدة الكفار معه.

الاحتفال بالمولد النبوي بدعة

الاحتفال بالمولد النبوي بدعة Q هل الاحتفال بمولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السنن؟ A نقول: إنه لم يحتفل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يحتفل أكثر الناس وأشد الناس حباً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الصحابة، ولكن الذي احتفل بالمولد هم أبغض الناس لدين الله، وأول من أوجد البدعة هم أبغض الناس لدين الإسلام ولأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الروافض والباطنيون والمجوس، الذين كانوا مجوساً زنادقة في الباطن وكانوا روافض في الظاهر، وهم العبيديون. فهؤلاء أول من أحدث المولد بعد مئات السنين من وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقال: إنهم لم يحدثوه إلا احتفالاً بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه جُعل يوم اثنا عشر من ربيع الأول، التي توفي فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدون شك عيداً، ذبائح وولائم، فقالوا: هذا المولد، ونحن نحتفل بمولده، وما أدرانا أنهم يحتفلون بموته، كعادتهم إذا مات من يكرهون، جعلوا يوم موته عيداً، ولا أحد أكره إليهم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه هو الذي هدم ملك كسرى، ودمّر أصحابه رضي الله عنهم النار وقضوا على نار المجوسية، وهدّموا دينهم، فجاء هؤلاء بحقد على الإسلام، فقتلوا الفاروق رضي الله تعالى عنه، الذي أرسل الجيوش إلى هناك، وأوجدوا هذا الدين المبتدع وفرقوا به المسلمين، وأوجدوا هذا الرفض، ثم احتفلوا بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلوه عيداً، وقالوا: نحتفل بالمولد، ولو فرضنا أن قصدهم غير هذا فانظر إلى مناسبتين جاءت في وقت واحد، واحدة مفرحة وواحدة محزنة مؤلمة جداً أيهما تقدم؟ فالحزن يغلب على الفرحة، فهذا اليوم يوم وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأبد، وليس هناك مصيبة أصابت هذه الأمة أعظم من وفاته وفقده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأبد، فهل نحتفل بهذا اليوم ونجعله عيداً؟! هذا بالإضافة إلى أنه لا دليل عليه كما قلنا، فهو بدعة لا تجوز.

حكم حلق اللحية

حكم حلق اللحية Q البعض يحلق لحيته ويقول: الإيمان، في القلب نرجو توضيح ذلك؟ A المعاصي تتنافى مع الإيمان، والمعاصي على نوعين: معاصٍ ظاهرة: وهذه هدم لشعائر الإسلام. ومعاصٍ باطنة وهذه تهدم الإيمان الذي في القلب. فحلق اللحية من المعاصي الظاهرة، التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدي المسلمين جميعاً فينتبهوا إلى خطره، فأنت تهدم شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، التي بها يتعارف أهل السنة، وبها يتعارف أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي سمة وعلامة وشرف وميزة، ودليل الأسوة والاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حتى أفجر الفجار إذا رأى أنك تفعل شيئاً وأنت ملتح، يقول: يا أخي! أنت بلحية وتفعل هذا! فهو يعلم في نفسه أنه لا يليق بمن يكون على سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل هذا الفعل، لكن لو كان شخصٍ آخر حالقٍ للحية، فيقول: ليس فيه شيء. وما ذاك إلا لأنها شعار، وقدوة، وتحقيق للأسوة ظاهراً، وهو إن شاء الله علامة تحقيق ذلك باطناً، فالإنسان لو غلبته نفسه، وعصى الله، فحين يتوب إلى الله عز وجل يبدل الله سيئاته حسنات، ولو كان الأخ القائل عنده إيمان بالقلب لظهر أثر هذا على الجوارح.

المعاملة مع الله

المعاملة مع الله Q بعض الناس يقول: الدين المعاملة، ما تعليقكم على هذا؟ A يقصد أنه يقول: الدين المعاملة، فأنا قلبي نظيف ولا أحقد على الناس، فلا شيء أعظم معاملة من معاملتك مع الله، فلماذا لا تكذب على الناس ولا تغش الناس؟ فيقول: عيب، فنقول له: إذا كنت تستحي من الناس فاستح من الله الذي يطعمك ويرزقك ويعافيك وهو خلقك أول مرة، وأخرجك من بطن أمك وأنت لا تعلم شيئاً، ثم تعصيه، وتترك فرائضه، وتقول: أنا أعامل الناس بالطيب، فكيف تكون معاملتك مع الناس صحيحة، وأنت لا تتعامل مع الله، فالدين هو المعاملة، وأول معاملة مع الله، هو توحيد الله، ثم مع عباد الله، {اتق الله حيث ما كنت -فهذه المعاملة مع الله- وخالق الناس بخلق حسن} وهذه المعاملة مع الناس، ولا يمكن أن يقبل هذا إلا بذاك، بل ذاك هو الأصل.

حكم الساحر

حكم الساحر Q كيف نستطيع الجمع بين التصديق بوجود السحر في قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] وأن نكذب الساحر للحديث الذي ذكرته قبل قليل؟ A ما تكلمنا عن تكذيب الساحر، وإنما تكلمنا على الكاهن والعراف الذي يَّدعي علم الغيب، أما الساحر فما يدري أنه كذب فيما سحر، وإذا درى أنه ساحر أو سحر ورأينا سحره عرفنا كفره، فدليل كفر الساحر قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا} [البقرة:102] يقولا للمتعلم هذا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]. وهذا لا يُقال إلا للكافر، لأن من كان على التوحيد فإن له في الآخرة ولو شيئاً يسيراً فينجوا بالتوحيد ولو بعد حين، لكن الذي ليس له في الآخرة من خلاق، والذي ليس له في الآخرة إلا النار، فهذا هو الكافر نعوذ بالله، فالساحر غير الكاهن أو المنجم.

رؤى المنام

رؤى المنام Q ما رأيك في رؤية الميت في المنام مع محادثته أكثر من مرة؟ A الرؤى قسمان: منها حق ومنها باطل، قد تكون هذه من رؤيا الحق، وقد تكون من أضغاث الأحلام التي يلقيها الشيطان بالباطل.

حكم سب الدهر

حكم سب الدهر Q ما حكم سب الدهر مثل اليوم والساعة والليلة؟ A في الحديث: {لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر أقلب الليل والنهار} فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يدبر الليل والنهار: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا كان أحد السلف يقول: إني لأرى أثر المعصية في خلق امرأتي ودابتي، ونحن على ما نحن فيه من عصيان لله عز وجل إذا وقعت مصيبة قلنا: هذا يوم مشئوم والسَّنة المشئومة، فيوم الأربعاء عند بعضهم. وبعضهم شهر معين، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وهذا هو واقعنا، يعفوا عن كثير وإن أصابنا فبما كسبت أيدينا، ولا ذنب لليَّل والنهار، وإنما الذنب على الفجار والكفار.

حديث الذباب

حديث الذباب Q حديث الذباب {إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء} [حديث صحيح رواه الإمام البخاري] يقول بعض الناس الذباب محمل بمكروبات الكولرا فإن سقط على كأس لبن هل أغمسه أم لا، علماً بأن الذباب محمل بالمكروب؟ A كون الذباب محمل بالمكروب ليست معلومة جديدة، فالحديث قال: {فإن في أحد جناحيه داء} فهو يقول: أنا محتار كيف أطبق الحديث، فهل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ضعه في مطهر، ثم ضعه في الإناء، أو أنه قال لك في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء؟ فهكذا الحديث، فلا يوجد اكتشاف جديد، لكنهم وإن سموه مكروباً، أو فيروساً، أو جرثوماً، أياً كان الاسم فليس هناك إشكال، فلو أن الذباب تطهر من هذه الجراثيم فليس هناك خلاف. لكن هذا لنختبر الكلمة التي نقولها كل يوم أشهد أن محمداً رسول الله، فهل نحن نشهد بحق أم أنه مجرد كلام؟ فإذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً وصح سنده، واعتقدنا صحته، وعملنا وآمنا به، فنحن نشهد أن محمداً رسول الله، لكن يقول لك: نحن نشهد أن محمداً رسول الله لكن هذا الحديث فيه مشكلة، فهل يجوز هذا؟ أو يقول البخاري فيه موضوعات، ومن أجل حديث واحد في البخاري يهدم البخاري كله، ويهدم السنة كلها، لأنه لم يعجبه هذا الحديث {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] تسليم لا نقاش معه، ولا تقول: صحيح أن الإسلام حرم الربا لكن (5%) لا تضر، فهذا الحرج هو خلاف لهذه الآية، وهذا يدل على أنك ما سلمت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فإذا كان حراماً فلنسلم ولا يحتاج إلى نقاش، وهذه هي معنى شهادة أن محمداً رسول الله، أفنأتي عند الذباب ونقف مع أن الغمس ليس بواجب، وإنما هو إرشاد وتوجيه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لو أن أحداً كَذَّب فهذا نقض في العقيدة والإيمان، لكن لو أن مؤمناً بالحديث وصحته قال: إن نفسي تعاف الإناء أو الأكل منه فلا يلحقه شيء، فليس مثل الذي يقول: أنا أكذب بمثل هذا الحديث ولو رواه البخاري ولو رواه الجماعة لأنه يتنافى مع العلم، وفيه مكروبات، فهذا يكذب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

شقاء الإنسان وسعادته

شقاء الإنسان وسعادته Q هناك حديث معناه: أن الإنسان يخلق ويكتب شقياً أو سعيداً إلى آخر الحديث، فما معنى الحديث؟ A هي أحاديث كثيرة لكن لعل الأخ يقصد حديث الصادق المصدوق حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه {إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد}، فالبعض يقول: أنا مكتوب عليَّ شقي أو سعيد، فما الرد عليه؟ {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:78] لماذا لا يقول: إن شاء الله أكون من السعداء ويصلي؟ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما كذب المشركين {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام:148] هذه أولاً كذبة جاهلية قديمة يردون بها على الأنبياء {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] هيهات، أعندك علم أن الله كتبك شقي في بطن أمك؟ لا، فهذا هو {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148] وهذا هو الذي أخرصهم، ثم قال بعد ذلك: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. فالحجة البالغة التي أقامها الله على عباده هي هذا الدين، وهذا الرسول، ولهذا قال في سورة النحل، بعد نفس الاعتراض {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] ثم قال الله بعد هذه الآية: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فلو أن الله تعالى راضٍ عن شرككم وأعمالكم هذه، لما أرسل الرسل تحذركم منها، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]. فذاك هداه الله فضلاً، وذلك حقت عليه الضلالة عدلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه الشبه كذبها الله تعالى في القرآن، فمن يعارض شرع الله بمشيئة الله فهذا هو حاله، لأن القدرية ثلاثة أصناف: قدرية إبليسية الذي قال زعيمهم إبليس {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] قال: بما أغويتني، نسب الغواية إلى الله، وهو الذي غوى، والله إنما قدر، لكن إبليس هو الذي غوى، وفسق عن أمر ربه وعصى، فهذه القدرية الإبليسية النوع الثاني: القدرية الشركية الذين قالوا: كما حكى الله عنهم في القرآن: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] فلو شاء الله اهتديت. النوع الثالث: القدرية المجوسية الذين يقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه فهذه ثلاثة أنواع، وكل هؤلاء ضلال، وكلها أبطلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه، والصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سألوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الأمور: {هل هي فيما نستقبل ونستأنف، أم في أمر قد قضي وقدر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل في أمر قد قضي وقدر. قالوا: ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق، له. ثم قرأ قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]} فعلامة الشقي أنه ميسر له عمل أهل الشقاوة، وعلامة السعيد أنه ميسر له عمل أهل السعادة، وهو الذي يختار ذلك، لكن لا يحتج بما قد كتب، وهو لا يدري ماذا قد كتب.

مجازاة الله لعباده

مجازاة الله لعباده Q هل يجازي الله العبد على شيء قدَّره عليه؟ A إن كان القصد بالسؤال: هل سوف يجازيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على شيء هو الذي قدره عليه؟ فنقول: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غني عن طاعتنا كلها، وغني عن أن يظلم أحداً منِّا ولا يمكن أبداً، ولا أحد أحب إليه العذر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل المعاملة على نوعين، كما قال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] و {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]. فالمعاملة الأولى بالفضل، والمعاملة الثانية بالعدل، فأما الفضل فللمؤمنين فضل منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مثل حديث اليهود والنصارى، نحن عملنا من بعد العصر إلى غروب الشمس، وأعطانا الله ضعف ما عملوا {فقالوا: لم يا ربنا؟ قال: هل غمطتكم شيئاً من حقكم؟ قالوا: لا. قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء} فالله تعالى يتفضل على المؤمن من عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالإيمان بالله فضل من الله، وزيادة الحسنات فضل من الله، والقدرة الجسدية حتى نطيعه فضل من الله، والغذاء فضل من الله، وكل شيء فضل من الله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] والكافر وكله الله إلى نفسه، وأبان له الحجة، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] فلو جاء أحدهم، وقال: يا رب! أنا عندما كنت في الدنيا لم يبلغني آية ولا حديث ولا سمعت شيئاً من الدين، فهل هذا يكون مثل الذين يقول لهم خزنة جهنم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] لا، ليس مثله، ولا يعامله الله مثله، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فهؤلاء يمتحنهم الله في عرصات القيامة؛ لأنه معذور فالصغير له حكمة، والزِّمِن والهرم الذي أدرك الإسلام في آخر عمره وما فقه منه شيئاً له حكمه، لكن السميع البصير العاقل الذي بلغه أمر هذا الدين، ورفض الاستجابة له، حتى لو جاء يوم القيامة، وقال: يا رب! أنت ما وفقتني للعمل الصالح، فهل هذه حجة عند الله عز وجل، والله عز وجل أعطاك القدرة، وأعطاك الهداية، وأقام عليك الحجة، فالحجة لله وحده {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] وليس لأحد من الخلق حجة على الله تعالى بعد الرسل وبعد الحجج والنذر.

حكم صلاة التسابيح

حكم صلاة التسابيح Q ما حكم صلاة التسابيح؟ A الراجح أنها لا تصح، وهو قول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، والحديث الوارد فيها ضعيف والمتن منكر، فأنت لو قرأت المتن وحده، فسوف ترى النكارة فيه واضحة، وهذا هو قول العلماء الأفذاذ، وقد يوجد من يخالفهم، لكن أنت اتبع ما هو الأرجح والأفضل.

حكم لحم الإبل

حكم لحم الإبل Q لحم الإبل هل ينقض الوضوء أم لا؟ A نعم ينقض الوضوء.

لفظة (صدق الله العظيم)

لفظة (صدق الله العظيم) Q ما حكم قول: صدق الله العظيم بعد قراءة القرآن؟ A الالتزام بذلك بدعة، لكن مرة واحدة عند آية سمعتها لا بأس بذلك إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

حكم الاحتفال بأعياد الكفار

حكم الاحتفال بأعياد الكفار تحدث الشيخ حفظه الله عن منكر شاع في المجتمع ومصيبة ابتلي بها المسلمون في بلدانهم، وهذا المنكر يتمثل في قيام الكفار -ممن يعيشون في مجتمعاتنا الإسلامية- بإحياء أعيادهم، وتشبه المسلمين بهم، وبذل الدعم لهم، ثم بين معنى العيد وحكم الاحتفال بأعياد الكفار، مبيناً خطورة الرضا أو الابتهاج بها، وسرد أقوال السلف والفقهاء في حكم ذلك.

معنى العيد

معنى العيد الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد: فلا ريب أن لكل قول داعياً وموجباً، وهذه المحاضرة موجبها وداعيها في هذه الأيام هو أنه - كما تعلمون - بعدما يقارب الشهر تقريباً سوف يكون عيد بل عيدان من أعياد المشركين، وقد عهدنا أن الكفار يقيمون أعيادهم في الشركات والمؤسسات والإدارات والمجمعات السكنية علانية أو بما يشبه العلانية. كما عهدنا أن من المسلمين من يشاركهم في ذلك ويحضر ويشهد هذا الزور العظيم، وتبدر منهم أفعال لا تليق بمن يعرف الله ورسوله، ومن هداه الله تبارك وتعالى إلى الصراط المستقيم وأمره بمخالفة المغضوب عليهم والضالين، ومجانبة طريق أصحاب الجحيم، ولذلك أردنا أن نجعل هذا الدرس إعذاراً إلى الله تبارك وتعالى وإبلاغاً لكم ولكل من تبلغه، وإنذاراً لأولئك الذين قد يفعلون هذا المنكر: إما لأنهم كفار لم يلتزموا بما أمر الله تبارك وتعالى به، ولا سيما في بلاد الإسلام وإما لأنهم في غفلة فليتعلموا وليعرفوا حكم الله تبارك وتعالى وليذكروا بالله وبما شرع الله تعالى في مثل هذا. وإما لأنهم معاندون كما قد يبدر من بعض المنتسبين إلى الإسلام فيعاندون ويصرون على إقامة هذا المنكر بين ظهرانينا. ففي هذا الكلام قبل أن يأتي ذلك الموسم إنذاراً لهم بأننا لن نسكت ولن ندع هذا المنكر يمر أبداً، ونحن إذا قمنا بهذا الواجب فإن ذلك لن يقع أبداً -بإذن الله- وليكن في علمهم أن ما مر في كل سنة، فلن يمر -بإذن الله- في هذه السنة مهما كان الأمر، فإننا لن ندع هذا المنكر أبداً بكل وسيلة مشروعة من وسائل الإنكار، وسوف نذكر بعض الحلول والوسائل في آخر الدرس بإذن الله عز وجل. فهذا الذي أردنا أن ننبه إليه، وأحب أن كل واحد لا يفوته ذلك، فهذا منكر جلل، وخطب عظيم، والواجب علينا جميعاً أن نقوم في ذلك بقدر الطاقة، كل من موقعه، وبحسب مسئوليته، والله تعالى سائل كل واحد منا عما علم ولم يعمل به، وعما سمع من دين الله ولم يبلغه. وعندما نقول أو نتحدث عن حكم الاحتفال بأعياد الكفار، فإن من أول ما ينبغي أن نعرفه، ما معنى العيد؟ ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في كتابة العظيم اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم هذا، وذكر أحكاماً أخرى عظيمة نورد بعضاً منها إن شاء الله، وقبل ذلك نوصي كل أخ منكم باقتناء هذا الكتاب القيم النفيس، ولا سيما النسخة التي حققها أخونا الفاضل الدكتور ناصر العقل، وهي موجودة متداولة، وكذلك تراجعون ما ذكره وسطَّره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه أحكام أهل الذمة، وما ذكره أيضاً العلماء في أبواب الفقه في مواضع وكتب كثيرة تعرضت لذلك، ومنها ما أوجزه شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في آخر الجزء الخامس والعشرين من مجموع الفتاوى. أقول: إن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله عرّف العيد فقال: " العيد اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم-أي للكفار- فيه اجتماع، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة". إذاً: فالعيد اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو كل مكان يجتمع فيه الكفار، ويحدثون فيه شيئاً من خصائص دينهم، والنهي الوارد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشمل ذلك كله، كما يشمل حريم العيد. يقول: " وكذلك حريم العيد، وهو: ما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله، أو ما حوله من الأمكنة " فهو كما يشمل المكان الذي يكون فيه العيد؛ فإنه يشمل ما حوله من الأمكنة التي تعد حريماً لذلك المكان، يشمل النهي عن العيد كل ما يحدث بسبب العيد من أعمال. ومن الأمثلة على ذلك: التهنئة أو الهدايا أو إطعام الطعام، أو أي شيء، فالعيد يشمل هذه الأمور ويشمل هذه المعاني كلها، ويقول: " أعياد الكفار كثيرة " وهذه حقيقة، ونحن الآن في هذا البلد نرى الكفار كثيرين، ومن أديان شتى، فلنعلم أنه كما قال رحمه الله: أعياد الكفار كثيرة مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا أن يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال، أو في أي يوم من الأيام أو في أي مكان، من الأمكنة هي ويجتنب ذلك. فلدينا هنا مثلاً: أهل الكتاب -النصارى خاصة- يحتفلون بعيد الميلاد وعيد رأس السنة، وكذلك يحتفل البوذيون ويحتفل الهندوس وكل أمة لها عيد، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن لكل قوم عيداً} هذه قاعدة جعلها الله -تبارك وتعالى- مجبولة ومفطورة عليها الأمم، فكل قوم لهم عيد. فالأعياد كثيرة ومختلفة، وعلى المسلم أن يعرف أماكنها إن كانت مكانية، أو أزمنتها إن كانت زمانية، فيتجنب ذلك، ويتجنب ما نهى عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمور سوف نفصلها بأدلتها إن شاء الله، وذكر رحمه الله مقدمات يقدم بها بين يدي الأدلة.

عمل المسلم في يوم عيد الكفار

عمل المسلم في يوم عيد الكفار فما الضابط في العيد أو في غيره، وماذا يجب على المؤمن؟ وما الضابط للمسلم في مثل هذا اليوم من أيام العيد؟ قال شَيْخ الإِسْلامِ " الضابط ألاَّ يحدث فيه أمر أصلاً " ألاَّ تحدث أي أمر من الأمور في هذا اليوم الذي هو عيد للكفار، وإنما تجعله كسائر الأيام، كأنَّ شيئاً لم يكن، وكأنهم لم يحتفلوا، وفي هذا تكون مخالفتهم. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه ينبغي مخالفتهم وسنعرض لها إن شاء الله. واختار بعض العلماء صيام تلك الأيام، وأن يصوم المسلم يوم العيد الذي يحتفل به الكفار، فمن نظر إلى أصل المخالفة وأنها مشروعة قال: من مخالفتهم أن يكونوا فرحين مبتهجين يأكلون ويشربون ويعربدون ويفعلون، كما هو معلوم مما لا يجوز ذكره، قال: وهو يكون صائماً لله تبارك وتعالى، فيكون قد حقق المخالفة. وقال بعض العلماء: لا يصام يوم من أيام أعيادهم وذلك خشية الوقوع في التعظيم، إذ قد يظن ظان أنما إما صيم لأنه يوم معظم فكأن هذا يعظمه بالاحتفال والأكل والشرب، وذاك يعظمه بصيامه والتقرب إلى الله فيه. وهذا هو الأظهر والأرجح، وهو أن المؤمن في هذا اليوم لا يتعمد فعل أي شيء مطلقاً وإنما كل حياته وأموره تكون كسائر الأيام، ويعمل كل عمل كما كان يعمله في بقيه الأيام ولا يعبأ ولا يلتفت إلى هذا. هذا هو الضابط العام الذي يجب أن تكون عليه حياة المسلمين جميعاً فتكون عادية تماماً. أما الإنكار على أولئك ومنعه وأدلته فهذا ما سوف نُفصل فيه إن شاء الله. والكفار الذين بيَّن الله تبارك وتعالى لنا عداوتهم في آيٍ كثيرةٍ جداً منها قوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] وكذلك بيَّن الله وسماهم حزب الشيطان وأولياء الطاغوت إلى غير ذلك.

أقسام الذين يقيمون الأعياد

أقسام الذين يقيمون الأعياد إنَّ هؤلاء بمجموع الأدلة التي جاءت في الكتاب والسنة يمكن أن نصنفهم بحسب مشابهتهم في أعيادهم وغيرها، إلى قسمين: القسم الأول: هم أهل الكتاب: -اليهود والنصارى-. القسم الثاني: الأعاجم. وهذا نستطيع أن نأخذه من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قيل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اليهود والنصارى؟ قال: فمن!} وفي الحديث الآخر: {لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها، قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فتبين من الحديث الأول، أن المقصود أهل الكتاب، وأن النوع الأول هم: اليهود والنصارى -أهل الكتاب- وأما قوله: فارس والروم، فإنه إشارة إلى الأعاجم، وهم من جملة من نهينا عن التشبه بهم ومشاركتهم، ويدخل في ذلك ويتبعه الأعراب.

النهي عن التشبه عام في جميع المشركين والكفرة

النهي عن التشبه عام في جميع المشركين والكفرة وبهذا يتبين لنا أن الله تبارك وتعالى نهانا عن التشبه بالكفار عموماً، وهذا هو أصل المسألة، وقد تعرض بعض الأسئلة للمناسبة بين أعياد الكفار من أهل الكتاب، وبين أعياد المشركين من غير أهل الكتاب، وأيهما أشد ضرراً وأيها يجب أن نكون أشد هجراً ومخالفة له. فنقول مقدماً وسنعرض الكلام بالتفصيل: إن مشاركة أهل الكتاب في أعيادهم أشد نهياً وأشد ضرراً، وأقل ما يقال إنهما سواء، فلا يقولن أحد من الناس: إن المقصود هم المشركون فقط، وأما أهل الكتاب فإن بيننا وبينهم من الأحكام ما لا يدخل فيه غيرهم كما قد يظن. وقد نص شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله على عيد الميلاد بالذات، فقال: " وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرمة وكذلك أعياد الفرس مثل: النيروز، والمهرجان، وأعياد اليهود وغيرهم من أنواع الكفار أو الأعاجم أو الأعراب " ومن أعياد اليهود: عيد الغفران كما يسمونه.

حكم أعياد الكفار

حكم أعياد الكفار أعياد الكفار محدثة بدعية، ولذلك تجدون أن النصارى في بلاد الشام ومصر، في القديم لهم أعياد وأسماء تخالف في بعض منها الموجود لديهم الآن. وكذلك في الأيام وأحياناً في الأسماء يختلف نصارى المشرق مع نصارى المغرب، واليهود القدماء مع اليهود المتأخرين، وما سبب ذلك إلا الابتداع، لأن الكل مبتدع، فإذا فتح باب الابتداع، ابتدع كل ما يشاء ووضع كل ما يشاء، فمجاميعهم الكنسية المقدسة -كما يزعمون- تبتدع أعياداً وتضع من عندها فقد يشتبه الأمر، وتختلف الأسماء، ولكن المهم أن حكمها واحد، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ في هذا -مثل النيروز والمهرجان وغيرها- قال: " حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل، وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يُعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته " فلو وافقت يوماً من أيام عيدهم لم يجب عليك أن تجيب الدعوة، مع أن الإجابة من حق المسلم على المسلم -كما هو معلوم- لكن هذا لوجود ذلك المانع. قال: " ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات، غير هذا العيد، لم تقبل هديته خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، مثل: إهداء الشمع ونحوه في الميلاد ". فالحكم واضح، ولكن المقصود هو إثبات أن عيد الميلاد هو عيد قديم. وذكر الكاتبون في الملل والأديان أن عيد الميلاد الذي يحتفل به هؤلاء النصارى اليوم -وهو أكثر ما يضايقنا من الأعياد في هذه البلاد- أنه عيد وثني قديم، ثم لما اتخذ النصارى واتبعوا طرائق المجوس وغيرهم من الأمم، كما فعل بولس الذي أسس دينهم، وكان على دين المسرائية وبعض الفلسفات الشرقية نقلوا هذا العيد الوثني القديم وجعلوه من أعيادهم، فهو في الحقيقة لا أصل له في دينهم فضلاً عن أن يكون له أصل في ديننا، ولولا الإطالة لذكرت بعض ما ذكره الباحثون في هذا الشأن، وهم من النصارى على أية حال.

بيع سلع يتوسل بها إلى الشبه

بيع سلع يتوسل بها إلى الشبه وينص شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله على مسائل تتعلق بالفروع، تتعلق بما يسمونه: الحريم المكاني، أو الزماني للعيد، فيقول مثلاً: " ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد، من الطعام واللباس ونحو ذلك " ونحن سنتعرض الأدلة كاملة، لكن نريد أن نأخذ من هذه القضية مدخلاً، وهو إذا كان ما قد يستعين به بعض المسلمين على مشابهة الكفار أو الاحتفال بعيدهم يحرم أن يباع لهم، وهو من الطعام أو اللباس أو ما أشبه ذلك فما بالكم ببيع الكروت أو البطاقات التي هي للتهنئة بهذا العيد؟ فما بالكم بمن يشارك أو يدخل أو يندمج في هذا العيد، ويحضر ويشهد هذا الزور؟ إذا هذا لا شك أنه حرام، فإذا حرم ذلك وهو ذريعة -كما حرم على المؤمن أن يبيع العنب لمن يجعلها خمراً، أو أن يؤجر لمن يزني أو يلوط أو غير ذلك، مما قد يكون ذريعة إلى الفساد- فإن هذه الذريعة إذا حرمت؛ فإن المقصد يكون إذا وقع في عينه أشد حرمة. وهنا نقف وقفة مع واقعنا: هل نحن فعلاً نبيع الوسائل المؤدية إلى الاحتفال بالعيد أو تعظيم أعياد الكفار؟ أمر مؤلم أن نقول لكم: نعم. إنَّ هذا المنكر العظيم منتشر ومتفش في مجتمعنا، وهذه مسألة غير مسألة حضور أعيادهم أو الاحتفال بها. ومن ذلك -مثلاً- المكتبات التجارية، ولا سيما في الأسواق المركزية، وهذا مشاهد هنا في جدة، حيث تباع البطاقات التي يتهاداها أولئك، ويهنئ بعضهم بعضاً بها، وهذه عشرة نماذج لأنواع من البطاقات مشتراة من مكتبات متنوعة بالفواتير من مدينة جدة، تركت الأشياء التي فيها صور خليعة أو نساء، لكن كلها يجمعها أنها تشتمل على صليب أو كنيسة، فهذا دليل على أنها فعلاً من شعائر دينهم، ومع ذلك فإنها تباع في مكتبات المسلمين، وهذا أمر لا يجوز، وهو من أعظم المنكرات التي يجب إنكارها. وإن أردتم الدقة في الإحصائيات، لتعلموا كم يرد إلى هذه البلاد، وكيف تباع هذه البطاقات، وتباع الأشجار التي يسمونها أشجار عيد الميلاد، فنحن ننقل لكم من نشرة إحصائيات التجارة الخارجية، وهي نشرة رسمية تصدرها مصلحة الإحصائيات العامة بوزارة المالية كل عام وهذا الصنف دائماً رقمه (9705) في كل عام، فإذا أخذتم الكتاب انظر رقم (9705) تجدون أنه ما يتعلق بالأعياد والمهرجانات وأشجار عيد الميلاد بالذات، وما يستخدمه الحواة السحرة، الذين يتعاملون مع الثعابين بالسحر لكن أهم سلعة هو ما يتعلق بعيد الميلاد وبأشجارهم. وفي عام (1985م) نعم توقيتنا الرسمي متروك مع الأسف وأكثر إداراتنا توقيتها بالتوقيت الميلادي وهذا نوع من المشابهة، كالمشابهة في أعيادهم والمشاركة فيها، وكل ما سنذكره إن شاء الله من الأدلة يحرمه من الأدلة يحرمه، وهو داخل فيها كاستعمال أشهرهم وتقويمهم، لكن هذا هو الواقع. على أية حال في عام (1985م) بلغت قيمة ما استورد (1. 589. 233) ريالاً، هذه البطاقة تباع -أحياناً- بأربعة ريالات، ولنفرض أنه بالجملة بريالين، ونفرض أن الرقم مليون، معنى ذلك ما دخل المملكة من بطاقات يساوي (500. 000) بطاقة، وهذا كان في عام (1985م)، وفي عام (1986م) ارتفع الرقم إلى (2. 299. 127) ريال، وفي عام (1987م) ارتفع الرقم إلى (3. 012. 931) وفي عام (1989م) بلغ (2. 763. 030) ريال، وبلغت قيمة الواردات أيضاً في عام (1990م) (1. 848. 000) ريال، وعام (1991م) الربع الأول وتعرفون أنه في وقت الأزمة قدم إلى هذه البلاد جموع غفيرة من الكفار، قد يكون مجموعهم وصل إلى المليون، إذا ضممنا إلى الجيوش الصحفيين، ومن جاء للتجارة وغير ذلك مما له علاقة بالأزمة في هذه السنة، وفي هذا الربع لم يذكر التصنيف، وليس له وجود في الكتاب أو الدليل؛ ربما لأنهم رأوا أن الرقم ضخم مبالغ فيه ففضلوا ألا يُذكر، أو لسبب آخر لا ندري به، لكن في الربع الأول من العام الذي قبله وهو (1990م) بلغت قيمة مشتروات هذا الصنف (252. 202) ريال. وبالنسبة لبطاقات التهاني هذه التي تستورد فإنها ترد من عدة دول، وكما تعلمون أن النصارى من أمم الغرب، وفي أمم الشرق -أيضاً- يوجد نصارى، ويبيعون هذه البطاقات مثل الولايات المتحدة الأمريكية فهذه الدولة وحدها -كما هو موجود في نشرة إحصائيات التجارة لعام (1989م) - صدرت من البطاقات وما يماثلها ما قيمته (2. 003. 212) ريال، وفي نشرة عام (1990م) بلغت قيمة بطاقات التهاني وما يشابهها (3. 321. 680) ريال، أي: بزيادة عن العام الذي قبله (1. 318. 468) ريال، ويعزى ذلك إلى كثرة وجود الكفار عند حدوث الأزمة. وفي الربع الأول فقط من عام (1991م) بلغت قيمة الواردات من بطاقات التهاني (433. 746) ريال هذا فقط من الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ألمانيا، بلغت في الربع الأول من السنة ما قيمته (103. 385). ومن المؤلم والمؤسف أن بعض هذه البطاقات يطبع في دول خليجية ويستورد منها، -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فأصبح المسلمون يطبعون هذه الكروت، وفيها الصلبان ويبيعونها، وأشد ألماً من ذلك أننا في هذا البلد الطيب في بلاد التوحيد نشتري وندخل هذه الأعداد والأرقام، وفي ذلك دليل على أنها رائجة سائرة عندنا من غير إنكار. وأنا لا أستبعد أن تكون -أيضاً- بعض المطابع تطبعها هنا في جدة، لا سيما مع قرب الموسم، نظراً لهذه الكميات الهائلة من ملايين البطاقات، والطباعة -كما تعلمون- لا تكلف، ولا سيما إذا كانت الكمية كبيرة، فبدل أن يستوردها بريالين يمكن أنها لا تكلفه قرشين لطبعها هاهنا، فما يطبع هاهنا في الداخل غير داخل في هذه الإحصائيات، ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الأدلة في حكم الاحتفال بأعياد الكفار

الأدلة في حكم الاحتفال بأعياد الكفار إننا نبين الحق في هذا الشأن، ونوضح بعض الأدلة والأحكام في هذا، وأسير في هذا على ما سار عليه شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى. ولقد قسَّم شَيْخ الإِسْلامِ أدلة حكم الاحتفال بأعياد الكفار إلى قسمين: أدلة كلية، وأدلة تفصيلية.

النهي عن الموالاة والمشابهة للكفار

النهي عن الموالاة والمشابهة للكفار أما الأدلة الكلية في هذا فأولها: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نهانا عن موالاة الكفار ومشابهتهم، فالمسألة تدخل في باب الموالاة، ومن هنا فهي إذاً جزء من العقيدة. أي: أن الإيمان أو التصديق أو الإقرار بها، إقرار لعقيدتهم، وأن الكفر مطلوب، كالكفر بما لديهم من عقائد أخرى، فهذا يدخل في الموالاة والمشابهة، وفي هذا من الأدلة الكثيرة ما لا يحصى، كما بيَّنا في الآيات، قال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] وغير ذلك، فمن موالاتهم أن تحضر أعيادهم وأن تكون أعيادً للمسلمين، فتكون أعياداً حزب الشيطان وأوليائه أعياداً لأولياء الرحمن وحزب الله تبارك وتعالى، وهذا أمر يتنافى مع هذه الأدلة، بل يتنافى مع ما طبع الله عليه النفوس من النفور من المخالف، ولا أحد يخالفك أشد ممن يخالفك في دينك. وأضرب لكم مثلاً من الواقع: انظروا إلى لاعبي الكرة! هل يمكن أن ينزل إلى الميدان فريقان من لاعبي الكرة، ويكون لباسهما واحد، وشعارهما واحد؟ لا يمكن. لماذا؟ لأنهما فريقان متقابلان متنافسان، متصارعان متباريان، فهل في الدنيا عداوة أشد من عداوة المؤمنين والكافرين؟ وهل من عدوين يجب أن يتباغضا ويتهاجرا ويتباعدا أشد من المؤمنين والكافرين؟ وهل هناك نسبة أو تقارب بين أصحاب الصراط المستقيم وأصحاب المغضوب عليهم والضالين؟ وهل هناك تقارب أو تسوية بين من يهدي إلى الجنة ومن يهدي إلى النار؟ وبين المتقين والفجار؟ لا يمكن أبداً. إذاً: حتى في نفوس الناس ركز الله هذا وجعله في طباعهم. ولو أن رجلاً في دولة تحارب الشيوعية، ارتدى رداء الشيوعيين أو أي شعار، لضُرب وأوذي! ولا يستطيع أحد الآن في أوروبا أو أمريكا أن يحتفل بعيد من أعياد النازية، ولا أن يرتدي شعار النازية ويضعه على صدره ويمشي في الشارع لأن النازية في نظرهم عدو لهم، فيا سبحان الله!! كيف بالعداوة التي هي في الدين؟! وهي التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وهي أعظم فُرقان يجب أن يكون بين المؤمنين وبين الكافرين.

بدعية الأعياد

بدعية الأعياد المأخذ الثاني من الأدلة الكلية: هي أن هذه الأعياد من البدع، والمشاركة فيها من البدع، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من بعده والمسلمون جميعاً في العصور المفضلة لم يحضروا أبداً، ولم يشاركوا بأي شكل من الأشكال في هذه البدع المحدثة، بل قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فهذه بدع عُظمى، وفيها مع المشابهة والموالاة أنها محدثه. فلو أحدث بعض المنتسبين إلى الإسلام، كـ شيعة أو خوارج أو صوفية عيداً، فهل الواجب علينا أن نحضره؟ لا يجوز لنا حضوره، ولو كان الذين ابتدعوه من أهل الإسلام، فما بالكم بحضور أعياد الكفار، فهو أشد بدعة، والنهي فيه أشد وأغلظ. إذاً هذان المأخذان هما المأخذان الكليان الأساسيان، وكل واحد منهما له من الأدلة التفصيلية الشيء الكثير الذي لا يتسع له المقام أن نذكره؛ وإنما نقتصر على التنبيه إليه.

الأصل في المسلمين مخالفة المشركين

الأصل في المسلمين مخالفة المشركين وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ من الأدلة الكلية -أيضاً- ما جاء في الشرع من المخالفة، ولو كان في أمور نفعلها نحن في ديننا. فمثلاً: نحن في ديننا نصلي لله تبارك وتعالى، ولا نصلي ولا نسجد لغيره أبداً، ومع ذلك فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى كما في الحديث الصحيح من حديث عمرو بن عبسة: {نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها} وعلل ذلك بعلتين: الأولى: أنها تطلع بين قرني شيطان. الثانية: أنه يسجد لها الكفار حينئذٍ. انظروا! إنه لما كان الكفار يسجدون لها حينئذٍ، ونحن نسجد لله تبارك وتعالى، لكن لما كان الزمن قد يتوافق، فنوافقهم في زمن عبادتهم، مع أن معبودنا غير معبودهم، نهينا أن نعبد ربنا في هذا الظرف، وهذا دليل على أن ما عدا ذلك هو أشد مخالفة ونهياً وزجراً. وأدلة هناك كثيرة في المخالفة، فقد أمرنا مثلاً: أن نعجل الإفطار في رمضان لأن تأخيره من شأن وديدن أهل الكتاب، وقد يقول قائل: أنا مسلم، وصمت لله تعالى، فما لي ولمن صام لغير الله، فإنه لا حرج عليَّ أن أؤخر الإفطار، فنقول له: لا. حتى هذا نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، منعاً للتشبه بهم. إذاً: فكيف بمن يشاركهم في شعيرة من شعائر دينهم، وفي عمل من أعمالهم؟ لا ريب أن ذلك حرام. وكذلك الأدلة العامة في مخالفة المجوس، كما في الأمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب، وغير ذلك مما علله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو صدره بقوله: {خالفوا المشركين} {خالفوا المجوس} أو {خالفوا اليهود} فهذه الأدلة كلها تدل على أنه حتى في الأمور التي هي من جنس ديننا وعبادتنا أو من جنس العادات التي قد يفعلها بعض الناس، حرَّم علينا ديننا أن نشابههم فيها، بل جعلت مخالفتهم أصلاً من أصول ديننا، فيتصدر الأمر بقوله: {خالفوا}. إذاً تكون القاعدة، إن الأصل فيك أن تخالف، وفي ذلك أيضاً أدلة كثيرة لا يتسع المقام لها.

الأدلة التفصيلية في حكم الاحتفال بأعياد الكفار

الأدلة التفصيلية في حكم الاحتفال بأعياد الكفار

الذين لا يشهدون الزور

الذين لا يشهدون الزور وصف الله عباد الرحمن المؤمنين في آخر سورة الفرقان، فقال من جملة الآيات: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] فنقل العلماء والمفسرون كما في الدر المنثور، عن بعض التابعين- مجاهد والضحاك وعكرمة وغيرهم أن ذلك أعياد المشركين، أي: لا يحضرون أعياد المشركين , وهذا ما نصوا عليه بالنص، ولا ريب أنه لا يقتصر عليه، لكن المقصود أنه الشهود، وأصح القولين في الشهود هو الحضور، كما نقول: من شهد الجنازة، أو من شهد يوم عرفة إلى غير ذلك، فالشهود يكون هو الحضور، فالذين لا يشهدون الزور، من فسرها من العلماء جعل هذا النموذج نموذجاً للزور الواضح الذي لا شك فيه، فالمؤمن لا يشهد ويحضر أعيادهم، وأماكن لهوهم أو لعبهم، كما صرح بذلك كثير منهم.

للمسلمين عيدان فقط

للمسلمين عيدان فقط أما من السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، منها: حديث أنس رضي الله عنه قال: {قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما -كعادة الأمم (الروم والفرس) كل أمةٍ لها أعياد، فكان للعرب في الجاهلية يومان يلعب فيهما أهل المدينة - فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نعلب فيهما في الجاهلية، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر} وهذا حديث رواه أبو داوود، وقال شَيْخ الإِسْلامِ: إن إسناده على شرط مسلم. ووجه الدلالة في هذا: " إن العيدين الجاهليين لم يقرهما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة " بل نص على البديل فقال: {إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما} فهل يجتمع البديل والمبدل منه؟ لا يجتمعان أبداً. إذاً: فلا بد أن نضع هذا مكان هذا، ولا يمكن أن نحتفل بأي يوم يحتفل به المشركون أبداً، فوجه الدلالة في هذا واضح. ويعلق شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في الاقتضاء على هذا فيقول: " أيضاً فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه، مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة " فهنا شَيْخ الإِسْلامِ يستدل بالواقع، ففي أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأيام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لا وجود لهذين العيدين بل أكثر المسلمين لم يكونوا يعلمون متى كان موعد هذين العيدين، وهذا دليل على استئصال الشرع لهما استئصالاً نهائياً، حتى لم يبق لهما ذِكَرٌ أو أثر. فالنهي يكون من أشد أنواع النهي وأشد أنواع التغليظ -كما ذكر رحمه الله- مع تشوق النفوس إلى العيد، وإلى الفرح وخاصة كما ذكر: من النساء والأطفال والفارغين من الناس، وهو صادق؛ فما أكثر الفارغين من الناس اليوم الذين يحبون الأعياد، ويتمنون أن يكون في كل شهر حفلات وأعياد وعطل، والنساء كذلك يردن الزينة والبهرجة والفرحة، والأطفال. فرغم قوة الداعي لبقاء هذين اليومين في نفوس الناس إلا أنهما استؤصلا واجتثا؛ حتى لم يبق لهما من أثر. فهذا دليل على قوة المعارض وقوة المانع وهو حرصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرص أصحابه ومعرفتهم بأن هذا لا يجوز أبداً بخلاف بعض الأمور التي بقي لها أثر كالنياحة، وغير ذلك من أمر الجاهلية التي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها تبقى، لكن هذا ذهب واستؤصل بالكامل. قد يقول الواحد منكم: هذه أعياد الجاهلية قد استؤصلت، فأعياد أهل الكتاب أمرنا شرعاً أن نقرهم عليها، فعندما يدخلون في عقد الذمة نقرهم على دينهم، ومن جملة دينهم الاحتفال بأعيادهم، وهذه الشبهة -أيها الإخوة- سوف تسمعونها في الجرائد والتلفاز، والإذاعات وغير ذلك، عندما تأتي هذه الأعياد وتفتح الإذاعات العربية، إلا ما رحم الله فتجدها كلها تحتفل بهذه الذكرى، فمن جملة من يأتي، ويتفلسف ويبرر ويقول: إن هذه الأعياد أقرت من جملة دينهم الذي أقر، وأن الإسلام يحترم أهل الكتاب، فـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يرد على هذا رداً قوياً فيقول: " المحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها، أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حُذروا من مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر، عند اخترام أنفس المؤمنين عموماً " عندما تقرب الساعة وتدنو، يلتحق فئام من أمتى بالمشركين وتضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة -وما أشبه ذلك من الأدلة- قال: هذا عند نهاية الزمان، أما أن تعود الجاهلية تلك التي كانت قبل قدومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة بأعيادها، فلا تعود أبداً، فالنهي عن الشيء المتكرر والواقع والفتنة به أشد بلا ريب، فقال: " ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله " أقل ما يقال: إن أعياد أهل الكتاب هي مثل أعياد الجاهليين. إذاً الشر الذي له فاعل موجود، يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي. فوجه الاستدلال: الشر الذي له أهل ويقومون به، هذا المقتضي والدافع له أقوى من غيره، وقد زاد في زماننا هذا دافع آخر لهذا الشر، وهو دافع عظيم من أهم الدوافع على المشاركة، وهو: أن الكفار ظاهرون غالبون وممكنون، استدراجاً من الله لهم، وإلا لا يغرنا، وأنهم، وهم متحضرون ومتطورون، فتقتدي بهم أمم العالم جميعاً، ومنها أكثر المسلمين مع الأسف الشديد، فهذه تضاف إلى تلك. فإذا كان شَيْخ الإِسْلامِ تحدث عنهم وهم في زمنه أهل ذلة وصغار مضروبة عليهم الجزية، وهم في بلاد الشام، أما في هذه الجزيرة فقد حماها الله وطهرها، لا يجتمع فيها دينان، ولا يجوز أن يقروا فيها أصلا، لكن هنالك من أهل الذمة مضروب عليهم الذل والصغار ويكون الداعي أشد لوجودهم. ويذكر أن النساء والأطفال في عدة مواضع من كتابه وفي الفتاوى: أن النساء والأطفال والجُهال والفارغين يشاركونهم ويفرحون بأعيادهم، فما بالكم في هذا الزمان الذي زاد فيه هذا الداعي وهذا الدافع؟ إذاً يجب أن يكون الإنكار أشد وأكثر، وإلا كان من المحظور ما لا تحمد عاقبته، الذي قد يؤدي إلى الكفر نسأل الله العفو والعافية على ما سنذكر في الأدلة الأخرى.

عدم الوفاء بالنذر في مكان عيد الكفار

عدم الوفاء بالنذر في مكان عيد الكفار ومن الأدلة: حديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينحر إبلاً بـ بوانة - وهذا في كتاب التوحيد قد جعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب باب "لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله" فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له: {هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟ قال: لا. قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا، قال: فأوفِ بنذرك، فإنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم} وهذا حديث صحيح أصله في الصحيحين وهو بلفظه هذا على شرط الصحيحين كما ذكر رحمه الله. وبعد أن ذكر الروايات الأخرى، قال: " وجه الدلالة، أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعماً: إما إبلاً وإما غنماً، وإما كانت قضيتين في بمكان سماه: بوانة يقال: إنها قريب من ينبع، مكان قريب معروف في أيامهم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل كان فيها كذا أو هل كان فيها كذا؟ فهذا يدل على أن الذبح في بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله تعالى من وجوه: الوجه الأول: أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فأوفِ بنذرك} لماذا هذه الفاء؟ هي تعقبية، وتعني أن الحكم مترتب على ذلك -أي: فتفي بنذرك- فإذا لم يوجد محظور فأوفِ بنذرك، فلو لم يكن كذلك لقال: لا تفِ به. الوجه الثاني: أنه عقب بقوله: {لا وفاء لنذر في معصية الله} ومعنى ذلك أنه لو كان هناك ما يوجب التحريم لما جاز. إذاً كأنه قال له: حيث لا يوجد مانع ولا يوجد ما يقتضي التحريم ولا يجعله معصية؛ فأوفِ بنذرك، فدل ذلك على أن هذا معصية لا يوفى بالنذر فيها، أي لو كان مكانه عيداً من أعياد الجاهلية. الوجه الثالث: يقول: إنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزاً، لسوغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناذر الوفاء به، كما سوغ لمن نذرت أن تضرب بالدف؛ أن تضرب به، بل لأوجب الوفاء به، إذا كان الذبح بالمكان المنذور واجب " فنلاحظ أن وجه الدلالة -هذا- دقيق، وقد يكون واضحاً إن شاء الله. إذا كان الإنسان لا يجب عليه فعل من الأفعال، ولكن نذر أن يفعله وهو طاعة، فيكون حكمه الوجوب عليه، والنهي عن النذر معروف، لأنه يستخرج به من مال البخيل، لكن لو نذر وجب عليه أن يفي بنذره. الوجه الرابع: أنه وجب عليه أن يفي بنذره بعد أن انتفت الموانع، فإذا كان الوفاء بالنذر أشد حكماً، لأن حكمه الوجوب والآخر حكمه الإباحة من الشيء الذي أصله مباح. فإذاً المقتضي والداعي لأن يفعله الرجل في هذا المكان أشد، وهذا واضح وظاهر، فلما جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمانع يمنع هذا الوجوب الواضح الظاهر القوي، دل ذلك على قوة هذا المانع، فإنه لو وُجِدَ لما جاز له أن يفعله. إذاً: وجود عيد من أعياد الجاهلية في هذا المكان مانع قوي، يجعلك لا تفعل، ولو نذرت، فكيف لو تطوع أحد، وذهب إلى بقعة من البقاع التي فيها أعياد المشركين، فهذا يكون بلا ريب حراماً، والحديث يدل على ذلك أشد مما يدل على دلالته في عدم الوفاء بالنذر. وهناك ملحوظ آخر في هذا الحديث، وهو أنه إذا كان من أجل تخصيص البقعة -وهو الظاهر -فهذا إنما نهي عن البقعة لأنها موضع عيدهم، ولهذا لما خلت من ذلك أذن في الذبح لهم، فقصد التخصيص باق، فعلم أن المحظور تخصيص بقعة عيدهم، فكيف نفس عيدهم. أي: إذا كانت بقعة العيد يحرم فعل الشيء فيها، حيث لم يكن في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عيد؛ بل جاء أن هذا كان في آخر أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الرجل سأله في حجة الوداع؛ بعد أن طمست أعياد الجاهلية جميعاً، إنما الاتفاق في الموقع فقط، ومع ذلك يسأله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو قال: نعم يا رسول الله! كان فيها عيد، لقال: لا تفعل. فكيف إذا اتفق الزمان والمكان ووجود الكفار واحتفالهم وحضورهم؟! لا شك أن هذا يدل دلالة قطعية على تحريم ذلك والله المستعان. ثم أعاد رحمه الله الكرة وهذا مهم جداً في أن أعياد الكتابيين أشد، فإذا كان هذا الزجر والنهي كما في هذا الحديث عن أعياد الجاهليين، فالكتابيين اليهود والنصارى النهي في حقهم أشد.

حديث: (لكل قوم عيدا وهذا عيدنا)

حديث: (لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) ومن الأدلة أيضاً على ذلك الحديث الذي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: {أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليه أبو بكر الصديق، وعنده جاريتان تغنيان من جواري الأنصار، وما هما بمغنيتان -أي: إنما جاريتان صغيرتان تغنيان عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال أبو بكر رضي الله عنه: أبمزمور الشيطان بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا بكر دعهما فإن لكل قوم عيد وهذا عيدنا} فماذا نأخذ من هذا الحديث؟ أولاً: أن قوله: {إن لكل قوم عيد وهذا عيدنا} يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، يختصون به عن سواهم، وإلا كانت الأيام مشتركة والأعياد مشتركة، وهذا كما في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]، فشريعتنا غير شريعتهم، وقبلتنا غير قبلتهم، وعبادتنا غير عبادتهم، وصلاتنا غير صلاتهم، وصيامنا غير صيامهم، فكذلك عيدنا غير عيدهم، فلا هم يتبعون قبلتنا وعبادتنا وصيامنا ولا نحن نتبع قبلتهم وصيامهم ولا كذلك أعيادهم. إذاً: لكل قوم وأمة ونحلة عيد ونحن هذا عيدنا، فلا يشاركوننا فيه ولا نحن نشاركهم في أعيادهم. ثانيا: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وهذا عيدنا} يدل على الاختصاص، أي: لا عيد لنا سواه، وليس المقصود فقط ذلك اليوم، وإنما هما يومان، وهذا من الجنس: أي لا عيد لنا إلا هذا العيد المشروع، فدل على أنهما اليومان فقط، ودل على أنه لا عيد لنا سوى ذلك، فحتى لو أردنا أن نجعل لنا عيداً -كالعيد الوطني أو عيد التحرير أو عيد الاستقلال، أو أي عيد نجعله لنا- ولا نشابه فيه أحداً من الكفار، لما جاز ذلك لنا أبداً. فكيف إذا كنا نفعل عيداً هو من أعياد الكفار، ونقيم شعائر هي من شعائر الكفار؟! لا شك أن ذلك يكون أشد وأعظم حرمة. يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: إن تعليل الإباحة للجواري بأن ذلك في يوم عيدنا، فيه دلالة على أن الإذن باللعب لأن هذا اليوم خاص بنا، فهذا اللهو وهذا اللعب خاص بنا، ولا يتعدى إلى أعياد الكفار. فإذاً لا يرخص باللعب في أعياد الكفار، فهما تلعبان أو تضربان لأنهما في عيدنا، فلو كان في عيد غيرنا لما أذن لهما.

عدم مشاركة المسلمين لأعياد الكفار من أول الإسلام

عدم مشاركة المسلمين لأعياد الكفار من أول الإسلام ومن الأدلة على ذلك -وهذا يمكن أن نسميه دليل الواقع- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعثه الله كان اليهود في جزيرة العرب في أماكن كثيرة، في المدينة، وخيبر، والنصارى كانوا في نجران، واليمن -في صنعاء وغيرها- فكان اليهود والنصارى موجودين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أول ما جاء الإسلام، وكذلك كان الفرس وديانة المجوس في البحرين -في شرق جزيرة العرب - ونحو ذلك. ومع ذلك من تأمل ونظر في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علم علماً يقينياً قطعياً، أنه لم يكن المسلمون يشاركونهم في أي عيد من أعيادهم أبداً، ولم يقع ذلك من أحد من الصحابة أو التابعين، حتى لو تتبعنا السير لا نجد أن نساء المؤمنين أو أطفالهم شاركوا أولئك في أعيادهم، وذلك لأنهم أمة عرفوا الله، ومعنى لا إله إلا الله، وعزة الإيمان، وعرفوا أنهم على طريق الجنة والصراط المستقيم، وأن أولئك على طريق الكفر والضلال واللعنة والغضب، فلا نسبة بيننا وبينهم، ولا يمكن أن نقاربهم أو ندانيهم في شيء من شعائر دينهم. هذا كله مع أنه قد ثبت وجود التعامل معهم في أمور الدنيا الاعتيادية كالمبايعة، والمخالطة في الأسواق، وفي البلاد، وفي السكنى والمجاورة، وكثير من الأحكام، بل حتى رد السلام والتعارف كان موجوداً بينهم، والتعارف، وكثير من الأمور كانت موجودة؛ بعضها نسخ وبعضها لم ينسخ. والمقصود أن وجودهم كان حاضراً بين المسلمين ولم يثبت أبداً أي مشاركة لهم في أعيادهم، فهذا دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم علموا وأيقنوا أن أعيادهم جزء من عقيدتهم، فكما لا نوافقهم على عبادة المسيح عليه السلام أو عزير أو تحريفهم للتوراة أو إنكارهم لنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا مثل ذلك، فكذلك لا نوافقهم في أعيادهم، لأنها من دينهم. فهذا كان حالهم رضي الله عنهم، ومن بعدهم، وهذا ما نسميه دليل الواقع.

تميزنا بعيد الجمعة

تميزنا بعيد الجمعة ومن الأدلة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث الذي في الصحيحين {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة} فنحن الآخرون في الأمم، زماناً، السابقون يوم القيامة، قال: {بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد، ونحن -أي: يوم عيدنا- يوم الجمعة} وهذا في العيد الأسبوعي. فانظروا وقيسوا العيد الحولي على العيد الأسبوعي، فالعيد الأسبوعي الذي يتكرر كثيراً وهو قريب من أيامهم، ومع ذلك اختصنا الله تبارك وتعالى بعيد أسبوعي نخالفهم به، وفضلنا به، وجعل ذلك أحد العلامات التي تدل على أننا نخالفهم، وأن الله تعالى هدانا وأضلهم، وأرانا الصراط المستقيم وأغواهم عنه، فنحن لنا الجمعة وهم لهم اليومان المعروفان للجميع. إذاً هذا دليل كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: " وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي إذ لا فرق، بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي، فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك ".

الأنبياء يستخدمون التقويم القمري

الأنبياء يستخدمون التقويم القمري وهنا ملحوظ آخر وهو أن ما كان من الأعياد كان بالتقويم العربي أو الهجري. وهكذا كانت العرب يحسبون على منازل الهلال، بل كان كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ: " أن الرسل والأنبياء كانوا يشرعون لأممهم وكانت شرائعهم كلها على الهلال " سبحان الله! هذه كلمة لما قرأتها تعجبت من سعة علمه رضي الله عنه، يقول: أي نبي من الأنبياء يقول: شهر أو يقول: سنة فإنما يقصد الشهور الهلالية، أما الفلاسفة ومن تبعهم وهذا مأخوذ عن قدماء الفلكيين من الصابئين، فإنهم يوقتون بالشهور الشمسية، فيقول: نحن منهيون أن نتخذ هذا التقويم، وما كان من شهورهم فهو أشد حرمة مما كان من شهورنا، لأن فيه زيادة اختصاص لهم، لأنه ليس من شرائع الأنبياء أبداً أن يوقتوا بهذا. فهي -كما ذكرها- أوقات معروفة في أيام الأشهر الرومية، وإلى الآن تستخدم في بلاد الشام والعراق وهي: حزيران، ونيسان، وآذار إلى آخره، بينما الغربيين يستخدمون، يناير، فبراير، مارس إلى آخره.

إجماع السلف على عدم حضور أعيادهم

إجماع السلف على عدم حضور أعيادهم وهناك دليل آخر عظيم جداً على مسألة عدم حضور أعيادهم وهو دليل الإجماع، فالإجماع فلم يعهد أو يؤثر عن أحد من الصحابة أو التابعين أو من سلف الأمة وفقهائهم أنه حضر عيداً من أعيادهم أو أقره على الإطلاق.

ما ورد من آثار عن الصحابة والتابعين

ما ورد من آثار عن الصحابة والتابعين نذكر الآن بعض ما ورد من آثار عن الصحابة وعن التابعين رضي الله عنهم في ذلك ولا سيما الصحابة.

الشروط العمرية

الشروط العمرية عمر رضي الله عنه، له في هذا مواقف عظيمة، أعظمها وأشهرها الشروط العمرية، التي فرضها على أهل الكتاب، فأصبحت -ولله الحمد- سنة متبعة أجمع الفقهاء عليها، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، لكن الأصل العام أن الفقهاء اتخذوا الشروط العمرية دليلاً ومنهاجاً لهم في معاملة أهل الذمة، وهذا من سنن الخلفاء الراشدين؛ التي أُمِرَت الأمة أن تتبعها وأن تأخذها. فمما اشترطه عمر رضي الله عنه عليهم: ألا يظهروا شيئاً من أعيادهم -وهذا في بلاد الشام حيث أهل الذمة، أما في جزيرة العرب فننبه مراراً أنه لا يجوز أصلاً أن يدخلوا فيها، فضلاً عن أن يعلنوا فيها شعائر دينهم أو أعيادهم- فـ عمر رضي الله عنه، مع ما فرض عليهم من أمر الله، وما ألزمهم به من الذل والصغار والجزية، ومع ذلك اشترط عليهم شرطاً واضحاً صريحاً ألاَّ يعلنوا عن أعيادهم في دار الإسلام أو بين المسلمين، فهي من جملة دينهم يتخفون به في بيعهم أو كنائسهم وما أشبه ذلك.

النهي عن تعليم رطانة الأعاجم

النهي عن تعليم رطانة الأعاجم وروى البيهقي -أيضاً- كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ بإسناد صحيح أن عمر رضي الله عنه، قال: [[لا تعلموا رطانة الأعاجم]] وهذا موضوع مهم، تفشي العمل بخلافه في هذا الزمن، فقد صار أصحاب الأعمال يعلنون عن أعمال في الصحف، يفضل في المتقدمين لها من لديه إلمام بسيط بلغة الأعاجم، وكذلك فقد أصبح الناس يحثون على السفر إلى بلاد الكفار رغم أنهم يُنصحون بأنها بلاد لا يجوز الذهاب إليها إلا للضرورة، لأنها بلاد كفار، فيقول أحدهم: لو لم يكن من فائدة من الذهاب! إلا تعلم اللغة لكفت، فما فائدة اللغة إن لم تكن لمصلحة شرعية؟! فهي من جملة المشابهة وهي تورث محبتهم بلا ريب، وهذا له تفصيل آخر. كن المقصود أن عمر رضي الله عنه نهى عن أمرين: عن رطانتهم، وعن الدخول في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم -ينزل سخط الله عليهم- في يوم عيدهم، وفي كنائسهم. فإذا جاء شخص، وقال: اليوم عيد النصارى، دعنا نذهب إلى الكنيسة ننظر ماذا يصنعون، فهذا هو الذي قصده عمر رضي الله عنه، أما أن يشاركهم المسلم في أعيادهم وأن يهنئهم بها، فهذا من دينهم، ولكن هذا الفرجة يقول: لا تدخلوا عليهم لأنها مكان سخط، ومكان نزول عذاب -نسأل الله العفو والعافية- وغضب من الله؛ فربما يهلكهم الله عز وجل بما يعلنون من الشرك والكفر، فيهلك معهم هذا المسلم المؤمن.

النهي عن البناء والإقامة عندهم

النهي عن البناء والإقامة عندهم وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: [[من بنى ببلاد الأعاجم أو أقام، فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة]] ويعقب شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله فذكر: أن هذا يحتمل أنه يقصد أنه يكفر، قال: وإن لم يكن يكفر من يفعل ذلك فلا شك أنه دليل على أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يرى ذلك من الكبائر المحرمة وكل واحدة من هذه الأمور منكر برأسه، وليس المقصود اجتماع هذه المنكرات جميعاً حتى يكون كذلك، بل كل واحد منكر، فالإقامة عندهم من غير حاجة أو ضرورة منكر، وحضور النيروز منكر، والمشاركة في أمورهم، والتشبه بهم منكر على انفراد، نسأل الله العفو والعافية.

عدم مشاركتهم في أسمائهم

عدم مشاركتهم في أسمائهم علي رضي الله، عنه وكان -كما تعلمون- قد أقام هنالك في العراق وهم مجاورون للفرس فجاءه رجل، وقال: يا أمير المؤمنين! هذه هدية، قال: ما هذه الهدية؟ قال: هذا يوم النيروز -أظنه يوافق أول أيام الربيع- قال علي رضي الله عنه: [[فاصنعوا كل يوم فيروزاً]] فهم قالوا: نيروز -وهذا اسمه إلى الآن- قال: اصنعوا كل يوم فيروزاً، فغيَّر الاسم ولم يرضَ أن يشاركهم حتى في الاسم، وقال: اصنعوا كل يوم فيروزاً، حتى تنتفي المشابهة، فهم يتهادون الهدايا في يوم معين، ونحن كل يوم نصنع هذا الطعام، كفاكهة ورياحين معينة تقدم لتشم، ويقال: هذا عيد النيروز، قال: اصنعوا كل يوم فيروزاً، يعني تغير عليهم، ليصبح يوماً عادياً جداً، فلا يظهر أنك تحتفل بهذا العيد أو تشاركهم فيه. فهذا من شدة حرص الصحابة رضي الله عنهم، وما نسميه الحساسية من مشابهة المشركين في هذا.

إجماع الفقهاء على تحريم مشابهة الكفار ودخول أعيادهم

إجماع الفقهاء على تحريم مشابهة الكفار ودخول أعيادهم كل الفقهاء مجمعون على تحريم مشابهة هؤلاء الكفار، وحضور أعيادهم ومشاركتهم فيها، قال ابن القاسم من فقهاء المالكية المشهورين: من ذبح بطيخة في يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيراً، أي: أنه إذا وافق يوم عيدهم، واشتريت بطيخة، ثم ذبحتها فكأنما ذبحت خنزيراً وشاركتهم في عيدهم، إذاً لا تذبحها في هذا اليوم. والحنفية أشد، فقد قالوا: من أهدى إلى رجل في يوم النيروز بيضة على سبيل التعظيم والإهداء في ذلك اليوم فقد كفر، فهو بسبب بيضة يكفر، ليس كرتاً فيه: إننا نهنئكم بهذه المناسبة السعيدة، ونسأل الله أن يعيدها علينا وعليكم بالحب والفرح، وغير ذلك. فبيضة يعطيها في يوم النيروز على سبيل أنها من هذه الهدايا كفر، هكذا نص الحنفية، ولا غرابة؛ فإن في مذهبهم مثل هذا النوع من المسائل، فإذا اقترن بذلك الكفر الصريح كتعليق الصلبان وإظهار هذه الشعائر، وحضور الحفل الذي يبدأ فيها بعباداتهم أو بصلواتهم، فيقال: باسم الأب والابن وروح القدس إلهاً واحداً، وكذلك ما يمازجه -والعياذ بالله- من المنكرات كالاختلاط وشرب الخمور والفجور وما أشبه ذلك، فهذا يكون لا شك أنه أعظم بكثير من قضية إهداء البيضة. إذاً: كتاب الله تبارك وتعالى وما في ديننا من أدلة كلية وأدلة تفصيلة في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما ذكرنا من هذه الأحاديث ومن فعل الصحابة الكرام وفعل السلف الصالح وكلام الفقهاء جميعاً. ولو نظرتم إلى ما قال الإمام أحمد، فهو أيضاً من أشد الناس بعداً عن هذا وتحذيراً منه، والفقهاء جميعاً الحنفية والمالكية والحنبلية والشافعية، وكل الفقهاء الآخرين حتى الظاهرية كـ ابن حزم رحمه الله له كلام عظيم جداً في أحكام أهل الكتاب وفي مشابهتهم، وكل هذا يدل دلالة قطعية صريحة على تحريم الاحتفال بأعيادهم أو مشاركتهم فيها، وأنَّ هذا مشاركة لهم في الكفر في شعائر من شعائرهم، وشريعة من شرائعهم فهو كفر عملي. وإذا اقترن هذا العمل اعتقاد أن دينهم حق أو أن ما هم عليه صحيح، وإقرارهم بذلك، فلا شك أنه يصبح كفراً أكبر مخرجاً من الملة والعياذ بالله. فانظروا أي خطر ماحق ساحق يحيق بمن يشارك هؤلاء أو يقرهم عليه، وفي المقابل انظروا أي واجب عظيم علينا، تجاه هذه المنكرات التي يعلن بها ويجاهر بها وبوسائلها وذرائعها في بلاد الإسلام، نسأل الله العفو والعافية. هناك أدلة كثيرة لم نذكرها وإن كانت تدخل فيما سماه شَيْخ الإِسْلامِ (الاعتبار) يعني النظر العقلي السليم الذي به تحرم مشابهة الكفار وموالاتهم في أعيادهم فليراجعها الإخوة الكرام في كتاب الاقتضاء.

الحلول المعينة على درء منكر إقامة أعياد الكفار

الحلول المعينة على درء منكر إقامة أعياد الكفار ولعلكم تسألون قبل أن نجيبكم على الأسئلة عن الحلول، ما هي الحلول التي يمكن أن نتخذها لدرء ومنع هذا المنكر الكبير؟

النصح باللسان

النصح باللسان أولاً: أهمية الكلمة وقوة الكلمة، فإن الله تبارك وتعالى بعث رسله الكرام يدعون الناس بالكلام وبالبلاغ وبالنذارة، ثم بعد ذلك يكون منهم الجهاد، لكن الكلمة هي الأساس، فنحن ما بين واعظ ومدرس ومتحدث إن لم يكن كذلك، فهو في عمله يستطيع أن يتحدث. فيجب على الإخوة الخطباء أن يخطبوا الجُمَع بهذا الشأن ويجذروا الناس من خطره. فالخُطَب إذاً مهمة جداً، والحمد لله صلاة الجُمُعَةِ يحضرها عامة الناس، ونحن طلاب علم في الغالب، لكن الجُمعة في هذا المسجد وغيره يجتمع عدد كبير من الناس ومن كل الفئات، فلا بد من إقامة الحجة عليهم بهذه الأدلة، وبما يفتح الله عليكم من غيرها فلا يخفى عليكم ذلك. إذاً خطب الجمعة يكون فيها ذلك، وكذلك المواعظ التي يجب أن يقوم بها الإخوة هذه الأيام، ونتجول في المساجد ونحذر الناس من ذلك. ولقد وصلتنا أخبار أن بعض المستشفيات قد علقوا لافتات فيها عبارة: عيد سعيد، فإذن بدأ أهل الفساد يعملون ويشتغلون ولا بد أن يعمل أهل الإصلاح من الآن في المواعظ هذه.

نشر المحاضرات والفتاوى

نشر المحاضرات والفتاوى ثانياً: نشر المحاضرات والفتاوى والأحكام المتعلقة بهذه القضية وبهذا العيد، ومن ذلك فتوى سماحة الشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين تستطيعون الحصول عليها، ونرجو من كل مندوب حي أن يأخذ منها صوراً ويوزع ولو عشراً في كل مسجد، ثم كل واحد منكم إذا أخذ نسخة أو قرأها يصور منها مجموعة ويوزعها. ومن أراد زيادة في الفتاوى كفتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء التي يرأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فتوى رقم (2540) ورقم (3326) ورقم (9254) ورقم (8848) وإن كانت موجزة لكنها صريحة وهي موجودة، فمن حصل منكم على كتاب فتاوى اللجنة الذي خرج وطبع مؤخراً، فيجدها فإنها موجودة في الجزء الأول من صفحة (48) فما بعدها، تنشر وتوزع وتعلق في المساجد وهذا أحد الوسائل.

التوعية في المدارس

التوعية في المدارس ثالثاً: والغالب أننا في حقل التعليم، وكثير من الإخوة في حقل التعليم، فالمدارس وسيلة مهمة جداً لنشر هذا الوعي، والطفل أو الطالب سوف يبلغ ذلك، ويُلزم ويقال له ذلك أن يبلغه لأهله وجيرانه ولمن يستطيع، وهذا إن شاء الله في الإمكان.

تعليق تراجم للفتاوى في الشركات

تعليق تراجم للفتاوى في الشركات رابعاً: يجب أن تعلق هذه الفتاوى مترجمة في الشركات التي يكون فيها كفار، وفتوى الشيخ ابن عثيمين مترجمة موجودة. فتعلق في الشركات والمؤسسات، ولا يُكْتَفى بهذا، بل تعلق الأوامر الحكومية التي تمنع من القيام بمثل هذه الاحتفالات، بل لا نكتفي بذلك بل نطالب بأوامر جديدة هذه الأيام وتترجم وتعلق وتختم في جميع الإدارات وجميع الشركات، قد يكون في الحضور من هو مسئول أو نحن يجب أن نبلغهم، كل منا من طريقه، فهذا لا بد منه. ومن يعملون في هذه الشركات الواجب عليهم أكثر أن يخاطبوا المسئولين، ويكتبوا بالقنوات الرسمية المعروفة، ويطلبوا التعاميم السابقة إن لم تكن موجودة أو تعاميم جديدة تَنهى عن هذا، وتترجم بحسب لغة القوم، فإن عندنا كفار والعياذ بالله من جميع الأجناس، فمنهم: الألماني، والفرنسي، والإنجليزي، وغيرهم، فنترجم ما استطعنا بحسب الشركات، وتعلق على أبواب ومكان بارز، يراه هؤلاء أعداء الله تعالى أو من قد يشاركهم في ذلك من المسلمين.

دور وسائل الإعلام

دور وسائل الإعلام خامساً: كذلك الصحافة، فالإخوة مندوبي الصحف، ومنهم الصحافة أو الصفحات الإسلامية يجب أن تكتب وتكرر الكتابة عن هذا الأمر وتبين هذه الأحكام بالتفصيل، فيقرأها قطاع كبير من الناس بإذن الله تعالى، وكذلك يجب أن يعلن في الإذاعة، والتلفاز، وبأي وسيلة ممكنة من العلماء وغيرهم، بل يجب أن ننبه علماءنا الكرام إلى أن يجددوا فتاواهم، وأن يجددوا التحذير، وأن يكتبوا أيضاً لمن يهمه الأمر بهذا الشأن في زيادة التحذير، لأن علماءنا أثابهم الله في كل رمضان يُعلموننا أحكام الصيام، وفي كل حج يعلمونا أحكام الحج أو بدع الصيام والصلاة وهكذا، فكل شيء في وقته. فوقت هذه المواسم التي يحتفل فيها الكفار ينبغي أن نجدد فيها البلاغ والإنذار، والتحذير لهؤلاء ونذكر المسلمين بها، حتى لا يؤخذوا على غرة.

المعاقبة والردع عن المنكر

المعاقبة والردع عن المنكر سادساً: أيضاً يجب أن يعاقب من تسول له نفسه أن يتعدى هذه الأوامر، فلو علقت الإعلانات فجاء أحد يوزع كروتاً أو يبيعها فيجب أن يعاقب بعقوبة رادعة؛ لأن هؤلاء القوم لا ينفع معهم إلا الزجر والردع، وهذا من أوجب ما يجب على من بيده المسئولية؛ لأن الله سبحانه قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، وهذا من أعظم المنكر بلا ريب كما سمعنا في الأدلة. كذلك يجب على الرقابة الإعلامية أن تسحب كل كروت وبطاقات التهاني من المكتبات، وأن تتلف وتحرق، ويؤخذ عليهم التعهد الشديد بعدم بيعها مرة أخرى، كما يجب على إدارة الجمارك أو أي جهة مسئولية في موانئ المملكة البرية أو البحرية، ألا تسمح بدخول هذه البطاقات والكروت مرة أخرى، بحيث نأتي -إن شاء الله- في الأعوام القادمة فلا نجد في كتاب الإحصائيات ذكراً لهذا، ولا يستورد أي آلةٍ أو أي ذريعة من ذرائع هذه الأعياد الكفرية.

وضع تعميم على السفارات والقنصليات وغيرها

وضع تعميم على السفارات والقنصليات وغيرها فلابد أن يعمم على السفارات والقنصليات والبعثات والهيئات التي تظن أنها في حصانة، وليس لأحد حصانة أن يعصي الله، ويرتكب ما حرم الله، ويطلب منها أن تعمم على أفرادها، مثلما يعمموا عليهم موضوع اللباس والمطاوعة، وانتبهوا لهم إلى آخره، فهذا أهم وأولى وأوجب أن يعمموا لهم ويقولوا لهم: لا تجاهروا فهذا مخالف، ولا شك أن إقامتهم لعيدهم علانية، ومشاركة المسلمين فيها، ورفعهم الصلبان وما يتعلق بهذا هي أشد حرمة من الاختلاط والتبرج، لأن هذا يتعلق بالعقيدة، فهذا أمر خطير ونحن نحارب الكل، كل الكبائر وكل المنكرات لكن مجرد أنه يمشي في السوق أو تمشي في السوق وشعرها مكشوف، أشد منه أن تكون في حفل عيد الميلاد ويجتمع عندهم المسلمون مع ما قد يصحب ذلك، وهذا معروف عندهم أن الخمر والرقص والزنا والمزامير والفواحش، كل هذا لا يبالون بها، وحسبكم أنهم يجتمعون لشعيرة من شعائر دينهم، فماذا تتوقع من كافر يشرب الخمر ويخالطه ما يخالطه من المسلمين فتوقع بعد ذلك كل موبقة، نسأل الله العفو والعافية. وختاماً: هذه بعض الحلول ولا شك أن الإخوان لا يفوتهم غيرها وإنما هذا تنبيه على البعض، وانظروا مثلاً هناك كتاب تنصيري يوزع في مستشفى الملك عبد العزيز في حي المحجر، وترجمة ما فيه من كلام، من جملة ما يقول -وهو يباع بريالين كأي سلعة عادية- ومكتوب فيه: كلمتك يا عيسى هي المصباح على قدمي ونور يضيء لي دربي، هذا اليوم الذي صنعه الله اليوم، الذي نكون فيه سعداء، فلنمجد الله، راعينا الله، وكذا، وبعون الله، وهم يعنون بالله اي: المسيح عليه السلام، قبحهم الله وقاتلهم ولعنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] ومكتوب ما ترجمته: علقها في أي مكان اشتر بريالين وعلق في أي مكان. فهذا الكفر الصريح، ووالله ما جرَأهم على هذا وأمثاله إلا سكوتنا. أيضاً أخبرنا أحد الإخوة أن مستشفى الملك فهد علقت فيه لوحات مكتوب فيها: عيد سعيد، وهو عيدهم: عيد الكفر، بالإنجليزي والعربي طبعاً، أما نحن فالفتاوى لا نترجم حتى الآن، وهذا موضوع قد يكون خارجاً عن موضوع المحاضرة، لكنه مهم مع وجود هؤلاء الإخوة الكرام. ففي جريدة الجزيرة كتب الأستاذ فهد بن إبراهيم بن عبد العزيز آل إبراهيم يوم الثلاثاء موضوع الحسبة في الإسلام، وهذا الكلام جدير بأن يشكر صاحبه عليه، فمن استطاع منكم أثابكم الله فليشكر هذا الكاتب، ونحن في الحقيقة نشكر له ذلك، ونسأل الله أن يبارك فيه وفي أمثاله ممن يدافعون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونرجو الله أن يكثر من هؤلاء الأخيار في صحافتنا، وفي كل وسائل إعلامنا، وكما أننا نذكر أهل المنكر ونرى ديناً علينا أن نذكرهم ليعرفوا وينزجر الناس عنهم، ومن الدين أن نحب من يأمر بالمعروف ومن ينشره ومن ينتصر لدين الله تبارك وتعالى، ومنهم هذا الأخ الكاتب ادعوا له جميعاً، ومن استطاع منكم أن يشكر له فليفعل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم العمل مع من يقيم هذه الحفلات

حكم العمل مع من يقيم هذه الحفلات السؤال يقول: أنا أعمل مع أساتذة من الجامعة وخاصة باللغات الأوروبية، وهم يدعون أفراد القسم إلى حفلة الشكر، أو عيد الكريسمس، وبعضهم يصنع شجرة صغيرة يعلق عليها بعض الزخارف ويأتي بشراب فواكه ولحم الديك الرومي؟ والديك الرومي يأكله الأمريكان في عيد الشكر، هل عليّ إثم إذا استمريت في العمل بالقسم؟ A يجب عليك أن تنكر، ونأثم جميعاً -ولست وحدك- من أكبر مسئول في البلد إلى كل من بلغه هذا الكلام، إن لم ننكر مثل هذا المنكر، فيجب علينا جميعاً، كل بحسب استطاعته أن ننكر هذا المنكر، فأول من يجب أن ينكر وتبلغه عميد الكلية، فإن لم يسمع فوكيل الجامعة أو مديرها، فإن لم يسمع؛ فلتبلغ الإخوان خارج الجامعة.

موقف النبي في يوم عاشوراء

موقف النبي في يوم عاشوراء السؤال يقول: إن موقف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما جاء المدينة فوجد اليهود يحتفلون بيوم نجَّى الله فيه موسى، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نحن أولى بأخي موسى منهم} فصام ذلك اليوم وهو يوم عاشوراء، فهل نستطيع أن نقف موقفاً مشابهاً لموقف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنسبة لعيد النصارى؟ A ليس في هذا أي دليل على أية حال ولا سيما عند سؤالك عن عيد النصارى، لأنه كما أشرنا: أولاً: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك، وما فعله اتبعناه وما لم يفعله لم نتبعه. ثانياً: عيد النصارى محدث حتى في دينهم، فعيدهم يقترن به اعتقادهم أن المسيح عليه السلام صلب ورفع في هذا اليوم، هناك بعض أديانهم وطرائقهم وكنائسهم تعتقد هذا، ونحن نعتقد كما ذكر ربنا: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ثالثاً: أن صيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو غير صيام أهل الكتاب، فهذا صيام غير ذلك، ثم بعد ذلك نزل صيام رمضان، فعلى الأقل نقول: إن هذا يكفي أن نقتصر على ما ورد ولا نزيد عليه وهذا يكفينا، فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، مع ما يعارض ذلك من أدلة كلية وتفصيلية ذكرناها في هذا الشأن. أما من أخذ أو فهم منه -كما أسلفنا- أننا نصوم مخالفة لهم، فقلنا: إن الأولى ألا يكون ذلك؛ لأن الصيام تعظيم فيكون كأنا اشتركنا معهم في تعظيم عيدهم.

حكم وسائل الإعلام التي تبث أعياد الكفار

حكم وسائل الإعلام التي تبث أعياد الكفار Q ما حكم وسائل الإعلام التي تبث أعيادهم مثل صحيفة الشرق الأوسط ومجلة المجلة؟ A هذه الصحف وغيرها من المجلات التي تصدرها هذه المؤسسة المعروفة مثل صحيفة المسائية ومجلات الأطفال وسواها دائماً تأتي مليئة بتلك التهاني بأعياد الكفار، فهذا دأبهم والواجب أن ننكر عليهم بما استطعنا، وأقل شيء أن ننكر على وزارة الإعلام إدخالها أي مجلة فيها هذا الكلام, وخاصة إذا كانت سعودية؛ لأن الناس يعتبرون هذا قدوة، فيجب من الآن أن ننكر عليهم، وأن ننكر ونطالب بعدم دخول أي عدد تذكر فيه هذه الأعياد، وكما ذكرنا في الحلول الأخرى.

حكم بيع كروت التهنئة بأعياد الكفر

حكم بيع كروت التهنئة بأعياد الكفر Q ماحكم بيع كروت الأعياد؟ A ذكرنا أنه حرام وأنه قد يكون كفراً إذا اعتقد صاحبه أن هذا عيد جائز وسائغ وأن دينهم حق، وأن بيعها كبيع بقية الأشياء المباحة، فقد يكون كفراً، -نسأل الله العفو والعافية- ويجب أن تسحب هذه الكروت من جميع المكتبات التي تبيعها.

نصيحة لمن يذهب إلى أعياد الكفار للتمتع

نصيحة لمن يذهب إلى أعياد الكفار للتمتع Q ما نصيحتكم لمن يذهب إلى أعياد الكفار للتمتع؟ A أنصحهم وأنفسنا بتقوى الله تبارك وتعالى، وأن لا نرتد كافرين بعد إذ هدانا الله للإسلام، وألا نشارك هؤلاء الكفار في شريعتهم وفي شعائرهم كما قد أوردنا وأسلفنا في الكلام السابق.

حكم تنصب الكفار على مؤسسات في بلاد إسلامية

حكم تنصب الكفار على مؤسسات في بلاد إسلامية Q حكم إدارة الكفار مؤسسات في بلاد المسلمين؟ A ليس كل الشركات كبار المسئولين فيها يهود أو نصارى، لكن يوجد شركات فيها هؤلاء ووجود الكفار مسئولين في بلادنا حرام، إذا كان مجرد دخولهم إياها حراماً فكيف يكونون مسئولين، والموظفون المسلمون تحتهم يتحكمون فيهم؟! ولذلك لا يجوز أن يبقوا رؤساء، هذا أولاً. ثم لا يجوز أن يقر هذا اليوم يوم عطلة أو عيد وعطلة لهم، فإن كان ولا بد كحل انتقالي -وإلا فأنا دائماً أقول: لا نرقع المسألة، بل يجب أن يخرجوا يجب أن يخرجوا فهذا أمر الله ورسوله- لا يجوز للمسلمين أن يعطلوا ويعيدوا في هذا. وسبحان الله العظيم! المسلمون إذا جاء الحج يشتكون والله كثيراً جداً حيث لا يعطون إجازة للاعتكاف، ولا يعطون إجازة للحج، ثم تعطي الشركات إجازات في عيد الميلاد حيث يعطل الكفار، فيرغم المسلمون في بلاد الإسلام على أن يعطلوا مع الكافرين، ويعيدوا مع الكافرين والعياذ بالله. فنحن قد رضينا بالدنية في ديننا، وقد أسأنا إلى المسلمين وأذللناهم إذا أقررنا هذا الأمر؛ فهذا لا يجوز قطعاً.

حكم تهنئة رؤساء الدول الكافرة بأعيادهم

حكم تهنئة رؤساء الدول الكافرة بأعيادهم Q ما حكم تهنئة حكام الدول الكافرة بأعيادهم وذلك بمقتضى الأعراف الدولية؟ A لا يجوز تهنئة الدول ولا الأفراد، يقول الأخ: بمقتضى الأعراف الدولية، نضع عرفاً، ونقول: لا نهنئكم بعيدكم ولا تهنئونا بعيدنا: {إن لكل قوم عيداً} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تهنونا ولا نهنيكم، هذا عرف دولي لا يوجد شيء اسمه قانون دولي. وهناك بعض الإخوان مع الأسف الشديد يقولها، وقد أصبح عندنا قسم قانون، بل حتى فتح قسم دراسات عليا في القانون، في جامعة الملك عبد العزيز. المهم أن أي واحد اطلع على كتب القانون الدولي، يجد أنهم يقولون وبنص القانون الدولي على كذا لا يوجد حقيقة شيء اسمه قانون دولي إنما هو مجموعة أعراف، لأنه لا يوجد سلطة ملزمة له، والسلطة أهم ركن من أركان القانون. إذاً هي أعراف فلنقل هذا الشاهد، نقول لهؤلاء الكفار: من العرف بيننا وبينكم أن لا نهنئكم بشيء من دينكم ولا تهنونا، كما أننا نصلي ولا تصلون، نشهد أن لا إله إلا الله، وتقولون: إن المسيح هو الله، فالفوارق كثيرة جداً.

حكم السماح لهم بالاحتفالات بأعيادهم

حكم السماح لهم بالاحتفالات بأعيادهم Q أنا أعمل مسئولاً في شركة من الشركات السعودية ولدي عمال، فلبينيين من أهل الكتاب، ويوم العيد يطلبون إجازة طارئة من إجازاتهم الخاصة بهم، أفيدوني هل أوافق على إجازتهم وهي من حقوقهم حسب الأنظمة أم أمنعها؟ A لا يجوز أن يعطوا إجازة، لكن إذا كان نظام العمل والعمال -وهو بلا شك مستمد من مكتب العمل الدولي في جنيف كما هو مذكور، فهو قانون وضعي- يجيز لهم ذلك فتقع فتنه ومشكلة بينك وبين مكتب العمل، فالحل أن تكتب إلى مكتب العمل والعمال ويكتب إخوة آخرون ونكتب نحن كلنا ونقول: يجب أن ينص في نظام العمل والعمال على الالتزام بدين هذه البلاد، فكما أنهم يعطلون الخميس والجمعة فكذلك أيضاً لا يعطون عطلة للأعياد إلا مع المسلمين في عيد الفطر والأضحى؟ فإذا ما تعاقدنا مع أي كافر ولم نستقدمه، ارتحنا من مشاكل كثيرة جداً راحة مطلقة، وهكذا دائماً الحل الشرعي يكون حاسماً، أما الحلول الترقيعية فدائماً تجلب المشاكل، فهم يأتون بخمرهم وزناهم وصلبانهم وأعيادهم ومخدراتهم وجرائمهم، فإذا منعنا هذا الباب انتهينا، فلا يجوز أن نتعاقد ونتعامل إلا مع المتقي من المسلمين وهم كثير والحمد لله في العالم الإسلامي من أهل السنة وعقائدهم طيبة، وفيهم فضل وخير وصلاح. وكونه مسلم فاسق يبيع الخمر أو المخدرات فلا يجوّز أن يدخل هذه البلاد وأن يتعاقد معه، فكيف إذا كان كافراً من أصله! نعوذ بالله.

علاقة الديموقراطية بالاحتفال بأعياد الكفار

علاقة الديموقراطية بالاحتفال بأعياد الكفار Q أليس من المصالح المرسلة أن نسمح لهم أن يحتفلوا بأعيادهم؟ وأين الديمقراطية في الإسلام؟ A هذه مفاسد مؤكدة وليست مصالح بارك الله فيك. أما الديمقراطية فلا مكان لها في الإسلام أبداً، ويوجد كثير من هذا النوع في الجامعة، وقلنا إن الأمر قد نُفِّذ، وخرج حقيقة قد نفذ وخرج عن حدود الاحتمال، ولا بد من اتخاذ إجراءات عملية يقوم بها أولياء الأمور، المسألة ليست نصيحة توجه من هاهنا من مكبر الصوت ولا ندري تصل أو لا تصل. فأنتم أولياء الأمور يجب عليكم أن تنتبهوا لأبنائكم وبناتكم في هذه الجامعة، ومن ذلك أن المدرس كافر في مركز اللغة الإنجليزية يتكلم العربية أحياناً ويستهزئ بالشباب المتدين، ويستهزئ بالإسلام وباللغة العربية، ويدعو الشباب إلى التعلق بالغرب، ويأخذهم معه إلى رحلات، ويأتي بزوجته ويعرفهم عليها، إلى آخره.

حكم قبول هدايا الكفار في يوم عيدهم

حكم قبول هدايا الكفار في يوم عيدهم Q يوجد لدينا جيران من أهل الكتاب يبعثون إلينا أحياناً عند احتفالهم بعيد الميلاد بعض الأكل، هل نأكل منه شيء علماً بأنا لا نشاركهم بأي عمل، أم ينبغي أن نعيده إليهم؟ A يجب أن ننكر عليهم هذا أصلاً؛ لأنه منكر، فيجب أن ننكر عليهم أن يظهروا ويعلنوا بهذا العيد، فطبيعي إذاً ألا نقبل ذلك منهم ولا نأكله. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله. والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

تكفير أهل القبلة

تكفير أهل القبلة استطرد الشيخ في شرح حديث "من المفلس" وبيّن أن فيه دلالة على اجتماع الخير والشر في المسلم، وأن ذلك لا يخرجه من دائرة الإسلام, ثم بين مذاهب الفرق المختلفة في التكفير وأبرزها الخوارج والمعتزلة والمرجئة وأهل السنة موضحاً أن منهج أهل السنة والجماعة هو المذهب الوسط الذي يجمع بين نصوص الوعد والوعيد.

اجتماع الحسنات والسيئات

اجتماع الحسنات والسيئات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد: فقد ذكرنا آيات القصاص وآيات قتال الطائفتين من المؤمنين، اللاتي ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الحجرات، وكذلك ذكرنا الحديث الأول وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من كانت له مظلمة من أخيه فليتحلل منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلِمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته فطرحت عليه}.

اللفظ بين الشرع والعرف

اللفظ بين الشرع والعرف والحديث الثاني الذي رواه الإمام مسلم وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع, فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطايا من ظلمهم فطرحت عليه ثم طرح في النار} وإن هذا الحديث يفيدنا كما تفيدنا أحاديث أخر تصحيحاً للمفاهيم والمقاييس؛ من خلال تحرير وتصحيح المصطلحات, فالناس في نظرهم مصطلحات تطلق مثل: فلان حر, أو فلان عدل, وفلان فيه خير, وفلان عاقل وغير ذلك, ولكن قد تكون بخلاف المراد والمطلوب شرعاً، فاللفظ يطلق في الشرع لمعنى آخر يدل على صفة حقيقية إما من عمل الطاعات أو غيره. أيضاً: في الجانب الآخر قد يكون للظالم أو الباطش أو ما أشبه ذلك صفة في الشرع غير ما في نظر الناس, فمثل هذه الأحاديث تفيدنا في كيفية وزن الأمور وكيف نعرفها, وكيف نستخدم الألفاظ؟ فهذا من حكمة الدعوة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أتدرون من المفلس؟} وهذا سؤال أكثر الناس يعرفون الجواب عليه من خلال حياتنا العادية. {قالوا: من لا درهم له ولا متاع} وهذا معروف عند الناس؛ لكن ليس هذا هو الجواب, وكأنهم يقولون: هذا في واقعنا, وفيما نقيس نحن, وإذا كان: لديك يا رسول الله شيء آخر فعرفه لنا. وهذا كمثل الشديد عند الناس هو القوي الذي يصارع القوم فيغلبهم, والغني هو صاحب الأموال الذي يكنزها, فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصحح هذه المفاهيم الدنيوية إلى مفاهيم شرعية فيقول: {ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} ويقول: {الغنى غنى النفس} فالمفلس ليس هو ما تعارفتم عليه؛ ولذلك قال: {إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة, وصيام, وزكاة} وهذا يدل على أنه يفعل الحسنات, ويقوم بالطاعات؛ فالصلاة, والصيام, والزكاة أعمال وطاعات؛ بل هي أركان الإسلام, والمواظب عليها موعود بالخير , والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبَّه الصلوات الخمس بنهر جار يمر على باب أحدنا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات.

من الذنوب ما لا يكفره الاستغفار والتوبة

من الذنوب ما لا يكفره الاستغفار والتوبة وكثير من الناس ينظر إلى هذا الحديث -حديث تكفير الصلوات الخمس للخطايا- وينسى الحديث الآخر وهو أن هناك ما لا تكفره الصلاة, ولا الزكاة, ولا الصوم وهو حقوق العباد, لأن حقوق العباد لا تكفر إلا بأدائها إليهم أو بأخذ حسنات الآخذ، ولذلك فإذا اغتبت إنساناً ولم تستطع أن تتحلل منه فاذكره بالخير واثن عليه؛ فهذا يكافئ ذاك، لكن الخاسرين هم من قال الله عنهم: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] فأكبر خسارة هي خسارة الآخرة، أما الدنيا ففيها دراهم ودنانير, وفيها رهن وفيها شيء كثير، وكم من مؤمن ضيق الله عليه رزقه ابتلاءً؛ لكن يوم القيامة ماذا يعمل الإنسان وليس عنده إلا الحسنات أو السيئات؟! جنة أو نار, فيأتي بهذه الأعمال الصالحة فتوضع له, والله تعالى لا يظلم أحداً, وسوف نأتي -إن شاء الله- إلى وضع الميزان، وأن مذهب أهل السنة والجماعة الإيمان به وإثباته كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن له كفتين, وأن الأعمال توزن, وأن الأشخاص يوزنون كما قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103] وقال أيضاً: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:8] والآيات والأحاديث في الميزان تدل على هذا الأصل من أصول أهل السنة والجماعة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والموازنة والمفاضلة بينها؛ فمثلاً ربما يأتي الإنسان بصلاة, وصيام, وزكاة, بل ربما يأتي بجهاد ومعه غلول, أو يأتي بجهاد ومعه شرب خمر كما في قصة أبي محجن الثقفي مع سعد بن أبي وقاص فالنفس الإنسانية خلقها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مفطورة على أن يأتي منها هذا وهذا، وقل أن تتمحض لأحدهما. فنجد -مثلاً- أنه حتى الكفار مفطورين على حب العدل, وكراهية الظلم, فالنفس الإنسانية جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مرنة تقبل الخير والشر ويجتمعان فيها، وهذه من حكمة الله، ومن ابتلاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جعلها هكذا. وكما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام} لأن الإنسان دائماً يهم ويفكر ويعمل، ولكن كيف يكون هذا العمل؟ {من الملك لمة ومن الشيطان لمة} كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه, وهذا دليل على منهج أهل السنة والجماعة في اجتماع الخير والشر للإنسان؛ فتجتمع كبائر موبقات مع حسنات بالغات، فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا}، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سباب المسلم فسوق} وما أكثر من يشتم الناس الشتم بأنواعه! إما أن يدعو شخصاً بلقب معين, وإما أن يأتي وقد قذف هذا بمصيبة, أو أكل مالَ هذا, أو سفك دمَ هذا, وهذه أمثله قد تجتمع جميعها في واحد, وقد يقع منها ثلاثة, أو اثنين أو واحد بحسب تقوى المرء؛ إنما المراد أن هذا يقع، فهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضرب مثلاً للصورة الذهنية المتكاملة؛ أنه في جانب الحسنات أتى بصلاة وزكاة وصيام, وفي جانب السيئات أتى بشتم, وقذف, وضرب, وسفك دم, فكيف يكون الحكم؟ فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليه. إذاً عندنا احتمال أن يعطيهم من حسناته ويبقى له حسنات فيكون ناجياً، فيحتاج الواحد منا -على الأقل- إذا كان يعرف أنه يقع في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم أن يجتهد في كسب الحسنات حتى يبقى له منها شيء, فالعاقل من يتدبر ويفكر في عاقبته. أما الاحتمال الآخر الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أن تفنى حسناته قبل أن يقضى ما عليه، فتنتهي ولا يزال غارماً لم يقض دينه، ولا أعطاهم حقهم، والحسنات قد انتهت، فهنا لا بد من عدل, ولا بد من القصاص بين يدي الله الذي لا يُظلم أحد عنده، فيؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه، وقد يكون المقذوف من أهل الفسق والزنا والفجور الذين لهم سيئات, لأن الحديث يدل على هذا المذهب من الجهتين, من جهة المفلس ومن جهة أصحاب الدين، فهؤلاء أيضاً لهم سيئات, ولكن مع ذلك لا يسقط حقهم في المطالبة والمؤاخذة فيأخذون حسناته, فما الفائدة إذاً؟ كنت ترى من فضل الله عليك في الدنيا أنك كنت تقوم تصلي وهؤلاء يفسدون في الأرض, ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؛ فالنتيجة أن معاصيهم أخذت فطرحت عليك -نعوذ بالله من سوء الخاتمة- وكفى هذا زاجراً للمؤمن أن يكف لسانه ويده عن المسلمين، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه} فلو روعيت هذه الحرمات, وأعطيت حقها, وحفظها المسلمون لكان حالهم غير الحال، ولكن نرى أكثر الناس يستسهلون ذلك حتى لا يكادوا يعدونها من الذنوب فالحذر الحذر!

إن الحسنات يذهبن السيئات

إن الحسنات يذهبن السيئات أما قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115] هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار اجتمعت فيه الحسنة والسيئة كحال أكثر الخلق، كان يبيع التمر فأتته امرأة فراوده الشيطان عليها, فقال لها: عندي في البيت ما هو أجود منه، فهلمي إلي, فذهبت معه فلما خلا بها قبلها, ولم يفعل الفاحشة؛ لكنه فعل مقدماتها, وسرعان ما أفاق كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فترك السوق, وذهب إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا رسول الله! وقع مني كذا، إلا أني لم أفعل الفاحشة فماذا أصنع؟ كان الرجل متأثراً وعرف كيف أوقعه الشيطان وتلاعب به, ثم إنه جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرض عليه الموضوع بنية التوبة، وأدرك صلاة الجماعة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصليت معنا؟ قال: نعم، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الحسنات يذهبن السيئات} فأنزل الله عليه هذه الآية, وغفر له بمجيئه إلى المسجد مع الندم والتوبة وعرضه ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل أن يبحث له عن مخرج، فدل ذلك على أن الحسنات إذا فعلها الإنسان فإنها تكفر عن الإنسان, ولا سيما اللمم: {إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وهذا اللمم فسره كثير بمثل؛ البسمة, والقبلة, وكلمة الغيبة التي لا يخلو منها إنسان إلا من رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو ويغفر اللمم بالمداومة على الطاعات والحسنات, ومن ذلك كثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فإذا قال إنسان: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر -وكذا إذا قال:- لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة. فعندنا مطهرات, فنحن لا نخلو من الدرن مثل الإنسان عندما يمشي في الشارع وتمر من جنبه دراجات فيصيبه الوسخ؛ فيرجع إلى البيت فيرى بقع الوسخ في ثوبه, فيغسله بالصابون والمطهر, وكذلك الاستغفار يذهب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به الذنوب والخطايا {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] بالتوبة والاستغفار، ومن ذلك فعل الحسنات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فلم نخلق نحن لنظل صفحة بيضاء لا نخطئ، ونحن إن لم نخطئ فسنقصر في الواجبات, فالمعاصي لازمة, لكن دواؤها بالتوبة, وأعجبتني كلمة قرأتها لـ ابن الجوزي رحمه الله. قال له رجل: أيهما أفضل لأصحاب الذنوب: الذكر أم الاستغفار؟ فقال له: 'الثوب الدنس أحوج إلى الصابون منه إلى البخور' فقد جعل الاستغفار كالصابون بمعنى أن الإنسان إذا فعل المعاصي فأهم شيء هو أن يتوب ويندم ويستغفر، بخلاف ما لو فعل الإنسان الطاعات فهذا يذكر الله ويسبح الله. والاستغفار أدعى للمحاسبة حيث يفكر العبد في الذنب الذي يستغفر منه فلا يعود إليه, والإيمان يزيد وينقص, والنفوس تتفاوت في الغالب, فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه. {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فيجتمعان على مذهب أهل السنة والجماعة في الإنسان ويمكن أن يجتمعا في كل إنسان إلا من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الرسل. يقول الإمام المصنف رحمه الله: 'وقد دلت الآيات السابقة آيات القصاص وآيات القتال وآيات من كانت له مظلمة' هذه النصوص تدل على أنه في حالة يعمل حسنات تمحو تلك السيئات، وأنه يجتمع فيه عمل الخير مع المظلمة, والعمل الصالح مع المظلمة، وكذلك -كما في الحديث الآخر- تجتمع الصلاة والصيام مع الشتم والضرب والقذف, وكذلك في آية هود تجتمع الحسنات مع السيئات فمن الممكن أن يأتي بهذه وتلك وهو لا يزال في حدود الإسلام، وما يزال من أهل الملة, فهو يخطئ ويصيب ولكنه لم يخرج من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر.

مذهب المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة

مذهب المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة ثم قال المصنف رحمه الله: 'والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار' ولهذا نختصر هذه الجملة بعبارة سهلة وهو أن نقول: إنهم متفقون في الحكم مختلفون في الاسم. قال: فيوافقون الخوارج في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، أما الخوارج فمذهبهم معروف في هذا كما تقدم في حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} أي: أن من زنى فهو كافر مخلد في النار لا يخرج منها أبداً, فجعلوا الزاني, والسارق, وشارب الخمر مرتداً على اختلاف وتفصيل في فرقهم ومذاهبهم. أما المعتزلة فوافقوهم في الحكم، فقالوا: إنه مخلد في النار يوم القيامة وحكمه كحكم اليهودي, والنصراني, والمجوسي, والمشرك, سبحان الله! هل هذا من العدل؟! ولو تأمل أصحاب العقول السليمة لوجدوا أن مذهب أهل السنة هو المذهب المتفق مع النصوص من جهة, ومع الفطرة السليمة من جهة أخرى، وذلك أن من صلّى, وصام, وحج البيت الحرام, ولكنه زنى, أو شرب الخمر, لا يعامل معاملة اليهود والنصارى، فقد قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ولكن إذا عميت البصيرة واتبع الإنسان هواه؛ فإنه يضرب بالنصوص عرض الحائط ولا يبالي, والمعتزلة تورعوا, ولكنه ورع بارد لا ينفع في شيء فقالوا: لا نقول إنه كافر ولا مؤمن؛ بخلاف الخوارج الذين قالوا: إنه كافر، بل حكمت المعتزلة عليه أنه فاسق، أي أنه ليس بمؤمن ولا كافر، لا على أساس الفسق الذي لا يعني الخروج من الملة، فلابد من إيضاح هذه العبارة على مصطلحهم، وتقول المعتزلة بأنه في منزلة بين المنزلتين ويزعمون أن الحسن البصري رحمه الله وافق مذهبهم وقال بقولهم، فـ الحسن رحمه الله قال: [[كيف نقول: إنه مؤمن وقد ارتكب ما ارتكب؛ ولا نقول إنه كافر ولم يخرج من الدين؛ لكن أقول: إنه منافق؟ لأنه ادّعى الإيمان وتسمى باسمه, ولم يمتثل أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فوقع فيما حرم الله فترك ما أمر الله منه]] فـ الحسن لم يقل هذا القول على أساس أن يخالف أمر أهل السنة والجماعة، أو يعطل مذهب أهل السنة، بل سئل سؤالاً فأجاب, وهكذا كثير من الناس, كما في قصة ذر بن عبد الله شيخ المرجئة لما قيل له أول عمره في هذا الأمر قال: (إنما هو أمر رأيته) وبعد زمن وإذا به يدعو الناس إليه، فنوظر بعد ذلك في قوله الذي قال فقال: 'والله الذي لا إله غيره إنه الدين الذي بعث الله به النبي نوحاً والنبيين من بعده' سبحان الله! كيف الرأي أصبح الآن ديناً؟! ولهذا يحذر الإنسان أن يكون لديه شبهة فيأتي أحد يجادله فيصر عليها فيجعلها مبدأً وعقيدة, فيكتب هذا ويكتب هذا فتصبح مذاهب لهم, وكانت أول الأمر آراء مع أنه كان يمكن أن يرجع هذا ويرجع هذا وينتهي الموضوع ببساطة, لكن سبحان الله! النفوس إذا اشتعلت واشتدت وجاء الشيطان وجعل فيها الكبر والغطرسة، فإنها ترفع رأسها حتى ترى الرأي ديناً! نسأل الله العفو والعافية. فهم قالوا: كيف يكون مؤمناً وهو يرتكب الفواحش، وكيف نقول: هو كافر وهو لم يخرج من الدين؟ إذاً نجعله بين هذه وتلك.

الخلاف بين المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة

الخلاف بين المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة ثم قال المصنف رحمه الله: 'والخلاف بينهم لفظي فقط' كلمة الخلاف اللفظي هنا مهمة, لأنه سوف تأتي هذه اللفظة في باب الإيمان. اللفظ إما أن يكون مطلقاً وإما أن يكون باعتبار معين، فبالنسبة للخوارج والمعتزلة هو لفظي معين باعتبار الآخرة أو المآل، لكن في الدنيا هل الخوارج والمعتزلة يعاملون مرتكب الكبيرة معاملة واحدة؟ بمعنى لو أن إنساناً زنى عند خارجي وزنى آخر عند معتزلي, هل تكون المعاملة بينهما معاملة واحدة في الدنيا؟. A لا؛ لأن الخارجي يحكم بكفره ويقتله؛ أما المعتزلي فإنه لا يرى بالضرورة أن يقام عليه حد الردة؛ لأنه زنى أو شرب الخمر. صحيح أنه لا يسمى مؤمناً لكنه أيضاً لا يصل إلى درجة الكفر, وهذه العبارة المهمة تحدد لنا ما بعد؛ وهو أن النزاع لفظي في أحكام الآخرة، أو مآل الشخص، فالنزاع بينهم لفظي فقط في هذا. وكما أن المعتزلة والخوارج متفقون على أنه يخلد في النار, فإن أهل السنة متفقون على أنه يستحق الوعيد المترتب على ذلك الذنب، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] هذا وعيد يستحقه من أكل مال اليتيم، وقد رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزناة وهم في تنور في النار فهم يستحقون هذا الوعيد. وكذلك وعيد القاتل -مثلاً-: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار} فيستحق القاتل هذا الوعيد. وكذلك قوله: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} يستحق الساب الوعيد هنا أيضاً فـ أهل السنة والجماعة لا ينفون استحقاق العاصي ومرتكب الكبيرة للعقوبة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رتب في النصوص هذه العقوبة، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68 - 70] وقال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] إذاً هناك وعيد مستحق مترتب -كما ذكرنا- لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب, ولا ينفع مع الكفر طاعة, وقد قلنا: إن مثل هذا قول غلاتهم، ولا يعرف أن معيناً منهم كتب هذا أو دعا إليه وإنما هو على سبيل الإلزام أحياناً، وعلى سبيل الجدل حيناً آخر وأكثرهم غلواً هو جهم وهو خارج من الملة! ومذهبهم خارج عن دين الإسلام بالكلية -نسأل الله العفو والعافية- والمهم أن هذه المقولة: لا يضر مع الإيمان ذنب, ولا ينفع مع الكفر طاعة لم يعرف أن أحداً منهم صرح بهذا اللفظ والتزمه, وقد ذكرنا أن الخوارج الغلاة ومنهم الأزارقة ثم النجدات ثم الإباضية فـ الأزارقة لا يعلم لهم الآن كتاب نحاكمهم إليه؛ لكن أقرب مصدر فيه أخبار الأزارقة هو كتاب (الكامل) ومؤلفه المبرد النحوي وقد كان متهماً برأيهم ويميل إليهم وأسانيده عالية، وهو من أهم المصادر وأقدمها وقد أطال في ذكرهم. أما الإباضية فقد قامت عليها دولة فتطبع وتنشر لها, بل إن لها بعض المؤسسات في دول أخرى.

اجتماع الوعد والوعيد

اجتماع الوعد والوعيد قبل أن نقول: ما الحكم إذا اجتمع الوعد والوعيد على مذهب أهل السنة والجماعة فقد سبق أن ذكرنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {كلها في النار إلا واحدة} فهذا يدل على الوعيد. فكيف نفهم نصوص وآيات الوعيد وفق منهج أهل السنة والجماعة أن الزاني في النار, وأن شارب الخمر في النار؟ نقول: إنه يستحقها بمعنى أنه إن فعلها فهذه عقوبته وهل يلزم من ذلك أن تلحق به العقوبة فعلاً؟ A لا يلزم. إذاً نقول: أهل الوعيد المستحقون له في جملتهم كأصحاب الكبائر، قد يدخلون النار وقد لا يدخلون. فالنتيجة أننا نقول: إن كل مرتكب كبيرة مستحق للوعيد؛ لكن هذا الوعيد ينفذ في حق البعض ولا ينفذ في حق البعض الآخر؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هناك أسباباً وموانع ومن ذلك الشفاعة, والحسنات الماحية, ومغفرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الفرق بين المرجئة وأهل السنة والخوارج

الفرق بين المرجئة وأهل السنة والخوارج إذاً ما الفرق بين الخوارج والمرجئة وأهل السنة؟ قالت الخوارج في أهل الوعيد: (كل من أطلق عليه الوعيد فينفذ في حقه، إذاً كلهم يدخلون النار). أما المرجئة فقالوا: (يجوز ألا يدخل النار منهم أحد لأنهم يقولون: لا إله إلا الله) أما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: (يدخل بعضهم وبعضهم لا يدخل) بحسب الشروط والأسباب والموانع، فهناك حديث صحيح يدل على أن بعض الزناة في النار, ومن يشرب الخمر في النار, بينما نجد أيضاً أن هناك أحاديث تدل على تكفير الذنوب بالحسنات, ومن ذلك حديث شارب الخمر لكونه يحب الله ورسوله فقد قام به مانع, وهذا المانع علمناه في الدنيا، ويوم القيامة تنكشف الحقائق أن هذا الشارب كان يحب الله ورسوله, وهذا يزني ويجاهد, وهذا يتصدق؛ وذاك يفعلها ولا خير فيه فهذا يدخل النار وهذا لا يدخلها, لأنه بحسب الأسباب والموانع، أما أن يقال: لا يدخل أحد من أهل القبلة النار، فهذا خطأ. ولا يُعكس فيقال: كل من عصى واستحق الوعيد من أهل القبلة لا بد أن يدخل النار! فمذهب أهل السنة والجماعة مذهب عدل، نقول: لا ننفي مطلقاً ولا نثبت مطلقاً، فيلحق الوعيد بعضهم, وبعضهم لا يلحقه, لأسباب وموانع والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحكم بينهم جميعاً بالقسط, وهذا هو الحق الذي يليق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصفاته, كما هو الحق في نظر أي إنسان.

فساد كلام المرجئة والخوارج

فساد كلام المرجئة والخوارج ثم يقول المصنف رحمه الله: 'وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي احتجت بها المرجئة كقولهم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وجمع معها نصوص وآيات الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة مثل {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} " إذا اجتمعت تبين لك فساد القولين " -أي: يظهر لك فساد قول الخوارج والمعتزلة من نصوص الوعد- ويتبين فساد قول المرجئة من نصوص الوعيد، ويتبين أن الحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة بالجمع بين الوعد والوعيد؛ ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد كلام الطائفة الأخرى' الأصل أن لا نحتاج في الرد على الخوارج إلى كلام المرجئة ولا نحتاج إلى كلام الخوارج في الرد على المرجئة؛ لكن من الإنصاف أننا لم نستفد من كلام كل طائفة شيئاً, إلا أننا عرفنا فساد الطائفة الأخرى, فربما يكون هناك خصمان تسمع من أحدهما فتتيقن أن كلامه في حق خصمه حق؛ لكن لا يلزم من ذلك أنه على الحق لاحتمال أن يكون الحق عند ثالث لهما، فقد يختلف المختلفان وكلاهما مخطئ؛ لكن لنعتبر أن الاثنين مخطئان فأين الحق؟ بالتأكيد أنه عند ثالث غيرهما. فأنت لا تستفيد من كلام المرجئة لأنك تعرف أن مذهب الخوارج باطل من نصوص الوعد, ولا تستفيد أيضاً من كلام الخوارج أن كلام المرجئة باطل, لأنك تعرف هذا من نصوص الوعيد، ومن خلال الاستدلالات العقلية التي يأتون بها، لكن لا يلزم من ذلك أنه إما هؤلاء على حق أو هؤلاء على حق وإما كلاهما على حق، بل الواضح الجلي أن كلاً منهما على باطل وعلى ضلالة.

وسطية مذهب أهل السنة بين الفرق

وسطية مذهب أهل السنة بين الفرق عليك أن تجمع الحق من نصوص الوعد وما صح من نصوص الوعيد وتخرج المذهب الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة المذهب الوسط في هذا الشأن, كما هو الوسط في جميع الأبواب, وسط في الصفات بين أهل التعطيل (النفي المطلق) وبين أهل التمثيل, (الإثبات المغالي فيه) وفي باب القدر بين المعتزلة النفاة الجبرية الغلاة، ووسط أيضاً في باب الصحابة الكرام بين من ألههم وبين من كفرهم, ووسط في باب الإيمان, بين من يخرج العاصي من الملة, وبين من يجعله مؤمناً كامل الإيمان؛ فهذا جزء من الوسطية ويظهر ذلك من خلال اجتماع النصوص فيهم والحمد لله. وهنا فائدة منهجية وهي أنه لا يوجد نص صحيح في الوعد أو الوعيد يرده أهل السنة والجماعة فهذا في القرآن معلوم, لكن في الأحاديث لا يمكن أن يصح حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوعد أو الوعيد ويرده أهل السنة والجماعة؛ لكن لو نظرت إلى الخوارج , فلابد أن يردوا أحاديث، وكذلك المرجئة لا بد أن ترد أحاديث, إذاً فما آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان, لكن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالكل, ويجمعون النصوص على بعضها البعض, فيقعون على الحق الوسط ويستمسكون به, وبه يلقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولهذا كانوا الطائفة الناجية إن شاء الله تعالى، فهي وحدها الموعودة بالنجاة، أما غيرها فمتوعد بالهلاك. وكما كان الدين وسطاً بين الملل، فلو نظرنا إلى ما كان عليه أهل الأديان وأهل الكتابين قبلنا؛ لوجدنا أن هناك إفراطاً من جهة, وهناك تفريط من جهة فأرسل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجمع له بين العفو والعدل فكان وسطاً بينهما, إن أخذ فبالعدل وإن عفى فبالفضل. وفي الدنيا لم نؤمر بالرهبانية، ولا يجوز أن نكون كجشع اليهود وطمعهم, وإنما أحلت لنا الطيبات, وأحلت لنا زينة الله التي أخرج لعباده, ونهينا عن الإسراف والتبذير. وحتى في الأحكام، وعندما استعرضنا الجواب الصحيح في أحكام الطهارة وقلنا: نحن لا نقص الثوب إذا وقع فيه نجاسة, وفي نفس الوقت لا يجوز أن نصلي وعلينا نجاسة، وإنما نغسله, حتى في القصاص في القتلى، نحن لا نقول: إما أن تعفو ولا شيء لك، وإما أن تقتص، بل وضع الله حلاً وسطاً وهو الدية, فيمكن للإنسان أن يأخذ الدية, فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلنا بين الأمم وسطاً. وكذلك أهل السنة والجماعة هم على المنهج الوسط بين أهل الإسلام, فجمعوا من كل طائفة محاسنها وكل حسنة تنسب إلى أي طائفة من الطوائف فلأهل السنة مثلها, وكل شر أو بلاء أو معاصٍ أو فساد يقع في أهل السنة؛ ففي غيرهم من الطوائف مثله وأكثر, وهذا فضل من الله ورحمة بهذه الطائفة المنصورة , فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحشرنا معهم، وأن يجعلنا منهم, وأن نكون من المجاهدين في سبيله الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم حتى يلقون الله عز وجل, والحمد لله رب العالمين.

توبة تارك الصلاة

توبة تارك الصلاة ابتدأ الشيخ بذكر تسعة أدلة استدل بها شيخ الإسلام على عدم وجوب إعادة الصلاة على تاركها، وحمل حديث المسيء صلاته وصاحب اللمعة على أنهما بلغهما الخطاب والوقت ما زال باقياً، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهما بإعادة ما فات. ثم تحدث عمن ترك الصلاة معتقداً سقوطها وهو الذي ذهب إليه بعض الصوفية، موضحاً حكم ذلك، ثم تحدث عمن ترك الصلاة معتقداً وجوبها، وأنه إذا فضَّل القتل على الصلاة فإنه كافر، ثم فرق بين التارك المطلق فإنه يكفر، والمتهاون فإن أمره إلى المشيئة.

قضاء الفرائض

قضاء الفرائض إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: موضوعنا هو عن حكم من تاب وقد ترك الفرائض عمداً، وأهم من ذلك وأعظمه الصلاة، فماذا يفعل الإنسان إذا أمضى شطراً من عمره، وهو تارك لهذه الفريضة، فأراد الله تبارك وتعالى ومَنَّ الله عليه بالتوبة فهل يقضي أم ماذا يفعل؟ نذكر كلاماً لـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، إذ له كلام نفيس في الجزء الثاني والعشرين من الفتاوى لم أجده عند غيره ابتداءً من صفحة (40) فنذكر الأدلة: الدليل الأول: أن الصحابة الذين ظنوا أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الذي يعرفه عامة الناس، فوضعوا حبلين ولم يعلموا أن المقصود هو بياض النهار وسواد الليل، فهذا من الأدلة التي تدل على أن الإنسان لا يقضي ما فعله وهو جاهل لم يبلغه التكليف، أو لم يبلغه الخطاب. الدليل الثاني: قصة عمر وعمار رضي الله عنها التي رواها الإمام البخاري وغيره لما قال عمار لـ عمر: يا أمير المؤمنين أتذكر لما كنت أنا وأنت في سفر فأجنبنا، فأما أنت فانتظرت ولم تصل، وأما أنا فتمرغت كما تتمرغ الدابة، ثم أتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يأمر عمر ولا عماراً بإعادة الصلاة. الدليل الثالث: دليل المستحاضة كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ أنها قالت: إني أستحاض حيضةً شديدة تمنعني من الصلاة، فدل ذلك على أنها كانت لا تصلي أثناء الاستحاضة، ومع ذلك لم يأمرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعادة، لأنها اجتهدت وكانت تجهل أنها مخاطبة بذلك، وظنت أن الاستحاضة كالحيض تمنع المرأة من الصلاة. الدليل الرابع: الكلام في الصلاة كما في قصة معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم. الدليل الخامس: لما زِيد في صلاة الحضر، وقد كانت الصلاة ركعتين كما روت عائشة رضي الله عنها فأقرت في السفر -أي بقيت ركعتين- وزِيدت في الحضر، فأصبحت الثنائية أربع ركعات ما عد الفجر، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر من كان بعيداً عنه، كمن كان بـ مكة أو بـ أرض الحبشة أن يعيدوا ما فاتهم من صلوات بعد أن صارت بعضها رباعية. الدليل السادس: لما فرض شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، فإن الخبر بذلك لم يبلغ المسلمين الذين كانوا مهاجرين في أرض الحبشة حتى فات ذلك الشهر ولم يأمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعيدوا صيامه. الدليل السابع: لما حوِّلت القبلة، بعض الأنصار ذهبوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة -قبل الهجرة كما ذُكر- وكان بعضهم قد صلّى إلى الكعبة معتقداً جواز ذلك قبل أن يؤمر باستقبال الكعبة، والطائفة الأخرى الذين استقبلوا بيت المقدس بعد أن نزل الأمر باستقبال الكعبة كلا الفريقين عذَرَهُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يأمره بالإعادة. الدليل الثامن: لما سئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بـ الجعرانة عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متمضخ بالخلوق فلما نزل الوحي قال له: {انزع عنك جبتك واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعاً في حجك} فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: ' فهذا قد فعل محذوراً من محذورات الحج، ولم يأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك بدم، ولو فعل ذلك مع العلم للزمه الدم، وإنما فعله قبل أن يبلغه الخطاب بالتكليف'. الدليل التاسع هو: أنه ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: {صل فإنك لم تصل -ثلاث مرات- وهو في كل مرة يرد الرجل، ويأمره بأن يصلي -لأنه لم يصل الصلاة المشروعة- فقال الأعرابي -بعد الثالثة-: والذي بعثك بالحق، لا أحسن غير هذا فعلمني} فعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة، ولم يأمره بإعادة ما كان قد صلى قبل ذلك، وقد مرت على الأعرابي أوقات وهو يصلي بهذه الصورة لقوله: {والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا} فلم يأمره النبي بالإعادة لأنه قد فعل غاية علمه، وقدر استطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

إعادة الصلاة

إعادة الصلاة قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة التي هي الفرض، والتي كانت بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن وقتها باقٍ فهو مخاطب بها' لأن من بلغه الخطاب وجب عليه الامتثال، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بتلك الصلاة لهذا السبب، لكن ابتداءً من الصلاة التي قبلها وانتهاءً بأول صلاة صلاها لم يأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعادة شيء من ذلك، فلذلك يقول: مادام أن الوقت باق، وتلك الصلاة التي صلاها لا تبرأ بها الذمة فلا تزال في ذمته ولو لم يبق من الوقت إلا ما يؤديها أو ركعةً منها، قال: 'ومعلوم أنه لو بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض، أو أفاق مجنون والوقت باق لزمتهم الصلاة ولكن تكون أداءً' أراد شَيْخ الإِسْلامِ أن نتخذ هؤلاء نموذجاً ونقيس عليهم الذين لم يبلغهم خطاب التكليف، فالصبي قبل البلوغ لا تجب عليه الصلاة وإن كان يندب ويحث عليها ويعلم، ولكن الوجوب المتعين إنما يكون بعد البلوغ، فلو بلغ الصبي في وقت فريضة من الفرائض، أو أسلم كافر في وقت فريضة من الفرائض، أو طهرت الحائض في وقت إحدى الفرائض، أو أفاق مجنون ومنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالعافية في وقت فريضة من الفرائض، ولا يزال في الوقت متسع لأدائها فإن هؤلاء يصلونها أداءً لا قضاءً، وهذا كما في حديث النائم: {من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها فإنه وقتها} فكذلك هنا وقتها بالنسبة له هو متى ما ظهرت عليه علامة البلوغ، أو أسلم إن كان كافراً، أو طهرت إن كانت حائضاً، أو أفاق إن كان مجنوناً، قال: ' وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم، وليس في ذمتهم أن يؤدوا تلك الفريضة التي ذهب وقتها، والتكليف لم يجب عليهم، فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجود الطمأنينة في أثناء الصلاة وجبت عليه الطمأنينة حينئذٍ ولم تجب عليه قبل ذلك. ' إن المسيئون لصلاتهم كثير، ولو أن كل واحد منا تعهد بأن يقوم في مسجده أو عمله أو مدرسته لتعليم من لا يستطيع كيفية صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لوجد العجب العجاب، فإن الملايين اليوم من المسلمين يصلون صلاة قد تكون صلاة المسيء صلاته في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر طمأنينة، أو أفضل منها، فهؤلاء نعلمهم الطمأنينة في الأركان كلها، وتجب عليهم الطمأنينة وهي ركن من أركان الصلاة، لكن هذه الركنية تكون في حقهم منذ أن نعلمهم، ولا نأمرهم بأن يعيدوا ما قبل ذلك. فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: 'فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة ذلك الوقت دون ما قبلها من الصلوات التي قد صلاها ولم يطمئن فيها، وإلا لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما الله تعالى به عليم، ولكن الله تبارك وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، وبعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحنيفية السمحة -ولله الحمد، قال:- وكذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن صلى خلف الصف منفرداً أن يعيد، ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء والصلاة لأن الصلاة تترتب على الوضوء، وقوله أولاً للمسيء صلاته {صل فإنك لم تصل} تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلاً بوجوب الطمأنينة؛ فلهذا أمره بالإعادة ابتداء، ثم علمه إياها لما قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا -قال:- فهذه نصوصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في محذورات الصلاة والصيام والحج في من ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد فذلك أنه لم يأتِ بواجب مع بقاء الوقت، فثبت الوجوب في حقه حين أمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبقاء وقت الوجوب، وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها الماء بالإعادة؛ فلأنه كان ناسياً فلم يفعل الواجب، فكان كمن نسي الصلاة وكان الوقت باقياً -وهنا نلاحظ الفقه، قال:- فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده، أعني أنه رأى في رِجل رَجل لمعة لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، رواه أبو داود وقال أحمد بن حنبل حديث جيد ' فهذا الرجل الذي بقي في رِجله مثل الدرهم يعرف أن الوضوء واجب، وأنه شرط لا بد منه للصلاة، ويعلم أن الوضوء لابد أن يكن سابغاً، فتوضأ ونسي ذلك المقدار، فلما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يعيد الوضوء، وأن يصلي بوضوءٍ كاملٍ، إذاً الفرض أن الوقت كان باقياً، وهذه القضية قضية شخصية تتعلق بهذا الرجل فلا يؤخذ منها قاعدة، كما أخذ بعض الفقهاء، فيقولون: كل من ترك واجباً فإن عليه الإعادة؛ فهذه حالة غير حالة الذي لم يبلغه الخطاب، فلا يقاس عليه من كان يعلم الحكم لكن لم يلتزم به، فإن هذا يعتبر تاركاً عن عمد وعن إصرار، فلا يقاس عليه. فإذاً: هي حالة معينة لمثل هذا الرجل، فلو أنك رأيت أحداً ترك شيئاً من أعضاء الوضوء، فأرشدته إليه، أو ترك واجباً من واجبات الصلاة، أو فاته ركن من أركانها، فنبهته إلى ذلك فالواجب عليه أن يأتي به، ويستمر كهذه القضية، لكن لا يقاس عليها الذي لم يبلغه شيء من قبل لأنه لا يزال جاهلاً بخطاب التكليف، قال: 'وأما قوله: {ويل للأعقاب من النار} ونحوه فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء وليس في ذلك أمر بإعادة شيء' كما أن قوله ليس فيه ما فهمه بعض الفقهاء: أنه يجب على هذا الرجل أن يعيد كل صلواته التي صلاها من قبل، ولم يكن يسبغ الوضوء، وإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء، هذه الحالة الأولى وهي حالة الجاهل الذي لم يبلغه الخطاب.

توبة من ترك الصلاة معتقدا سقوطها عنه

توبة من ترك الصلاة معتقداً سقوطها عنه الحالة الثانية: لمن أراد أن يتوب وأناب إلى الله تبارك وتعالى، وجاء إلينا وقال: أنا كنت تاركاً للصلاة وأريد أن أتوب، فهل ترون أن أقضي، أم ماذا أفعل؟ فنقول له: كيف كنت تترك الصلاة وتعلم أنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأن الله تبارك وتعالى قال فيها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] وأن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {العهد الذين بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} فقال: إنه كان يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن الواصلين، وهذه بدعة الصوفية التي تملأ معظم بلاد العالم الإسلامي -وهي ضلالة كبرى، وفرية عظمى- أن أحداً من الخلق يترك فرائض الله مدعياً وزاعماً ومتوهماً أنه قد وصل إلى الله، وأن الفرائض أو التكاليف -كما يسمونها- إنما تجب على العامة لأنهم لم يعرفوا التوحيد، وأما الخاصة، أو كما يقولون أحياناً: خاصة الخاصة الذين عرفوا التوحيد، فهؤلاء لا يحتاجون إلى أن يأتوا بهذه الفرائض، لأن هذه مرحلة يفعلها المريد، وهم قد وصلوا وعاينوا الحق كما يقولون -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وفي نظرهم أنه قد اتحد المخلوق بالخالق. فإذا كان الذي جاءنا تائباً منيباً من هذا النوع -وهم كثير- وقال: كنت أعتقد أني بلغت درجة العارفين، أو الواصلين وزين لي ذلك شيوخ الضلالة في الطريقة التي كنت أنتمي إليها، والآن عرفت أن الصلاة لا تسقط عن أحد، ولو كانت ساقطة عن أحد لكمال علمه أو يقينه كما يؤولون قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] لكانت سقطت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر الصحابة لأنهم أعلم الخلق بالله، وأكثر الخلق يقيناً الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وسلم ثم صحابته رضوان الله عليهم، فهل تركوها؟ فالمعلوم أنه لم يتركها منهم أحد إلا إذا دخل في سكرات الموت، أما قبل ذلك فيصلي إما قاعداً، أو على جنبه، أو على أي حال من الأحوال، ولم يكن يترك الصلاة أبداً، بل كانوا يوصون بها، فقد أوصى بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في حال الاحتضار، وأوصى بها قبيل موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوصى بها عمر رضي الله تعالى عنه، وهذه أهمية الصلاة عندهم، إذاً: لا يمكن أن تسقط الصلاة عنهم إلى الموت، فإذا مات أحدهم سقطت عنه. ومن باطل الصوفية أن الشيخ يصلي عنهم، فمن المصائب الكبرى التي ابتليت الأمة بها شيوخ الضلالة أن الشيخ يصلي عن أتباعه ويحفظهم، وبعض الشيوخ وصل به الحال كما فعل التيجاني وكما ينسبون أيضاً إلى غيره مثل الشاذلي والبدوي والجيلاني أنه يقول: الشيخ الذي يدخل مريده النار فليس بشيخ، ومن جاءه مريده يستغيث به أو يدعوه عند قبره ولم يجبه فليس بشيخ، فلقد جعلوا أنفسهم أرباباً، أو جُعلوا أرباباً من دون الله لأن بعضهم ما قال هذا الكلام. والتيجاني ينسبون إليه في كتبه أنه قال: لا يدخل النار من رآني أو من رأى من رأى إلى سابع رجل يرى أحمد التيجاني مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآه المشركون وهم من أهل النار، ومنهم الذين آذوه في مكة، ومنهم الذين في قليب بدر وغيرهم من اليهود الذين رأوه في المدينة، فهذا شيء لم يكن، وحتى أبناء أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم من الصحابة ما ضمن لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنة لأنهم رأوا من رآه، أو يقول: كل من رأى أبا بكر فحرام عليه النار، ومن رأى عمر كذلك فكيف بالسابع، فكيف بغيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما يقرب كل إنسان إلى الله عمله وتقواه لله عز وجل.

حكم من ترك الصلاة معتقدا سقوطها عنه ثم تاب

حكم من ترك الصلاة معتقداً سقوطها عنه ثم تاب من كان يعتقد أن الشيخ يصلي عنه، أو أن لله عباداً أسقط عنهم الصلاة -كما يتوهم بعضهم، وهم كثير- من المنتسبين إلى الفقر والزهد، والفقير الذي نعرفه وهو المعروف في اللغة وكما هو معروف عند العامة: أنه الذي لا مال له ولا متاع، أما عندهم فهو في الحقيقة ترجمة لكلمة هندية، فالفقير في لغة الهندوس، والبوذيين وأشباههم هو المنقطع لله الزاهد، أو الراهب على دينهم الذين يتعبدون به، ولهذا قال بعض الصوفية: إن الفقر هو الله -تعالى الله عما يقولون- وهذا كلام عجيب. وفي الفتاوى سئل شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله عمن يقول: إن الفقر هو الله -تعالى الله- كيف يكون الفقر هو الله؟ لكن لأنهم يعنون بالفقر مصطلحاً آخر غير ما يعرفه الناس، هؤلاء الذين يقولون: إن الله قد أسقط عنا الفرائض حكمهم أنهم متأولة، أي: أنه ترك الصلاة متأولاً وهذا من أقبح أنواع التأويل، لأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يصل الجهل بالمسلم إلى الجهل المركب وإلى أن يظن أن الصلاة تسقط بالتأويل، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة' فهو إجماع بين العلماء والفقهاء أنهم يستتابون، فإن أقروا بالوجوب -وأن الله تعالى أوجب علينا هذه الصلاة- فيجبرون على أدائها، ويكونون من جملة المسلمين لهم مالهم وعليهم ما عليهم، كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا} وإن لم يفعل ذلك فليس له هذا الحق، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فتبدأ الأخوة في الدين منذ أن يصلوا، فإن أبوا وجحدوا وجوبها عليهم، فهؤلاء يقاتلون قتال المرتدين. قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء -لأن المسألة فيها قولان؛ لكن الأظهر من القولين أنه لا إعادة عليهم، فقال:- فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين بالوجوب، فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام؛ فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء' فيريد شَيْخ الإِسْلامِ هنا أن يلزم الفقهاء المخالفين الذين قالوا: إن عليهم القضاء. وأخذ يستدل على ذلك فقال: 'كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء' ومثله: ما لو جاءنا اليوم رجل من أمريكا أو من الهند أو من أي بلد سواء كان عابداً للنار، أو عابداً للصليب، أو يهودياً، أو كائناً ما كان دينه، وآمن بالله تبارك وتعالى، فإننا نقول: قد تبت من الكفر وعليك الصلاة، ونعلمه أحكامها، ويبتدئ عليه الوجوب منذ أن أسلم باتفاق العلماء، ولا نقول له: اقضِ منذ أن بلغت سن البلوغ إلى اليوم، لأنها قضية متفق عليها بين العلماء وهو أن الوجوب يبتدئ في حقه منذ إعلان إسلامه، فتبعاً لذلك قال جمهور العلماء: وكذلك المرتد لا يجب عليه أن يأتي بما تركه في حال كفره، وردته. قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'ومذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أظهر الروايتين عنه -هذا هو الاتفاق- والأخرى يقضي المرتد كقول الشافعي والأول أظهر ' -ثم أخذ يأتي بالأدلة على ذلك، ويقول:-: 'فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كـ الحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] الآية والتي بعدها، وكـ عبد الله بن أبي السرح والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر أنزل فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110] فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي السرح عاد إلى الإسلام عام الفتح وبايعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يأمر أحداً منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا' فلم يأمره النبي بأن يعيد ما كان قد ترك من الأركان أو الواجبات في حال ردته، وهذا معلوم وثابت من السيرة، بل عاملهم معاملة الكافر إذا أسلم. قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بـ صنعاء في اليمن -والذين عظمت فتنته حتى سلط الله عليه من قتله على فراشه- ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام ولم يؤمروا بالإعادة' وكان ذلك قبيل وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'وتنبأ مسيلمة الكذاب واتبعه خلق كثير' كانوا في اليمامة، وهؤلاء توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم ما يزالون على ردتهم، ثم جاء من بعده خليفته أبو بكر رضي الله تعالى عنه، قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'قاتلهم الصديق والصحابة بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته '. ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ:-: 'وكان أكثر البوادي قد ارتدوا، ثم عادوا إلى الإسلام' فكما هو معلوم أنه عندما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر أكثر العرب وارتدوا، ولم يبق إلا ثلاث مدن هي: مكة والمدينة والطائف وفي البحرين وهم: بنو عبد القيس؛ لأن العقلية العربية والعقلية الجاهلية في كل زمان ومكان ترى أن المبادئ والعقائد ترتبط عندهم بالأشخاص، فإذا مات ظنوا أن دينه قد انتهى، فهذا هو الظن الباطل الذي ظنوه بالدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى ليبلغ ما بلغ الليل والنهار، وليظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، فقالوا: مات محمد، إذن مات دينه، وظنوا أن الأمر سوف يرجع جاهلية، ويرجعون إلى عكاظ ومجنة وذي المجاز والأشعار، والأخبار، ونهب الطرق، وعبادة الأصنام لأن الإيمان لم يدخل قلوبهم، أما من آمن كما في هذه المدن الثلاث، ومن حولها ومن كانوا في البحرين وغيرها، ممن ثبت الله تبارك وتعالى الإيمان في قلبه، فإنهم كانوا أكثر علماً بالله، وأكثر يقيناً فيه وثقة في وعده، ونصرة لدينه من أن يرتدوا عنه. إذاً ترك أكثر العرب دينهم وارتدوا، فقاتلهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولم يأمروا أحداً منهم بأن يقضي، وأن يعيد ما كان قد فاته من الصلوات، ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'ولم يأمر أحداً منهم بقضاء ما ترك من الصلاة، وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] يتناول كل كافر' فكل كافر يتوب يغفر الله تبارك وتعالى له ما قد سلف، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى ونعمة، وباب عظيم من أبواب الدعوة وتأليف القلوب، فإن كان كافراً أصلياً فإن باب الله مفتوح، وما عليه إلا أن يتشهد وأن يؤمن بالله حقاً، وأن يدخل في هذا الدين بصدق وإخلاص؛ فيكون كواحد من المسلمين، ويغفر له ما قد سلف، هذا فضل ونعمة من الله. وكذلك من أضله شيطانه، أو جهله وغيه، فارتد -عياذاً بالله- بعد أن عرف الحق يظل أمامه الأمل، وباب التوبة مفتوحاً، ليتوب إلى رشده، ويعود إلى الحق، وهذه ميزة عظيمة ورحمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا على اعتبار أن هؤلاء كان حكمهم حكم المرتدين. والحالة الأخرى: أن يكون لهؤلاء الصوفية المتأولين حكم الجهال قال: 'وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور به ولا قضاء عليهم' وهنا نرجع إلى الأدلة التسعة التي ذكرناها سابقاً، قال: 'فهذا حكم من تركها غير معتقد بوجوبها' فهذا حكم يشملهم جميعاً وإن اختلف السبب؛ فهذا يعتقد أنها غير واجبة لأن الشيخ يصلي عنه، أو لأنه من العارفين، والآخر يعتقد عدم وجوبها لأنه لم يبلغه حكمها.

حكم من ترك الصلاة معتقدا وجوبها

حكم من ترك الصلاة معتقداً وجوبها قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'أما من أعتقد وجوبها مع إصراره على الترك فقد ذكر عليه المفرعون من الفقهاء فروعاً: أحدها هذا، وقيل عند جمهورهم: مالك، والشافعي وأحمد وإذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافراً مرتداً، أو فاسقاً كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين'. وهنا كلام طويل للعلماء، فإذا كان رجل يعتقد أنها واجبة ولكنه لا يصلي سألناه وناقشناه فأقر بالوجوب، لكنه يرفض الصلاة؛ فجيء به إلى القضاء وقيل له: تب، أو أدِّ ما افترض الله تعالى عليك، وإلا فاعلم أن جزاءك القتل، وستؤخذ إلى الساحة، ويراك الناس ونفصل هذا الرأس عن هذا الجسد إن لم تصل، فقال: لا أصلي أبداً، فجيء به وضربت عنقه، ففي هذه الحالة ما حكم هذا الرجل؟ فـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقول: من قال إن هذا فيه خلاف فهو مخطئ قال: ' وهذه فروع فاسدة؛ لأن الصحابة رضي تعالى عنهم لم ينقل عنهم شيء من هذه الفروع، وهم أكمل الناس فقهاً، وعلماً' قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن معتقداً وجوبها' أي: بداهة بأن الله خالقه، ومعبوده، وأنه قد أمره بالصلاة، وأنه يجب عليه أن يؤديها، ثم قال: 'يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل وهو لا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، لأنه لا يكون مقراً بشيء أو محباً له أو مؤمناًُ به، ثم يرغم عليه أن يفعله، إلا إذا كان رافضاً له، فهذا دليل على كفره، وأنه لا يقبله أبداً، وإلا كيف يفضّل السيف عليه وهو في باطنه يحبه هذا أولاً'. 'أما ثانياً: -وهي كلمة عظيمة له رحمه الله فقال:- ولم يقع هذا قط في الإسلام ' أن يصر على ترك الصلاة وإن قطعوا رأسه إلا من كان زنديقاً في الباطن، أما أن يكون في باطنه مؤمناً فلا، أو جاهلاً فنعلمه، لأن الجاهل لا يعرض على السيف حتى يعلم، قال: 'فمتى أمتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين ' كما قال رحمه الله في كتاب الإيمان إذا جئنا برجل وقال: أنا من أهل السنة، فقيل له: ترض على أبي بكر وعمر، فقال: لا أترضى عنهما، قلنا: نقتلك، ونضربك، ونعذبك فأبى، فلا يصدق أحد أنه -في باطنه- من أهل السنة ويحب أبا بكر وعمر بل نكتشف أنه رافضي؛ لأن الرافضة لشدة حقدهم، وعداوتهم للشيخين الكريمين رضي الله تعالى عنهما خصوصاً ولعامة الصحابة الآخرين، لا يمكن أن يترضوا عنهم، فالمؤمن من أهل السنة على الحقيقة لا يمنعه شيء أن يترضى عليها، لأنه مقتنع بذلك، ولا يمكن أنه يحتمل الضرب فضلاً عن القتل في سبيل فعل شيء هو مقتنع به، ولا يكون كذلك إلا إذا كان كارها له. فلو جئنا بإنسان وقلنا له: هذا طعام نظيف كله، وهو شدَّة من الجوع، فأبى أن يأكل، فقلنا: نضربك حتى تأكل مع أن الجائع لا يحتاج إلى الضرب ليأكل، لكن إذا امتنع حتى ضربناه، فهذا دليل على أنه إما مسموم أو حرام، لأنه فضل الضرب على أكله ولا يمكن أن يتركه وهو جائع، فالقاعدة التي يعرفها الناس جميعاً أن من تحمل العذاب أو الضرب أو القتل في سبيل شيء معين فهو معتقد له، وهذا واضح وهذا الرجل عقيدته أن يترك الصلاة، والذي وقع هو أن يؤتى برجل، ويقال له: صل، فإن أبى فنعلم أن هذا الرجل منافق زنديق ملحد، كما حدث لبعض من درسوا في بلاد الغرب، أو اعتقدوا العقائد الباطلة الكفرية، كـ الشيوعية والإلحاد أو غيره، وفعلاً يصرون على ألا يصلوا فنعرف أنه قد تغلغلت في نفسه هذه العقيدة الخبيثة، حتى أصبح يرى أن عليه أن يموت ولا يرجع إلى الدين، فهذا يموت كافراً، ويقتل كافراً، ولا يجوز أن نختلف في حكمه، فنقول: لعله يكون مقراً بالوجوب، وهذا من فقه شَيْخ الإِسْلامِ، وقد أخذه من حال ومعاملة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع من تركوا شيئاً من الدين. قال شَيْخ الإِسْلامِ: ' استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا ودلت عليه النصوص الصحيحة كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة} رواه مسلم وقوله: {العهد الذي بينا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وقول عبد الله بن شقيق: [[كان أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة]] فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط؛ فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب واعتقاد أن تاركها يستحق القتل داع تام إلى فعلها' فمعنى كلامه: أن الإنسان يقوم في قلبه المقتضي أو الدافع الذي نسميه الآن في مصطلحاتنا الحديثة (الدافع التام أو الدافع القوي) لعمل معين، فهذا إذا اكتمل لدى الإنسان، وجاء أيضاً من يحضه عليه ولم يكن مانع من فعله؛ فلا بد أن يفعله، فالاعتقاد أن تاركها يستحق القتل، وأن هذا من الدين مع اعتقاده بوجوبها فهذا داع تام ودافع إلى فعلها، ثم قال: 'والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادراً ولم يفعل قط عُلِمَ أن الداعي في حقه لم يوجد -أي الدافع غير موجود، ولو وجد لصلى أو صام أو زكى أو عمل، ثم قال- فالاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل؛ لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها وتفويتها أحياناً' أقول هذا وأنا آسف جداً، لأني سمعت شريطاً لأحد الدعاة، وله إلمام بعلم الحديث، ويدير أحد المراكز الدعوية، وجدته يقرر أن تارك الصلاة ليس بكافر، ويقول: الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، وتارك العمل ليس بكافر، ويؤصل لهذه القضية، فكأنه يدعو الناس إلى حقيقة غائبة عن أذهانهم من العقائد، ومثله الذي كتب كتاباً أسماه " فتح من العزيز الغفار وبيان أن تارك الصلاة ليس بكافر من أهل النار " فعجيب أمر هؤلاء، وخاصة الأخ الداعية كيف أنه نسي أو غفل عن النقل الصحيح، وعن إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك، وإطباق أئمة الإسلام وخاصة أهل الحديث على ذلك، وقول وفتاوى علمائنا المعاصرين -حفظهم الله- كلهم متفقون على أن تارك الصلاة عامداً مع قيام العلم والحجة كافر. وتعجبت من قوله بأن هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة فمعنى كلامه: أن من اعتقد غير ذلك؛ فإنه على غير عقيدة أهل السنة والجماعة، فعقيدة الخوارج هم الذين يكفرون بترك بعض الأعمال، وهذا كلام عجيب، مع أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقرر هذا الأصل، وهذه العقيدة الواضحة الجلية في مواضع من كتبه ولا سيما في كتاب الإيمان بتوسع. لكن نقول: لعل اللبس جاء من أن بعض الناس يصلي أحياناً، ويفوت أحياناً، ويؤخر أحياناً، وهذا ما نسأل عنه كثيراً فمثلاً: تتصل امرأة وتقول: زوجي أحياناً يصلي، وأحياناً لا يصلي، فهل أفارقه؟ وتقول: قرأت أو سمعت بعض العلماء يقول: إن الرجل إذا كان تاركاً للصلاة فإن زوجته تحرم عليه، والعقد باطل، والأبناء أبناء زنا وما أشبه ذلك، فتقول: إذاً ماذا أفعل؟ وهكذا يقرءون بعض الأدلة كما في حديث عبادة -الذي سنذكره بعد قليل- فيقولون: إذاً الذي لا يحافظ على الصلاة لا يزال مسلماً، وهكذا مثل هذه الشبهات، فيقع في حيرة واضطراب، ويقول: كيف نقول: إن الإجماع قد انعقد وثبت على كفره، ومع ذلك نسمع من يقول: لا. أو مثل هؤلاء المساكين، تقول: إذاً ماذا أفعل أنا؟ هل فعلاً أتركه وأفارقه؟ فنقول: من هنا يأتي اللبس.

الفرق بين تارك الصلاة وبين المتهاون فيها

الفرق بين تارك الصلاة وبين المتهاون فيها نقول هناك فرق بين التارك المطلق للصلاة، وبين الذي لا يحافظ عليها، فالتارك المطلق هو الذي لا يصلي أبداً، وهذا كافر لا ينبغي ولا يجوز أن نتنازع فيه. أما المتهاون وهو: الذي ينام عن فريضة -مثلاً- ويؤدي فريضة، فهذا ليس بغريب أن نقول: إنه كفر في الفجر عندما لم يصل الفجر ثم جاء الظهر فصلى فأسلم، فهذه طبيعة وحالة ذكرها الله عن المنافقين وأنهم درجات، فمنهم المنافق المحض الذي لم يدخل الإيمان قلبه أبداً، ومنهم الذي نفاقه عن ضعف إيمان، فهو لم يصل وإن كان يسمى بالمنافق لكن لا يصل به الحال لأن يكفر؛ لكنه يصلي أحياناً ويترك أحياناً إلى أن يقرب من الخيط الرقيق الفاصل بين الإسلام والكفر، فهو يذهب مرة ويعود مرة إلى أن يقرب من حافة الكفر، ومرة يعود إلى دائرة الإيمان، فهذا حال واقع عند كيثر من الناس. فرجل يصلي أحياناً ويترك أحياناً، فهو في هذا التأرجح بين الإيمان والكفر، فهذا نقول له: كن مسلماً حقاً وحافط على صلاتك، وإلا قد تموت ويأتيك الأجل وأنت في الخط الآخر وقد خرجت، فتموت كافراً، وليس هناك خاتمة أسوء من خاتمة الذي يموت على الكفر، ولا سيما وقد عرف الإيمان، وهو يأتي إليه أحياناً ويعود إليه إحياناً، فهذا نقول له: ابتعد ما استطعت عن دائرة الكفر بأن تحافظ على الصلاة في أوقاتها جماعة. إن هذا الحال هو الذي قد يشكل، وقد يسبب نوعاً من الخطأ في الفهم أو في التصور، قال شَيْخ الإِسْلامِ: ' فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً؛ لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة فيشتبه الحكم، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها وهؤلاء تحت الوعيد ' وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن عن عبادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له} ' فبعض العلماء فهم من الحديث أن المقصود هو: من لم يحافظ عليها بالكلية وهذا فهم خطأ، والصحيح أن هناك فرقاً بين من لم يحافظ، ومن يترك بالكلية، فالأول تحت المشيئة والثاني كافر، وبهذا الجمع تتعاضد الأدلة في هذا الشأن. لكن قد يعترض بعضهم بما قاله النووي وغيره من علماء الشافعية وأمثالهم فنقول: الخلاف موجود، وإنما نحن نريد بيان القول الراجح، وهو ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأما غيرهم فيقول شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله وقد قرر ذلك في: الإيمان الأوسط بشكل أوضح-: 'إن هؤلاء الذين يرون أن تارك الصلاة ليس بكافر دخلت عليهم شبهة المرجئة ' وهذا الأخ الداعية الذي ذكرته سابقاً دخلت عليه شبهة المرجئة، وهي فصل القول عن العمل، بينما لا يمكن أن ينفصل القول عن العمل عند أهل السنة والجماعة فإذا وجد قول القلب التام المطلوب شرعاً، فإنه يستلزم عمل الجوارح بقدره، فمن كان عمل قلبه قوياً للغاية يقيناً، وإخلاصاً، وصدقاً، وانقياداً، فلا بد أن يصلي صلاة خاشعة، صادقة، منقادة يظهر في إيمان هذا القلب، ومن كان إيمانه أقل فإن صلاته وبقية أعماله كذلك، أما من لم يؤد الصلاة مطلقاً فهذا دليل على أنه لا إيمان في قلبه مطلقاً. إذاً: هذا حكم التائب الذي تاب وقد ترك الصلاة؛ أن ننبهه ونذكّره بأن عليه أن يصلي، ونذكره بالله، وأنه لا يجوز له أن يترك فريضة من فرائض الله لأنه سيكون بهذا كافراً، ونقول له: يجب عليك أن تعيد، أو أن تقضي ما فات من الصلوات.

مفهوم العبادة

مفهوم العبادة في هذه المادة تحدث الشيخ عن الحاجة الفطرية إلى العبودية، وأنه ما من أحد إلا والعبودية مغروسة فيه، فهو بفطرته عبد، ثم بين أن البشر إنما يختلفون في المعبود، وفي كيفية العبادة، وذكر سبب ضلال البشر بعد آدم عليه السلام، ثم تكلم عن المعبودات الباطلة من دون الله، متطرقاً إلى موضوع شمولية العبادة، مع إيراد عدد من الأدلة على ذلك؛ وتكلم عن عبادة أصناف الناس كالملوك والعلماء والتجار وغيرهم، مبيناً خطر البدعة وتاريخ دخولها على الإسلام، وخطر الفرق ذات الأفكار الدخيلة، وعلى رأسها فرقة الصوفية بطرقها المختلفة.

الحاجة إلى العبادة

الحاجة إلى العبادة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57] فالله تبارك وتعالى قد بيَّن في هذه الآية الغاية من خلق الثقلين وهي (عبادته)؛ وهذه العبادة يفتقر إليها المخلوق افتقاره إلى الطعام والشراب؛ بل ربما كان أكثر من ذلك؛ لأن جوعة الروح وجوعة القلب أعظم من جوعة الجسد، فإن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن الطعام والشراب، وكذا عن الجو الذي يعيش فيه جسده، فكذلك -بل أعظم منه- لا يستطيع الإنسان أن يكون في كفاية عن غذاء الروح (أي: عن العبودية لله).

حاجة العبد إلى الله حاجة فطرية ذاتية

حاجة العبد إلى الله حاجة فطرية ذاتية إن افتقار المخلوق إلى أن يكون عبداً لله -تبارك وتعالى- هو افتقار ذاتي فطري، وهو حاجة رجوعة لا يسدها حقاً إلا عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الذي أودع في العبد هذه الحاجة الفطرية، وهذا الافتقار الذاتي؛ كي يعبده وحده تبارك وتعالى، ولذلك مدح الله سبحانه نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعظم مقامات التشريف، وهو: مقام الإسراء والمعراج الذي لن يبلغه قبله بشر ولم يبلغه أحد بعده، فقال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء:1] فوصفه بالعبودية؛ لأنها أشرف مقام، ولأنها أعظم ما تطمح إليه النفس البشرية؛ فبتحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- يرتقي العبد إلى أعلى درجات الكمال الإنساني الذي يمكن أن يبلغه أي بشر، وأعظم الناس عبودية هم: الملائكة، والأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من البشر، ممن انتهج منهجهم، وسار على طريقهم.

الكفار يلجئون إلى الله

الكفار يلجئون إلى الله وهذا الافتقار الذاتي إلى عبادة الله من فطريته وضروريته في النفس الإنسانية، أنه لا يمكن أن ينكره منكر، ولا يكابر فيه مكابر، حتى الكفار الذين جحدوا آيات الله، وعاندوا أنبياء الله، وردوا ما جاءوا به من أمر الله، واستكبروا على عبودية الله، فإنك في وقت الشدة تراهم يذعنون لله تبارك وتعالى بالعبودية، ويظهرون الافتقار والحاجة إليه، في ذلك الوقت (وقت الضرورة) الذي تنتفي فيه كل البهارج وكل ما يكون على القلب من الكبر والعتو. إذاً: كما ذكر الله عنهم في القرآن حاكياً حالهم بأنهم إذا ركبوا في الفلك وأحاط بهم الموج من كل مكان، حينئذٍ ينسون آلهتهم، ويعلمون أن تلك الآلهه {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23] فهم الذين اختلقوها واخترعوها، وهم أول من يعلم أنها لا تغني ولا تنفع ولا تضر؛ فيدعون الله تعالى بتضرع وبكاء. وهنا سأذكر أمثلة من العالم الحاضر، الذي يعيش الآن في أعتى درجات التكبر عن عبادة الله وعن الإذعان والإعلان بالعبودية لله، بل عن الإقرار لله تعالى بالألوهية، بل بوجوده تبارك وتعالى؛ فهم ينكرون أن يكون الله موجوداً، فضلاً على أن يتقربوا إليه بالعبادة، أو يخضعوا له. هذا العالم المتجبر المتكبر، وإنَّ أعتى وأكبر من يمثل ذلك هي: الشيوعية الملحدة، وأعتى دول الشيوعية في العالم هي: الاتحاد السوفيتي، وإن أعتى طواغيت هذه الدولة هو: استالين عندما اجتاحت جيوش هتلر أراضي بلاده -أثناء الحرب العالمية الثانية- وكانت بلاده تحرم الأديان تحريماً قاطعاً، بل وحظرتها حظراً باتاً وأقفلت دور العبادة من أي ملة؛ فعند ذلك لم يكن لديه أية حيلة ولا أي منقذ، وهنالك يأمر هذا الطاغوت اللعين أن تفتح أبواب الكنائس، وأن يتضرع الناس بدعاءِ الله، وأن يطلبوا من الله التأييد على هتلر وعلى جنوده النازيين!! فهذا الإقرار الذي ذكره الله تبارك وتعالى عن الأمم الخالية يتمثل أمامنا في أعتى طاغوت من طواغيت أعتى دولة شيوعية ملحدة تنكر وجود الله. ! وأذكر أنني قرأت في مذكرات شدشد أنه هو وإيزنهاور عندما كانا يتوليان قيادة جيوش الحلفاء في الحرب العالمية نفسها، أنهما كانا على إحدى البوارج في البحر، وكان الموقف في أشد ما يكون من الحرج، وكانت جيوش النازية ما تزال في عنفوان وقمة انتصاراتها واجتياحها لـ أوروبا؛ وعندئذٍ عملا قداساً على ظهر البارجة وأخذا يبتهلان إلى الله! وهما الرجلان اللذان لم يعرفا الله عز وجل من قبل؛ فهؤلاء عتاة الشرق والغرب في عالمنا المتمرد على الله يلجئون وقت الشدة إلى الله، ويعترفون أنه لا ملجأ ولا منجىً منه إلا إليه، وأنه هو الذي يغيث الملهوف، وينقذ المكروب ويكشف الغم. فالعبودية ضرورة فطرية، فطر الله تبارك وتعالى عليها كل واحد.

الاختلاف في العبودية عند البشر

الاختلاف في العبودية عند البشر إن واقع البشر الذي نراه يختلف اختلافا بيناً لا في قضية العبودية من أصلها أو في العبادة من حيث هي عبادة ولكن من حيث نوع العبادة، ومن حيث نوع المعبود، ومن حيث كيفية التعبد، وهنا ضلت الأمم وتاهت.

سبب الضلال

سبب الضلال قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة:213] كان الناس أمة واحدة (أي: كانوا على التوحيد) فالمُقَدَّر هنا، (فأشركوا وكفروا) كما فسرها ابن عباس -رضي الله عنه- بقوله: [[كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام]] حتى أضلتهم الشياطين الذين جاءوا إلى قوم نوح وأمروهم أن يعيدوا ذكريات القوم الذين سماهم الله تبارك وتعالى من الرجال العبّاد: (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا). عشرة قرون والبشرية على التوحيد النقي، تعبد الله -تبارك وتعالى- ثم اختلفوا، ومنذ أن اختلفوا -وما يزالون مختلفين- ظهرت العبوديات المتباينة، والديانات المختلفة؛ التي منها ما كان من عند الله فحَّرفه الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:79] وهم: الأحبار، والرهبان، والكهان، الذين اتخذهم أقوامهم أرباباً من دون الله، وحرفه -أيضاً- الطواغيت من الملوك والحكام من الفراعنة ومن قبلهم، ليعبِّدوا الناس لأنفسهم، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها جاء فرعون ليقول للقوم الذين كانوا يعبدون آلهة شتى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]. وممن قام بتحريف الأديان المبتدعة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كما قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فكل من اتبع هواه في عبودية الله أو عبد الله لا كما أمر الله، وإنما كما يحلو له، أو كما يرد على خاطره، أو كما يرى من تقاليد آبائه وأجداده؛ فله حظ من ذلك.

المعبودات الباطلة مظاهرها وأشكالها

المعبودات الباطلة مظاهرها وأشكالها لقد تعددت العبوديات وتنوعت؛ فهناك اليوم بشر! يعملون في المصانع النووية، وينتجون القنابل الذرية التي يهددون بها المسلمين، ولكنهم يعبدون البقر! هذا الحيوان المعروف الذي نراه!! ويتبركون بما يخرج منها!!! وهناك من يعبدون البشر ويعطونهم الربوبية الكاملة وهم -أيضاً- أحياء، وفي القرن العشرين القرن الذي يقال عنه: إنه قرن الحضارة والعلم والتطور، وإن مرحلة الدين هي مرحلة تجاوزتها الإنسانية وخلفتها وراءها، وانتقلت الآن إلى طور الحضارة وطور العلم، وما الدول الشيوعية إلا نموذج لذلك. ويوجد -أيضاً- عُبَّاد الشهوات الذين يعبدون الهوى، والذين يعبدون بطونهم وفروجهم، وهؤلاء يقدمون عبودية كاملة وعبودية حقيقية. قد يقول البعض: إنها ليست عبودية بالمعنى الواضح، ولكنها في الأخير نرى أنها عبودية لمن أوحى ولمن وسوس ولمن زين هذه العبوديات؛ إما عبودية الشيطان، أو عبودية المرأة، أو عبودية الأفلام، أو عبودية الخلاعة، أو عبودية ما يسمى بالموضات، فكل هذه أنواع من العبودية. وهناك -أيضاً- عبودية التقاليد وهي عبودية شديدة الوطأة فهي ثقيلة، ولا أدَّل على ثقل هذا النوع من العبودية من أنه في إمكان الإنسان أن يتعبد أو يصلي أو يستقيم مع أنه يتعرض للأذى لكنه قد يتحمل ذلك، لكن أن يخالف عادة اجتماعية أو تقليداً من تقاليد القبيلة أو من تقليد البيئة فهذا أشد شيء عليه، وهنا تظهر حقيقة اتباع الناس لهذه العبودية التي لم يشرعها الله تبارك وتعالى وإنما هي تقاليد، قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فقط! دون النظر إلى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحل هذا أو حرَّمه. هناك -أيضاً- عبودية أخرى، وهي عبودية اللهو واللعب (عبودية الملاهي بجميع أنواعها) فشياطين الجن والإنس الذين كما قال الله تبارك وتعالى عنهم: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] أوجدوا هذا النوع من العبودية لمن؟! للجماهير (الطبقة العريضة الممتدة من البشر الذين هم أقل من أن يفهموا الأفكار أقل من أن يستوعبوا المبادئ أو النظريات التي يخطط لها هؤلاء الشياطين) فجاءوا لهم بعبودية اللهو واللعب، ومنها: الكرة -كمثال على ذلك، فالفرق كبير بين (الرياضة -بين النشاط- بين الترفيه) بين أي نوع من الأنواع التي يمكن أن يقوم الإنسان بها مع نفسه أو مع غيره، فرق بين هذه وبين العبودية التي تعطي الولاء والبراء! تعطي المحبة والبغض! وهذا الذي فطن إليه شياطين الجن والإنس، فرأوا أن القلب البشري -كما خلقه الله- لا بد أن يُعادي وأن يوالي، أي: أن فيه خطان مزدوجان: خط الحب وخط البغض. فمثلاً: عندما تسمع أي خبر في الإذاعة عن القتال في أفغانستان، فمجرد أن يخطر على بالك هذا الخبر فإنك سوف تتعاطف تلقائياً مع إخوانك المجاهدين، وتتمنى أن يكون الخبر مفرحاً، وأنهم حققوا انتصارات كبيرة على عدوهم! وبالمقابل تتغيظ من عدوهم وتبغضه، وتتمنى أن يحقق الله له الذلة والهزيمة الساحقة! (وهذه هي فطرة بشرية!)، فأراد شياطين الإنس والجن أن يأتوا إلى هذا الإناء فيفرغوا فيه ويضعوا فيه ما يملؤه مما يصرف البشر -وبخاصة المسلمين- ويجعلهم يعرضون عن الطريق القويم إلى طريق آخر، وهذا الإناء الذي جعله الله تبارك وتعالى لنا هو القلب، فإذا امتلأ بما يضعه هؤلاء الشياطين؛ فلن يبق فيه مجال لما يلقيه الملك الذي يأمرك بالخير، كما في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (ويظهر أنه موقوف عليه) {إن للملك لمة وللشيطان لمة} فالقلب البشري تعتريه لمة الملك ولمة الشيطان، ولا يمكن أن يخلو القلب من هذا أو ذاك؛ فهؤلاء يريدون أن يجعلوا لمة الشيطان هي الغاية، فلا يبقى للمة الملك مدخل ولا منفذ إلى القلب البشري؛ ولذلك جاءوا بهذه المغريات، وأتوا بالتعصب والتحزب والولاء والعداء لها! فجعلوها كأنما هي غاية!! فتحققت عبودية المشتغلين بها على النحو الذي خطط له هؤلاء؛ فالقلب البشري لا يخلو من الحب والكره، وهما (أي: الحب والكره) مع الإرادة يحققان العبودية لأي معبود كان.

شمولية العبادة

شمولية العبادة يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] أي: فكل بشر كادح وكل مخلوق كادح وكل مخلوق عابد كادح فهذا الكدح هو عبادة؛ فإن كان يكدح ويعمل في طاعة الله فهذا عبد لله، وإن كان يكدح ويعمل للدنيا فهو عبد للدنيا، وهو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم} وإن كان يكدح من أجل المرأة فهو عبد للمرأة، وإن كان يكدح من أجل أي هدف مادي أو أي غرض دنيوي فهو عبد لذلك الغرض.

شمولية مفهوم العبادة في الإسلام وأدلته

شمولية مفهوم العبادة في الإسلام وأدلته ولشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رسالة قيمة عنوانها (العبودية) ذكر فيها هذا الأمر، وذكر ما هو أشمل منه؛ فكل مخلوق لابد وأن يكون عبداً، فإما أن يعبد الله، وإما أن يعبد غير الله، إما أن يوالي في الله فيحب إخوانه المؤمنين ويكره أعداءه الكافرين, وإما أن يوالي في غير الله، فيحب أعداء الدين ويكره المؤمنين، ولا يمكن أن يخرج الإنسان عن ذلك؛ لأنه كادح، وهذا الكدح لا بد أن يكون لغرض، ولا بد أن يكون وراء الكدح هدفاً معيناً، وهذا الهدف به تتحدد نوعية العبودية، فإذا كانت العبودية بهذا الشكل؛ فإننا نعرف لماذا كانت العبادة في الإسلام عامة وشاملة؟ في كل النشاط (الكدح) البشري ككل. فالعبادة تحتويه وتحتضنه؛ فإما أن يكون في طاعة الله (من الواجبات أو من النوافل أو من المستحبات) وإما أن يكون في ضد ذلك من المنهيات أو من المكروهات، وإما أن يكون في درجة المباح، والمباح إن كان وسيلة للطاعة التحق بالطاعة، وإن كان وسيلة للمعصية التحق بالمعصية. فكل إنسان بما أنه كادح فهو عابد، بل وإن كل دولة وكل أمة بما أنها بشر فهي عابدة لشيء ما، ولغرض ما، ولإله ما؛ فإما أن يكون هذا الإله هو الله تبارك وتعالى، وإما أن يكون الله ومعه غيره من الأوثان التي يشرك بها البشر، وإما أن يكون معبوداً لغير الله. فمن هنا كان مفهوم العبادة في الإسلام أعظم وأشمل مفهوم، وفي ذلك جاءت الآيات وجاءت الأحاديث، التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه العظيم، فذكر لنا من الآيات، والتشريعات، والعبر، ومن الحكم، ومن أخبار الأنبياء ما يدل على ذلك؛ فنجد نبي الله إبراهيم عليه السلام يخاطب الملك فيدعوه إلى عبادة الله، وكذلك موسى وهارون عليهما السلام يخاطبان فرعون، فيدعوانه إلى عبادة الله. وهكذا كل نبي فإنه دائماً يدعو أمته إلى عبادة الله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. فعبادة الله التي تضمنتها الكلمة العظيمة -كلمة لا إله إلا الله- كانت دعوة كل نبي بعثه الله، يخاطب بها الملوك، ويخاطب بها العوام، ويخاطب بها ما نطلق عليه المثقفين؛ كل هؤلاء مدعوون إلى عبادة الله فمن كان ملكاً فليعبد الله من خلال ملكه، فليقم شرع الله ودين الله عز وجلَّ كما قال جل شأنه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].

عبودية العلماء لله

عبودية العلماء لله أما العلماء فعبوديتهم أعظم لله سبحانه؛ لأن الله -جل شأنه- جعلهم شهداء على ألوهيته دون غيرهم، كما قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فجعلهم الله تبارك وتعالى شهداء في أعظم قضية وهي ألوهيته التي شهد بها الله -جل شأنه- ثم ملائكته الذين يسبحون له في الليل والنهار لا يقترون ولا يملون، ثم أولو العلم الذين يقيم الله تعالى بهم الحجة على العالمين. فعبوديتهم أعظم؛ لأنهم الرقباء على البشر جميعاً؛ لأن العلماء في هذه الأمة هم في مقام الأنبياء في الأمم التي قبلنا، فهم رقباء على شرع الله عز وجل، وعلى أفعال الناس؛ ولهذا تجدون الإمام ابن القيم رحمه الله ألف عن العلماء كتاب (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، فهم بمثابة الموقعين عن الله، لأن حكم الله لا نعرفه إلا عن طريق هؤلاء العلماء، فكأنما يوقعون هذا حرام من حرمه؟ الله، هذا حلال من أحله؟ الله، فإذا قال العالم هذا حلال أو هذا حرام فهو يوقع يخبرنا عن الله تبارك وتعالى؛ ومن هنا كانت عبوديتهم أعظم. وهم يشهدون في الآخرة كما يشهدون في الدنيا، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الروم:56] وهذا عندما يقسم المجرمون أنهم ما لبثوا في هذه الدنيا غير ساعة، فمن يشهد يوم القيامة؟ أو من يقيم الحجة على المنكرين؟ إنهم الذين أوتوا العلم والإيمان؛ فالعلماء يشهدون في الدنيا ويشهدون في الآخرة؛ لأن رتبتهم هي رتبة الأنبياء، ومقامهم هو مقام الأنبياء.

عبودية التاجر

عبودية التاجر وكذلك التاجر في متجره عليه عبادة عُظمى، وهي: أن يتقِ الله وألا يغش ولا يخون، وأن يكون صادقاً وألا ينفق بيعه وشراءه بالحلف الكاذب، وكذلك هو منهي عن المناجشة، وأن يبيع على بيع أخيه، وعن أن يبيع الحاضر للبادي، وأحكام في البيع، البيوع المحرمة البيوع المكروهه ومتى يجوز؟ ومتى لا يجوز؟ ما يتعلق بالخيار، ما يتعلق بالأجل، ما يتعلق بصفة المبيع أحكام شرعها الله تبارك وتعالى في هذا المجال، فأحل البيع، وحرم الربا، وحرم الغش، وجعل لكل شيء حكمه حتى الشفعة، وهي من الأحكام التي قيل: إن الأمم قبلنا لم تعرفها. وشرع الله تبارك وتعالى أحكام التوارث، ولم يرضَ أن يكلها إلى أحد، بل فصَّلها في كتابه، وترك الاجتهادات المتفرعة عنها للعلماء، كلُّ ذلك شرعه الله؛ ليبين لنا أن هذا المال إنما هو أمانة؛ كما قال سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فهو الذي استخلفنا فيه والمال ماله فلنتق الله فيه.

عبودية المعلم والمتعلم

عبودية المعلم والمتعلم وفي مجال العلم: فالطالب أو المعلم كل منهم -أيضاً- عليه عبودية كاملة لله تبارك وتعالى، بأن يتقي الله ويعمل بما يُعلَّم أو يُعلِّم، وأن يدعو إلى هذا العلم الذي تعلمه، وأن يصبر على الأذى في الدعوة إلى الله إذا دعا إلى هذا العلم، وأن يجعل هذا العلم لوجه الله الكريم، لا يبتغي به أي عرض من أعراض الدنيا.

عبودية المرأة

عبودية المرأة وهكذا المرأة: فالمرأة مطالبة بأنواع من العبوديات تتناسب وتتلاءم مع ما جعل الله لها، وما أودع فيها؛ فهي في بيتها تتعبد الله بطاعة زوجها، وبتربية ابنائها على دين الله، وبغض نظرها، وحفظ فرجها، وبعدم التبرج، وبكل ما شرع الله من الأحكام مما دلت عليه الآيات والأحاديث. إذاً: فكل إنسان مطالب -من حيث أنه إنسان ومن حيث أنه مخلوق- بتحقيق العبودية لله، وهي عبودية عامة لا تدع شيئا من حياة الأفراد ولا من حياة الأمم إلا واستوعبته وشرحته، وبيَّنت منهجه كما جاء في الكتاب والسنة.

البدعة وخطرها

البدعة وخطرها إنَّ التعبد بما لم يأذن به الله، من أخطر ما أصاب الأمة الإسلامية؛ فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه على الدين المعروف لنا جميعا (المنهج القويم) {ما أنا عليه وأصحابي} (أمة واحدة) كما ذكر الله عز وجل فكانت تعبد الله على الطريق القويم الذي لا عوج فيه، وكان كل شيء في هذه الأمة يمضي وفق أمر الله، ولا يُقدِّم أحد بين يدي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أي أمر؛ حتى إن عمر رضي الله عنه لما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أوراق من التوارة، غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضباً شديداً! وقال له: {لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي!} لو بعث أي نبي لاتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يأتِ بشيء من عنده مع أنه نبي، لأن الله تبارك وتعالى أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] فالله عز وجل أخذ العهد على الأنبياء أن ينصروا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يؤمنوا به، فما بالك بغيره من البشر؟!

بدء الانحراف

بدء الانحراف لقد بدأ الانحراف عندما أخذت هذه الأمة تتلقى عن غير كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن القَدَر أن أول من واجه هذه القضية هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فعندما فتح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هو وجيشه الميمون المظفر مدائن كسرى تلك المدينة العظيمة التي ما كان يحلم العرب بأن يروها بأعينهم، فضلاً عن أن يدخلوها! دخلوا فوجدوا فيها الكتب الكثيرة عن الحضارة الفارسية والعقائد والأديان والعلوم التي كانت عند هذه الأمة في هذه المملكة؛ فكتبوا إلى عمر رضي الله عنه: [[يا أمير المؤمنين! قد وجدنا كذا وكذا فما رأيك أنحملها أم ننقلها للمسلمين فلعل فيها علوماً، فكتب رضي الله عنه إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أغنانا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن يكن في هذه الكتب هدىً فقد هدانا الله، وإن يكن فيها غير ذلك فقد كفانا الله، فاطرحوها في الماء أو حرِّقوها]] ولكن هذا الموقف الذي اتخذه عمر رضي الله عنه لم يظل هو الموقف المعمول به؛ فإنه جاء من بعده خالد بن يزيد الأموي الذي ترجم من كتب اليونان قليلاً، ثم أبو جعفر المنصور الذي ترجم بعض الكتب أيضاً، ثم جاء المأمون ففتح الباب على مصراعيه، ودخلت البدع من كل مكان، تُلقي وراء ظهرها بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فظهرت أقوال القدرية، وظهرت أقوال الخوارج، وظهرت الشيعة، وهي التي نفثها اليهود في دين الإسلام ليهدموه، وظهرت هذه الفرق، فنبذت كتاب الله وراء ظهرها، وأخذت تُشرِّع للناس من أنواع التعبدات ما لم يأذن به الله.

خطر الصوفية

خطر الصوفية هناك فرقة كانت أخطر من هذه الفرق جميعاً! لأنها تعاملت مع الطبقة العامة، وتعاملت مع الجمهور ومع المثقفين أيضاً؛ لكنها كانت شعبية، وأخذت تزحف على كل بلد (إنها الصوفية!). فبالتصوف جاءوا إلى قضية العبودية وإلى قضية الافتقار الذاتي الذي يعيشه، ويشعر به كل إنسان، فحركوها، ولكن على غير هدى من الله. فكل واحد منا يتلذذ بقراءة كتاب الله تبارك وتعالى، تنعش قلبه وتدمع لها عينه، ويتفكرها دائماً ويجد لذة عجيبة، وقد يُبتلى الإنسان في بلوى فيرفع يديه إلى الله، فيجد من لذة دعاء الله ما ينسيه مصيبته التي دعا من أجلها، فيشعر ويعلم عندئذ أن في إصابته بهذه المصيبة خير كثير جداً فعرف الله وتلذذ بدعاء الله، وتلذذ بمناجاة الله!! ونحن نعلم كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يتأثرون ويتلذذون بقراءة القرآن، حتى أنهم لما كانوا في سرية من السرايا، وكان أحدهم يقرأ وجاءه العدو، فرماه بالسهم الأول، ثم رماه بالسهم الآخر ولم يتوقف! فمن لذة قراءته للقرآن؛ ترك هذه النبال تدخل في جسده وهو يقرأ ولم يقطع قراءته!! فالعبودية من يشعر بها ويتذوقها ويجدها لا يعدل بها أي متعة في هذا الكون كله!! فمن هذا الباب دخل المبتدعة وأخذوا يُشرِّعون، فأخذوا من حلاوة الذكر تشريعات بأن يُذكر الله عز وجل بغير ما أذن، وأخذوا من حلاوة المناجاة بأن يشرعوا الأدعية الكثيرة جداً، والتي يطبعونها في عصرنا الحاضر ويوزعونها؛ لأن الإنسان إذا دعا الله شعر بالاطمئنان والراحة، فشرعوا من عند أنفسهم ما يصرفون به هذا الإنسان عن عبادة الله؛ ليعبد غير الله؛ فعندما نقول: إن جوعة التعبد أو الحاجة إلى العبودية أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب أو مثلها، فهؤلاء المبتدعة مثلهم كمثل من يأتي إليك وأنت جائع في أشد حالات الجوع يطعم هذا الجائع تراباً! خشباً! ورقاً! يطعمه أي شيء لا ينفعه بل يضره!! ولو أنه بقي على جوعه لكان أفضل؛ لأنه سيبحث عن الغذاء النافع؛ لكن هؤلاء جاءوا ووضعوا بدلاً من الغذاء الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو القرآن والسنة، والذي جعل فيه الحياة والزكاء والنماء، جاءوا فجعلوا مكانه غذاء لا يُسمن ولا يغني من جوع، ولا يعلي ولا ينمي ولا يزكي ولا يطهر، فشرعوا هذه البدع والضلالات؛ فطواغيت الأديان شرعوا أدياناً تخالف دين الله عز وجل، وتصرف الناس عن عبادة الله، وطواغيت البدعة شرعوا بدعاً تخرج الإنسان مع انتسابه للإسلام عن منهج العبودية الصحيح إلى تعبدات وإلى عبوديات لم يشرعها الله ولم يأذن بها ولم ينزلها. فمن هنا نرى خطر هؤلاء المجرمين، وأن إجرامهم لا يقل عن إجرام الأحبار والرهبان والكهان والطواغيت والفراعنة في الأمم التي قبلنا.

أهمية تحقيق العبودية

أهمية تحقيق العبودية إن واجب المسلم أن يحقق العبودية لله كما أراد الله، وأن يتقي الله أينما كان، وألاَّ يُعبد الله إلا بما شرع الله قف عند كل عمل تعمله وانظر هل هذا من طاعة الله؟ فإن كان من طاعة الله فكيفما فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فافعله، وإن كان مما حرم الله فاجتنبه، ولا يغرك كثرة الهالكين، ولا يغرك كثرة الداعين إلى البدع؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب لنا أمثلة منها: أنه رسم خطاً ورسم خطوطاً، وذكر أنه على رأس هذا الخط المستقيم داع يدعو، وعلى جانبيه أبواب، وعليها ستور مرخاة ودعاة يدعون، فهؤلاء دعاة على أبواب جهنم كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا أطاعهم المؤمن (فانحرف يميناً أو يساراً) إما إلى مذهب الغلو في الدين حتى يخرج منه كما فعل الخوارج، وإما إلى مذهب التساهل أو الترك كما يفعل أكثر الناس إلا من رحم الله؛ فإذا انحرف يميناً وشمالاً انحرف عن الخط، وأخذه وتلقفه دعاة جهنم فيلقونه في النار. فهذه العبادة كيف يحققها العبد؟ يحققها باتباع ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف؟ تقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعرض أعمالك كلها عليها، وتعلم أنه ما من عمل يتعلق بك فرداً، أو بمجتمعك الذي تعيش فيه، أو بأمتك عامة، أو بالثقلين كافة؛ إلا والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد شرع فيه ما يغني ويكفي؛ وإنما جعل الله تبارك وتعالى اجتهادات العلماء والفقهاء أموراً كاشفة عن حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبحثون ويجتهدون ليبينوا لنا ما شرع الله؛ ولذلك كل الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وهم أكثر من اتُّبع من العلماء، كلٌّ منهم يقول: 'إذا رأيتم الحديث يخالف كلامي فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي عرض الحائظ! '. هذا وهم أئمة وقدوة! وهم الذين أجمعت عليهم الأمة! لكن قالوا: إذا خالفنا الحديث فلا تعملوا بقولنا أبداً! فكيف إذا كان القول المخالف لشرع الله -قول- أعداء الله؟! قول الكافرين وقول الملحدين وقول المنافقين وقول المجرمين {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] والذين يتبعون الشهوات؛ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] لكن ماذا يريد الذين يتبعون الشهوات؟ قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] أي: لو أطعناهم بما يقولون وبما يزينونه للشباب، وبما يبهرجون للشباب من المغريات؛ لأخرجونا عن عبودية الله تبارك وتعالى. إن العودة إلى الله وإلى الدين وإلى العبودية الحقة لله أصبحت ظاهرة قوية مشاهدة في الشباب المسلم، ونرجو الله أن يمكن لها، وأن تتقدم أكثر فأكثر؛ لكن ماذا عمل هؤلاء المبتدعة؟ هؤلاء قطاع الطريق لما رأوا أن الشباب متجهون إلى الله، جاءوا ووضعوا علامات (اتجه يميناًَ، اتجه شمالاً) ليصرفوا هؤلاء الشباب عن العودة إلى الله تعالى، فلتحذروا من قطاع الطريق هؤلاء! وهم المبتدعة وأصحاب الضلالات وأصحاب الفرق المنحرفة، الذين كل منهم يرفع راية من الرايات! ليأخذ ثلة من الشباب، فيقذف بهم في النار! فيجب على الشاب العائد إلى الله المتمسك بدينه أن يعرف هؤلاء المبتدعة وأن يجتنبهم وأن يتجنب بدعهم؛ كما يجب أن يعرف أيضاً أولئك الملاحدة وأتباع الشهوات، ويجتنب إجرامهم وشهواتهم ومفاسدهم، فليجتنب هذين العدوين! فإنهما من أخطر الأعداء، وكذلك العدو الذي في داخله وهي (هذه النفس) (فيتقي الله في نفسه) ويعلم أنها إنما خلقت لعبادة الله، وإلا فكلُّ نفسٍ بشرية فيها جزء من الفرعونية؛ كما يسميه ابن القيم رحمه الله، كما أن فرعون قال: ((فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فكل إنسان يحب أن يظهر، ويحب أن يرتفع على غيره، يحب أن لا يخضع، وكأنه يرى أن في عبوديته وخضوعه لله قيوداً تعطله؛ ولكن في الحقيقة: إن أعظم حرية هي العبودية لله! وإن أعظم راحة وأعظم نعمة هي عبادة الله!!

حالة أهل الكفر والبدعة

حالة أهل الكفر والبدعة وما أظننا في حاجة إلى أن نعدد ما تعيشه المجتمعات التي لا تعبد الله من القلق والألم من الانتحارات والضياع ومن انتهاك الحرمات من الملل ومن الذعر والإرهاب والجرائم، فلا أظن أننا الآن سنأتي بجديد عندما نتحدث عن هذه الموضوعات؛ لأن كل جريدة ومجلة وكل نشرة أخبار تظهر فيها هذه الحقائق!! فهؤلاء لما لم يعبدوا الله ابتلاهم الله وعذَّبهم بهذه المصائب عقوبة لهم؛ وفي المجتمعات الأخرى مثل مجتمعات الهند، التي هي مدمنة ومغرقة في العبودية، ابتلاهم الله بأنواع أخرى من الابتلاء؛ لأنهم دائماً في عبودية، لكنها عبودية لغير الله، يعبدون الأبقار! ويعبدون الأحجار! فالصوفية منهم، وهم منبع الصوفية! يعذبون أنفسهم بأنواع من العذاب، ويقولون: هذه هي عبودية الله! والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما شرع ذلك ولا أمر به، فهؤلاء يعيشون في عذاب، والغرب الملحد الكافر المتمرد يعيش في عذاب وقلق وذعر، والمجتمعات الشرقية التي يسمونها المنحطة وكل منهم منحط؛ لأنه لم يرتفع إلى عبودية الله هذه المجتمعات المنحطة تعيش في هذا الألم والعذاب والمعاناة الشديدة من الفقر والجوع، ومن التعبدات المرهقة المجهدة!! وشريعة الله سمحة سهله موجودة بين أيديهم، ويمكن أن يعرفوها؛ لكنهم لم يهتدوا إليها! ونحن لم نبلغها لهم! فهؤلاء عبدوا الله على ضلال، وهؤلاء استكبروا عن عبادة الله؛ فعذَّب الله الطائفتين، وأخشى أن يعذبنا بمثل ما عذبهم به إن لم نستقم على أمر الله؛ فإن ما يعانيه الغرب من القلق النفسي أصبح حقيقة في ديار المسلمين أيضاً، وما تعانيه المجتمعات الشرقية من التعبدات المرهقة الثقيلة لغير الله أصبحنا -أيضاً- نعانيه، ونرى أمثلتهم في مجتمعاتنا الإسلامية من شباب يقلدونهم فأخذوا يجوعون أنفسهم! ويتعرون!! ويلبسون الملابس المزرية!! ويضربون أسوأ النماذج للإسلام! ويقال: هذا هو الدين وإذا اهتدى شاب قيل له: تريد أن تهتدي فتكون مثل فلان. فهذه العقوبات التي ابتلي بها الغرب والشرق قد ابتلينا بها -أيضاً- بقدر ما بعدنا عن منهج الاستقامة والعبودية لله.

الأسئلة

الأسئلة

جواز ارتباط اسم الإيمان بأي مسمى من مسميات الشريعة

جواز ارتباط اسم الإيمان بأي مسمىً من مسميات الشريعة Q إن الإيمان يكون بالله فقط، فهل يجوز أن نقول: إننا نؤمن بدعوة التوحيد وأنها دعوة الحق، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ A إن كان الأخ يقصد أن الإيمان إنما يكون بالله، فهل يجوز لي أن أقول: أنا أؤمن بدعوة التوحيد، أو أنا أومن بكذا، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة:137] أي بالذي آمنتم به، وهو القرآن والسنة، فإذا قلت: أنا أؤمن بالإيمان. أيضاً قال الله تعالى في آية أخرى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] فمن يؤمن بالإيمان وبالتوحيد ومن يؤمن بالرسول أو بأي مسمى من مسميات الشريعة كمن يؤمن بالصلاة، أو من يؤمن بالزكاة؛ فهذا لا حرج فيه إن شاء الله إن كان هذا هو المراد.

كيفية التخلص من عبادة الشهوة

كيفية التخلص من عبادة الشهوة Q كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من عبادة شهوة معينة لها تأثير -على نفسه- شديد؟ A عبودية الشهوة من أشد وأخطر العبوديات، فللشيطان طريقان: الشهوات والشبهات، يتعبث بهما الخلق، وعندنا نماذج تجيب على هذا السؤال وأمثاله. فمثلاً: يصعب على المدمنين على الخمر أن يتركوها؛ ولذلك فهم يموتون ولا يتركونها، لكن العرب كانوا يشربونها كعادة، ثم جاء الإسلام ولم تحرم أول الأمر؛ بل كان الصحابة رضي الله عنهم يشربونها من جملة ما يشربون، لكن لما حُرِّمت الخمر أريقت تماماً! فجرت أنهاراً في شوارع المدينة! وكف عنها المؤمنون! ومن هذا الشيء نأخذ عبرة لنا أيضاً، شهوة التبرج أو النظر إلى النساء -مثلاً- كان الصحابة رضي الله عنهم وهم أطهر وأنظف المجتمعات يرى بعضهم بعضاً، فلما أنزل الله الحجاب أصبحت النساء مغطيات كالغربان لا يرى منهن شيئاً أبداً! امتثال عجيب!! فإذاً: الشهوات والتقاليد مهما اشتد ضغطها؛ فإنه بالإيمان بالله يمكن أن يتغلب الإنسان عليها. فيا أخي! إذا كنت تُعاني من عبودية شهوة معينة، فتَّذكر أنك عبدٌ لله، وأنك سوف تلقى الله، وتَّذكر وعيد الله، وتَّذكر كم تعيش في هذه الدنيا! ولكن في النار أبد الآبدين عياذاً بالله. تذكر أن جهنم سوداء مظلمة لو ألقي فيها حجر لاستمر سبعين خريفاً لا يصل إلى قعرها! تَّذكر ما ذكر الله تبارك وتعالى من آيات الوعيد، وما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الوعيد، ثم تَّذكر إلى جانب هذا كله هذه الشهوة، وقارن بين هذا وذاك، ثم انظر إلى الجانب الآخر، انظر إلى الجنة ونعيمها! وما يعوضك الله عن هذه الشهوة من الخير العظيم! فحينئذٍ يعينك الله تبارك وتعالى وتقلع عن هذه الشهوة.

الرفاهية من أسباب قسوة القلوب

الرفاهية من أسباب قسوة القلوب Q ماذا عن الفراغ الروحي الذي يستولي على قلوبنا استيلاءً كاملاً، وحلَّ بذلك محلَّ العبودية التي فرضها الله علينا، ولعل الرفاهية هي أهم سبب في ذلك؛ لأنها زادت عن حدها المفروض فكيف يكون الحل؟ A نعم، الرفاهية التي سمَّاها الله تبارك وتعالى الترف فنحن قد أُترفنا؛ وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كانوا يخشون أن تكون حسناتهم قد عُجِّلت لهم في هذه الحياة الدنيا، كما فعل ذلك الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما وضعت أمامه المائدة وفيها الطعام، فتذكر مصعب بن عمير وترك الطعام، قالوا: مالك؟ قال: تذكرت مصعب بن عمير يوم أحد، وكان بجوار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصعب بن عمير فقاتل حتى قُتِلَ؛ فلما جئنا نكفنه، لم يكن معه إلا بردة، إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه؛ وإن غطينا رجلاه بدا رأسه! وما منا اليوم أحد إلا وهو أمير على بلد من البلدان، فقال: أخشى أن تكون هذه حسناتنا قد عجلت لنا! فإذا كان هذا الجيل المجاهد العظيم الذي وعده الله في هذه الدنيا بأنه يملكها، لما ملكها خاف أن تكون عقوبة وأن تكون طيباته عُجِّلت له بهذه الدنيا! فنحن أولى بالخوف ونحن أولى أن نحذر من هذا الترف وأن نعوذ بالله منه؛ فإن المترفين هم أكثر الناس قسوة في القلب، وأبعدهم عن الضراعة إلى الله؛ لأن الحاجة تلجئ إلى دعاء الله وإلى عبادته والتضرع إليه، لكن الذي يشعر بالغنى لا يدعو الله، ولا يشعر أنه مفتقر إليه، فيكون من الران على قلبه أنه يشعر بالغنى عن الله، فالرفاهية والترف لاشك أنها من أعظم أسباب الفراغ الروحي والبعد عن الله، لكن قلوبنا لها ِأسباب أخرى في قسوتها وغفلتها، ولو عبدنا الله تعالى حق العبادة لكنا حقاً من المؤمنين، وإن كان بيدنا من الدنيا ما بيدنا؛ لأن المؤمن الذي يملك المال ويتعبد الله به لا يكون مترفاً أبداً، مهما كانت بيده من الأموال، وإنما يأخذ بقدر إنفاقه على نفسه.

السلف والتصوف

السلف والتصوف Q ما هي الصوفية التي اتصف بها السلف الصالح رحمهم الله، وما هي الصوفية المنحرفة في هذا الموضوع؟ A الصوفية لم يتصف بها أحد من السلف -ولله الحمد- وهذا دين قديم ظهر في بلاد الهند، ثم انتقل منها إلى أوروبا. ولم يكن الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحد من الصحابة، ولا من التابعين يقول: أنا صوفي! أو أنا متصوف على التصوف الصحيح أبداً. فهذا دين؛ كما أن اليهودية دين، كما أن البوذية دين، وكما أن المجوسية دين، فهذا دين آخر كانت الأمم تتعبد به وليس من دين الله في شيء. وأما الصوفية المنحرفة ولو لم تكن منحرفة، فيكفي أن تقول: إنها صوفية، ولأن أي شيء غير الإسلام فهو منحرف، إذا كان غير الدين الذين أنزله الله -فهي دين آخر- كما هو الواقع وهي بطبيعتها منحرفة، فليس هناك نوع منها كان محقاً ونوع آخر مبطلاً؛ بل كلها بطلان، ولكن يأتي اللبس بسبب أن بعض أهل الحق يأخذون بعضاً منها، ولا يأخذون شركياتها، ولا يأخذون وحدة الوجود، ولا يأخذون الحلول والاتحاد، ولا يأخذون العقائد المبتدعة الكفرية فيها، وإنما يأخذون بدع مخففه وهم من أهل الحق، فيأتي الإشكال، لكن الإشكال الذي يأتيك في هذا الرجل أو هذا العالم أو هذا الداعية الذي أخذ شيئاً من المتصوفة لا يعني أنك تحكم على المنهج نفسه؛ لأن فيه حق وباطل، وهذا الرجل أخذ بعض الباطل، وعنده كثير من الحق خلطه ببعض الباطل، فيأتي اللبس ممن أخذ، لا من الفكرة نفسها. فالعقيدة نفسها - عقيدة التصوف - موجودة من قديم، وموجودة الآن، وهي موجودة في هذا الاسم نفسه ديناً من الأديان التي يسمونها الأديان الحديثة في الولايات المتحدة الأمريكية، لما بعثوا الأديان القديمة وجدوا هذا الدين وبعثوه بهذا الاسم، ويوجد عدد من الشباب الأمريكي يدخل فيه ويتعبدون بأنواع العبادات بهذا الاسم الصوفية أو الثيوصوفية التي تعني عشق الله!! كما يقولون: ثيوقراطية أي: الحكم الإلهي فالثيوصوفية هي العشق الإلهي أو المحبة الإلهية المطلقة. فهذا دين جديد موجود في أمريكا بهذا الاسم، وموجود في أوروبا ضمن النصرانية وغيرها، وموجود في كل بلد، فمن الخطأ؛ أن نقول: إن في دين الله تصوف. نعم! وُجِدَ في المسلمين من يتصوف، إما أن يأخذ منه كفره، أو يأخذ منه البدعة، وما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تجد فيه لا يهودية ولا مجوسية ولا بوذية ولا صوفية ولا أي مسمى من مسميات الأديان الباطلة الذي نسخها هذا الدين. فقد أكرمنا الله بالحنيفية السمحة أكرمنا الله بملة إبراهيم؛ ولذلك أنكر الله تعالى على اليهود والنصارى، فقال سبحانه وتعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] فلم يرض الله عز وجل أن يقال لهؤلاء الأنبياء أنهم يهود أو نصارى، فهل يرضى لأمة الإسلام أن تقول: إننا صوفية أو بوذية؟! لا يمكن هذا أبدا.

معرفة الله أساس الخشية

معرفة الله أساس الخشية Q قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ما معنى هذه الآية؟ A ذكر ابن كثير رحمه الله في هذه الآية من التفسير ما لا نريد الإطالة فيه، والخلاصة أن الإنسان كلما كان أعلم بالله عز وجل فهو أعبد لله وأكثر خشية له ممن لا يعرف الله؛ فمعرفة الله تمنع من معصية الله، معرفة الله عز وجل تدعو إلى خشية الله، والعلم بالله يدعو إلى خشيته كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: الذين يعرفون من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونعوت جلاله ما يحجزهم عن أن يعصوه أو يخالفوا أمره أو ينتهكوا حرماته، فمن هنا تظهر أهمية معرفة الله تبارك وتعالى؛ فكلما كان العبد أكثر معرفة بالله كان أكثر طاعة وخشية لله. وورود هذه الآية ضمن الآيات الكونية التي تحدَّث الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها في أول السورة التي تحدَّث فيها عن الرياح والأمطار، ثم تحدث عن خلق الإنسان، ثم تحدَّث عن الشمس والقمر، ثم تحدَّث عن الجبال وألوانها والدواب والشجر وألوانه؛ ثم قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] لا يعني بالضرورة أن العلماء الذين يخشون الله هم علماء الكون فقط، فالعلماء بالله عز وجل يعرفون من مخلوقات الله ما يستدلون به على معرفة الله عز وجل، ومن عرف الكون وعرف أسرار الطبيعة ولكن لم يعبد الله عز وجل؛ فلا تنفعه هذه المعرفة وإن اعترف بالله بلسانه، فلا يغني عن العبودية لله! أقول هذا تنبيهاً بأن هناك كتاباً اسمه الإسلام يتحدى ذكر هذه الآية وذكر جيمس بيكر، وأمثاله من علماء الفلك أنهم يعرفون الله، وكل من عرف الله فقط بتوحيد الربوبية، وأنه خالق الكون، فلا يعد في ديننا عارفاً ولا عالماً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى يفرده وحدة بالعبودية.

متى يكون الحب والكره عبادة

متى يكون الحب والكره عبادة Q ما مدى الحب والكره الذي تتحقق به العبودية؟ A الحب والكره في قلب كل مخلوق، وللحب والكره أنواع، فالنوع الذي تحدد به العبودية يختلف عن الحب الطبيعي أو الحب الفطري، كأن يحب الرجلُ أمه أو أباه أو إخوانه أو أن يحب الطعام أو الشراب فليس هذا هو الحب التعبدي، فالحب التعبدي هو: ما فُعل تعبداً وتقرباً، أو مبنياًَ على العبادة وعلى التعبد والتقرب، أو ما يقتضي الولاء والبراء، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة -إلى أن قال-: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط} فمن كانت موالاته وبغضه ومحبته للدنيا فهو عبد لها، ومن كانت موالاته ومعاداته لله، فهو عبد لله. فهذا هو الحب التعبدي الذي لا يجوز أن يصرف إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما يقتضي الموالاة والمعاداة.

تعارض عبودية الله وعبودية الهوى وفائدة الرفقة الصالحة

تعارض عبودية الله وعبودية الهوى وفائدة الرفقة الصالحة Q هل يمكن للقلب البشري الجمع بين عبادتين: عبودية الحق وعبودية الهوى، أو أن ينقسم الدهر بينهما، كمثل أولئك الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، وماذا عن الرفقة الصالحة، أليست معينة لتحقيق العبودية الحقة الموصلة إلى جنات النعيم؟ A القلب البشري لا يمكن أن يجمع بين عبادتين؛ لأنه كالإناء، فهذا الإناء إذا امتلأ بشيء لا نستطيع أن نضع فيه شيئاً آخر، وإنما تتعارض -للملك لمة وللشيطان لمة- أي: يغفل القلب فيأتي الشيطان فيدخل فيه، فهنا يكون الهوى، فيذكر العبد الله -عز وجل- فيخرج الشيطان ويولي، وهنا تكون العبودية لله عز وجل، والقلب ما دام ينبض، لا يخلو أبداً من لمة الملك أو لمة الشيطان؛ فأنت بإرادتك وباختيارك إما أن تجعل لمة الملك هي الغالبة عليك وعلى قلبك بذكر الله الذي يطرد الغفلة عن القلب، وإما أن تجعل الشيطان يعشش ويفرخ في القلب بالغفلة عن ذكر الله، وبالغفلة عما أمر الله؛ فهذا الذي يقع في القلب (التعارض بين العبوديتين) لكن! لا يخلو من عبودية لأحدهما، فالذي يقول: أنا لا أعبد شيئاً أبداً لا تصدقه، لابد أنه إما أن يكون عابداً لله أو عابداً للشيطان والهوى. وأما الرفقة فلا شك أنها أحد ما يعين الإنسان؛ إما على الخير بأن يعينه الصالح على الخير، أو رفقة الشر تعينه على الشر وتزينه له. فليحذر المؤمن ولينظر من يخالل؛ فإن المرء يحشر يوم القيامة ويبعث مع خليله، وأما الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فهؤلاء بئس القوم كما قال السلف.

متى يكون الخوف عبادة

متى يكون الخوف عبادة Q هل الخوف من غير الله عبادة؟ وما هي أقسام الخوف؟ A الخوف من غير الله قد يكون خوفاً طبيعياً، وقد يكون خوفاً عبادياً، فالخوف الذي هو عبادة هو خوف التعبد كما يخاف أتباع الأولياء وأتباع الطواغيت العباد من دون الله، أي: يخافونهم ويرهبونهم، وإذا ذكر الطواغيت في مجلس من مجالسهم؛ سكتوا كلهم، حتى يظن بعضهم أنه يسمع ذلك، ويظن أن الجن الذين هم موكلون به -الآن- يلتقطون الخبر ويبلغونه للطاغوت؛ فهذا من الخوف الذي يكون لغير الله. مثال من أمثلة الخوف الذي هو لغير الله والذي يكون شركاً، ذكره الله عز وجل ليبينه لنا، فقال سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] أي: خوفوهم أكثر حتى يدعوهم أكثر، وإلا فإنهم بشر مثلنا، لكن! حتى نعبدهم أكثر خوفُونا أكثر فهذا هو الخوف الذي يجعلك تترك الطاعة، عندما تريد أن تنهى عن المنكر أو تأمر بالمعروف، فتخاف المخلوقين، تخاف -كما يقول بعض الناس- أن يقطعوا عنك الرزق أو يمنعوه، فتدخل في الشرك وأنت لا تشعر بأن الله هو الرزاق ذي القوة المتين؛ أو تخاف إذا أمرت أهلك بطاعة الله؛ أن تهرب إلى بيت أهلها؛ فتتركها على المعصية مثلاً، أو تخاف من أي مخلوق فلا تقول له كلمة الحق بالحكمة أو بالحسنى هنا يكون الخوف المكروه أو المحرم أو الذي قد يرتقي إلى درجة الشرك.

حكم من يقول: (ساعة لقلبي وساعة لربي)

حكم من يقول: (ساعة لقلبي وساعة لربي) Q كثيراً ما نسمع من بعض الناس، أن العبادة يمكن أن يقطعها الإنسان بشيء من الترفيه والتسلية غير المشروعة، ويرددون: (ساعة لله وساعة لك) أو ما شابه ذلك؛ فما رأيكم بأمثال هؤلاء؟ A الذي يقول: إن الإنسان يمكنه أن يقطع العبادة بشيء من الترفيه أو التسلية غير المشروعة، كيف يدعي بعد ذلك أنه في عبادة؟! لأن الذي لم يشرعه الله لا يمكن أن يكون طاعة، ولا يمكن أن يكون عبادة. وأما قضية (ساعة لله وساعة لك)؛ فإنهم يقولونها بغير علم، ولو تأملوا وأدركوا معناها أو بُعدها؛ لوجدوا أنها تعني الشرك؛ لكن لا نعني أن من يقولها مشرك، بل نقول: إن مآل مثل هذه العبارات إلى الشرك، لأنني في وقت أعبد الله، وفي وقت قد أعبد الهوى، في وقتٍ أطيع الله، وفي الوقت الآخر قد أطيع الهوى والشهوة فمآل هذا القول إذا وضع قاعدة في الحياة أنه يعني أنني أُشرك بالله، فأجعل له وقتاً فقط، وأقول له: الوقت الآخر لا تتدخل فيه؛ لأن هذا الوقت (لربك) انتهى، والآن أنا في وقت (لنفسك). ومن هنا نعرف خطورة مثل هذه الشعارات، وهذا القول هو مشتق من المقولة التي يقول النصارى أن عيسى عليه السلام قالها: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فهؤلاء أيضاً جعلوها بمعنى آخر أي: (هذا لنفسك وهذا لربك) وإذا قلت لواحد منهم: (اتق الله) قال: يا أخي! الموعظة بالمسجد. ما معنى هذا؟ وكأنه يقول لك: أنا عبد لله في المسجد؛ فإذا رأيتني في المسجد فعظني، لكني في الشارع لا أعبده؛ فكيف تطالبني بذلك وكأنك خرجت من بلد، تطبق عليك قوانينه. فمثلاً: لو أنك خرجت من أمريكا ثم جاء أحدهم يقول لك: إن النظام الأمريكي ينص على كذا وكذا؛ فستقول له: أنا الآن خارج حدود أمريكا، ولا تهمني قوانين أمريكا في شيء، فهؤلاء يقولون: الموعظة في المسجد فقط، فكأني أصبحت خارج الحدود التي يمكن أن تطبق عليَّ فيها شريعة الله، وهذا هو بعينه مكر الشيطان الذي أخرج به النصارى من دين الله فقالوا: هذا لله وهذا لقيصر. أمة العرب قبل البعثة -أيضاً- وقعت في هذا، قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الأنعام:138]، وقال: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] أي: أولاً: تبدأ القسمة، فهذا لله، وهذا للنفس؛ ثم بعد ذلك الساعة التي نجعلها لله في المسجد، تكون لغير الله! فيدخل الشيطان بالوساوس، وكان الواحد في الصلاة يبيع في الدكان ويشتري ويشوف ويكتب ويقرأ و!! وأما ما كان لغير الله، فإذا كان أحدهم في البيت أو في الدكان فإنه لا يسمع القرآن ولا يذكر الله؛ لأنه يقول لك: أنا الآن تركت ما لله. فإذا كنا نعيش هذا واقعاً تحت مظلة الغفلة عن الله، فنجعله شعاراً ومنهجاً، فإننا نكون قد خططنا للشرك ووقعنا فيه، شعرنا أو لم نشعر بذلك!!!

واجبنا أمام وجود النظريات الإلحادية في المناهج

واجبنا أمام وجود النظريات الإلحادية في المناهج Q ذكرت أن المعلم يكون له دور في العبودية من خلال رسالته العظيمة. فمثلاً: مدرس العلوم يجد -أحياناً- أموراً لا توافق الكتاب والسنة، مثل نظرية التطور لدارون اليهودي فهو بدوره سيخبر الطلبة بهذا العيب، لكن بعض المدرسين لا ينبهون على ذلك، فما رأيكم في هذه المناهج؟ A في الحقيقة مثل هذه النظريات لا تختص بمدرس فقط، لأن المدرس عندما يكون وظيفته كذا أو عمله كذا، نعني به ما هو في حدود عمله هو؛ أما مثل ذلك فهو واجب على الذي وضع المنهج وعلى الوزارة المسئولة عن المنهج، وعلى العلماء المسئولين، وعلى كل من قرأه!! فعندما يكون الأمر أمر نظريات إلحادية شركية، فهنا يجب على كل من بلغته أن يتقدم، وأن يطلب من المسئول أو من بيده الأمر أن يزال وأن يغير هذا المنهج، وأضعف الإيمان أن تقول أمام الطلاب: إن هذه النظرية خاطئة، لكن ذلك لا يكفي، بل لا بد من الكتابة إلى وزارة التعليم أو إلى الوزارة أو إلى العلماء الذين يكون تأثيرهم أقوى من تأثيرنا، فهم يستطيعون أن يغيروا المنهج. وأي عمل يسعى فيه بالجد والاجتهاد فلا بد بإذن الله أن يتحقق التغيير، أو تقوم الحجة؛ لأن الله عز وجل جعل عمل الأنبياء إقامة الحجة على العالمين.

كيف نعبد الله طوال اليوم

كيف نعبد الله طوال اليوم Q عندما تقول لشخص: إنه لم يخلق إلا للعبادة، فإنه يقول: أتريد أن أصلي كل اليوم، فما هو الرد على مثل هؤلاء؟ A نقول له: اتق الله كل اليوم، {اتق الله حيثما كنت}، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كانت الصلاة بمعنى الركعات المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فلا نقول لك: صلِّ إلا الصلوات الخمس، وما يسر الله لك بعدها من النوافل، وإن كانت الصلاة بمعنى العبادة، فنعم يجب أن تعبد الله طول اليوم! حتى ولو كنت نائماً؛ كما قال معاذ رضي الله عنه {إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي} هؤلاء الرجال الذي ثاروا قليلاً وربحوا كثيراً، ينام ويحتسب النوم، ويقوم والنوم في ميزانه! ويأتي بعض العبَّاد الذين اجتهدوا طول الليل في العبادة يأتون وهذه العبادة مردودة عليهم، بل تضرب بها وجوههم لماذا؟ هنا نعرف قيمة الصحابة رضي الله عنهم ونعرف لماذا نحن متأخرون ومنحطون في كل مجال، وهم متفوقون في كل مجال؟ فقد عرفوا كيف يسيرون، وعرفوا العبادة بمعناها الواسع العظيم، فالواحد منهم كان يتعبد بما يسر الله له ثم ينام، وكلها محسوبة، أما نحن فيقول شبابنا مثل هذه الكلمة! ثم نقول: لماذا نحن متأخرون؟! بل حقنا والله أن نتأخر!! وسوف نزداد تأخراً إلا أن يمن الله علينا بالتوبة.

الانحراف وأسبابه

الانحراف وأسبابه Q هل للانحراف عن الطريق المستقيم سببان: (الشهوات والأهواء فقط) أم أن هناك أسباباً أخرى؛ كالتقليد وتعود الإنسان على أشياء معينة غير جائزة؟ A إن أدخلت التقليد والعادات ضمن الأهواء فتكفي، ولا حرج في عد أسباب أخرى؛ لأن الله عز وجل يقول في الوصايا التي قال عنها عبد الله بن مسعود: [[من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات من آخر سورة الأنعام]] {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. فطريق الله واحد؛ أما السبل فكثيرة! أودية يهلك فيها البشر؛ فمنهم من يهلك في أودية الشبهات، ومنهم من يهلك في وادي الشهوات، ومنهم من يهلك في وادي التقليد، ومنهم من يهلك في وادي البدعة، ومنهم من يهلك في وادي كذا، والشيطان لا تتوقف مكائده، فكل يوم يأتي بمكيدة، ويأتي ببدعة ويأتي بضلالة، ويأتي بسبيل جديد؛ ليضل الناس عن سبيل الله عز وجل.

اختصار كتب السلف، وهل ابن القيم صوفي

اختصار كتب السلف، وهل ابن القيم صوفي Q ظهر كتاب تهذيب مدارج السالكين (لابن القيم) لعبد المنعم صالح العلي؛ فما رأيك في: أ- اختصار كتب السلف الذي انتشر مؤخراً. ب- ذكر المهذب في أحد عناوينه بأن ابن القيم صوفي؟ A لا نستطيع أن نحكم حكماً عاماً مطلقاً على المختصرات، وإنما هي أنواع، والسلف أيضاً اختصروا الكتب؛ فمن كان على عقيدة صحيحة، وغرضه سليم، واختصر جزءاً من كتاب أو كتاباً كاملاً لإفادة الناس أو لإفادة طبقة معينة يشق عليهم الرجوع إلى الكتاب الكبير؛ فهذا لا حرج فيه -إن شاء الله تعالى- على ألاَّ يمنع ذلك القارئ فيستغني عن الأصل؛ لأن الأصل مهم. وأما أن يكون المختصر صاحب بدعة وهوى، يشوه كتاباً من كتب السلف، أو طالب شهرة، فبعض الناس مغمور لا يعرفه أحد، لكن يعرف أن ابن تيمية وابن كثير وابن القيم مشهورون، فيربط الاسم المغمور بالاسم المشهور حتى يشتهر، ويختصر -والاختصار سهل غالباً- خاصة على تصور أي كتاب، فينزع ورقة، وينزع الأساليب، ويحذف كذا سطر ويترك الباقي، ثم يعطيه المطبعة؛ فيصدر كتاباً ويصبح شيخاً، فيذهب للمكاتب، ويقول: اشتروا مني خمسين ألف نسخة ووزعوها؛ لأني أصبحت مؤلفاً وعندي علم فهذا ونيته التي أراد. أما قول المهذب بأن ابن القيم صوفي، فأظن الأجابة مرت عليه فيما سبق، بل ابن القيم -رحمه الله- في هذا الكتاب نبه على كثير من أخطاء الصوفية، لكن لا ننسى قضية معينة وهي أن بعض الناس يقولون: (إن في كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم ميل إلى التصوف أو أحياناً تساهل معهم أو شيء من هذا القبيل) وإن الذي يقرأ كتب شَيْخ الإِسْلامِ وتلميذه شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم قراءة واضحة وجادة ومتعمقة، يجد أنهما عندما يتكلمان عن الفكرة أو عن المبدأ بعيداً عن الأشخاص كأن يتكلم عن وحدة الوجود فلا يتردد أنها كفر، أو يتكلم عن الفناء، يقول كفر، وعندما يتكلم عن كفريات الصوفية يطلق عليها الكفر ولا يتردد، فيقول عن ابن عربي -مثلاً- أو التلمساني أو السهروري بأنهم كفار، لكنه عندما يتكلم عن الجيلاني أو مؤلف (منازل السائرين) الذي شرحه ابن القيم في (مدارج السالكين) تجد أن الكلام يختلف؛ لأنك لم تعش في واقع أو في عصر وهناك شخص يُعبد مثل عبد القادر الجيلاني. والآن فأكثر المسلمين في الهند وفي أفريقيا يعبدون عبد القادر الجيلاني، وتسمعهم ينشدون ويرددون: عبد القادر يا جيلاني يا متصرف في الأكوان! كانوا يرددونها في الحلقات! وإذا كانوا في الطائرة، وحصلت مطبقات جوية يقولون: (يا جيلاني يا جيلاني) تصيح بها الطائرة كلها وهم حجاج!! فهناك عبودية غريبة له. فأنت في هذا الواقع لو جئت وقلت لهم: هذا فلان كذا فأنت مخطئ؛ لأن عبد القادر الجيلاني لم يكن يدعو إلى عبادة نفسه. ثانياً: أنك تثيرهم فلا يستفيدون من دعوتك، بل تأتي بكتب الجيلاني التي يقول فيها -مثلاً- لا يكون البعد لله ولي إلا إذا كان على عقيدة أحمد بن جنبل. تقول: يا جيلانية، هذا الجيلاني يقول هذا الكلام، ما رأيكم؟ ثم تقول لهم: التصوف الذي أنتم عليه تصوف لا يقتضي منكم الشرك، ولا يقتضي منكم دعاء هذا الرجل؛ لأن الرجل يريد أن تكونوا على طريق الله فتعبدوا الله وحده. كمثل الشيخ أبو بكر الجزائري فإنه من أعداء التصوف؛ لكن له كتيب إلى التصوف يا عباد الله فالرجل لا يريد به أن يدعو إلى التصوف، لكن يضع لهم هذا الاسم لعلهم ينقادون إليه. على كل حال! نحن لا نقول: هذه وجهة صحيحة أو خاطئة، لكن نقول: أنت عندما تتعامل مع واقع صوفية، لا تصدمهم وتواجهم مواجهة؛ فمن باب الحكمة والدعوة أنك تأخذ معهم المنهج السليم فشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم وُجدا في وقت كانت الصوفية طاغية حتى على علماء الحديث الذين يذكرون كلام الله ورسوله، وعلماء التفسير، فكان لا بد لهم إذا جاءوا في مواضع العامة أن يأتوا بكلام ظاهره يقبل حتى لا يثيروها، هذا أحد الأسباب عملياً ودعوياً، فأنت تدعوهم، ومن باب دعوتهم إلى العقيدة الصحيحة، لا تبدأ بأن تصدمهم بعقائد معينة تظهر منهم؛ لكن عندما تتحدث عن البدعة المجردة أو عن الدين نفسه أو عن الشرك مجرداً؛ تقول ما تشاء، ولذلك تجد في فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، أمثلة لهذا وهذا؛ لأنه ذهب إلى مصر مطروداً، فإذا وصل إلى هناك، لا يستطيع أن يقول لهم: هذا ضلال وهذا كفر -بهذه المواجهة- وإنما يأتي من باب أوسع وأرحب قليلاً، فلا يعني هذا أنه من التناقض. فعندما يعالج الإنسان واقعاً معيناً قد يأخذ بنوع من الحكمة ومن التدرج، لا يفطن إليها من يعيش بعيداً عن هذا الواقع.

الخشوع في الصلاة

الخشوع في الصلاة Q مما نجد في حضارة العبودية في هذا العصر، هو أن العبادة هي تلك الحركات الخالية من أي خشوع، فما هو العلاج لذلك؟ A يجب أن نعبد الله كما شرع، فالصلاة يجب أن نقيم هيئتها كما صلاَّها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه مما يجعلك تخشع، أن تقيم العمل كما أمر الله، فنعلم أنها بالقلب، والخشوع هو روحها، والطمأنينة هي لبها، والعلاج لذلك هو دوام الخشوع ودوام الذكر واستحضار معاني الآيات والصلاة كأنك مودع كل منا يعاني من هذه المشكلة، لكن بقدر ما تجاهد نفسك على أن تكون صلاتك على أكمل وجه؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستجيب لك.

كتاب الإيمان حقيقيته وأركانه

كتاب الإيمان حقيقيته وأركانه Q كتاب (الإيمان حقيقته وأركانه) لـ محمد نعيم ياسين سمعنا أن فيه بعض الأخطاء العقدية خاصة في قضية خلق القرآن، فهل هذا صحيح؟ A الذي أعرفه أن هذا الكتاب ليس لصاحبه فيه جهد مستقل، فهو اختصر وجمع من عدة كتب، ولا أذكر الآن أن في مسألة خلق القرآن خطأ، ولا أذكر صواباً لأني بعيد عهد به، فلا أستطيع أن أجيبك، لا بنعم، ولا بلا؛ لكن إذا كان الكتاب يتحدث عن القرآن بأن لله تعالى كلامين: كلام نفسي قائم بذاته، وكلام لفظي؛ فهذه هي البدعة التي يخشى هو وأمثاله أن يقعوا فيها، وهي من كلام الأشاعرة إذا كانت هكذا. أما إذا ذكر أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يتجاوز ذلك، أو ذكر أقوال السلف فيه -وهذا الذي أظنه وأرجحه- فليس هناك خطأ، لأن الحكم على أشياء وهي غائبة يوجد اللبس، لكن عندما يكون النص الذي تشك فيه أمامك فمن الممكن أن يعرف هل فيه خطأ أم لا.

ترجمة علوم اليونان (فائدتها- وخطرها)

ترجمة علوم اليونان (فائدتها- وخطرها) Q هل يفهم من حديثكم عن الترجمة في عهد المأمون أن الحضارة الإسلامية لم تستند إلى علوم الإغريق واليونان في الطب ولا الهندسة ولا الرياضيات وغيرها من العلوم؟ A فرق بين أن نتلقى عن غيرنا وبين أن نستفيد من علمه، بل يجب أن نستفيد من علوم غيرنا والحكمة ضالة المؤمن، فقد استفاد المسلمون في الطب والهندسة وغيرها من العلوم. من اليونان ومن غيرهم، وعدَّلوا وأضافوا وشرحوا وزادوا، وإنما كان الكلام مقتصراً في قضية التعبد، فإذا أخذنا عن غير الله ما نعبد به الله عز وجل وما نعرف به الله، فهنا يأتي الضلال. نضرب لكم مثالاً على ذلك: فمثلاً اليونان تكلموا عن الله كلاماً مجرداً فهم يقولون: إن الله وجود مطلق لا يوصف بأي صفة، وإذا كان لا بد أن يوصف، يوصف بالنفي فقط، ليس بكذا ولا بكذا، فلما جاءوا إلى قضية بديهية عندنا جميعاً وهي قضية أين الله عز وجل؟ هم يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه!! وهكذا كان اليونان يعتقدون؛ لأنه هو ليس شيئاً عندهم، فهو مجرد وجود مطلق لا يوصف بشيء! فقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه! وهذه عقيدتهم. فجاء المسلمون ولم يهتموا بنقل الطب أو العلوم، بل نقلوا هذه العقيدة؛ وكما يذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم أن الأدلة على علو الله عز وجل على خلقه تقارب الثلاثة آلاف دليل، فهي بالآلاف ومن أوضحها دليل الفطرة، فكل مخلوق يشعر أن الله عز وجل فوق، حتى رائد الفضاء الملحد الشيوعي لما صعد على المركبة إلى الفضاء، ثم نزل إلى الأرض، قال: (لما صعدت رأيت الله) أي: آمنت بوجود الله، فاضطره استالين أن يغير عبارته إلى (لما صعدت لم أجد الله)، أي: على مذهبه الكافر. أي: لو أنه موجود فسيكون فوق، وهذه هي الفطرة البشرية؛ لكن أخذ المسلمون عقيد أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وكتاب المواقف في العقيدة -وهو الذي يُدرَّس الآن في معظم الجامعات في العالم الإسلامي خارج المملكة - يقول: 'إن الله لا داخل العالم ولا خارجه'. إذاً: فالشاب الأوروبي الذي هرب من دين النصارى لأنه يقول: (الله ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس) - أي: ثلاثة تساوي واحد- فقال: هذه عقيدة لا يقبلها العقل، وأنا أرفض هذه العقيدة وألحد بها أو آمن بنظرية دارون أو غيرها ثم رفضها؛ لأنها لا يقبلها العقل، أفنأتي نحن أمة القرآن ونقول له: تعال! أنت لا تريد تلك العقيدة، فعندنا العقيدة الصحيحة ما هي؟! نقول له: الله لا داخل العالم ولا خارجه! فهل يؤمن؟! لا يمكن أبداً! هنا نعرف جناية هذه العلوم وهذه البدع وجناية العقائد المحرفة على دين الله عز وجل.

حقيقة حب الرسول صلى الله عليه وسلم

حقيقة حب الرسول صلى الله عليه وسلم Q بعض الناس يقولون: إننا لم نحب الرسول لذاته بل نحبه ونتبع ما جاء به، نرجو توضيح ذلك؟ A الغلو قد يذهب بالإنسان في ما لم يشرعه الله عز وجل، فلماذا نفرق (لذاته أو لما جاء به)؟ فبمقتضى أنه (رسول) الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فنحن نحبه ونجله ونعظمه، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يحبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانوا يتسابقون على ما بقي من وضوئه، وكانوا إذا دخل بيت أحدهم -كما في الأحاديث الكثيرة- كانوا يطلبون منه أن يصلي في البيت، يتبركون به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما شرب من قربة أحدهم؛ قطعوا الفم لماذا؟ تبركاً؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمسه، ومن كانت له شعرة من شعر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحتفظ بها. فنحن لا نغلو ولا نريد أن نلغي هذه أبداً، إنما إنكارنا على أهل البدع أنهم يتحدثون عن معجزات ما قبل المولد ثم عن المولد ثم انقطع الحديث!! فيتركون الهداية والنور والدين والدعوة، ويتعلقون بتقديس خيالي وهمي يجعل السيرة وكأنها خيالات وأوهام فقط! فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم لم يأت ليخرج الثقلين من العبودية لغير الله، أو ليحرر العالم، ولا يذكرون إلا أنه سقطت الشرفات والبحيرة جفت، وكذا وكذا والشجرة صار لها كذا والحجر كلمه والجذع نطق، هذه بعضها صحيح، لكنه جزء فقط مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تعظيم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم، وأنهم يشركون بالله، ويدعون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويستغيثون ويكتبون كتب الاستغاثة بالرسول، ويسمون أبناءهم: عبد الرسول، فإذا أنكرت عليهم، قالوا: أنت لا تحب رسول الله. والخلاصة: أننا نحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذاته ولما جاء به، ولا نفرق ولا نتنطع. والحمد لله رب العالمين.

كلمة وموعظة

كلمة وموعظة تحدث الشيخ حفظه الله عن أهمية دعاء الإنسان لنفسه ولأخيه بظهر الغيب، مبيناً ترغيب الله لعباده في دعائه، وأن حفظ الله لأوليائه إنما يكون بقدر قربهم منه ومداومتهم على طاعته، وختم الحديث بالدعوة إلى التوبة، والحرص على مجاهدة النفس وكبحها عن المعاصي والذنوب.

الدعاء

الدعاء الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: الدعاء من الأمور التي قد لا يتفطن لها كثير من الناس، فالإنسان يدعو لنفسه وقد يستجاب له، وربما لا يستجاب له لموانع موجودة في هذا الشخص، وهي كثيرة منها: ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: {إنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله قد أمر عباده الصالحين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!} نسأل الله العفو والعافية.

موانع الدعاء وما يزيلها

موانع الدعاء وما يزيلها فموانع الدعاء كثيرة منها:- أكل الحرام، ومنها ما يتعلق بطريقة الدعاء، كأن يدعو الإنسان دعاءً معتدياً، والله تبارك وتعالى نهى عن ذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] فالاعتداء في الدعاء كأن يدعو بما لا يليق بالله عز وجل أن يستجيب له، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، وما أشبه ذلك من موانع إجابة الدعاء. فلو دعا الإنسان لنفسه بأمر، وأخل بأدب من آداب الدعاء، فربما تخلف كله لوجود مانع يمنع هذه الدعوة من الإجابة، إلا أن هناك أمراً يزيل كل هذه الموانع، وتستجاب الدعوة -بإذن الله- وهذا الأمر هو الدعاء بظهر الغيب كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يقول الملك: آمين! ولك مثل ذلك!} فيستجاب له في أخيه، وينادي الملك: ولك مثل ذلك. والحكمة ظاهرة في هذا: لأنك بدعائك لأخيك تنتفي شبهة حظ النفس التي قد تفسد الإخلاص أحياناً، أما في دعائك لأخيك في ظهر الغيب، فالإخلاص فيه واضح؛ لأنه لا يعلم ولا يدري عنك أحد، وإنما أنت تنادي وتناشد وتتضرع إلى علام الغيوب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيما بينك وبينه أن يفرّج عن أخيك هذه الكربة، وأن يرزقه، ويحفظه، ويعافيه، بما يفتح الله لك به من الدعاء لأخيك فالإخلاص متحقق، فمن هنا كانت هذه الدعوة جديرة بالإجابة.

أمر الله لنا بالدعاء

أمر الله لنا بالدعاء يقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] فيجب علينا أن نستجيب لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأن ندعو الله ونتضرع إليه، كما قال الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضب فهكذا حال الناس، فأكرم الناس في الأرض حتى لو كان أباك ولو كان أصلح الناس؛ لأنه لو طلبت منه شيء فقد يرفض ذلك، وهذا طبيعي، حتى الأم، ومعلوم أنه ليس هناك أحد أشفق على أحد مثل شفقة الأم على ولدها وعلى رضيعها، ولذلك ضرب بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المثل عندما رآها وهي تحتضن طفلها، فقال: {أرأيتم هذه المرأة أكانت واضعة طفلها في النار؟! قالوا: لا! فقال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بوليدها!!} إذاً فالله أكرم كريم عز وجل، وهو الكريم الذي يده ممدودة بالعطاء: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]. حتى أعداؤه شملهم عطاؤه، قال تعالى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] ماذا لو كان عطاء الله خاصاً بالمؤمنين! فمن يرزق الكافرين؟! ومن يرزق المنافقين؟! لا أحد! فالرازق هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].

إجابة الله لدعاء المضطر

إجابة الله لدعاء المضطر المضطر إذا دعا الله سواء أكان براً أم فاجراً، فإن الله هو الذي يجيبه، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى ومن سعة رحمته أنه يريد أن نسأله، ويحب أن نتضرع إليه، وبقدر الضراعة، والذل الذي يظهر منك، والخشوع والانكسار والافتقار بين يدي ربك؛ يكون رجاؤك بالإجابة، فليس قولك: (يا رب! اعطني) هو ضراعة، بل الضراعة هي التي تكون مثل دعاء نبي الله يونس عليه السلام حين دعا الله بضراعة وخشوع، لأنه لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فعندما تُشعر نفسك بالافتقار إلى الله يستجيب لك، وإذا كان الأمر كذلك، فهل أنا فعلاً فقير إلى الله؟! أم أني لا أفتقر إلى الله إلا وقت الحاجة؟! كثير من الناس لا يدعون الله إلا في وقت الحاجة! إما بسبب مرض أو مشكلة تقع أو غيره. نحن مفتقرون إلى الله تبارك وتعالى في كل لحظة، وفي كل دقيقة، بل وحتى في النفس الواحد! وكم من الناس من يتنفس ثم فجأة لا يستطيع أن يتنفس! هذا القلب الذي ينبض لو ضعف نبضه؛ لمرض الإنسان وأسعف إلى المستشفى، وربما مات أو صار في حالة عصيبة، وهكذا في كل لحظة -أيها الأحباب- نحن مفتقرون إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].

حفظ الله لأوليائه

حفظ الله لأوليائه إذا افتقرت إلى الله أغناك عن الناس وكنت عزيزاً عندهم؛ لأن علاقتك قوية بملك الملوك الحي القيوم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، والذي لا تنضب خزائنه، والذي يفعل ما يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء، ويحيي من يشاء، ويميت من يشاء، ويضحك من يشاء، ويبكي من يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكل شيء بيده. وبقدر قربك منه تكون هذه الأمور كلها ميسرة لك، ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنه} الله أكبر! كل هذا بسبب التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض! والمهاجرين والأنصار يوم بدر وقفوا ذلك الموقف، قال عليه الصلاة والسلام: {وما أدراك يا عمر! لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}. وقفوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الموقف، فكانت هذه هي المكرمة من الله، وهكذا فإن كل من يقف مع الله فإن الله يكرمه ويحفظه، وحب الله له يكون بقدر قربه من الله، وكلما كان هذا القرب محفوفاً بالمخاطر والمضار -والنفس لا تريد ذلك- بقدر ما يكون هذا القرب من الله عز وجل، وإذا علمت أن كل هؤلاء الذين يعادونك ويحاربونك، ويحاولون أن يثنونك عن القرب من الله والسير إليه، إذا علمت أنهم جميعاً خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهم عبيد له؛ هانت عليك المضار، والمهم في ذلك أن تعمل لله وعلى منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما ما عدا ذلك فهو المتكفل به، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. فماذا كانت النتيجة يا ترى؟ كانت كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم بعد ذلك: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174] الله أكبر! وقال في آية الأحزاب: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] وعندما يرى المسلم هذه الأمور، ويرى هذه اللفتات، فيزداد إيماناً، وتسليماً، ويقيناً، ويعلم أنه لا بد منها في إيمانه.

كيف تحفظ جوارحك؟

كيف تحفظ جوارحك؟ تكلم الشيخ حفظه الله عن ضرورة شكر نعم الله التي أنعم بها على عباده، وأن من هذه النعم نعمة الجوارح، مبيناً أن هذه الجوارح إنما تصلح بصلاح القلب وتفسد بفساده، وحذر من أسباب فساد القلب، وتطرق لسوء الظن وضرره على القلب، وكيف فعل سوء الظن والحسد بأهل الأهواء والمنافقين، ثم أتى بكلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية بين فيه قواعد عظيمة في التعامل مع المؤمنين في أوقات الاختلاف، مبيناً فضل الصبر في هذه الحال.

شكر نعمة الجوارح

شكر نعمة الجوارح إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:- فنحمد الله تبارك وتعالى ونشكره على ما منَّ به علينا من النعم، ونسأله عز وجل ونتضرع ونتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل لنا ذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً صالحاً مقبولاً، وقلوباً وأبصاراً سليمة، وألسنة كافة عما حرم الله تبارك وتعالى، وجوارحاً تستعمل في طاعته، ولا يستزلها الشيطان لتعمل في معصيته. ثم إن الموضوع الذي أريد أن أتحدث به ليس هو بجديد عليكم، ولكن التذكير به واجب، لأن يجب علينا أن نتذاكر به نحن طلبة العلم، كما يجب علينا أن ننصح لعامة الأمة، فإن كثيراً من الأدواء والعلل قد تعتري قلوبنا ونحن لا نعلم بها، بل ربما تصيبنا بعض الآفات الخطيرة ونحن مشغولون بمعالجة أدواء الناس، ونعوذ بالله من ذلك ونستجير به عز وجل أن نكون ممن قال الله -تبارك وتعالى- فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] ومن هنا كان التذكير واجباً، فكل منا عرضة لمثل هذه الذنوب والعيوب، ولا سيما في زمن كثرت فيه الفتن والمثيرات، وكثر فيه الإفساد، وقل الناصحون. فالواجب علينا جميعا أن نوصي أنفسنا، ويوصي بعضنا بعضاً بحفظ هذه الجوارح التي ائتمننا الله تبارك وتعالى عليها، فإن الله عز وجل لما قال {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فإنه يدخل في ذلك حفظ هذا البدن الذي أعطاك الله تبارك وتعالى إياه وامتن به عليك، كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] وهذا فيه حض وحث وتنبيه أن نشكر نعمة الله تبارك وتعالى على ما أعطانا من هذه الأعضاء ومن هذه الجوارح، والتي ميزنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها عن سائر خلقه، وفضلنا بها عن باقي ما خلق من الدواب. فجعل لنا سمعاً وأبصاراً وأفئدة وعقولاً نهتدي بها، ونعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والتوحيد من الشرك، والسنة من البدعة، والطاعة من المعصية، والحسنة من السيئة، ونعمل بمقتضى ذلك بجوارحنا الظاهرة، لأن هذه من نعم الله العظيمة، والواجب فيها أن نشكر الله تبارك وتعالى عليها، وأن نراعي حق الأمانة الذي ائتمنا عليها، فالمال أمانة، واليد أمانة، والعين أمانة، والقلب أمانة، وكل ذلك مما يجب علينا جميعاً أن نحفظه، وأن نعتني ونهتم به، ونتوقع السؤال عنه بين يدي الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]. فلا يغرن العبد منا شيطان من شياطين الإنس أو الجن، فيحسب أنه غير مسئول، وأنه يفكر كما يشاء، ويعتقد ما يشاء، وينظر إلى ما يشاء، ويتناول بيده ما يشاء، ويعمل بفرجه ما يشاء، ويمشي برجليه إلى حيث شاء، من قال لك ذلك؟ ومن قال لك هذا؟! إنك عبد، ولا يخرج واحد منا عن عبودية الله -تبارك وتعالى- بحال من الأحوال، والعبد مأمور أن يستخدم ما أعطاه سيده فيما أمره به لا فيما نهاه عنه، والله تبارك وتعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] واليقين هو الموت، كما قال الله تبارك وتعالى: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] وكما جاء في حديث عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه عندما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أما عثمان فقد أتاه اليقين من ربه} فلا بد أن نعبد الله حتى الموت. فلا ينتهي عقد الأمانة الذي ائتمنك الله تبارك وتعالى عليه إلا بموتك، فحينئذ ينتهي هذا العقد، أما ما دمت حياً فأنت مسئولٌ عن هذه الأعضاء، والجوارح جميعاً، ألا تستخدمها إلا فيما أمرك به سيدك وخالقك، وربك الذي أعطاكها، ومنّ بها عليك وقد حرمها كثيراً من الخلق. فكثير من الخلق لم يرزقه الله تبارك وتعالى قلباً يعقل به فتراه مجنوناً، فاحمد ربك الذي أعطاك العقل والفؤاد لتعي وتتذكر كلما رأيت من لا عقل له، واعلم أن الواجب عليك أن تستخدم قلبك وفكرك وعقلك في طاعة الله تبارك وتعالى، وبعض الناس خلقه الله تبارك وتعالى لا بصر له مطلقاً، فإذا رأيت أحداً من ذلك فاذكر نعمة الله تعالى عليك، واحمد الله الذي أعطاك عينين تبصر بهما وترى وتميز وتستخدمها في حياتك فيما ينفعك في الدنيا والآخرة، وبعض الناس لم يعطه الخالق تبارك وتعالى -وله في ذلك حكمة- أذنين، وقد أعطاكها فأنت تسمع بهما، فاحمد الله تبارك وتعالى واشكره ولا تسمع بهما إلا ما يرضي هذا المنعم المتفضل تبارك وتعالى.

تقلب القلب بين الصلاح والفساد

تقلب القلب بين الصلاح والفساد ويجب علينا جميعاً أن نعلم أن أهم هذه الأعضاء التي يجب أن نبدأ بها ونصلحها هو القلب، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} هذا الارتباط العجيب بين القلب وبين الأعضاء قال فيه أبو هريرة رضي الله عنه، وجاء -أيضاً- عن غيره من السلف أنه قال: [[القلب ملك والأعضاء جنوده]]. فقال شَيْخُ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: 'إن قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث المتقدم أبلغ وأبين من قول أبي هريرة رضي الله عنه ومن قال هذه العبارة، لأن الارتباط بين الأعضاء والقلب ارتباط عضوي لا يمكن أن يختلف ولا يمكن أن ينفصل، أما الارتباط في الصلاح والفساد بين الملك وجنوده، فهذا قد يقع فيه الاختلاف، فربما صلح الملك وفسد الجنود، وربما فسد الملك وصلح الجنود، وربما فسد الملك وصلح بعض الجنود وفسد بعضهم'. فهذا البيان من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبلغ البيان في أن القلب إن صلح صلح الجسد كله، وإن فسد فسد الجسد كله، وأن مادته مادتان: مادة صلاح ومادة فساد فهو للأغلب منهما، ولهذا تجد أن كثيراً من الناس يعمل بالطاعات ويخلطها بالمعاصي، لأن القلب تمده مادتان، مادة خير وصلاح وحياة وذكر واعتبار ووعظ، ومادة أخرى وهي مادة فساد وشهوة وشبه وما إلى ذلك، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم.

أساس سلامة القلب

أساس سلامة القلب وقد جاء في دعاء إمام الموحدين خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89] فسلامة القلب هي دليل ومعيار النجاة من عذاب الله تبارك وتعالى، ومن الخزي يوم القيامة وشدته، وعبوسه، وكرباته، كل هذا يكون بسلامة القلب، وسلامة القلب تكون بأمرين لا يجوز أن نغفل عنهما، بل يجب أن نعلمهما: أما الأول: سلامته من الشبهة، وأعظم ما ينبغي في ذلك أن يسلم القلب من الشرك بالله تبارك وتعالى، وألا يكون في قلب العبد المؤمن شيئاً من الشرك لغير الله -عز وجل- سواء كان ذلك بالتقرب، أو بالتأله في الدعاء، أو التوكل، أو الخشوع، أو الخوف، أو الرجاء، وفي أصول هذه الأعمال التي هي أساس أعمال القلب، فليحذر العبد أن يكون مشركاً مع الله -تبارك وتعالى- بشيء من هذه الأعمال والتعبدات. ويجب أن تكون هذه الأعمال خالصة لله تبارك وتعالى، فيسلم القلب من الشرك، ويسلم من الشبهة التي تدفعه إلى الابتداع ومخالفة سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أمر الله -عز وجل- بطاعته واتباعه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]. فلا بد أن يتواطأ هذا القلب ويتفق اتفاقاً كاملاً مع ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تنقدح فيه شبهة من شبه أهل البدع والضلال، إما بميل إلى رأي أهل الغلو كـ الخوارج ومن ماثلهم، أو ميل إلى رأي أهل التفريط كمثل رأي أهل الإرجاء وأشباههم، أو أن يعبد الله -تبارك وتعالى- بما لم يشرعه، كما يفعله أهل التصوف وأشباههم، كل ذلك لا يصح وإنما الواجب السلامة منها، فالقلب السليم هو الذي سلم من الشبهات ومن المعارضات، والمنازعات والمدافعات، فكل ما شرعه الله وشرعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو الحق الواجب اتباعه والإذعان له {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. فصاحبه مذعن منقاد مستسلم بقلبه، لا يبحث إلا عن صحة الحديث، فإذا صح الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت وكان معناه معلوماً لديه، فهو يعتقده إن كان من الخبريات والاعتقاديات، ويعمل به ويمتثله إن كان من العمليات، فهذا هو الجانب الأول: السلامة: أي سلامة القلب من الشبهات. الثاني: سلامة القلب من الشهوات: وهي كثيرة -نسأل الله العفو والعافية- وهي التي تدفع الإنسان إلى أن يخرج عن الجادة وعن الطريق المستقيم، ينحرف عن طريق الجنة إلى طريق النار، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات} والإنسان إذا أراد طريق الجنة فإنه لا يمكن أن تتحق شهواته ورغباته كلها، أما النار فإنها حجبت وحفت بالشهوات، فمن سلك طريقها وصل إلى شهواته ورغباته نسأل الله العفو والعافية. فانظر يا أخي المسلم في أي الطريقين أنت؟! إن كنت تلاقي العنت من حفظ نفسك وتصبيرها عن الوقوع في الشهوات والشبهات فأنت على طريق الجنة، فأنت وإن كنت تريد المال وهو معروض عليك، ولكن لأنه حرام لا تقبله، ومعروض عليك شهوة النساء، ولكن لأنك تخشى الله وتتقيه وتستعصم به، فأنت لا تريد إلا أن يكون حلالاً، ومعروضة لديك شهوات كثيرة ومغريات تشتاق إليها النفوس ويتسارع إليها الناس، ولكنك تعرض عنها ابتغاء وجه الله، ومرضاته، فأبشر بالخير، واعلم أنك على طريق الجنة إن شاء الله. أما من أتبع نفسه هواها، وأصبح لا يشتهي أمراً إلا وأخذه من حلالٍ أو حرام، ولا تشتاق نفسه إلى شهوة إلا وسعى في تحصيلها ولا يبالي بأمر الله -تبارك وتعالى- فيها، فهذا ساع على طريق أهل النار، ونسأل الله أن يحفظنا وإياكم من ذلك، والشهوات كثيرة كما أن الشبهات كثيرة، وأساس ذلك كله هو ما يعتري القلب من أمراض.

أساس فساد القلب

أساس فساد القلب بعض العلماء جعلوا أساس فساد القلب بالشهوات كالحسد، وبعضهم قالوا: هو القوة الغضبية، وبعضهم قالوا هي: قوتين أو أكثر، وأخذوا ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] قال العلماء رحمهم الله تعالى ومنهم ابن القيم: هذه الآية حذرت من ثلاثة أمور: الشرك، ودعوة غير الله، وهذا معلوم التحذير منه {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وما عدا ذلك فإن الموضوعان الآخران فيهما إشارة إلى القوتين اللتين في الإنسان، أو الخصلتين اللتين هما أساس كل معصية وذنب يفعله العبد، وهما القوة الغضبية والقوة الشهوانية. القوة الغضبية تبدأ بأن تغضب من إنسان بغير حق، ثم تعتدي عليه بالضرب وتأخذ ماله، ثم تنتهي بقتله {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68] فنبه الله تعالى على نهاية وغاية القوة الغضبية -حفظني الله وإياكم منها- ولهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى الرجل مراراً {لا تغضب} فكل منا يعرف نفسه، فإذا كان ممن فيه حدة في جانب القوة الغضبية فليتدارك نفسه ولا يغضب، وليعالجها بالأدوية النبوية وقد بينها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإما أن تكون القوة قوة شهوانية، وهذه القوة الشهوانية أول بدايتها تكون من الجوراح، بالنظر، ومعظم النار من مستصغر الشرر: كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر أول ما يبدأ بالنظر، فيمد الإنسان عينيه إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى- ويتبع ذلك النظر اتباع القلب، فيميل القلب وينصب ويعشق ويهوى ويتمنى، ثم بعد ذلك يدفع المال أو يبذل السبل، ثم تكون النهاية هي الوقوع في الفاحشة -والعياذ بالله- فيكون الزنا فلهذا قال: {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] فنهى عن الزنا بعد أن نهى عن الشرك وعن القتل، فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية هما أساس كل ذنب ومعصية.

فساد القلب بالحسد

فساد القلب بالحسد والذين قالوا: إن الحسد هو أساس فساد الجوارح من القلب والأعضاء جميعاً لم يذهبوا بعيداً، فهو إما أن يكون ناشئاً عن القوة الغضبية لأنه نوع منها، لكنه يتجه اتجاهاً آخر -نسأل الله العفو والعافية- يتجه إلى الإنكار على المنعم وعلى المتفضل تبارك وتعالى، الجواد الكريم الذي أعطى كل نفس مخلوقة كما قال: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] فهو الذي يعطي من يحب ومن لا يحب، يعطي الكافرين ويعطي المؤمنين، فالحاسد يتجه حقيقة إلى الاعتراض على الله -تبارك وتعالى- لماذا؟ لأن فيه القوة الغضبية التي جعلته يكره هذا الرجل المحسود وينفر منه ثم زادت حتى أدت به إلى الوصول إلى الاعتراض على من أعطاه ومن منّ وتفضل عليه، فالمقصود أن هذا ناشئ عن القوة الغضبية أيضاً. ولهذا كان من أدلتهم على ذلك أن أول ذنب عصي الله تبارك وتعالى به، ونشأ عنه الكفر والفساد في الدنيا كلها من بني آدم هو الحسد، لأن أصل وقوع الفتنة والشرك والكفر والفواحش والبغي والعدوان في الدنيا هو من إبليس اللعين، وما الذي دفعه إلى ذلك الحسد؟ دفعه إلى ذلك أمر الله تبارك وتعالى الملائكة بأن تسجد لهذا المخلوق آدم عليه السلام {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] حسده ولم يقبل أمر الله تبارك وتعالى في أن يسجد له كسائر الملائكة الكرام الذين استجابوا لأمر الله ولم يعترضوا عليه، وهكذا يجب على العبد دائماً ألا يعترض على أوامر الله فينشأ من ذلك الحسد والإباء والاستكبار {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] ثم بعد ذلك الكفر، فالحسد جعله الله تبارك وتعالى سبباً لوقوع الكفر والفواحش والمصائب والبلايا في هذه الدنيا نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من همز الشيطان ونفخه ونفثه وشره كله. إذاً: هذه قضية الحسد، ويجب على الإنسان أن يطهر قلبه من الحسد والغش والغل لإخوانه المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان، وأن يدعو الله تبارك وتعالى ألا يجعل في قلبه غلاً للذين آمنوا، كما وصف الله تبارك وتعالى عباده الصالحين. وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الرجل الذي خرج إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مجلسه الكريم صلوات الله وسلامه عليه، ومعه أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، ولحيته تقطر من أثر الوضوء، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة} وانظروا إلى هذا الوصف العظيم، ما معنى من أهل الجنة؟! وهل هي كلمة عادية؟ أي من الفائزين، من الذين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، أي: أن هذا الرجل ما بينه وبين التمتع بنعيم الجنة -التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- إلا أن يموت فقط، فتعجب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وثلاث مرات يخرج ذلك الرجل والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيه هذا القول، فحرص الصحابة لمعرفة سبب هذا الفوز، وكان أكثر حرصهم على الخير مثل حرص أحدنا اليوم على الدنيا، فحرص على ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها. فذهب يستطلع الخبر ويخبر بعد ذلك بقية الصحابة، فذهب إليه وسلم عليه وقال: يا أخي، إني لاحيت أبي -أي: خاصمت أبي- فحلفت ألا أبيت عنده ثلاثاً -أي: ثلاث ليال- فأريد أن تؤويني عندك، فآواه عنده، وما غرضه إلا أن ينظر لعمله، يقول: عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه فما وجدت له من شيء كما كنت أتوقع، إلا أنه إذا قام من الليل أو تحرك ذكر الله عز وجل، لم يجد فيه أكثر من ذلك، لم يجد فيه زيادة عبادة أو صيام أو صلاة أو ذكر. فلما كان اليوم الثالث كدت احتقر ما عنده من عمل، فقلت له: أيها الرجل إني لم يكن بيني وبين أبي مُلاحاة، وإنما جئتك لأني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيك كذا، فأحببت أن أرى عملك، فما رأيت فيك شيئاً غير ما كنت قد رأيت، قال: ما هو إلا ذاك قال: ثم وليت، فقال لي الرجل لما وليت: تعال، فرجعت، فقال: ما هو إلا ما رأيت، إلا أني لا أبيت ليلة من الليالي وفي قلبي غش أو حسد لمسلم على نعمة أنعم الله تعالى بها عليه، قال: فذلك الذي به بلغت ما بلغت، وذلك الذي لا نطيق. سبحان الله! قلب سليم ليس فيه غش لأي مسلم، ولا حسد على نعمة أنعم الله بها عليه، من يستطيع لهذا إلا أصحاب النفوس التي سمت وعلت وزكت وعلمت أن النعم من الله، وعلمت أن الفضل كله من الله، والخزائن كلها بيديه، والخلق خلقه، وأن العبيد عبيده، وأنه يبتلي هذا بالفقر، وهذا بالغنى، ويبتلي هذا بالصحة، ويبتلي هذا بالمرض، وكلنا يجب أن نطيع أمره، ونقبل حكمه الشرعي كما نقبل حكمه الكوني القدري، فإن جعلنا من أهل الابتلاء والفقر والمرض والألم، صبرنا واحتسبنا، وإن جعلنا من أهل اليسار والغنى والمال والعافية، شكرنا واحتسبنا، فلا يطغينا هذا أو يلهينا ذاك، هذه هي سلامة القلب من ذلك كله. فلما سلم قلب هذا الصحابي رضي الله تعالى عنه من الشرك والبدعة والهوى، سلم مما هو أدق من ذلك وهو الغش للمسلمين أو الحسد لهم، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من غش فليس منا} وفي الرواية الأخرى يقول: {من غشنا فليس منا} لأن المؤمن لا يغش ولا يحسد أخاه. فمن صفة أهل الكتاب التي جعلتهم يكفرون بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالته الحسد، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى عنهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقال في الآيات الأخرى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف حسدنا اليهود على رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه بعث من العرب، وحسدونا على القبلة، ويوم الجمعة، وعلى أن وفقنا الله له ولم يعرفوه، وحسدونا حتى على كلمة (آمين)، وما من شيء في ديننا إلا وحسدنا عليه اليهود والنصارى وأشباههم، ونتيجة هذا الحسد استكبروا وأبوا أن يذعنوا للحق، ورفضوا الإيمان بهذا الدين العظيم. والمؤمن لا يحسد أحداً من إخوانه المسلمين أبداً، بل المؤمن لو رأى أهل الكفر يتنعمون ويتلذذون ويعبثون بالأموال كما يشاءون يعلم أن ذلك ابتلاء لهم وأنه {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197] فلا تقلبهم في البلاد، ولا يغره تقلبهم في النعم وهم كفار، فكيف تحسد إخوانك المسلمين المؤمنين؟!

سوء الظن واتباع الهوى

سوء الظن واتباع الهوى وأمر آخر يجب أن نحفظ منه قلوبنا، وهو مما يظهر أيضاً أثره على جوارحنا، وهو قرين وقريب من الحسد، وهو سوء الظن، يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ولا حظوا الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فلا بد أن تجتنب الكثير من الظن لكون البعض منه إثماً وليس العكس، والإنسان ينظر إلى بعض الأمور، ثم يتوسع الظن عنده حتى يسوء ظنه كثيراً من أجل احتمال قليل، وربما يكون هذا القول صدر أو بدر من أخيك وله احتمال من الحق واحتمال من الخطأ أو الباطل، فإذا وسَّعته أكثر مما يحتمل، فقد عكست مفهوم الآية ومضمونها تماماً. فالواجب علينا أن نجتنب كثيراً من الظن لكون البعض منها إثماً، وحتى نحفظ قلوبنا ونحفظ جوارحنا من النيل والوقوع في أعراض إخواننا المسلمين، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ولا يبيع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا}. وسوء الظن يولد في الإنسان عندما يترك هذه الفضائل، فتنقطع الأخوة والبغضاء ويقع الحسد والبغي، ويقع العدوان والفتنة، وأصل ذلك كله ناشئ من سوء الظن -والعياذ بالله- وقال بعض السلف -وهو من الكلام المفيد-: [[إنما يُسيء الظن بالله خبيث النفس، قالوا: كيف ذلك؟! قال: إنه تترشح صفاته فتخرج في غيره]] أي: هو نفسه خبيثة والعياذ بالله، وأعماله وباطنه خبيث، فيترشح ذلك كما يترشح الأناء، ويخرج بشكل إساءة الظن بالناس. فيأتيه -مثلاً- القول الصادق فيقول: لا، هذا القول كذب، وإذا قيل له: لماذا؟ يقول: ماذا لو كان صاحبه كاذباً؟! لأنه هو -نفسه- يقول القول وهو كاذب والعياذ بالله. ويوصف له الإنسان بالتقوى فيقول: لا، هذا ليس بتقوى، لماذا؟ قال: هناك أشياء لا تدري أنت عنها ولا تعلمها، لماذا؟ قال: لأنه يظهر التقوى ويعمل في الباطن أعمالاً خفيه، فهو في الحقيقة يتكلم عن نفسه، وأصدق الناس ظناً بإخوانه المسلمين هو أسلم الناس باطناً، وهذه قاعدة؛ لأنه لا يتصور أن أحداً يقول الحق ثم يفعل هذه الموبقات ولذا فإنه لا يتهم بها الناس؛ لكن الذي يفعلها -والعياذ بالله- يتهم الآخرين بلا دليل إلا دليل سوء الظن فقط.

سوء الظن سبب اتباع الهوى

سوء الظن سبب اتباع الهوى سوء الظن بداية لاتباع الهوى، وهذا من أخطر الأمور، وإذا اتبع العبد الهوى حاد عن الطريق المستقيم، ولم يرتدع بأي رادع، وهذه مشكلة وفتنة عظيمة يفتن بها العبد بعد الشرك بالله تبارك وتعالى، بل إن الشرك أحياناً عندما يقع، فهو يقع نتيجة لاتباع الهوى، كما أخبر الله تبارك وتعالى في أكثر من آية عن المشركين فيقع الشرك وتقع المحظورات كلها بسبب الهوى، فيخل بحق الله وبحق إخوانه المؤمنين، ويصبح متعصباً لرأيه ولهواه، وذلك التعصب يعميه ويصمه عن قبول الحق وعن الانقياد والإذعان له. فيشبه حاله في هذا الحال حال اليهود والنصارى الذين تعصبوا بما عندهم من الباطل، ورفضوا دعوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفضوا قبول الحق، ولهذا يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله وهو من العلماء الأجلاء، يقول: 'العلماء يكتبون ما لهم وما عليهم، وأما أهل الأهواء فيكتبون ما لهم ويذرون ما عليهم' أي: أن العالم بالله تعالى حقيقة هو الذي يخشى الله، كما قال الله عنهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] إذا بلغه شيء يخالف ما كان يظن أو ما كان يفتي به أو يقوله كتبه سواء كان له أو عليه، حتى لو كان رأيه في المسألة كذا، ثم بلغه حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل به، أو عن الصحابة، فإنه يكتبه ويتأمل ويبحث عنه، حتى لا يقول إلا الحق، ولا يفتي بالباطل، ولا يعتقده. أما أهل الأهواء لو أتيته بالآيات والأحاديث والبراهين من الواقع -إذا كانت القضية مما اختلف فيها الناس- وتقول: انظر الدليل الفلاني والدليل الفلاني؛ فإنه لا ينظر إليه، فإذا وجد رائحة شبهة، أو كلمة أو احتمال ينفعه، قال: نعم، ثم أخذه وكتبه وحفظه ونشره ووزعه واهتم به، وهذا دليل على أنه صاحب هوى، وليس من أهل العلم الذين يخشون الله، ويعلمون أنهم مسئولون عما يقولون ومحاسبون ومجزيون بهذا، وهذه هي صفة أهل الأهواء.

اتباع الهوى في الحكم

اتباع الهوى في الحكم وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى عن المنافقين: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] إذا كان الحق لهم قالوا: لا نريد أن نحتكم إلا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لماذا؟ قالوا: لأنه لا يحكم إلا بالحق، هذا إذا كان يعلم أن الحق له، أما إذا كان الحق لغيره قال: نذهب إلى فلان وفلان من الناس لأنه من أهل الخير والصلاح، وهذا هو الهوى والعياذ بالله، ونحن والحمد لله ممن نتبع منهج السلف الصالح في هذا، ونعتقد أن الإنسان يأخذ ما له وما عليه. فإذا اجتنب سوء الظن، واتباع الهوى، وأخذ ما له وما عليه وفقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ثم بعد ذلك قد يكون اجتهاده بالحق مفضياً به إلى الصواب، وقد يفضي به إلى الخطأ، فليس منا أحد معصوم أبداً، بل كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن فضل الله أعظم من ذلك، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا اجتهد الحاكم، فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر} والحاكم هنا أعم وليس المقصود من الحاكم مجرد الأمير أو الملك أو السلطان الحاكم؛ بل يعني كل من حكم في مسألة، حتى قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'حتى الذي يقضي بين الصبيان في الخطوط' أي: في أيهم أحسن خطاً، فأنت مطالب أن تحكم بالحق والعدل، فأنت قاضٍ في هذه الحالة. أما معنى الاجتهاد فهو: استفراغ الجهد والطاقة والوسع في الوصول إلى الحق، فأنت تريد الحق فإن أصبته فلك أجران: أجر الجهد الذي بذلت، وأجر الصواب، وإن أخطأت لم يحرمك الله عز وجل، فلك أجر الاجتهاد، وأما أجر الصواب فيفوتك. والله تبارك وتعالى جعل ذلك في حق من هم خير منا ومن الخلفاء الأربعة، جعله في حق نبيين رسولين من عباده الصالحين {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] فهمها سليمان ولم يفهمها داود عليهما السلام، فهذا له أجران وهذا له أجر حتى تكون هذه القصة عبرة لنا. والصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لمَّا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة} بعضهم قال كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا أصلي العصر إلا في بني قريظة ولو غربت الشمس، ولا أبالي أنني لم أصلها في وقتها، لأن هذا أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما علي من حرج، فهذا اجتهاد، وقال الآخرون: إنما أراد منا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتعجل فلنصل الصلاة في وقتها، ولنتعجل إلى بني قريظة، لأن المقصود هو أن نذهب إلى بني قريظة لنقاتلهم، وليس المقصود أداء الصلاة في بني قريظة أو في المدينة، أو في مكان قريب منهم أو بعيد عنهم، ثم لما بلغه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، ما عنف إحدى الطائفتين. وهذا من فضل الله عز وجل، أي: أن هذا مأجور على اجتهاده، وهذا مأجور على اجتهاده، وهؤلاء صلوا، وهؤلاء صلوا ولم يقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء أخرتم، ولم يقل لهؤلاء قدمتم، إذاً قد يستوي الأمران، وقد يكون أحدهما له أجران والآخر له أجر، والشاهد -وهو الذي يهمنا- أن كلاهما لا يستحق اللوم والذم والتعنيف والتشهير وإطلاق اللسان بالطعن والقذف والنيل منه، لأن الأمر في دائرة النظر والاجتهاد والفهم، فمن تعدى ذلك وتجاوز وبغى فقد أساء إلى نفسه وجمع وساء الظن بغيره، وربما جمع إلى سوء الظن الحسد، فزاد على سوء الظن الحسد والبغي والعدوان.

الاجتهاد في الأحكام عند شيخ الإسلام

الاجتهاد في الأحكام عند شيخ الإسلام ولأهميه هذا الموضوع ننقل كلاماً نافعاً لـ شَيْخِ الإِسْلامِ رحمه الله، ولا أريد أن أطيل عليكم فيه، لكننا طلبة العلم نحتاج إليه كثيراً في واقعنا، وهو من كتاب الاستقامة يقول الشيخ رحمه الله: 'إن من مسائل الخلاف الاجتهادية ما يتضمن أن اعتقاد أحدهما يوجب عليه بغض الآخر' أي: إذا اختلفوا في مسألة اجتهادية، فيظن البعض أن اعتقاده يوجب عليه بغض الآخر ولعنه أو تفسيقه أو تكفيره أو قتاله أو تفزيعه، إلى غير ذلك وقد يخرجه من السنة أو الإسلام أو طريق الحق والدعوة، لأن اعتقاده يدفعه إلى ذلك، فيقول: 'فإذا فعل ذلك مجتهداً مخطئاً كان خطؤه مغفوراً له، وكان ذلك بحق الآخر محنة وفتنة وبلاء ابتلاه به' أي: حتى إذا تنازعا واختصما فبغى أحدهما على الآخر، أو بغت إحدى الطائفتين على الأخرى فظلمتها وكفرتها وفسقتها وبدعتها إلى آخره، فاعلم أن هؤلاء الذين فسقوا وضللوا وبدعوا إن كانوا يريدون الحق فعلاً فلهم أجر واحد وهو أجر الاجتهاد، وإن كانوا غير مصيبين فالواجب على الآخرين -وإن كان ما قيل فيهم زوراً وباطلاً وبهتاناً- الصبر؛ لأن هذا امتحان وابتلاء.

البغي في الاجتهاد

البغي في الاجتهاد ويقول: 'ولكن اجتهاد السائل لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي' أي إذا أصبح الأمر فتنة وفرقة وقعت بين الناس من طلاب العلم وغيرهم، فلا بد أن ذلك نتيجة بغي وعدوان وليس نتيجة اجتهاد. يقول: 'فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ' فالاجتهاد السائغ لا يكون معه فتنة ولا فرقه، أي: إذا قلت قولاً وخالفك أخوك، فلا توجد هناك فتنة ولا فرقة، ولا يقع ذلك إلا إذا كان هناك بغي من أحد الطرفين على الآخر، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]. يقول: 'وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين ' والكلام يخرج المنافقين، لأن المنافقين -والعياذ بالله- يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، لكننا نتكلم عن المؤمنين الذين يريدون الحق من هذه الأمة. يقول: 'وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول -أي أصول الدين- في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب، فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، وقد يكون المخطئ باغياً، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أُمر به من الصبر' أي يوجد إنسان بغى من غير اجتهاد، وخالف الحق وظلم، ولا يزال من المؤمنين ولم يخرج من الملة، فخالف في أمر من أمور الاعتقاد العظيمة؛ لكن خالف من غير اجتهاد سائغ، وكان باغياً في ذلك.

بغي الخوارج في الاجتهاد

بغي الخوارج في الاجتهاد وأوضح مثال على ذلك هم الخوارج لما بغوا واعتقدوا كفر علي -رضي الله تعالى عنه-ومن معه، ماذا فعل بهم علي رضي الله تعالى عنه؟ وهم خوارج حقيقيون فعلاً، وهم الذين بلغ من شأنهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفهم بأعيانهم، وعلي رضي الله تعالى عنه كان يقول لأصحابه ابحثوا عن ذي الثدية، فلم يجدوه فكان يقسم ويقول: [[والله ما كذبت ولا كُذبت]] فبحثوا حتى وجدوه في ساقية وفوقه جرحى وقتلى، فأخرجوه وإذا في عضده مثل الثدية، ومع ذلك قالوا لـ علي -رضي الله عنه- لما صعد المنبر لا حكم إلا لله، أي أن علياً رضي الله عنه حّكَّمَ الرجال، ومادام حكم الرجال فقد خرج عن الإسلام وخرج عن السنة، وليس له طاعة، وهو كما قالوا: يريدون أميراً غيره وهو عبد الله بن وهب الراسبي، أو أميراً مثل عمر، إلى آخر ما قالوا، ومع ذلك صعد المنبر وقال: " أما إن لكم علينا ثلاثاً -أي: مهما قلتم وافتريتم فإن لكم علينا ثلاثا- وهم خوارج حقيقيون -قال: وهذه الثلاث هي: ألا نبدأكم بقتال حتى يكون الباغي منكم هو الذي يصول ويعتدي، وألا نمنعكم مساجد الله -لأن المساجد بيوت الله، وكل من كان من أهل القبلة يحق له أن يأتي إلى بيوت الله- وألا نمنعكم الفيء " أي عطاءكم من بيت المال، لا نمنعكم إياه ولا نفصلكم ونضايقكم لأنكم خوارج، ولأن هذا هو حق لكل مسلم مادام من أهل القبلة، ومن أهل الإسلام. هذا حكم علي رضي الله تعالى عنه، وحكم الخلفاء الراشدين الذين قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي} ثم قاتلهم رضي الله تعالى عنهم وقاتلهم الصحابة حتى تحقق فيهم ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد أن بدأوهم هم بالقتال وخرجوا عن الطاعة، وأمَّروا عليهم أميراً منهم، ورفضوا طاعة أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه.

الخطأ في الاجتهاد

الخطأ في الاجتهاد قال شَيْخُ الإِسْلامِ: 'وفيهم المجتهد المخطئ' وبعض العلماء من أهل السنة والجماعة أخطأ في مسائل الصفات، فبعضهم أول الكرسي بأنه العلم، وأخطأ بعضهم وقال في حديث {إن الله خلق آدم على صورته} إن الضمير يرجع إلى الرجل أو إلى آدم وليس إلى الله، وبعضهم أخطأ في القدر، وبعضهم أخطأ في الحكم على مرتكبي الكبائر، قال قولاً مغايراً لقول الجمهور، لكنه لا يريد إلا الحق، فهذا مخطئ معذور مادام من أهل السنة ويريد الحق، والتزم السنة باطناً وظاهراً، لكن لم يوفقه الله إلى الصواب، وليس كل من التزم السنة يوفق فيعصم بل إنما يوفق ويصيب في أكثر أقواله وأعماله -والحمد لله- وأما الخطأ فكل بني آدم عرضة له، ومنهم النوع الآخر وهو المجتهد المصيب الذي لا شك فيه، يقول: 'وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين' حتى نحفظ ألسنتنا جوارحنا من أن نحدث فتنة وفرقة بين طلبة العلم وبين إخواننا المسلمين، فكل ما أوجب فرقة أو فتنة فليس من الدين سواء كان قولاً أو فعلاً.

صبر المصيب العادل على المخطئ الجاهل

صبر المصيب العادل على المخطئ الجاهل المصيب العادل عليه أن يصبر على الفتنة، إذا كنت أنت المصيب العادل وغيرك الظالم الباغي المخطئ فاصبر ولا ترد عليه، حتى لو ألف ضدك الكتب، حتى لو قال فيك ما قال، لا ترد أنت، لأنه إذا أخطأ وعصى الله فيك فأطع الله فيه، كما قال بعض السلف: ما رأيت أن أعامل أحداً عصى الله فيّ بمثل أن أطيع الله فيه -عصى الله فيك وأنت تطيع الله فيه، تعفو وتصفح وتصبر وتتحمل. يقول -رحمه الله-: "وسوف يصبر على جهل الجهول وظلمه إن كان غير متأول، وأما إن كان ذلك أيضاً متأولاً فخطأه مغفور له' أي حتى الذي يبدأ بالعدوان والسب والشتم والتعيير والتبديع قد يكون بعضهم يريد الدفاع عن السنة وعن العقيدة، فهذا له أجر الاجتهاد على هذا الاجتهاد السائغ، وإن كان عمله خطأ. وفي المقابل أنت عليك الصبر، يقول: 'وهو فيما يصيب به من أذىً بقوله أو فعله له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له، وذلك محنة وابتلاء في حق ذلك المظلوم، فإذا صبر على ذلك' أي: المظلوم والمفترى عليه إذا صبر على ذلك واتقى: 'كانت له العاقبة -ولا بد أن يظهر الحق- كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] '. وكم افتري على شَيْخِ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، وقالوا: إنه عدو الله والسنة والإجماع، ولو قرأتم في أول التسعينية وغيرها لرأيتم كيف جعلوه خارجاً عن إجماع الأمة، وهذا لأنه -بظنهم- لم يوافقه على كلامه أحد لا في القديم ولا في الجديد، فجعلوه خارجاً عن إجماع الأمة في الأمور التي يعلم الناس الآن أنها حق. واسألوا العامة بل واسألوا العلماء من هم الذين ردوا على ابن تيمية، من الذين أغروا به فسجن ومات في السجن رحمه الله؟! ومن الذين اتهموه، وآذوه؟! من هم وما أسماؤهم؟! دعك من كتبهم قد لا يكون لها وجود في الدنيا، بعضهم لا وجود لاسمه فضلاً عن كتبه، كثير منهم لا يعرف؛ لكن من الذي يجهل ابن تيمية رحمه الله؟! سبحان الله! دائماً العاقبة للتقوى، ولا يظهر الله إلا الحق، أما الزبد فيذهب جفاءً ولو استمر ما استمر. فهذا يوجب من المبتلى ومن المؤذى والمفترى عليه أن يصبر، ويتوقع أن العاقبة له، وهذا حاصل في القديم والحديث. وتذكرون شيخاً عالماً فاضلاً -ولا حرج أن نسميه- وهو شيخنا جميعاً الشيخ محمد بن صالح العثيمين -حفظه الله- عندما قال قولاً في مسألة المعية، وافترى عليه من افترى، وقالوا: خرج عن أهل السنة وصار حلولياً -حاشاه من ذلك حفظه الله- وتعجبت من ذلك وقلت: سبحان الله! المسألة لا تحتاج إلى هذا القول كله، ولكن الشيخ آذوه وتحمل الأذى الشديد وصبر على هذا، وفي النهاية الآن لا يوجد أحد إلا ويعلم أن الشيخ -حفظه الله- على الحق وعلمه منتشر في الأمة، وأولئك من كان منهم له اجتهاد سائغ فله أجر الاجتهاد ولكنه لم يصب، ومن كان عادياً ظالماً باغياً فهو قد أفضى إلى ما قدم والله تعالى حسيبه حياً أو ميتاً. الشاهد أن هذه سنة الله في العلماء والدعاة أن يبتلوا، ويفترى عليهم، ويتهموا، وأن يقال عنهم: أعداء للعقيدة والسنة، فالواجب في هذه الحالة هو الصبر والاحتساب، وفي النهاية يحق الله الحق ويبقى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض بإذن الله تبارك وتعالى.

الصبر على الابتلاء

الصبر على الابتلاء يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] فأمر الله سبحانه بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى -وهذا مهم لنا- وذلك تنبيه على الصبر من أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أو غير متأولين' أي: لابد أن يصبر المؤمنون بعضهم على أذى بعض، فلا يجوز لأحد أن يغتاب المسلمين، أو يسيء الظن فيهم، أو أن يعقد جلسات للطعن والنيل منهم. ولكن أيضاً لو فعل فالواجب على الطرف الآخر الصبر والسكوت والاحتساب، وهذا واجب على الجميع، يجب على هذا أن يكف عن الأذى، ولكن لو لم يكف وجب على ذاك أن يصبر وأن يحتسب حتى تستقيم الأمة ولا تعم الفرقة. يقول: 'وقد قال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا فيهم -هذا وهم كفار- فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان؟! ' فلا يحملنا بغضنا لليهود والنصارى أن نظلمهم ونفتري عليهم، ونبهتهم بما ليس فيهم، حتى لو كان رافضياً، أو كان خارجياً، ولا يحملنا ذلك على ظلمه والافتراء عليه، وما فيهم من البدعة يغنينا على أن نبهتهم ونفتري عليهم ونتكلم في نياتهم. فكيف إذا كان ممن يدعو إلى مثل ما تدعو إليه، ويدين الله بمثل ما تدين به، ويعتقد مثل ما تعتقد، هل يجوز أن تبغضه وتعاديه؟ هذا مما لا يجوز بلا ريب. يقول: 'فهذا أولى أن يجب عليه ألا يحمل ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالماً له، فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا، فإن الشيطان موكل ببني آدم وهو يعرض للجميع، ولا يسلم أحد من مثل هذه الأمور' وهذه قاعدة عظيمة، لا يسلم أحد من أن يقع في قلبه شيء من هذا على إخوانه المسلمين. يقول: 'من نوع تقصير في مأمور، أو فعل محظور باجتهاد، أو غير اجتهاد، وإن كان هو الحق، ولهذا قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} وقل فعلاً ولا يمكن أن يسلم أحد أو يسلم مجلس من هذا {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] '. لماذا لا يكون هذا هو ديدننا وشأننا دائماً في مجالسنا، أن نأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ولا نتحدث في الفرقة ولا نضع على النار أعواداً لتشتعل، بل لو بلغنا أن أحداً في قلبه شيء على أحد نصلح ما بينهما ونهدئ الأمر، وهذا الخلاف يقع عقوبة من الله {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]. وقد استعاذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأولين فأعيذ منهما، وأما الثالثة فمنع وحجب عنه كما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالفرقة عذاب لكن الواجب ألا نأججها، بل نقول لمن جاء يغتاب أو ينم أو يتكلم اتق الله وأصلح ذات البين، فيجب أن تكون مجالسنا كذلك، وإن لم تكن مجالسنا مجالس علم وذكر لله -تبارك وتعالى- ومنفعة تنفعنا حتى في دنيانا، فيجب أن تكون مجالاً للأمر بصدقة أو معروف إو إصلاح بين الناس، وليس مجالس إفساد وشحناء في القلوب وإيغار في الصدور.

أمر الله لنبيه بالصبر

أمر الله لنبيه بالصبر يقول: 'وقال سبحانه لنبيه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} [غافر:55] فأمره بالصبر، وأخبره أن وعده حق، وأمره أن يستغفر لذنبه. ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به- فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر -فالفتنة إما من ترك الحق، وإما من ترك الصبر- عند المعتدى عليهم والمتكلم فيهم، فتقع الفتنة والفرقة- فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور' دعك من المفتري الظالم صاحب الهوى؛ لكن أنا أخاطبكم وأخاطب نفسي أن نكون من النوع الثاني، فليقل فينا من شاء ما شاء، وليفتري علينا من افترى، لكن يجب علينا أن نصبر، وإن لم نصبر نحن فقد عصينا الله، كما عصى أولئك بالبغي والظلم، فكانت الفتنة. وحتى أكون صريحاً معكم، فإني أتعجب أن بعض الناس من المتكلم فيهم يصبرون والباقين لا يصبرون -سبحان الله! - لا بد أن نصبر حتى نقضي على هذه الفتنة التي يريد الشيطان أن يرجف بها بين المؤمنين، فليبغ الباغون، وليعتد المعتدون، وليفتر المفترون، لكن أنت اصبر وتحمل. يوسف عليه السلام مكث في السجن سبع سنين نتيجة أنه افتري عليه أنه يريد أن يفعل الفاحشة، وهو الذي استعصم وأبى وهرب إلى الباب، وهو نبي من أنبياء الله، افتري عليه وظلم وسجن هذه المدة بظلم، ونحن الآن إذا قيلت فينا كلمة أو أوقف داعية، أو صار شيء علينا جزعنا وقنطنا، لكن هذه هي سنة الله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ولا شك أن الذي يحمل بعض الإخوان على الأذى والألم هو من باب قول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهند أي: إذا تكلمت -مثلاً- إذاعة صوت أمريكا، وقالت: المتطرفون الأصوليون، فنقول: هم كفار ولا يضيرنا كلامهم فينا، لكن عندما يأتي إخوان لك، وترى فيهم -إن شاء الله- دعوى الخير ومظهر الخير ومحبة الخير واعتقاد الخير، وتحسبهم كذلك والله حسيبهم، ولا تتوقع منهم إلا الخير، ثم يظلمونك! فإنك تتألم، هذا الذي يدفع ببعض الإخوان إلى ذلك. ومع هذا نقول كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله درءاً للفتنة: 'لا بد من الصبر على هؤلاء، كما لا بد من الكف من أولئك'

خطأ المقصر في معرفة الحق من وجوه ثلاثة

خطأ المقصر في معرفة الحق من وجوهٍ ثلاثة يقول: 'وإن كان مجتهداً في معرفة الحق ولم يصبر، فليس هذا بوجه الحق مطلقاً، لكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه، فينبغي أن يصبر عليه، وإن كان مقصراً في معرفة الحق -الطرف الآخر- فصار له ثلاثة الذنوب: أنه لم يجتهد في معرفة الحق' وبعض الناس -مثلاً- قد يقع في أعراض العلماء والدعاة، فيجتمع له ثلاثة ذنوب. أنه لم يجتهد في معرفة الحق، بل وسمع كلاماً وأخذه على عواهله وردده ونشره. والثاني: أنه لم يصب الحق. والثالث: أنه لم يصبر. فوقع في ثلاثة ذنوب، والآخر قد يقع في ذنب واحد وهو ترك الصبر، ولكن ينبغي ألا يعصى الله لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، يقول: 'وأمور القلوب لها أسباب كثيرة، ولا يعرف كل أحدٍ حال غيره بإيذاء له بقول أو فعل قد يحسب المؤذى -إن كان مظلوماً لا ريب فيه- أن ذلك المؤذي محض باغٍ عليه، ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن'. أي من الخطأ أن يقول شخص: ما دام ظلمني فلان فإنني أدفع ظلمه بأي شيء، ليس كذلك! حتى الذي ظلمك، وأجاز الله لك أن تدفع سيئته بمثلها، أمرك الله كذلك بالصبر والعفو وأنه أفضل، وما أباح لك أن تدفعه بأي شيء أو تقول في حقه ما تريد، وهذه القواعد عظيمة في التعامل بين المؤمنين مهما اختلفوا ومهما أخطئوا، "والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصف الأئمة بالصبر واليقين فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] '. ثم ذكر رحمه الله، أصلاً عظيما وهو: يقول: 'وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة - يظن أن الأمر متعارض- فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة' يقول: لا أستطيع أن آمر أو أنهى إلا بفتنة، فيقول: 'فإما أن يؤمر بهما جميعاً' أي: الله أمرني بالأمر والنهي وأمرني بالفتنة، وكيف أمرك بالفتنة؟ يقول: ما دام لا يمكن الأمر والنهي إلا بها، فأنا مأمور بالإثنين، وإن كانت فتنة لا بد أن آمر وأنهى، أو أسكت، فلا أقول الحق حتى لا تقع الفتنة، وهذا هو الخطأ، فيفهم أنه لا بد من الأمرين معاً نفياً أو إثباتاً، وينسى قول الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فلا بد أن تأمر وتنهى وتصبر على ما أصابك من الفتن، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا وإياكم الصبر وقول الحق في الغضب والرضا إنه سميع مجيب.

ولاية الله لمن حفظ جوارحه

ولاية الله لمن حفظ جوارحه إنما أردت من هذا التذكير والتنبيه لإخواني ولنفسي بأن نحفظ قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا وألسنتنا عما حرم الله تبارك وتعالى، ولا سيما إذا كان مؤدياً إلى الفتنة بين المسلمين وإلى الفرقة بين المؤمنين فإن هذا يتأكد ويتعين. والذي حرم الغيبة والنميمة والحسد والغش وحرم وقوع الظن لأي مسلم كائناً من كان، فإنه في حق أوليائه وعباده الصالحين والدعاة إليه لا شك أنه يحرمه أشد ولا يرضى به تبارك وتعالى، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن يريدون وجهه تعالى، وممن يتبعون الحق على بصيرة، ولا يريدون إلا الكتاب والسنة، وإذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه، ولا يتعصبون لرأي ولا لقوم، ولا يزكون أنفسهم بما ليس فيهم. فإن من أعظم الأدواء أن يزكي الإنسان نفسه، والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] لا تظن أنك تزكي نفسك بأن تقول: أنا من أهل الحق، والصواب، وأنا من أهل السنة، ومن أتباع السلف، وحملة الدعوة، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] لا تنظر إلى هذا وانظر إلى الحق، وإلى عملك في ذاته، لو أن المسألة ألقاب وأسماء وتزكيات يجعلها الإنسان لنفسه أو يصفه بها من يحبه لكان الأمر هيناً لكل أحد {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] هذا ما شرعه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- محذراً إيانا من مثل هذا. فأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلني وإياكم ممن يحفظ الله فيحفظه الله تبارك وتعالى، بأن يحفظ جوارحه عما حرم، فإذا حفظنا جوارحنا جميعاً عما حرم الله وأقمناها واستخدمناها في طاعة الله، حفظها الله عز وجل ونالنا ما ذكر في حديث الولي: {كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولأن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنه} فهو لما حفظ الله بجوارحه كان جزاؤه بهذه الدرجة وبهذه المنزلة، فيسدد الله تبارك وتعالى كلماته وخطواته وأعماله ويوفقه، وهو غير مبال ولا يدري أحياناً. وكثير من أمور الدعوة -والحمد لله- ليست عميقة الخطة، أو أن وراءها عقول مدبرة، وإنما هي أعمال عملها بعض أهل الخير واجتهدوا بها، ففتح الله تعالى عليهم أبواباً عظيمة من أبواب الخير، نتيجة أن هناك قدراً من ولاية الله لمن قاموا بهذا العمل في الجملة، لا نفكر الآن بأفراد معينين، لكن أقول في الجملة -والحمد لله- أن خيار خلق الله هم الأئمة الذين يدعون إليه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في جملتهم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. وبالمناسبة يشكو الإخوة من ضعف في التعاون والتجاوب مع أنشطة الأحياء، وفي فترة ما يسمونه عطلة الربيع، وتزدحم مدينة جدة، ازدحاماً شديداً بالناس وبالمنكرات والملهيات، فالواجب علينا أن يكون كل منا جندياً لله مستعملاً في طاعة الله، يعين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلنتعاون على ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

التنويع في أساليب الدعوة

التنويع في أساليب الدعوة Q تشكو بعض الأحياء التي يوجد فيها الشباب الذين لا يصلون ولا يعملون الخير، ويحبون اللهو واللعب، وربما كانوا من مدمني المخدرات ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويتعرضون لبنات الناس، وغير ذلك، ما هو التوجيه المطلوب؟ A نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم للدعوة إليه، يجب أن نجتهد في دعوة هؤلاء الشباب، وننوع في الوسائل، وليس شرطاً أن تذهب وتقول له: أنت عاصٍ! أو حتى تقول: اتق الله! لا، بل يمكن أن تزوره أو تهدي له كتاباً أو شريطاً، أو تكلم والديه، أو تكلم أساتذته في المدرسة، اهتم به وتعرف عليه، خاصة في الحي. اعرف من هو أبوه؟ ومن هي أمه؟ ومن هم أخواله؟ وهل يمكن أن يكون لأحدهم تأثير عليه، فتكلمه فلا بد أن نتعاون ونحرص على هؤلاء الشباب. لماذا يجتمعون في هذا المكان؟ وهذا المقهى، لماذا لا يقفل؟ وإذا كانت جلسة في مكان فيه إيذاء، لماذا لا يمنع من الجلوس فيه؟ ولابد أن ننوع ونوسع أذهاننا ونفتقها، حتى نستوعب كل الاحتمالات لوقوع هؤلاء الشباب في هذه الانحرافات، ونعالجها بالعلاج الناجح بإذن الله، وهو ليس صعباً والحمد لله.

السفر إلى أمريكا وغيرها من بلاد الكفر

السفر إلى أمريكا وغيرها من بلاد الكفر Q الأخ يقول: إنه أعطي دورة في أمريكا وهو شاب لم يتزوج وليس لديه ما يكفي لتكاليف الزواج فما نصيحتكم؟ A الذي أنصح نفسي به وإخواني جميعاً كما قال صلى الله عليه وسلم {من غش فليس منا}. فأقول: الذهاب إلى تلك الدول فيما بلغني وجاءتني رسائل عنها في الأسبوع الماضي، وجاءني من الإخوان من قطع دورته في أمريكا وجاء. يقولون: الحياة هناك لا تستطاع ولا تطاق من الشاب الأعزب، لا يطيق أن يعيش في تلك المجتمعات، وقد رأينا في أيام خاطفة شيئاً عجيباً، والذي يذهب مثلي أو مثلكم، ونزل في مراكز إسلامية أو مساجد ولا يرى شيئاً، لكن مع ذلك ترى في المطارات وترى في الطرق ما تستعيذ بالله منه، والله الذي لا إله غيره، إنني قلت: سبحان الحي القيوم مراراً في أمريكا، سبحان الذي بلغ من عفوه وفضله وسعة رحمته أنه يرزقهم ويطعمهم ويسقيهم، وعندما ترى ما يفعل الأمريكان وغيرهم تتعجب من سعة فضل الله {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] كيف يطعمهم فضلاً عن أن يكونوا أقوى الأمم، كيف يطعمهم وكيف يعطيهم الماء وهم على هذه الموبقات والعياذ بالله؟! وأعجب أن الخطوط السعودية والدفاع الجوي، ووزارة الطيران، وعدة وزارات بلغني عنها قريباً أنها تبتعث، سبحان الله! لماذا تبتعثون بارك الله فيكم؟ قال بعضهم -وهذا الذي آلمني جداً-: نبتعث لنتعلم اللغة، أليس عندنا معاهد ومراكز، ألا نستطيع أن نفتح الخطوط -كمثال-؟ أليست كانت تدار من قبل شركة أمريكية منذ أكثر من أربعين سنة، وهم بين أيدينا هنا، لماذا لا نعلمهم اللغة هنا؟ لماذا لا نأتي بالكمبيوتر هنا؟ فرحنا جميعاً عندما افتتحت الأكاديمية في رابغ -أكاديمية الطيران والحمد لله- يصبح طياراً، ويدرس هنا ويسلم من الفتنة هناك، فأصعب الأمور وهو تعلم الطيران وجد عندنا، واللغة وهي أسهل شيء يبتعث إليها هناك؟ على كل حال الكلام في هذا كثير، لكن نرجو أن تتنبه كل الإدارات، بل وعلى الآباء كذلك التنبه إلى خطورة مثل هذه البعثات وأثرها السيء.

وساوس المعصية

وساوس المعصية Q يقول الأخ: أحس عند ارتكاب المعصية كأن جوارحي يحركها شخص آخر، ويعلم الله أني أرفض المعصية من كل قلبي، وعندما أفعل معصية أندم ندماً لا يعلمه إلا الله، فما هي النصيحة التي توجهها لي؟ A الأخ يقول: أحس عندما أعمل المعصية كأنه شخص آخر، وهو في الحقيقة الذي يفعل المعصية، ولكن الشيطان يملك عليه جوارحه، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من شره، ولذلك يجب علينا أن نعلم هذا الأخ وأمثاله أن الواجب أن يحفظ قلبه بذكر الله، وإذا اطمئن قلبه بذكر الله لم يتسلط عليه الشيطان لأن الشيطان إذا ذكر الله خنس، وإذا غفل العبد وسوس، وأول ما تبدأ المعاصي بخواطر الشيطان ووساوسه، ثم تتحول الخاطرة إلى همّ، ثم يتحول الهم إلى عزم، ثم يتحول العزم إلى فعل، فلنقطع شجرة الشر من أصلها بقطع الوساوس والخواطر التي يلقيها الشيطان في قلوبنا.

المداومة على الطاعة في الرخاء والشدة

المداومة على الطاعة في الرخاء والشدة Q كنت واقعاً في مشكلة وكنت كثير القيام والبكاء بين يدي الله في آخر الليل، وبعد نهاية المشكلة شُغلت النفس، فتراني آكل وأنام وكلما حاولت القيام لا أستطيع، وهذا الأمر يؤرقني؟ A الحمد لله أن في الأمة من يؤرقه أنه كان في حال الشدة أقرب إلى الله منه في حال الرخاء، فيريد أن يكون قريباً من الله في حال الرخاء والشدة، هذا فضل من الله وجاهد نفسك -يا أخي- ونسأل الله لنا ولك الثبات على الحق، ولاشك أن النفس يعتريها الضعف، ولا شك أننا في حالة الشدة نتقرب إلى الله أكثر، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] لو عقلنا وأدركنا أننا في كل لحظة محتاجون إلى الله، بل أنا الآن عندما أتكلم عن ما هي حياتي؟ أجدها أنفاس تصعد وتخرج، تدخل وتخرج، أي: الواجب أنني في أي لحظة من لحظات الحياة أستشعر أني محتاج إلى الله، وأن الله لو وكلني إلى نفسي طرفة عين لهلكت -والعياذ بالله- فوقت الرخاء هو وقت الشدة. أضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً ركب الباخرة أو الطائرة، وجاءت مطبات قوية عنيفة، فإنه يذكر الله ويستغفر الله، فإذا نزل إلى الأرض نسي {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] فهو على خطر، ومن الممكن أن يخسف الله به الأرض كما يخسف به الطائرة، ففي كل الأحوال أنت محتاج إلى أن يحفظك الله، ويعصمك، ويعافيك، فاستدامه التفكر في ذلك يجعلك مستديماً للطاعة. ونسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يدومون على طاعة الله وأن يوفق الأخ هذا لذلك.

منكرات البيوت

منكرات البيوت Q كيف يتعامل الإنسان مع المنكرات الموجودة في بيته؟ A منكرات البيوت كالتلفاز وغيره، عليك أن تجاهد نفسك يا أخي في إخراجها من بيتك وبيت أهلك بالأسلوب الحسن، ولا أطيل فيه لأننا أجبنا عنه مراراً.

الذب عن عرض الإخوان

الذب عن عرض الإخوان Q ما توجيهكم لمن كتب في الصحف أو غيرها لكي يذب عن عرض إخوانه؟ A بالنسبة للمتكلم فيه فعليه {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أما بالنسبة لإخوانك المسلمين إذا كنت تريد أن تذب عن عرض أخيك، فمن ذب عن عرض أخيه بالغيب ذب الله عن وجهه يوم القيامة، فذب عن عرض أخيك لكن بالأسلوب الحسن الذي لا ظلم ولا عدوان فيه.

كفارة المجامع في رمضان ولو طالت المدة

كفارة المجامع في رمضان ولو طالت المدة Q رجل جامع زوجته في شهر رمضان قبل عشر سنوات، والزوجة طلقها فما الحكم؟ A لا يؤثر طول المدة، ولا يؤثر أنه طلقها في أنه يجب عليه الكفارة، كما هو معلوم.

طرق إيصال المعونات للمجاهدين

طرق إيصال المعونات للمجاهدين Q العمل الذي نقوم به تجاه إخواننا في البوسنة والهرسك والصومال وهو جمع المال لهم، وإيصال المعونة، ما مصيره؟ A الآن الطرق تكاد تكون شبه مقفلة بالنسبة لذهاب الإخوة للدعوة أو الجهاد نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفرج عن هذه الأمة.

الزواج في المجتمعات المختلفة

الزواج في المجتمعات المختلفة Q أنا في مجتمع عماده الاختلاط، وهذه أصبحت شبهة مفروغ منها، وإنني على أبواب الزواج، فبم تنصح: هل أصبر على عدم الزواج حتى يفتح الله، أم أتزوج ويكون الأمر الذي نخاف منه؟ A قصد الأخ لو تزوج فزوجته تختلط بالمجتمع -هذا قصده- على كل حال تزوج واحفظ نفسك وأهلك من الاختلاط.

مراحل العمل في كتاب الجواب الصحيح

مراحل العمل في كتاب الجواب الصحيح Q إلى أي مرحلة وصل العمل في كتاب الجواب الصحيح؟ A نحن إن شاء الله عاملون في ترجمة الجواب الصحيح، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم، ولا نستغني عن أي دعم منكم، وأهم نوع من أنواع الدعم والمعونة الرأي السديد والصائب في كيفية محاربة هذه الأفكار الضالة، من تنصير أو أي بدعة من أنواع البدع، فعملنا هو أعم وأشمل.

دعاء لمرضى المسلمين

دعاء لمرضى المسلمين Q يقول الأخ: أسألك بالله العظيم أن تعرض هذه الورقة على الشيخ، وهو أنه لدي مريض كبير السن مغمى عليه منذ أسبوعين، فأرجو من الشيخ والحاضرين أن يدعوا له ولمرضى المسلمين؟ A نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يشفيه ويشفي أمراض المسلمين جميعاً، ويشفي أمراض قلوبنا وأبداننا إنه سميع مجيب، فنرجو أن يكون هذا في الغيب كما هو الآن في العلم، لكن لا ينبغي للأخ أن يحرج على إخوانه بمثل هذا ويسأله بالله؛ لأن الذي يعرض الأسئلة أو يجيب عليها يقدر ما لا تقدره أنت يا أخي الكريم.

حكم دفع المال الحرام إلى مكان حرام

حكم دفع المال الحرام إلى مكان حرام Q هذا رجل وضع أمواله في البنك ثم أعطوه ربحاً -وهذا ليس ربح بل خسارة محض- فاحتار فهو مطالب بدفع الضرائب في بلده هل يدفعها من هذا الربح المحرم؟ A أخذ الضرائب من الناس حرام، وما حصل له من البنك حرام، فدفع الحرام في الحرام جائز، ويذهب بالحرام حيث أتى، لكن لا يعني ذلك أن يستمر في أكل الحرام حتى لو ظُلم، وأُخذ من ماله بغير حق، فلا يتخذ مصدراً للحرام، إنما كلامنا الآن في التخلص من الحرام وهو يكون بإعطائه لمن يأخذه منه على وجه الحرام.

منع الأب لابنه من مجالس العلم

منع الأب لابنه من مجالس العلم Q يقول الأخ: أنا شاب أحب متابعة مجالس الذكر وملازمة إخوتي في الله -والحمد لله- ولدي والد حفظه الله يمنعني من ذلك في بعض الأوقات هل أطيعه أم لا؟ A انصحه، ولا تطعه فيما تعلم أنه خير لقلبك وأصلح لك، ولو تأولت وعرضت في بعض الأمور بالمعاريض.

غض النظر

غض النظر Q هل الشاب والشابة مطالبون جميعاً بغض النظر؟ A كثيراً ما تأتي أسئلة عن الزنا والفواحش، والعادة السرية، وعن مشاكل بعض البنات، وعن أمور كثيرة. وأُجْمِلُ لك الجواب، فأقول: يجب علينا أن نغض نظرنا، وأن نتقي الله بجوارحنا، ونحفظها ليحفظنا الله عز وجل في ذلك، ونشتغل بما ينفعنا، ونبتعد عن المغريات والمهيجات من أفلام أو مسلسلات أو مجلات أو معاكسات في الهاتف أو منظر في الشوارع، أو مقالات سوء، أو قصص غرامية، وكل ما يدعو إلى المنكر والفاحشة والعياذ بالله.

كيف نحفظ الجوارح

كيف نحفظ الجوارح Q كيف نحفظ الجوارح؟ A اتق الله فيها، واعلم أن السمع والبصر كل أولئك أنت عنه مسئول.

المساهمة في الشركات الربوية

المساهمة في الشركات الربوية Q المساهمة في الشركات التي تستخدم الربا في معاملاتها؟ A اسمها بيناه في الحديث عن الشركات، إن كانت شركات ربوية كالبنوك وأشباهها فلا يجوز، وإن كان شركات أخرى للعقار أو للإنشاء أو للتعمير فلا بأس ولكن بشرط، وهذا أذكر به حتى لا يكون الواحد منا سلبياً، وأنا لا أمانع أن أحداً يساهم أو يحضر في الجمعية العمومية أو يحضر في أي مكان، لكن لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو كل شركة ساهم فيها خمسة أو عشرة أو خمسة عشر من المساهمين فيها الطيبين، وأقاموا الحجة وكتبوا إلى وزارة التجارة وهكذا؛ لتغيرت أحوالنا إن شاء الله، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'إن واجبنا هو تقليل المفاسد أو تعطيلها، وتكميل المصالح أو تحقيقها' إما أن نحقق المصالح أو نكملها، أي إما أن نأتي بأصلها أو نكملها، وأما أن نعطل المفسدة كلية أو نقللها إن لم نستطع تعطيلها.

حكم الأناشيد الإسلامية

حكم الأناشيد الإسلامية Q حكم الأناشيد التي تطرح في التسجيلات، والتي فيها قوة من حيث الكلمات واللحن؟ A الحقيقة أنا قد تكلمت في هذا مراراً، وأنا أريد من الإخوة أن يفرقوا بين حكم الشيء شرعاً، وبين أنه قد يحف به أمور تبيحه أو تجيزه غير مجرد الحكم. فمثلاً كون الإنسان يخرج ليجلس أو يذكر الله أو يستنشق الهواء في الطريق نقول له: جائز؛ لكن كونك تخرج وتتعرض لفتنة النظر إلى النساء فإن هذا يجعل خروجك من البيت غير جائز، فليس التحريم للخروج بل للنظر. فإذا كان في هذه الأناشيد شغل عن القرآن، أو كانت لصغار السن، فأنا أستحي وأعيب من أراه كبير السن ويسمعها، وإذا كان هو ينشدها فهذا أشد، لكن الأناشيد يمكن استعمالها في حالات الجهاد، فأقول: كثير من العلماء قد تكلموا فيه، وما أظن الفتاوى في هذا إلا معلومة لديكم، وما عندي فيها جديد. لكن أحب أن أنصح بشيء بهذه المناسبة: إذا لم يطعك أحد الأشخاص في مركز صيفي أو في مدرسة في ترك سماع الأناشيد لا تتهمهم في عقائدهم. وهنا قصة عجيبة ذكرها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، أذكر لكم المرجع في هذا منهاج السنة (الجزء الرابع صفحة 150 الطبعة المحققة) أن الإمام الشافعي رحمه الله -وهو من تعلمون! حتى قيل: إنه مجدد عصره وقرنه، لا أحد منا يجهل فضله وعلمه، رضي الله تعالى عنه- اتهمه بعض الناس ببدعة التشيع والرفض، سبحان الله! الإمام الشافعي يكون رافضياً! أعوذ بالله، لماذا؟ قالوا: لأنه يرى الجهر بالبسملة، والقنوت، والرافضة تفعل ذلك، فبغى بعض الناس واعتدوا، وقالوا: ما دام الشافعية والشافعي يشابهون الرافضة في الجهر بهذا فهم منهم وجعلوهم منهم، سبحان الله! هذا بغي وعدوان. فإذا رأيت أحداً يعمل مثل هذا العمل من إخوانك من أهل السنة من مريدي الحق، لا تقول: أنت أصبحت صوفياً أو أنت من الصوفية، فتلحقه بطائفة مبتدعة لأنه خالف بهذا فربما كان له اجتهاد، فهو يرى أنه جائز وأنت ترى أنه محرم، فأذكر الإخوة بهذا وأحيلهم إلى هذا المرجع لأنها قضية مهمة، وهي الإسراع في التهمة بغير بينة، والاختلاف الذي يصحبه الهوى، الاختلاف في الأناشيد والتمثيليات في كثير من الأحيان أنا أرى أنه يصحبه نوع من الهوى. أما مجرد معرفة حكم الله فيها فهذا سهل يمكن أن نتفق عليه، ويمكن أن نفترق فيه على قولين، والغالب والحق في مثل هذه الأمور، كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في مواضع، منها ما ذكرنا في الاستقامة الغالب في مثل هذه الأمور أن الحق مع من يفصل، وليس مع من يحرم مطلقاً، ولا من يثبت مطلقاً، بل لابد من فصل الحرام من الحلال في هذه الأمور وستجد الخير -إن شاء الله- أما أن يحرم شيئاً من أساسه وغيره يخالفه من أساسه فلا بد أن ذلك الغير له نظر، فما دام هو داخل في دائرة الاجتهاد فليقدرها قدرها.

حكم لبس النقاب

حكم لبس النقاب Q لبس النقاب؟ A الذي نراه وندين الله تعالى به، هو تغطية الوجه كاملاً، وما نراه الآن فيما سمي نقاباً أو سمي لثاماً أو كذا، المشاهد والواقع المحسوس الآن أن فيه نوعاً من الفتنة، ولا أحد ينكرها، وبعض الناس يرى فتنته في عينيها، أذكر أن محمد أسد خطب مرة فيقول: كيف أن الرجل يتزوج المرأة فيراها دميمة، يقول: غرني أنني نظرت إلى عينيها من النقاب وتزوجتها، حتى قال بعض الناس أكثر من هذا -على سبيل النكته- يقول: حتى لوجئنا بعنز ونقبناها فترى أن عينها جميلة. فالمقصود أن الشيطان يزين ما ترى من مظاهر الأعضاء، يزين الشيطان الباقي ويحسنه، لماذا؟ لتستديم النظر وتقع في قلبك الشهوة، فربما وقعت في الفاحشة -والعياذ بالله- ولكن ليس هناك أسلم من استئصال الشر من جذوره، وسد الذرائع من أصلها وذلك بإخفاء البدن كله، فلا يظهر منه شيء، وهذا هو حقيقة الحجاب وكماله.

كتابة النصارى للأناجيل على هيئة تشبه هيئة القرآن

كتابة النصارى للأناجيل على هيئة تشبه هيئة القرآن Q ظهرت الآن للأناجيل مكتوبة على شكل تشبه فيه المصاحف، فما حكم ذلك؟ A كون النصارى يكتبون أناجيلهم على شكل القرآن وعلى طريقة القرآن، ويقرءونها على طريقة القرآن، هذه صورة من صور الدس والطعن والتشويه والتضليل والتلبيس على هذه الأمة المسكينة. فمثلاً: سورة سموها باب السكينة مقذفي، الآية الأولى كتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) على شكل المصحف قالوا: (قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقاً فآمنوا بي ولا تخافوا إن لكم عند الله جنات نزلاً) أعوذ بالله، هذا الكلام يذكرنا بالقرآن الذي يزعمه الرافضة، وكأنه من كلام الرافضة، كلهم عجم وكلهم يفترون على الله، فحتى الأسلوب لا يوجد، إلى أن يقول: (وإنكم لتعرفون السبيل إلى قبلتي العليا، فقال له توما الحواري مولانا إنا لا نملك من ذلك علما، فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقاً، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلاً الخ) حولوا دينهم وأناجيلهم على شكل القرآن. وهذا والحمد لله دليل على أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعل في هذا القرآن من الخاصة في البيان وفي الأداء وفي التغني المشروع به ما يحسدوننا عليه، ولذلك يتمنون أن كتبهم كذلك، مع أن كتبهم مكتوبة بلغة قديمة، حتى العربي الآن مترجم من السريانية، واليونانية وهو كلام ثقيل وعبارات غامضة جداً، فحسدونا حتى على الأسلوب، ولكن الكبر والحسد منعهم من الحق، فبدل أن يؤمنوا بالقرآن وما ذكر الله تعالى فيه عن عيسى عليه السلام من آيات عظيمة، في سورة مريم، والمائدة، وآل عمران، آيات عظيمة جداً في حقه عليه السلام، كفروا بالقرآن الحق وابتدعوا قرآناً من عند أنفسهم، وصاغوه على صياغة القرآن الذي من عند الله، وهذا حنق وحسد وكبر في قلوبهم مع أنهم لن ينالوا شرف ومتعة ولذة قراءة في القرآن بهذا الشكل، فكتبوا أناجيلهم بذلك، نسأل الله العفو والعافية.

ملابس النصارى وأعيادهم

ملابس النصارى وأعيادهم Q بشأن الملابس من الصلبان , وبابا نويل؟ A يجب أن نتنبه إلى عقائد النصارى كـ بابا نويل وعيد الميلاد يجب أن ننكر كل مظاهر الصلبان والشعارات وأعياد الميلاد، ولا نطيل في هذا أيضاً.

تعلق الوفاء بالنذر بالمكان

تعلق الوفاء بالنذر بالمكان Q يقول الأخ: نذرت نذراً أن أذبح جملاً في مدينة جدة، هل يمكن أن أوفي بنذري في الصومال لحاجة المسلمين هناك؟ A الأصل أن تفي بنذرك حيثما نذرت، لكن أظن الأخ لم يقل: لله علي أن أذبح في جدة، إنما قال: لله علي أن أذبح جملاً وهو في جدة، وفي مخيلته أنها في جدة، ففرق بين أن يكون نوى أن يذبح في جدة أو في مكة، فهذا الأصل أن يذبح حيثما نذر، أو يكون قاصداً فقط أن يكون في جدة فهذا أقل من الأول، ومع ذلك فالأصل أن يذبحه هنا ويمكن أن يرسله مذبوحاً إذا استطاع، ولو أنه رأى مانعاًُ شرعياً كأن لا يجد من يأخذه هنا -مثلاً- أو رأى أن الحاجة هناك أشد وأعظم من ذلك فأرسله، أو كان قد فعل ذلك فأرسله، فنرجو أن يكون قد وفَّى بنذره إن شاء الله.

الموت بمرض السرطان

الموت بمرض السرطان Q هل من مات وهو مريض مرض السرطان فهو شهيد؟ A نرجو أن يكون كذلك إن شاء الله، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان يعلم أن الشهيد من قتل في المعركة فقط فقال: {إن شهداء أمتي إذاً لقليل} ثم سأل الله أن يكونوا أكثر فأعطاه ذلك، وقد جمعهم الإمام السيوطي رحمه الله فوجدهم أكثر من أربعة وعشرين صفة. منهم: المطعون، والمبطون، والنفساء -المرأة التي تموت في الولادة- فالمطعون: هو الميت بالطاعون، والمبطون: المصاب في بطنه، فنرجو أن يدخل في ذلك -إن شاء الله- ما نسيمها نحن بأسماء مختلفة، مثل السرطان، أو مثل تليف في الكبد، أو ما أشبه ذلك من أسماء نطلقها ولم تكن معروفة بهذا الاسم من قبل. ونسأل الله أن يحفظنا ويعافينا وإخواننا المسلمين.

فتنة النظر إلى النساء

فتنة النظر إلى النساء Q ابتليت بالتعلق بإحدى الفتيات، وأصبحت أضيع أوقاتي معها، وكلما حاولت الابتعاد عنها عجزت عن ذلك، فبماذا تنصحني يا شيخ! مع العلم أني شاب ملتزم وأحفظ من القرآن أربعة وعشرين جزءاً؟ A نعم لا نستغرب فقد يقع هذا، فلذلك أنصح هذا الشاب أن الواجب عليه أن يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يبتعد عنها انفصالاً كلياً، ولا يحاول الاتصال بها سواء عن طريق الهاتف، أو عن طريق مقابلتها، حتى لا يغويه الشيطان، ويقع في الفاحشة، وإن كان لابد فليخطبها بالطريقة المشروعة، وليتزوجها، وهذا لا حرج فيه إن شاء الله؛ لكن عليه أن يحذر أن يوقعه الشيطان في الفاحشة مع هذا التعلق الشديد. وما أورده شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في كتابه النافع المفيد الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي إنما هو جواب لمثل هذا السؤال, فأنصح الشباب أن يقرءوا هذا الكتاب, وسيجدون فيه أنواعاً من العلاجات النافعة العظيمة فيما يتعلق بداء العشق, ونسأل الله العفو والعافية.

صفة الصلاة عند النصارى؟

صفة الصلاة عند النصارى؟ Q هل للنصارى في الفاتيكان صلاة تشبه في صفتها صلاة المسلمين؟ A لا يستبعد وجود صفة للصلاة عند النصارى تشبه صلاتنا في الشكل العام.

حكم لعب الورق إذا لم يشغل عن الطاعة

حكم لعب الورق إذا لم يشغل عن الطاعة Q إذا لم يشغل لعب الورق عن طاعة الله فهل يعدّ لهواً؟ A كل لهو يلهو به المسلم فهو باطل إلا ما استثناه الله ورسوله, ولعب الورق يعدّ من اللهو الباطل, ولا شك أنه يشغل عن الطاعات, وربما أدى إلى التشاحن والتباغض بين المسلمين, ولو لم يكن فيه من الضرر إلا السهر وضعف العقل وضياع الأوقات لكفى بذلك سبباً للنهي عنه.

موقف الحكومة المصرية من المجاهدين العائدين من أفغانستان

موقف الحكومة المصرية من المجاهدين العائدين من أفغانستان Q تجري الآن في مصر عمليات اعتقال ومطاردة للشباب العائدين من أفغانستان فهل فعلاً هؤلاء الشباب إرهابيون متشددون, وماذا تعني هاتين الكلمتين, وإذا كانوا على الحق -نحسبهم كذلك إن شاء الله- فلماذا لا نقف معهم ونؤيدهم ونشد من أزرهم, عملاً بحق الأخوة في الدين؟ A إذا استطعت أن تقف معهم ولو بكلمة تلقيها في مسجد فافعل. فهم ليسوا إرهابيين ولا متطرفين ولا متشددين, والتنظيمات السرية التي تدعي الحكومة تشكلها, مهددة بذلك الأمن الوطني, إنما يعنى بها الشباب الذين عادوا من أفغانستان , فمن وجد أنه كان في أفغانستان , أو على الأقل وجد على أن جوازه يحمل تأشيرة الدخول إلى باكستان , فهذا يكون الحكم عليه ما بين الإعدام والسجن لمدة تزيد على الخمسة عشر عاماً. أما من مرّ في طريق عودته على الخرطوم فهذا يكون مصيره الإعدام قطعاً, مع العلم أن مصر لا تمنع مواطنيها من زيارة تل أبيب , ولا يتعرض من يزورها للمطاردة ولا يخضع لأي نوع من العقوبة. إذاً القضية هي إعلان الحرب على الله ورسوله وعلى المؤمنين, والعدوان على دين الله وعلى أولياء الله, وهذا كل ما في الأمر, فقد قامت قوات الأمن بتمشيط الأحياء حياً حياً, وبلدة بلدة, ليثبتوا للمجتمع الدولي أنهم يحكمون قبضتهم على البلاد والعباد. وزعمت الحكومة أن المسألة لا تعدوا أن تكون اضطراباً أمنياً في قرية من القرى اسمها دوروب مدعية استتباب الأمن, وعدم تأثير هذه الأحداث على السياحة في مصر , فما لبثت الأحداث أن شملت مدناً أخرى مثل القاهرة والإسكندرية وأسوان , وغيرها, فقامت الحكومة بعمليات تمشيط واسعة للتضييق على هؤلاء الشباب. وهذا إنما يدل على تخوف الحكومة من انتشار الصحوة بين الناس, وربما بلغكم خبر توبة ثلاث فنانات خلال فترة وجيزة, كما أن هناك من رجال الأمن المركزي من انضم إلى الشباب المؤمن, ليقينهم ببراءتهم. المهم أن التردي في الوضع بلغ درجة قيام قوات الأمن بعمليات المداهمة لكل بيت فيه شاب يطلق لحيته, أو يقتني بعض الكتب الشرعية, وربما وصل الأمر إلى أن يقتل دون تحقيق أو اتهام صريح. سبحان الله العظيم! لماذا؟! ما ذنبه وما جريرته؟! افرض أن عنده أفكاراً! أو أنه يقتل السياح! أو يفعل كذا! فلقد بينا فيما سبق كيف تعامل علي رضي الله عنه مع الخوارج الحقيقين, فعاملوا هؤلاء الشباب بنفس الطريقة, وأعطوهم الحقوق الثلاثة التي أعطاها علي رضي الله تعالى عنه للخوارج , وناقشوهم وناظروهم وتفهموهم, أما أن تلقى التهم جزافاً فهذا لا يجوز. والدليل على أن هذه الأحداث ليست مقتصرة على مصر وحدها, ما أذاعته إذاعة صوت أمريكا وبريطانيا , وما نقلته مجلة الوسط ومجلة الوطن العربي ومجلة كل الناس ومجلة نصف الدنيا ومجلة صباح الخير ووعد ما شئت, وكلهم متفقون على وصف شباب الصحوة بأنهم متطرفون وإرهابيون, فلو قبض على شاب مسلم في أي بلد من البلدان, وأُظهرت صورته وهو ملتحٍ لكتبت جميع الصحف العربية أنه إرهابي متطرف, سبحان الله! لكن لو كان يهودياً أو نصرانياً يطلق لحيته, ويعلق الصليب على صدره فهل يقال: أنه متطرف؟!! هذه هي القضية يا إخوان! إن بعض الشباب في مصر فيهم نوع من الغلو بلا شك, وفيهم نوع من الجهل كما في كل مكان, لكن ماذا ننتظر من شباب يعيش وسط مجتمع غلا في حرب الله ورسوله؟ ولماذا نستغرب الغلو في الطرف الآخر؟ إذاً الواجب إنصاف هؤلاء الشباب ونصرتهم, والدعاء لهم, وتوجيههم, ونحن هنا بالذات يجب علينا أن نرسل الكتب والأشرطة لتوعيتهم وتفقيههم في الدين, ويجب أن يكون لنا دور دعوي, يجب أن تكون صحافتنا وإعلامنا متزناً, حتى نكون مصلحين بين هؤلاء وهؤلاء, أما أن ندعم الظلمة والمجرمين فهذا لا يجوز سواء وقع من أفراد أو من وسائل إعلام أو مؤسسات. هذا وأسأل الله رب العرش العظيم أن يختم لي ولكم بالأعمال الصالحات, وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا أواخرها, وألا يتفرق هذا الجمع الطيب إلا بذنب مغفور وعمل مشكور, إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

تأملات في حديث: (يا عبادي)

تأملات في حديث: (يا عبادي) تكلم الشيخ في هذا الموضوع حول حديث "يا عبادي" مورداً العديد من التأملات حول ما جاء فيه من نداءات تهز الجبال الرواسي، فكيف بقلب المؤمن؟! فهذه النداءات التي وجهها الله لعباده بدأها بالإخبار بتحريم الظلم على نفسه وتحريمه من ثم بين عباده، وختمها ببيان تمام عدله وجزيل فضله، وذكر فيما بينهما افتقار خلقه إليه؛ من هداية إلى الصراط المستقيم وطعام وكساء، وكل ما يحتاجه الإنسان، وأتبع ذلك ببيان غناه المطلق عن خلقه، وبين أن حياة القلوب والأبدان لا تزيد في ملكه شيئاً، كما أن موتها لا ينقص من ملكه شيئاً.

نداءات الله لعباده

نداءات الله لعباده الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فجميلٌ بنا ونحن نستقبل شهر رمضان العظيم: أن نقف قليلاً بقلوبنا وعقولنا وأسماعنا، لنستمع إلى هذا النداء الرباني الذي تكرر عشر مرات في هذا الحديث الجليل الذي قال عنه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى ورضي عنه-: ' هو أشرف حديث رواه أهل الشام '. لأنه من رواية أهل الشام، رواه التابعي أبو إدريس الخولاني عن الصحابي الجليل أبي ذرٍ جندب بن جنادة رضي الله تعالى عنه. وكان أبو إدريس إذا حدَّث بهذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جثا على ركبتيه من شدة وقعه عليه وتأثره به. وفي هذا الحديث عشرةُ نداءات من الله -تبارك وتعالى- يرويها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مما تعلمونه جميعاً ويعرف بالحديث القدسي، الذي يرويه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه عز وجل، فالألفاظ التي فيه نبوية، والمعاني ربانية.

تحريم الظلم على الخالق والمخلوق

تحريم الظلم على الخالق والمخلوق يقول الله تبارك وتعالى في أول هذا الحديث: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا}. وهذه الرواية رواية الإمام مسلم رحمه الله وهي أتم من غيرها، فأول العشرة النداءات هو هذا النداء وبهذا اللفظ: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي}، فالله تبارك وتعالى هو الذي حرم الظلم على نفسه، وإلا فإنه عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولن يكون ظالماً -تبارك وتعالى- ولو فعل بخلقه ما فعل؛ وهو الخالق والرازق والمنعم والمدبر والمتصرف في ملكه كما يشاء، ومع ذلك فإنه فضلاً منه تبارك وتعالى، حرم الظلم على نفسه، وكتب على نفسه الرحمة، كما أخبر تبارك وتعالى في الذكر الحكيم. فإذا كان القوي العزيز الجبار المتكبر، القادر على كل شيء، الخالق المالك لكل شيء حرم الظلم على نفسه، فكيف يظلم العبد أخاه العبد؟ وكيف يتظالم العباد؟! {فلا تظالموا}، هذا مع أن الله تبارك وتعالى، لا يجب عليه حقٌ لأحد، بل هو كما قال الشاعر رحمه الله: ما للعباد عليه حقٌ واجبٌ كلا ولا سعيٌ لديه ضائعُ إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ فهو إن عذب الخلق، فلا يعذبهم إلا عدلاً، وإن رحمهم فلا يرحمهم إلا فضلاً منه عز وجل وتكرماً، ولهذا جاءت هذه النداءات -وكلها تخاطب الإنسان الضعيف العاجز- من الله من الرب الرحيم، الودود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا} فكيف يتظالم المخلوقون؟! وكيف يظلم بعض الناس بعضاً؟! والله تبارك وتعالى قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس:44]، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر:31]، فهو عز وجل لا يريد الظلم ولا يحبه، وقد حرمه على نفسه فلن يريده ولن يقبله من أحدٍ أبداً. بل هو كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {إن الله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته}، وقال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. لكن الله إذا أخذ الظالم لم يفلته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الظلم ظلمات يوم القيامة} كما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه} فالمسلم لا يظلم أحداً من الناس، بل ولو كانت دابةً من الدواب، فوضع الشيء في غير موضعه، هو: الظلم، وكل وضع للشيء في غير موضعه فالله تبارك وتعالى منزه عنه. كما يجب على العباد أن يتركوا ذلك الظلم، فديننا هو دين العدل في كل شيء، حتى الحذاء: {نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينتعل الرجل في إحدى رجليه ويدع الأخرى}، لأنه دين العدل في كل شيء. فمن الفوائد المأخوذة من هذا الحديث: أن ديننا دين العدل، حتى بين أرجلك فتعدل بينهما، فإما أن تنتعل فيهما معاً، وإما أن تكونا حافيتين معاً، فلا ظلم ولا إجحاف. ولقد بعث الله -تبارك وتعالى- محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدنيا شرقاً وغرباً تعج بالمظالم، وبالعنصرية وبالطبقية وباستعباد خلق الله -تبارك وتعالى- فكما كان فرعون ظالماً كان كذلك فراعنة الفرس والروم، فيجعلون أقوامهم شيعاً ويستضعفون طوائف منهم. فجاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدين العدل والحق والهدى، فتعلمت الإنسانية جميعاً كيف تعدل من هذا الدين، وعلمت لأول مرة في تاريخها لا كلاماً وحِكماًَ يقولها الفلاسفة، ويرددها الحكماء، بل رأت العدل واقعاً يسير أمامها، ويملأ شرق الدنيا وغربها، وذلك لأنهم عرفوا مما عرفوا مثل هذا النداء الرباني الكريم: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}.

طلب الهداية من الله وحده

طلب الهداية من الله وحده بعد ذلك تأتي نداءات تالية لتبين عجز هذا المخلوق الضعيف، وافتقاره إلى الله تبارك وتعالى: {يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} أي: أخرجكم من الضلال الذي يسبب شقاء الدنيا والآخرة، والذي لافلاح معه ولا نجاح، ولا خير فيه ولا سعادة. فهذا الضلال {كلكم ضال إلا من هديته}، فكل خلق الله، وكل عباد الله ضالون إلا من هدى الله، ومن منَّ الله تعالى عليه وتفضل بالهداية. ومن هدايته لهم: أنه خلقهم على الفطرة القويمة، وأنه أرسل إليهم الرسل، وأنه أنزل عليهم الكتب، وأنه أعطاهم العقول ليفكروا بها وليتدبروا طريقهم بها، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78]. فهكذا الإنسان، أول ما يخرج لا يعلم شيئاً، ثم يمنُّ الله تبارك وتعالى عليه، بالعلم وبالسمع والبصر والفؤاد، ثم يبين له طريق الخير من طريق الشر، فمن وفقَّه الله تبارك وتعالى للهدى فلا مضل له، ولكن من خذله الله وحُرِمَ توفيق الله تبارك وتعالى للاهتداء إلى الطريق القويم، وركنه الله إلى نفسه وعقله ورأيه وتدبيره، فقد خاب وهلك. فمن لم يوفقه الله -تبارك وتعالى- لسلوك طريق الحق فإنه ضال لا محالة، مهما بدت أمامه الحجج، فمع أنه مولودٌ على الفطرة، وأمامه الحجج والآيات البينات، والآيات المقروءة في كتاب الله، والآيات المنظورة في صفحات الكون، والآيات المرئية أيضاً من آثار الغابرين السابقين، فكلها أمام عينيه، ولكن إذا خذله الله، ولم يوفقه، فإنه لا يؤمن ولا يعرف طريق الحق أبداً. فإذاً كلنا ضلال إلا من هدى الله، فماذا ينبغي لنا أن نفعل؟! {فاستهدوني أهدكم}، فما علينا إلا أن نطلب الهداية من الله -تبارك وتعالى- آناء الليل وآناء النهار، ولهذا أُمر المؤمنون أن يقرءوا في كل ركعة من صلاتهم أم الكتاب، وفيها يقولون: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. فعباد الله المؤمنون المصلون، العابدون، يطلبون الهداية من الله تبارك وتعالى في كل يوم بعدد ركعات صلاتهم، فريضةً كانت أم نافلة، ويعلنون أنهم إن لم يهدهم الله تبارك وتعالى، فقد ضلوا إما ذات اليمين أو ذات الشمال، فكانوا إما مع المغضوب عليهم، وهم: الذين رأوا الآيات البينات، وعرفوا الحق، ولكنهم لم يتبعوه، وإما مع الضالين، وهم: الذين عبدوا الله تبارك وتعالى على جهل، فلم يتبعوا ما أنزل الله وما شرع، بل عبدوه بالبدع، لا بما شرع. فيقول تعالى: {كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} فاطلبوا هدايتي، وادعوني أن أهديكم، والإجابة من الله تبارك وتعالى متحققة: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]. فإذا أقبل العبد على الله وطلبه الهداية ورجاه، فإن الله تبارك وتعالى يهديه ولا يخيبه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فمن جاهد في الله يريد وجه الله ويريد معرفة الحق، أوصله الله تبارك وتعالى إليه. ألا ترون إلى قصة سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه- كيف أنه خرج يطلب الدين الحق، وكيف عَبَدَ الله بـ المجوسية مدةً من الزمن، ثم انتقل من راهبٍ إلى راهب، وهذا يسلمه إلى ذاك، وهذا يحوله إلى ذاك، حتى مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بلقاء المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآمن بالله، وجاهد في الله، وطلب الهداية وسعى من أجلها، فلم يمت إلا وقد قرت عينه بالإيمان، ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. إذاً الافتقار الأول هو الافتقار إلى الهداية، وهو أشد أنواع الافتقار بالنسبة للمخلوق، فالعبد المخلوق أفقر ما يكون إلى هداية الله، ولذلك قدمت الهداية على الطعام وعلى الكساء، لأن أهم شيء هو: أن يهتدي الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ} [الرحمن:1 - 3]. فامتنَّ الله تبارك وتعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان، مع أن الإنسان لن يستطيع قراءة القرآن إلا إذا خُلق، ولكن أعظم من كونه مخلوقاً: أن يكون عالماً بالقرآن، عاملاً به، مهتدياً إلى ربه، وإلا فكم من مخلوق لا يعرف ربه ولا يعرف القرآن، فحياته نقمة عليه، لأنه والدواب سواء، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فهم أضل من الأنعام. فالهداية هي أحوج ما يبحث عنه الإنسان، وأشد ما يفتقر إليه، ولذلك فإنها قدمت في هذا الحديث، على ما سيلحقها بعد ذلك.

طلب الرزق من الرزاق وحده

طلب الرزق من الرزاق وحده النداء الثالث هو: طلب ما يحتاج إليه العباد ويضطرون إليه في معاشهم وحياتهم الدنيا، فقال: {يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم}. نعم: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] فالناس غالباً ما يعلقون طلب الرزق بالأسباب، فكل الناس -حتى أكثر المسلمين- يعلقون طلب الرزق إلى الأسباب؛ وينسون خالق الأسباب، وينسون الرزاق ذا القوة المتين الذي تكَّفل فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]. ومع ذلك، فإن أكثر الناس لا ترتفع أنظارهم إلى خالق السماوات والأرض، الرازق المحيي المميت، بل ينغمسون في طلب الأسباب ويلهثون ورائها، وكثيراً ما يخرج بهم ذلك عن الطريق المستقيم، فيقعون في معصية الله، ويبتغون رزق الله بمعصيته، ظناً منهم وجهلاً أنهم بذلك ينالون فضل الله، وينالون رزق الله تبارك وتعالى، وهو يقول: {يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته}، فهو المطعم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي يُطْعِمْ ولا يُطْعَمْ، وهو الذي يمنُّ على خلقه بهذا الرزق، وكل ذي كبدٍ رطبة، فالله تبارك وتعالى يرزقه ويكلؤه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. {فاستطعموني أطعمكم}، فاطلبوا الرزق مني وحدي، فمن طلب الرزق من الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، فقد كفي مؤونة الرزق، وكان مع ذلك ذا عزةٍ وتعففٍ وترفعٍ، لا يجده أبداً من طلب الرزق من البشر، أو من الأسباب المخلوقة المنقطعة عن الله تبارك وتعالى. فثنى الله -تبارك وتعالى- بطلب الرزق والإطعام بعد طلب الهداية منه وحده لا شريك له.

طلب الكساء من الخالق وحده

طلب الكساء من الخالق وحده وهناك أمر ضروري آخر يحتاج إليه الناس، وقليل من الناس من يُفكِّر فيه، أو من يعرف نعمة الله تبارك وتعالى ومنته علينا به، فقال في الحديث: {يا عبادي! كلكم عارِ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم}، فكثير من الناس لا يفطنون ولا يتنبهون إلى نعمة الكساء؛ لأنها لكثرتها ولوفرتها ولعموم فائدتها تبلد الإحساس بها، إلا من عانى ومن ذاق عدم اللباس، فمن ذاق ذلك عرف نعمة الله تبارك وتعالى على العالمين، بأنه أنزل إلينا هذا اللباس، وتفضل علينا به، والله تبارك وتعالى، يذكرنا بنعمه، ومنها هاتان النعمتان: نعمة الطعام ونعمة اللباس، وهما النعمتان المشاهدتان الملموستان يومياً في حياة الإنسان. فكل إنسان في أية بيئة كان أو في أي مستوى كان من الحياة، لابد أنه في كل يومٍ وليلة يأكل ويشرب، ولابد أنه يلبس، فهاتان نعمتان ملازمتان للإنسان أينما وجد، فكان ينبغي أيضاً أن يلازم الإنسان تقوى الله، وطاعته، وعبادته، أينما وجد، ومهما كانت حالته الاجتماعية والمعيشية.

طلب المغفرة من الغفور سبحانه

طلب المغفرة من الغفور سبحانه ثم يقول تعالى في هذا الحديث: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم}. فهذه حقيقة لامناص لأي إنسان أن يفر منها أو يكابر أو ينكرها، فنحن العباد نخطئ بالليل والنهار، وكل بني آدم خطاء، فالقلب يخطئ بالخطرات والأفكار والوساوس الرديئة والأماني الكاذبة. والعين تخطئ بفضول النظر، وبالنظر المحرم، وبما من شأنه أن يدخل إلى القلب داءً قد لا يشفى منه أبداً. واللسان يخطئ، ومن الذي يمر عليه يوم ولا يخطئ بلسانه؟! إما بغيبة أو نميمة أو كلمةٍ لاحق له أن ينطقها؟! والأذن تخطئ فكم تسمع من حرام! فإما أن تسمع حراماً فتستلذ به، وإما أن تسمع منكراً فلا تنكره، فالخطأ ملازم لابن آدم، ولو لم يكن من خطأ ابن آدم إلا أنه غافلٌ عن هذه النعم، فهو غافل عن ذكر الله تعالى مع أنه متلبس بها ليل نهار. ولهذا أمرنا الله أن نستغفره -تبارك وتعالى- وكذلك أمرنا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نستغفر الله تبارك وتعالى، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب لنا في ذلك المثل الأعلى؛ فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغفر الله في اليوم مائة مرة أو أكثر من مائة مرة، بل كان ربما استغفر في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة. هذا وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والاستغفار هو صابون الذنوب، وهو الذي يذهبها بإذن الله تبارك وتعالى. فهذا الطلب وهذا النداء من الغفور الرحيم، الغني عن العالمين إن عبدوا وإن أطاعوا، أو إن عصوا وكفروا؛ فالله عز وجل يبين لنا أنه يفتح هذا الباب العظيم من أبواب الرجاء ومن أبواب الخير، وهو عز وجل يطلب منا أن ندعوه، وأن نستغفره. الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب فسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القائل في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، فهذا الغني الحميد هو من يقول لهؤلاء الفقراء -وكلنا فقير-: يا أيها العبيد استغفروني؛ واطلبوني الهداية، واطلبوني الإطعام؛ واطلبوني الكساء؛ واطلبوني أن أغفر لكم ذنوبكم، لأنكم لاتنفكون عن ذنب آناء الليل وآناء النهار، فأي إنعامٍ وإحسان وتكرم وفضل بعد ذلك؟! وهو عز وجل لا يُقَنِّطُ عباده ولا يخيب من أتاه ومن رجاه، ولو أتاه بملء الأرض من الخطايا.

ممن يطلب العفو

ممن يطلب العفو يقول تعالى في حديث آخر: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي} سبحان الله! لا يبالي مهما كان عظم ذنبه! فأين المستغفرون؟! وأين الأوابون؟! وأين التائبون؟! فيكفي أن تقبل على الله وأن تطرق باب الكريم الودود، فلا يردك أبداً، ولا يخيبك أبداً، فالله -عز وجل- منه المفر وإليه الملجأ، كما جاء في دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك}. فنخاف من الله، لأننا أذنبنا، وأسرفنا على أنفسنا بالمعاصي، فماذا نفعل؟ نلجأ إلى الله، فمنه المهرب وإليه الملجأ، فلا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك يا رب العالمين. فهكذا يفتح الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو الغني الحميد الباب أمام العباد الفقراء المحتاجين العاجزين أن هلموا، وتعالوا إلى الفضل والرحمة والمغفرة، وتعالوا إلى الله بقلوب مؤمنة مستغفرة تائبة، فعندها يُبدِّلُ الله سيئاتكم حسنات. فالله لا يرد من أتاه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يخيب من رجاه، وهل هناك أكرم من الله عز وجل؟! فلو تخلَّى الله عن هذا التائب العائد إلى الله، فإلى من يعود؟! وإلى من يلجأ؟! لا إلى أحد، فهذا من سعة فضل الله ومن سعة كرمه -جل وعلا- فهو يبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومع ذلك أين العباد من هذا؟! نجد أن أكثر الناس غافلون، لاهون، منغمسون في دنياهم، لا يقول أحدهم: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، كم من المؤمنين من يستغفر الله! {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]. فكيف بالكافرين وهم أكثر من المسلمين، الذين لا يستغفرون الله تبارك وتعالى، ولا يرجون اليوم الآخر؟! ولذلك يلقونه وأوزارهم على ظهورهم، وتعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولا يظلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحداً، فما عملوا من عملٍ، فيه إحسان أو خير، إلا عجل لهم الجزاء به في الحياة الدنيا، من عافية ومالٍ، وزيادةٍ في النماء، والذكر عند الناس، لكنهم يلقون الله وليس لهم عنده شيء. أما المؤمن الذي يرجو لقاء الله، فإنه يستغفر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويعلم أنه مذنب، والاستغفار لتضمنه الافتقار إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والانكسار والذل والخضوع له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ كان بهذه المثابة العظيمة، وكان هذا فعله في الذنوب. والمهم أن يكون المستغفر مستغفراً حقاً، وأن يكون صادقاً في أوبته إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكون راجياً طالباً لذلك، وينظر إلى ذنبه، وكأنه جبل يوشك أن يقع عليه. فهذا هو استغفار عباد الله الصالحين: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم}.

لا ينفع الإنسان ولا يضر إلا نفسه

لا ينفع الإنسان ولا يضر إلا نفسه ثم يقول: {يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني}، فهذا النداء السادس يبين لنا الفارق بين رب العالمين، وبين العبيد، وهو أن العبيد لن يضروا الله شيئا، فمن كفر فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله تبارك وتعالى شيئاً أبداً، ولو أراد أحدٌ أن ينفع الله تبارك وتعالى، فهل ينفع رب العالمين بشيء؟! لا، لأنك أنت الفقير وأنت المحتاج إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. {يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني}، فلماذا إذاً يفكر العباد في أن يُعَادْوا ربهم -عز وجل- ويحاربوه، ويعاندوه ويستكبروا على دينه؟! أيظنون أنهم يضرونه؟ لا يضرون إلا أنفسهم فيقول الله لهم: {لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني}. فلو أن أحداً ظن بعقله القاصر، وبذهنه الكليل أنه قد ينفع الله، فإنه لن ينفع الله تبارك وتعالى بشيء، فهو الغني الحميد، والعباد هم الفقراء إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثم وضحَّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذلك وجلَّاه وبيَّنه فيما بعد، فقال: {يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً}. فسبحان الله! لو أن هؤلاء جميعاً، الأولين والآخرين، الإنس والجن، كانوا على أتقى قلب رجل واحد -ولا أتقى من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما زاد ذلك في ملك الله تبارك وتعالى شيئاً أبداًَ. فلا يزيد ملكه بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية، كما قال بعد ذلك: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً}. فهو الغني عن الطاعة إن أطعنا، وهو الغني عن المعصية إن عصينا، وهو الذي لا تنفعه تلك الطاعة، ولا تضره هذه المعصية أبداً. فإن نفع الطاعة وفائدتها هي للعبد، لك أيها العبد العاجز الضعيف، ومن تضر المعاصي؟ تضرك أنت أيها العاصي، العبد العاجز الضعيف، فإذا تدبر الإنسان هذه المعاني, وعلم ذلك، وعلم مقدار جنايته على نفسه حين يعصي ربه عز وجل، وعلم أنه فرط في حق نفسه وفرط في حق ربه -تبارك وتعالى- لما جاهره وحاربه وتنكَّب طريق هداه، فهو بهذا لن يضر إلا نفسه، وربه تبارك وتعالى غني عنه.

غنى الله المطلق لا ينقص بالعطاء

غنى الله المطلق لا ينقص بالعطاء ثم أخبر الله تبارك وتعالى بعد ذلك بما يدل على الغنى المطلق الذي لا يحده حد، والعطاء الواسع، فقال: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني، فأعطيت كل واحدٍ منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أدخل البحر}. فلو وقف الناس جميعاً الأولون والآخرون، والثقلان الجن والإنس، في صعيد واحد في أرض منبسطةٍ ممتدةٍ واحدةٍ، وكل منهم سأل الله ما يشاء ودعاه كما يريد، وأعطاه الله تبارك وتعالى ما طلب، لم يُنقص ذلك المعطى للمخلوقين جميعاً من ملك الله، إلا كما يُنقص المِخْيَط إذا أدخل البحر، وكم يأخذ المِخْيَط من الماء بالنسبة إلى ذلك البحر؟! هو كما قال عز وجل، كما في مسند الإمام أحمد: {عطائي كلام، وعذابي كلام} فعطاء الله تبارك وتعالى كلام، وعذابه كلام، أي: يقول للشيء: كن فيكون، فماذا ينقص من خزائن الله تبارك وتعالى، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون! فمهما طلب العبد، ومهما رجا، ومهما ألح أو أكثر، فإن أعطي له فإن ذلك لا ينقص من ملك الله الواسع العظيم أي شيءٍ على الإطلاق. كما أنه لا يكون علم المخلوقين بالنسبة إلى علم الله -تبارك وتعالى- إلا كهذه النسبة، كما ضرب الخضر عليه السلام، لموسى عليه السلام ذلك حين قال: {ما مثل علمي وعلمك في علم الله -تبارك وتعالى- إلا كمثل ما أخذ ذلك الطائر من البحر}، وكم أخذ من البحر؟! فهذا هو العليم؛ علمه كذلك، وملكه كذلك، وغناه كذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

إحصاء الله لأعمال عباده حتى يوفيها لهم

إحصاء الله لأعمال عباده حتى يوفيها لهم يقول عز وجل: {يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها}، فهذا هو النداء العاشر، والخاتمة المهمة التي يجب أن ينتبه لها كل المخلوقين. {يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله} فالفضل لله، لأنه هو الذي هداه وأنعم عليه، وغفر له واجتباه، ووفقه لطريق الخير. ثم قال: {ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه}، لأن الحجة قد قامت عليه، ولأن الإعذار قد أتاه، والنذير قد جاءه، وأياً كان هذا النذير، فقد جاءه النذير، وقد رأى الآيات البينات وما عصى إلا على بينةٍ وعلم: {فلا يلومن إلا نفسه}. فاللوم حينئذٍ يتوجه إلى ذلك العبد وإلى نفسه الأمارة بالسوء، وليس إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس إلى المقادير، كما يفعل ذلك الكفار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، فهذه العلل وهذه الأعذار لا تنفع حينها. ولهذا قال من قال من السلف: والله لأجتهدن، ثم لأجتهدن، فإن كان الذي نرجو فالحمد لله، وإن كان غير ذلك، قلت: قد اجتهدت وقد فعلت، ولم ينفع ذلك، ولا نقول: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [فاطر:37]، فكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يعلمون هذه الحقيقة، ولهذا اجتهدوا وبذلوا جهدهم كله، واستفرغوا أوقاتهم وأعمالهم وطاقاتهم في رضى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي طاعته، وفي اجتناب معصيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكانوا هم العباد حقاً. فهذا الحديث قد سقناه، وشرحناه شرحاً موجزاً، راجين من الله -سبحانه وتعالى- أن يمنَّ علينا بالإيمان والتقوى، وبالتدبر لهذا الحديث ولأمثاله، مما خاطبنا الله تبارك وتعالى به في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، وما خاطبنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذلك مما فيه حياة قلوبنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة، وفيه الخير والفلاح، لنا في هذه الحياة وفي الحياة التي نرجوها عند الله تبارك وتعالى.

الأسئلة

الأسئلة

أنواع الظلم وعقاب كل منها

أنواع الظلم وعقاب كل منها Q ما الظلم؟ وما أنواعه؟ وما عقابه؟ A الظلم ثلاثة أنواع:- النوع الأول: ظلم العبد مع ربه، بأن يشرك مع الله إلهاً آخر، فأعظم الظلم أن يجعل العبد لله نداً وهو خلقه، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ولهذا قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. النوع الثاني: ظلم العبد لأخيه، فظلم العباد مما حرمه الله؛ وكما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {الظلم ظلمات يوم القيامة}، فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ظلم الإنسان في نفسه أو في ماله، فلا يظلم مسلم مسلماً أبداً. النوع الثالث: هو أن يظلم العبد نفسه بالمعاصي التي يرتكبها، وهي دون الظلم الأكبر الذي هو الشرك بالله تعالى. أما عقابه فيختلف: فعقاب الشرك الخلود في النار -عافانا الله وإياكم منها- قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72]. وأما ظلم العبد للعبد، فعقوبته هي النار، إلا أن يعفو ذلك المظلوم، ويتفاوت ذلك فإن كان الظلم قتلاً فهو أشد مما لو كان ضرباً مثلاً، وإن نهبه ماله، فهو أشد وأعظم مما لو نهبه بعضه وهكذا. وأما ظلم العبد نفسه: فهو بحسب ما يذنب من الذنوب، فإن كانت من الكبائر دون الشرك فعقوبتها بمثل قدرها، وإن كانت أقل فعقوبتها كذلك ودواؤها الاستغفار؛ وليست العقوبة هي النار فقط، بل للذنوب عقوبات كثيرة جداً، كما ذكر الحافظ الإمام ابن القيم -رحمه الله تبارك وتعالى- في الجواب الكافي كثيراً من أضرار الذنوب وعقوباتها، عافانا الله وإياكم منها!

معاقبة الله للعصاة على ما قدر عليهم لا يتعارض مع عدله

معاقبة الله للعصاة على ما قدر عليهم لا يتعارض مع عدله السؤال يقول: لقد ألقيت محاضرة هنا بعنوان: القضاء والقدر، ثم أتيت بالحديث الذي دار بين أبي الأسود الدؤلي وأحد الصحابة، وفي هذا الحديث أن هذا الصحابي قال: {أليس كل ما نعمل مكتوباً قبل أن نخلق}، فما توضيحكم لهذا الحديث؟ وما تتمته؟ A الصحابي هو عمران بن حصين -رضي الله تبارك وتعالى عنه- ونص هذا الحديث: {أن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال لـ أبي الأسود الدؤلي أليس كل ما نعمل مكتوباً قبل أن نخلق؟ قال: بلى! قد كتب، قال: أيعذبهم على ما كتب؟ قال: نعم، قال: ألا يكون ذلك ظلماً؟} الصحابي رضي الله عنه يقول للتابعي: ألا يكون ذلك ظلماً من الله أن يكتب عليهم الذنوب ثم يحاسبهم عليها {قال أبو الأسود الدؤلي: ففزعت فزعاً شديداً وقلت: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، له الخلق كله، وله الأمر كله، فرضي وسر عمران رضي الله عنه، وقال: إنما سألتك لأحزر عقلك} أي: لأختبر عقلك، ثم حدَّث أنه: {كان جالساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أتاه رجلٌ فسأله: فقال: يا رسول الله؛ أرأيت ما نعمل؟ أهو فيما نستقبل من أمرنا أم في أمرٍ قد قضي وكتب؟ قال: في أمر قد قضي وكتب}، وقال في رواية: {أندعُ العمل ونتكل على ما كتب؟ فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خلق له، فمن كان من أهل السعادة فهو ميسرٌ لعملِ أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فهو ميسرٌ لعمل أهل الشقاوة}، والحساب يكون على ما اختار العبد وعمل، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.

طرق مؤدية إلى السبيل الأوحد

طرق مؤدية إلى السبيل الأوحد Q أنا أطلب الحق والهداية، ولكن ما هو الطريق الذي أسلكه؟ طريق كذا أو كذا أو أعيش وحدي، أرجو منك إيضاح هذه الطريق؟ A هذا الطريق واضح ولله الحمد، فطريق الهداية واضح، كما في الآية التي ذكرناها، وهي قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. قد يقول قائل منكم: كيف تكون سبلاً؟ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، فالله تعالى جعل سبيله واحداً وجعل الطرق المخالفة لدينه سبلاً، وهنا يقول: ((لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)) [العنكبوت:69]؟! ومن جوابنا لهذا الإشكال ننفذ -إن شاء الله- إلى جواب هذا السؤال. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يسَّر هذا الإنسان لما خُلِقَ له، وسبل الخير كثيرة، فإن كنت ميسراً لطلب العلم، فاسلك طلب العلم سبيلاً، وإن كنت ميسراً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاجعل همك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاهد في الله وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، أو جاهد في الله واطلب العلم، أو جاهد في الله بالصيام إن لم تستطع أن تفعل شيئاً، أو جاهد في الله بذكره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن لم تستطع أن تنال قسطاً من العلم أو تتعبد بعبادة المجاهدين، أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فأنت ميسر لأمر ما، فانظر إلى الأمر الذي أنت ميسرٌ له، فإن يسر لك بر والديك فبر والديك حتى تنال بذلك رضى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن يسر لك أيتام أو جيران ضعفاء فابتغ طريق الهداية وطريق الجنة بالإحسان إلى هؤلاء الجيران الفقراء. وهكذا فكل إنسان منا لابد أن أمامه سبلاً معينة، وأن هذه السبل هي طرق من طرق الخير الكثيرة، التي يسَّرها الله تبارك وتعالى لك، فاسلك أياً منها مبتغياً بذلك وجه الله، لينقذك الله تعالى ويهديك. وكل ذلك مبناه على التمسك بما في الكتاب وما في سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديه في حياته. فإزالة الإشكال هو أن سبيل الله واحد، أي طريقه المستقيم واحد، أما السبل التي يهدي الله تبارك إليها، فهي طرق الخير، فالخير واحد ولكن له طرقاً متعددة توصل إليه، فهذا يدخل الجنة من طريق الجهاد، وهذا من طريق العلم، وهذا من طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من طريق الصدقة، وهذا من طريق الذكر، مع أن الكل على الصراط المستقيم الذي هو سبيل واحد.

ليكن جليسك عونا لك على الطاعة

ليكن جليسك عوناً لك على الطاعة Q إنني شاب أدرس وأخاف الله -ولله الحمد- ولكن رفقاء السوء دائماً معي، فأخرج من البيت من الساعة التاسعة إلى الساعة الواحدة تقريباً، فإذا عدت إلى البيت، توضأت وصليت ركعتين واستغفرت الله من ذلك، وأدعو الله، ولكن إذا أتى اليوم الثاني ذهبت معهم، نلعب البلّوت، وهم شباب لا يصلون إلا على حسب أمزجتهم، فأرجو إفادتي في أن أقلع عن مجالستهم، أرجو نصيحتي؟ A هذا الأخ مبتلى ومصاب، ويعلم طريق العلاج، وهو يعلم أن الرفقاء رفقاء سوء، ولكن يريد أن يبصر بشيء يعينه على اجتياز هذه العقبة، ومن كان هذا حاله فهو قريب من الخير والهداية ولله الحمد، فما عليك إلا أن تجزم بقوة على أن تترك هؤلاء الرفقاء، وأن تستبدل وتستعيض بهم الرفقاء الصالحين من الشباب الطيب المتدين، واعزم وتوكل على الله، فديننا دين العزيمة ودين الهمة، والذي لا يريد سلعة الله الغالية، وهي الجنة، فهو الذي تكون همته فاشلة، أما من أراد هذه السلعة الغالية، فلا بد أن تكون همته عالية، والهمة العالية يجب أن تدفعك إلى أن تقاطع هؤلاء الناس، وإلى أن تنخرط في صفوف أهل الخير، وتجالسهم، وتحضر لهم ومعهم، فإذا فعلت ذلك، فقد استعنت على نفسك بأعوان الخير، بدلاً من أن يستعين الشيطان عليك بأعوان السوء. فيجب أن تقلع عن مجالسة هؤلاء أولاً، ثم تقبل على الله تبارك وتعالى، وتتذكر وتتفكر في الموت وفي الآخرة، وما أعد الله تعالى لمن أطاعه واستقام من النعيم، وما أعد لمن عصاه من الجحيم، فلعل ذلك أن يكون زاجراً لك، ونسأل الله أن يثبتنا وإياك على الحق، وأن يصرف عنا طرق الشر إنه سميع مجيب.

الهمة العالية تذلل الصعاب

الهمة العالية تذلل الصعاب السؤال يقول: أفيدكم يا شيخ، أنني واقع في ظلم نفسي، حيث إنني مستمر في معصية، وهي شرب الدخان، وكلما حاولت أن أدعه أجد فيه صعوبة، وأنا أخشى أن يبلغني الله تعالى رمضان ولم أترك هذه المعصية؟ A هذه نفس المشكلة السابقة، والقضية قضية همة، فعلى المؤمن أن يكون ذا همة وألا تغلبه شهوته، وألا تغلبه نفسه وشيطانه، بل يكون هو الغالب لها، ورضي الله عن الصحابة والتابعين والسلف الذين كانوا يتنافسون في الخير. كان أبو مسلم الخولاني يقوم الليل، وكان يضرب على ركبته إذا تعب، ويقول: 'قومي! فليعلمن أصحاب محمدٍ أنهم تركوا بعدهم رجالاً' همم! فكانوا يريدون أن يتنافسوا في الخير، مع أنهم يعلمون أنهم لن يبلغوا منزلة الصحابة الكرام، ولكن يجب أن تكون همة المؤمن عالية، فإذا كان الدخان يغلبك، والأصحاب يغلبونك، فما الذي تريد أن تغلب؟ وما الذي تريد أن تهزم أنت؟ ولماذا هزمت الأمة الإسلامية؟ ولماذا غلبنا أضعف وأحقر وأذل خلق الله وهم اليهود وأشباه اليهود؟! إلا حينما أصبحت هممنا بهذا المستوى. فمعذرةً إلى هذا الأخ وإليكم جميعاً! وكلنا نحتاج إلى تقوية الهمة، ويجب أن تكون الهمة عاليةً وقوية، ويجب أن يكون الإنسان منا حريصاً على اغتنام هذه الفرصة العظيمة، فإن الرحمن الرحيم يقول: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، فاستغفروني أغفر لكم}، فأين نحن من هذا النداء ومن إجابة هذا النداء؟! وأين نحن من باب التوبة المفتوح ليلاً ونهاراً؟! فيجب أن نستعين بالله ونتوكل على الله ولا نعجز، وأن تكون لنا همة لنزجر أنفسنا عما حرم الله تبارك وتعالى.

لين القلب محتاج إلى المجاهدة المستمرة

لين القلب محتاج إلى المجاهدة المستمرة Q أنا شاب أحاول أن أتبع كل ما أمر الله، وأحاول أن أجتنب كل ما نهى عنه، ولكني أجد قسوةً في قلبي، فما هي طرق ترقيق القلب، وهل أؤاخذ على هذا؟ A نحن كلنا ذلك الرجل، ونسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يرزقنا إيماناً نجد حلاوته في قلوبنا، وأن يبصرنا في ديننا، وأن يعيننا على أنفسنا. ونحمد الله أنه لا تكاد تأتي محاضرة، إلا وتأتي مثل هذه الأسئلة: الذي يسأل: كيف أتوب؟ والذي يسأل كيف ألين قلبي؟ والذي يسأل كيف أقلع عما حرم الله؟ فهذه -ولله الحمد- من بشائر وعلامات الخير، وأن الشباب في رجعة وأوبة إلى الله تبارك وتعالى. والذي أحب أن أقوله: إن الطريق شاق وطويل، فلو كان لهذا الأمر علاجٌ مؤقت، أو علاج معين، يأخذه العبد فيلين قلبه، لسبق إليه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم واحد وفي لحظة واحدة، ولانت قلوبهم، ولكنها جهاد مستمر، يلين قلبك اليوم ويقسو غداً، وترغب اليوم عن الدنيا وترغب في الآخرة، وإذا بك في غدٍ تكون عكس ذلك، فتطيع ربك عز وجل، وإذا بك في غدٍ مهزوم تقودك نفسك كما تشاء. فهكذا جعل الله العبد؛ لكي يظل العبد المؤمن في جهاد مستمر، قال بعض السلف: 'جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، فبلغت بعضهم فقال: طوبى له! أوقد استقامت؟ ما زلت أجاهدها ولم تستقم ' بعد أربعين سنة! وهم في أفضل جيل وأفضل بيئة، فكيف بنا اليوم ونحن في عصر المغريات وفي عصر الشهوات؟! فمن أعظم أسباب قسوة القلب: طول الأمد عن ذكر الله، وعن تقوى الله، وعن مجالس وحلق الذكر والخير، وعدم التفكر في ملكوت السماوات والأرض وعدم التفكر في الموت. وهذا التفكر قد يتفكره الإنسان، ولكن أيضاً يتبلد إحساسه، ويصبح تفكيره كأنه أمرٌ عادي لا يثار له، ولهذا ينبغي للإنسان أن يجدد وأن ينوع من الذكرى، وأن يحرص كل الحرص على أن يتعاهد قلبه وإيمانه، فـ {إن الإيمان يخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب}، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يبلى ويتلاشى ويضمحل، فلا بد أن نتعاهد إيماننا. وقراءة القرآن وتدبره والعمل به، هي من أعظم ما يزيد الإيمان؛ لأن الإنسان إذا قرأ كتاب رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يجد فيه الشفاء والحق والمواعظ والحث على التفكر وعلى التدبر، ومع ذلك أيضاً يدعو الإنسان ربه عز وجل، كما سمعنا في هذا الحديث: {كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} فندعو الله أن يمنَّ علينا بالإيمان، وأن يمنَّ علينا بالهداية، وأن تلين قلوبنا لذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يخيب من دعاه.

تعليم الله للإنسان القرآن أعظم منة عليه

تعليم الله للإنسان القرآن أعظم منة عليه السؤال يقول: قلتم بقول غريب غامض في تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ} [الرحمن:1 - 3]، فقلتم: إن الله علم القرآن قبل خلق الإنسان، فنرجو من فضيلتكم الإيضاح؟ A إما أني لم أَفَهم أو لم أُفهم على أية حال أنا لم أقل: إن الله علم القرآن الإنسان قبل أن يخلقه، ولكن امتنَّ الله تعالى بذكر تعليم القرآن قبل ذكر خلق الإنسان، فالمنَّة الأعظم هي أنه علمنا القرآن، بعد ذلك منته بأنه خلقنا، ونعم الله عظيمة لا تعد ولا تحصى، لكن أعظم نعمة من الله علينا هي الهداية، فالقرآن وتعليم القرآن -الذي هو مادة كل هداية وخير- هو أساس ذلك، وما بعده تبع له، والحياة من غير القرآن لاشيء، بل هي كحياة الحيوان، فهذا هو المراد، ولم أقصد أن أفسر الآية.

انظر إلى من دونك ترزق القناعة

انظر إلى من دونك ترزق القناعة Q يوجد من يتذمرون من الحياة بالفقر أو غير ذلك، فبماذا تنصحهم؟ A يجب علينا أن نؤمن بالقدر، وأن نشكر الله تبارك وتعالى، وألَّا نضجر أو نتذمر كحال الكافرين، الذين يبلغ بهم الحال إلى أن ينتحروا! -عياذاً بالله! - فالمؤمن يحمد الله على أعظم نعمةٍ أنعم بها وهي نعمة الإيمان، ثم ينظر في الدنيا إلى من هو دونه، فإن كنت مبتلىً بالفقر فثق أن في الدنيا من هو أفقر منك، وإن كنت تشكو المرض فثق أن في الدنيا من هو أشد منك مرضاً، ومهما كنت فيه من حال فاعلم أن هناك من هو دونك، ولا تزدرِ نعمة الله عليك، فالمؤمن إن أصيب بفقرٍ، أو مرض أو بلاء، فصبر واحتسب، كان له بذلك الأجر عند الله، حتى إن العبد الصالح يوم القيامة يتمَّنى أنه ما من داءٍ أو بليةٍ إلا ابتلي بها، لما يرى ما يتفضل الله تبارك وتعالى به من النعم على أصحاب البلاء الصابرين، جعلنا الله وإياكم منهم.

الجمع بين أن الإنسان يولد على الفطرة وبين قوله: (كلكم ضال)

الجمع بين أن الإنسان يولد على الفطرة وبين قوله: (كلكم ضال) Q كيف نوفق بين الحديثين: {كل مولود يولد على الفطرة} وقوله: {كلكم ضال إلا من هديته}؟ A كل مولود يولد على الفطرة، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما في الحديث القدسي الآخر: {إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين}، وأما {كلكم ضال}، فهو كما أشرت، أ، هـ لو خلي بين الإنسان ونفسه لضل، وإنما الهداية توفيق من الله، فمن وفقه الله تعالى اهتدى، ولو خُلي بينه وبين نفسه، فإنه يضل؛ مع أنه ولد على الفطرة فإنه يخالفها، ومع أن الرسول قد أتاه فإنه يكذبه، ومع أن القرآن بين يده ولكنه لا ينتفع بما فيه ولا يهتدي. فمع وجود الهداية وأسبابها، ولكن مع عدم التوفيق، لا يكون الإنسان مهتدياً أبداً، فلا تعارض بين الحديثين، والحمد لله رب العالمين.

فستذكرون ما أقول لكم

فستذكرون ما أقول لكم استعرض الشيخ حفظه الله حال الأمة المسلمة ومدى بعدها عن الله عز وجل، وبين أن سبب ذلنا اليوم إنما هو بتركنا لتعاليم ديننا، ثم أكد على ضرورة التوبة والعودة الصادقة إلى الله عز وجل وأن هناك منكرات كثيرة لابد من تغييرها، وأن اللجوء إلى الغرب خلل في مبدأ الولاء والبراء، مذكراً بقصة من قصص المجاهدين، وموضحاً أن من أهم أهداف الحشود الكافرة في منطقة الخليج ضرب الصحوة الإسلامية، مختتماً حديثه بالرد على الاستدلالات التي أوردها من يقولون بجواز الاستعانة بالكفار في مثل هذه الأحداث.

مشكلتنا الحقيقية

مشكلتنا الحقيقية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن أول ما أحب أن أذكر نفسي وإخواني به في هذه القضية، أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يقدِّر في هذا الكون إلا ما هو خير، وإن كان فيه ضررٌ أو شرٌ لأناس مؤمنين أو كافرين من وجه من الوجوه، وفي الجملة الشر ليس إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما يقع منه -عز وجل- فهو خير. ولكن يجب علينا أن نعتبر ونتعظ ونستفيد من الأحداث؛ لتكون خيراً لنا، من جميع الوجوه، وإن اشتملت على ضرر، فإن الأمور بنهاياتها. ونحن الآن في أول المشكلة، فلا تتصوروا أن ما حدث يمكن أن يحل في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين! هذه مشكلة ستطول، ونهايتها لا يعلمها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!! فلا يمكن أن تنتهي كما قد يبدو للبعض بأيامٍ معدودات؛ فالغرب بدأ يتكالب ويأتي من كل وجهة! بعض أساطيله إلى الآن لم تتحرك، وبعضها تحرك قبل عدة أيام، ويحتاج إلى شهرين في البحر حتى يصل، ثم بعد الشهرين وبعد الوصول: ماذا سيكون؟! الله تعالى أعلم! إن الأمر سيطول! وليست هذه المشكلة خارجة بأي شكل من الأشكال عن مشكلتنا الأساسية الأولى في حياتنا نحن أمة الإسلام. وهي مشكلة دائمة نعيشها، وهي: ضعف قربنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وضعف تمسكنا بكتابه جل وعلا؛ فقد يسلطهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- علينا إن عصيناه وانحرفنا، أو ينصرنا ويؤيدنا ويجعل الدولة لنا على أعدائنا إن تمسكنا واستقمنا، هذه قاعدة في جميع العصور، وفي جميع مراحل التاريخ. جاءت موجة التتار، وجاءت موجة الصليبيين في مراحلها الأولى، ثم جاءت الصليبية في شكل استعمار، ثم جاءت الصليبية الجديدة؛ فكلها صليبية وإلى الآن فالمعركة التي نعيشها معركة صليبية؛ لأن حزب البعث صليبي، والغرب صليبي، فالقضية كلها صليبية. وأهم شيء يجب أن نتحلى به: أن تكون لدينا القاعدة الإيمانية، التي لا يجوز أن نتناسها بأي شكل من الأشكال، لأن هناك سنَّة من سنن الله في الأمم وفي المجتمعات وهي: أنهم إذا عصوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو خالفوا أمره، جاءهم العذاب، ثم إنهم يتضرعون إلى الله.

انصراف الأمة الإسلامية عن القرآن

انصراف الأمة الإسلامية عن القرآن أقول: عجيبٌ أن يصدر هذا عن أمة القرآن وأمة الإيمان وأمة الإسلام، التي جعل الله لها في كل مشكلة، وفي كل أمر، وفي كل ضائقة، وفي كل نازلةٍ حلاً في كتابه وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحل موجود، وقد تكلم عنه كثير من دعاة الحق -والحمد لله- لكن لم نجد إلى الآن أية إشارة واضحة إلى أننا فعلنا الحل الذي في كتاب الله عز وجل، وأننا امتثلنا الحل الذي أمر به الله، كما قال:- {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] قسوة القلوب كهذه التي نعاني منها. توزع حالياً أخبار عن المبيدات والأسلحة الكيماوية والغازات الكيماوية أثارت الرعب والهلع في نفوس الناس، وأنا لا أتكلم عنها، وأنا جازم وواثق أنها ليست رسمية، وليس عليها ختم رسمي، وهي في حقيقتها صحيحة، فما تضمنته من أثر هذه الغازات السامة صحيح وواقع، بل في الحقيقة هناك أنواع أخطر من ذلك بكثير. ولكن ليست هذه هي القضية؛ القضية هي: لماذا عندما لا ينسب مثل هذا الكلام الذي ليس له أصل ولا مستند رسمي، فلم يقل للناس: " خذوا أقنعة أو احتاطوا" رسمياً وإنما هذه أوراق وإشاعات، الله أعلم بمن وراءها، وما مصدره، فهو قول غير مؤكد وغير معروف، ومع ذلك ذعر الناس وهلعوا، وكل إنسان بدأ يفكر جدياً، فيما يصنعه؟ وهل منطقته بعيدة عن الأحداث أو قريبة؟ ويفكر ماذا سيصنع إذا جاء الغاز فعلاً. سبحان الله! القرآن كلام الله رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحدثنا عن عذاب جهنم يحدثنا عن دخان جهنم، أين هذه الغازات من دخان جهنم؟! أين هي من {ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] أين هي من {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41]. أين، أين، آيات كثيرة، فأين هذا من هذا؟! وهو كلام رب العالمين وهو حق وصدق، ولا يمكن أن يقع إلا في حق من توعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك، وذكر الله تعالى أسبابه، وهي المعاصي والذنوب، فهل اتخذنا وقاية من هذه الذنوب؟! قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] كل إنسان واردها، كل إنسان سيعبر الجسر المنصوب على متن جهنم، كما أخبر بذلك الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل أعددنا وقاية من عذاب الله؟! هل أصابنا الخوف من الله؟ كما أصابنا الخوف من البشر والهلع والذعر؟! وقد ضربت هذا المثال لتعلموا لماذا أصبنا بهذه النكبة، ولماذا حلت بنا هذه المصيبة؛ وذلك لأننا لم نعد نخاف من الله، ولم نعد نخاف من وعيده ولا عذابه سبحانه، لأننا لم نعد نستمع إلى آيات القرآن، وما كان فيها من وعد أو وعيد، ومن استمعوا فهم يستمعون وقلوبهم غافلة لاهية إلا من رحم ربك.

منكرات لم تغيرها الأمة

منكرات لم تغيرها الأمة ننتظر متى نكف عن الغناء واللهو والطرب في وسائل الإعلام أو في خارجها، وما كففننا! ننتظر هل سيمنع الربا، هل سيخفف الربا، هل سيتقلص، فما تغير شيء من هذا! قلنا: لعل التبرج ينتهي من الأسواق ومن الشواطئ ومن المنتزهات، فلم يتغير شيء! سبحان الله العظيم! محلات يسمونها التخسيس وصوالين التجميل، ومشاغل الخياطة، وما فيها من فساد، هل أوقفت؟ هل منعت؟ هل انقطعت؟ هل ضعفت؟ والله ما صار شيء من هذا! هل أعيدت صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل وضع لها اعتبار وقوة؟ والآن هذا وقت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعل الله أن يرحمنا ويرفع عنا العذاب، لم نصنع شيئاً من هذا! هل أعدنا وضع مدارس تحفيظ القرآن إلى وضعها الطبيعي؟ نقول: علينا أن نستغفر الله؛ لعل الله سلطهم علينا بذنوبنا، إذاً وجب أن نعيد لها اعتبارها، وتأخذ من الطلاب ما تشاء، وتكون كما كانت، لكننا ما فعلنا شيئاً من هذا! الرقابة الإعلامية: كل ما حدث في السوق، هو أننا سلمنا من شرور المجلات والصحف الكويتية، وهذا من عند الله ليس من عند أنفسنا، هل قلنا ما دامت أن هذه الصحف عوقبت على فسادها وإلحادها وكفرها الذي كنا نتحدث عنه، إذاً فلنمنع الصحف الباقية، هل مُنع منها شيء؟! وأنا لا أدري، ولكن أنا أقول فيما أرى. وضعنا هو مثل الذي لا يصلي قبل الأحداث ولا يصلي بعدها! سبحان الله! الذي لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لا يزال على ما كان عليه إلا من رحم الله! لا اعتبار! لا اتعاظ! لا ضراعة! لا رجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! لم لا نحاسب أنفسنا ونقول: كان هذا حراماً واستبحناه! فلنتجنبه، كان هذا واجباً وتركناه! إذاً فلنفعله لكن ما حدث شيء من هذا! إذاً ماذا نتوقع؟! كيف ندفع العذاب؟!

الغفلة عن أسباب دفع العذاب

الغفلة عن أسباب دفع العذاب لقد بين الله لنا كيف ندفع العذاب، وبين لنا أن التضرع سبب من أسباب دفع العذاب كما في آية المؤمنون والأنعام والأعراف وغيرها، يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] ويقول تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] وفي سورة الأعراف يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:74] إلى أن يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:96 - 97] وهذا ما حدث في الكويت! ثم يقول تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:98 - 99]. أين الضراعة التي ذكرها الله في القرآن؟ أم أننا لسنا في حاجة إليها؟! لا ضراعة! لا استكانة! لا توبة! لا إنابة؟ حالنا كأنه لم يحدث شيء. من أين جاءنا الأمان والارتياح؟ من أين؟! لما قيل: إن الغربيين الكفار سيدفعون عنا عذاب الله، فارتحنا واطمئننا!! أهكذا أمة الإيمان؟! أهذه أمة التوحيد التي في كل ركعة تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟! أهذا حالها؟! أهذا شأنها؟!

اللجوء إلى الكفار خلل في العقيدة

اللجوء إلى الكفار خلل في العقيدة أمتنا في وقت الشدة لا تلجأ إلى الله ولا تتوب ولا تستغفر ولا تتضرع وإنما تلجأ إلى الكفار! وتجعل ثقتها بالكفار، في كل مجلس تقريباً، يقول الناس: ما دام أمريكا موجودة فلا مشكلة! لا أحد يقول: ما دام الله معنا!! هل إلى هذا الحد وصل بنا الأمر من ضعف العقيدة وكل وقتنا إنما كنا نقول فيه العقيدة العقيدة العقيدة إذاً فقد كان هذا مجرد شعارات فقط!! وإلا فأين أثر الإيمان الحقيقي؟! وأين هذه العقيدة؟! نأمن ونطمئن بالكفار؛ لأن الكفار سينصروننا هكذا نعتقد وننسى وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! وننسى أن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]. من هم المؤمنون الذين يدافع الله عنهم؟ قال بعد ذلك: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] إلى أن قال بعد ذلك: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] هؤلاء يدافع الله عنهم، هؤلاء ينصرهم الله (إنه قوي عزيز)، فهكذا ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وليس الكفار هم الذين ينصروننا!

ما يترتب على اللجوء إلى الكفار

ما يترتب على اللجوء إلى الكفار أنا أقول هذا من باب اللجوء وتوجه القلوب، ولا أتكلم عن الواقع؛ من حيث ضرورته أو عدم ضرورته، بل من حيث التوجه القلبي، وهذه المسألة مشكلة خطيرة، وأرجو أن تكون هكذا عند كل أخ منكم يقرأ كتاب الله. المشكلة والخطورة ليست في أننا عملياً قد نلتجئ للكفار أو نستعين بهم، وهل يجوز هذا وقت الضرورة أم لا يجوز ليست هذه هي القضية؛ لأننا يمكن أن نبحث هذه المسألة أو أن نفعل هذا العمل، وقلوبنا مطمئنة بالإيمان وبالثقة والتوكل على الله، ونجعل هذا سبباً من الأسباب، لكن ليست هذه هي المشكلة المشكلة: هي أن القلوب انصرفت إلى غير الله، وانصرفت إلى الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وتعلقت الآمال بهم في سلامتنا وفي نجاتنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أنا أريد أن نتناول هذه القضية من جانبها الإيماني، ومن جانبها القلبي الإذعاني، وننبه إخواننا وأنفسنا وأهلنا وكل أحد، إلى أن عذاب الله قد يأتينا في أشكال لا نعلمها، وهذا جزء منه ونذير: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو} [المدثر:31]. قد يأتينا في أشكال منها الموت، فقد يأتي أي واحد منا قبل أن تأتيه الغازات التي نسمع عنها، فيلقى الله، فيسأله الله: ماذا عملت؟ ماذا قدمت؟ وما من دارٍ إلا الجنة أو النار! فأين نحن من هذا التفكير؟ أين الدعاة والخطباء والعلماء لإيقاظ الناس إلى هذه المسألة المهمة؟ قبل أن نبحث الأسباب وقبل أن ننظر في واقعنا، وماذا نفعل؟ نبحث هذه القضية من جذورها وأساسها! وقد وردت إشارة في بيان مجلس القضاء الأعلى إلى أنه يجب على الناس أن يكثروا من الاستغفار والتوبة، وبعد ذلك انظر إلى وسائل الإعلام، وانظر ماذا يبثون! نريد أن نجد هذا التفكير فلا نجده وهو الأساس والأصل، وهو الذي امتنَّ الله علينا به، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، وهو أرأف وأرحم بنا في أية مشكلة تقع قد دلنا عليه وبينه لنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك لا نجد من يتمثله؛ بل في ساعات النصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دخل مكة وهو منتصر، دخل في ذلةٍ واستكانةٍ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مطأطئ الرأس حتى كاد رأسه أن يمس رحله، وهو داخل مكة بالفتح العظيم الذي وعده الله تعالى به، وكان في هذه الحال من الاستكانة إلى الله والذل له. ونحن في حالة الخوف والذعر والهلع ومع ذلك لا ضراعة، ولا استكانة، ولا إنابة، ولا خوف من الله عز وجل إنما تعلق بالمخلوقين، وتعلق بالعدو اللدود، الذي عداوتنا به لا تنتهي إلى قيام الساعة.

قدم العداوة مع الغرب

قدم العداوة مع الغرب هذه العداوة ليست من عندنا، ولا هي تحليلات سياسية، فنقول: إن أمريكا هي أعدى عدو للإسلام والمسلمين أو الغرب هو أعدى عدو للإسلام والمسلمين، التحليلات السياسية والصحفية تخطئ وتصيب، لكن هذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا خبر منه وهو الصادق المصدوق عندما قال: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس} حديث صحيح. وقال: {لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بـ الأعماق} وهناك ستكون الملحمة. أحاديث الدجال تتضمن في جملتها ذلك، أحاديث نزول عيسى عليه السلام كلها تتضمن ذلك إذا جمعتها، وأعظم ما يقوم به عيسى عليه السلام هو محاربة هؤلاء النصارى الروم. أيضاً هذه الأخبار الصريحة في الروم وأنها آخر ما يفتح، قال عليه الصلاة والسلام: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تغزون فارس فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الروم فيفتحها الله لكم}. والمعركة -والحمد لله- كما بينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوف تنتهي لصالح المسلمين ضد الروم وهذا حتى لا نخاف، ولا نيئس، لكن أين المسلمون؟! إن حالات الذل تمر بالأمم كما تمر بها حالات القوة، حالات الخذلان تمر بها بسبب الذنوب، كما تمر بها حالات التوفيق إذا اتقت ورجعت إلى الله.

حرب الخليج والمخططات الغربية

حرب الخليج والمخططات الغربية تذكرون محاضرة "مستقبل العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي"، ثم محاضرة "الحروب الصليبية"، من هذا المنطلق كنا نتوقع ونعلم -دون معرفة التفاصيل- أن هذا الوفاق سيؤدي إلى أن الغرب سيتكتل ويتألب ويتكالب علينا، وأنهم سيجتمعون علينا، وأنه سيأتي إلى هذه المنطقة، لكن كيف؟ الله تعالى أعلم! لا ندري، المهم أنه سيأتي. هل هذه فرصة أتاحها لهم حزب البعث الصليبي نفسه، وقدمها لهم على طبق من ذهب؟ أم أنهم رتبوها بأنفسهم؟ أم رتبوها بعضهم مع بعض؟ أم أنها جاءت فرصة ذهبية؟ لا ندري! لكن المهم أن أمريكا منذ عام (1980م) أي عام (1400هـ) وهي تعد العدة وتدرب الجيش! أكثر من مائتين وخمسين ألف جندي أمريكي يتدربون في صحراء نيفادا، وهي صحراء في وسط أمريكا قاحلة على أجواء مشابهة لأجواء الصحراء العربية، والمعركة الآن يسمونها درع الصحراء، يتدربون هناك على الإنزال في الخليج! وآخر خبر أذكركم به ما قيل عندما حدث الإنزال في بنما، وذلك -من ضمن التحليلات العسكرية لعملية الإنزال في بنما - قيل فيه: إن من أهدافها الاستراتيجية التمرين والتعود على الإنزال في الخليج! وهذه العملية ما بيننا وبينها إلا بضعة أشهر، أي: أن الأمر مبيت عندهم ووارد، وهذه فرصة قدمها لهم أعداء الإسلام. جاءت فجاءوا من كل حدبٍ وصوب، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي لا ينطق عن الهوى: {تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها} من كل أفق، من كل المناطق، جاءوا إلينا بحجة أنهم يحموننا! ولابد أن تعملوا أنه مما نشر من المائتين وخمسين ألفاً ما لا يقل عن ثلاثين ألف امرأة برتبة ضابط ونقيب ورقيب. هؤلاء جاءوا بنسائهم ليحموا أبناء خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعمر، وأبناء الأبطال الذين فتحوا فارس والروم بعدد أقل من عددهم اليوم، وبعدة أقل من عدتهم اليوم! ولو كنا كما أمر الله متقين له وقائمين على أمره عز وجل، لفتحنا البلاد بما عندنا من عدد، وبما عندنا من قوة، فما كلفنا الله ما لا نطيق، كما قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فقال: (ما استطعتم) فإذا كنا لا نقدر إلا على هذا، فقد أعذرنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

مواجهة ذاتية دون الذل للكافر الحربي

مواجهة ذاتية دون الذل للكافر الحربي أسوء ما يمكن -وهذا واقع- أن يتكالب علينا أعداء الله ولا نستطيع أن ندفعهم، فماذا نفعل؟ بين أيدينا سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة الخلفاء الراشدين وقادة الإسلام في كيفية التعامل مع العدو وهناك عدة وسائل: - قد نصالحهم فإن أبوا إلا على شيء من المال فإننا نعطيهم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يعطي الأحزاب لما تكالبوا عليه من ثمر المدينة كما تعلمون. - قد نصالحهم على شيء من الأرض. - قد نقول: لا بد أن نحاربهم. وهناك وسائل وبدائل أخرى؛ فما جعلنا الله تعالى في ضيق أو في حرج، إما هذا، أو هذا كما يظن كثير من الناس اليوم. كثير من الناس -في المجالس وفيما أسمع- يقولون: ما عندنا إلا الموت أو التعلق بالغرب! من قال لك: إنه ليس عندنا إلا هذان البديلان، ولا ثالث لهما. يمكن أن يكون هناك عشرة بدائل لو فكرنا وتأملنا، وندفع الشر بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالمشكلة الأساس هي مشكلتنا مع الله، مشكلتنا أننا لم نصطلح معه بل نحاربه، فألب الله تبارك وتعالى علينا وأرسل علينا هؤلاء، كما أرسل على بني إسرائيل الفرس- بختنصر وجيشه- قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] هذه ليست فقط لبني إسرائيل، حتى هذه الأمة إن عادت عاد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعقوبة قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]. إن هذا الفسق والفجور والطغيان والترف الذي كنا نعيشه، هل يمكن لأي عاقل ولأي ناظر في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصدق أن هذا يستمر إلى الأبد بدون عقوبات؟ مع أنه لا توبة ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر؟! لا يمكن. بل نهلك وفينا الصالحون إذا كثر الخبث كما بين ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكان المفروض أن ننظر إلى كل هذه الأمور من خلال كتاب الله ومن خلال سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن نحمد الله على هذه الأحداث؛ وذلك لأن فيها عبراً عظيمة تعطى لنا وتهدى لنا من كل جهة. هل تظنون أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الذي أخبرنا عن نفسه وعن رحمته للمؤمنين، وما أعد لهم وما يبشرهم به لا يظلم الكفار ويظلم المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]؟! هل يظلمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن ندفع إلى صدام حسين الملايين والمليارات طوال عشر سنوات، ثم ترتد أموالنا علينا! هل يظلمنا الله بذلك؟! لا والله لا يظلمنا! لكنه ظلمنا لأنفسنا نحن، وتعلقنا بالأسباب المادية! والذين هاجمهم اليوم وقاتلهم من منهم لم يحسن إليه ولم يعطه ولم يساعده، هل هذا من ظلم الله لنا؟ نفعل هذا الإحسان، وهذا الخير، وهذا العطاء، ثم يظلمنا؟ لا والله.

الاستقامة سبيل العزة

الاستقامة سبيل العزة لو كنا مستقيمين على أمر الله، ولا ننفق إلا حيث أمر الله أن ننفق، ولا نمنع إلا من أمر الله أن نمنع، وإذا أنفقنا فللدعوة إلى الله وفي سبيل الله، وخالصة لوجه الله، عندها سينصرنا الله ويذل أمريكا نفسها، وتأتي راكعة ذليلة، وقد أذل من هو أعظم شأناً منها، وليس ذلك عليه بعزيز أن يذلها لنا، ونحن أمة الإيمان والتوحيد. وقد أذلها لـ كوبا، وأذلها لغيرها، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً ضدها؟ والآن هي المحتاجة إلينا، وهي المضطرة إلينا، فإذا اتقينا الله كفانا الله ذلك كله، وإذا خفنا الله أخاف الله منا كل أحد، وإذا لم نخف الله أخافنا الله من كل أحد، وأتانا الذعر والرعب في قلوبنا، وأصبحت هذه الأمور تهزنا وتحركنا وتخوفنا. قضيتنا نحن المسلمين ليست في أنك ستموت أو أموت! أنا واثق أني سأموت، لكن المشكلة عندنا نحن هي أن نموت على ماذا، ونلقى الله تعالى بماذا، فالأمريكي أيضاً يموت، وليس فقط نحن، حتى أصحاب الكمامات يموتون، وغيرهم يموتون، ولو كنا في بروج مشيدة فلابد أن نموت.

التوبة واللجوء إلى الله

التوبة واللجوء إلى الله الفرق بيننا وبين الذين ينظرون للأمور نظرة مادية بحتة، وبالحسابات المادية المجردة، يقولون: مائة دبابة إما أن يقابلها مائة دبابة أو الهزيمة! من قال هذا؟! إن هذه نظريات مادية، ونحن عندنا قضايا أساسية مذكورة في كتاب ربنا، فإذا تبنا واستغفرنا وتضرعنا ولجأنا إلى الله، فإنَّ الله سوف يسلط على عدونا جنداً من عنده يدفعهم عنا، وقد دفع عنا شرورهم وهم أعظم ما يكونون ونحن أضعف ما نكون، لكننا لا نقرأ التاريخ.

شموخ الإيمان

شموخ الإيمان قبل خمسين سنة أو ستين سنة تقريباً بريطانيا العظمى -كما تسمى- كانت لا تغيب الشمس عن مملكتها، وكانت أكثر بطشاً وهيبة في قلوب العالم من أمريكا اليوم، وكانت كل أمم العالم ترهبها وتخافها، لكنها كانت تخاف من صنف واحد من الناس، وجاء ذكره في الوثائق البريطانية، وهي الآن منشورة؛ لأنهم بعد كل ثلاثين سنة ينشرونها، وبعضها في أقل من ذلك؛ لأنها ليست ذات أهمية عندهم، وجاء في تلك الوثائق أن أكثر ما كانت تخاف منهم بريطانيا في المنطقة كلها من الإخوان الوهابيين، كما يسميهم الإنجليز، وكان هؤلاء يعيشون في الصحراء، وبعضهم ما يعرف معنى الإنجليز، يسمع هكذا وما يدري، ولا عنده -مثلنا الآن- تفكير واستراتيجيات وخبرات، ولكن كان الإنجليز يخافون منهم خوفاً شديداً. من الوثائق المنشورة -حتى تعرفوا كيف هُنَّا على الله، وكيف لو كنا مع الله لكان معنا- أن المقيم السياسي الإنجليزي في البحرين -وما كانوا يسمونه سفيراً، كان اسمه الوكيل أو المقيم السياسي- كُلِّف من قبل المندوب السامي في العراق أن يكتب شيئاً عن الإخوان فكتب يقول: 'أنا بنفسي ذهبت إلى سوق البحرين ورأيت الإخوان، طولهم يبلغ ياردتين أو تقريباً -يعني مترين إلا شيء- عرضهم كذا، وجوههم كذا، تعاملهم في السوق من أفضل التعامل، و، و' ويكتب عنهم مثلما يكتب من يذهب في وسط إفريقيا ويرى الغورلا، فيكتب عن شكلها وطولها!! أي أنهم أناس يحسبون لهم ألف حساب! ولما سألوا لورنس: ما رأيك في مسألة الإخوان؟ ماذا رد عليهم لورنس، قال: 'إذا أرادت بريطانيا أن تقضي على الإخوان، فعليها أن تخصص خمسين ألف جندي بريطاني، ولكنهم سيموتون جميعاً تحت شمس الصحراء المحرقة' وهذا موجود في كلام لورنس، وكأنه يقول: لا فائدة من حربهم! وأخطر شيء كانت تخافه بريطانيا أن تقوم حركة الإخوان، بمهاجمة الحدود العراقية! بريطانيا العظمى والأساطيل والقوات تحتل العراق ما هو صدام؟! وتخاف أن يهاجم الإخوان العراق، وهي التي كانت ترتعد خوفاً من الإخوان. ومشكلة الحدود مع العراق والكويت هي فعلاً مشكلة طويلة جداً. والمندوب السامي البريطاني هو الذي وضع الخط- وهناك كتاب موجود في الأسواق في كل مكتبة يوجد فيه هذا الكلام- وقال: من هنا تكون حدود الكويت، ومن هنا حدود العراق، ومن هنا حدود السعودية، ثم طالت المشكلة. وعندما وصلت جيوش الإخوان إلى بحرة، لم تفتح جدة، ثم دخلوا مكة، وتقدموا إلى بحرة ليفتحوا جدة، وجاء وزير الخارجية من العراق، وقد أرسلته بريطانيا ليوقع اتفاقية بحرة، وهم الذين حرصوا على توقيعها، وهي تتضمن عدم الاعتداء على الحدود العراقية، هذا من جهة. من جهة أخرى كان اليهود -ومعهم الإنجليز أعوانهم- في فلسطين، وكانوا يخشون من جيوش الإخوان أن تهاجم العصابات الصهيونية؛ لأنهم يعرفون أن الجيوش العربية السبعة أو العشرة لن تعمل شيئاً، ولكن هؤلاء يمكن أن يقضوا على اليهود قضاءً مبرماً، وبالفعل عام (1924م) وصل الإخوان إلى عَمَّان، ورُعِبَ الإنجليز رعباً شديداً، وقالوا: إذا أخذوا الأردن فسيتقدمون إلى فلسطين، وسيقضون على اليهود. وهم لم يكن لديهم أكثر من البنادق العادية والخيول، حتى لما قيل لهم -وهذه قصة مشهورة، تناقلها الكبار الذين حضروا تلك المعارك- لا تتقدموا لأن الإنجليز عندهم طائرات تلقي ناراً من السماء -أي قنابل- فقال قادتهم: هل هذه الطائرات فوق الله أم الله فوقها؟! انظروا كيف الإيمان! قالوا: الله فوقها، قالوا: توكلنا على الله، فتأتي الطائرات وتُسْقَط الطائرات بالبنادق العادية، وينهزم جيش الشريف الذي كان يُخْشَى لأن عنده طائرات. ودخلوا إلى جدة، ثم تقدموا منها حتى أخذوا العقبة، وهذا يعني أنهم كانوا في ضعفٍ فعلاً، لكن كان لديهم قوة الإيمان والعقيدة القوية في الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والثقة به، فكان العالم يخافهم ويرهبهم، أما نحن فعندنا قوة ليست هي هينة، قوة الطيران ضخمة، وقوة مالية، وكل شيء موجود فإننا نقدر أن نشتريه، لكن أقول: السبب المعاصي والذنوب! ونحن لسنا عسكريين حتى نتكلم في الخطة العسكرية، أو نتكلم في الاستراتيجيات، نحن نتكلم في الشيء الأساس الذي يجب أن يكون عند العسكري وعند المدني وعند كل أحد، وهو الإيمان بالله وقوة التوحيد وقوة التوكل على الله، إن وجدت هذه عندنا فوالله سوف يخاف منا الغرب والشرق معاً.

أهداف اجتماع الحشود الغربية

أهداف اجتماع الحشود الغربية هل تظنون أن الغرب والشرق عندما يجتمع ويتكالب ويأتي إلى هذه المنطقة، أن ذلك من أجلنا؟ أم من أجل سواد عيوننا؟! والله لا يريد لنا الكفار خيراً أبداً، إن ألقيت الغازات السامة علينا، أو على بغداد، فالموتى مسلمون، وما الذي سيضرهم، إن دُمِّر العراق أو غير العراق؟! فالمدمَّر هو هذه الأمة ومقومات هذه الأمة، بغض النظر عن وجود المجرمين والمرتدين الذين أثاروا هذه الفتنة.

البترول

البترول لكن على المدى البعيد هؤلاء المرتدون ضربوا الأمة، وسببوا لها النكبة! والغرب ضرب الأمة وأذل الأمة! وما هو الغرض من هذا كله؟! الغرض هو البترول، أن يصلهم البترول دائماً، وحتى الأسعار يستطيعون أن يتحكموا فيها إلى حد كبير، وهناك غرض أساسي غير البترول، وقبله وبعده، وهو: إذلال هذه الأمة وضرب الصحوة الإسلامية.

ضرب الصحوة الإسلامية

ضرب الصحوة الإسلامية وقد نشر في يوم (11 من ذي القعدة) على لسان أحد المسئولين في الإدارة الأمريكية حين سئل: هل تتخوفون من قوة العراق الضاربة في المنطقة؟ فكانت الإجابة أن قال: 'لا، وذلك لأن العراق يشكل أكبر قوة في المنطقة لضرب الصحوة الإسلامية التي هي أخوف ما نخاف' وهذا موجود ومنشور، وقد ورد أيضاً في مجلة الحياة أن وزير الخارجية دوما يقال له: كيف كنتم مع العراق طوال السنوات الماضية؟ وما هو موقفكم الآن؟ ثم بعد ذلك سُئل عن توقعاته وغير ذلك، وأنا سآتي لكم بمجمل ما قاله، قال: 'موقفنا من العراق كان سلمياً سابقاً؛ وذلك لأنه أمر حتمي، حيث إنه كان يحارب الأصولية الإيرانية' ثم قال: 'أكثر ما يزعجنا الآن أن تتحالف القومية مع الأصولية الإسلامية في موقفها لتأييد صدام ' ولا شك أن من وقف مع صدام -وإن سمى نفسه داعية أو دعوة أو جماعة- مخطئٌ خطأً كبيراً جداً، إن لم نقل أكثر من ذلك، لكنَّ هذا ليس موضوعنا الآن، موضوعنا هو أن الغرب يقول: 'ما دام هناك جماهير أو حركات أصولية تقف الآن مع صدام، فالمشكلة موجودة' بمعنى أنهم يقولون: نحن ما تناقضنا؛ لما كان صدام يحارب الأصولية أيدناه، وحاربنا معه الأصولية الإيرانية، والآن الأصولية تقف مع صدام، فإذاً نحن نحارب صدام، وكلام واضح لمن يتدبره، فالقضية والهدف الأساسي أن الغرب يريد إذلال الأمة الإسلامية، وضرب الصحوة الإسلامية، واستنزاف المنطقة، لأنها منطقة مهيأة لقيادة الأمة منها. والغرب صفى الحسابات فيما بين قواته، فـ روسيا الآن تابعة لـ أمريكا، وأساطيلها جزء من القوات التي دعت إليها أمريكا، وهذا أمر لا شك فيه عندنا، وكلهم علينا؛ قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] الشاهد: (بعضهم أولياء بعض) فـ أمريكا احتوت روسيا وأصبحت معها، ماذا يريدون؟! والمسألة تتعلق بـ الكويت، ومن شفقة أمريكا ورحمتها بـ الكويت تُخرج العراق منها، فهذا المظلوم يستغيث فتغيثه أمريكا! هل تعرف أمريكا شيئاً اسمه رحمة أو عطف أو إنسانية أو شفقة لغير الإنسان الأوروبي؟! انظروا إلى القضية من جذورها العميقة في الغرب وأوروبا. منذ أن قامت الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، هل سمعتم أن دولة أوروبية جيشت الجيوش على دولة أوروبية، أخرى؟ لم يحدث هذا أبداً، وفي نهاية العام القادم ستكون أوروبا دولة واحدة. لمن تبنى هذه الحشود والأساطيل إذن؟! إذاً: لمن الأساطيل؟! ولمن الحشود؟! ولمن المليارات التي تنفق على التسليح وهم أصبحوا دولة واحدة؟! للعدو نحن الذين من أجلهم تحشد هذه الإمكانيات، جاءتهم هذه الفرصة أو خططوا لها، المهم الآن أنهم بدءوا يتوافدون، وسوف يتوافدون علينا بهذا الغرض، وأمريكا من أجل هذا الحدث البسيط أرغمت أسبانيا واليونان وتركيا على استخدام القواعد، وأخذت منها صلاحيات واسعة جداً في ذلك، واحتلت وطوقت المحيط الهندي، وبحر العرب، والبحر الأبيض المتوسط والمنطقة بكاملها، كل منطقة ابتلعت من أجل الكويت، فهم أناس يخططون على المدى البعيد!

الثقة بنصر الله

الثقة بنصر الله نحن لا نقول هذا من باب الإخافة، بل كما قلت لكم: والله أننا كما نؤمن وكما نثق وكما نقسم أن الشمس ستشرق غداً فكذلك والله سيكون النصر لهذه الأمة، بإذن الله، لكن لمن؟! وعلى يد من؟! نحن نحتاج هذه الأمور الأساسية وهي: أن نذكر الناس بالله، وأن نربطهم به سبحانه، وأن يكف الشباب عن متابعة هذا الغثاء من الصحف ونشرة الأخبار، ونُعلِّم الناس كلهم بأن يرجعوا إلى القرآن، ونقول لهم: اعمروا المساجد، وكفوا عن هذا التبرج والفساد الذي في الأسواق، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وتوبوا إلى الله، بدلاً عما تشغلون به أوقاتكم من اللهو، واشغلوه بالجد وبالحق، فغيروا ما بأنفسكم يغير الله ما بكم {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. غيروا ما بداخلكم تجدوا أن الله أذهب صدام بانقلاب عسكري أو غير ذلك، ثم بعد ذلك نجد أمريكا وهي العدو الأخطر والأكبر يذهبهم الله بما يشاء ويعيننا عليهم.

أهمية التغيير لتحقيق النصر

أهمية التغيير لتحقيق النصر لابد أن نغير ونبدأ من الآن، والملحمة مع الروم لن تكون سهلة، ولكن تكون سنة أو سنتين أوخمس أو عشر سنين، إنها ملحمة طويلة، ومعركة طويلة تحتاج أول ما تحتاج إلى أمة مؤمنة صابرة متقية؛ قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] أول شيء نفعله هو أن نصطلح مع الله، ثم نلغي الربا والفساد، ونلغي الباطل الذي يكون فيه الفاحشة والزنا الظاهر من التبرج وما إليه، ونلغي الغناء، والرشوة، نلغي الغيبة والنميمة والحسد والبغضاء التي انتشرت بيننا نحن المسلمين، نلغي كل نظام يخالف شريعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليظل الحكم هو بكتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى شرع الله وإلى دين الله؛ بأن نتحاكم إليه في كل صغيرة وكبيرة حقاً، وليس مجرد شعاراً، نراجع أنفسنا: ماذا أذنبنا! وماذا أخطأنا؟ وماذا فعلنا؟ نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

أهمية الإعداد

أهمية الإعداد ثم بعد ذلك نعد العدة ما استطعنا كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] هؤلاء البعثيون أعداء الساعة نعد لهم ما استطعنا وسنيصرنا الله عليهم، وأما الروم والغرب فهم أعداؤنا إلى قيام الساعة، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنعد لهم أيضاً العدة، ونعلم أنهم لا بد أن يواجهونا يوماً ما، ثم نجعل جميع موازيننا لله عز وجل، إذا أعطينا نعطي لله، وإذا منعنا نمنع لله، وإذا غضبنا نغضب لله، وإذا رضينا نرضى لله.

الاستمرار في معاداة المرتدين والكافرين

الاستمرار في معاداة المرتدين والكافرين نحن الآن نخشى لو حلت القضية -ونحن نتمنى أن تحل القضية وتنتهي المشكلة- أن تعود الصداقة بيننا وبين هؤلاء المرتدين، وترجع العلاقات والصداقة والمحبة وكل شيء ومؤتمرات القمة الإسلامية والقمة العربية، وتعود المياه لمجاريها شيئاً وكأنَّ شيئاً لم يكن، فإذا كنا نلدغ من الجحر الواحد عشرات المرات، فنحن جديرون بما ينزل بنا، نسأل الله العفو والعافية! الكفار -أيضاً- نعاملهم بما أمر به الله من معاملة الكفار، وليس هم وحدهم البعثيين فإن هناك بعثيون في أماكن أخرى، وليس هم وحدهم مرتدين، إذاً: تكون موالاتنا ومعاداتنا في الله، ولذات الله، وفي هذه العقيدة، نتمسك بها، وإن متنا فسوف نموت ونحن متمسكون بها، وقد عملنا ما استطعنا، وأعددنا ما استطعنا، وإن عشنا فالنصر لنا بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

المفاهيم والقيم وأثرها في النصر والهزيمة

المفاهيم والقيم وأثرها في النصر والهزيمة تأكدوا أن الله سوف ينصرنا، إن لم يكن جيلنا هذا الذي هو جيل المعاصي، فسيكون الجيل الذي سيأتي به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الجيل الذي سيتربى بعيداً عن العقد النفسية!! ماذا عندنا؟ عقدة إعجاب بالغرب، أو خوف من الغرب، أو إرهاب من الغرب انظروا إلى القضية الفلسطينية، أخ عزيز يقول لي: إنه ذهب في العطلة إلى هناك، وعنده ولد عمره خمس سنوات، لكنني لما ذهبت لزيارتهم لم أجده، فخرجت أبحث عنه في الشارع فوجدته وإذا به يحرق إطار سيارة ويرمي اليهود بالحجارة، يقول: والله ما علمته! وكل حياتي إنما هي هنا في السعودية! هذا الطفل ليس عنده عقد، ولا توجد عنده حكاية الهيلمان والجيوش التي لا تقهر من الغرب والأساطيل، هذا الجيل سينتصر بإذن الله وإن قل العدد. وعندما جاءت الحملة الصليبية الأولى، كان عدد الذين فتحوا أنطاكية واتخذوها أول مستعمرة لهم خمسة آلاف من الصليبيين فقط، لكن الأمة كانت مشغولة بالشهوات، وفرقتها العصبيات، وفرقتها الفرق والطوائف الضالة بالطرب، وكان أغلى شيء في تلك الأيام وأغلى سلعة في السوق: الجارية أو المغنية، ويصل سعرها إلى عشرة آلاف دينار، وإلى مائة ألف دينار، أمة كبيرة وضخمة جداً ومواردها هائلة، وخمسة آلاف من الصليبيين يذلونها ويرغمونها، لكنهم في الحملة الثالثة كان عددهم ثلاثمائة ألف صليبي من جميع دول أوروبا جاءت وهُزمت بعد خمسين سنة تقريباً، لأنه ولد جيل وظهر جيل لا يعرف إلا الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما عنده ذلك الفسق والفجور واللهو والمجون الذي كان عند أولئك.

كيف نواجه أزمة الخليج

كيف نواجه أزمة الخليج إذاً: نقول -يا إخوان-: ما يحتاج أن نذكركم ونكثرمنه وهي نصيحة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وللمسلمين خاصتهم وعامتهم، أوجهها من هذا المكان، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تبلغ إلى كل من ينفعه الله بها: إن الحرب أولاً هي مع أنفسنا، والصلح أولاً هو مع الله، لابد أن نحارب هذه النفوس وهذه الشهوات، هذه النفس الأمَّارة بالسوء، ونصطلح مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونتوب إلى الله، ونعيد لأهل الدعوة قيمتهم واعتبارهم، نعيد لرجال الهيئات قيمتهم واعتبارهم، ونعيد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمته، ونعيد لكل أمر من أمور ديننا من الحق والخير والفضيلة قيمتها واعتبارها، ونكف عن كل المعاصي، وغيروا وانظروا ماذا سيكون؟! والله ليغيرن الله هذا الحال، وليكونن لنا نصرٌ عظيم جداً نفتخر به مدى الأزمان، ونظل نقول: الحمد لله الذي جاءنا بهذه المشكلة، غَيَّرْنا فَغَيَّرَ الله أحوالنا، وغير حال العالم وجعلنا هداة مهتدين، ثم نفرح إذا تحولت إلى نعمة عظيمة جداً. أما إن بقينا على حالنا، وتعلقنا بالأسباب المادية، ونظرنا إلى الأمور بنظرة مادية، ونسينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واستمر صاحب الغناء في غنائه، وصاحب المنكر في منكره، ومحلات السياحة تسيح، ومشاغل الخياطة تعمل في فسادها وفي تعريها، ولا مُنْكِرَ، وتارك الصلاة تارك لها ومستمر، وتحويل تسجيلات غناء إلى تسجيلات إسلامية أيضاً ممنوع، وما غيرنا من ذلك شيئاً، ومن أراد أن يتوب أيضاً لا يجد من يشجعه، فإذا بقينا كذلك، فالعذاب قائم، ونعوذ بالله أن يأخذنا! وكل ما في الأمر أن نقول ونسأل الله ونتضرع إليه كما أمر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وإذا وقعت العقوبة والفتنة فنسأله أن يتوفانا إليه غير مفتونين، وإلا فلن نسلم! ولذلك أقول: لابد أن نتوب، ونلقى الله ونحن على التوبة، ونحن على إيمان، ونحن قد أعذرنا إلى الله. واجبكم -يا إخواني- عظيم وكبير ولا يستهان به، لا تقل: ماذا أفعل؟! أنت تتكلم، وهذا يخطب، وهذا يعظ في مجالس الناس، أو في أي مكان يذكرهم بالله، يذكرهم بأن المؤن التي نقصتنا هي مؤن الإيمان والتقوى، فلا نتكالب على الرز وعلى البضائع وعلى ماله علاقةٌ بالمأكل والملبس، فلو آمنا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما شحت المؤن كما ذكر تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96]. لكن لما عارضنا وعصينا، حصل لنا النقص، نقص في الوظائف، وفي العملة، وفي الأرزاق، وهذا بذنوبنا، فنعلم الناس هذا في كل مجلس ونذكرهم، والآن لا يوجد أحد إلا وهو يتكلم في القضية؛ الصغار والكبار، لماذا لا نذكرهم، ونعظهم، ونعظ أنفسنا قبلهم؟ ونقول كلمة الحق، الكلمة التي سيحاسبنا الله عليها، يجب أن نقولها وهي خير لنا وخير للأمة، وخير والله لكل من يسمعها، ونحن نعلم -إن شاء الله- أننا لا نقولها ونريد أجراً عليها، ولا نقولها لنبتغي بها دنيا من الناس أو نريد منهم شيئاً. لكن ما نقولها إلا خالصة لوجه الله، ونصيحة كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليتذكر من تذكر، وليتعظ من يتعظ، فإن أبوا قلنا: معذرة إلى الله؛ فنكون نحن أعذرنا أمام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فهل ترون أنفسكم معذورين أمام الله؟ كل منا يسأل نفسه وإذا كان واحد معذوراً أمام الله فجزاه الله خيراً. أما أنا فأقول: لا أحد منكم معذور، حق علينا ألا ننام هذه الأيام، وألا نهنأ بأكل ولا شرب، ليس والله لأننا نخاف من الموت أو لأن هؤلاء سينتصرون، لا والله، لكن لأن الله سيسألنا عن العلم الذي لم ننشره، وعن الدليل الذي لم نبلغه، وعن الحق الذي لم نصرح به، ولم نقل إلا بعضه، وربما لم نقل شيئاً منه؛ ولو تحرك العلماء والقضاة والمسئولون كلٌ بحسب مسئوليته، وأخبرونا جميعاً من فم واحد بوجوب التضرع والتوبة والإنابة والاستغفار، وأن هذا هو سبب البلاء كما ذكر الله في القرآن؛ والله لتغيرت أحوالنا، ونعذر إلى الله فعلاً. فالمسألة ليست مجرد كتابات، يكتب هؤلاء ويكتب هؤلاء، وليست هي مجرد حرب مادية أيضاً، فيقلق هؤلاء ويقلق هؤلاء، هذه حرب طويلة الأمد. أقول إن القضية ليست قضية مؤقتة، ولا نهايتها قريبة كما يظن البعض، وإن كنت لا أتوقع أنا ضربة قريبة -والله أعلم- لكن أرجح أنه لن تكون هناك ضربة قريبة لا من هذا ولا من هذا، وإنما سيكون الحصار والإنهاك، وهذا يعزز مواقعه، وهذا يعزز مواقعه، البعثيون يحكمون قبضتهم على الكويت، والغربيون يحكمون قبضتهم على الرقعة بأكملها، ثم بعد ذلك سوف يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالفرج من عنده. ولن ينبع الأمل ولن ينبع الفرج إلا من هذا الشباب الطيب المؤمن، إن اتقى الله وعرف واجبه في هذه الأحداث، وبدأ بالمرحلة الأساسية الأولى، ثم انتقل إلى المرحلة الثانية ثم الثالثة حتى لو لم يكن إلا بعد مائة سنة أو مائتي سنة -الله أعلم- لكن المهم: لا بد من يوم ما يتواجه فيه المؤمنون مع هؤلاء الكافرين، لابد! وفي ظل الظروف الآنية نحن نحتاج الموضوع الأول والقاعدة الأولى فقط؛ لأن عليها يبنى كل شيء، وتجاوزها إلى أي شيء آخر خطأ وغلط، ولا يصح أن يقر بأي حال من الأحوال، ومن أراد الأدلة فهي أكثر من أن تحصى.

خطأ من أجاز الاستعانة بالكفر

خطأ من أجاز الاستعانة بالكفر هناك مشكلة أخرى خطيرة جداً، وإننا لا يمكن ولا يجوز أن نسكت عنها، وهي الاستدلال بأدلة غير صحيحة لا تؤدي إلى المطلوب، هذا لا نقوله دفاعاً عن أموالنا -بغض النظر عن رأينا في أي حدث من الأحداث- لكن دفاعاً عن ديننا، ولئلا يفترى على الله، ولئلا يُكْذَب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولئلا يقال على الله غير الحق، ولئلا يظن أحد أن ديننا هذا هزل، هناك من تكلم واستدل ببعض الأمور، فأخطأ الاستدلال، فيجب أن يبين خطؤه، وسوف أوجزها في الآتي:

استعانة الرسول بعبد الله بن أريقط

استعانة الرسول بعبد الله بن أريقط أولاً: الاستدلال بحديث أو بموضوع عبد الله بن أريقط وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان به واتخذه دليلاً إلى المدينة، نقول: إن هذا من باب استئجار الكافر، واستئجار الكافر ليس فيه شيء، والبيع والشراء مع الكفار جائز وهذا متفق عليه، لكن الشركة مع الكفار هل تجوز؟ لا تجوز على القول الصحيح؛ لأن الشركة مشاعر مشتركة بينك أنت والكافر، فمشاعرهم واحدة رأيهم واحد، تأويلاتهم واحدة، فلا تجوز الشركة، لكن الاستئجار هذا سواءً كان استئجار عين أم استئجار منفعة معينة، هذا جائز لأنه ليس على كل شيء كالشركة، والإجارة هي أقرب إلى البيع لكنها بيع مؤقت، واستئجار الكافر ما قال أحد: إنه حرام، فلا يصح أن يستشهد به على مسألة لا يدل ذلك عليها.

معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة

معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة أهل المدينة أو سكان المدينة الأصليون هم اليهود من جهة، والأوس والخزرج من جهة، والبديل والطارئ على المدينة هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرون، فهم جاءوا ودخلوا المدينة، فكأنهم في نظر أهل المدينة محتلون، واليهود والمنافقون كانوا يقولون: "أكرمناهم وآويناهم"، "سمن كلبك يأكلك"، هكذا قال عبد الله بن أبي ثم قال: 'والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل' فنحن آويناهم والآن ارتفعوا علينا! فهذا هو الشاهد: أهل المدينة الأصليون هم اليهود والأوس والخزرج، وأما المهاجرون ومعهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم طارئون على المدينة فكأنهم جاءوا واحتلوها، ثم جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتب المعاهدة، ومن ضمن ما كتب: أن الأمر في المدينة كله -الأمر والنهي- مرجعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا شيء مهم جداً، أي: أن شرع الله هو الحاكم على الجميع، وإذا داهم المدينة عدو، فإن الدفاع -كما نسميه نحن الآن- يكون من الجميع، فهل يعقل أن يتصدى المهاجرون والأنصار للعدو، واليهود قاعدون آمنون، وهم من أهل البلد، وهم مواطنون؟! ولذلك فهي مسألة تختلف تماماً عن المسألة التي نحن نتحدث عنها.

عدم مشاركة المشركين في المعارك مع الرسول

عدم مشاركة المشركين في المعارك مع الرسول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستعن بالمشركين في أية معركة من معاركه أبداً! ولذلك جاء في بيان هيئة كبار العلماء: أن الأمر يرجع إلى الضرورة، والضرورة لها أحكام ولها تفصيل، وليس هذا موضوعنا، لكن موضوعنا نحن فقط هو من ناحية علمية بحتة، فنقول: لم يستعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمشرك في أي حرب من الحروب، بل في صحيح مسلم {أن رجلاً جاء فقال: أريد أن أحارب معك، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع فإنا لا نستعين بمشرك} وهذا حديث صحيح. أما ما نسب إليه مما ذكره الشافعي رحمه الله أو سعيد بن منصور، أنه استعان ببعض يهود خيبر، فهذا الحديث غير صحيح، ولم يستعن بهم وإنما استعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهود خيبر، أي: استخدمهم في الأرض وجعلهم رقيقاً، أما أنه استعان بهم، أي: حارب بهم أو سهم لهم فلا.

استعارة الرسول دروعا للحرب من المشركين

استعارة الرسول دروعاً للحرب من المشركين Q هل استعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دروعاً من الكفار؟ A أولاً: لا! فالحديث الصحيح في سنن النسائي وغيره، وهو بسند صحيح لا شك في صحته أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار من يعلى بن أمية، ويعلى بن أمية صحابيُّ جليلٌ مسلم والحمد لله، لكن ورد في روايات موجودة في السنن والمسند وفي بعض الكتب أنه استعار من صفوان بن أمية وهو مشرك، ولو صحت رواية صفوان كنا سنقول بذلك، لكن الصحيح أنه استعار من يعلى، وليس من صفوان. ثانياً: على فرض صحة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار دروعاً، نقول: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكم الجزيرة العربية، وهو قائد الأمة، وولي الأمة، وجيشه اثنا عشر ألفاً، ولذلك قالوا: لن نغلب اليوم من قلة؛ كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فكانوا جيشاً عرمرماً، والجيش المسلم قد يستعير من فاجر، أو يأخذ من فاجر أو من تجار الكفار دروعاً، وهذا ليس ممنوعاً، هذا لو صحت الرواية، مع أنها ما صحت، لكن نقول فرضاً، الدولة المسلمة يجوز لها أن تشتري من أحد الكفار أو تستعير منه وليس في ذلك شيء، لكن هل هذا يدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان بالكفار أو حارب معه الكفار الآخرون؟ نقول هذا براءةً للذمة؛ لأنه لا يجوز مهما كانت الظروف والضغوط التي علينا أن نبرر لأنفسنا بدليل غير صحيح، لا يصح أن نستدل به في وقت الضرورة، والضرورة مثل الميتة، الميتة أكلها حرام، ولا يوجد دليل يقول: الميتة حلال، لكن في حال الضرورة يجوز أكل الميتة ولا خلاف بين العلماء في حلها عند ذاك. إذاً: متى تكون الضرورة؟ أو هل هي ضرورة؟ فهذا شيء آخر، لكن هل نستدل بدليل ضعيف أو موضوع على شيء؟ لا، فهذه وسيلة في الاستدلال غير صحيحة.

الاستدلال بحديث: (تصالحون الروم)

الاستدلال بحديث: (تصالحون الروم) قد ذكرنا هذا الحديث من قبل، وهو حديث: {الروم وتقاتلون معهم عدواً من ورائهم، فتسلمون وتغنمون، ثم ينقضون} وليس في هذا دليل؛ لأن هذا إخبار عن حال وعن واقع يخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر سيقع، فيقول: أنتم ستفعلون، فهذا لا يدل على أنه حق، وقد يكون هذا بدعة أو يخرج عن الأدلة الشرعية، لكننا سنفعله، وفي النهاية سينقض الروم العهد فيكون القتال. على كل حال العلماء ذكروا أنه إذا كنا في عهد مع عدو، وكنا نأمن غائلتهم، وبشرط أن يمكننا أن نغلب كل منهم على حِدَةٍ، ففي هذه الحالة يجوز، وهي حالات لا أريد أن أدخل في تفاصيلها. مثلاً: أتينا نحارب الفرس، فأتى الروم بيننا وبين الفرس، الروم أيضاً يكرهون الفرس، قالوا: ما رأيكم في أن نحارب معكم، فنقول لهم: أنتم تعالوا من الغرب، ونحن نأتي من الشرق، ونحن نعلم أننا نستطيع أن نغلب الفرس لو حاربناهم وأن نغلب الروم، وأنهم لو اجتمعوا علينا الاثنين أيضاً لغلبناهم، وهذه الحالة أصبحت حالة تكتيكية -والجرائد اليوم علمونا عبارات استراتيجية أو تكتيكية، والتكتيكية تعني: عملاً لا يدخل في صميم الأسس، فهذان عدوان أمامنا، أنا أستعين بهذه، أقول: تحرك أنت من هنا، وأنا من هنا، ونقضي على هذا العدو، لكن نحن لو حاربناهما جميعاً نستطيع أن نغلبهم، فهذه حالة ذكر الفقهاء أنه يمكن أن تستعين فيها بكافر أو يعينك كافر في القضاء على عدو آخر. والمقصود: أننا حتى مهما كانت الضغوط يجب أن نتقي الله، إذا قلنا قال الله، أو قال رسول الله، أو هذا من الدين، أو هذا يجوز وهذا لا يجوز. ويكفي أن نقف عند كلام هيئة كبار العلماء، فقد قالوا: إنها ضرورة، والضرورة لها أحكامها، وأنا لا أتكلم في هذا الآن، لكن نقول: إن أي دليل آخر فإنه غير صحيح.

السخرية من المتدينين وتخويفهم

السخرية من المتدينين وتخويفهم قالوا: إن الكمامات الواقية لا يمكن استخدامها مع اللحية! بمعنى أنها لن تنزع، وهذا قد نشره اليهود، وهذا الكلام تكلم به مسئول في الحاخامية اليهودية -المقر الديني لليهود في إسرائيل- فقال: يجب أن تصحبوا ومعكم مقصات؛ لأنه في حالة كشف الكمامات الواقية، قد يحدث هجوم كيماوي ويختنق كل الناس. ومع الأسف إسرائيل التي سكانها يمكن أن يكونوا خمسة ملايين أو أربعة يمكن أن تجند مليون جندي في خلال أربع وعشرين ساعة! الجيش جاهز، والاحتياط جاهز، والكمامات جاهزة، وكل شيء جاهز! أمة تعيش الحرب، وتعيش حالة الحرب؛ مع أن الانتفاضة تؤرقها من الداخل، ومع أن اقتصادها منهك ومنهار من الداخل، مع أن مجتمعها متفكك ومكون من عدة تجمعات وبها مشاكل كثيرة، لكنها مستعدة في خلال أربع وعشرين ساعة أن يكون بينهم ما يقارب المليون جندي لديهم الجاهزية لأي حرب؛ لذلك وُجِدت إسرائيل، لا لأن اليهود كرماء على الله وأورثهم الله الأرض، لا، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فهل أمريكا صالحة واليهود صالحين؛ ولذا أورثهم الله الأرض؟! لا والله، ولكنهم اتخذوا الأسباب المادية، وغيرهم تركوا الأسباب المادية والمعنوية، وتركوا أعظم الأسباب وهو الإيمان، فلذلك كان هذا حالهم، فكل إنسان في إسرائيل مدرب وقابل للتجنيد. فهذا الحاخام اليهودي يسخر من المسلمين ويقول: ' أنتم يا أهل الدين حتى تتجندوا لابد أن يكون معكم مقصات حتى تلبسوا الكمامات' وعلى كل حال هذا من الإرجاف الذي استغله المنافقون، وبدءوا يتكلمون وانظروا في هذا الإرجاف كيف ينشر في الصحافة الإسلامية، ويتكلم الناس به في المجالس، وقد يقولونه على طريق المزح، وبعضهم يقولها على سبيل الاستهتار، فوصل بهم الاستهزاء بالدين إلى هذا الحد، وأقول: إن هذا يدلكم على أن مشكلتنا فعلاً هي مع الله، وليست مع الغرب ولا مع الشرق، نسأل الله العفو والعافية!

خصائص أهل السنة والجماعة

خصائص أهل السنة والجماعة تحدث الشيخ حفظه الله عن خصائص ومميزات أهل السنة والجماعة، فبدأ حديثه عن اختيار الله عز وجل لهذه الأمة من بين غيرها من الأمم، واختياره لهذه الطائفة على غيرها من الطوائف، وعرض خصائص ومميزات هذه الطائفة، ذاكراً منها: تمسكها بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرها على طريقه، والتزامها بالنصوص وعداً ووعيداً، ووسطيتها في الشرع والأحكام، وخيريتها المطلقة، مثبتاً تحقق هذه الصفات بالأدلة الشرعية.

مميزات أهل السنة والجماعة

مميزات أهل السنة والجماعة إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فنحمد الله تبارك وتعالى الذي جعلنا جميعاً من أهل السنة وفي ذلك اصطفاء واختيار وتكريم من الله تبارك وتعالى لمن كان كذلك، ونحمده أن جمعنا لنعرف بعضاً من خصائصهم ومناقبهم العظيمة، التي ميزهم الله تبارك وتعالى بها على سائر أهل الإسلام. تعلمون أن الله تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار واصطفى أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سائر الأمم والملل يقول تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ويقول الله تبارك وتعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110] ويقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فهذه الأمة أورثت الكتاب، واصطفيت، وكانت خير أمة أخرجت للناس، وهي شاهدة على الناس يوم القيامة، حين يشهد عليها رسولها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد اختص الله تبارك وتعالى واختار من هذه الأمة المصطفاة المختارة طائفة بعينها، هي في هذه الأمة كأمة الإسلام بين أهل الأديان وسائر الملل، وهذه الطائفة هي ما نسميه أهل السنة والجماعة، ولهذه التسمية مدلولها، وبها يتميز المنهج والخاصية العظمى لـ أهل السنة والجماعة، وكما أن سائر الأديان والملل نسخت بشريعة الإسلام وبدين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخاتِم، فكذلك بقية الفرق والطوائف المنتسبة إلى القبلة أيضاً هي في منزلة تلك الملل بالنسبة لهذه الطائفة، أي أن تلك الفرق والطوائف هي مفضولة بالنسبة لـ أهل السنة والجماعة، ثم يتفاوت مقدار ذلك الفضل.

الاعتصام بالكتاب والسنة

الاعتصام بالكتاب والسنة أول ما يميزهم وأعظم خاصية لهم هي أنهم -كما هو واضح من اسمهم- يتمسكون بكتاب الله تبارك وتعالى، وبسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً واعتقاداً ظاهراً وباطناً، فلا يأخذون دينهم واعتقادهم من مصدر غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كائناً ما كان ذلك المصدر، ولا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يرفعون أصواتهم فوق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يرضون أن يرفع أحد صوته فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن يحدث في هذا الدين أمراً مخالفاً لأمره مجانباً لسنته إلا ويرفض ويرد عليه. وبضدها تتميز الأشياء، فإذا قارنت بين هذا المنهج العظيم، وبين غيره من المناهج فإن الفرق يبدو جلياً وواضحاً، ولسنا بصدد تبيان تلك المناهج بالتفصيل، ولكن لو نظرنا نظرة إجمالية لوجدنا أن المناهج في الأصل هي ثلاثة: المنهج الأول: هو ذلك المنهج الذي ينحى المنحى العقلي، والذي يدعي بزعمه تحكيم العقل والمنطق والبراهين والنظريات العقلية. والمنهج المضاد له: هو ذلك المنهج الذي يستقي ويستمد من الكشف، أو من الذوق والوجد، أو غير ذلك من المعايير غير العقلية كمعيار العاطفة، أو معيار الوجدان. وبإيجاز نقول: إن المنحى الأول وهو منحى أهل الكلام عموماً من معتزلة وأشعرية ومن جرى مجراهم، يجعل الدين والإيمان والعقيدة فكرة عقلية، فالإيمان عندهم فكرة عقلية. والمنهج المضاد الآخر هو منهج أهل التصوف والتنسك والتزهد غير المشروع، فهؤلاء يجعلون الإيمان والدين والعقيدة تجربة روحية. ولهذا يصعب حصر الفريق الأول وكذلك الآخر؛ لأن العقول تختلف وتتباين، وكذلك التجارب الروحية الذاتية هي أكثر اختلافاً وأكثر تبايناً. فميز الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فعرفوا للعقل منزله ومكانته، وعرفوا للحقائق والأذواق الإيمانية الحقة قيمتها ومنزلتها، ولكن الحَكَمَ في ذلك كله هو النص من الوحي، من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]. ولم يوجد عند أهل السنة والجماعة تصور معارضة أو تضاد بين العقل الصحيح السليم وبين الوحي، ولا بين الذوق الإيماني الصحيح وبين الوحي، فضلاً عن أن يقولوا كما قال أولئك بأنه عند التعارض يقدم العقل، أو يقدم الكشف، أو يقدم أي شيء غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بل إن من أصول أهل السنة والجماعة الثابتة أن أقوال أئمة أهل السنة والجماعة ابتداءً بالصحابة الكرام ومروراً بالتابعين، ثم الأئمة الأربعة والسلف الصالح أجمعين، -على جلالتهم وقدرهم وفضلهم- لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعارض بها نص من الكتاب والسنة على الإطلاق، فإنما هي بمنزلة بعد منزلة النص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلا يمكن أن يقدموا قول أحد كائناً من كان على قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان صحابياً ذا فضل، أو إماماً مجتهداً مع الاحترام والتقدير لأولئك الأئمة الكرام، فضلاً عن أن يقدموا عليه كلام أحد من المبتدعة الضالين أو أصحاب الكلام، أو أصحاب الأذواق والمواجيد والكشوفات الباطلة، وبهذا تميز منهج أهل السنة والجماعة بالعلم. وهذا ينقلنا إلى الميزة الأخرى.

العلم

العلم فمنهجهم قائم على العلم، فهم في كل أمر وفي كل حكم يطلبون الدليل من الكتاب والسنة، ولهذا نجد أن علماء السنة أجمعين الذين كتبوا، وكذلك الذين لم يدونوا بل سبقوهم؛ نجد أنهم جميعاً من أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة أكثر الطوائف حرصاً على السنة تدويناً لها وحفظاً، وإن وجد من غيرهم من يهتم بها فهو لخدمة هوى في نفسه أو ليخلط حقاً بباطل -ولا يسلم من ذلك- أما أهل السنة والجماعة فإنهم يهتمون بكتاب الله عز وجل حفظاً وتلاوة، ويهتمون بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفظاً وفهماً وتصحيحاً وتضعيفاً، فالحديث الضعيف -فضلاً عن الموضوع- لا يعتد به ولا يعمل به، فضلاً عن الكشوفات أو الآراء أو الخيالات أو المنامات التي يعتمد عليها غيرهم. فهم إذاً يتميزون بالبصيرة وبالمنهج الصحيح، وهو منهج العلم المُتلقى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بواسطة أولئك الرجال الثقات الذين لم تشهد أمة من الأمم على الإطلاق مثلهم في الحفظ والضبط والدقة والفهم والاستنباط.

الوسطية

الوسطية ومما يميز أهل السنة والجماعة ويختصون به دون غيرهم من الطوائف، أنهم أمة وسط، وهذه الوسطية تتجلى في أمور الإيمان والعقيدة جميعاً، فكما أن هذه الأمة -أي أهل القبلة عموماً- جعلها الله تبارك وتعالى أمة وسطاً، فـ أهل السنة هم وسط هذه الأمة وخيارها، وأصحاب المنهج الوسط في هذه الأمة، فلو أخذنا نضرب الأمثلة من أبواب العقيدة والإيمان باباً باباً لطال بنا المقام، ولكن نوجز ذلك بما يتضح به هذا المنهج القويم: فمثلاً في صفات الله تبارك وتعالى نجد أن الطوائف قد ضلت، فمنهم من أثبت وغلا في الإثبات حتى مثَّل الله تبارك وتعالى بخلقه، وهؤلاء هم أهل التمثيل أو التشبيه، وهؤلاء هم كما اعتبرهم السلف الصالح عباد صنم، لأنهم جعلوا صفات الله تبارك وتعالى مماثلة لصفات المخلوقين. وفي المقابل نجد أولئك الذين نفوا صفات الله تبارك وتعالى، وغلوا في التنزيه -بزعمهم- حتى لم يثبتوا له تبارك وتعالى شيئاً من صفاته أو أنكروا بعضاً منها، وهؤلاء كما قال فيهم السلف: [[الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً]] فوصفوا الله تبارك وتعالى بالعدم (بالصفات السلبية). كما نقول في صفة العلو -مثلاً- ونؤمن -نحن أهل السنة والجماعة - كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أن الله تبارك وتعالى على العرش استوى، وأنه فوق جميع المخلوقات، فيقول هؤلاء -أي الممثلة -: استوى كالمخلوقين، ويقول أولئك -أي المعطلة -: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يميناً ولا شمالاً!! نعوذ بالله من الزيع والضلال. وأما أهل السنة فهم وسط، فيثبتون لله كل ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصفات إثباتاً لا تمثيل فيه، وينفون عن الله تعالى ما لا يليق به نفياً لا تعطيل فيه، من غير تحريف، ومن غير تكييف، هذا هو المذهب السليم الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة جميعاً. ولننتقل إلى باب آخر -فمثلاً- في باب الإيمان والأحكام والأسماء، نجد أن بعض طوائف الأمة قد غلت حتى كفرت من يرتكب ذنباً دون الكفر أو الشرك، وأخرجته من الملة، أو حكمت عليه بالخلود في النار، ونجد بالمقابل من استهان وفرط بالأمر حتى جعل أهل المعاصي والكبائر والفجور مؤمنين كاملي الإيمان. فـ الخوارج وتبعهم في ذلك المعتزلة يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر كما تقول الخوارج، أو هو في منزلة بين الإيمان والكفر كما تقول المعتزلة، فغلوا في ذلك فجاءوا إلى كل ما ذكر الله تعالى أو رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعاصي والكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وأمثالها، فجعلوا مرتكب ذلك كافراً خارجاً من الملة، مثل من عبد غير الله تبارك وتعالى، فهذا غلو، رغم أن هذا الغلو كانت تصحبه العبادة، ويصحبه الزهد في الدنيا -كما سيأتي إن شاء الله- فيما يتعلق بهذه الخاصية. وأما المرجئة فإنهم قالوا: إن العبد إذا قال لا إله إلا الله، وشهد لله بالوحدانية وأقر لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة فإنه مؤمن كامل الإيمان وإن عمل ما عمل، وأنكروا أن الإيمان يزيد وينقص، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فكلاهما خرج عن الجادة الصحيحة وعن الصراط المستقيم، وعما جاء صريحاً في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومما هو معلوم -كما لا يخفى على أحد يقرأ كتاب الله عز وجل- أن الله تبارك وتعالى فرق في الحكم بين من يشرك به ويعبد غيره، وبين من يرتكب شيئاً من هذه المعاصي، كما فرق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأدلة كثيرة لا تحصى فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجم الزاني، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر. فلو كانت كل هذه الذنوب ردة وكفراً كالكفر الأكبر الذي هو الخروج من الملة؛ لكان حكم هذه الذنوب واحداً ولا تفريق بينها، وأيضاً نقول للمرجئة: لو كان العاصي والفاجر كامل الإيمان؛ فما معنى تلك الآيات العظيمة التي جاءت في صفات المؤمنين، وفي بيان أحوالهم وصفاتهم وما يتميزون به عن غيرهم، وتلك الآيات القطعية من كتاب الله تبارك وتعالى في بيان أن الإيمان يزيد وينقص، وما جاء كذلك في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فوفق الله تبارك وتعالى أهل السنة فكانوا أمة وسطاً بين هؤلاء وأولئك. وإذا انتقلنا إلى باب آخر من أبواب العقيدة والإيمان، وهو باب القدر الذي ضلت فيه العقول والأفهام التي ابتعدت عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة فكانوا على الجادة والصراط المستقيم فإن القدرية -أي الذين نفوا القدر ولم يثبتوه- غلوا في تحميل العبد للمسئولية عند فعل المعصية، فقالوا: العبد مسئول عما يفعل من المعاصي، وغلو في ذلك حتى قالوا: إن الله لم يقدر عليه هذه المعاصي ولم يخلقها فيه! ثم غلوا حتى جعلوا جميع أفعال العبد هو الذي يستأنفها من عند نفسه، والله تبارك وتعالى لم يكتبها ولم يقدرها عليه!! وغلا بعضهم فقال: لم يعلم بها إلا بعد وقوعها! -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًً- كل ذلك غلو وجموح عن الصراط القويم. فقابلتهم الجبرية فقالوا: لا حيلة للعبد ولا إرادة له ولا اختيار، وغلو في إثبات القدر -بزعمهم- حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا الإنسان كالريشة في مهب الريح لا إرادة له ولا اختيار، فكل الأمور بالقدر، وكل شيء قدره الله، حتى إذا فعلوا المعاصي وانتهكوا حرمات الله قالوا: هذا بقدر الله وليس لنا في ذلك أي ذنب، فهؤلاء وهؤلاء في ضلال مبين. ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة فتمسكوا بصريح القرآن والسنة، فأثبتوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخالق لأفعال العباد كما أنه الخالق لكل شيء لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وفي نفس الوقت أثبتوا أن العبد هو الفاعل، فالعبد هو الذي يفعل أفعاله كما هو في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] فالعبد هو الفاعل والله تعالى هو الخالق، والعبد يفعل بمقتضى مشيئةٍ وإرادةٍ خلقها الله تعالى فيه وأعطاه إياها، ولكن كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]. فالمشيئة التي تنفذ وتتحقق ولا يردها شيء هي مشيئة الله تبارك وتعالى، والعبد مع أن له مشيئة يتصرف بها ويكون مسؤولاً عما تمليه عليه من الأعمال؛ إلا أن هذه المشيئة لا تكون إلا بعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكل ذلك في علمه تبارك وتعالى، فهو كما صرح في القرآن وفي الحديث قد كتب مقادير كل شيء عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] وكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة -كما جاء ذلك في الحديث الصحيح. فـ أهل السنة والجماعة لا يردون أي آية ولا حديث في القدر بحجة أنه يؤدي إلى الجبر، أو يؤدي إلى نفي مسؤولية العبد، بل يوقنون بالجميع، وأما أولئك فإنهم لا بد أن يردُّوا تلك الأدلة فـ القدرية النفاة يردون كل حديث أو آية تدل على إثبات القدر، أو -بزعمهم- تدل على الجبر كقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. وكالحديث الصحيح المتفق عليه في محاجة آدم وموسى عليهما السلام {فقال موسى لآدم: أنت أبونا الذي أخرجتنا من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله تعالى برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى}. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو المسمى حديث الصادق المصدوق الذي يقول في أوله: حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} فأنكروا هذا الحديث، وأنكروا كثيراً من الأحاديث رغم ثبوتها وصحتها، لأنها -بزعمهم- تفضي إلى الجبر. كما أن أولئك الجبرية أنكروا كل ما يدل على استقلال العبد بفعله، وأنه هو الذي يفعل، وبذلك أنكروا كل ظواهر القرآن الصريحة في أنه هو الذي يعمل كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10] فأنكروا أن العبد هو الذي يعطي أو يصدق أو يكذب أو يبخل، وجعلوا الفعل كله لله تبارك وتعالى. والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفَّق أهل السنة والجماعة فآمنوا بكل الآيات وبكل ا

هم الفرقة الناجية

هم الفرقة الناجية ومن خصائص أهل السنة والجماعة التي لا يشاركهم فيها غيرهم أنهم موعودون بالنجاة من عذاب الله تبارك وتعالى يوم القيامة، وذلك مبني على أنهم هم الطائفة المهتدية التي ثبتت على الصراط المستقيم في هذه الحياة الدنيا، وأن غيرهم متوعد بالهلاك وبالعقوبة في الآخرة. وعندما نقول: إن أهل السنة موعودون بالنجاة، وأن غيرهم متوعد بالهلاك، فلا يعني ذلك أن كل فرد من أهل السنة والجماعة هو ممن يدخل الجنة ابتداءً، كما لا يعني ذلك أن كل فرد من غير أهل السنة والجماعة لا يدخل الجنة انتهاءً ولا يدخلها أيضاً ابتداءً، ولكن من حيث الجملة أهل السنة موعودون بالنجاة، ومن حيث الجملة أهل البدع متوعدون بالهلاك، ثم طوائف من أهل البدع ممن خرج عن الملة فهذا حكمه حكم المشركين والمنافقين من أهل النار خالداً فيها مخلداً - نسأل الله السلامة والعافية - ومن كان غير ذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينصب الموازين يوم القيامة، وتوضع حسناتهم وسيئاتهم في كفتي الميزان؛ فما رجح منها فإن الله تعالى لا يظلم أحداً، فهم يدخلون في أهل الكبائر الذين قد تنالهم شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتداءً، وقد تنالهم بعد دخول النار فيخرجون منها. أما أهل السنة والجماعة فمن كان منهم تام الاهتداء في الدنيا؛ فهو تام النجاة في الآخرة كما قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فمن كان منهم تام الاهتداء في الدنيا، تاركاً للظلم الذي هو الشرك -وليس من أهل السنة والجماعة مشرك- وتاركاً للظلم الأصغر الذي هو الذنوب، ومجتنباً للكبائر فهذا يكون ناجياً النجاة الكاملة يوم القيامة. وأما من كان من أهل السنة والجماعة ولكنه على معصية من المعاصي كالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو ما أشبه ذلك؛ فإنه يدخل في الوعيد الذي توعد الله به من فعل ذلك، ولكنه مع دخوله في الوعيد فإن الشفاعة له أرجى -بلا شك- ممن كان من أهل الكبائر من غيرهم؛ فمن كان من أهل السنة والجماعة فهو أرجى وأقرب إلى رحمة الله تبارك وتعالى من غيرهم، وإن كان للآخر على بدعته فضل أو جهاد أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإنه يوزن له في الموازين فأيهما رجح كان له سعادته أو شقاؤه. كما جاء في الحديث: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله قال: الجماعة} وفي رواية {من كان على ما أنا عليه وأصحابي}. فهذا الوعيد لأهل الفرق الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، والذين خالفوا وصية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العاشرة في سورة الأنعام بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] فالذين خالفوا هذه الأوامر وغيرها فإن الوعيد يشملهم، فهم من الاثنتين والسبعين الذين هم متوعدون بالنار {كلها في النار إلا واحدة} هذه الواحدة هي الجماعة وهي أهل السنة والجماعة، وهي من كان على مثل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. فبذلك يبين لنا معنى الوعد الذي وعد به أهل السنة والنجاة التي لهم بالجملة، ومعنى الوعيد الذي لغيرهم، والذي هم متوعدون به في الجملة. وهذا أيضاً ينقلنا إلى قضية المفاضلة بين أهل السنة والجماعة وغيرهم، وهو أن يقال: إن في غير أهل السنة من أهل البدع التي لا تخرج من الملة، لا سيما الشبه العلمية التي قد تخفى على بعض الناس كشبهة القدرية أو شبهة الإرجاء غير الغالي- هؤلاء الناس فيهم من العبادة والزهد والجهاد الشيء الكثير، ولكن نقول: من حيث الجملة: ما من خير ولا حسنة عند غير أهل السنة إلا ولـ أهل السنة من ذلك النصيب الأوفر والكمال في هذه الصفة وفي هذه الخصلة. وأهل السنة والجماعة منهم المجاهدون، ومنهم القراء، ومنهم العلماء، ومنهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ومنهم الحافظون لحدود الله، ومنهم كل أهل المناقب والفضل في هذه الأمة، فخيريتهم مطلقة، وأما غيرهم فإن شاركهم في شيء من هذه الخيرية فإن في أهل السنة والجماعة من هو أكثر منه خيرية ويكون له الفضل الأوفر والنصيب الأكبر، وما كان من سيئة عند بعض أفراد أهل السنة والجماعة، أو معاصٍ فإنه يوجد في أهل البدعة مثلها وأكبر منها.

أنهم يدخلون في الإسلام كله

أنهم يدخلون في الإسلام كله وأهل السنة والجماعة وسط -أيضاً- حتى في أسلوب حياتهم العملي، فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان يلي بعض المناصب، ومن كان -أيضاً- ذا مال وسعة وفضل، وفي أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسوة الكاملة؛ فكان فيهم أهل الثراء وأهل اليسار والغنى، كما كان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أيضاً- أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي من تميز بهذه الصفة دون غيرها من الصفات الأخرى. ثم حصل لمن بعدهم الاضطراب في ذلك؛ فإن فئةً مالت إلى الدنيا وركنت إليها، ولم تتحرج في قبول أي ولاية ولم تتحرج في قبول أي منصب ولا في التوسع في الدنيا والأخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله لنا، فاتسعوا في ذلك اتساعاً أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل من الدنيا والرغبة في الآخرة، وصدق التوجه إلى الله تعالى، ومنهم طائفة مالت إلى العكس فأخذوا بالزهد والتنسك وترك متاع الحياة الدنيا، حتى إنهم حرموا الطيبات، أو على الأقل نظروا إلى من أخذ شيئاً من الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن جادة الحق. وتوسط أهل السنة والجماعة في هذا الأمر يدلنا على خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة وهي أنهم يدخلون في الإسلام كله، ويجمعون الدين كله، وأما غيرهم فإن حاله كحال النصارى الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:14] فهؤلاء نسوا حظاً مما ذكروا به {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14] فوقع بينهم التنازع.

انتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

انتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أعظم ما يميز أهل السنة والجماعة ومن أهم خصائصهم وأجلاها: أنهم منتسبون إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو سألت أي طائفة من الطوائف: إلى من تنتمون؟ ومن أول من أظهر أو من أنشأ عقيدتكم؟ لأخبروك عن رجل ما، إلا أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: هذا ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. فلو نظرنا إلى الخوارج لوجدنا أنه رجل ما، وأنهم خرجوا في زمان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حين التحكيم. والمرجئة خرجت بعد ذلك، ولم يكن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم خارجي ولا مرجئي فضلاً عن أن يكون فيهم رافضي. والرافضة أخبث من الخوارج ومن المرجئة، فـ الرافضة أول من أنشأ أو أسس مذهبهم هو رجل يهودي يسمى عبد الله بن سبأ ثم هم يزعمون أنه منهج أو مذهب جعفر الصادق. والمعتزلة لو سئلوا لقالوا: عمرو بن عبيد أو واصل بن عطاء هو الذي أسس المذهب، والتاريخ شاهد بذلك، وهكذا لو نظرنا إلى أهل الكلام أيضاً نجد أن أصولهم تنتهي إلى أهل الاعتزال. والصوفية يقولون: الجنيد سيد الطائفة، وإن تعمقوا قليلاً قالوا: الحسن البصري. والأشعرية يقولون: نحن ننتمي إلى أبي الحسن الأشعري -قبل أن يتوب-. وهكذا كل طائفة تنتسب إلى رجل ما، ظهر في وقت من الأوقات، ولكن أهل السنة والجماعة لا ينتسبون إلا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا يقال لهم أهل السنة سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يقال: إن أول من أوجد مذهبهم أو أنشأه أو أسسه فلان، بل ليس في مذهبهم أي شيء مما أسس، وإنما هو مذهب اتباع لا ابتداع، فلا يوجد أصل من أصول الدين في مذهب أهل السنة والجماعة إلا وهو مأخوذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن وجد غير ذلك وسمي أصلاً فهذا عند أهل البدعة، أما عند أهل السنة فهو بدعة محدثة، ولا يكون من الدين أبداً، ما دام أنه قد وقع بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعد أصحابه. والمميزات كثيرة، وهذه ليست كل خصائص أهل السنة والجماعة ولا كل مميزاتهم؛ وإنما هي بعض منها، ذكرناها بإيجاز شديد، نظراً لضيق الوقت، والعبرة العظمى التي تفيدنا جميعاً نحن المسلمين هي أن نؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وأن نتمسك بذلك قولاً وعملاً ونعض عليه بالنواجذ، ونعلم أنه لا نجاة لهذه الأمة ولا خير ولا فلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا أن تكون على هذا المذهب السليم القويم، ويتمسكوا به قولاً وعملاً وجهاداً ودعوة، كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والسلف الصالح الكرام الذين ثبتوا عند المحنة، والذين جددوا الدين. والذين من أبرزهم الأئمة الأعلام كالإمام أحمد رحمه الله تعالى، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في العصور الوسطى، ثم شَيْخ الإِسْلامِ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في العصر الأخير، وكل من سار على نهجهم وهم كثير -ولله الحمد- فهؤلاء معقود لهم لواء النصر إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم أيضاً موعودون بالنجاة في يوم القيامة عند الله تبارك وتعالى كما أخبر بذلك الصادق المصدوق.

الأسئلة

الأسئلة

توقير أهل البدع

توقير أهل البدع Q هل من مذهب أهل السنة والجماعة أن يكنوا لصوفي أو معتزلي أو أشعري شيئاً من الاحترام أم ينبغي علينا ألا نحترمهم؟ A روى اللالكائي وغيره بأسانيد صحيحة عن أيوب وغيره من السلف ومن التابعين أنه قال: [[من وقرَّ صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام]]؛ لأن توقير أهل البدع هو رفع لشأن البدعة، وهدم لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقديم بين يدي الله ورسوله، ورفع لصوت أحد من الناس فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لا يكون أبداً.

منهج أهل السنة في الحكم على الرجال

منهج أهل السنة في الحكم على الرجال Q من وقع في بعض البدع مع سعيهم لنشر السنة؛ فهل يعد من أهل السنة أم لا؟ مثل الإمام النووي وابن حجر العسقلاني وغيرهما؟ A أولاً: نحن مع أننا لا نوقر صاحب البدعة ولا نقدره إلا أننا ننهج معهم منهج السلف الصالح كذلك، فإن أهل السنة والجماعة لا يظلمون أحداً، لا مبتدعاً ولا غير مبتدع، فلو وجد في أهل البدع -كما أشرنا- صاحب جهاد أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإن ذلك رغم ما فيه يذكر. والسلف الصالح يقولون عن عمرو بن عبيد: إنه كان زاهداً، ولم يقولوا عنه: أنه كان مترفاً، وأثبتوا حتى لـ معبد الجهني أنه كان من العباد رغم أنه ابتدع القول بالقدر، فهم لا يظلمون أحداً، ويقولون عن الخوارج: إنهم أصدق الناس -الأولون منهم بالذات- وإنهم لا يكذبون؛ فلم يظلموهم، وعندما قالوا: إن الرافضة أكذب الناس فلم يظلموهم، فنحن لدينا منهج لا يظلم، لأنه من الوصايا العشر التي أوصى الله تبارك وتعالى بها في سورة الأنعام قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] ويقول في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] فهذه الشهادة لله عز وجل، والقوامة بالقسط أولى الناس بها وبالعدل هم أهل السنة والجماعة. ثانياً: هل الإمام النووي وابن حجر من أهل البدع حتى نقول: بماذا نحكم عليهما؟ الواقع أننا قد أشرنا إلى شيء من ذلك حين قلنا: إنه يوجد من أهل السنة والجماعة من له ذنوب وأخطاء، فالإمام النووي والإمام ابن حجر رحمهما الله تعالى هما من أهل السنة، ولكن لهما أخطاء، ومن الذي قال: إن الرجل إذا كان سنياً فإنه معصوم لا يقع في خطأ من الأخطاء في الاعتقادات أو في الأحكام أو في الأعمال؟ لا يقول بذلك أحد من أهل السنة والجماعة. ولكن نقول: قد يكون الرجل من أهل السنة والجماعة ويوافق بعض المبتدعة في أمر من الأمور دون أن يعلم، أو يعلم ولكن يظن أن ذلك هو الحق وأن ذلك لا ينافي كونه من أهل السنة والجماعة فمن لم يضاد السنة ويحادّها بل كان متبعاً لها، ومحكماً لها، ومؤمناً بها، ويسعى جاهداً في ذلك ولكنه أخطأ؛ فإننا نرجو أن يغفر الله له خطأه وتأويله واجتهاده، ولكن لا نأخذ ذلك الخطأ علمياً وإنما نلتمس له العذر. فالإمام النووي وابن حجر هما من أكبر الأعلام المشهورين الذين خدموا سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وماكان منهما من أخطاء فنرجو أن يغفرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهما، فهي كالقطرة في بحر ذلك العلم والخدمة لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليسوا من أهل البدع بل ورد عنهم الذم لأهل البدع، في كتبهم المشهورة المتداولة. فإذاً: الإنصاف والحق أن نقرأ كتبهم ونعلق على ما فيها من أخطاء، كما فعل سماحة الشيخ علامة العصر عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في فتح الباري حيث علق عليه؛ وهذا ينبغي أن يكمل وتكمل فوائد باقي الكتب، وهي كتب عظيمة لا يستغنى عنها، فما فيها من خطأ يعلق عليه ويبين، فلا إجحاف ولا غلو، ولا إفراط ولا تفريط.

سبب توبة المتكلمين

سبب توبة المتكلمين Q ما سبب تألم بعض المتكلمين في آخر حياتهم، حتى إن بعضهم تمنى إيماناً كإيمان العجائز؟ A سببها أن من لم يكن على هدي الله تبارك وتعالى، وعلى سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن يحار وأن يضطرب وأن يتخبط، ولهذا فإن من كانت لديه فطرة سليمة فإنه يعود في آخر عمره كما عاد أبو محمد الجويني، وكما عاد ابنه أبو المعالي الجويني، وكما عاد أبو حامد الغزالي، وكما عاد الفخر الرازي، وأمثالهم ممن رجع إلى الدين الصحيح وإلى العقيدة السليمة قبيل وفاتهم بزمن قد يطول أو يقصر، وإنما تمنوا دين العجائز لأنه الدين المتلقى بالفطرة، ودين العجائز بالنسبة لما كانوا عليه من علم الكلام نعمة ورحمة. لكن أهل السنة والجماعة لا يتمنون دين العجائز، وإنما يتمنون دين وإيمان الراسخين في العلم، لأن دين العجائز عند أهل السنة والجماعة أدنى مراتب الدين، إذ هو مجرد التسليم أو مجرد علم، لكن ليس هناك حقائق تفصيلية فيه.

الإيمان عند أبي حنيفة

الإيمان عند أبي حنيفة Q ما حقيقة الخلاف بين أهل السنة والجماعة والإمام أبي حنيفة في مسألة الإيمان؟ A أولاً: ورد عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه رجع عن قوله في الإيمان ذكر ذلك ابن عبد البر في التمهيد. ثانياً: الإمام أبو حنيفة ومن تبعه في مسألة الإيمان الخلاف بينهم وبين السلف لفظي من وجوه، وحقيقي من وجوه، فأما كونه حقيقياً فإن أبا حنيفة وأصحابه يسمون صاحب الكبيرة مؤمناً، ويطلقون عليه كمال الإيمان، وينكرون زيادة الإيمان ونقصانه، وغير ذلك. وأما كون الخلاف لفظياً فإنهم يتفقون مع أهل السنة في الحكم والمآل فيقولون: صاحب الكبيرة معرض للعقوبة ومع هذا فهو تحت المشيئة، وكذلك تارك الأعمال الواجبة مؤاخذ ومعرض للعقوبة، وهو تحت المشيئة. إذاً فالخلاف في المآل والآخرة خلاف لفظي أو صوري.

سبب تكفير الرافضة للصحابة

سبب تكفير الرافضة للصحابة Q ما الذي أدى بـ غلاة الرافضة إلى تكفير الصحابة رضوان الله عليهم؟ A الذي أدى بهم إلى ذلك الزندقة، فقد كانوا في زندقة ونفاق، وكانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام -كما كان أولهم عبد الله بن سبأ اليهودي -فهؤلاء كانوا حاقدين على الإسلام الذي هدم مملكة الفرس وقضى عليها، وقضى على اليهود والنصارى، فحقدوا على الإسلام وعجزوا عن أن يقاوموه بالقوة العسكرية فلجأوا إلى النفاق، لأنهم لو جاءوا إلى المسلمين وقالوا: إن القرآن كَذِب، لقاتلهم المسلمون وما قبله منهم أحد، فجاءوا بحيلة أخرى وقالوا: إن الصحابة كاذبون فاجرون، والقرآن جاء عن طريقهم، فإذا كانوا فاجرين أو كافرين أو كاذبين فإن شهادتهم مردودة، وما نقلوه باطل. وبهذه الحيلة يتوصلون إلى هدم الإسلام عن طريق تكفير الصحابة الكرام، ولهذا خرجوا عن سائر فرق الأمة، وتفردوا بما هو معلوم من النفاق والزندقة، والقول بتحريف القرآن، وأن الصحابة كفار، وعدم الاعتراف بالسنة التي نؤمن بها كالصحاح وغيرها من كتب السنة، فتميزوا بكل ذلك، وأصبح لهم منهجهم الخاص الذي خرجوا به عن الجادة، وفي كثير من الأمور عن الملة نسأل الله العفو والعافية.

وجود الخوارج والمرجئة في هذا العصر

وجود الخوارج والمرجئة في هذا العصر Q هل يوجد في هذا الزمن خوارج ومرجئة؟ A يوجد في هذا الزمان الذين حكموا العقول والأهواء، وهذا يشمل جميع أهل البدع. وأما الخوارج فإنهم متواجدون، وكذلك يوجد من ينادون بالإرجاء على المستوى العلمي والعملي بدون قصد أو فقه لحقيقة الإرجاء، ويوجد الذين يعالجون الدين بالمنامات والكشوفات وهؤلاء كثرة، والإلحاد والعصرية الحديثة التي جاءت في هذا الزمان والماديات والنتائج الوضعية المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تدخل تحت هذا أو ذاك، إما أنها مناهج ومذاهب عقلية كـ الماركسية مثلاً والشيوعية والقومية فتدخل ضمن مخالفة ومعارضة الدين بالعقل المزعوم، وإما أنها مذاهب روحانية أٍو باطنية ذاتية داخلية كـ الوجودية والمذاهب الأدبية الأخرى، فهذه تدخل ضمن معارضة الدين بالتجارب الروحية أو التجارب العاطفية أو الأدبية أو الوجدانية، فمهما تجددت الضلالات فإنها لا تخرج عن هذه المذاهب؛ لكن كان قصدنا بيان تميز أهل السنة عن غيرهم ممن ينتسبون إلى الإسلام وإلى القبلة.

فرق الإسلام

فرق الإسلام Q هل أهل هذه العقائد من معتزلة وأشاعرة كفار أم مسلمون؟ A أقول: إنهم متوعدون بالعقوبة والهلاك، وإن هذا الحكم الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهم هو الحكم المجمل، وأما عند التفصيل فمنهم صاحب الهلاك الكلي كـ غلاة الشيعة وغلاة الخوارج -مثلاً- فهؤلاء خرجوا من الملة -نسأل الله العفو والعافية- ومنهم من كان أقل من ذلك؛ كمن كان من الشيعة مقتصراً على تفضيل علي على الشيخين مثلاً فهذا لا يخرج من الملة. وكمن كان لديه شبهة المرتبة الرابعة من مراتب القدر -فقط- وهي مرتبة الخلق مع إثباته للعلم والكتابة والمشيئة، وأمثال ذلك مما قد يقع الإنسان فيه، ولا يكون بذلك خارجاً من الملة، فهذا صاحب كبيرة وهي أكبر من الكبائر العملية، أي أنها أكبر من كبيرة صاحب الزنا والسرقة أو شرب الخمر لأنها كبيرة اعتقادية. ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم القبول والتوفيق، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

قواعد وضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قواعد وضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل خصائص الأمة الحية، ومن أهم مقومات بقائها، وفي هذه المادة يتناول الشيخ بعض القواعد اللازمة للقيام بهذا الواجب على الوجه الصحيح، مشيراً إلى الخطأ الحاصل في فهم بعض هذه القواعد وتطبيقها، وسعى خلال ذلك إلى تصحيح المفاهيم المتعلقة بهذه القواعد.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجاهد في الله حق جهاده حتى لحق بالرفيق الأعلى، وعلى أصحابه الكرام الذين اهتدوا بهديه، وتمسكوا بسنته، وجاهدوا في الله كما جاهد حتى وصل إلينا هذا الدين، فنحمد الله تبارك وتعالى على نعمة الإيمان، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من التابعين لأولئك السلف الكرام، إنه سميع مجيب، وبعد: فإن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهو من أولى وأوجب ما ينبغي أن يتحدث عنه الدعاة والوعاظ والخطباء، فهو واجب من الواجبات التي شرعها الله تبارك وتعالى، بل هو واجب يترتب على تحقيقه واجبات كثيرة، بل كل الواجبات إذا تأملنا نجد أنها لا تتحقق، وكل المنهيات لا يُنتهى عنها إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى هذه الأمة المباركة فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] ثم عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد هذه الآية فوصف حال هذه الأمة، وأفضليتها وخيريتها فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدم على الإيمان بالله. وكل المسلمين يعلمون أنه لا شيء يتقدم على الإيمان بالله، فلماذا قُدِّم في هذه الآية؟ ذلك لأن الآية تتحدث عن الخيرية والأفضلية، وعن الميزة والخاصية التي تتميز بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم، فقدم فيها الخاص، ثم ذكر بعد ذلك الأمر الأساس الذي لا يقبل بدونه أي عمل، ولهذا عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بوصف حال أهل الكتاب الذين كان من طبعهم أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79] فعقب على هؤلاء القوم بعد ذلك فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران:113]. فبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم ليسوا كلهم بهذه المثابة، وإنما فيهم من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأولئك وصفوا بالإيمان ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي الحالة الطبيعية، وهذا هو الوصف العادي الذي توصف به الأمم جميعاً، لكن هذه الأمة لأنها أُخرجت للناس لتخرجهم من الظلمات إلى النور، ولأن رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسالة للعالمين فهي أولاً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فهذا ما يميزها، وهذا ما تختص به دون غيرها من الأمم التي قَصَّرت في ذلك أو كانت دونها.

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقيقة الدين

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقيقة الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تعرف أهميته من معرفة حقيقة هذا الدين، ومعرفة حقيقة دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي شيء دعا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإذا عرفنا أن هذا الدين يقوم على أساس لا إله إلا الله، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل نبي قبله- إنما جاء ليدعو الناس إلى هذه الكلمة، وإنما جاهد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل تحقيق التوحيد الذي هو لا إله إلا الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. فلا إله: هذا النفي نبذ للشرك ولكل ما يتبعه من المعاصي والمنكرات. وإلا الله: هذا الإثبات تحقيق للتوحيد. والتوحيد هو المعروف الأكبر، والشرك هو المنكر الأكبر، ثم بعد ذلك تكون البدعة هي المنكر الذي يلي الشرك ثم المعاصي المعروفة. فإذا علمنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش حياته كلها ومعه صحبه الكرام يدعون إلى توحيد الله، ويأمرون بالسنة، وينهون عن البدعة، ويأمرون بالطاعة وينهون عن المعصية، عرفنا أن حياتهم كلها إنما كانت أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهكذا من سار بعدهم واقتفى منهجهم.

من آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولما وقعت غربة الإسلام، واندرست معالمه، وأصبح المسلم يعيش كالقابض على الجمر، وتفشت المنكرات نتيجة تقصير الأمة وإخلالها بهذا الشأن، وكأن ما حل ببني إسرائيل قد وقع بها -ونعوذ بالله أن تنزل بها اللعنة كما نزلت بأولئك- فلقد نسينا أن الله تبارك وتعالى قد خصنا وميزنا بذلك، ونسينا أن الجهاد الذي هو أعلى درجات التضحية والفداء إنما هو من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا لما قال عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] وصفهم بعد ذلك بآية، فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]. فالإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حال الضعف وفي حال بداية الدعوة، وهو -أيضاً- يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في حال التمكين وفي حال القوة، وحسبنا أن نعلم أنك -أيها المسلم-! دائماً في حالة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقل ما يجب -الواجب العيني- هو أن تأمر نفسك بالمعروف وأن تنهاها عن المنكر، فهذا فرض عين على كل مسلم. ثم بعد ذلك كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه} ثم الدرجة الثالثة التي أصبحت هي ذاتها مفقودة إلا عند من رحم الله وهي الإنكار بالقلب. ففرض عين على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر في نفسه وفيما تملك يده، في بيته وإدراته، ومدرسته، وفي كل ما له عليه سلطة وولاية ومقدرة على التغيير باليد، وفرض على الأمة جميعاً أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. أقول: لما غابت هذه الحقائق عن الأمة أصبح المؤمن يعيش في حال الغربة، وأصبحت السنة بدعة، والبدعة سنة، وأصبحت بعض المعاصي علامة على أن الإنسان حسن الأخلاق، أو مهذب الطباع، أو اجتماعي، أو غير متشدد أو متزمت، وأصبحت الدعوة إلى ترك بعض المنكرات الظاهرة علامة على أن هذا الإنسان فيه وفيه من الصفات التي لا تليق، وليست بصفات مدح على أي حال. فكيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وما هو العلاج؟

أهمية توضيح قواعد وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أهمية توضيح قواعد وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحن في هذا الدرس لا نريد أن نتحدث عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذاته، وعن وجوب ذلك، وعن فرضيته، ولكن الحديث إنما هو عن شيء من القواعد أو الضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد تقولون: وهل يحسن أن نتحدث عن القواعد والضوابط مع قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهل وصل الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حد الانتشار والعموم الذي يحتاج إلى أن يوضع له قواعد وضوابط؟ فأقول: الحق أن الأمة ما تزال في غيبوبة عن هذا الأمر إلا من رحم الله تبارك وتعالى، ولكن ذلك لا يعني أن نغفل عن هذه القواعد والضوابط الشرعية، التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل من أسباب ذلك وجود توبة وعودة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من قبل الشباب ومن قبل الشيوخ -الذكور والإناث- فأصبحت الأمة الإسلامية على أبواب فجر جديد بإذن الله تبارك وتعالى، وأصبحنا نرى أن ما تعيشه الأمة من واقع مظلم، إنما هو ظلمة ما قبل بزوغ الفجر، وإنما هو مخاض تعقبه ولادة جيل لا تأخذه في الله لومة لائم. هذا الذي نؤمله ونرجوه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحققه. ومن أجل هذا الجيل الذي نترقب أن يوجد، ومن أجل هذه القلة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، نريد أن يكون الطريق أمامها واضح المعالم، حتى يكتب لها الأجر كاملاً بإذن الله، وحتى لا تخطأ أو تضل في هذا الأمر، فيكون منكراً آخراً وانحرافاً جديداً يحتاج إلى تصحيح، وإلى أمر بمعروف ونهي عن منكر. والحق أقول لكم: إن هذه القواعد والضوابط تحتاج إلى أكثر من رأي وأكثر من اجتهاد، لأنها مسائل تتبع في الغالب المصالح التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمصالح متجددة بحسب العقول، الأزمان، والأحوال، ولهذا ينبغي لنا جميعاً أن نجتهد وأن نفكر، من كان مستطيعاً لذلك ليصل بإذن الله إلى ما يحقق المصالح، وإلى ما يدفع المفاسد في هذا الجانب، ولكن لا يمنع ذلك أن نبدأ بخطوة أو خطوات. ولعل الله تبارك وتعالى -وهو على كل شيء قدير- أن يبارك في كل الإخوان العاملين في هذا الشأن بأن يتموا ذلك، وأن يستدركوا عليه، فهذا واجبنا جميعاً.

الدعوة جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الدعوة جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأول ما نضعه من هذه الضوابط والقواعد: أن نعلم أن الآمر بالمعروف وأن الناهي عن المنكر إنما هو داعية إلى الله تبارك وتعالى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جزء من الدعوة، وإن شئت فقل هو الدعوة كلها ولا غضاضة. فليس المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: التشفي أو الثأر أو الانتقام من هذا الواقع المر، أو من هؤلاء العصاة وإن جاروا وإن بغوا على أهل الحق والخير، وإنما هو جزء من الدعوة إلى الله، فالصبر فيه صبر على الدعوة إلى الله. وطلب العلم من أجل ذلك واجب. والحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة؛ لأن الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن كما بين الله ذلك. أي أننا نستطيع أن نقول: إن كل ما ينضبط به منهج الدعوة إلى الله ويقوم عليه، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً يتقيد بتلك الضوابط، وينضبط بتلك القواعد.

فقه الأولويات

فقه الأولويات والأمر الثاني: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أولويات؛ فلا بد أن نقدم المنكر الأكبر في الإنكار، ثم المنكر الأصغر منه. وحياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها شاهدة على ذلك، حيث بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يزنون، ويئدون البنات، ويشربون الخمر، ويقطعون الأرحام، ويأكلون الميتة، ويشركون بالله تبارك وتعالى ويعبدون غير الله. فبماذا بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوته وإنكاره على المشركين؟ لقد بدأ بالنهي عن الشرك أولاً. فإذاً نبدأ بإنكار الشرك، لأن الشرك هو المنكر الأكبر، وهو الذنب الأعظم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ونحن دعاة وهداة نريد أن ندعو الناس إلى طريق الجنة. فلنبدأ إذن بإنكار الذنب الذي لن يصلوا أبداً إلى طريق الجنة وهم مرتكبون له، ونوضح لهم ذلك، وإذا كان ذلك يستلزم منا العلم فلنتعلم. فيجب أن نتعلم ما هو التوحيد وما هو الشرك، وما هي أنواعه، وما هو الشرك الأكبر وما هو الأصغر، وما هي أحكامه، وما هي ذرائعه، ووسائله التي تُوصل إليه. وذلك لأن الذرائع والوسائل لها حكم المقاصد، فننكر المنكر الأكبر، وننكر ما يؤدي إلى المنكر الأكبر، وهذه هي الدرجة الأولى، فإذا كان الداعية في أمة فليبدأ بذلك، وإذا كان مع فرد فليبدأ بذلك. فمثلاً: رجل يدعو غير الله عز وجل، ورجل يتحاكم إلى الطواغيت، ورجل يذبح لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ أول ما نهتم به بأن ندعوه إليه هو أن يتخلى عن هذا الشرك، وأن يسلم قلبه وروحه لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فيجب أن نهتم بأن ندعوه أولاً إلى تحقيق التوحيد. أرأيتم لو أن أمة من الأمم تعبد الأضرحة والقبور، وتدعو غير الله، وتستغيث بغير الله، وتذبح لغير الله، وتتحاكم إلى غير شرع الله تبارك وتعالى، ومع ذلك نجد أنها تملأ المساجد للصلاة، ونجد أن وعاظها ينكرون الزنا، وشرب الخمر، ويجتهدون في ذلك، هل ترون هذه الأمة يمكن أن تصل إلى أن تكون من الأمة التي فضلها الله على العالمين؟ أو أن تلك الدعوات ستنجح في أن تصبح هذه الأمة كذلك؟ لا مهما دُعي ومهما تُكلم عن تلك الفروع فلا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال أن تكون من الأمة التي لها الخيرية على العالمين. فكل دعوة إصلاحية أخلاقية لم تقم على الأمر بالمعروف الأكبر وهو التوحيد، وعلى النهي عن المنكر الأكبر وهو الشرك، فإنها دعوة مخفقة لا تنجح بأي حال من الأحوال. وكذلك الفرد: فلو دعوت إنساناً من هذا النوع فحافظ على الصلاة، وترك الخمر والزنا، ولكنه يدعو غير الله، ويحلف بغير الله، ويعدل بالله تبارك وتعالى غيره، ويعترض على قضاء الله، وما أشبه ذلك مما يخل بالإيمان والعقيدة، فنجده يصلي لله، ولكنه لا يدري أين الله -كما يقول بعض الناس إنه في كل مكان- وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخبرنا أنه على العرش: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهو فوق المخلوقات على العرش، فإذا صلى هذا الرجل وتهجد وتعبد ولكنه يتعبد لإله يظنه في كل مكان، فإن هذا الإنسان لم يحقق حقيقة الإيمان. إذاً نقول: إن البدء بالعقيدة، والتوحيد هو الأساس حتى نعبد الله تبارك وتعالى على بصيرة وبرهان، ومن هنا كانت هذه هي البداية التي لا تُتجاوز، وبعد ذلك ينطلق الإنسان. فالإنسان العاق لوالديه -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهو أيضاً قاطع لرحمه من الأقربين، نبدأ معه في الدعوة والإصلاح والإنكار بالحق الأعظم، لأنه ليس لأحد بعد الله تبارك وتعالى حق أعظم من حق الوالدين، وحقهم قبل بقية الأرحام، والجار، وسائر الحقوق. فإذا أردت أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر، فرتب هذه الحقوق، ورتب أنواع المعروف، وكذلك رتب أنواع الشرك، وأبدأ بالأهم ثم الأهم. ولا يمنع ذلك أن تبدأ دعوتك بالمحبة وبالحكمة وبالحسنى، ونحن نقول: إنها جزء من الدعوة إلى الله، لكن يكون الاهتمام هو أن أغير المنكر الأكبر عنده، وأن أزيل عنه هذا المنكر، حتى إذا بقيت عنده كبائر فهي أهون من المنكر الأكبر، وهي كبائر أسعى إلى تغييرها، ولكن بعد أن أكون قد اطمأننت إلى أن المنكر الأكبر قد قضي عليه، وأنه لا وجود له.

أهمية الدعوة إلى التوحيد في المجتمعات التي يقل فيها الشرك

أهمية الدعوة إلى التوحيد في المجتمعات التي يقل فيها الشرك والمجتمعات التي يقل أو يختفي فيها الشرك بوضوحه -الشرك الأكبر المخرج من الملة- يجب ألا تغفل هذه القضية، وأنا أنبه إلى هذا لأننا مغزوون، ولأن المجتمعات التي ورثت التوحيد وهي عليه بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بفضل الذين قاموا بدعوة التوحيد التجديدية مع ذلك هذه المجتمعات تغزى، والقلوب إذا طال عليها الأمد تقسو، والغفلة تعتري الناس، والشيطان يوسوس، وإلا فقد كانت الأمة كلها على التوحيد، حتى حدث الشرك في قوم نوح. إذاً لا نطمئن ونقول: دعونا من هذا الكلام، والآن نتكلم في الربا والزنا والخمر، وما أشبه ذلك، ونترك التوحيد والشرك، فهذا الكلام خاطئ، لابد أن ندعو إلى ذلك حتى الذين لا شرك فيهم، ونذكرهم ونذكر أنفسنا بذلك، ولذلك قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136]. وهنا يلاحظ الثبات على الإيمان، والاستمرار عليه فهو الأساس، وبعد ذلك على هذه القاعدة تقوم جميع الطاعات، ولو أننا عرفنا حقيقة التوحيد، ولو أننا اجتنبا المنكر الأكبر الذي هو الشرك لما أكلنا الربا، ولا رضينا بالخمر، والزنا أبداً.

علاقة المعاصي بالشرك

علاقة المعاصي بالشرك ولننظر إلى الذي يأكل الربا لماذا يأكله أليس لأن قلبه قد غلب عليه حب الدنيا؟ فهو يأكل الربا، والرشوة وأمثال ذلك من المنكرات التي يرتكبها، وهو يعلم أنها حرام؛ لأن القلب في الحقيقة ضعيف الإيمان، أو فاقد الإيمان، ولهذا آثر الحياة الدنيا على الحياة الأخرى، وأتبع نفسه هواها. فإذاً ابدأ معه وذكره بالأساس، وإن كان يقول أنا على التوحيد وعلى الإيمان ولا شرك عندي، فنقول له: هل نسيت شرك الإرادة؟ وهل نسيت شرك المحبة؟ فإن محبة الشيء محبة شيء إذا تغلغلت في القلب، حتى طمست على محبة الله ورسوله فإنه شرك، وإذا أريد عمل أمر ما يقدم على أمر الله ورسوله فهذا شرك خفي. فإذاًَ لا بد أن نعرف أن كل منكر له أساس من الشرك، بل قد كان بعض السلف يطلق على كل الذنوب شرك، ولا يقصد أنها تخرج صاحبها من الملة كما فعلت الخوارج، وهذا معلوم ونحن لا نكفر من يشرب الخمر، أو يأكل الربا، أو يزني، فمذهب أهل السنة والجماعة أنه مسلم لكنه ليس لديه إيمان، فالإسلام فوقه درجة هي درجة الإيمان، والإيمان فوقه درجة هي درجة الإحسان، لكن بعض السلف سمى الذنوب جميعها شرك؛ لأن أصلها جميعاً هو اتباع الهوى، فمن اتخذ إلهه هواه فقد أشرك بهذا الشرك الخفي، وإن كان لا يأخذ حكم الشرك الظاهر الذي يخرج من الملة. فهذه القاعدة يجب أن نتنبه لها ونحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعو إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى. والقواعد والضوابط التي يجب الاهتمام بها في حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي:

القاعدة الأولى: البدء بإنكار المنكرات الظاهرة

القاعدة الأولى: البدء بإنكار المنكرات الظاهرة أولاً: أن نبدأ بإنكار المنكرات الظاهرة، أو بعبارة أخرى: أن نهتم بإنكار المنكرات الظاهرة أكثر من اهتمامنا بإنكار المنكرات الخفية والمستترة. وهذه القاعدة تحقق المصالح جميعاً، حيث تحقق القضاء على المنكر الظاهر، وتحقق القضاء على المنكر الخفي، ولكن بعض الدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لا يفطنون إلى ذلك، ولو نزلنا إلى أرض الواقع، وتأملنا فيما حولنا في المجتمع، واتخذنا أمثلة على ذلك لوجدنا أن هذا الأمر واضح جلي. ماذا تقول الأمة المؤمنة في الصلاة؟ سيقولون: إنها واجبة ولا شك، فالصلاة لا يجادلك فيها إلا من مرق من الدين، لكن المقصود أن الصلاة ليست موضع نقاش. ولكن صلاة الجماعة نجد أن الأمر أقل فيوجد من يناقش فيها، ويوجد من يحافظ على الصلاة ولكن في بيته، ويوجد من يشرب الخمر، ومن ينشئ مصانع للخمور ويوزعها، ويوجد من يهرب المخدرات. فإذا أردت أن أدعو إلى الله عز وجل، وأردت أن أقضي على الخمر، والمخدرات وترك الصلاة، فما الذي أبدأ به؟ ونحن هنا نعني ترك صلاة الجماعة أولاً ولندع الحديث الآن عن الصلاة ذاتها، لأن تارك الصلاة الذي لا يصلي أبداً هذا كافر لا حظ له في الإسلام، لكن نتحدث عن الذين يتركون صلاة الجماعة ويقولون: نصلي في البيت، أو بعد نصف ساعة، أو بعد قليل. أي الأمرين أولى بالإنكار: أن أذهب إلى هؤلاء الذين في المقاهي أو على الطرقات ولم يحضروا الجماعة فأنكر عليهم، أو أن أذهب لأتتبع مصنعاً من مصانع الخمر لأقضي عليه؟

أسباب الابتداء بإنكار المنكرات الظاهرة

أسباب الابتداء بإنكار المنكرات الظاهرة أنا أقول: لو قارنا لظهر لنا الأمر: إن الواجب في الحقيقة هو أن نبدأ بالقضاء على المنكر الظاهر، فالمنكر الظاهر شيوعه وانتشاره مما يوجب غضب الله تبارك وتعالى ومقته، وأما المنكر المستتر فإنه مستتر بذاته وما يزال دون درجة الشيوع، وإنما يظهر ويشيع المنكر المستتر إذا تركت المنكرات الظاهرة حتى تصبح معروفاً، فإذا أصبحت المنكرات الظاهرة معروفاً انتقل المنكر المستتر إلى أن يصبح منكراً ظاهراً، وهكذا الحال. ونحن في هذا المجتمع عايشنا هذا الأمر، بل كل العالم الإسلامي، فقبل ثمانين أو سبعين سنة أو ما أشبه ذلك لم يكن في العالم الإسلامي وفي جزيرة العرب بالذات من يحلق لحيته أبداً، وأول من علمنا هذه العادة هم الغربيون -الإنجليز وأتباعهم- لما جاءوا إلى بلاد المسلمين، فالناس في المدن والقرى لا يفعلون هذا المنكر الظاهر. مثال آخر: التدخين كيف كان حال الذي يدخن قبل أربعين أو ثلاثين سنة، كان منكراً ظاهراً كبيراً لكن لما سُكت عن هذين المنكرين، ووقع ما وقع في شأنهما، حتى أصبحا الآن كأنهما شيء مباح، وعند الذي ينكر المنكر أصبحت أقل شأناً؛ لأن التهاون وقع بل أصبح عند كثير من الناس أن الإنكار أو الحديث عن هذه الأمور أمر لا قيمة له. فإنسان يتحدث عن حلق اللحية والتدخين إنسان متخلف! والذي يتحدث عن غطاء الوجه، وأنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها متزمت، ونجدهم يقولون لك: يا أخي! نحن الآن في أمور أخطر من هذا، وأنت تكلمنا في هذه الموضوعات. أما لو كلمت هذا الإنسان عن الزنا، لقال: نعم لا بأس بهذا. لكن لماذا ينتشر الزنا؟ ومتى يصبح الزنا منكراً ظاهراً؟ إنما ذلك إذا أصبح التبرج هو المعروف، فإذا أصبح التبرج معروفاً في المجتمع صار الزنا منكراً ظاهراً، ثم بعد ذلك يتحول الأمر فيصبح الزنا هو المعروف -عياذاً بالله- ثم تستمر نفس العملية، ولهذا لما أصبح التدخين كأنه من المعروف أصبح الخمر منكراً، وقد يظهر أحياناً، فلما انتشرت الخمر على نطاق واسع ووفدت المخدرات أصبح الكلام عن الخمر كأنه عفا عليه الزمن، وأصبح المطلوب -الآن- من الخطباء والوعاظ أن يتحدثوا عن المخدرات. فتجدهم يقولون: يا شيخ! لا تتكلم عن الخمر، فهو بسيط، والمصيبة الكبرى الآن هي المخدرات. فنقول له: هذا صحيح. ولكن إنما انتشرت لأننا تهاونا في السيجارة، وجاء الكأس وتهاونا فيه، فجاءت المخدرات، ولا ندري ماذا يكون حالنا لو تهاونا أيضاً في المخدرات والتهاون حاصل ويجب علينا أن نعترف بذلك؛ لنشجع أنفسنا على أن ندعو إلى الله، وأن نتدارك أنفسنا قبل أن يعمنا الله بعذاب وهلاك ومصيبة من عنده.

أمثلة توضيحية للقاعدة

أمثلة توضيحية للقاعدة وأعود للمثل الأول وهو ترك صلاة الجماعة، فهو منكر ظاهر لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نتهاون به، بل نبدأ به، وعليه يقوم إنكار المنكر الباطن، وأقل ما في الأمر إن لم أغير فعلى أن أتصل بمن يغير ولن يكلفني ذلك شيئاً، فبالتلفون -مثلاً- أتصل للهيئة وأبلغها عن هذا المكان وهذا المقهى وهذا التجمع. ولا ننظر إلى من يقول: البدء بالحسنى، فنحن -أيضاً- نقول لا بد من البدء بالحسنى، وبالحكمة، لكن ليس ذلك في كل أمر وفي كل وقت، فصاحب المحل الذي تمر عليه كل يوم وهو يسمع الأذان ويبيع ويشتري، أو يشرب الشيشة في المقهى، ويسمع الأذان ويصلي الناس ويخرجون وهو في مكانه جالساً، فأول يوم تعظه، وثاني يوم تنصحه، وثالث يوم تخبر عنه الهيئة، فإذا قالوا: أخطأت التصرف، والدعوة إلى الله لا بد أن تكون بالحكمة، فما هي الحكمة التي تريدون؟ يقولون: حتى يقتنع الإنسان ويفهم. فهل وصل بنا الحال إلى أن أصبحت الصلاة مما يُقنع بها المسلم؟ سبحانه الله! الصلاة أمر معلوم لدى كل إنسان، وبالذات في المدن والقرى، فإذا قال يجب علي أن أتلاطف مع تارك الصلاة، وأشرع معه في دعوى طويلة حتى يقتنع بعد شهور أو سنين، فإذاًَ متى أصل إلى تغيير المنكرات التي تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى أناة؟ إن هذه الأمور لا نقول فيها بالعجلة والتهور، بل نحن هنا نضع الضوابط ونمنع التهور والاندفاع والعجلة؛ لكن الضوابط لا تعني الإلغاء، فشيء مؤلم ومؤسف أن بعض الإخوة الدعاة، يقولون: لا بد من الحكمة، ولا بد من ضوابط ولا بد من قواعد، فكانت النتيجة ألا إنكار لمنكر، فإذا وصلنا إلى ألا ننكر أي منكر بحجة الحكمة، والضوابط فهذه خسارة كبرى نعيشها، فلابد في المنكرات الظاهرة المعلوم أنها منكر يجب أن يكون تعامل المجتمع معها تعاملاً حازماً حاسماً فيها. فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو سيد الحكماء في دعوته وفي كل حياته- أمر أن نضرب الابن إذا لم يصلِّ لعشر، وقبل ذلك ثلاث سنوات موعظة، وأمر، وتشجيع، لكن في العاشرة ضرب، فإذا قيل: لماذا تضرب؟ فنقول له: هذا هو ما سنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما لو أخطأت فلم آمر ولم أنهَ، ولم أشجع وأحث، وأحض، وبدأت بالضرب فأكون في ذلك الحين قد خالفت سنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكون قد أنكرت المنكر وأمرت بالمعروف بطريق مخالف للسنة، لكن الذي يقول: (إذا كبر ابنك آخيه) فإذا أصبح هذا حالنا، وكل واحد في المجتمع ترك ابنه يفعل ما يشاء فسوف يصبح المجتمع كله إخوة في المعصية، وهذا لا يجوز أبداً. فيجب على الزوج أن يكون حازماً مع زوجته، فيعظها ثم يذكرها وينصحها؛ لكن لو أدى الأمر إلى أن يضربها حتى لا تذهب إلى السوق فليضربها، وهذا واجب، وإلا فهو -عياذاً بالله- ديوث، وإذا ذهبت إلى الخياط، والبقال، ودخلت الأسواق، وأماكن الملابس، وهذا يراها وهذا يكلمها، فتنطلق من البيت بعد العصر وترجع آخر الليل كما يفعل بعض الناس، وتذهب إلى الشواطئ، فلا شك أن من يرضى ذلك في أهله أنه ديوث وأنه يجب عليه الحسم ولو أدى إلى الضرب، ولو حسم كل أب وكل زوج لكنا قضينا على هذه العادة السيئة المقيتة التي نخشى أن يعمنا الله بعقاب من أجلها، فإذا حرصنا على القضاء على الزنا، فلنبدأ بالقضاء على التبرج لأنه منكر ظاهر وهو الوسيلة إلى الزنا. فالذين يتأملون في هذه القاعدة يرون من الحكم في ذلك أن كل إنسان تتهمه أو تواجهه بمنكر خفي فإن في إمكانه أن ينكر، فترى فلاناً عنده مصنع خمر، فيقول: لا شيء عندي وينكر، ولا يستطيع أحد أن يعترف بذلك. أو إذا كان شخص يمارس الزنا والفاحشة فإنه لن يقر أحد بهذا الشيء، لكن المنكر الظاهر، مثلاً: إذا قامت الصلاة وهو جالس في الشارع، فكيف يستطيع الإنكار؟ فمن فوائد ذلك أننا إذا اتبعنا أمر الله ورسوله تحققت المصالح بإذن الله. فإذا أمرته بالذهاب إلى الصلاة، فإنه يوجد أي إنكار منه، ولا يستطيع أن يقول: لم أسمع الأذان، ولم أعلم ولهذا يقول غالباً جزاك الله خيراً، حتى لو لم يصل فإنه يكون مقهوراً، وليس لديه عذر ولا حجة، فهذا هو الذي ينبغي. والمرأة المتبرجة في السوق أنت تستطيع أن تقول لها وأنت واثق أنها متبرجة، فالمنكر ظاهر، وأنت لست مجرد متهم، فالناس يسيئون الظن بالناس، ويتهمون أعراض الناس، ويفعلون كما يقال عادةً عن أهل الخير وعن الآمرين بالمعروف وعن الناهين عن المنكر، فأنت الآن أنت تتخاطب وتتعامل مع منكر ظاهر أمامك، فليس هذا الخياط بمحرم لها ولا صاحب الدكان بمحرم لها، وهي كاسية متبرجة في السوق، إذاً هذا منكر ظاهر لا نقاش فيه. إذاً لا بد أن ينكر هذا المنكر، ولا بد أن يُقضى عليه بكل وسيلة، بالدعوة والوسائل العامة، بنشر الحق والخير بالتعليم، وأيضاً بالقوة وبالحزم المهم كقاعدة عامة: أن نبدأ بالمنكر الظاهر، ولنتعاون في القضاء عليه، وهذا -بإذن الله- يقضي على المنكرات الباطنة، دون أن نتهاون أيضاً في شأن المنكرات الباطنة.

القاعدة الثانية: لا يجوز إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر

القاعدة الثانية: لا يجوز إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر ثانياً: إن إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر، أو إلى مفسدة اعظم، فإنه لا يجوز الإنكار. فليس الغرض مجرد أن تنكر، أو أن تتشفى بالإنكار، أو أن تنتقم من صاحب المنكر، بل الغرض هو أن يطاع الله تبارك وتعالى، فإذا كنت تسعى إلى أن يطاع الله وجئت بما يؤدي إلى معصية أكبر فلا تفعل ذلك، وقد بين الله ذلك في القرآن للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، يقول عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام:108] فنهى الله تبارك وتعالى عن ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يتجرأ المشركون فيسبوا الله عز وجل. فإذا كنت في مجلس، أو جمعك ركب ما بقوم لو شتمت أهل المعاصي لشتموا وسبوا أهل الخير والإيمان، ولو أنك شتمت رءوس البدعة، ورءوس الشرك والضلال للعنوا وسبوا وشتموا رءوس أهل الإيمان والتوحيد، فعليك ألا تفعل ذلك، ولو ذهبت إلى إنسان تعلم من حاله أنك لو أمرته بمعروف ما لأعلن الكفر وسب الله ورسوله فلا تأمره. ومن المصائب أن يقع هذا في مجتمعنا، وأن يوجد في ظل هذا المجتمع الذي ترتفع فيه المآذن في كل حين وتملأ الأجواء بالتكبير والشهادة لله تعالى بالتوحيد، ولمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، من يسب الدين. وإننا كنا نتوقع ألا يوجد سب الدين، في أي مجتمع مسلم وأن يخلو من سب الدين، فكيف يوجد هذا السبب في المجتمع الذي يعاقب الإنسان إذا لم يلتزم بصلاة الجماعة، فكيف بمن يسب الله ورسوله! لكن هذا هو الواقع للأسف. فلا بد إذاً أن ننتبه إلى هذا الأمر، فلا ننكر المنكر إذا كنا نتوقع أن يقع منكر أكبر منه. وأيضاً لا ننكر المنكر بوسيلة غير مشروعة، فالمنكر منكر، فلا ينكر المنكر بمنكر آخر؟ لأنهما منكران، فما هذا بأولى من ذاك، وإنما ينكر المنكر بالأمر المشروع وبالمعروف وبما أمر الله تبارك وتعالى وبما شرع.

تأخير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تأخير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا لا نصدم مشاعر الناس في أمور لو أخرت لكان خيراً، وهذه أحد القواعد التي تتفرع عن هذه القاعدة، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأم المؤمنين عائشة: {لولا أن قومك حديثو عهد بشرك أو بكفر، لهدمت الكعبة ولجعلتها على قواعد إبراهيم} فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي غيَّر ما كان عليه العرب من الدين، وقاتلهم على ذلك قتالاً، ودخلوا في دين الله عز وجل برغبة وصدق، وبالسيف والجهاد، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يحكم جزيرة العرب جميعاً، والذي إذا قال أطيع، ومع ذلك يذكر المانع من أن يجعل الكعبة على قواعد إبراهيم، مع أن جَعْل الكعبة على قواعد إبراهيم مصلحة وتحقيق لأمر شرعي؛ وهي أن تكون كما بناها الخليل عليه السلام؛ لكن ما الذي يمنع من تحقيق هذه المصلحة؟ المانع هو أن العرب حديثو عهد بالكفر، وهم إنما آمنوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبعوه لأنه يعظم حرمات الله، ويعظم ما عظم الله، ويوحد الله، ويدعو إلى دين إبراهيم، وكثير من الناس ينظرون إلى الدين بهذا المنظار، ولا يفطنون إلى ما وراء ذلك من حكم ومصالح، فكل ما في الأمر عندهم أن هذا هو دين التوحيد، وأننا اتبعناه من أجل ذلك، والكعبة في أذهانهم تمثل حقيقة التوحيد ورمزاً للتوحيد وللدين، فإذا هُدمت وغُيرت فكأنها تغيرت ملة إبراهيم، وكأن المنهج الذي رسمته الأذهان فيه خلل وخطأ. إذاً لا بد من الإنكار عليه، ولهذا لم يشأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصدم هذه المشاعر. ولهذا نقول: إن علينا أن نعلم أن الإنسان وإن آمن واهتدى، واستقام، فقد يُترك له بعض التجاوزات والمخالفات لا إقراراً لها، أو اعتقاد حلها والانكار على من أنكرها بدعوة مصلحة الدعوة ولكن يقال: مصلحة الدعوة أن يؤخر الإنكار وأن يؤخر التغيير. أرأيتم لما وضعت الكعبة على قواعد إبراهيم أيام عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه ما الذي جرى؟ لم يجر شيء، لأنه قد انقضى ذلك الجيل وولدت أجيال على التوحيد، فالذي أمر به عبد الله بن الزبير أمر مشروع، ولم يحدث أي منكر ولا إنكار، لأنه جاء في حينه. ومن هنا لا نتوقع أن ننكر المنكرات دفعة واحدة، والشيء المؤلم والمؤسف اليوم أن في المسلم جملة منكرات فتجده متهاوناً بالصلاة ويسمع الغناء، ويرى النساء الأجنبيات، ويغش في البيع والشراء، ويكذب، ويغتاب والله المستعان! إنها مصائب مجتمعة ومنكرات. فإذاً نحن مع قولنا في الأول بالبدء بالأهم فالأهم، والبدء بالظاهر قبل الباطن، نقول أيضاً: إن مما يجب، هو أن نؤخر ما قد يصدم مشاعر هذا الإنسان، فيجعله يرجع عما هو عليه من الحق، فإذا اهتدى وبدأ يقيم الصلاة، فنحرص بعد ذلك أن نبين له أن سماع الأغاني حرام، وأن رؤية النساء في الشارع أو في التلفاز أو في المجلات حرام، ولنبدأ بذلك حتى يدخل في الدين تدريجياً، ويرسخ الإيمان في قلبه بالتدريج، ولا نتعجل ونقول: ما دام أنه اهتدى اليوم، فيجب في هذه اللحظة وفي هذا الوقت أن يبادر فيحافظ على الصلاة، ويترك المنكر الظاهر والباطن، وأن يترك جميع المنكرات التي هو عليها، فهذا من توقع المحال، وهذا مما يجعل بعض الدعاة يفشل في دعوته، لأنه توقع ذلك، والحقيقة أن النفس لا بد لها من التدرج، فبعض الأمور قد تؤجل إلى أمد ما محافظةً على الأصل الموجود، لكي ينمى الإيمان في قلبه، ثم بعد ذلك يترك ذلك.

مثال توضيحي للقاعدة

مثال توضيحي للقاعدة ولعل من الأمثلة التي توضح هذا: أنه إذا اقتصر الدعاة إلى السنة على إنكار الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أن الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أنكره، وعلمنا أن ننكره، والأحاديث في ذلك معلومة؛ لكن لو أننا نقتصر فقط على أن نذكِّر أن الغلو في محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، فإنه سوف يكون مدخلاً لأهل البدع، ومدخلاً لبعض المهتدين الذين هم قريبو عهد بالبدع أن يقولوا: إن هؤلاء الناس لا يعرفون من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا النهي عن الغلو فيها، ولا يتحدثون عنها، ولا يأمرون بها، إذاً ما هو الواجب في هذه الحال؟ الواجب أن نبدأ بالتذكير بمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته، ونجعل النهي عن الغلو فيه مع ذلك وضمنه، وإلا فقد يفتن بعض الناس من هذا الباب، يفتنه الشيطان أو يفتنه شياطين الإنس بمثل هذا الشبهات، ولا يخفى عليكم الأمثلة التي توضح ذلك في واقعنا اليوم.

القاعدة الثالثة: الإنكار على العالم ليس كالإنكار على الجاهل

القاعدة الثالثة: الإنكار على العالم ليس كالإنكار على الجاهل ومن القواعد والضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن الإنكار على العالم أو على الفقيه أو على الكبير الفاهم ليس كالإنكار على المبتدأ وحديث العهد بالمعصية والجاهل. أرأيتم لو أن أحداً من خيار الصحابة رضي الله تعالى عنهم جاء وبال في المسجد -وحاشاهم من ذلك- كيف يكون الإنكار عليه؟! سوف يكون شديداً؛ لأن هذا أمر لا يمكن أن يفعله إنسان من خيار الصحابة ممن عرف الإيمان وحقيقته، فسوف يكون الإنكار عليه بأشد ما يمكن، وبذلك وقائع من السيرة، كإنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي ذر لما قال لـ بلال: يا ابن السوداء، فأنكر عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنكاراً شديداً وقال له: {يا أبا ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية} فهذا إنكار شديد، فالجاهلية التي هرب وخرج منها أبو ذر رضي الله تعالى عنه وتحمل المشاق، وجاء إلى الكعبة، وجاهر بالإيمان، وضُرب حتى أصبح كما يقول هو: [[كأنه صنم ذبح عليه]] من كثرة ما فيه من الدماء، وكل ذلك لذات الله ومن أجل الله، ويقول له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنك امرؤ فيك جاهلية} لأنك أمام إنسان يعرف الحق وعرف الجاهلية، وعرف قذارتها، وعرف نتنها، وعرف كيف يفر منها كما يفر من النار أو من الأسد، فتقول له هذا الكلام ليرتدع. لكن لما جاء الأعرابي وبال في المسجد، فهذا أعرابي جاهل لا يفقه من أمر الله ودينه شيئاً، دخل وبال في المسجد، فأرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمنا أن الإنكار على الجاهل يختلف، فهذا نلاطفه، ونلاينة، ونداريه، ولا نعنفه.

مثال توضيحي للقاعدة

مثال توضيحي للقاعدة فنجد في قصة هذا الأعرابي ما يشهد بهاتين القاعدتين: القاعدة الأولى: تحمل أهون المفسدتين لدرء أعظمهما. والثانية: إن الجاهل لا يكون الإنكار عليه كالإنكار على العالم وعلى ذي الشأن. فلو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزجر الصحابة وينههم عندما ثاروا عليه ليزجروه عن البول في المسجد، لانتشر البول في أجزاء كثيرة نتيجة فزع الأعرابي وهربه، بل وسينتثر البول في ملابسه، وربما لا يعود إلى المسجد وإلى الإيمان. إذاً نتحمل المفسدة من أجل أن ندفع مفسدة أكبر منها، فهذا شيء. والأمر الآخر أن هذا الإنسان جاهل، والجاهل نرفق به، كما منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة أن يضربوه، وأمر أن يغير المنكر، بصب دلو من الماء على البول وانتهت النجاسة. فالآن قضينا على النجاسة، وبقي أن نقضي على ما في قلب هذا الرجل، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال معاوية بن الحكم السلمي: {والله ما كهرني ولا نهرني، بأبي وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً مثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} فلا يوجد معلم أرفق من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحكم، فلما رأى الأعرابي هذا الرفق وهذه المعاملة ممن كان يظن أنه أكثر الناس شدة -ولا شك أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أكثر الناس محافظة على بيوت الله، وأكثر الناس قوة في الحق، لكنه كان يوازن بين المصالح والمفاسد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى منه اللطف واللين صلى فقال: {اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحد}. وذلك لأن القلب ما تزال فيه ضغينة لهؤلاء الذين ثاروا عليه، وأظهروه مظهر الإنسان الذي لا يليق، ولكن دعا أن يرحم الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو المطلوب، وهو أن يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان ذلك، ولكن أيضاً نحن لا ينبغي أن نجفو قلوب الناس عنا، فالجاهل نعلمه ونترفق به، ونبين له. وكما ينقل في سيرة الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا ذاهبين إلى المسجد، فدخل رجل يتوضأ فلم يحسن الوضوء، وهما صبيان صغيران فقالا له: أيها الشيخ! نحن طفلان صغيران واختلفنا كيف نتوضأ، فاحكم بيننا لترى أي منا يتوضأ أحسن من الآخر، فتوضأ الأول كما توضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوضأ الآخر كما يتوضأ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قالا له: احكم، فقال: أحكم بأنكما توضأتما على السنة وأنا لا أحسن الوضوء. فعلماه كيف أنه يجب على الإنسان أن يتوضأ، وهو بنفسه عرف خطأه. فإذا استطعنا أن نعرَّف الإنسان خطأه بنفسه فهذا مكسب لنا، ونكون قد كسبنا قلبه ومع ذلك عرف الحق، وسيتبعه بإذن الله تبارك وتعالى.

القاعدة الرابعة: عدم الإنكار في مسائل الخلاف

القاعدة الرابعة: عدم الإنكار في مسائل الخلاف ثم نتكلم على مسألة وهي: أن من ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم الإنكار في مسائل الخلاف، وهذا الأمر مهم في ذاته لأنه كثيراً ما يفهم خطأً، ونقصد بذلك أن الأمر الاجتهادي المحض لا ينكر فيه. وبعض الناس يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، فإذا جئت إلى إنسان لا يرفع يديه في الصلاة -مثلاً- إذا كبر لتكبيرة الإحرام، أو الركوع أو بعد الرفع منه، أو لا يقول: آمين، أو لا يجهر بها، أو ما أشبه ذلك، فإنك تجد من يقول: لا تنكر عليه لأن المسألة خلافيه. وإذا جئت إلى إنسان يترك زوجته تخرج أمام الرجال كاشفة الوجه، ولو سترت كل شيء لكن بقي الوجه- والكفان- ثم يقولون لك: المسألة خلافية فلا تنكر عليه. فنقول: ليس الأمر كذلك. فالمسائل الخلافية التي لا إنكار فيها هي مسائل الاجتهاد المحضة التي يجتهد فيها العلماء فتختلف وجهات نظرهم، والجميع ينطلقون من الكتاب والسنة، وينتهجون منهج الكتاب والسنة، أما العالم أو المذهب الذي يخالف نصاً من النصوص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في كتاب الله، فإنه ينكر عليه، ولو قد قال بذلك بعض الأئمة، فهذا لا يمنع من الإنكار، وإلا لاتبع الناس الأئمة في أخطائهم وأصبحت معروفاً، وتركنا سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل أن فلاناً اجتهد فاخطأ، وهذه مصيبة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] والفتنة الشرك، فلا بد أن نفهم ما هي مسائل الخلاف. مثلاً: إذا أحرم الحاج مفرداً أو متمتعاً أو قارناً، فنقول: هذا لا إنكار فيه، ولو كنت ممن يرى أن التمتع هو الأفضل، فيحسن بك أن تقول ذلك، وأن تبينه له وترشده إليه إرشاداً، لكن أن تنكر عليه، وأن تقول: لا إحرام لك، فلا تفعل ذلك لأن هذه -فعلاً- من مسائل الخلاف. لكن مسألة أن المرأة تسفر عن وجهها، فهذه المسألة لا تعتبر من مسائل الخلاف، وأخطأ من خالف فيها، فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعالم له أجر اجتهاده، لكن نحن نأثم لو أننا سكتنا وقلنا: الأمر فيه خلاف. وكذلك صلاة الجماعة فلا نقول: بعض العلماء لا يرى أنها واجبه، فلا ننكر ونجعلها من مسائل الخلاف؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدد تاركي الجماعة بأن يحرق عليهم بيوتهم، ولولا ما فيها من النساء وما فيها من الأطفال لحرق عليهم بيوتهم، بل يجب الإنكار على من خالف سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذلك بعض المنكرات الظاهرة كحلق اللحية، بغض النظر عن أن هذه الأمور تنكر بالحكمة والأسلوب الحسن، لكن لا نسكت ونقول: الأمر ليس فيه شيء لأن فيه خلاف، فليس كل خلاف معتبر، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحة وقاطعة في تحريم حلق اللحية، ولم يثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإطلاق أنه أخذ منها شيئاً فضلاً عن حلقها وقد أمرنا بذلك، فإذاً لا نقول: هذه مسائلُ خلافٍ، بل هذه مما يجب أن ننكر فيها، وألا نرضاه ولا نقره؛ فهذه أيضاً من القواعد والضوابط التي ينبغي أن تعلم. أما مسائل الخلاف في المعاملات- في البيع والشراء وما يتعلق به- هل هي أمور تلحق بالمباح أو تلحق بالحرام، أو تلحق بالربا مثلاً. وذلك مثل بعض الأشياء التي ليس فيها نص، وإنما اجتهد العلماء فيها هل يلحقونها بالحلال أو بالحرام، فاشتبه فيها الأمر، فنقول: نعم، هذه لا إنكار فيها، فلا نعاملها كالمنكر الصريح، ولكن موقفنا هو أن نرشد وننبه الأخ الذي يفعلها إلى ما نراه نحن هو الصواب، لأن الدين النصيحة، ولا يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه، فإذا كنت أنا أرى أن هذا هو الراجح، ولا أوافق من خالفني في ذلك من العلماء، فأنصح لأخي وأبين له على سبيل النصح والبيان والإرشاد، لا على سبيل الإنكار كما في الأمر الظاهر المخالف لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأعود لأقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضعيف في مجتمعنا، وضعيف حتى في أنفسنا، وفي بيوتنا إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وإنه لأمر عظيم، وإن له قواعده وضوابطه التي يجب علينا أن نعرفها وأن نتواصى بها، وأن نحث أنفسنا على تطبيقها بإذن الله تبارك وتعالى، وأنه مهما كان قلة العدد، وضعف الإمكانيات، إذا تمسكنا بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، وفي الأمر والتغيير، فإننا بإذن الله تبارك وتعالى سوف نحقق ما نريد، بل ما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن غرضنا إنما هو إرضاء الله. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكتب لنا ولكم رضاه وتوفيقه ونصره، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة حول الشك

نصيحة حول الشك Q أنا امرأة متزوجة وزوجي رجل شكاك، كلما سمع كلاماً من أحد عني سواء أكان صحيحاً أم كذباً لا يتحقق من ذلك؟ A هذه المرأة تشكو من زوجها من أنه على كل حال يشك فيها، ويسمع الواشين، وأنه لا يتركها تذهب إلى أهلها، ولم يبتعد عن سماع ما يقوله هؤلاء الذين يتقولون عليها، والحقيقة أن هذا المشكلة منتشرة في المجتمع العام، فشك الرجال في نسائهم منتشر وليس خاصاً بهذه الأخت، وما سبب ذلك إلا التهاون في الاختلاط والمكالمات، وأمور أخرى تؤدي إلى حدوث الشك، والقضاء على الشك يكون بالآتي: أولاً: بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أن تتقي المرأة الله، وأن يتقي الرجل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يفتري أحد على أحد ولا يتقول عليه، وعلى الوشاة أو المشككين أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن القذف في أعراض المحصنات الغافلات المؤمنات من الكبائر. ثانياً: يكون بترك الأسباب المؤدية إلى الشك، أرأيتم المرأة المسلمة التي لا تخرج من بيتها إلا لضرورة ومع محرم، ولا تخاطب إلا من شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها أن تخاطبه، ولا تخلو إلا مع محرم وهكذا، أرأيتم كم تكون نسبة الشك فيها؟ وإن وقع الشك فإنه سيكون الإثم بالكامل على صاحب الشك أو على الواشي، لكن إذا شاركت هي فتبرجت أو اختلطت أو تساهلت حتى بالكلمات: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وهذه الآية قالها الله تبارك وتعالى لأمهات المؤمنين، فإذا كان التساهل منها فإن مما تعاقب به هو أن يُشك فيها، وإن كانت بريئة مما هو أكبر مما تفعل. وهذا ما يجب علينا جميعاً أن نتعاون عليه، ونرجو من هذه الإخت أن تجتنب كل أسباب الشك، وأن تصبر بعد ذلك، لأن المؤمن مبتلى، كما نرجو من زوجها أن يتقي الله وألا يشك لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12].

حقيقة الستر

حقيقة الستر Q من ستر على مؤمن ستره الله في الدنيا والآخرة، فما هو الضابط في عملية الستر؟ A بعض الناس يفهمون -الستر الذي هو بلا شك من سنن ديننا ومن آداب الإسلام- على أصحاب المعاصي والمنكرات أنه عدم إنكار المنكر، ويفهمون أنك لا تبلغ عن مصنع خمر لأن الستر طيب، ويفهمون أنك لا تبلغ عن بيت للدعارة لأن الستر طيب، والله تعالى يحب الستر، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك. أولاً: الجهات المكلفة شرعاً بتتبع المنكرات الباطن لا يجوز لها أن تتهاون في هذا الشأن، فرجال الهيئة ورجال مكافحة المخدرات وما يلحق بهم؛ الذين من مهمتهم ومن عملهم أن يتتبعوا المنكرات الباطنة، يجب عليهم أن يتتبعوا المنكرات الباطنة، ولا ينطبق في حقهم مسألة الستر. والأمر الآخر أن الهدف في حال الكشف أو الستر: هو تحقيق مسألة الإيمان والدين، فالمرء قد يخطئ، والإنسان قد يهفو، وهو رجل صالح فاضل، فيختلي بامرأة لا تحل له، فهذا الستر عليه أولى مع الموعظة والنصح، ومع متابعة النصيحة بعد ذلك، فالستر عليه منك أولى، لكن لا تتركه على منكر، بل تنبهه إلى ذلك وتستر عليه، أما فاجر مجاهر معروف بالفجور فالحال معه يختلف. وهكذا يجب أن نضع كل شيء في موضعه الصحيح، والنهي عن التجسس يعني ألا أشك في جاري، وألا أترصد من الثقوب لأرى هل يشرب الخمر أم لا؟ فهذا سوء ظن لا يجوز، لكن إذا كان جاري يجمع الناس على شرب الخمر، وقد نصحت ووعظت، ثم لم يُجد ذلك، فيجب علي أن أبلغ عنه، ولو عوقب. فالأمر يجب أن يوضع له ضابط، وأن ننظر في المصلحة إن كانت في الستر أو في عدمه، حتى لو كان من رجال الهيئة ورجال الحسبة، ورأى أن المصلحة أن يستر على هذه المرأة، لأنها هفت وأخطأت، وسوف تستغفر الله وتتوب، فما فعلت إلا مقدمات للفاحشة كالخلوة فيمكن الستر إذا رأى ذلك، لكن من ظهرت عليه علامات الفسق وعلامات الفجور فلا يُستر. وأيضاً الحاكم -صاحب السلطة- ليس من شأنه الستر، فالحدود إذا وصلت إلى ولي الأمر فلا يجوز أبداً إلا أن تقام الحدود وأن تطبق، فأنت قبل أن توصل الموضوع إلى ولي الأمر فبإمكانك أن تستر إذا رأيت المصلحة تتحقق في ذلك، لكن إذا أوصلته إليه أو تعلم أنه وصل إليه فلا تذهب وتشفع، وتقول: اتركوا هذا فهو رجل طيب، وسيهديه الله، وقد قبض عليه وهو زانِ أو شارب خمر، فهذه شفاعة في حد من حدود الله يأثم صاحبها ولا يؤجر عليها، ولا تجوز بأي حال من الأحوال.

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجهاد

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجهاد Q الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قمة الجهاد، خصوصاً وأن المستعمرين للمسلمين لم يستخدموا السلاح -كما هو معروف في الاحتلال- بل استخدموا تفشي المنكرات بين الأمة، فلماذا لا يدعى الشباب إلى الجهاد في هذا المجال، ويوضح لدى الشباب أن الجهاد في هذا المجال أولى من حمل السلاح في أي بلاد، فما رأيكم في ذلك؟ A نعم هو جزء من الجهاد، والجهاد إنما يكون من أجله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فهذا الإذن بالجهاد، ثم بعد ذلك بين الله تعالى بعدها بآية: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فالجهاد يكون من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو من الجهاد، ولا بد فيه من الصبر، حتى العبد الصالح لقمان قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقترن بالصبر كما أن الجهاد مقترن بالصبر. إذاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الجهاد، ولا يمكن لأمة أن تجاهد عدواً وتنتصر عليه والمنكرات متفشية فيها، فأمة تغلب أعداءها بأعمالها، ويغلبها أعداؤها بذنوبها، فإذا تركنا الذنوب تنتشر فلا نطمع في نصر الله بأي حال من الأحوال. ولهذا فمن هو قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو قائم على جهاد في سبيل الله، قد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والجهاد في الله أعم من مجرد قتال الكفار، فالجهاد في الله عز وجل هو جهاد الدعوة التي تشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وإحياء السنة، وقتال الكفار، وكل ذلك من الجهاد في الله الذي قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] نسأل الله أن يجعلنا كذلك. فعلينا جميعاً أن نحث إخواننا على المرابطة في هذه الجبهات العريضة التي فتحها علينا أعداء الله، فأعداء الله لو احتلوا بلادنا بقواعد عسكرية لعرفوا أننا سوف نثور عليهم ونحرر بلادنا من هذه القواعد، ولكن إذا احتلوها بالأفلام الخبيثة وبالمجلات الخليعة، وبالنساء الفاجرات اللاتي يأتين في أشكال مضيفات أو ممرضات أو خادمات، وما أشبه ذلك، وبكل الوسائل التي تقتل الأمة قتلاً، وتدمرها، وتجعل عدوها يسيطر على اقتصادها وأخلاقها، وكل ما تملك، فماذا يريد العدو بعد ذلك بالتراب؟! وقد حصل على ما يطمع ويسعى إليه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. ولكن اليهود والنصارى والشيوعيين يحاربون كل بلد بطريقة ما فقد تدخل الشيوعية بلداً من البلدان بالسلاح والقوة، وقد تدخل عن طريق الفكر والأدب والفن، والحداثة، ولكن هذه لها طريق وهذه لها طريق، فلا نقل: إن أعداء الله لا يعرفون إلا لوناً واحداً من ألوان العداء، بل هم يعرفون ألواناً كثيرة، فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض ليحاربونا بهذه الأنواع والأصناف من أنواع الحرب، وجهاد هؤلاء جميعاً واجب، وكل إنسان يحاربهم بما يستطيع، وبما يقتدر عليه وبما أعطاه الله من إمكانية، بالقلم أو باليد أو بالكلام، وأقل ذلك أن ينظف بيته وقلبه وسمعه وبصره من المنكرات، فهذا هو أقل ما في الأمر.

كيفية محاربة التبرج

كيفية محاربة التبرج Q النساء المتبرجات هل لكل أحد أن يأمرهن بالمعروف وينهاهن عن المنكر؟ وما الضابط في ذلك؟ A يجب علينا جميعاً أن نتعاون على إنكار تبرج النساء، لكن لا يعني ذلك أن على كل واحد منا أن يذهب إلى المرأة ويخاطبها في السوق، بل منا من يخاطب أولياء الأمور، ومنا من يخطب ويحاضر في خطبة جمعة وما أشبهها، ويحذر من ذلك، ورجل الهيئة والحسبة يذهب بنفسه ويباشر ذلك العمل في السوق، ومنا من يؤلف الكتب في هذا الشأن، ومنا من يأتي إلى كتب العلماء وفتاواهم فيطبعها ويوزعها وهكذا. فالجهود يجب أن تتكاثف، وكل منا مسئول عن هذا الدين. فالمذيع في الإذاعة مسئول أن يحارب هذا في الإذاعة، والمسئول في التلفزيون مسئول عن تطهيره من التبرج، وأن يدعو الأمة المسلمة إلى ترك التبرج وإلا يأثم، وأنا في مسجدي آثم إن لم أدعُ الناس وأعظهم بذلك، ورجل الحسبة يأثم إن لم ينزل إلى السوق ويباشر ذلك العمل ويأخذ التعهد على الآباء وهكذا. فالتبرج وغيره من المنكرات يجب على كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً أن ينكرها، ويجب علينا أن نتعاون بقدر ما نستطيع لأن نقضي عليها.

المسلم بين التلقي والتبليغ

المسلم بين التلقي والتبليغ بدأ الشيخ هذا الدرس بذكر الثمار المرجوة من اللقاءات والندوات الخاصة، مبيناً أنه ينبغي على الدعاة أن يستغلوها في تدارس أمورهم وحل مشكلاتهم، مع الإشارة إلى أحوال الدعاة اليوم، ونبه على الأسلوب الأمثل الذي يتخذه الداعية لتربية الجيل، وحذر من الحماس الكاذب الذي يقع فيه بعض طلبة العلم والدعاة، ثم ذكر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حرص على التعليم والدعوة، ثم بين ملامح الدعوة الناجحة التي ينبغي للدعاة التمثل بها لتؤتي الثمار المرجوة لها.

ثمرة اللقاءات الخاصة

ثمرة اللقاءات الخاصة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإني أشكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جمعنا برحمته، وأسأله أن ينفعنا -جميعاً- بما نقول وبما نسمع إنه سميع مجيب. أقول: إنها لمناسبة طيبة وفرصة قيمة، أن نجلس ونلتقي مثل هذا اللقاء، لنتداول المشورة والرأي، ولنتباحث في قضايا كثيرة لا يتناسب المقام أن نتحدث فيها أمام عامة الناس، كما لو كان اللقاء في المسجد -ونِعمَ اللقاء في المسجد- ولكن هذه اللقاءات الخاصة ضرورية للدعوة. وإنني أرى أن من خير ما تقوم به الجامعات والمعاهد والمؤسسات الدعوية أن تقوم بمثل هذا اللقاء، وأن تجمع المهتمين بأمور الدعوة؛ ليتباحثوا في الأمور المهمة، بحيث تكون اللقاءات منهجية، والموضوعات معدة مرتبة لاستقصاء جوانب كثيرة يعيشها الشباب، وتهم الدعوة، ويشعر الجميع بضرورة معالجتها. وأنا أومن وأنادي بأن تكون الأمور على هذا المستوى من الأخذ والتلقي والطرح والتداول، كما قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وهي آية مكية، ولم يكن الحديث هنالك عن أمور المسلمين العامة، وعن أن الدولة الإسلامية شورية فقط، بل أمرهم شورى بينهم في كل شيء كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]. والأمر من أعم الألفاظ في اللغة العربية وهو بمعنى الشأن، وكل ما يطلب المشاورة فيه؛ فالشورى فيه إن لم تكن واجبة فهي بلا ريب خير من الرأي المنفرد. والحقيقة أننا معشر الدعاة نعيش واقعاً يكاد يكون متنافراً، بمعنى أن كلاً منا يحارب في ميدان ويصرخ في واد، لكن كيف نستفيد من هذه الثمرات؟ وكيف نوظف ونجمع هذه الجهود؟ وكيف يستفيد بعضنا من خبرة بعض؟ وما هو المنهج الصحيح في قول الحق ونشره؟ ثم كيف نحصد ردود الأفعال التي تنشأ عند الناس من قول الحق ومن نشره؟ وهذه كلها تحتاج إلى معالجات وإلى دراسات شاملة، وإني لأحمد الله على مثل هذا الاجتماع لنتحدث في مثل هذا الأمر، ولهذا سأجعل النصيب الأكبر من الوقت لاقتراحاتكم، واستفساراتكم، لأني أعاني فردياً من كثرة ما يرد عليَّ.

الطريقة المثلى لتربية الجيل

الطريقة المثلى لتربية الجيل فمثلاً: عندما تسأل: كيف يتلقى الشباب العلم؟ هذه مسألة ليست الإجابة عليها كما يظن بعض الإخوة أن تقول له: كذا وكذا؛ فتلك ليست إجابة سليمة متكاملة، هذه الإجابات لا تعطي ثمرة، بل الإجابة الحقيقية تكون بدراسة شاملة لوضع هذا السائل ومستواه، وكيف يمكن أن يتلقى، وما الذي يمكن أن يفلح فيه من العلوم إلخ، وكذلك السؤال الآخر الذي كثيراً ما يرد: كيف ندعو إلى الله؟ ومن هنا يتبين لنا ضرورة أن تكون هذه الأمور دائماً في حس وأذهان الشباب، وأن نركز على القضايا والمسائل المنهجية الأساسية. ثم نحن -والحمد لله- لنا قدوة، نحن لسنا جدداً على هذه الأمور في التلقي، وطلب العلم، أو في التبليغ والدعوة، وإنما نحن أتباع متبعون قد سبقنا إلى ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم وسبقنا إلى ذلك أئمتنا المجددون، دعاة الخير والهدى في كل زمان ومكان، فهل أخذنا من خبراتهم؟! وهل عرفنا زماننا لنضع الأمور في مواضعها الصحيحة؟ هذا ما ينبغي أن يتدارس، ولا يكتفى فيه برأي واحد.

الحماس الكاذب

الحماس الكاذب إن الشباب المسلم تعصف بهم العواطف من كل جهة، فإن هبت الرياح لطلب العلم وجدت الاعتكاف الشديد، والنهم الذي يقبل به بعض الشباب -وهم مشكورون على هذا الحرص- لكن نجد الإقبال الذي يعقبه الفتور، فهذا يقرر أن يحفظ القرآن الكريم كاملاً ومعه كذا وكذا من الأحاديث، وهذا يقرر أن يرحل إلى أحد العلماء وينقطع عن الحياة ليتلقى على يديه، ويجتهد الجميع أول الأمر ثم يعقب ذلك فتور، ثم مراجعة الحساب، ثم يقول: كنت مخطئاً، وكثيراً ما نسمع مثل هذا: أخطأت، تسرعت، استعجلت، لم أفِ بوقتي، لم أكسب، ولم أحصل على ما أردت، أو ربما دفع به اليأس إلى الانقطاع الكلي. وإذا هبت الرياح لإنكار المنكر -وهو حق لا شك فيه ولا مرية- والمنكرات تزحف علينا في كل مكان، بل قد اقتحمت بيوتنا ومكتباتنا، وشوارعنا، فأمة مستهدفة من كل مكان، فماذا يفعل الإنسان، في أي جبهة نصارع، وأي ملة نكافح، وأي عدو نتصدى له؟ في كل مكان يضطرب الشاب يميناً ويساراً، وتكون النتيجة في النهاية قريبة مما أشرنا إليه في طلب العلم. وكذلك في الدعوة: يأتي بعض الإخوة الكرام ويعجبون من تقصير الدعاة في نشر الدعوة إلى الله، مع أننا نحن أمة الخير كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] نحن أمة الدعوة، وأمة الجهاد كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] وقال أيضاَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. إن الإنسان ليعجب أن يرى الجهل في العقيدة، وكذلك في الأحكام الظاهرة، متفشياً ومنتشراً من حوله، وفي بيئته وما جاورها، وفي الأصقاع البعيدة أشد وأشد، ثم يقول: كل هؤلاء يعبدون الله على ضلالة وجهل، وكثيراً ما يقال: وهذه الملايين المشركة الملحدة مسئولية من؟! أليست مسئوليتنا؟! فيندفع الشاب باندفاع عاطفي، ويذهب ذات اليمين وذات الشمال، ويضع المشاريع الطويلة الكبيرة التي يخيل إليه بعدها أن الناس سيهتدون، أو أن بلاداً ستفتح للدعوة، ثم في ساحة العمل، وفي حقيقة الميدان يفاجأ بعد سنوات، وإذا به وحده، أو معه قلة، أو معه جهود لا تكاد تذكر، وإذا به لم يزرع شيئاً، ثم يأتي ويقول: ماذا أصنع؟ لم لا يكتب لنا منهج محدد؟ لم لا نفعل؟! أقول: هذا واقع موجود، وإلا فالحمد لله فإن هناك السائرون على المنهج السليم المحكم، الرتيب الهادئ، الذي لا تدفعه العاطفة ولا تحركه النوازع الارتجالية أو المؤقتة، هذا موجود -والحمد لله- وثمراته ظاهرة، وهم منارات الطريق للبقية الحائر والشباب التائه.

من المسئول؟

من المسئول؟ إنها مسئوليتنا جميعاً في أن نرسم الطريق الصحيح والسليم، طريقاً عملياً في الدعوة إلى الله تعالى. فواحد منا لو أعلن عن محاضرة في أي مسجد لجاءه جمع غفير، فنحن لا نشكو من قلة الناس، أو من قلة المقبلين على الخير؛ لكن نشكو من نوعية ما نقول نحن، ماذا نقول؟ وماذا نقدم لهم؟ وهذا القول ماذا بعده؟ وماذا سيترتب عليه؟ وهل نستطيع أن نتدارك الآثار التي تنتج عنه؟ هل نستطيع أن نوظف إيجابيات هذه الآثار، وأن نتلافى السلبيات التي تنتج عنه؟ فإنه بمجرد القول أو الكلمة -وهو خير عظيم ولا شك- يتأثر الكثير ولكن أين ما بعد ذلك؟ أترون اليوم أن المشكلة هي في وجود شباب يعرف الله، ويطيع الله ويتقيه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقط؟ أقول: ليس الأمر كذلك، المشكلة التي يعاني منها الدعاة هي مشكلة هذا الشاب الذي اهتدى وأتاك رافع اليدين، مستسلماً يريد أن توضح له الحق، وتنير له الطريق، كيف تنير له الطريق؟ وكيف توضح له أمر الدعوة إلى الله تعالى؟ تقول له: هذا حرام. نعم هو حرام، لكن كيف يتعامل مع المنكر ومع هذا الحرام؟ كيف يتعامل مع أسرته وقبيلته ومع زملائه في حيه؟ تصرفات كثيرة لابد أن تضبط على المنهج الصحيح لتقبل أولاً عند الله، ولتؤدي الثمرة المرجوة منها في واقع الناس، ولكي تكون الدعوة إلى الله تعالى -كما هو حقها دائماً- مكان التقدير، ومكاناً يليق بوظيفة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

نظرة إلى ما كان عليه السلف من التلقي والدعوة

نظرة إلى ما كان عليه السلف من التلقي والدعوة لننظر إلى تلقي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكيف تلقوا هذا الدين، وماذا بعد التلقي. النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنزل عليه قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحمل هذا القول الثقيل، وأنذر الناس؛ فجاءه أولئك الثلة المؤمنة الذين آمنوا بالله وصدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأول شيء حدَث أنهم غيَّروا قلوبهم، وغيَّروا نظراتهم وموازينهم وآراءهم، فكل شيء في حياته تغيَّر لأنه قد تحول من الكفر إلى الإيمان، وأصبحت النظرة نظرة الانقياد لشرع الله، ماذا أمر الله؟ وماذا أحل الله؟ وماذا حرم الله؟ هكذا كانوا، لماذا كان الجاهليون يرتكبون الموبقات، ويسفكون الدم في الشهر الحرام في البلد الحرام، ويقطعون الطريق، ويئدون البنات؟ وكانوا لا يتورعون عن أي فضيعة من الفضائع، فأصبح الواحد منهم بعد ذلك يرجف من خوف الله -عز وجل- إذا قيل له: اتق الله، كلمة واحدة كانت تهز قلوبهم. ولهذا ورد أن حماد بن زيد رضي الله عنه قال لـ أيوب: أي العلم كان أكثر: في زماننا أو في ما كان قبلنا؟ فقال أيوب رضي الله عنه: العلم في الزمن الأول أكثر، ولكن الكلام اليوم أكثر. هذا في زمنهم فكيف بزمننا؟! الكلام كثير، فبعض الكتب الآن عشرة مجلدات، لكن ما أثرها وما مفعولها؟ الصحابة رضوان الله عليهم كانت تنزل آية، أو يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً، وهذه مواعظه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا، فتراهم يخفضون أصواتهم، ويبكون من خشية الله تعالى، ولا تنتهي الموعظة بل تستمر معهم، ويتذكرها الواحد منهم مادام حياً؛ لأن قلوبهم طهرت، ونقيت، وصفيت لتلقي هذا العلم، وتلقي هذا الدين؛ لأنهم أذعنوا واستسلموا لأمر الله تعالى، همهم دائماً هو قال الله وقال رسول الله ولا كلام بعد ذلك، علموا أن الله لا يقبل منهم إلا ذلك كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. حرم الله الخمر -وما أدراك ما الخمر إذا تعلق بها الشخص؟ - ودول العالم الآن جميعاً تعاني من مشكلة الإدمان، وكيف تقضي على الإدمان، ففي أمريكا الميزانية الإضافية لمشكلة المخدرات ثلاثة آلاف مليون دولار، هذه مبالغ إضافية لمكافحة الإدمان، هذا الشيء الذي يسلب لب الإنسان -نعوذ بالله-، لما أنزل الله تبارك وتعالى تحريم الخمر ماذا فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- عندما سمعوا قول الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]؟ قالوا: انتهينا وربنا انتهينا -بدون تفتيش ولا محاكمات ولا هيئات مكافحات- أريقت الخمر حتى جرت في شوارع المدينة، إننا نقول: متى تفيق القلوب التي تتلقى أمر الله سبحانه تعالى. ليس المسألة كما يُقال الآن: الوعي، الثقافة، المعرفة، وهل هناك مجتمع أوعى من مجتمع أمريكا في المجتمعات المعاصرة؟! أمريكا حرمت الخمر سنوات؛ ثم اضطرت أن تبيحها لما رأت انهماك الناس وإقبالهم عليها والمصانع في البيوت، فالدستور الأمريكي لم يتغير فيه إلا مادتين فقط مدة عمر هذا الدستور، هما: المادة التي حرمت الخمر، والمادة التي ألغت التحريم، وبقية الأمور ثابتة. ومن الغرائب عن الشيوعيين -وهم الذين يتزعمون الجبهة الشرقية-ما جاء في كتاب ميخائيل جورباتشوف إعادة البناء يقول -فيما معنى كلامه-: إن الخمر فتكت بشبابنا، ونريد أن نقضي على مشكلة الخمور والإدمان، وقد بذلنا جهوداً في ذلك، وقد اقترح البعض عدة تشريعات لمنع الخمر، وقد فكرنا في ذلك، ولكن هذا لا يجدي؛ لأنه ما إن فُكِّرَ في اتخاذ هذا الإجراء حتى انتشرت صناعة الخمور الجوفية، فصنعوها في البيوت، إذاً فلا فائدة من ذلك، فالقضية ليست قضية وعي، ولا قضية ثقافة، ولا قضية أن الناس يرون شعارات براقة فيتركون ما حرم الله، إنما المسألة مسألة إيمان وقع في القلوب. ولذلك كان شعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام إذا كانت هناك معصية أن يقولوا: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] فيحاول الإنسان ألا يقع في معصية أبداً ويقول: يجب أن أخاف من عذاب الله، وهذه تقع في الحالات التي لا تُراقب، ولا يطلع عليها أحد، وهذه هي حالة التقوى كما وقع ليوسف -عليه السلام- مع التي راودته وهو في بيتها، قص الله ذلك بقوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} [يوسف:23] امرأة العزيز راودته، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، فكل الاحتياطات متخذة، فلا خوف من أي شيء، ومع ذلك لم يفعل! والرجل الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وكذلك: {الرجل الذي أطبق عليه الغار، وكانت له ابنة عم وكان يراودها عن نفسها فامتنعت، فلما احتاجت جاءت إليه فرفض أن يعطيها إلا بعد أن تمكنه من نفسها، فلما جلس بين رجليها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام خوفاً من الله}. فهؤلاء هم الذين خافوا الله دون أي رقابة، وهذه هي القلوب التي تتلقى ما أمر الله به، فتظهر ثمرة خوفهم وبركته في أعمالهم هم، ثم بعد ذلك يدعون الناس إليه، ولا يتأخرون، فكانوا رضوان الله عليهم يستثقلون الإكثار من طلب العلم؛ لأنه حجة الله تعالى، يقول أحدهم: لماذا استكثر من حجة الله علي؟ مع أنهم أحرص الناس على العلم، ولكن إذا كنت أتعلم العلم فأعمل به، وأدعو إليه، فهذا شيء ثقيل، ومن هنا كان يستثقل أن يزداد شيئاً من العلم، لكي لا تزداد الأمانة عليه، وتزداد مسئوليته، فلابد أن يقف موقفاً ما. ولهذا لما تعرض الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- للفتنة قيل له: تأول، فقد تأول بلال وتأول عمار، قل كلمة وانج بنفسك، فقال له: اخرج إلى الباب وانظر، فخرج فإذا الناس في الباب واضعين أقلامهم يكتبون، فقال الرجل: ماذا تصنعون؟ قالوا: نسمع إلى ما يقول أحمد فنكتبه، فقال الإمام أحمد: والله لا أضل هؤلاء. سبحان الله! لما أن طلب العلم ورفعه الله به، وحفظ من السنة ما حفظ، ووعى منها ما وعى؛ كان مثالاً حياً لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصبح الناس يأخذون عنه ما يقول، فهم يحسبون حساب التبعة الثقيلة. وليس كل أحد يسعه السكوت، وليس كل أحد تسعه التقية، بل لابد للأمة من قيادات، ولابد لها من أناس نذروا أنفسهم لله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. ويكون الإنسان محباً لله إذا كان محباً لأوامر الله تعالى، ويكون محباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كان محباً لأوامره، ومن هنا يأتي ما نأمله من قلوب تتلقى ذلك بمحبة، وبإذعان، وبإخبات لله تعالى، وهذا هو مقتضى العبودية. وهذا معنى أنني عبد مؤمن مسلم وليست تلك المعارضة، أو المنازعة، أو المدافعة لما جاء عن الله أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان وجوباً على أي متبع لشيخ، أو لإمام، أو لعادة من العادات، أو لأي أمر من الأمور، لابد أن يرغم النفس لتوافق قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الدعوة الناجحة

الدعوة الناجحة إن تبعة الدعوة وثقل الأمانة عظيم، وهي تبدأ عندما تبلغ الناس الحق وتنتهي بأن تقود هؤلاء الناس، وتوجههم وتضبط تصرفاتهم حتى يستقيموا على الحق مادمت حياً على الأقل، وتضمن أن يستقيموا على ذلك فيما بعد، ثم هي مرحلة طويلة وخطوة عظيمة، وليست -كما يتصور البعض- أنها كلمة تقال!! ومن هنا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مربياً ومزكياً، فهو يزكي هذه القلوب: بالخير، والإيمان، والجهاد، والصبر، والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزكية يومية مستمرة، ومن هنا تجدون مراحل الدعوة كيف تغيرت.

التربية بالمعارك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

التربية بالمعارك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر خرج معه من خرج، وقد أراد الله أن يصطفي تلك الطائفة بأن تكون من أهل بدر الذين قال لهم: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}. ويوم أحد خرج معه أول الأمر من خرج، ثم في آخر المعركة قال: {لا يخرج معنا إلى حمراء الأسد إلا من خرج معنا في أحد}. وفي يوم حنين فر من فر، ويأتي يوم تبوك يوم تخلف المنافقون الذين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن، وهذه هي طبائع المنافقين أصحاب الوعود الكاذبة، والأماني الزائفة، -إننا نخاف على أنفسنا من النفاق، ونخاف أن تنطبق هذه الآية علينا، وإن كانت عن النفاق؛ لكنها قد تنطبق علينا بسبب ما فينا من الفتور، وضعف الهمة، ووهن العزيمة- فهم يحلفون ويقسمون الأيمان، حتى إذا جاء النفير وقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انفروا؛ تخلفوا. ثم يأتون بعد ذلك فيقسمون الأيمان إننا لمعذورون، فما منعكم؟ قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا، ويعتذرون بالأعذار التي لا تنفعهم شيئاً عند الله، لكن الثلاثة الذين تخلفوا ولم يقبل منهم ولم يعتذروا بالكذب، والمقصود كيف عوقب الثلاثة؟ ولم؟ لأنهم تربوا، وزكيت قلوبهم على يد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويلاً، فلن تكون معاملتهم كأولئك! وذلك البناء الطويل بعد هذه الجهود العظيمة وهم من السابقين، رجلان شهدا بدراً والآخر شهد البيعة، فلا يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة. انظروا إلى نوح -عليه السلام- لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانت الحصيلة أنه ما آمن منهم إلا قليل، قيل: بضع وثمانون رجلاً وامرأة؛ فكان مجموع من آمنوا مع نوح -عليه السلام- حملتهم سفينة واحدة، والسفينة ليست لهم خاصة؛ بل حمل من كلِ زوجين اثنين، فكل من آمن مع نسائهم وأطفالهم، ومع من شاء الله له أن يحمل من الحيوانات. وهؤلاء كلهم الذين نجوا نتيجة دعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً لماذا؟ لأن الأمر ليس مجرد أن نوحاً -عليه السلام- يقول للناس قولاً، أو أن هذا الإيمان هين وسهل، بل الإيمان بناء عظيم، وتبعة كبيرة، يستتبع الواجبات الثقال على الإنسان، ومن هنا كان تفاوت الناس في الإيمان بقدر تفاوتهم في الهمم. انظروا إلى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانت هممهم قبل أن يسلموا، وكيف كانت بعد أن أسلموا، ماذا قال أبو جهل يوم بدر قال: لا نرجع حتى ننزل بـ بدر، فتعزف القيان ونشرب الخمر، وتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبد الدهر. هذه همة الجاهليين في كل زمان ومكان؛ لكن الصحابة -رضوان الله عليهم- همتهم عالية، عظيمة، بعيدة، فعندما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه عام الوفود على بني فلان وبني فلان، والكل يتململ ويعتذر، قالوا: نخشى قومك، وقالوا له: هل يكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله، والأرض لله يورثها من يشاء. ثم جاء أصحاب الهمم العالية والنفوس المتطلعة إلى الأمر الأعظم فقالوا: ما يكون لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟ قال: لكم الجنة، فقالوا: الجنة؟ ربح البيع إذن! والله لا نقيل ولا نستقيل، همة عالية أعلى من هذه الدنيا، ولا يعني ذلك أنهم لن يرثوا الأرض، بل أخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته فقال: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} فأنفقت في سبيل الله عز وجل، وورث سراقة سواري كسرى لما كانت الهمة العالية المتطلعة إلى الأعلى، أورثت الأدنى تلقائياً.

بناء الهمة العالية في نفوس شباب الصحوة

بناء الهمة العالية في نفوس شباب الصحوة ومن هنا يجب أن تكون الهمة العالية في طلب العلم، وأن تكون الهمة العالية في بناء الإيمان في القلب، ثم في نقله وتحويله إلى الناس في واقع منضبط يأتمر بأمر الله تعالى، لا نريد الإيمان الذي يتحول إلى حركات وارتجالات وانفعالات فقط، إنما نريد من الشباب المؤمن أن يزداد إيماناً، حتى تنضبط هذه العاطفة على الإيمان، وتصبح تأتمر وتنتهي بأمر الله وبأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تكون كما كان قلب الصديق رضي الله عنه في يوم الحديبية، عندما قال عمر رضي الله عنه: {يا رسول الله ألسنا مؤمنين؟ ألسنا على الحق؟ فعلام نعطيهم الدنية في ديننا؟ قال له الصديق: لا يا عمر، إنه رسول الله} والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {إنني رسول الله ولن يضيعني الله}. هكذا التسليم لأمر الله، ولأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما كانت العاطفة تجيش، ونظن أن هذا الحماس لمصلحة الحق والدعوة، لكن الكل يضبط بضابط محكم، وهو الاتباع لسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولذلك تجد كثيراً من الإخوة لديهم غلو في طلب العلم، وغلو في تطبيق بعض الأمور، وغلو في الدعوة، وفي تعجل النتائج الخ، والطائفة الأخرى لديها من التثاقل ومن التثبيط، ومن عدم التجاوب ما يميت، فيكسل بعض الدعاة، فلا شعور ولا إحساس يمكن أن يحركه! فلو أن الدعاة أو المدعوين من أمثال هذه النوعية فلن تتقدم الدعوة خطوة واحدة أبداً. يجب أن نجعل كل أوقاتنا، واهتماماتنا بأمر الدعوة كأساس وأصل، ومنهج، كيف نطلب العلم؟ كيف نعمل لهذا العلم؟ كيف نصبر؟ وأن يكون ذلك كله منضبطاً بأمر الله، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] وتكون سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرة السلف الصالح أمامنا دائماً. فنطلب من العلم ما طلبوا، ونهتم بمثل ما اهتموا به، ولا ننظر إلى العاجل، ولانخاف في الله لومة لائم، كما ذكر الله عز وجل، ندعو كما دعوا؛ ففيهم الأسوة والقدوة، ونصبر كما صبروا، ونتحمل كما تحملوا، ونلاقي في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما لاقوا. فإذا كنا على آثارهم فثقوا أننا سنصل -بإذن الله- إلى شيءٍ مما وصلوا إليه، أو يشملنا الله تعالى برحمته فيوصلنا إلى ما وصلوا إليه، وينشر الله دعوته ودينه على أيدينا، فيكون لنا بذلك فضل السبق في زمن الغربة، وفي زمن الفتنة، ونكون من الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون عند فساد الناس. إن الواجب عظيم، فأوصي نفسي وإخواني أن نتذكر دائماً أن هذا الواجب عظيم وثقيل، وأننا نحن طلبة العلم أكثر الناس مسئولية عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذه أمانة عظيمة لا ننساها أبداً، ولن يشفع لنا إلا ما عملنا أو قدمنا، وكل ما نعمله وكل ما نبذله من جهد فلنراجع أنفسنا فيه، ماذا أثمر؟ وماذا أنتج؟ وبذلك نكون -إن شاء الله- على المنهج القويم الذي فيه تتحول الجهود إلى حركة ذاتية منضبطة على أمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس مجرد هيجانات، أو ثورات عاطفية سرعان ما تخبو، وسرعان ما تخفت. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم لي ولكم الثبات على الحق في المحيا والممات إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

دور الشاب مع أسرته التي يكثر فيها المنكرات

دور الشاب مع أسرته التي يكثر فيها المنكرات Q أنا شاب أعيش في عائلة تكثر فيها المنكرات، حاولت معهم بقدر استطاعتي لإزالة المنكرات التي تكاد تكون ضعيفة جداً ولكن لا فائدة، مع العلم أنني لا آمن على نفسي أن أرتكب كبيرة من الكبائر؟ A هذه حالة من حالات الأمة، ومن حالات الشباب، نأخذها الآن نموذجاً؛ فهذا شاب -ولا أعنيه بذاته- سمع النصائح والمواعظ والتوجيهات، وعاشر بعض الإخوة وخالطهم، وسمع أشرطة طيبة؛ فاستقام واهتدى، والآن يريد أن يدعو إلى الله، فيأوي إلى بيته وإذا به يرى أبويه متلبسين بالمعاصي، وأخواته وإخوانه كذلك، فماذا يصنع؟ من هنا نعرف واجبنا نحن طلبة العلم، وهذا الواجب لا يقع على عاتق خطيب خطب وذهب، أو واعظ وعظنا وذهب إلى حاله، ولا على عاتق مؤلف ألف كتاباً فاشتريناه وقرأناه، بل يجب علينا جميعاً أن نعاون مثل هذا الشاب، ناصحين ومربين له. إن إمام المسجد الذي يصلى عنده، أو مُدرسه، أو شيخه الذي يتلقى على يديه العلم، وأمثال أولئك، يجب أن نعيش مع مثل هذه الحالة، فالتوجيهات العامة لا تكفي، لأننا نستطيع أن نقول: يجب عليك يا أخي المسلم أن تصبر على أذى الوالدين، وإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] نعم، لكن كيف يطبق هذه الآية؟ وعلام يصبر، وعلام لا يصبر؟ فتحقيق المناط له صفات معينة لابد منها، فنحن ننصح هذا الأخ وبقية الإخوة عموماً بما يلي: أولاً: بأن يقوي إيمانه؛ لأنه يقول: بأنه لا يستبعد أن يرتكب كبيرة من الكبائر -نسأل الله العفو والعافية- وإذا انتكس الإنسان فرجوعه أصعب من هدايته أول الأمر، فنسأل الله لنا وله الثبات ونقول له: قو إيمانك، وتوكل على الله واعزم على الحق، وخذ هذا الدين بجد، وأقبل عليه، وعوامل تقوية الإيمان كثيرة منها: الصحبة الطيبة، ومنها: ذكر الله، ومنها: قراءة القرآن، ومنها: التفكر في ملكوت السماوات والأرض، ومنها: زيارة المقابر وغيرها مما يقوي الإيمان. ثانياً: لابد أن تكون العلاقة مع الوالدين -مهما فعلا- علاقة طيبة مع الصبر؛ لأنه كما ذكر الله أنه ليس بعد الشرك ذنب، وأن الشرك أعظم ذنب؛ لكن مع ذلك فقد أُمِرَ الإنسان بأن يصاحبهما في الدنيا معروفا، والأصل أن لا يخالطهما ولا يقرهما فيما يفعلان من المنكرات، وعليك أن تجتهد بذلك بقدر المستطاع، وأن تستشير من يرشدك.

موقف الشاب إذا كانت أسرته صوفية

موقف الشاب إذا كانت أسرته صوفية Q والدي ومعظم أقاربي يعتقدون بشرعية الاحتفال بالمولد، ويؤمنون بأن قراءة الأوراد الصوفية المنمقة النص والترتيب قربة، ولكن يؤمنون بالله، وأنه لا إله غيره، وأن محمداً رسول الله، ولكنه عبد ليس كالبشر بل أرفع منهم درجة بما اختصه الله، فما واجبنا -نحن الأبناء- نحو والدينا وأقاربنا؟ A إن من أعظم المنكرات أن تنتشر البدع، بل هي أخطر وأخوف على المؤمن من المعاصي، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة}، وحسبكم ما ورد في الخوارج، فقد صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، ولقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صفاتهم وأحوالهم، فقال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم} ولكن ما الذي جعلهم بهذا المآل القبيح؟! إنها بدعتهم -نسأل الله السلامة- فالبدعة خطر، وهنا لا بد من المنهج في مثل هذه الحالات التي يعج بها المجتمع أحياناً. وبالنسبة للعلاقة بالوالدين فلا بد أن تكون بمحبة، وأن تقدم لهما الخير والحق والهدى، على طبق من المحبة والاحترام والتقدير. وأقم الحجة على الأقارب الأقرب فالأقرب بالحكمة والسهولة واللين، فبقدر قرابته وفضله تحرص على أن تقيم الحجة عليه، وتعظهم وتذكرهم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تقول لهم ذلك بعلم، ولذلك نقول: لابد من العلم، ولو أننا استطعنا أن ننقل أسرنا ومجتمعنا إلى درجة عالية من العلم؛ لاستطاعوا هم أنفسهم أن يفرقوا بين البدعة وبين السنة. إنّ هذه البدع تنتشر بالتلبيس، يأتي الملبسون الدجالون قطاع الطريق، الذين يقطعون طريق الصحوة المباركة، ويصرفون الشباب ذات الشمال في البدع، فيلبسون على عامة الناس، إلا من كان لديه علم وبصيرة، أما العامة فيلبس عليهم حتى وإن كان تاجراً كبيراً، نعم مهارته وفكره وعلمه في التجارة؛ لكن في الأمور الشرعية يلبس عليه أي مبتدع فيضحي بماله في سبيل البدعة. أو بمنصبه في سبيل البدعة، فلا بد من نشر العلم بين المجتمع، لتقوية الجانب العلمي، فإذا ظنوا أن الحق هو الباطل أعطيناهم مناعة، أو حصنّاهم ضد أي بدعة أو شبهة، وما أكثر البدع والشبهات!

مواجهة الشباب الملتزم لسخرية العامة

مواجهة الشباب الملتزم لسخرية العامة Q إذا التزم الشاب وتمسك واجهته مشكلة كبيرة هي: سخرية العامة منه وخاصة من الأقارب، فمعظم الشباب يرجع على ما كان عليه، فكيف يواجه الشاب هذه السخرية؟ A السخرية والاستهزاء أوذي بها كل الناس، فهذا نوح -عليه السلام- وهو يصنع الفلك كان كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، فالسخرية لابد أن تأتي، وقد سُخِرَ واستُهزِئ بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستهزئ بالرسل من قبله كما أخبر الله تعالى، فلا جديد فيها، ولكن كيف نتعامل معها؟ أقول: ننتبه إلى أمر تربوي مهم، وهو أن الشباب المقبل على الله، حديث العهد بالهداية والتوبة لا نجعلهم في واجهة البركان، أو في واجهة التيار فلا يستطيعون المقاومة. فالاستهزاء باللحية -مثلاً- أو بتقصير الثياب، أو ببعض السنن الظاهرة أكثر ما يواجه الشاب الملتزم الاستهزاء بها، أما الباطن فلا يمكن لأحد أن يعمله إلا الله، ومن هنا نقول: يعطى هذا الشاب الإيمان والهدى على جرعات؛ حتى يستقيم على هدى الله تعالى، ولا يعني ذلك أن نتركه يمشي على معصيته، لكن عندما أخاطبه فيكون راغباً في الحق أعطيه قليلاً قليلاً، أما إذا كنت أريد منه دفعة واحدة أن يذهب فيكسر الغناء الذي في البيت والموسيقى، ويحطم ما فيه من الصور المحرمة، ويقطع العلاقات بتاركي الصلاة من أقاربه، ويفارق الزوجة؛ فهذا في الحقيقة بدلاً من أنه كان مستسلماً طائعاً فسأجعله في معركة لا يستطيع أن يواجهها، وأتحمل مسئوليته بعد ذلك إذا انحرف، وكثيراً ما ينحرف الشباب بسبب الثقل. لكن نريد من هذا الشاب أن يوغل في الدين برفق، ونحن نعينه على ذلك، لكن برفق في التربية، فيبدأ بالأساسيات أولاً، وكيف يعالج الأمور بحكمة؟ وكيف يكون في موقع دون أن يعصي الله تعالى، ولكن دون أن يثير عليه السخرية؟ أن نضمن أنه يستطيع أن يتحمل ما يعطى، كما يعطى المريض جرعات من التطعيم تجعله في النهاية يدخل بين المرضى ولا يبالي، فبدون تطعيمه لا تنقله بين المرضى، لكن أعطه من اللقاحات الكافية ثم اعمل له اختبارات حتى تطمئن عليه، بعد ذلك سينطلق ولا تخاف عليه، فهذه أمثلة من الواقع يجب أن ننتبه لها. ويجب ألا نعرض مثل هذا الشاب لمشاكل، فإذا جاءنا هذا الشاب واستقام قلنا له: أترك عملك، إن كان له عمل! وتعال لتلتحق بدرس من الدروس في المسجد -مثلاً- فالحقيقة أنك حملته ما لا يطيق وعرضته لكلمات الناس، فيقال: اهتدى وترك الوظيفة، أو اهتدى وضيع عائلته، أو اهتدى وفعل كذا؟ فمن المسئول؟! أنا الداعية الذي قلت له هذا الشيء، بخلاف ما لو حذرته وحرصت على تربيته. فمثلاً: يأتيك إنسان يعمل في بنك ربوي -ولا شك أن العمل في جميع هذه البنوك حرام- ومع ذلك إذا جاءك مثل هذا فلا تقل له اترك عملك، مع أن هذا هو الواجب؛ ولكن لو قلت له اترك، ما الذي يحصل؟ بعضهم ترك فجأة، فلم يجد عملاً، فعاد إلى البنك، وقال: لم أجد عملاً ويكون بخلاف ما لو أنك قلت له: ابق حتى تجد عملاً مناسباً. ثم اجتهدت معه حتى يجد له عملاً مناسباً، ثم صبرته وقلت له: إن الله سيعوضك خيراً منه، ثم ينتقل بعد ذلك نقلة طبيعية ويضمن أنك كنت معه حتى انتقل، فتكون بذلك قد ضمنته، نعم مثل هذا الأمر وهذا العمل يجب أن يتركه، وإذا استطاع أن يتركه اليوم فلا يؤجل ذلك إلى الغد، لا شك في ذلك. لكن نقول: هذا هو حال الحرام، فكيف يؤدي الواجبات أو الطاعات أو يطلب العلم؟! هل تربطه بحيث يبدأ يحفظ من العلوم، ويضيع اختصاصه الدراسي ويضيع الحقوق التي عليه، فتكون النتيجة أن يقول الوالدان والأهل: منذ أن تعرَّف على فلان، وبدأ يحفظ القرآن، بدأ يضيع المال، فلا يصح هذا! ولا يفيد ذلك شيئاً. وأحياناً يقال: منذ أن تعرف على هؤلاء الشباب الطيبين ذهبوا به إلى المسجد، وبعد ذلك أصبح عاقاً لوالديه، كانت أخلاقه طيبة، كان يحب أمه وأباه، ويلبي لهم أي طلب، ولما اهتدى واستقام تركهم؛ لأنه لم يرب التربية الصحيحة. ولذلك لو أن الآباء أصبح شعورهم أن الابن إذا استقام يعقهم، فسيصبح الآباء يدعون: اللهم لا تهدِ أولادي! ولهذا لابد أن نضع مناهج واقعية وجدية ومرحلية، بمعنى أن يكون الإيغال في هذا الدين برفق، وتربية الشباب عليه تربية صحيحة، ليضمن ثبات هذا الشاب بإذن الله في المستقبل. وعلى أي حال نوصي هذا الأخ بالصبر، وكلنا من المأمورين بذلك.

الحكمة في تبليغ الحق

الحكمة في تبليغ الحق Q من المعلوم أن تبليغ الحق إلى الناس يحتاج إلى حكمة بالغة، ومن الملاحظ من بعض من هداهم الله للحق، أنه يتخذ طرقاً في التبليغ قد تعود عليه بمشاكل عدة وعلى إخوته في هذا المجال، وإذا قلت له: لابد من الحكمة قال: إن الحكمة التي تدعيها هي في الحقيقة مداهنة، ويقوم أحياناً بأمور يستطيع عليها أهل الحسبة لما لهم من سلطة ولكنه تسرع، فما توجيهكم له؟ A هذا واقع، وهذه حقيقة، ونحن بغض النظر عن الأذى وعن الألم، بعض الناس عندما تذكره يقول: أنا مضحٍ ولا يهمني سبحان الله! لننظر إلى حال السلف الصالح، الصحابة رضي الله عنهم أكثر منا تضحية، فقد كانوا يطلبون من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأذن لهم في قتال الكفار وهم في مكة، ولو أذن لهم لربما قامت منهم مجموعة وهجموا على المشركين في دار الندوة، ففتكوا بهم، وانتهت القضية، ولكن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرهم بالصبر. ولما نزل الأمر بالجهاد ما نزل أمراً، ولكن نزل إذناً كما قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]؛ لأن القلوب متشوقة متحرقة من قبل يريدون ذلك. والحمد لله هذه علامة خير، وعلامة إيمان، لكن المطلوب تغيير المنكر فإذا رأيت مثلاً جهاز أغاني بجوار بيت الله الحرام هل أدخل فأحطمه؟ لا ينبغي أن أقوم بعمل فتنة، لكن أنصحه وأعظه، ولا أقول: دعهم ولا تتكلم معهم، فهذا غلط وألف غلط. إن القضية: هل هذا العمل صحيح؟ وهل هو سديد؟ هل فعل هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام؟ هل لك أنت أن تغير باليد؟ وهناك أسئلة كثيرة يجب أن توقف مثل هذا الشاب عند حده. فنجاح الدعوة الحقيقي يقاس بمقدرتك على أن تعري المنكر أمام الناس، حتى تضمن من أنهم إذا رأوه تقشعر منه جلودهم، لا بأن تحجبهم عنه. في أمريكا بلاد العهر والفجور والدعارة والفسق والفساد، الشاب الذي لديه مكافأة ضئيلة يقتطع من مكافأته للمراكز الإسلامية، ليقاوم الشهوات، ويقاوم المغريات، والمنكرات، فهذا الشاب ترتاح لمثله. نحن لا نقلل من أهمية إنكار المنكر أبداً، ولكن يُنكر بالطرق المشروعة، والمهم عندنا هو نجاح الداعية بحيث يستطيع أن يجعل الناس مقتنعين بإنكار المنكر بقلوبهم، ويرفضونه حتى ولو عرض عليهم، حتى لو بذل لهم الثمن، بحيث لو جئت إلى شاب تقي مؤمن، وقلت له: هذا مليون ريال، وهذه مخدرات أو سجارة فاشربها، لا يشربها -انظر كيف تبذل المليارات لمكافحة المخدرات أو لغيرها- أما هذا فيرفض أن يأخذ مليون ريال! هذا من الإيمان، وهذا النوع لا يرجوه أي غاصب، وهذا الذي تطمئن إلى أنه صار جندياً لهذا الدين، وسيستمر على ذلك بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أما مجرد أن هذا المنكر ذهب أو زال أو اختفى؛ فالحقيقة لو أن الأمر بهذه الطريقة، فهذا يعتبر أمراً سهلاً، وليس صعباً. وأضرب لكم مثالاً: لما دخلت الشيوعية إلى أفغانستان دعا داع الجهاد، فقام وهب الفلاحون والعمال والطلاب والموظفون، وفي أشهر معينة أو في عدة أسابيع تدربوا على معظم أنواع الأسلحة، وتقدموا في هذا المجال فهزموا الشيوعيين والحمد لله. وهذا دليل على أن كون الإنسان يستوعب الإنكار باليد أو يجاهد باليد ليس بتلك الصعوبة؛ لكن المشكلة هل يستطيع أن يأتي هذا الشاب إلى جاره، أو أمه، أو زوجته، فيجعلهم ينكرون المنكر، هنا الصعوبة، ومن هنا كان دور الأنبياء شاقاً وصعباً. فهذا نوح -عليه السلام- مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يسلم له إلا قرابة المائة؛ لأنه يخرج الإنسان من الكفر والشرك والمعاصي راضياً مختاراً، ولو عرضت عليه لأباها، أما مجرد التهور أو التسرع والتعجل فلا يفيد، والعاقبة لن تكون سليمة قطعاً.

كيف يتعامل الداعية مع المسائل الخلافية

كيف يتعامل الداعية مع المسائل الخلافية Q ما هي الخطوات التي يتبعها الداعية المهتدي الذي لم يتمكن من معرفة الخلاف المذهبي بين الناس في قضية دعوتهم، ما هو موقفه أمام المسائل الخلافية؟ A لا يصح لنا أن نعود الشاب من أول أمره على أن المسألة فيها قولان، خاصة العامة، فلا ينبغي أن نبدأ: هذه المسألة فيها خلاف، وهذه فيها خلاف، وبذلك نكون قد شتتنا الناس! وفي المقابل يقول البعض: أنا لا أريد أقرأ عليهم بكتاب فقه معين فأوقعهم في التقليد، إذا كان التقليد خطأ -وهو خطأ طبعاً- فأيضاً هذا الضياع خطأ، وقد تفر من تقليد إنسان أو عالم، فتقع في تقليد من لا يستحق أن يقلد. فهنا تأتي الحكمة، فإن هناك أساسيات يجب أن تعرض بدون خلاف، وهناك أمور قد عرف الخلاف فيها، فيعرج عليه على أنه يوجد ولكنه مرجوح، ويفصل في أدلة القول الراجح ولا يفصل في الآخر؛ لأن القلوب قد يعلق بها شيء من أدلة المرجوح أحياناً، هذا في الناحية التربوية، ولا نعني الناحية العلمية مثل البحث العلمي؛ لكن نحن نتكلم في نواحي التطبيق والتربية، بعد ذلك إذا اطمأننت إلى مستواه العلمي، تقول له: هذه المسألة فيها كذا، وهذه المسألة فيها كذا. ولذلك لماذا نجد التسرع عند طلبة العلم فنرى أحدهم يقول: إن هذا القول خطأ؛ لأن هناك حديثاً ضده، فلا يصبر مع أنه لم يعرف الأحاديث الأخرى، ولا ماعند المخالف، وهذا التسرع أخذه الطالب ممن علمه. فأقول: منهج طلب العلم مضبوط، فالذي يقول لا نقبل هذا الكلام، ولا نقبل المذاهب، ولا نقلد، ولا ندعو إلى التقليد فهذا حق ولكن لا يقوله كل أحد، قال الشافعي: 'إذا رأيتم قولي مخالف لقول الله وقول رسول الله فاضربوا به عرض الحائط'. إذاً المسألة مسألة اتباع، لكن كيف تنفذ؟ كيف تعلن؟ الحمد لله في هذا البلد أنعم الله علينا بنعمة عظيمة، واسألوا كيف حال البلاد التي علماؤها مداهنون مفرقون كلٌ على طريقة أما نحن أنعم الله علينا -والحمد لله- أن علماءنا فتاواهم وعملهم ومنهجهم بفضل الله عز وجل على منهج السلف الصالح. ولذلك فإنه يقال: هذه فتوى من الشيخ عبد العزيز، هذه فتوى من اللجنة الدائمة، فإنها تقابل بالاحترام والقبول، ألا ترون أن الواحد منا إذا أخذ فتوى اللجنة الدائمة في تحريم الغناء الذي يظهر في التلفزيون والإذاعة، هي ورقة واحدة إذا قرئت على الناس، أو علقت في مسجد، أثر على الناس التأثير العظيم. لكن لو قلت: هذه الفتوى فيها قولان، وأنا أقول كذا وكذا، نعم هذا صحيح، ولكن حتى لو ألفت مجلداً، فهل ستؤدي هذه الفتوى نفس التأثير التي تؤديه الفتوى الصادرة من اللجنة الدائمة؟ وإذا قلت هذه فتوى الشيخ ابن عثيمين في المجلات وزعها أو اطبعها، أو علقها على المسجد، فإنك تسمع الناس يقولون هذه فتوى الشيخ ابن عثيمين، فلا يناقشون، هكذا تعلم الناس أن يحترموا العلماء. لكن ثقوا بأن من لم يسلك هذا المنهج، أو ربى الشباب على عدم احترام العلم والعلماء، فأول من يجني الثمرة هو من دعاهم إلى ذلك. إن المنهج العلمي منضبط، والسلف الصالح هؤلاء بين أيدينا، واقرءوا سيرة السلف الصالح، هل تجدون رجلاً منهم تعلم الحديث والرجال في خلال شهرين ثم أخذ يصحح ويضعف؟ لكن هذا الشيء واقع اليوم في حياتنا، وهو عجيب جداً، ويدل على خلل كبير جداً نعاني منه. وأُذكِّرُ بالقضية الأساسية، ألا وهي قضية هذا الشاب الذي اهتدى، وعرف الحق، وبدأ يقرأ كتب العلم، كيف يستقيم على الهداية، وكيف يستمر ويواصل الدرب في سبيل الدعوة، فهذه هي المسئولية ولا نُعفى إن تخلينا عنها.

الأسلوب الحسن من شروط الدعوة

الأسلوب الحسن من شروط الدعوة Q بعض الناس ليس لهم أسلوب في الدعوة كما ينبغي، فقد يفسد أكثر مما يصلح، فهل يعذر بترك الدعوة إلى الله؟ A الحقيقة هذه مشكلة، أن يصبح الشاب المسلم عبئاً على الدعوة، ويتمنى زملاؤه أن يتوقف عن الدعوة -ولا حولا ولا قوة إلا بالله- لأنه لم يضبط نفسه، ولم يملك من كبح الهوى ما يضبط تصرفاته، يظن أن كبح النفس عن الهوى أنك تمنعها عن الخمر والزنا والغناء، لا؛ بل كل شيء لا ينضبط على أمر الشرع فهو اتباع للهوى، وقد يكون من اتباع الهوى أن يقول الإنسان: لئن مكنني الله من الكافر فلان الفلاني لأقطعنه إرباً وأمثل به، وهذا لما كان متوقعاً من شباب المسلمين، قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]. فينبغي أن تضبط النفس بما شرع الله تعالى، ولا ينبغي أن يكون الداعية بهذه الحالة، ولكن لو حصل فعلاً أن أحداً هذه تصرفاته، فهذا لا يصلح أن يكون داعية، وقد يكون من الخير له أنه يبحث عن مجال آخر، وألا يثير مشكلة، ونحن نعاني من القطيع الذي لا يعمل، ونعاني من المتهور الذي لا يتأمل، والله المستعان.

متى يكون الداعية مؤهلا للدعوة

متى يكون الداعية مؤهلاً للدعوة Q متى يكون الداعي مؤهلاً للدعوة إلى الله بالفعل والكلام والكتابة؟ A بعض الإخوة يفهم أن الداعي إلى الله لا بد أن يدرس وقتاً طويلاً، فيكمل فتح الباري كله، والمغني، ويسمع كل الأشرطة التي قيلت في الفتاوى والعلم والموعظة، وبعد ذلك كله إذا صار مجتهداً يدعو إلى الله! هذا خطأ، والبعض من الناس يسمع كلمة من بعض الخطباء، أو يسمع موعظة من شريط فيقوم يفتي كما سمع في الشريط، وكل هذا خطأ! إلى أي شيء ندعو الناس؟ ندعو الناس إلى أساسيات واضحة، وإلى أمور شبه واضحة، وإلى أمور دقيقة غامضة، هذا هو الواقع، إذا دعونا الناس إلى الأمور الجلية الواضحة فقط فهذه يمكن أن يدعو إليها أي إنسان مستقيم، العامي وصاحب المتجر، وصاحب المخبز، والبقال، كلهم يستطيعون أن يقولوا: إن الزنا حرام، وإن الربا حرام، والاختلاط بين النساء والرجال حرام، وهذا واجب على الجميع. وما كان غير ذلك مما اختص به طلبة العلم، كالكلام في الطرق الصوفية فهذا لأهله، وما كان أدق من ذلك فلأهله الخاصة، وهكذا نضع كل شيء في موضعه. وأنت في كل مرحلة من المراحل بقدر ما تتهيأ له تدعو، ومن الدعوة إلى الله أنه إذا جاءك أمر وأشكل عليك، أو كان فوق طاقتك، أن تحيله إلى من هو أهل له، ثم تدعو الناس، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يدعون الناس، فإن أشكل عليهم أمر سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يستفتون الصحابة العلماء، وهم معدودون ومعروفون، فيرجعون إليهم ويسألونهم ثم يدعون الناس، وهذا أيضاً من الدعوة، ولا يشترط أن أكون حافظاً لكل شيء لكي أقول للناس كل شيء، وهكذا التأهيل على خطوات، ومع التأهيل لكل مرحلة تكون الدعوة، وتكون الانطلاقة.

التخصصات العلمية

التخصصات العلمية Q هناك قضية التخصص، فبعض الشباب يبرزون في النواحي العلمية، ولكن ليس لهم القدرة على التعامل مع الناس فما نصيحتكم لهم؟ A التخصص بذاته لابد منه، ولكن لابد مع التخصص من حد أدنى معقول مقبول في بقية الأمور، فهناك من وفقه الله في الأسلوب الناجح في الدعوة والتعرف، لكن لابد أن يكون عنده حد أدنى من العلم، وهناك من يكون قد وفق في علم مثل علم الحديث -مثلاً- لكن لابد أن يكون عنده حد أدنى في اللغة، وهكذا فلابد مع التخصص من حد أدنى في بقية الأمور. وانظروا إلى الصحابة الكرام خالد بن الوليد سيف الله المسلول، ومعاذ أعلم الناس بالحلال والحرام، وأبي بن كعب أقرأ الناس، وزيد أفرضهم، فالتخصصات موجودة بين الصحابة رضوان الله عليهم لكن مع ذلك كل منهم كان لديه قدر معين مشترك، فنحن يجب أن نكون كذلك، فعندنا معرفة في العقيدة، وفي الحديث، وفي أصول العلوم الشرعية عموماً، فلابد من حد أدنى، وبعد ذلك ينبغ الإنسان في مجال تخصصه، ولا تتعارض هذه التخصصات أبداً.

التأثير الوقتي يزول بزوال المؤثر

التأثير الوقتي يزول بزوال المؤثر Q تلقيت العلم من أهله وتأثرت، ولكن سرعان ما زال التأثير بزوال المؤثر، فما هي نصيحتكم لي ولأمثالي؟ A هكذا طبيعة النفس، ولهذا جاء في حديث حنظلة: {لو أنكم بقيتم على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة يا حنظلة} فهذه طبيعة النفس البشرية، والإيمان يزيد وينقص، ولهذا يجب عليك أن تسعى دائماً إلى تقوية إيمانك، وتقويته تكون بصلتك بالله تعالى والتزام وسائل تقوية الإيمان.

حقيقة الغلو والتطرف

حقيقة الغلو والتطرف Q هل التمسك بالحق من الغلو؟ وما هو حد الغلو والتطرف. جزاكم الله خيراً؟ A التمسك بالحق ليس من الغلو، بل التمسك بالحق هو الحق، لكن الغلو ما جعله الشرع غلواً، لا ما جعله الناس غلواً، فالغلو ما جاء في كتاب الله، وفي سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما جاء عن منهج السلف الصالح وعرف على أنه غلو، هذا هو الغلو أو ما يسمى بالتطرف، أما الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فليس فيه غلو بل هو الحق.

الزواج وطلب العلم

الزواج وطلب العلم Q هل الزواج يتعارض مع طلب العلم؟ A ذكر الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عندما تعرض لمسألة العلماء العزاب الذين ضحوا في سبيل العلم ولم يتزوجوا، أن هذا ليس من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه، ونحن ديننا دين التكامل، ودين الحنيفية السمحة، ودين الفطرة الذي يلبي كل الرغبات. فإذا كان المقصود من السؤال أن الإنسان لا يتزوج ويقول: أنا أطلب العلم ولا أتزوج، فنقول: لا. هذه هي رهبانية النصارى. أما إذا كان قصده أن يؤخر الزواج حتى يكمل الدراسة أو شيئاً من هذا، فنقول: إن هذه الأمور بحسب الأفراد، بحسب الحالة الشخصية، لكن الأصل والقاعدة في زمن الفتنة، والفساد الذي نعيش فيه، والإغراءات والمثيرات أن الزواج حصن حصين للشباب يجب أن نسعى إليه، ويجب أن ندعو ونحث عليه، ليس عند طلبة العلم فحسب؛ بل عند عامة الناس بما نستطيع، يجب أن نسعى وأن نكوِّن رأياً عاماً؛ ليضغط على الآباء وعلى الأمهات وعلى أولياء الأمور، وعلى المسئولين أن يهتموا بقضية الزواج. وفي مثل هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم؛ حتى لو كان ليس لديه رغبة قوية في الزواج، أو لو كانت قدرته البدنية على المعاشرة الزوجية فيها شيء من الضعف، فأقول كما قيل عن عمر رضي الله عنه ولا أعلم صحته ولكنها حقيقة، أنه قال: [[إني لأتكاره وأمني نفسي لعل الله أن يخرج مني نسمة تعبد الله عز وجل]]. ونحن الأمة الإسلامية الآن لو عزفنا عن الزواج، فسنصبح أقلية مع هذا الوجود الصليبي الضخم، ونحن أيضاً في هذا البلد بالذات أقلية، فنحن في الحقيقة بحاجة إلى قوة بشرية وهي رأس كله قوة، وأهل السنة بالذات بحاجة إلى أن يتكاثروا. صحيح أن هذا يكلف أشياء ومسؤوليات لكن نتوكل على الله، والإنسان كما يقال: هو أساس كل شيء، وهو أساس كل مُنتَج، والإنسان إذا كان في شارع يزدحم بالناس فإنه يفتح أكبر مؤسسة، لكن في قرية صغيرة لا يفتح شيئاً، لأن وجود الناس هو الذي يحرك العمل، وكثرة الناس في مكان العمل تساعد على نهوض العمل. والمقصود أن العوامل التي تحث على الزواج كثيرة والحمد لله، لكن أتأسف وأتألم عندما أجد بعض الإخوة يجعل الأمرين متعارضين: الزواج، وطلب العلم. أما ما يكون من بعض الشباب حيث جعل الزواج استغراق في المتعة وفي الشهوة، وتمشية الزوجة، وغير ذلك من هذه الأمور، وجعل شهر العسل سنة، فهذه الأمور لا تصح ولا تنبغي، ولكن أعط كل ذي حق حقه، فتزوج ولكن أيضاً قم بطلب العلم، ولا تترك الدعوة إلى الله، ولذلك اختر ذات الدين لأنها لن تعيقك عن الدعوة، بل ستعينك على أمور الدعوة إن شاء الله.

ظاهرة إيثار دروس الوعظ والرقائق على دروس وحلقات العلم

ظاهرة إيثار دروس الوعظ والرقائق على دروس وحلقات العلم Q نجد أن كثيراً من الشباب الملتزم المتمسك، لا يحضرون الدروس العلمية ولا المحاضرات العلمية المركزة، وإنما يحضرون المحاضرات التي تعتمد على الرقائق غالباً، كما يحضرون المحاضرات للمشهورين من العلماء، فما نصيحتكم لهؤلاء؟ A قد يترك العالم الجليل المشهور الذي نتمنى أن يتاح لنا أن نجلس معه ساعة، ويترك حضور حلقة علم، ويحضر عند وعاظ أو أصحاب رقائق، هذه ليست ظاهرة جديدة بل هي ظاهرة قديمة؛ فقد كان بعض الوعاظ يجلس عنده عشرون ألفاً، وإن كان ليس في روايته ذكر صحيح وضعيف وربما اختلطت مواعظه بالأحاديث الموضوعة حتى هجرت أحاديث القصاص؛ لأن القاص غالباً مع العاطفة والتذكير ربما يأتي بحديث وليس بصحيح، ويقول: قال الله ولم يقل الله ذلك، همه العبرة أكثر من الصحة أو الضعف. فالمقصود أن هذه المشكلة قديمة، وإقبال الناس على المواعظ والرقائق قديم، بل حتى على الأشعار، فـ الصوفية عندها ذكر الأشعار أو سماع الأناشيد، أفضل من سماع القرآن؛ لأن الأشعار والنغمات تحرك القلوب والعاطفة، فمن الممكن أن تزيد العاطفة بغناء من يغني شوقاً إلى ليلى ولبنى الخ، لأن الفاصل بين العاطفة والنفس دقيق جداً؛ لكن الفاصل الواضح الكبير هو ما يتعلق بالعلم وبالعقل الذي يعتبر الجانب الواعي في الإنسان، فهذا الذي تكون فيه الأمور دائماً واضحة، والقصد أن العاطفة تتأثر وتستجيب للمؤثرات العاطفية، وخاصة أنها لا تكلف شيئاً. أما حضور حلقات العلم المشهورة، كما يحصل في شهر رمضان يأتي الرجل إلى الحلقة، ويبدأ الشيخ في اليوم الأول في الصيام وأحكامه وأنواعه، ويدخل في الكفارة، وكيف اختلف العلماء، فيخرج من المحاضرة وهو ما استفاد أي شيء؛ لأن مشكلتنا أنه ليس عندنا صبر ولا جلد على العلم، وكأنه يكلفنا ما لا نطيق. وإذا لم تضبط لديه المسألة يأتي إلى الشيخ فيقول: ارجع إلى كتاب كذا رقم كذا؛ فيقول الشاب: مراجع! كتب! وأذهب لأشتري الكتاب وأقرأه! هذه مشكلة! فيبدأ يحب الأشرطة؛ لأنها سهلة، ويستطيع أن يضعها في السيارة، ويستمع لها إذا ركب السيارة وذهب إلى عمله، لكن الكتاب يحتاج إلى فهم وتركيز وتعليق فيكرهه. ولا أعني ترك ذلك على الإطلاق بل بالعكس، أنا أقول: إن المواعظ يجب أن تنشر بأكبر وأقصى حد عند العامة، لكن الموعظة الحقة، لا خيالات، ولا منامات، ولا أقاصيص كاذبة فيها، بل المواعظ السليمة، والرقائق الصحيحة وهي كثيرة -والحمد لله- والله إن فيها الفائدة، فالقصص النبوي والقصص القرآني كثيرة وفيها الدروس والعبر، فنريد أن نعرضها على العامة، ونريد أن يكون فينا من يجيد أن يعرضها على العامة بأجمل أسلوب من حيث الأداء ومن حيث الإثارة الخطابية. أما طالب العلم، فينبغي أن يُصبِّر نفسه ليتعلم -مثلاً- مسألة من مسائل العقيدة، أو من مسائل العلم، ثم يفهمها ويعيدها، ثم يوصلها إلى غيره فإن لم يحصل هذا فربما بعد فترة من الزمن نتحول كلنا إلى عوام، ويبرز فينا مجموعة من الوعاظ يعظون والباقي عوام يسمعون، وهذه مشكلة فالأمة لا تقاد إلا بالعلماء، ولا يحركها إلا العلماء. شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله لما غزا التتار الشام، وقف فأفتى بفتواه المشهورة فتحركت الأمة للجهاد بها، تحركت على علم وجُمعت قلوب الناس على علم، لأنها مبنية على قال الله وقال رسول الله، فهذا هو الذي نريده وإن كان شاقاً. فأنا مع الأخ في كونه قد يُترك العلماء المشهورون، فيكون الحضور عندهم أقل من العشر مما يحضر للوعاظ والقصاص، فهذه ظاهرة سيئة وخطيرة، ويجب أن نقاومها؛ مع أني قلت أن لكل إنسان فائدته في مجاله، لكن لسنا أنفع من العلماء، ولا أنفع من أن نقول: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأتيك بالأدلة التفصيلية التي تعطيك حجة علمية، كما بعث الله الرسل -رضوان الله عليهم- بالحجة، فأقول: إقامة الحجة العلمية لا تكون إلا بذلك. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكتب لي ولكم أجر هذا اللقاء، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا شقياً ولا محروماً، وأن يأجر خيراً القائمين عليه، وأن يثيبنا ويثيبهم جميعاً بحسن الثواب، والحمد لله رب العالمين، وصلِ اللهم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الصبر على مجاهدة النفس

الصبر على مجاهدة النفس بدأ الشيخ حفظه الله بالتذكير بتقوى الله، وبواجب الأخوة في الله والمحبة فيه، وبأهمية الصبر في سبيل الله، ثم ذكر بعد ذلك حال هذه الأمة وما يجب عليها أمام ما تلاقيه الأمة من هجوم أعدائها وتكالبهم عليها، وداعياً إلى العودة إلى كتاب الله، مذكراً أن الملتجأ والمعتصم به هو الله، مبيناً أن الصبر وضبط النفس وعدم الاستعجال من أهم ضرورات الدعوة والجهاد.

التذكير بتقوى الله

التذكير بتقوى الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فنحن نعيش هموماً وآلاماً وأموراً يجب أن نلحظها بعين البصيرة، وبعين النقد أحياناً، وبعين المراجعة، فيجب أن تكون القاعدة في ذلك هي التذكير، وليس شرطاً أن تكون جديدة. التذكير بالأمور التي قد نغفل عنها جميعاً، أو ننساها في زحمة العمل، وأهمها وأعظمها تقوى الله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل أوصى بها الأولين والآخرين كما في كتابه المبين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] أن نتقي الله تعالى في كل ما نأتي ونذر، في حركات أبداننا وخلجات قلوبنا، وألفاظ ألسنتنا، وأن يكون الله تعالى -وهو كذلك عز وجل- مطلعاً ورقيباً علينا، فلنستشعر نحن هذه الرقابة دائماً، وأن نعامله ما استطعنا بدرجة الإحسان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}. والأولى بهذه الدرجة هو طالب العلم، والداعية إلى الله، أن يعبد الله بهذه المرتبة (أن تعبده كأنك تراه) فنحن آمنا به -عز وجل- بالغيب، فيجب أن نستشعر هذه الحالة، وبقدر يقيننا وإيماننا ورسوخ الإيمان بالغيب في قلوبنا، نجد أننا نسمو ونرتفع في آفاق إيمانية عظيمة، تعجز عن وصفها الألفاظ والعبارات والألسن، ولكنها منازل يبلغها الله -تبارك وتعالى- من شاء من عباده ويرفعهم إليها درجات. فأولى الناس بأن يرتقوا هذه المنازل ويرتفعوا في هذه الدرجات العلى هم طلبة العلم، ونعوذ بالله أن يكون أحدنا شمعةً تحترق لتضيء لغيره، أن يستفيد الناس من مواعظنا ومحاضراتنا وندواتنا، ونكون نحن آخر من يستفيد منها، إنما الواجب علينا أن نجعل تقوى الله -تبارك وتعالى- نبراساً لنا في حياتنا وفي كل أمورنا، نحفظ قلوبنا وجوارحنا كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقال أيضاً: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فطالب العلم أولى الناس بهذا، إذا نطق أن يكون نُطْقُه ذكراً، وإذا صمت فصمته عبرة، وإذا نظر فنظره فكر، ولا تخلو حال المؤمن من هذا. وقد عبر عن ذلك بعض السلف -رضوان الله عليهم- فقال في معنى الإخلاص: [[أن تكون حركاته وسكناته لله تعالى، لا يمازجه شيء ولا يخالطه شيء]]، وهذه هي الدرجة التي تجعل الإنسان ولياً لله تبارك وتعالى كما في الحديث القدسي: {وما يزال عبدي يتقرب إليًّ بالنوافل حتى أحبه}. فإذا جعل الإنسان هذه الرقابة والحصانة على أعضائه ومشاعره، وصارت حركاته وسكناته لله، استحق هذه المرتبة، فإذا كان كذلك صار كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} فلما حفظ هذه الأمور جميعاً، وزكاها وما دساها، نال ذلك بإذن الله، فتقوى الله مع الإخلاص لله تعالى في القول والعمل هو أول ما نوصي ونذكر به إخواننا.

التذكير بواجب الأخوة في الله

التذكير بواجب الأُخوة في الله ومن باب التذكير أيضاً أن نذكر بواجب الأُخوة في الله والمحبة، وهذه المحبة لا نعني بها ما قد يكون عند بعض الشباب من أنه يسر برؤية أخيه، ويفرح بأن يجالسه، وأن يسهر معه، وأن يذهب معه، مجرد هذا لا يكفي وإن كان في هذا خير، وإنما نعني المحبة الإيمانية بلوازمها وموجباتها الشرعية. ومن لوازم ذلك وموجباته: التناصح، فالمحبة مقتضاها التناصح وتسديد العيب، وبيان التقصير، ودوام الانتباه لأمراض القلوب التي قد تعتري أخيك أو تعتريك، فكل منا يكون مرآة لأخيه، والمرآة -كما تعلمون- لا تدخر شيئا من العيوب، ولا تجامل ولا تحابي، لكنها لا تشهر، هذه هي الميزة. فالإنسان يجب أن يكون بالنسبة لأخيه مرآة له، يريه ويبصره بما يرى على سبيل التناصح، فالنصيحة واجبه بيننا، أما إن كانت علاقاتنا عاطفية أو أخوية تتجرد عن التناصح، وعن تسديد الأخطاء، وعن بيان الواجب في الدعوة إلى الله؛ فإننا مع الزمن تتضخم لدينا الأخطاء، ولا نستفيد من هذه العلاقة إلا راحة نفسية يجدها الإنسان عندما يرى إخوانه، ولا شك أن هذه الراحة مطلوبة، وأنها دليل الإيمان -إن شاء الله- ولكنها لا تكفي وحدها، وأنا أعزو هذا الارتياح الذي نجده عندما يقابل بعضنا بعضاً إلى شدة وطأة الغربة والألم الذي نعيشه، فالإنسان عندما يسمع دائماً عن أهل الشر والفساد والمنكر، والبدعة، والضلالات، فإذا رأى أخاً له فرح وأنس به وتحدث معه، وهذا ما عبر عنه الشاعر: ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ يواسيك أو يسليك أو يتندم حتى قال بعض السلف 'ذهبت لذاتُ الدنيا كلها، وبقي من لذات الدنيا محادثة الإخوان' أو 'مناجاة الإخوان' فلذة النساء تذهب بعد الشباب، ولذة المال أيضاً للعاقل ليست شيئاً، وإنما بقي منها محادثة الإخوان. وهذه من لذات الدنيا التي تبقى مهما كبر الإنسان في السن، ومهما تقدم في العمر، ومهما افتقد من الدنيا، فإذا وجد أخاً له في الله يحبه وجلس معه، استمتع ووجد راحة لا يجدها في أيٍ من اللذات الأخرى التي تضمحل وتذهب. إن هذا يعود إلى وطأة الغربة -أحياناً- ولكن ذلك لا يعني أن نسترسل ونسترخي لعواطفنا، وإنما محبتنا -حتى لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي محبة إيمانية، وليست مجرد علاقة أو محبه عاطفية، وإنما هي محبة إيمانية لها مقتضيات ولوازم، وتتطلب منا أعمالاً وأموراً لا بد أن نحققها في واقعنا وفي أنفسنا، هذا الشيء لا ينبغي أن يغيب عن أذهان الإخوة الدعاة، وهذه العلاقة ضرورية في مثل هذا الخضم الذي نعيشه. نحن الآن نرى آثار التفكك وضعف الأُخوة والعلاقة بين الشباب، حتى سأل بعض السلف بعضاً من طلابه فقال لهم: 'هل بلغ من محبة أحدكم لأخيه أن يدخل يده في جيبه، فيأخذ ما شاء ويدع ما شاء؟ قالوا: لا. قال: فما المحبة عندكم إذاً؟! ' انظر كيف كان السلف الصالح رضي الله عنهم، وأروع مثال على ذلك مؤاخاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، وكيف تلاحمت هذه الأمة فأصبحت لحمة واحدة مع اختلاف القبيلة والوطن والحال، ولكن جمعهم الإيمان والعقيدة، ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجمعتهم الهجرة إلى الله ورسوله، ونصرة دين الله -عز وجل- فلما كان الهدف والغاية وجه الله -عز وجل- اجتمعوا على ذلك فكانت هذه الأُخوة العميقة، بحيث إنك أحياناً إن لم تكن تعرف القبائل أو لا تعرف حال هذا الصحابي من قبل، إذا قرأت اسمه من المهاجرين أو من الأنصار، فبمجرد أنك قرأت خبراً أنه ذهب فلان وجاء فلان، تحتاج إلى أن تعرف هل هو من المهاجرين أو الأنصار، ذهبت كل الفوارق تماماً، وأصبحوا أمة واحدة، فهذه هي المحبة التي لا بد منها.

التذكير بالصبر

التذكير بالصبر ثم أمر ثالث يجب أن نكرر الوصية به لا نملُّ في ذلك وهو الصبر، فلا بد من الصبر، ومن أعجب ما نراه الآن ونفقده في الدعاة إلى الله وطلبة العلم: قلة صبرنا، سبحان الله! لا نصبر على طاعة نستمر فيها، الواحد منا قد يكون له شيء من كتاب الله أو من السنة يدرسه ولكنه لا يصبر عليه، فينقطع في نصف الطريق، هذا عجيب! أين الصبر؟ بعض السلف لما قيل له: 'بمَ عرفت ربك؟ قال: عرفته بضعف الهمم، وفتور العزائم' لأن العزائم والهمم تضعف، فيعرف الإنسان حقيقة نفسه وضعفه؛ فيعرف ربه تبارك وتعالى المتصف بصفات الكمال والثناء عز وجل، فهذه حالة تعتري الناس، لكن هناك فرق بين أن تضعف وأنت تريد الدرجات العلى فتضعف عنها، وبين أن تضعف وأنت في أول الطريق. ومما يذكر أن أحد العظماء قال لابنه: 'يا بني! من تريد أن تكون مثله؟ فقال: يا أبتِ أريد أن أكون مثلك، قال: يا بني! إذا كان كذلك فلن تكون؛ لأنني اجتهدت أن أكون مثل عمر بن الخطاب، فكنت كما تراني، فإذا أردت أن تكون مثلي فلن تكون' يقول له: أنت لا بد أن تكون همتك أعلى، وتصبر وتصابر ومع ذلك لن تصل -والله أعلم- إلى النصف أو الربع مما تأمل.

الصبر على الدعوة والعلم

الصبر على الدعوة والعلم فلا بد أن يكون لدينا الصبر على طلب العلم، والصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن -ومع الأسف- نعلن عن بعض المشاريع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بعض المبادرات الخيرة فلا نصبر، أحدنا يقول: قد ذهبنا إلى السوق مرات ولم نستفد، سبحان الله! النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد} ونحن اليوم نملُّ من الدعوة لأن بعض الناس استجابوا وبعضهم لم يستجب! لقد ظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً لم يمل ولم يكل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاهد قومه، ودعاهم إلى الله -عز وجل- كثيراً، فطريق الدعوة هو طريق الصبر على الأذى: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم:12] والصبر إما على الطاعة، أو عن المعصية، أو على الابتلاء. أما نحن فقد ضقنا ذرعاً حتى بالدروس العلمية، فبعض الإخوة يلقي المواعظ والدروس، وفي أول الأمر يحضر عنده عدد عشرين ثلاثين طالباً، ثم ينقص العدد فيقول: لقد صاروا أربعة أو خمسة ثم يترك، وما علم أن هناك علماء كبار يستمرون ثلاثين وأربعين سنة على خمسة طلاب أحياناً أو على عشرة ولا يملّون، والذين يعرف قيمة العلم ينظر لهذه القضية من زاوية أخرى، من زاوية أنه ينفق علمه، والعلم إن لم تنفقه ضاع، فلا تنظر إلى كثرة من حضر واستفاد؛ لكن انظر إلى أنه يجب عليك أن تُعَلِّم. ولهذا لو قلت اليوم: أنا اقرأ ما تيسر من كتاب الله، وشيئاً من السنة، بعد صلاة الفجر، ثم أقوم بعد صلاة العصر، فأعظ به الناس في المسجد، فإن هذا العلم سيثبت في ذهنك، لكن في الأيام التي لا تعظ فيها بما قرأت فإنكن كله أو بعضه، ففما يثبت العلم ومما يحفظه الوعظ به، وتعليمه، والعلم هو الشيء الذي يزيد بكثرة الإنفاق منه، وأما غيره فينقص بالإنفاق ولو كان البحر على كبره. أيضاً لا يوجد عندنا صبر حتى على التعلم، وما أكثر هذا ومع الأسف، فبعض الإخوة نطلب منهم ونلاحقهم شهوراً على التعلم ثم إذا جاء فلا يلبث حتى يترك محتجاً بأن الكتاب لم يعجبه، أو أن الشيخ يطيل أو غير ذلك، وكأن الطالب يريد أن يفعل الشيخ كما يشاء هو، وهذا أول شرط من الشروط التي تخل بطلب العلم، فطالب العلم يجب عليه أن يوطن نفسه على أن يتعلم كما يريد الشيخ، وقد كان بعض الأئمة المحدثين الكبار يرحلون إلى آفاق بعيدة من أجل الحديث والحديثين. بعض الناس يجلسه الحياء أول الأمر -والحياء خير كله- وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أما الأول فآوى فآواه الله وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه} فالذي لا يريد أن يستفيد، فليأتِ من باب الحياء. وعندما يأتينا من يريد أن يعلمنا، ونعرف أن له فضلاً، ولن يتكلم إلا بخير فلنحضر ولو كان لدينا أعمال، أو ظننا أننا لن نستفيد منه، وكم من محاضرات وكتب وأشرطة تركناها نظن أن لدينا ما هو أهم وأعظم فائدة فإذا بدأنا بها ندمنا وقلنا: ليتنا قرأناها من قبل. كم من أناس نقول عنهم إذا أرادوا أن يحاضروا أو يدرسوا: من هو هذا في العلم والمعرفة؟ فإذا حضرت له استفدت، وهذا فيه احترام وتقدير للزائر، ولن تخلو من فائدة -إن شاء الله تبارك وتعالى- فهذه كلها داخلة في نطاق الصبر.

الصبر على مجاهدة النفس

الصبر على مجاهدة النفس إن الإنسان إذا ابتلي في نفسه أو ماله، أو أهله صبر، وهذا نوع، لكن الصبر له أنواع ومنها: الصبر على مرض النفس. واعلم أخي المسلم أن أعدى عدو لك هو هذه النفس، ولو عاداك الناس كلهم وسلمت من شرها؛ أنّك آمن بإذن الله ولن يضروك أبداً؛ لكن المشكلة هي: (كيف أحترس من عدوي، إذا كان عدوي بين أضلعي؟) والمشكلة هي العدو الداخلي، هذه النفس والهوى والشهوة، وحب الإخلاد إلى الدنيا، والتكاسل عن طاعة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والميل إلى ما يريحها وإن كان مُتعِباً فيما بعد، وهذا من إيثار العاجل، وهكذا طبعت هذه النفس فيجب أن تصبر على ذلك. بعض الناس عنده نفس غضوبة، فهذا يجب عليه أن يسأل الله دائماً أن يهديه إلى أحب الأخلاق وأحسنها إليه، لكن -أيضاً- من الابتلاء أن أكون إنساناً غضوباً فأصبر على غضبي، وأحاول أن أصبر عليها وأجاهدها؛ فإنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما الصبر بالتصبر، نعود النفوس الصبر حتى تستقيم. بعض الناس مشكلته أنه لينٌ جداً، أي أنه متساهل، وليس عنده فطانة. وبعض الناس يقول: ليس عندي فطنة، فنقول له: مارس الحياة، واعرف أن فيك هذا العيب، وهذا عليه ألا يثق بكل أحد، إنما يتأكد ويتأنى ويفكر، فلا يعطي كل من طلبه كتبه أو ماله حتى يتأكد من حاجته. والبعض يشكو من أن نفسه تتوق إلى شيء من مظهر الدنيا فلا يصبر، فهو لا يخرج إلا بالثوب والغترة والشكل المعين، وإلا اعتذر عن الحضور، فهذا عليه أن يعود نفسه رويداً رويداً، على أن يذهب أحياناً بشكل عادي أقل من هذا، قليلاً قليلاً حتى ينتهي هذا الأمر وهكذا. وهذه النفس مشكلتها أنها حرون مثل الدابة مرة تمشي، ومرة تقف وسط الطريق، لا تتحرك، ولذلك القاعدة التي علَّمنا إياها السلف الصالح في التعامل مع النفس، أنها إذا أسلست لك القياد حركها بسرعة حتى إذا حرنت، تكون قد قطعت مسافة كبيرة، وكل إنسان يجد في نفسه الفتور والخير، فإذا جاءت أوقات الاندفاع والإقبال على الله تعالى فحركها، فإذا جاء وقت الفتور فستجد أنه ليس فتوراً كلياً وإنما إلى حد ما. فمن أهم ما يصبر عليه هذه النفوس التي بين جنبينا، فبعض الإخوة لم تكمل ما أخبرته به حتى يعطيك رأيه سريعاً فيحكم بسرعة ولا يصبر ويتأنى. والبعض مشكلته كثرة الكلام، فأصبحت مجالسنا فيها كثرة كلام وقلة ثمرة، وفي الحديث: {كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع} ونترك وكالة أنباء (قالوا) ونرفعها عنا، ولا نتحدث بـ (سمعنا وقالوا) ولكن نتركها ونصبر، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا حديث عظيم جداً في معالجة القلوب والنفوس: {ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} هو الذي إذا قلت له: اتقِ الله ولا تغضب، وقف. فيجب أن تجعل أهم شيء تعالجه في حياتك هذه النفس، فإذا وطنتها على أمر الله حتى تصبح مواطئة له، فأبشر بما سبق أن ذكرنا من فضل الله عليك، فتصبح لا تفكر، ولا تهم، ولا تعزم، ولا تعمل، ولا تخطو إلا كما بين الله تعالى في الحديث القدسي: {فبي يسمع وبي يبصر إلى آخره}، هذه الحال لا تصل إليها إلا بعد المجاهدة، مع أن كل نفس ركب فيها هذا الأمر إلا من عصم الله من الأخيار والمتقين.

الصحابة والصبر

الصحابة والصبر وسير الصحابة -رضوان الله عليهم- في هذا عجيب -كما تعلمون- كان بعض الصحابة يشكو منه غلامه، وبعضهم تشكو منه زوجته، وكان بعضهم يشكو منه جاره، سبحان الله! لديهم طباع لكنهم كانوا سريعي الندم والتوبة والأوبة، وفي نفس الوقت أحدهم يعلم ما في نفسه من أمر، فتجد أحياناً يقول: ما منعني أن أتكلم إلا خشية كذا، ما منعني أن أمشي إلا خشية كذا، كثيراً تجد في السِّيَر أن عالماً لم يقدر على مسألة فيصبر عندها ولا يتجاوزها حتى يفهمها.

من مظاهر ترك الصبر

من مظاهر ترك الصبر من مظاهر ترك الصبر في حياتنا أن أحدنا يتصرف بعجلة، فكثير من تصرفات الشباب ينقصها الصبر، وأستشهد ولو بمثال واحد: وهو قول بعض الشباب: والله يا شيخ ما عدل ابن باز وهو إن شاء الله غضبه لله، أو إنكاره المنكر لله، لكن تعجل فأدخل الناس في حرج، فنقول له: اصبر قليلاً فالله تعالى يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] شاور، إذا كانت قضيه تخصك في ذاتك أنت، فتعجلت فيها فلا بأس، لكن شيء يعالج وضع الأمة لا تعجل فيه، واصبر حتى تستشير أقرب الناس إليك، ومن تثق فيه وهكذا، وأقصد بهذا أن الصبر له جوانب كثيرة، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] ولا بد من هذا، هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وأسأل الله لي ولكم العفو والعافية إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.

قاعدة في طريق الدعوة والجهاد

قاعدة في طريق الدعوة والجهاد ينبغي أن يفرق الإنسان بين ما يهواه ويتمناه، وأن يكون له قاعدة في عمله، فأنت عندما تعمل في طريق الدعوة أو الجهاد، فالقاعدة في ذلك أن لا تستعجل، ولهذا لما جاء الصحابة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد في ظل الكعبة، قالوا: يا رسول الله! وشكوا إليه -كما تعلمون الحديث- ما نالته منهم قريش، وسألوه الدعاء، قال: {والله ليتمنَّ الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت} وقال تعالى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] فليست القاعدة في الدعوة هي العجلة، وقطف الثمرة، لكن النفس تهوى ذلك وتتمناه. وهذا -والله أعلم- لا تؤاخذ به، فأنت تجاهد وتقدم على قتال العدو وملاقاته، أو تدعو وتقدم في سبيل الدعوة، وأنت تعلم أنك لا تدرك ثمرة عملك هذا، لا يعيقك ذلك ولا يؤخرك، لكنك تتمنى أن لا يميتك الله حتى ترى ثمرته، وهذه أمنية وللإنسان أن يتمنى الخير، وما نهانا الله أن نتمنى الخير، ولكن لا ينبغي للأماني هذه أن تؤثر على العمل؛ فتصبح هي الهدف، وهي المقصود الذي نحققه، هذا الذي يبدو لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم. أما من أراد الحيطة وأراد أن يقطع هذا الأمر من أساسه، فينبغي له كما ثبت عن كثير من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ممن تمنوا أنهم ماتوا ولقوا الله تعالى مع مصعب بن عمير وأمثاله، كما حدث لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فكانوا يخشون أن تكون حسناتهم عجلت إليهم، كما قال عتبة بن غزوان: [[وما منا اليوم إلا من هو أمير على مصر من الأمصار]] خافوا من الذي نتعجله نحن. ولا شك أنّ الإنسان مجبول على أنه يتمنى أن يريه الله نصرة هذا الدين، كما دعا سعد بن معاذ أن يريه الله يوماً في بني قريظة قبل أن يموت، والحمد لله فقد أراه، فهذه حالات تعرض في النفس، فإذا لم تؤثر على القاعدة، ولم تدخل إلى المنهج وإلى الغاية، فإن هذا لا يؤثر إن شاء الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

فقه الدعوة وعوائقها

فقه الدعوة وعوائقها Q فضيلة الشيخ سفر نريد أن تحدثنا عن فقه الدعوة، وبعض ما قد يفعله المجتهدون، وربما قد يكون من عوائق الدعوة؟ A الكلام طويل جداً في هذا، ولا أدري أي عقبة يريدها السائل، فكل طريق الدعوة عقبات، وكل ما تحدثنا هو من العقبات، عقبه النفس والهوى والشيطان، وعقبه كيد الكائدين، فهي عقبات كثيرة، وفقه الدعوة باب واسع، ولهذا من رسل الله الكرام -وهم صفوة خلقه وخيرتهم- من احتاج أن يعلمه الله تعالى فقه الدعوة بالعمل مثل يونس عليه السلام {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:140] فالله تعالى يريد أن يعلمه أن الإنسان الداعية، يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- ويصبر ويصابر ولا يعجل وهكذا فإذا كان الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- يعرض لهم شيء من هذا والله تعالى له حِكَمٌ عظيمة جداً، والله تعالى اختار منهم أولي العزم، وهم الذين صبروا وثابروا امتازوا عن غيرهم بهذا فما بالك بنا نحن؟ لا بد أن تعرض لنا أمور كثيرة من الضعف والفتور، ومن العقبات التي نحن بأنفسنا أكثر ما نعاني منها، وأكثر العقبات هي العقبات الداخلية، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] والعقبات الخارجية هي أهون ما يلاقي المؤمن لو أننا اتقينا الله تبارك وتعالى وصبرنا على ما يصيبنا، فالطريق كله محفوف بالمتاعب من أوله إلى آخره. يقول الإمام أحمد -وهو من تعلمون في الدعوة والعلم والإيمان، حتى أثنى عليه العلماء بما لم يثنوا به على أي عالم آخر بعد صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتابعين-: 'لا يجد المؤمن راحةً دون لقاء ربه'. فالراحة الكبرى إذا جاءتك الملائكة، وبشرتك أن لا خوف عليك ولا حزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد؛ هنا في هذه اللحظة ترتاح، أما قبل ذلك فإنه لا تأمن فتنة، ولا ابتلاء، ولا تأمن الضعف، ولا العداوة، لا تأمن إلا في الحالات التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]. معناه: أنهم كانوا في الدنيا في حالة حزن، فأبدلهم الله بالنعيم "الجنة"، وقالوا في الآية الأخرى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] فلما كانوا مشفقين في الدنيا صابرين أورثوا هذه الجنة، لكن لو كانوا في الدنيا مرفهين ومنعمين لن ينالوا هذا، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]. فعلينا أن نوطن أنفسنا على أن نكون من أهل التقوى، والعلم وأهل العمل، وأهل الصبر واليقين. وأهم ضابط في الدعوة كما في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] والآية الأخرى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وهذه بينت الحالات الثلاث التي لا تخلو منها دعوة: إما أنها مع الموافقين فتحتاج إلى حكمة، وإما أنها مع الغافل فيحتاج إلى الموعظة الحسنة، وإما مع المخالف فيحتاج إلى جدال بالتي هي أحسن، فالضابط في الآية الأولى قوله: (أدعو إلى الله) لا ندعو إلى أنفسنا، ولا إلى مشايخ نحبهم، ولا ندعو إلى انتماءات ننتمي إليها، لا ندعو إلى أي شيء إلا إلى الله، وما بعده فهو تبع له، فهذه الآية آية الدعوة احتوت أعظم الغاية في الدعوة وأعظم الوسائل، في الدعوة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] وختمت {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فأعظم ما ندعو إليه توحيد الله، وأعظم ما نحذر العالم منه الشرك بالله، ثم المعيار في هذا العمل بين هذا وهذا: البصيرة، والبصيرة: أمر يجمع بين العلم النافع وبين العمل الصائب، فالإنسان إذا كان لديه علم نافع وليس له عمل صائب فلا يوصف بأنه من أهل البصيرة، ومن كان لديه عمل وإن كان يتحرى فيه الصواب لكنه بلا علم فإنه ليس من أهل البصيرة، والحمد لله رب العالمين.

مسئولية المرأة المسلمة

مسئولية المرأة المسلمة تكلم الشيخ أثابه الله تعالى عن الحقوق التي يجب على المرأة المسلمة أن تؤديها، وذكر أن أعظمها وأهمها توحيد الله تعالى وعبادته حق العبادة وعدم الإشراك به شيئاً، ثم ذكر واجبات المرأة نحو زوجها وأبنائها، مبيناً وظيفتها التي خلقت من أجلها، ثم ذكر ما يجب على المرأة المسلمة نحو أختها المسلمة أينما كانت.

أعظم الحقوق على المرأة المسلمة

أعظم الحقوق على المرأة المسلمة الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: إن مسئولية المرأة المسلمة عظيمة بلا ريب، وقد بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن كل إنسان في هذه الأمة مسئول، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع -في الأمة- وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته إلخ}. فالمرأة مسئولة كما قال ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعموم العبادة لأنها خلقت لعبادة الله تبارك وتعالى، وتعبدها الله وشرع لها هذا الدين، كما شرع للرجال إلا فيما يختص بها لكونها أنثى. فهي مكلفة مأمورة تدخل في كل أَمْرٍ أَمَرَ الله تبارك وتعالى به، من تقوى الله، ومن الاستقامة على الدين، والتمسك بالكتاب والسنة، واتباع هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل ما شرعه الله عز وجل في القرآن أو السنة مما لم يكن خاصاً بالرجال فإنه يشملها، وما كان خاصاً بالرجال لا يشملها، وكذلك لها -أيضاً- خصوصيتها من أحكام وأوامر شرعت لها فيما يختص بها من الخلق والجبلة. إذاً: كل إنسان منا مسئول، ولا بد لكل مسلم ولكل عبد أن يعرف مسئوليته وواجباته، وإذا حددنا المسئولية والواجبات -وهو كذلك في الشرع- فإننا لا بد أن نأتي عليها جملة من غير إطالة. إن أول وأعظم الحقوق هو حق الله تبارك وتعالى وأعظم واجب على المرأة المسلمة أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً؛ كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء:36]. وكما بعث الله تبارك وتعالى أنبياءه بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِم وَسَلَّمَ أجمعين، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فأول ما يجب على المرأة المسلمة هو أن تبتعد كل الابتعاد عن الشرك بالله عز وجل كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116]. وكما قال عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72]، فهذا أعظم واجب في حق المؤمن في ذاته وفي دعوته إلى الناس، وكما بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن، فقال له: {إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}، أو {إلى أن يوحدوا الله}، أو {أن يعبدوا الله} ثلاث روايات كلها صحيحة ثابتة، ومعناها واحد، فأول ما يدعو إليه العبد نفسه ويدعو إليه المدعويين هو توحيد الله تبارك وتعالى، لئلا يشرك به شيئاً في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية فالشرك في الربوبية أن يعتقد أن هناك خالقاً غير الله عز وجل أو أن هناك من له شرك في خلق السموات والأرض أو شيء منها، وإن كان ذرة! فإن الله تبارك وتعالى هو خالق كل شيء، كما قال عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} [الزمر:62] ولا أحد من هؤلاء المدعوين المعبودين قديماً وحديثاً يملك أن يخلق شيئاً؛ لأن الله تبارك وتعالى تفرد بذلك، فهو الذي له الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، واعتقاد ما يعتقده بعض المعاصرين الآن وينشرونه في المجلات وفي الأفلام وفي غيرها من أن في إمكان الساحر والكاهن أو المنجم، أو أي إنسان كائناً من كان أن يخرج أو يحييَ ميتاً، كما قد يعرض أحياناً في أفلام الكرتون ويعرض في الدعايات مما يمس جانب الربوبية كل ذلك يعد شركاً بالله تبارك وتعالى! ومن الشرك في الربوبية من يعتقد أن في إمكان أحدٍ أن يعلم الغيب، أو يدبر الأمر، أو يحييَ الميت من غير تدبير الله تبارك وتعالى ومن غير فعل الله، وهذا مما يقدح في توحيد الربوبية، وهو شرك شنيع لم يعرفه الجاهليون الذين أخبر الله تبارك وتعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فلم يكونوا يعتقدون أن أحداً يشارك الله تبارك وتعالى في خلقها بل حتى في تدبير الأمر: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31]، بل كانوا مقرين لله تبارك وتعالى بذلك، فهذا جانب عظيم، وعلينا أن نتنبه جميعاً، وأن نلحظ ذلك وأن نعلم أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي المميت، الذي ينزل الغيث، والذي يدبر الأمر، والذي يُعبد وحده في هذا الوجود. ومما يناقض ذلك مما قد ينتشر مع الأسف الشديد في هذه الأيام بين الناس من اعتقاد أن الأولياء يديرون الكون كما تعتقده الصوفية، أو أن الأئمة -كما تعتقد الرافضة - هم الذي يديرون الكون! ويزعمون أن ذلك بتفويض من الله لهم! فكأنه أعطاهم ملكه وفوضهم بتدبيره! وهذا من أبطل الباطل وأمحل المحال؛ فإن الله تبارك وتعالى هو كما أخبر عن نفسه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]، وكل شيء لا يخرج عن حكمته وتدبيره، وهو من خلقه تبارك وتعالى وتصريفه عز وجل لهذا الكون فمن اعتقد غير هذا فقد أشرك في الربوبية.

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية ثم إن من الشرك في الألوهية وهو- مما يجب أن يحذر منه- ما يعتقده ويفعله بعض الناس من دعاء غير الله عز وجل، أو الذبح له، أو رجائه أو خوفه كرجاء الله وخوفه، أو محبته كمحبة الله تعالى، وغير ذلك مما يوجد في كثير من بلدان العالم الإسلامي، وربما أصاب بعض أهل هذه البلاد بتأثير الفرق الضالة كالصوفية وأشباهها. فيحسب الإنسان أنه إذا دعا غير الله، أو استغاث به، أو ذبح له، أو تقرب إلى قبره أو ما أشبه ذلك، أنه لم يُخِلَّ بالألوهية، ويظن أن هذا إنما هو نوع من التوسل أو الوسيلة! وهذا من تلبيس إبليس عليهم؛ لأن المشركين الذين عبدوا هذه الأصنام -سواءٌ ما كان منها تماثيل أم صوراً للرجال الصالحين أمثال: وُدّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، والتي عبدت في زمن نوح أو غيرها- ما كانوا يعبدونها إلا لهذا الغرض، كما قال تبارك وتعالى عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فيظنون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وكما في الآية الأخرى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فهذه الوسيلة التي يسميها المشركون المعاصرون وسيلة، هي بنفسها وبذاتها كما كان الجاهليون الأولون يعتقدون، وقد كان الجاهليون في تلبيتهم يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك!!) كانوا يعتقدون أن هذه المعبودات الباطلة هي وما تملكه داخلة في ملك الله. ومع ذلك فإن هذا من الشرك الذي أبطله الله عز وجل بهذا الدين العظيم -دين التوحيد- وببعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصبح المؤمن يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فأبطل تلك التلبية الباطلة وألغاها ومحا ذلك الشرك الذي كانوا يعتقدونه؛ مع أن ظاهره قد يقبله كثير من الناس اليوم، وربما فعلوا ما هو في حقيقته تطبيق وتنفيذ لهذا النداء ولهذه التلبية، وإن لم يلبوا أو يدعوا بها، سواء فعلوا ذلك في الحج أو في غيره، كاعتقادهم في أوليائه أو معبوداته أو صالحيهم -كما يزعمون- وقد يكونون صالحين حقاً، وقد يكونون أولياء، وقد يكونون فجاراً، لكن الشيطان زين عبادتهم لهم، فهنا جانب عظيم من الجوانب. والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، وقد حذَّر الله تبارك وتعالى عبده ورسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوقوع في الشرك كله، ومنه هذا النوع الذي ذكرنا، كما قال جل شأنه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. وعندما أمر الله تبارك وتعالى خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام -وهو إمام الموحدين الذي أُمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتبع ملته في التوحيد، ونبذ الشرك، وتجريد الولاء لله- أمر خليله بقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26]، فالواجب علينا أن نحذر وأن نتنبه من الشرك، ولا سيما في هذا الجانب -أي في جانب الألوهية- لكثرة وقوعه في هذا الزمان وفي سائر الأزمان، نسأل الله العافية والسلامة!

توحيد الأسماء والصفات

توحيد الأسماء والصفات ومما يجب أن نحذره الشرك في أسماء الله وصفاته والإلحاد فيها، كالذين ينفون أسماء الله، ويعطلون صفاته كلها، كما تفعله الجهمية والفلاسفة وغيرهما، أو تعطل بعضها كما تفعله الأشعرية. ومع الأسف -وأنتن والحمد لله متعلمات ملتزمات- قد يوجد في هذه الأيام في بعض المناهج الدراسية وفي المكتبات وفي الأشرطة من يؤول صفات الله عز وجل، ويخدش في توحيد الأسماء والصفات، الذي هو: إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف ولا تحريف. فنجد من يقول: "إن صفة الغضب معناها إرادة الانتقام، وأن الرحمة هي إرادة الإنعام"، فهذا تأويل، أو من ينفي علو الله عز وجل واستواءه على عرشه، فيقول: "إن الله في كل مكان"! وهذا كثير في هذه الأيام مع الأسف الشديد، وغير ذلك من التأويلات: كتأويل اليد أو اليمين بالقدرة وما أشبه ذلك، فهذا أيضاً يجب أن يقاوم ويحارب؛ لأنه يخدش ويقدح في توحيد الأسماء والصفات. وربما وصل الحال بهؤلاء المؤولين إلى أن يخرجوا من دائرة الإيمان إذا وصل بهم الأمر إلى تعطيل صفات الله وأسمائه؛ كما غلا الغالون في ذلك من قبل، نسأل الله العافية والسلامة!

الطاعة والتقوى

الطاعة والتقوى ومن حق الله تبارك وتعالى علينا مع هذا كله أن نطيعه وأن نتقيه، فإنه عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

تفسير قوله تعالى: (حق تقاته)

تفسير قوله تعالى: (حَقَّ تُقَاتِهِ) و (حق تقاته) فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسيراً عظيماً تستطيع كل أخت منكن أن تحفظه وتعمل به بإذن الله، قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في تفسير (حق تقاته): [[أن يطاع فلا يُعصى وأن يُشكر فلا يُكفر]]، أي: يشكر على كل ما أنعم به علينا، وكل ما لدينا من خير هو من نعم الله علينا، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، وكما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. والمرأة المسلمة عليها أن تشكر الله الذي هداها للإيمان والإسلام، وهداها لهذا الدين، وهداها للعفاف والطهارة، وفضَّلها على كثير من نساء العالمين، اللاتي تمرغن وتلوثن في أوحال الذنوب والمعاصي، ولم يشأ الله تعالى أن يرفعهن بما أنزل الله من هذا الدين، وأن يكرمهن بأن يكن من أهل الخير والتمسك والالتزام، فإن هذا اختيار من الله، اصطفاء منه، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فاختيار الله تبارك وتعالى لكِ أن تكوني أنتِ الداعية، وأنتِ المربية، وأنتِ الطاهرة والعفيفة والمحجبة، وأنتِ التي تغضين النظر، ولا تخضعين في القول، وتطيعين الله ورسوله، وتذكرين الله تعالى كثيراً، هذه نعمة عظيمة مهما قل حظك في هذه الدنيا من المال، أو الوظيفة، أو الجاه، أو ما يسمونه الآن الجنسية، أو المركز الاجتماعي. إذا أنعم الله تعالى على العبد بنعمة التقوى، فكل ما عداها لا قيمة له، كما قال الله تبارك وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46]. ثم قال ابن مسعود أيضاً: [[وأن يُذكر فلا يُنسى]]، والذاكرون الله والذاكراتُ هم في أعظم وأعلى أنواع الدرجات؛ لأن الإنسان لو تأمل لوجد أن الصلاة شرعت لذكر الله، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وأن الجهاد -وهو أشق ما يمكن أن يعمله الإنسان من الطاعات- إنما هو لإعلاء كلمة الله وذكر الله عز وجل، الأذان هو ذكر الله تبارك وتعالى، وقراءة القرآن ذكر الله وهكذا. فذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يشمل كل العبادات، وتندرج تحته كل الطاعات، ومن هنا كان بهذه المنزلة وبهذه المثابة؛ فجعله عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه -الذي استنارت بصيرته بهدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعليمه وحكمته- جعله الثالث مما يحقق تقوى الله حق تقاته، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم كذلك! وهذه الحقيقة هي التي سأل عنها جبريل عليه السلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له: {أخبرني عن الإحسان؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}، فالمؤمن يكون شأنه مع الله تبارك وتعالى كما أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتَّقِ الله حيثما كنت}. ويجب على الإنسان -وقد عرف الله، وعرف طريق الله، واتقى الله- أن يحرص على الاستقامة في هذا الطريق والتثبيت عليه؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} [هود:121]، وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13]، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قل آمنت بالله ثم استقم}، فلا بد من الاستقامة ولا بد من الثبات، ولا بد من الجدية في هذا الدين، فالأمر جد، والدين جد، والحق جد، والله عز وجل سوف يحاسب كل واحد منا على هذه الحياة، وعلى هذه الأوقات وعن هذه الأعمار، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمِ أنفقه} ولا بد أن يرى كتابه، وسيفاجأ بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14].

قيمة الوقت

قيمة الوقت أخواتي الكريمات! الأمر جد، ولا يحتمل الهزل ولا أن نضيع كثيراً من أوقاتنا في اللهو وفي الهزل، وفي الغفلة عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وهذه ظاهرة موجودة ومتفشية بين المتمسكين والمهتدين من الرجال والنساء، من الذين عرفوا الله تبارك وتعالى فأوقاتهم تضيع في اللهو وفي المزاح؛ مما قد يضعف الإيمان، ويقسي القلب، وينسي الإنسان ذكر الله والدار الآخرة، فالأمر جد، فهذا المركز جد، يجب أن تأتي إليه الأخت جادةً تريد الفائدة والإفادة والخير، ويجب إذا رجعت إلى بيتها أن تتذكر ماذا أخذت، وتراجع ذلك في نفسها وفي مراجعها العلمية إن كانت ممن يتعلم، وأن تستفيد وتستزيد من العلماء عن طريق الهاتف أو الرسائل أو ما أمكن. وأن تقرأ لتتقوى فيما أخذت، وليزيد إيمانها، ويزيد فهمها وتفقهها في الدين، ثم تزيد في عملها، وفي طاعتها، وفي عبادتها، وفي دعوتها إلى الله تبارك وتعالى، فهكذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم رجالاً ونساءً، علموا أن الأمر جد، وعلموا أن العقبة أمامهم كئود، وعلموا أن هذا العمر وأن هذه الحياة ما هي إلا أنفاس تصعد وتنزل وتهبط، ولا يدري الإنسان متى تنقطع هذه الأنفاس، ويحاسب على هذا العمر، وعلى هذا المال، وعلى كل ما في حياته. ولذلك كان السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم أشد الناس غيرةً على دين الله عز وجل؛ لأنهم لما أقاموا دين الله تعالى في أنفسهم، علموا أنه لا بد أن يقيموا دين الله في الناس، فكانوا أشد الناس غيرةً على دين الله، وعلى حرمات الله عز وجل كما قال بعضهم: [[وددت لو أن جسمي قرض بالمقاريض، ولا أن أحداً لم يعص الله عز وجل]]. أما نحن الآن مع غفلتنا ولهونا وبإضاعة أوقاتنا، فإنا نضيع الفرصة في الدعوة إلى الله. وهذا دليل على أن القلوب هذه، اهتمامُها ضيقٌ بأمر الدعوة وبأمر الهداية، وأن غيرتها ضعيفة، فمع ما نراه من شدة المنكرات وشدة انتشار الفواحش في كل مكان -والعياذ بالله- وأنتن أعلم بما يحصل في المحيط النسائي، وأنا لا يصلني منه إلا القليل، ولكنه مما تقشعر منه الأبدان، ولا يكاد يمر أسبوع أو يوم إلا تأتيني فيه مكالمة أو رسالة تهولني وتروعني وتؤرقني، وأقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!. أهذا يقع من المسلمات في بلاد الإسلام وفي أرض التوحيد؟! فكيف في غيرها؟!! فحقيقة الأمر أن الداعيات يجب أن يقدرن هذه الأمانة وهذه المسئولية أمام الله تبارك وتعالى، ويجب أن يَكُنَّ في غاية الجد والاهتمام، وأن تأخذَهنَّ الغيرةُ على دين الله، وعلى حرماتِ الله عز وجل، وإن الله عز وجل يغار، كما ثبت في الحديث الصحيح: {إن الله يغار، وغيرته أن تنتهك محارمه}، والمؤمن أيضاً يغار على دين الله، ويغار على حرمات الله، ويتخلق بهذا الخلق العظيم.

حق الزوج والأبناء على المرأة

حق الزوج والأبناء على المرأة ثم إن من الحقوق الواجبة على المرأة حقَّ الزوج والأبناء، وهنا لا بد أن نقول قضية مهمة جداً، وهي: أن عمل المرأة هي أن تكون أماً وزوجة؛ كما قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33]، فالعمل والوظيفة الأساسية للمرأة هي الزوجية والأمومة والقرار في البيت، هذه حقيقة نطق بها القرآن، وعمل بها الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، وعملت بها أجيال السلف الأولى، فانتشر هذا الدين، وانتشر الحق، وانتشرت الفضيلة.

عمل المرأة خارج البيت وتأثيره على قيامها بواجباتها

عمل المرأة خارج البيت وتأثيره على قيامها بواجباتها أما عندما استوردت أنماط الحياة الغربية وسلوكيات الأمم الكافرة، وأصبحت المرأة تزاحم الرجال في الأعمال، أو تعمل كأعمالهم، وتدرس مناهجهم وتترقى في وظائفهم، وإن كانت مفصولة معزولة، فإن ذلك يعد نوعاً من المشابهة؛ لأن بعض المجتمعات شابهتهم مشابهةً كاملةً في التبرج، وهذا كثيرٌ في خارج هذه البلاد، ونحن هنا في هذا المجتمع ويقاربنا فيه بعض المجتمعات القريبة منا شابهناهم مشابهة جزئية ولكنها خطيرة، فالفتاة تُدرَّس نفسَ المناهج (ابتدائي- متوسط- ثانوي) وبنفس المراحل في الجامعة والوظيفة والمراتب الوظيفية والأعمال، كل شيء إدارياً أو علمياً متشابه إلا في بعض الأمور، وهذا نوع خطير من المشابهة. وأذكر أن فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله في محاضرة له في جامعة أم القرى قال: 'إن الذي وضع مناهج البنات، وجعلها كمناهج الأولاد مجرم مجرم' وكررها رحمه الله، وحقاً قال والله! إن كان ذلك الذي وضعها قاصداً فلا شك أن ذلك إجرام في حق المرأة.

معاناة الحضارة الغربية من عمل المرأة

معاناة الحضارة الغربية من عمل المرأة أقول: هذه الحقيقة التي جاءت في الكتاب وفي السنة وواقع السلف -نطق بها أيضاً الغربيون الذين عانوا الويل والهلاك والمآسي والضياع من جراء خروج المرأة من البيت وعملها خارج البيت كأساس، وهذا رجل مشهور عند الغربيين عموماً، كتب وألف كتاباً لم يكتب كتاب آخر مثله في أوروبا كلها، وربما في العالم! عن سقوط الحضارات وأسباب انهيارها، وهو رجل ألماني يدعي شبنجلر. وكتابه كتاب مشهور جداً يسمى تدهور الحضارة الغربية أو سقوط الغرب، يقول فيه -فيما معنى كلامه-: 'إن جميع الحضارات تسقط عندما تفقد المرأة فيها وظيفة الأمومة وتخرج وتتبرج وتتهتك' وأخذ يضرب الأمثلة: حضارة اليونان، وحضارة الرومان، والحضارة الفارسية، والحضارة اليابانية، والصينية، والكورية التي لا نعلم عنها شيئاً، حضارات جنوب أمريكا، وهي أيضاً مما لم يكتشف إلا قريباً، وأنواع الحضارات المعروفة في التاريخ سقطت وتدهورت عند هذا المنعطف الكبيركما سماه، وهو خروج المرأة، ومشاركة المرأة للرجل، وتركها الوظيفة التي خلقها الله تبارك وتعالى وأهَّلها لها، وهي الأمومة. والمحللون الاجتماعيون الآن في العالم كله، المتجردون منهم يكتبون على اختلاف مللهم وكلامهم وآرائهم ويقولون: إن خروج المرأة من البيت هو سبب رئيسي من أسباب انتشار الجرائم وانتشار الفواحش وتعكير الأمن، وأيضاً كل الشرور التي يعانون منها؛ فلا أريد الإطالة على الأخوات الكريمات في هذا، وهناك أشرطة ومقالات ومحاضرات وكتيبات لعدد من الدعاة خاصة في هذا الموضوع.

كيفية تعامل المرأة مع الواقع المعاصر

كيفية تعامل المرأة مع الواقع المعاصر وأقول: إن هذه الأمومة وهذه الزوجية أسهل في حياة المرأة المسلمة، ثم إن كان لا بد من الخروج ونحن الآن أمام واقع وقد خرجت فيه النساء، وقد فرضت علينا هذه المناهج، وقد وضعت مدارسنا وتعليمنا وحياتنا على هذا النمط الذي لا قبل لنا أن نتنكر له بالكلية، وأن نتغاضى عنه كلية؛ فماذا نعمل؟ فمن باب أن نسد الثغرة ما أمكن أن نجتهد في أن نسدد ونقارب، ونستغفر الله تعالى في التقصير وفيما يحدث من تجاوز أمام أمر واقع ضخم هائل، يجعل المرأة تخرج من بيتها لأي عمل من الأعمال فيجب عليها أن تعلم أمراً: أن هذا عمل ثانوي بالنسبة لعملها الأساسي: إن لم تكن قد تزوجت، فلتعلم أن الزواج هو الأصل لا أن تتم الدراسة وتواصلها، وأن تتوظف كما يفعل بعض الأخوات. وإن كانت متزوجة فلتعلم أن حق الزوج والأبناء هو الأساس، ثم بعد ذلك تحرص أن تربي البنات والطالبات، وتنشر أيضاً بين الزميلات والأخوات هذا الأصل وأن تذكرهن به، فإن خروجها عنه لو كان لضرورة أو حاجة، فلا يعني أن تنساه وأن تغفل عنه، وأن يصبح واقع حياتنا هو الأصل الذي نظن أنه هو الحق، بل يجب أن نهتم به، وبالمقابل يجب على الإخوة الكرام -أولياء الأمور أو الأزواج- أن يرفقوا ببناتهم وأخواتهم اللاتي يجمعن بين الوظيفتين، فإنه لا بد أن يحدث منهن خللٌ أو تقصيرٌ في حق الزوج أو البيت؛ لأنه يصعب على المرأة أن تقوم بأداء العملين كاملين، فلا بد أن يتغاضوا عن ذلك في مقابل مصلحة تعليم هؤلاء البنات ونشر الدعوة والقيام بهذا الواجب الذي نرغم عليه أحياناً إرغاماً، وليس من اختيارنا -والله المستعان- ولا بد من الصبر في هذا الشأن.

حق المرأة المسلمة على أختها المسلمة

حق المرأة المسلمة على أختها المسلمة ومن الحقوق الواجبة على المرأة أيضاً: حق أختها المسلمة عليها في أي مكان، وهذا من مسئولية المرأة المسلمة في هذا الزمان وبالذات في هذا العصر، حيث فرضت وسائل الاتصال المتطورة التواصل بين أنحاء العالم، وأصبح لا بد أن يكون للمرأة المسلمة كلمة تقولها لأختها المسلمة أو توجيه أو دعوة أو معاملة في أي مكان كانت. فالواجب في هذا الشأن هو الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، التي هي عمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومهمة الرسل والصالحين والدعاة؛ كما قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فلا شك أن قوله: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يشمل الإناث كما يشمل الذكور، فلا بد أن تدعون إلى الله، وقد قامت أمهات المؤمنين بأروع النماذج في هذا.

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله هذه عائشة رضي الله عنها كم حفظت؟ وكم علَّمت؟ وكم رَبَّتْ؟ وكذلك سائر أمهات المؤمنين، وسائر نساء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مما لا يخفى عليكن ذلك، فالدعوة إلى الله هي عملك أيتها الأخت، وهي شأنك مع زميلاتك في المدرسة، ومع زميلاتك في العمل لو كنت تعملين، ومع قريباتك، ومع جاراتك، ومع كل من يمكن أن توصلي إليها الخير. وأخواتكِ المسلمات في خارج هذه البلاد ينظرن إليك على أنك القدوة والنموذج الأمثل، والآن عندما ذهب بعض الإخوة الدعاة إلى الأخوات المسلمات المشردات في البوسنة والهرسك، ورأين الحجاب، فقلن: هذا هو اللباس الذي يلبسه النساء في بلاد الحرمين في بلاد الإسلام، فإذا قيل لهن: نعم، فإنهن يسارعن إلى ارتدائه ويلبسنه، ونقول: الحمد لله أنهن لم يرين ماذا تفعل السائحات المائلات المميلات اللاتي بمجرد أن يغادرن المطار أو يصلن المطار من هذه البلاد، يتحللن ويصبحن كأنهن إفرنجيات نصرانيات نسأل الله العافية والسلامة! فالأخوات هناك يعتبرنكن قدوة ومثلاً ونموذجاً، وهكذا خلقنا الله وقدَّر لنا أن نكون في هذه البلاد، في موقع القيادة، وفي موقع القدوة، وفي موقع الأسوة.

أهمية القدوة في واقع النساء

أهمية القدوة في واقع النساء لا شك أن القدوة هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الاقتداء من بعده إنما هو بالصحابة وبنسائهم، لكن الناس يريدون قدوة حية، ولا بد أن يظل في الأمة من هو قدوة حي يراه الناس، ويستفيدون ويفيدون ويتعلمون منه مما يرون، غير ما يقرءون في الكتب، أما أن يفقد الناس وتفقد الأمة هذه القدوة، فلا شك أن هذه خسارة عظيمة، وأحب أن أذكِّر الأخوات -بهذه المناسبة- أن أخواتكن العائدات إلى الله تعالى قد كثُرن والحمد لله، ويردن منكن مزيداً من التمسك ومزيداً من إثبات النموذج الإسلامي الفاضل. هناك أخوات مسلمات طاهرات عفيفات في مصر والشام والعراق. وتركيا حتى في الفلبين، بل حتى في أمريكا. والحمد لله، فإن الحجاب والاستقامة والتمسك يتزايد بنسبة متسارعة عالية في كل مكان، هذا أمر رأيناه وسمعناه، وشهد به الشهود وتواتر، فهؤلاء الأخوات ينظرن إليكن بعين الاعتبار بسبب العلم الشرعي الخالص النقي عندكن، وأن أعمالكن خالية من البدع، وأن مظهركن يجب أن يكون خالياً من التشبه بالكافرات، وأن مدارسكن يجب أن تكون على النموذج الإسلامي الأمثل وهكذا ويعتقدن أن المناهج التعليمية اللاتي تقمن بتدريسها هي أرقى ما يمكن أن يوجد من مناهج ولو علمنَ بهذا المركز -وقد يعلمن به- لتمنت كل واحدة منهن أن تأتي إليه، وأن تتلقى فيه هذا الخير، ما دام مفتوحاً، هذه حقائق واضحة، وأنا ألمسها من خلال ما يرد إليَّ من رسائل أو مكالمات من هؤلاء الأخوات من خارج هذه البلاد -والحمد لله على ذلك- ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون هذا الظن واقعاً وحقيقة فينا، وأن يبارك جهودنا جميعاً، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.

الأسئلة

الأسئلة

التميز في شخصية المرأة المسلمة

التميز في شخصية المرأة المسلمة Q كيف يكون التميز في شخصية المرأة المسلمة وفي كلامها، وتعاملها، ولباسها، واهتماماتها؟ A إن المرأة المسلمة يجب أن تتميز، وأعني بالمسلمة الأخت المتمسكة التقية التي رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً، واختارت طريق الطهارة والعفاف في هذا العصر الذي يموج بالفساد، وأن تكون شخصية ملتزمة تقية تخاف الله تبارك وتعالى في كل حين، وتجعل شعارها {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم ٍ} [الأنعام:15]. وتتحلى بتقوى الله، وهو أعظم الحلية، كما قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، وأن تُعرَفَ بأدبها وتقواها بين الفاجرات أو المتهتكات، وأن تعرف بطهارتها وعفافها بين الخليعات والمتحللات، وأن يكون لها سمت المرأة المسلمة الذي إذا رأتها المرأة الأخرى ذكرت الله عز وجل، وتذكرت الدين، وتذكرت اليوم الآخر، وتذكرت آداب الإسلام وأخلاقه. أما كلامها: يجب أن يكون كله خيراً ونصحاً وتوجيهاً -كما هو حال كل مسلم- وفي حدود العمل، وفي حدود المزاح المباح، فلا يجوز أن يخرج كلامها إلى حد الخضوع إن كان مع الرجال، أو إلى حد التبذل والخوض فيما لا يليق إن كان مع النساء، وما هو محرم على عموم المسلمين من الغيبة والنميمة، وما أشبه ذلك. تعاملها: يجب أن يكون تعاملها كله مبنياً على حسن الخلق، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}. فهي تصبر حتى على من يؤذيها، وتتحمل حتى من يقسو عليها، وتعامل الناس جميعاً بما أمر الله تعالى به من العدل والصبر والحلم، ومن الرفق والتبشير لا التنفير. أما لباسها: يجب أن يكون ساتراً سابغاً ليس فيه ما يثير الفتنة، أو يدعو إلى التبرج، أو إلى إظهار شيء من الزينة لغير من أحل الله تبارك وتعالى لها أن تظهرها له. أما اهتماماتها: يجب أن يكون همها إرضاء الله تبارك وتعالى، ونيل مرضاته، والعمل لما ينفعها في الدار الآخرة، والاهتمام بأحوال أخواتها المسلمات، وذلك بالقيام بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تهتم بتلاوة كتاب الله وحفظه وإتقانه، وبتعلم سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته وسيرة أصحابه، وأن تحرص على كل شيء يرفع الله تعالى به إيمانها، ويقوي عقيدتها، ويفقهها في دين الله عز وجل. أما دورها تجاه الجميع: فهو في حدود ما شرع الله عز وجل لها: أن تكون داعية إلى الله، ومبشرة بالخير، وناصحة لكل أحد؛ كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ البيعة على بعض أصحابه بالنصح لكل مسلم، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة! قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}، وغير ذلك مما هو واجب المسلم تجاه إخوانه المسلمين رجالاً كانوا أو نساءً.

دعوى حاجة المرأة إلى الوظيفة

دعوى حاجة المرأة إلى الوظيفة Q تقول الأخت: بعض الناس في هذا الزمان يقولون: إن المرأة تحتاج إلى التعليم وإكمال الدراسة والوظيفة أكثر مما تحتاج إلى الزوج! بماذا نرد على هؤلاء؟ A هذا مخالفة للفطرة التي فطر الله الخلق عليها، ومخالف لواقع الحياة البشرية التي تكاد الآن أن تصرخ وتصيح في وجوهنا في كل مكان أن المرأة الأصل لها هو البيت والزواج. وقد وجدت في أمريكا جمعيات خاصة للمطالبة بعودة المرأة إلى البيت ينادين بذلك، وقد نشر في الصحف منذ أيام أنه في أمريكا وبريطانيا لوحات إعلانية كبيرة في بعض المدن والشوارع توصي المرأة بالحشمة: "احتشمي لكي تسلمي من الاغتصاب ومن المجرمين ومن كذا وكذا"! هذا وهم كفار! فالزواج لا بد منه، والحشمة لا بد منها، وهذه حاجة فطرية جعلها الله تبارك وتعالى في كل نفس، وإذا فات وذهب قطار العمر، وتجاوزت المرأة العمر سن الزواج من يحسن إليها؟! وكم من العوانس الآن وهن في سن الزواج، فكيف بمن تعدينه؟ فأرجو ألا ننساق وراء هذه الدعوات المشبوهة والمغرضة والغريبة عن ديننا؛ بل حتى عن حياتنا ومجتمعنا، والتي ما جاءتنا إلا من المجلات الخبيثة، والمسلسلات الفاجرة، والغزو الفكري الهدام.

زينة المرأة ولباسها

زينة المرأة ولباسها Q عن موضوع الزينة واللباس وما يتعلق بهما؟ A أحب أن أقول للأخوات في نقاط محدودة بتوفيق الله. أولاً: الحجاب الذي أمر الله به وشرعه ليس هو مجرد أن يستر أي شيء؛ فالحجاب يشمل في كل الأحكام التي من شأنها أن تبعد المرأة عن الرجال وعن الفتنة؛ فهو يشمل: القرار في البيت، فالقرار في البيت من الحجاب، ويشمل ترك المخالطة مع الرجال، ويشمل اللباس الفضفاض الساتر السابغ، ويشمل ترك التبرج وترك التزين لغير الزوج ومن أحل الله له ذلك، ويشمل: ما دل عليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صلاة المرأة في خدرها خير من صلاتها في المسجد} والمسجد الذي كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحدث عنه هو مسجده وهو إمامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال: {شر صفوف النساء أولها} وهذا كان في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه قريب من آخر صفوف الرجال. فانظرن كيف يمكن أن يكون وضع وحال المرأة المسلمة التي تتقي الله في هذه الأمور؟! القضية الثانية: اعلمن أيتها الأخوات أن المرأة الأجنبية إذا كانت كافرة، فإن حكمها هو حكم الرجل؛ فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي أو أن تظهر شيئاً من زينتها أمامها إلا أن ترى وجهها أو ما أشبه ذلك؛ خاصة في هذا الزمن؛ فالمرأة الكافرة لا يجوز لها أن ترى من المرأة المسلمة ما قد يؤدي -ولا بد أن يؤدي- إلى أن تنعتها في مجتمع خبيث كافر أو تتحدث عنها، وما أكثر ما تتحدث الكافرات الغربيات اليوم عن المرأة المسلمة وعن حجابها وعفافها وطهارتها! فحتى الوجه إن لم تكن هناك حاجة فلا يجوز للمرأة الكافرة أن ترى وجه المرأة المسلمة. وأما المرأة الفاسقة فإنها تأخذ حكماً قريباً من ذلك؛ فإذا كانت فاسقة فربما وصفت المرأة المسلمة، وقد تصف وجهها وعينها وشعرها وما أشبه ذلك، فهذه أيضاً لا يجوز للمرأة المسلمة أن تريها ذلك، فأما إن كان ذلك مظنوناً فقط فالأفضل أن تجتنبها، وينبغي لها أن تراعي ذلك ولا تخالط الفاسقات، ولا تتيح لهن أن يرين منها ما يمكن أن يدعو إلى الفتنة، إما عن طريق الوصف أو ما أشبه ذلك. وأما المرأة المسلمة مع المرأة المسلمة، التقية مع التقية، فإن الأولى والأفضل ألا تبدي إلا الوجه والكفين، أو كأن يظهر شيء من اليد أو الرجل، كما تعمل النساء في مهنتهن أو أعمالهن البيتيه وغيرها. أما أن تتعرى المرأة أو تتبرج أو تلبس الملابس الضيقة والشفافة أمام النساء وتستسهل ذلك، فهذا لا يليق بالمرأة المسلمة مطلقاً. وبالنسبة لما يرتديه بعض النساء من اللباس الأبيض للزواج ليلة العرس فإن الذي يرى حال النساء الكافرات يجد أن هذا اللباس بهذا الشكل بلونه وبزيه وبحمل الورود وغير ذلك هو عينه ما تطبقه وتعمله النساء الكافرات. يفعلن ذلك في الكنيسة ويُعْقَدُ الزواج هنالك، ولو أن إحداكن رأت -إما على الطبيعة أو في الصورة- حفل زواج في الكنيسة للكافرات، ورأت بعض الحفلات التي تقام هنا لوجدت أن المشابهة كاملة في كل شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولذلك فإنه لا يجوز أن نتشبه بهم أو أن نقلدهم في ذلك، إن كان الذي يفعل ذلك يفعله عن تقليد وعلم، فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من تشبه بقوم فهو منهم} وإن كان يُفعل عن جهل وغير علم، فيجب أن يحذر وأن ينبه إلى ذلك. وهو على كل حال على خطر لأنه لا يدري ما دينه، فهو يفعل ذلك وهو إمعة! يرى الناس يفعلون شيئاً فيفعله دون أن يسأل عنه. وقد عجبت جداً لانتشار هذه الظاهرة وهي مخالفة حتى للذوق السليم، فإن الرجل ذو الفطرة السليمة لا يستسيغ أو يحسن في عينه أن تكون المرأة لابسة أو مرتدية هذا اللباس الأبيض الشفاف وبهذه الطريقة؛ بخلاف ما كان عليه النساء من قبل والعرائس في الحفلات، فإنهن يلبسن الأخضر والأصفر والأحمر والأزرق والملون وما أشبه ذلك من ملابس جميلة، وفيها أكثر من ذوق، حتى إن فيها إتاحة للإبداع: أن تبدع المرأة أو يبدع أهلها في اختيار ذوق مناسب لها، فهذا في الحقيقة مما يجب أن نتعاون جميعاً على إنكاره. والبنطلون وإن كان واسعاً فإنه أيضاً لا يستحسن ولا يليق بالمرأة المسلمة، فكيف تلبسه وهو بهذه المثابة؟ فإن كان بغرض المشابهة فكما ذكرنا، وإن كان لغير غرض المشابهة وأنه إنما هو مجرد تقليد لمن رأتهن يقلدنهن، فالواجب على المرأة المسلمة كما ألمحنا أن تتميز في لباسها وسلوكها ومعاملاتها وفي خلقها وفي كل شيء. كذلك بالنسبة لصبغات الشعر وحتى لا أتكلم بغير علم فقد بلغني أنها أنواع، فبعض منها يغير خلقة الله، وأنا أعجب من المرأة المسلمة التي خلقها الله تعالى ذات بشرة بيضاء، وشعر أسود، وعينين سوداوين، ثم تغير ذلك وتتلطخ بهذا المكياج، وتصبغ شعرها، وتغير مقلتي عينيها؛ لتصبح كأنها امرأة أوروبية حمراء أو بيضاء، وشعرها أشقر، وعيناها خضراوان أو زرقاوان. لقد اختار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا أفضل الشعر وأفضل الألوان، ومن خلقه الله كذلك فلا حرج، لكن المقصود هو تغيير خلق الله الذي وعد به الشيطان فقال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) [النساء:119]. والذي أراه أن هذا يدخل في تغيير خلق الله، بحيث إن المرأة التي كانت بشكل ثم غيَّرت شكلها لو رآها أحد ممن يعرفها لا يعرفها، لأنها غيَّرت خلق الله الذي خلقها الله تبارك وتعالى عليه، فلا مانع من تحسين الوجه أو الشعر وإطالته ودهنه بما لا يخالف الشرع، ولكن أن يخرج ذلك عن حده، ويدخل في تغيير الخلقة، ويدخل في ذلك ما نص الشرع على تحريمه من نتف الحواجب أو التنمص وما أشبه ذلك من الوشم، كل ذلك لا يجوز، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة الحديث}. أقول: وكل ما حرم الله ورسوله فإنه يدخل في ذلك ضرورياً، لكن نتكلم عن هذه الظاهرة التي لم يكن لها وجود، وربما لم يتكلم عنها الفقهاء، فضلاً عن الأحاديث إلا أنها في نظري تدخل في عموم تغيير خلق الله، إضافة إلى أن الأخت التي تصرف هذه الأموال في هذه الأصناف فإن هذا المال أحوج أن يصرف للفقراء، وأحوج أن يعطى للأخوات المسلمات في أماكن أخرى، وأحوج أن تشتري به كتاباً أو شريطاً تستفيد منه، وأحوج إليه في أي عمل من أعمال الخير. أقل ما في الأمر أن بيوت الأزياء أو بيوت العطور في أكثر أنحاء العالم يهودية أو شبه يهودية، فلماذا نعين ونساهم في تمويل هذه البيوت التي تتبرع بما يأتيها من مال لليهود، ولدولة اليهود والنصارى، ولكل أعمال التنصير أو غير ذلك.

حكم كوافير الشعر

حكم كوافير الشعر Q ما حكم الذهاب إلى الكوافير؟ وهل هذا حرام؟ A نعم هذا حرام وممنوع! وإلى هذا التاريخ لا يوجد تصريح بإقامة محلات كوافير في المملكة لأنه مما حرمه الله، وهو مما يجب أن يحذر منها، فلا يجوز للأخت أن تخرج إلى محلات ما يسمونها التخسيس أو كمال الأجسام أو النوادي الصحية أو ما أشبه، ذلك لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أيما امرأة خلعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد برئت منها ذمة الله ورسوله} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إضافة إلى ما في هذه الأماكن من مفاسد، فإنها تشتمل على كميرات تصوير، وهذا ثابت ومؤكد، وربما كان هناك من الرجال من يرى ويراقب بالكميرات الخفية، وهذا أيضاً قد حصل وقد وقع وقد قبض على أصحابها، ومفاسد أخرى كثيرة وهذه الصور كم قد طلق بسببها، فإن بعض الناس الخبثاء يترصدون بهذه البيوت، أو يحصلون على الصور من هذه الكوافير وأشباهها، ثم يتخذون منها وسيلة للإفساد بين الزوجين، ويتخذون منها وسيلة للضغط على المرأة وطلب أمور لا تريدها ويهددونها بهذه الصور. وقد وقعت أمور أعرفها شخصياً وحالات -لا أريد الإطالة فيها- بسبب التساهل في هذه القضايا. وهذا يشمل أيضاً الحمّام الذي نهينا عنه فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم وإن كان ما رفع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ثابت، لكن الأول يشمله، لأنه يكون فيه الخلع والتجرد في غير بيت الزوج ولغير ضرورة أو حاجة. لا بأس -مثلاً- عند الطبيب أو غير ذلك أن تكشف مما لابد منه؛ لكن هذا التجرد لما يسمونه التجميل أو التخسيس أو ما أشبه ذلك، وهذه كلها مما لا تبيح للمرأة المسلمة أن تتجرد وأن يراها حتى النساء كما أشرنا، فأكثر هؤلاء النساء فاسقات، فقد يكون منهن وصف للمرأة التي يرونها والذي نهى عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه يراها}؛ فهذا الوصف قد يكون أشق وأخطر مما لو رآها الزوج -نسأل الله العفو والعافية- لأن الإنسان إذا وصف له شيء فإنه يتشوق إلى رؤيته، وربما إذا رآه لما كان لديه هذا الشوق.

حكم مشاركة النساء في حلقات التحفيظ النسائية

حكم مشاركة النساء في حلقات التحفيظ النسائية Q ما هي نصيحتكم للفتاة المشاركة في مثل هذه المراكز وحلقات التحفيظ النسائية، لا سيما في أوقات الإجازة؟ A نعم! من تستطيع أن تخرج من بيتها بالشروط الشرعية، أو لا تستطيع أن تحصل على هذا الخير في بيتها، فإن المبادرة إلى هذا التحفيظ خير لها، لا أقول: إنه خير لها من الذهاب إلى الأسواق وكذا، فأنتن -إن شاء الله- تعرفن حكم الخروج من المنزل لغير حاجة، أو الذهاب إلى هذه الأماكن، لكن أقول: هذا خير للمرأة حتى تستفيد وتزداد علماً وفقهاً في الدين، وحكمة ودعوة وبصيرة في الدعوة إلى الله.

المرأة المسلمة داعية في المدرسة

المرأة المسلمة داعية في المدرسة Q تقول الأخت: إنني أعي أن مسئوليتي هي كزوجة وأم ومربية للأجيال، ولكن أشعر في الوقت الحاضر أن المجتمع النسائي محتاج إلى داعيات، وأفكر بأن أعمل مُدَرِّسة، لكنني أخاف أن أقصر في واجبي ومسئوليتي الأساسية؛ فبماذا تنصحونني؟ A إن كنت مؤهلة للدعوة إلى الله، واستطعت الحصول على ضوابط معينة؛ كأن تكوني في مدرسة قريبة، ولا تذهبي مع السائق إلا مع ذي محرم، وأن تكون أعباء المنزل أقل؛ فإن بعض النساء أعباؤهن أقل من بعض؛ فعند ذلك لا بأس أن تشاركي في الدعوة إلى الله، كما أشرنا من قبل، أما إن كنت لا تستطيعين فواجباتك ومسئوليتك المنزلية أحرى.

الدراسة في كلية الطب

الدراسة في كلية الطب Q تذكر بعض الأخوات أن الوضع حالياً في كلية الطب وطبيعة العمل بعد التخرج مخالف للأصول الشرعية، وفيه بعض التنازل عن الحجاب، وفيه خلوة، مع مخالفته لطبيعة المرأة؟ A أنا أؤكد هذا في الحقيقة، أما من قد ابتليت بذلك، فتصبر وتصابر وتجتهد في أن تكون طبيبة مسلمة لتسد حاجة المجتمع في ذلك، أما إذا كانت هناك فتاة ملتزمة طاهرة تريد الدخول لكلية الطب، فكما قلت: لا أرى ذلك إلا إذا تغير الوضع عما هو عليه الآن.

ذهاب المرأة للدراسة خارج البلاد

ذهاب المرأة للدراسة خارج البلاد Q عن حكم السفر إلى بلاد الخارج للدراسة أو لغيرها؟ A وأنا أقول: إن كان -كما ترين الآن- بلادنا في الأسواق وفي المطارات مما لا يرضي الله، ومما يخشى فيه الفتنة بل هي مؤكدة ولا بد، فما بالكن بغيرها من البلاد؟! والسفر العارض أرى أنه لا يجوز، مجرد أن تسافر المرأة إلى الخارج شهراً للإجازة أو نحو ذلك أرى أنه لا يجوز إلا لضرورة، فما بالكن بالسفر الذي تكون فيه إقامتها إقامة دائمة، سنوات لتنال الشهادة؟! وأعني أنا بهذه البلاد مصر وأمثالها، أما أمريكا وبريطانيا ودول الكفر، فهذه من باب أولى. فالذي أراه -وأنصح الداعيات والأخوات منهن أن ينشرن هذا في المجتمع- أنه لا يجوز الذهاب إلى بلاد الكفر، وأنا لا أرى جواز ابتعاث أية فتاة مسلمة إلى الخارج، ولا أستسيغ كل ما يقال في الموضوع مهما قيل: إنه تخصصات نادرة في الطب وفي غيره، فلا يسوِّغ ذلك أن تضيع الفتاة المسلمة هنالك في بلاد الكفر سنوات، -وخاصة مع الأسف الشديد وقد رأيت ذلك وبلغني- أنهن مع غير محرم، والسفر لا بد فيه من محرم، إذا كان حلالاً ومباحاً وهنا في الداخل لا بد فيه من محرم. واللاتي يسألن عن السفر في الطائرة مع الأطفال، أقول: لا يجوز؛ فالطفل في الحقيقة ليس بمحرم. وقد سأل بعض الأخوات: هل المحرم الذي بلغ سن البلوغ أو التمييز؟ وأقول: فرق بين المحرمية وبين نفي الخلوة، فالذي أراه أن الخلوة تنتفي بوجود الطفل المميز، ولا سيما إن كان ذلك لحاجة أو ضرورة، وأن المحرمية في السفر البعيد أو الطائرات لا بد فيها من البالغ الذي في إمكانه ألا تحتاج المرأة مع وجوده أن تخالط الرجال، ولتحذر الأخوات الكريمات من التساهل في هذا الأمر؛ فإن السفر بالطائرات -وإن كان في الغالب مأموناً ومضموناً- إلا أن الخطأ الواحد منه يكون فظيعا وشنيعاً كأن تختطف الطائرة، أو تذهب إلى بلاد أخرى، كأن يقع أي حادث، وهنالك إشكالات أخرى إذا وقعت فهي فظيعة وكبيرة، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحفظنا وإياكم أينما كنا.

حكم ذهاب المرأة إلى المناسبات التي تقع فيها المنكرات

حكم ذهاب المرأة إلى المناسبات التي تقع فيها المنكرات Q ما حكم الذهاب إلى الأفراح والمناسبات التي يقع فيها منكرات؟ A إن كان ذهاب الأخت من شأنه أن يقلل المنكر أو يقضي عليه، فلا بأس أن تذهب وأن تحضر، وأما إن كان لا يجدي من ذلك شيئاً، فلا يجوز لها أن تذهب إلا في حالة واحدة، وهي حالة المصلحة المترجحة أو أن المفسدة التي تكون وتحصل أكبر من مفسدة بقائها كما لو كان الزواج لأخت لها، وسوف يغضب أبواها مثلاً عليها، ويحدث بذلك مفسدة عظيمة عليها، أو يغضب زوجها عليها غضباً شديداً أو يطلقها، كما يفعل بعض الحمقى والجهال، يقول: (إن لم تحضري زواج أختي أو أخي طلقتك) فتكون هناك مفسدة، فتذهب وهي مرغمة مكرهة، فإذا ذهبت فإنه لا حرج عليها، وهذا يظل في حكم الإكراه ولكن تجتهد أن تنكر المنكر وأن تعتزله ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ومن المنكرات التصوير والتشبه بالكافرات من قبل المدعوات، ومن المنكرات الرقص الخليع، ومن أمثال ذلك: الحركات التي فيها تشبه بالكافرات والغناء والمطربين والمطربات والموسيقى وأمثال ذلك مما يطول تفصيله.

الرغبة في دراسة التخصصات العلمية

الرغبة في دراسة التخصصات العلمية Q إن كثيراً من الأخوات اليوم يرغبن في دراسة التخصصات العلمية ودخول كلية العلوم: أحياء، فيزياء، رياضيات، كمبيوتر، طب، والعلوم الطبية وغيرها مع جهلهن بأمور دينهن؟ ولا يخفى عليكم أننا بحاجة إلى أمهات واعيات بأمور دينهن مربيات لأبنائهن وبنات جنسهن، فنرجو لفت النظر والتوجيه إلى أهمية تعلم علوم الدين أولاً، ثم إن كان لديها فائض من الوقت والجهد تتعلم ما تريد؟ A أنا أكرر ما قاله الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله من أن من قرر ذلك فهو مجرم، ويجب أن نتدارك هذا الإجرام في حق الأمة، قد تقول الأخت: لا بد أن تُدرس الكيمياء والفيزياء في المدارس، فأَدْرُسُها لأَدرِّسَها، فنقول: مع هذا الواقع السيء، إن كان لا بد منه فلا بد من قدر من العلم الشرعي الذي هو الأساس والمطلوب الأول، أما مع جهلها بدينها وتسعى في ذلك، فهذا في الحقيقة لا يجوز.

التوكل على الله عز وجل

التوكل على الله عز وجل Q كيف يكون التوكل الحقيقي على الله عز وجل؟ A التوكل على الله عز وجل يكون بأمرين: أولهما: اتخاذ الأسباب المشروعة؛ لتحقيق ما يريده العبد. ثانيهما: أن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعليه أن يتوكل على الله ويفوض أمره إلى الله عز وجل ويستعين به، ويعلم أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه الملجأ وإليه المصير، وأولياء الله تعالى هم الذين سماهم الله عز وجل بقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]؛ فكل المؤمنين المتقين أولياء لله، ولكن درجاتهم في الولاية تتفاوت بحسب تفاوتهم في التقوى والإيمان.

حكم صلاة التسابيح

حكم صلاة التسابيح Q هل صلاة التسابيح صحيحة؟ A صلاة التسابيح ليست صحيحة على القول الراجح.

ركوب المرأة مع سائق بدون محرم

ركوب المرأة مع سائق بدون محرم Q إن بعض المنتسبات إلى مدارس تحفيظ القرآن الكريم يلاحظ عليهن أنهن يخرجن بخلوة مع السائق، وهذا حرام لا يجوز، أو أنهن لا يتحجبن وهذه مصيبة ومنكر كبير، أو أنهن يتخاطبن مع الرجال بحرية وبدون حرج، وهذا أيضاً لا يجوز؟ A أرجو أن تتنبه الأخوات الكريمات إلى هذا، وأنتن أولى الناس بالتمسك وبالاستقامة، وأن تكن قدوة لغيركن من المنتسبات إلى المدارس العادية.

حكم المرأة الحائض أثناء الحج

حكم المرأة الحائض أثناء الحج Q امرأة حاضت في الحج، وأفتاها البعض بأنها مضطرة، وطافت وهي حائض؛ فما حكم ذلك؟ A نقول: الآن ليس عليها شيء يجب أن تفعله، ولكن هي على ما أفتاها المفتي، وإن كان أفتاها بغير القول الصحيح، فالصحيح: أنها تنتظر حتى تطهر وتقول: هل حجتي صحيحة؟ نقول: نعم حجك صحيح -إن شاء الله- ولا أعلم أنه يجب عليك شيء.

إزالة شعر المرأة من الوجه بالموس

إزالة شعر المرأة من الوجه بالموس Q حكم إزالة شيء من الشعر (الحاجب) بالموسى بدلاً من النتف؟ A لا فرق بين إزالته بهذه أو تلك بأي وسيلة من الوسائل فهو غير جائز.

حكم قص شعر رأس المرأة

حكم قص شعر رأس المرأة Q ما حكم قص الشعر بعد ما شاهدته على بعض الأجنبيات وأعجبت به، هل يجوز أن أقص هذه القصة؟ A لا! هذا تشبه بالأجنبيات.

حفظ القرآن للمرأة

حفظ القرآن للمرأة Q سائلة تقول: أعتذر من عدم حفظ القرآن؛ لأنني أخشى إن حفظت أن أنسى، فأكون من أهل الوعيد في نسيان القرآن!! A نقول: سبحان الله! هذا خطأ، عليكِ أن تحفظي وأن تجتهدي في ألا تنسي، أما أن يكون الحل هو الفرار من وعيد من نسي إذا حفظ، إلى ألا يحفظ الإنسان، وأن يترك الطاعة من أصلها، فهذا من وساوس الشيطان!

حكم الاشتراكات التي تطلب من المستشفيات

حكم الاشتراكات التي تطلب من المستشفيات Q ما حكم الاشتراكات التي تطلب من المستشفيات؟ A هذه لا تصح؛ هذا عقد باطل أن يدفع الإنسان لمستشفى مبلغاً من المال، ثم إن احتاج أن يذهب خفضوا له، وإن لم يذهب أخذوا المال فهذا حرام! وهذا عقد باطل؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحل العقود في منفعة معلومة، سواء كانت بيعاً أم إجارة، بثمن معلوم، فإذا كان هناك شيء من الجهالة أو الغرر، فإن ذلك لا يجوز، وهذا لا شك أن فيه جهالة وغرراً، فربما يمرض من أفراد العائلة عشرة أو ما أشبه ذلك، ويعالجون بآلاف الريالات، فيكون المستشفى قد تكلف مثلاً بعشرة آلاف ريال مقابل الاشتراك بخمسمائة، فهذا فيه إجحاف بالمستشفى، وقد لا يحتاج الإنسان أن يذهب هو وأحد أفراده إلى المستشفى أو يذهب فلا يخسر إلا ما قيمته مائة ريال، بينما يكون قد دفع خمسمائة ريال فهذه العملية عملية حسابية بسيطة وهي نوع من التأمين، وهو بجميع أشكاله يقوم على أساس حساب الاحتمالات فهم قد جربوا وأحصوا رياضياً أن عشرة آلاف مشترك قد لا يمرض منهم إلا كذا، وقد لا يخسرون إلا كذا، فالربح مضمون بناءً على هذا؛ فالناس يشتركون، ويقولون: احتياطاً فربما أمرض أو كذا، فالمقصود أن الغرض حاصل أو واقع، وهذا العقد باطل.

وضع اللولب لمنع الحمل

وضع اللولب لمنع الحمل Q ما حكم وضع اللولب لمنع الحمل؟ A اللولب أو غيره نوجز فنقول: كل موانع الحمل إن كان المقصود منها قطع النسل فهذا لا يجوز، وأما إن كان المقصود التنظيم، بحيث تستطيع الأم أن ترضع ابنها حولين كاملين، تريد أن تتم الرضاعة كما ذكر الله عز وجل، ثم بعد ذلك تربيه سنة أو ما أشبه ذلك، ثم تحمل في السنة الرابعة، فهذا من التنظيم ولا بأس به -إن شاء الله- وذلك راجع إلى النية.

الظلم بين الأولاد

الظلم بين الأولاد Q إحدى الأخوات لها ثلاث بنات وتظلم إحداهن وتكرهها جداً؟ A لا يجوز ذلك، بل يجب العدل بين الأبناء وهذا مما استرعانا الله تبارك وتعالى وأمر به.

الفرق بين مستحل الحرام ومرتكبه

الفرق بين مستحل الحرام ومرتكبه Q تحدثت معلمة عن أهمية العقيدة، وضربت مثلاً بشخصين أحدهما: يأكل الربا مع أنه يعتقد أنه محرم، ولكنه يراه ضرورة، وأنه من أهم مقومات اقتصاد أي دولة، والآخر لا يعتقد أنه محرم، ولو أنه لا يتعامل به، فقالت: إن الأول يعتبر مؤمناً، ولكن إيمانه ناقص، وأن الثاني كافر فهل كفره مخرج من الملة أم من باب أنه كفر دون كفر؟ A من اعتقد أن الربا حلال وإن لم يأكله فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة؛ أي إذا كان عالماً وأقيمت عليه الحجة، ووضحت له الآيات والأحاديث، وأصر على ذلك، فهذا كافر كفراً مخرجاً من الملة، وأما الذي يأكل الربا لكن يقول: لا نستطيع، أو يتعلل بأي تعلل من التعللات التي تؤدي إلى ارتكابه، فهذا عاص مرتكب لكبيرة عظيمة، وهو الذي تأذن الله تعالى بحربه: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، هذا في الذي يأكله لا في الذي يستحله، ويقول: إنه حلال، فالمستحل قوله كقول أهل الجاهلية الذين حكى الله عز وجل قولهم في قوله: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275].

محبة الكافر ومودته

محبة الكافر ومودته Q إن الممرضات أو الطبيبات أوغيرهن من الكافرات اللاتي تكون أخلاقهن حسنة ربما أدَّى ذلك إلى الافتتان بتلك الأخلاق أو مودتهن بحجة الأخلاق؟ A الدين لا شك أنه خلق، وأنه معاملة، وأن الأخلاق الحسنة هي أعظم ما يدعو الإنسان به الناس بعد ما يعطيه الله تبارك وتعالى القول الحسن وهو من الأخلاق الحسنة، ولا يجوز للمسلم أن يحب الكافر أو أن يوده، وأما إن أحسن إليه هؤلاء فلا بأس أن يرد الإحسان، فالمؤمن هو مكافئ، يكافئ الإحسان بالإحسان، ولو بشيء من الهدية أو بشيء من العطاء، ولعل ذلك يكون بإذن الله مما يرغب تلك المرأة في أن تسلم، لكن لا يصل ذلك إلى المحبة والمودة والموالاة كما جاء في هذا السؤال.

بذل النصيحة

بذل النصيحة Q هذه الأخت لديها ثلاث جارات: إحداهن تنقل الكلام وتنم بين الباقيات، وإحداهن ذات سمعة سيئة، وإحداهن درزية عقيدتها منحرفة وتمشي بدون حجاب وبتبرج، فما هي المعاملة التي ينبغي أن أعامل بها كل واحدة منهن؟ A هذه مصيبة، وهذه قد جُمعت لها المصائب نسأل الله العفو والعافية: أما النمامة: فعلى الأخت أن تعظها وتنصحها وتذكرها بما جاء في النميمة، ولو لم يكن فيها إلا حديث الرجلين الذي مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقبريهما، فشق جريدة خضراء ووضعها عليهما، وقال: {إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة}، فهذا في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك جعلته النميمة من أهل العذاب ومن أهل النار. وأما ذات السمعة السيئة: فلا أعلم ما مصدر ذلك، لكن ربما أنت تعلمينه، فتنصحينها وتعظينها في ذلك. وأما الدرزية ففي الغالب -والله أعلم- أنهم لا يرجعون عن دينهم فعليك أن تحذِّري الناس والجارات من دينها، وتحذرينهن بالأسلوب الحكيم الطيب، ولو وجدت قناة لإيصال الحق إليها فقد يمُنُّ الله عليها بالتوبة، لكن المعلوم أن الشيعة والدروز وأمثالهم قل من يهتدي منهم، ولا سيما إذا كان المجتمع في مثل هذه الحالة ولا أريد أن تيأسي فقد تكونين ناجحة في الدعوة معها ولو لم تنجحي فلن يضرك ذلك.

مفارقة الزوج الذي يعمل في بنك ربوي

مفارقة الزوج الذي يعمل في بنك ربوي Q ما حكم من يعمل في البنك الربوي وينفق من مرتبه على زوجته وأبنائه, وما الذي ينبغي للزوجة فعله تجاه ذلك؟ A لا يجوز له ذلك, وعلى المرأة أن تطلب الطلاق منه ويحق لها ذلك, إذا استنفدت الوسائل لتوبته. السائل: والذي يشرب الخمر؟ الشيخ: كذلك ينطبق عليه نفس الحكم السابق, ولا حول ولا قوة إلا بالله.

حكم أخذ النفقة ممن لا يصلي

حكم أخذ النفقة ممن لا يصلي Q ما حكم أخذ النفقة من الزوج الذي لا يصلي؟ A النفقة كما سألت الأخت واجبة عليه, نفقتك ونفقة بناتك واجبة على الأب, وكونه تارك لصلاة الجماعة لا يؤثر ذلك في استحقاقكم للنفقة, وعليك أن تدعيه إلى الله أنتِ وهن.

حكم هجر منزل الأب لمقارفته للكبائر

حكم هجر منزل الأب لمقارفته للكبائر Q ما حكم امتناع البنت عن العيش مع أبيها بحجة أنه يشرب الخمر ويخلو بالخادمة؟ A الفتاة التي رفضت الذهاب مع أبيها حتى يدع الخمر والخلوة بالشغالة الفلبينية, هي على صواب وعلى حق, وتبقى مع أمها, وأنصح لحل مثل هذه المشكلات أن يكون عن طريق الصلح, لا عن طريق الشكوى, ربما يكون من أهل الخير من الإخوان أو الأعمام من يحل مثل هذه المشكلات ويعين على طاعة الله.

عمل المرأة خارج البيت

عمل المرأة خارج البيت Q سائلة تقول: إنها تعمل خارج البيت مضطرة، فما الحكم؟ A عليك أن تتحجبي وأن تتحصني، وأن تتقي الله، وأن تعلمي أنه متى ما هيئ لك الاستقرار في البيت فعليك أن تستقري فيه.

الجلوس مع الأقارب مع وقوع بعض المنكرات

الجلوس مع الأقارب مع وقوع بعض المنكرات Q الأقارب إذا كانوا من أهل الغيبة والضحك والمنكرات فما حكم الاجتماع معهم؟ A نقول: اجتمعي معهم ولا تقاطعيهم، ولكن أنكري عليهم ما استطعت، وإذا استمروا وتعاونوا ورفضوا أن يقبلوا نصيحتك، فبإمكانك بعد ذلك أن تتجنبيهم، لكن مجرد وقوع منهم بعض المنكرات، والتي لا يكاد يخلو منها بيت إلا من رحم الله، فهذه ليست سبباً موجباً للقطيعة بل هي سبب للدعوة؛ والدعوة لا تكون مع القطيعة.

العدل بين الزوجات

العدل بين الزوجات Q ما حكم العدل بين الزوجات؟ A العدل بين النساء واجب لا ريب، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] لكن ينبغي أن تصبر الأخت إذا لم يعدل زوجها؛ فقد يكون فهمها للعدل خطأ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن الصبر مع الزوج والأبناء خير لها وأنها تؤجر على ذلك، وهو يأثم بتركه للعدل، وهو خير من الفراق وطلب الطلاق، وكما أشرت فالصلح خير، فلتُوَسِّطْ من ينصحه ويصلح ما بينهما.

محرمية زوج البنت

محرمية زوج البنت Q هل زوج ابنتي يجوز أن أذهب معه؟ A نعم هو مَحْرم، ويجوز أن تذهبي معه إلا إذا كان فاسقاً أو شارباً للخمر أو ما أشبه ذلك، فهذا تجتنبيه.

كشف الوجه في البلاد الأجنبية

كشف الوجه في البلاد الأجنبية Q حكم كشف الوجه أو اللثام في خارج البلاد؟ وما حكم وجود الصلبان في الثياب؟ A قلنا: إن المرأة لا يجوز لها أن تذهب لبلاد الخارج، ويجب عليها ألا تخرج، وإذا اضطرت كأن تكون ذهبت لعلاج أو ما أشبه ذلك، فإنها تكون محجبة حجاباً كاملاً، وتستعين بالله وتصبر على ما تلاقي. أما الصلبان: بجميع أنواعها، وهي أنواع كثيرة، فحرام أن تكون في لباسك أيتها الأخت، في أي نوع من أنواع اللباس، أما إن كانت في الأرض يوطأ ويداس فلا بأس بذلك إن شاء الله. والصور والصلبان على ملابس الأطفال: هذه مسئوليتنا، فلا يجوز أن نترك الصلبان والصور على ألبسة الأطفال وإن كانوا صغاراً.

وسائل تلقي العلم

وسائل تلقي العلم Q بالنسبة لطلب العلم من غير شيخ، ومن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، ما رأيكم في ذلك الخ؟ A الحقيقة أن عندنا أكثر من طريقة لطلب العلم، من سماع الأشرطة، ثم الاتصال هاتفياً بصاحب الشريط العلمي، والتأكد من بعض الأسئلة، وبالكتاب وغير ذلك؛ الآن تنوعت الوسائل، والحمد لله! فلنتقِّ الله ما استطعنا، وفي حدود الشرع.

حال المسلمين المستضعفين من قبل الكفار

حال المسلمين المستضعفين من قبل الكفار Q وهنا عدة أسئلة وهي تدور في موضوع واحد، فإحدى الأخوات تقول: ما نراه الآن في الساحة الإسلامية من إبادة للمسلمين، وتنصير لهم في يوغسلافيا، وأوغندا، وألبانيا، والهند وغيرها، وهذا شيء مخجل لا يمكن وصفه لما فيه من إثبات الذل والهوان على المسلمين في كل مكان، وفي اعتقادي أن من يتعرضون للاعتداء هناك أكرم وأعز منا، ويكفيهم أنهم يقاومون ويتحملون هذه الاعتداءات، ولكني أقصد بالذل والإهانة الأفواه المكممة لأولياء أمر المسلمين، فكأنهم لا يبصرون ولا يسمعون، والصحيح أنهم لا يشعرون، فهل يمكن أن نكتفي بمساعدات مادية لا تصل في الغالب إليهم، كما هو الحال في يوغسلافيا وأحياناً في الصومال، وهل تصل المساعدات إلى أصحابها أم لا؟ وأخرى تقول: نعم المساعدات هامة، ولكن الأهم منها هو إنقاذ الأرواح التي قد تصل إليها هذه الإغاثة، فلعل الإغاثة المطلوبة تصل، ولكن بعد أن يكون المسلمون قد أبيدوا تماماً، وهل بالفعل نحن لا نستطيع فعل شيء لإخواننا المسلمين إلا بإذن الأمم المتحدة أقصد أمريكا؟! وأخرى تقول: لماذا لا يكون لنا قوة إسلامية عسكرية تعمل على حل مشاكل المسلمين عند استدعاء الحالة؟ أم سنظل وقتاً طويلاً ندفن رءوسنا في الرمال ونتباهى بالمساعدات المادية التي تملأ صدور صحفنا كالصحف السعودية، وأخواتها العربية؟ وأخرى تقول: أخي الفاضل من الذي يتحمل الإثم في هذه الأحداث، وهل للمسلم الفرد إثم في عدم مناصرته العسكرية لإخوانه المسلمين؟! A في الحقيقة كل هذا الكلام حق، ونحن يؤلمنا جداً هذا الضعف وهذا التخاذل وهذا التعامل، ثم إننا إذا عملنا شيئاً نرائي به حتى أبطلناه بالمنِّ والأذى -نسأل الله العفو والعافية- والواجب ولا سيما عليكن معاشر النساء، أن تتبرعن بما تستطعن وأن تتصدقن، وهذا المال هو الذي يعين الرجال في كل مكان على الجهاد؛ فإن المال هو أكثر ما ينقصهم. الحمد لله المجاهدون كُثر في كل مكان من أهل تلك البلاد -والحمد لله- إلا أن الإخوة المجاهدين يشتكون من قلة المال، فتبرعن به، قد تقلن: كيف؟ أقول: يمكن ذلك، والحمد لله. وأنا شخصياً أتقبل التبرعات، وأرسلها أسبوعياً مع إخوة ثقات من طلبة العلم هاهنا، ويسلمونها يداً بيد، وتصل إلى أيدي المجاهدين -والحمد لله- وهي مثلما ينزل الماء البارد على العطشان الذي يكاد يموت من العطش، ونحن إذا اجتمع لدينا مبلغ -ولو كان قليلاً- نفرح به لعلمنا بشدة الحاجة إليه هنالك. والحمد لله رب العالمين.

(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية

(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية بدأ الشيخ حفظه الله ببيان أهمية هذه الرسالة، ثم بين بعض مظاهر الاختلاف بين أهل السنة وغيرهم من أهل البدع في معاملة المخالف، وحكم الصلاة خلف المبتدع، وقد بيَّن خلال ذلك الميزان الذي يتعامل به أهل السنة مع المخالف، موضحاً حكم المجتهد المخطئ، وحكم المسلم المتأول في القتال والتكفير، وبين أيضاً حكم الفُرقة الواقعة في الأمة، وكيفية التعامل معها وعلاجها.

تعريف برسالة شيخ الإسلام في المعاملة

تعريف برسالة شيخ الإسلام في المعاملة الحمد لله القائل في كتابه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، الذي قال: {تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} أما بعد فلأهمية الموضوع ولكبر الرسالة نوجز -إن شاء الله تعالى- ما أمكن، والموضوع -في الحقيقة- هو قراءة مع شرحٍ يسير من رسالة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ولعموم الفائدة فهذه الرسالة في مجمل اعتقاد السلف، في الجزء الثالث من الفتاوى، وهي رسالة صغيرة في حجمها، ولكنها غنية قيّمة في معناها ومضمونها. وهي تبتدئ من (ص278) من الجزء الثالث -كما ذكرنا- والرسالة عنون لها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله بعنوان 'قاعدة أهل السنة والجماعة والجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم الفرقة' أو ' قاعدة أهل السنة والجماعة ' وقد يطلق عليها: 'قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة' والمقصود أنها ليست كتاباً مفرداً له اسم مستقل، وإنما هي قاعدة كتبها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى في شكل رسالة. وجدير بنا في هذا الزمن أن نقرأها، ونفهمها لأسبابٍ كثيرة: السبب الأول: أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى إمامٌ، وعالمٌ، وداعيةٌ، ومجاهدٌ موثوق به، ولا يشك في ذلك أحد والحمد لله، وكل أهل السنة والجماعة اليوم في هذا العالم متفقون ومجمعون على جلالته وإمامته وقدره ومكانته وكلامه حجة عندهم في هذه الأمور، وفي كل الأمور والقضايا التي تعرَّض لها رحمه الله تعالى، لا لأنه يأتي بشيءٍ من عنده، ولكن لأنه يؤصل كلامه من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع السلف، ويدلل عليه. والسبب الآخر: هو أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله قد عاشر قضايا وأحداثاً هي أشبه ما تكون بما نعيشه نحن اليوم، فقد عاش تلك الأحداث الدامية، التي تسلط فيها التتار على الأمة الإسلامية، وسقطت الخلافة أو ضاعت هيبتها كثيراً، وهي من قبل فاقدة القيمة، وتمزقت الأمة أشتاتاً وأحزاباً وطوائف، وتناحرت من كل جهة، فكان هناك الصليبيون والتتار، وهنالك طوائف الفرق المنتسبة لهذا الدين، وهو منها براء، كـ الباطنية وقد كان لـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله مواقف عظيمة في الرد على الباطنية وغيرهم من الرافضة، وعلماء الكلام، والفلاسفة، وله في ذلك كتب مشهورة معلومة في الرد عليها. ومن ناحيةٍ أخرى فيما يتعلق بالتعامل -وهذا أمر مهم جداً- فالوضع الذي كانت فيه الحياة الإسلامية في زمنه رحمه الله، حيث لا يوجد خليفة قوي يضبط الأمة؛ وفي المقابل وجد أمراء أو حكام ينتحلون أو يدعون الدين وهم خارجون على أحكام الشريعة، كما هو الحال في التتار الذين كانوا يحكمون بغداد، وكان هناك أمراء الجور والظلم والفساد كما كان الحال في بلاد الشام ومصر، لكن كانوا على جهادٍ لأولئك المرتدين وأشباههم. وهناك أيضاً الطرق وضلالاتها وما تفرع عن ذلك. فكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يعيش هذه الأحداث، التي هي -كما قلت- أقرب ما تكون إلى وضعنا الحالي وعصرنا الحاضر، ولذلك فالقاعدة التي كتبها رحمه الله في التعامل مع الأمة، وكيفية تعامل أهل السنة والجماعة مع الأمة، في هذه الحالة الاستثنائية قاعدة عظيمة ومهمة؛ لأننا الآن في الحالة الاستثنائية. والحالة الأصلية والحالة الأساس: هي أن يكون المسلمون جميعاً أهل سنة وجماعة، وأن يكونوا جماعةً واحدة في كل أمورهم كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن هذا غير الواقع في ذلك الزمن وفي هذا الزمن، فنحن -إن شاء الله- سنستعرض هذه الرسالة بإيجاز.

مقدمة الرسالة

مقدمة الرسالة

أهمية الاجتماع

أهمية الاجتماع وقد افتتح شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى رسالته بالآيات العظيمة من سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:102 - 106]. فهذه الآيات جعلها في مقدمة الرسالة، ليبين أن الأصل الذي يجب أن يكون عليه المسلمون هو الاجتماع لا الفرقة، والاعتصام بالكتاب والسنة لا البدعة والشذوذ والاختلاف، فهذا هو الأصل. ثم عقب على ذلك بالأثر المنقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، قال: 'قال ابن عباس وغيره: [[تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة]] ' فبين أهمية الاجتماع، وخطر الافتراق من خلال هذه الآيات، وكيف أن هذا الاجتماع في الدنيا على الحق، يورث بياض الوجه يوم القيامة والنعيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكيف تورث الفرقة والبدعة والشذوذ والاختلاف تلك النهاية المخزية بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهي اسوداد الوجوه.

الخوارج فرقة خارجة عن الجماعة

الخوارج فرقة خارجة عن الجماعة ثم قال رحمه الله: 'وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخوارج: {إنهم كلاب أهل النار} وقرأ هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] ' ثم قال: 'قال الإمام أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه'. وقال شَيْخ الإِسْلامِ: 'وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفةً منها'. فالإمام مسلم رحمه الله سرد الروايات العشر في قتال الخوارج مرتبةً ومجموعةً ليبين ضلالها وخطرها، وفعل ذلك كثير من أئمة أهل السنة والحمد لله. والإمام البخاري رحمه الله روى بعضاً منها، يقول: 'وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية} وفي رواية: {يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان} '. والخوارج معلوم من السنة ومن واقع التاريخ، وقد ذكر رحمه الله الخوارج عقب ذكر الآيات الدالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة لحكمة سيبينها. قال: ' والخوارج هم أول من كفَّر المسلمين، يُكفّرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله' فهذا جانب، والجانب الآخر أنها أيضاً أول بدعة، وأول فرقة حدثت في الإسلام، ومعها قرينتها الرافضة الشيعة.

صفات أهل البدع وأهل السنة

صفات أهل البدع وأهل السنة هذه الصفات نأتي بها مفصلة.

تكفير أهل البدع لمخالفهم

تكفير أهل البدع لمخالفهم يقول: ' وهذه حال أهل البدع ' فيضع رحمه الله معلماً بين أهل السنة وبين أهل البدعة في التعامل، يقول: 'وهذه حال أهل البدع، يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها' فهم الذين وضعوها، ومن خالفهم فيها كفروه، ولهذا لا توجد طائفة من طوائف أهل البدع إلا وتتفرق وتتمزق إلى طوائف وفئات أخرى، لأن الذي أباح للأول أن يؤسس بدعة، ثم يجمع الناس عليها، ويوالي ويعادي فيها، قد يوجد عند رجل آخر، فيؤسس بدعةً جديدة ثم يوالي ويعادي فيها، فَلِمَ كان حقاً للأول، وليس حقاً لمن بعده؟! ومن هنا تفرقت الرافضة فرقاً كثيرة، وتفرقت الخوارج فرقاً كثيرة، وتفرقت الصوفية إلى طرق كثيرة، وهذه هي السبل التي نهى الله تبارك وتعالى عن اتباعها.

رحمة أهل السنة بالخلق واتباعهم الحق

رحمة أهل السنة بالخلق واتباعهم الحق يقول: 'وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله' فلا يؤسسون من عندهم أصولهم، وإنما يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا هم في جميع العصور جماعةٌ واحدة. بل تجدون العجب العجاب لما ظهرت فتنة الخوارج كان الإجماع ضدها في كل البلاد، وكذلك لما ظهرت فتنة الروافض، ولما ظهرت فتنة الباطنية، أو لما ظهر القول بخلق القرآن، وأهل السنة منتشرون من الأندلس إلى خراسان إلى بلاد الهند وفي بلاد فارس وأواسط آسيا، وفي هضبة الآناضول، وفي مصر، وفي أفريقيا، وكلهم كلمتهم واحدة في هذه المسألة وفي غيرها. فاتفقوا على كلمة واحدة رغم تباعدهم وعدم تلاقي أجسادهم؛ لأن المنبع واحد، والمشرب واحد، والمعتصم به واحد، وهذا يجعلهم أمة واحدة في جميع العصور، وفي جميع المواقف. قال: 'فيتبعون الحق ويرحمون الخلق' فهم يتبعون الحق الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويرحمون الخلق لأن أرحم الناس بالناس هم أهل السنة والجماعة، ومن ظن أن الأمر غير ذلك فقد ظلم نفسه، حتى عندما قاتلوا الخوارج وغيرهم، فإنما قاتلوهم للقضاء على فتنتهم، ورحمةً بالأمة من شرهم، وليهتدي من يهتدي منهم. ولهذا فإنهم عندما يقاتلون فئةً وهي خارجة -لكنها ليست خارجة عن الدين- كما فعلوا في قتال الخوارج -مثلاً- فإنهم لا يجهزون على جريح ولا يتبعون مدبراً، ولا يقطعون سبيلاً، إنما القتال هو نفسه قتال رحمة، كما سيأتي تفصيل معاملتهم -إن شاء الله- في قتال أهل البدعة، حتى وهم يقاتلون أهل البدعة، فإنهم يعاملونهم بمعاملة شرعية منصفة فيها الرحمة.

تعامل الصحابة مع بدعة الخوارج

تعامل الصحابة مع بدعة الخوارج ثم قال رحمه الله في الحديث عن بداية السبب الثاني أو التوطئة الثانية لموضوع الفرقة، قال: 'وأول بدعةٍ حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه فقاتلهم' وهنا لم يغز علي رضي الله عنه الخوارج ولم يبدأهم بقتال، مع أنهم اجتمعوا على هذه البدعة، وقال لأصحابه: [[دعوهم حتى يسفكوا الدم]] وقصتهم مشهورة معروفة، فلما لقوا عبد الله بن خباب رضي الله تعالى عنه أضجعوه وذبحوه، وبقروا بطن الجارية، فحينئذٍ سفكوا الدم الحرام فاستحقوا أن يقاتلوا. أما قبل ذلك فقد كانوا يرفعون أصواتهم بالصياح في جنبات المسجد، وهو على المنبر في الكوفة رضي الله تعالى عنه يخطب، ويقولون: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، اعتراضاً على موقف التحكيم، ومع ذلك لم يعاقبهم بشيء، بل قال: [[إن لكم علينا ألا نمنعكم مساجد الله، وألا نمنعكم مال الله]] يعني: الفيء الذي هو حظهم من بيت المال؛ فيأخذونه ولا يمنعون منه، فأعطاهم هذه الحقوق، لكن قال: [[حتى يسفكوا الدم، وإنهم لفاعلون]] فلما سفكوا الدم وتجمعوا، وأمّروا أميراً عليهم، وأصبحت لهم شوكة وولاية مستقلة عن إمارة المؤمنين قاتلهم، مع أن من حقه من أول مرة أن يقتل أو أن يقاتل، ولكن حتى وهو أمير المؤمنين -وهذا حق شرعي له- لم يسر في ابتداء قتالهم ولا في معاملتهم أثناء القتال -كما أشرنا آنفاً- إلا على وفق أصول شرعية منضبطة، وهكذا يجب أن تكون المعاملة للأمة في كل شيء. قال: 'وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يُفضِّله على أبي بكر وعمر حد الفرية ثمانين جلدة ' لأنه افترى عندما فضّله على أبي بكر أو عمر. ثم قال: 'ورُوي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: [[خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر]] ورواه عنه البخاري في صحيحه ' وهذا أمرٌ معلوم عنه رضي الله تعالى عنه وعن الشيخين، ثم ذكر وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، وبيّن أن أول بدعة حدثت في الإسلام هي بدعة الخوارج وكيف كان تعامل الصحابة معهم رغم أنهم يكفرون المسلمين.

من صفات أهل السنة أنهم لا يتركون الجمع والجماعات

من صفات أهل السنة أنهم لا يتركون الجمع والجماعات قال رحمه الله: 'ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات -لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم- فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صُلّي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين'. وهذه قاعدة عظيمة من قواعد أهل السنة في التعامل مع الأئمة، وهي أنهم لا يدعون الجمعة والجماعة، وذلك لأن هذه الشعائر العظيمة، هي دليل اجتماع المسلمين، وقوة شوكتهم، ومهابتهم تعظم وتقع في عيون أعدائهم بقدر ما تحيا هذه الشعائر، فمن أعظم العلامات الدالة على إسلام أي مدينة أو بلدة أو عدم ذلك هو اجتماع الناس في المساجد للصلاة، وللجمعة، وللجماعة.

حكم الصلاة خلف المستور والمبتدع

حكم الصلاة خلف المستور والمبتدع وما سبق تقديم بين يدي موضوع معاملة الأئمة في الصلاة، وما يتعلق بالصلاة خلف مجهول الحال أو المستور، أو خلف المبتدع وما يتعلق بذلك من أحكام، فقدم له -أيضاً- بتقدمة تدل على فقهه وحكمته رحمه الله، وهي أن الفرقة أو الطائفة التي عندها هذا أصل وهو عدم حضور الجمعة والجماعات هي الرافضة، وليس أحد من أهل السنة يرضى أن يشابههم، أو أن ينتسب إليهم، أو أن يكون مثلهم في أي شيء. وهؤلاء الرافضة -بمناسبة ذكرهم- شبهتهم في ترك الجمعة والجماعات، أن هذه العبادات لا تصح إلا خلف الإمام الحق الوصي، ولما كان الأئمة موجودين كانوا مستضعفين، ولم يكونوا حاكمين ولا ظاهرين، فمن بعد الحسن رضي الله تعالى عنه ما بقي لهم إمام ظاهر موجود، يحكم الأمة، فلما اختفى الإمام في السرداب ولم يوجد للأمة إمام إذاً تترك الأمة الجمعة والجماعة والأعياد حتى يظهر الإمام، فربطوا هذه العبادات -كشأنهم في أكثر عباداتهم- بوجود الإمام المعصوم، الذي هو الوصي الذي تم اختياره وترشيحه، أو خلافته، وإمامته من الله -كما يزعمون- ولهذا فصلاة الجمعة عند الرافضة إنما استحبها بعض أئمتهم، وقال بعضهم: إنما تصلي من أجل المصلحة حتى يجتمع الناس فقط، ولكن لا يدينون الله تعالى بها على أنها فرض عين، كما يفعل أهل السنة والجماعة.

الصلاة خلف المستور

الصلاة خلف المستور والمقصود بقوله: ' فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة، ولا فجور، صُلِّي خلفه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين'. ثم أوضح ذلك فقال: 'ولم يقل أحدٌ من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره' أما الخوارج فإنهم كانوا يمتحنون الناس حتى إنهم يتلقونهم في الطرقات، فإذا لقوا أحداً امتحنوه: ما تقول في كذا؟ ما تقول في كذا؟ فإن أعلن الولاء والبراء على حسب عقيدتهم وإلا قتل أو عوقب بأي عقاب. ولما سيطرت المعتزلة أيضاً في دولة المأمون كانوا يمتحنون الناس؛ فامتحنوا العلماء والقضاة بل والعامة، حتى كانوا لا يعقدون لرجل على امرأة، إلا إذا أقر بأن القرآن مخلوق!! وهذا امتحان. فهذا ليس من أصول أهل السنة والجماعة على الإطلاق، وكما قال رحمه الله: أنه لم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره بحيث إنك تعلم أنه من أهل السنة في الباطن، بل هذا خلاف القاعدة، والأصل هو أن من كان من أهل السنة في الظاهر فهو منهم في الباطن، ولم نؤمر بأن نشق عن قلوب الناس.

الصلاة خلف المبتدع

الصلاة خلف المبتدع يقول: 'بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي -الإمام- بدعة أو فجور، وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره' هنا العبارة مرتبكة، والمقصود منها أنه إذا كان هناك إمام يظهر منه بدعة وفجور، وأمكن للمأموم أن يؤدي الصلاة خلف غيره: ' فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم' أي: إذا كان الإمام مبتدعاً أو فاسقاً أو ظهر منه فجور، وأنت في بلد السنة فيه ظاهرة فتستطيع أن تدع هذا المبتدع وتصلي خلف السني، أو تدع هذا الفاجر وتصلي خلف التقي -وكل ذلك بالظاهر، والسرائر توكل وترجع إلى الله- فحكم الإنسان الذي يتهاون في هذا الأمر ويصلي خلف هذا المبتدع أو خلف هذا الفاجر أن صلاته صحيحة عند أكثر أهل العلم. وكلامنا هنا هو في صحة الصلاة أو بطلانها، وليس في مسألة الوقوع في الإثم، فإن الذي يترك الصلاة خلف التقي أو السني مع إمكانها فإنه آثم، ولم يذكره لأنه معلوم، ولذا نقول له: لا تصل خلف المبتدع، أما ما وقع فهو صحيح مع إثمه، لتفريطه في ترك الصلاة خلف من يمكن أن يصلي خلفه ممن هو بريء من هذا. ثم يقول: 'هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما -وهذه الحالة الأخرى- إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى' هذا لو كان في بلد وليس فيه إلا جمعة واحدة والإمام فاجر أو مبتدع، قال: 'فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة ' فلا يتركها، بل يصلي خلفه، ولا تعني الصلاة خلفه الثناء عليه، بل لا تعني إقراره، بل لا تعني عدم المطالبة بتغييره، لكن المقصود الآن هو: هل يترك الجمعة والجماعة أم يصلي خلفه؟ ومع ذلك فيجب على أهل السنة أن يغيروا هذه البدعة، وأن يغيروا هذا المنكر، وأن يتعاونوا على إزالته ما أمكن، وسوف نفصل -إن شاء الله- أنواع البلاد عندما نتحدث بعد قليل. ثم يقول: 'وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ومالك وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم، وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب ألا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد إنه لا تصح الصلاة إلا خلف من أعرف حاله'. فمثلاً: هناك إنسان تعرفه أنه من أهل السنة، وآخر تعرف حاله أنه من أهل البدعة، وهناك إنسان مستور لا تعرف حاله، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة. فهذا المستور قلنا: بالاتفاق تصح الصلاة خلفه، وأيضاً من يعلم أنه من أهل السنة فبالاتفاق تصح الصلاة خلفه، بل على استحباب أو وجوب ذلك، بحسب الظروف والأحوال، أما هذا الذي يعرف أنه مبتدع، فهذا الذي فيه التفصيل: فالإمام أحمد رحمه الله استحب لمن سأله ألا يصلي إلا خلف من يعرف حاله، ولكن هذا في حالة كثرة الأهواء والضلالات، فهو يحثه على أن يتحرى في ذلك، وهذه المسألة منقولة عن الإمام أحمد رحمه الله على سبيل الاستحباب، ومعنى ذلك أن الصلاة لا تبطل.

مذهب المرازقة

مذهب المرازقة وهنا نأتي إلى قضية تاريخية، وهو أن بعض الناس كانوا يرون أن الصلاة لا تصح، وهي الطائفة المسماة بـ المرازقة، وهي في الحقيقة فرقة صوفية، لكن كانت قريبة إلى السنة، وهم أتباع أبي عمرو بن مرزوق، وهذه الطائفة لها ذكر في التأريخ، حيث كان أبو عمرو عثمان بن مرزوق من الدعاة، ومربٍ من المربين، جمع حوله أتباعاً كثيرين، وكان يعيش في ظل الدولة الباطنية التي تسمى الفاطمية -على كفرها وضلالها- فكان لا بد للدعاة والعلماء أن يجمعوا الناس حولهم، ليبقى لـ أهل السنة وجود وشوكة وقوة، فوجد مثل هؤلاء الدعاة الذي جمعوا حولهم بعض الأتباع، ومنهم أبو عمرو عثمان بن مرزوق وكان مشهوراً بالصلاح والعبادة عند الناس، فاجتمع حوله كثير من الناس، على ما في منهجه من خلل وتصوف. والمهم أنهم اجتمعوا فكأن أبا عمرو بن مرزوق استند إلى ما نقل عن الإمام أحمد في هذا الشأن، وهو التحري خلف من يصلى خلفه، فرأى أنهم يعيشون في ظل دولة باطنية زنادقة ملاحدة، فماذا حصل؟ يقول: 'ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع؛ وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت في الديار المصرية، أمر أصحابه ألا يصلوا إلا خلف من يعرفونه'. فقال لهم: انتبهوا، هؤلاء باطنية، وأئمتهم باطنية. وكانوا -عياذاً بالله- يقولون: من لعن وسب؛ فله كيلة وإردب، أي أنهم كانوا يتعبدون بشتم ولعن الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وكانوا من فوق المنابر يلعنون، فقالوا: كيف نصلي خلف إمام يلعن أبا بكر وعمر؟! مع أنه قد لا يلعنهم أو قد يلعنهم تقية لأن الدولة فرضت ذلك عليهم، وهذه من الفتن -نعوذ بالله- كما يقولون: فتنة عمياء، فقال لهم: لا تصلوا إلا خلف من تعرفون عقيدته، وأنه بريء من هذه البدعة، ومن هذه الضلالات. يقول: شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر'. لكن مع ذلك بقيت طائفة المرازقة على القاعدة أيام الشيخ. وهذه مشكلة كثير من الدعوات الإسلامية مع الأسف الشديد، فما يؤصله الشيخ يبقون عليه، مع أنه قد تغيرت الأحوال وتطورت من خير إلى شر، أو من شر إلى خير، فـ المرازقة بقوا على كلام الشيخ أنهم لا يصلون حتى يعرفوا عقيدة من يصلون خلفه، بل قد يمتحنونه: ما رأيك في الصفات؟ وما رأيك في القدر؟ وما رأيك في الشيخ أبي عمرو بن مرزوق؟ وما رأيك في كذا؟ حتى يتأكدوا أن عقيدته موافقة لعقيدتهم، وسلوكه موافق لسلوكهم؛ فيصلون خلفه، فصارت بدعة منسوبة إلى السنة وإلى الإمام أحمد. فـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقول: الحال اختلف، فقد كان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق أيام غلبة الباطنية الملاحدة، فلما ذهبت دولتهم وجاءت دولة السنة أيام صلاح الدين وألغى لعن الشيخين وسبهما، وظهرت شعائر السنة، انتفى ذلك الأمر، فلم يعد لهم مبرر.

أقسام المدن والأمصار بدعة وسنة

أقسام المدن والأمصار بدعةً وسنةً وهنا نقول: من هذا الكلام ومما بعده نستنتج أن المدائن أو الأمصار على ثلاثة أصناف:

المدن والأمصار التي يغلب عليها الشرك الأكبر

المدن والأمصار التي يغلب عليها الشرك الأكبر الصنف الأول: المدن والأمصار التي يغلب عليها الشرك الأكبر والبدع المكفرة، كبدعة هؤلاء الباطنيين وأمثالهم، فإذا غلبت على بلد من البلدان وظهرت وانتشرت، وكان أئمته منهم، فإن حكم الصلاة حينئذٍ أنها لا تصح، فلا يجب على أهل السنة أن يصلوا خلفهم؛ لأن الأصل هو الوجوب، بل أقول: لا تصح الصلاة خلف المعين المعلوم أنه من هذه الفرقة الكافرة المرتدة وإن كانوا ينتحلون الإسلام ويدعونه، وعلى أهل السنة في هذه الحالة أن يصلوا وحدهم إن استطاعوا، فإن لم يستطيعوا كأن تكون الغلبة لأهل الشر، فيصلون من غير جمعة ولا جماعة، فلو كان واحداً فإنه يصلي وحده، أو متفرقين صلوا فرادى فإنه لا يجب عليهم في هذه الحالة أن يصلوا خلفهم؛ لأن صلاتهم باطلة. والقاعدة تقول: من كانت صلاته باطلة في ذاتها فصلاة المأموم خلفه باطلة، فلا يجوز له أن يصلي خلفه، وبطلانها؛ لأن البدعة مكفرة حيث أن هذا باطني أو مشرك مظهر للشرك الأكبر علانية، فهؤلاء لا يجوز الصلاة خلفهم، ولا تصح.

المدن والأمصار التي يغلب عليها أهل السنة

المدن والأمصار التي يغلب عليها أهل السنة الصنف الثاني: وهي مدن أهل السنة، أي: المدن أو الأمصار التي يغلب عليها أهل السنة وتظهر السنة فيها، وهذه هي التي فصّل القول فيها ها هنا، وسيتعرض لها -وقد ذكرنا بعضاً منها- وهو أنك تصلي خلف الأئمة جميعاً، ولا تقول: هذا لا أعرفه حتى تتيقن أنه من غير أهل السنة، بل لا بد أن يكون لك يقين أن هذا الإمام فيه بدعة مكفرة تنقله عن الدين، أما غير ذلك فالأصل هو صحة الصلاة خلفه، وإن كان فاجراً، وإن كان صاحب بدعة -كما ذكرنا من قبل- ولم يمكن الصلاة خلف غيره، ولو كان صاحب بدعة وأمكن الصلاة خلف غيره فهذا يترك.

المدن والأمصار التي اجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة

المدن والأمصار التي اجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة أما الحالة الثالثة: إذا كان البلد أو المصر مختلطاً من أهل سنة ومن غيره من البدع، ففي هذه الحالة يكون الأصل هو التحري، كما لو كان بلداً نصف سكانه من الروافض أو الخوارج، والنصف الآخر من أهل السنة، فيجب على أهل السنة أن يتحروا ولا يصلوا إلا خلف من كان إماماً مثلهم من أهل السنة.

حكم الصلاة في تلك الأمصار خلف المرء أو عليه

حكم الصلاة في تلك الأمصار خلف المرء أو عليه ثم يقول رحمه الله: 'فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال: إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله، فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة ' وهنا ننبه إلى مسألة هامة: وهي أن حكم الصلاة خلفه مثلها -أيضاً- حكم الصلاة عليه، فأي جنازة تقدم في مصر من أمصار المسلمين فالأصل أنه يصلى عليه، إذا كان في مصر غلبت السنة عليه، أو لم يعلم يقيناً أن هذا الرجل من الفرق -أو من الناس- المرتدين، فإن علمت حاله يقيناً أنه مرتد؛ فلا يجوز أن تصلي عليه. وهذه ينشأ عنها قضية أخرى، وهي: إذا علمت أنه مرتد ولا يجوز لي أن أصلي عليه، فهل يجب عليَّ أن أقول للناس: لا تصلوا عليه؟ الأولى أن نقول: هذه مسألة أخرى، وهذه تتعلق بالمصالح والمفاسد وما يترتب على ذلك؛ لأن الأصل أن الحكم مناط بالمصلحة أو المفسدة، كما فصل -رحمه الله- في هذه الرسالة، وهناك أدلة كثيرة، لكن نكتفي بذكر واحد منها -فقط- وهو القصة المشهورة الصحيحة: قصة عمر مع حذيفة رضي الله تعالى عنهما. حيث كان عمر رضي الله عنه ينظر إلى حذيفة فإن صلّى على الجنازة صلّى، وإن لم يفعل لم يفعل؛ لأن حذيفة رضي الله تعالى عنه يعلم المنافقين بأعيانهم، وقد أطلعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أعيانهم، لكن مع ذلك لم يقل حذيفة: يا أصحاب رسول الله! هؤلاء المنافقون لا تصلوا عليه، وكذا عمر وهو أمير المؤمنين لم يأمر الناس بذلك، وإنما هو بنفسه لم يفعل. والحقيقة أن الرسالة عظيمة وقيمة، لكن أقول: هناك قضايا لا بأس أن نبسطها، وهي قضايا مهمة جداً، تدل على حكمة الدعوة وحكمة المعاملة، وشَيْخ الإِسْلامِ في رسالة الحسبة ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي رسائل كثيرة بسط هذه المسألة، بل هي ظاهرة في السنة كظهور الشمس لمن أراد الحق وتبينه. فـ عمر أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، ومع قوته في الحق التي لا تخفى، وهو الذي لم يرفع المبتدعة رأساً في زمنه، ولم يستطع الخوارج ولا الشيعة ولا غيرهم أن يرفع رأسه في زمنه، لقوته في الحق رضي الله تعالى عنه كان يستطيع أن يقول للناس: لا تصلوا، فكيف يقتصر على نفسه هو ولم ينه غيره؟ وذلك لأن هذا الأمر فيه سعة، فصلاتك عليه أنت تؤجر عليها لأنك صليت وامتثلت أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعني صلاتك عليه: شهادتك له بالإيمان. وحتى لو شهدت له وقلت: هذا رجل مؤمن -مثلاً- مع أنه رجل باطني مرتد، أو رافضي وأنت شهدت أنه مؤمن على ما ظهر لك فإن الله لا يؤاخذك على ذلك! وسيأتي المصنف بالشواهد الكثيرة. والشاهد أن الصلاة صحيحة خلف مستور الحال، وكذا الصلاة عليه. بل ذهب الأئمة في كتب الفقه إلى أبعد من ذلك، كما في المغني والمجموع للنووي أنه لو قتل في المعركة واختلط أموات الكفار بشهداء المسلمين، قال بعض العلماء: يغسل الجميع ويكفن الجميع، ويصلى على الجميع، وقيل: يصلى عليهم واحداً واحداً، قالوا: وذلك تغليباً لجانب الإسلام. والكلام معروف في أن الشهداء لا يصلى عليهم، لكن قد يكون قتال فتنة، وقد يكون دماراً أو زلزالاً. المهم إذا قتل مجموعة، واختلطت جثث الكفار بجثث المسلمين في غرق أو حريق أو أي شيء آخر. والمقصود أن الأئمة نظرتهم كلهم نظرة تغليب الإيمان، ولم يقل أحد أن الجميع يدفنون بلا صلاة ولا كفن لوجود كفار بين هؤلاء المسلمين. مع أنه قد يكون في المسلمين -والله أعلم- من نعلم حقيقته في الباطن أنه مرتد، لكن يجب علينا أن نعامله بالظاهر، ولم يكلفنا الله تعالى بغير ذلك، ولا يحاسبنا على غير ذلك، وإن أخطأ أحد فنسب مؤمناً إلى النفاق أو الردة، أو أخطأ فنسب مرتداً إلى الإسلام مجتهداً مخطئاً؛ فهذا لا مؤاخذة عليه، والأدلة الصحيحة على ذلك كثيرة، وسيأتي بعض منها -إن شاء الله- هنا.

صلاة الصحابة خلف الفجرة والظلمة

صلاة الصحابة خلف الفجرة والظلمة ثم يقول: 'وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره' أي ليس فقط من لا يعرفون حاله، بل صلوا خلف من يعرفون فجوره كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان قد شرب الخمر، وصلى الصبح أربعاً وجلده عثمان بن عفان على ذلك، وقصة الوليد بن عقبة مشهورة في التاريخ، وجَلْدُ عثمان بن عفان رضي الله عنه له مشهور في التواريخ، وبعض الناس يطعن في صحتها على أساس أنه كيف يصلي الصحابة أربع ركعات خلف إنسان سكران، وكيف يصلون الفجر أربع ركعات؟! فأقول: لا يلزم من يصححها أن الصحابة صلوا الفجر أربع ركعات، لأن الإمام إذا قام خطأ، فإنه لا يتابع في ذلك، بل ينتظرونه حتى يكمل الركعة، ولهذا قال لهم: أزيدكم! حتى قال عبد الله بن مسعود: ما زلنا في زيادة منذ اليوم. فلا يلزم بطلان القصة من جهة متنها، وإنما من جهة السند، وهذا شيء آخر راجع إلى اختلاف العلماء في هذه الأمور من الناحية الحكمية، لكن شَيْخ الإِسْلامِ كرر الاستدلال بها أكثر من مرة بناءً على أن كثيراً من الفقهاء استدلوا بها كدليل معتمد أو كدليل استئناس، والمهم أن فقهاء المذاهب الأربعة لا يعتمدون على هذا الدليل وحده، لكن مذهبهم من مجموع الأدلة هو: صحة الصلاة خلف الفاسق. قال: 'وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف -وهذه الواقعة متفق على صحتها لا ينازع في ذلك أحد- وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد - المختار ابن أبي عبيد كذاب ثقيف- وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال'. ولعل قائلاً يقول: كيف يصلون وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كـ عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وعبد الله بن مسعود وأمثالهم خلف هؤلاء؟ فنقول: هؤلاء مع ظهور بدعتهم أو ضلالتهم أو فجورهم ليسوا مجرد أئمة صلاة، وإنما كانوا أئمة حكم أو نواب عن أئمة الحكم، فهنا لو لم يصلوا خلفهم لحدثت فتنة عظيمة. والمختار بن أبي عبيد الكذاب الذي من ضلالته قيل: إنه ادعى النبوة وما أشبه ذلك، ونقل تكفيره عن كثير ممن عاصره، هذا المختار ما كان ينتحل ويدعي الكفر ويظهره، إنما كان يقول: إنه داعية إلى أهل البيت، وأن الإمام الحقيقي هو محمد بن الحنفية - محمد بن علي بن أبي طالب، لكن يقال له: ابن الحنفية لأن أمه ليست فاطمة رضي الله تعالى عنها، وإنما أمه امرأة من بني حنيفة- فـ محمد بن الحنفية كان المختار يدعي أنه هو الإمام. وكثير من الأمة يقولون: إن محمد بن الحنفية أفضل من بني أمية، ومن المؤلم جداً أنه في سنة (60 أو61) هـ حج الناس تحت ألوية ثلاثة أمراء في وقت واحد، فوقفوا بعرفات ثلاثة ألوية، لواء لـ ابن الزبير، ولواء لبني أمية، ولواء لـ محمد بن الحنفية، وكانت الفُرقة عظيمة، فلم يشأ الصحابة أن تزداد فرأوا أن يصلوا خلف هؤلاء حتى يفرج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن الأمة، ويأتي بإمام يجمع شملها، وقد اجتمع شملها بعد ذلك، والمقصود هو المصلحة، فحيث كانت المصلحة راجحة وترك الفتنة هو الأرجح وهو الأولى دائماً أخذ بها.

العذر بالخطأ

العذر بالخطأ يقول: 'ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم' قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قال الله تعالى: قد فعلت} فغفر الله تبارك وتعالى لهذه الأمة الخطأ والنسيان، فهي غير مؤاخذة به.

التكفير في المسائل الخلافية

التكفير في المسائل الخلافية ولذلك لا يجوز تكفير المسلم بما فعله من الذنوب التي هي دون الشرك أو الكفر، ولا يجوز تكفيره بخطأٍ أخطأ فيه وإن كان في المسائل العلمية؛ حتى مما له علاقة في أمور الاعتقاد، وهذا فيما تنازع فيه أهل القبلة فمن نازع في المرتبة الأولى من مراتب القدر -وهي مرتبة العلم- فهو كافر بالاتفاق. إذاً هذه مسألة لا تحتاج إلى اجتهاد؛ لكن من نازع في مسألة خلق أفعال العباد فقال: إن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم فقد يكون مبتدعاً ضالاً، وقد يكون مخطئاً؛ إذا ظن أن النصوص تدل على ذلك، فلا يخرج عن أهل السنة والجماعة إذا لم يتبع غيرها لا فلسفةً أو منطقاً، أو كلام يونان، أو كلام واصل بن عطاء، أو عمرو بن عبيد، لكن اجتهد وظن أن المسألة موضع اجتهاد، وفهم بعض الأحاديث على غير ظاهرها ووجهها، فقال قولاً في هذه المسألة وما أشبهها، وإذا بهذا القول موافق لما تقوله المعتزلة، أو لما يقوله نفاة الصفات أو غيرهم. فنقول: هذا السني الذي هو من أهل السنة في منهجه وفي دعوته، ولكن أخطأ فوافق أهل البدعة لا يخرج من أهل السنة، ولا يؤاخذ، وهو الذي جاءت الآية والأحاديث فيه أنه لا يؤاخذ، لكن لا يتابع ولا يقر على ذلك. وهذه مسألة أخرى، فهو لا يقر على خطئه، ولا يقال: لا أحد يرد عليه، أو يبين خطأه، ومن ذلك أن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن الإيمان قول وعمل، ومرجئة الفقهاء قالوا: إن الإيمان هو التصديق والإقرار باللسان، وأن الأعمال لوازم وثمرات ولا تدخل في حقيقته، فلا يخرجهم ذلك من الملة، ولا يجوز أن يكفروا به وهكذا. وقد يخطئ مخطئ من أهل السنة فيجتهد فيقرّب بين وجهتي النظر، أو يرجح مذهب الفقهاء ويكون مخطئاً، ولا يقال عنه إلا أنه مخطئ، ويرد عليه، ويرد إلى الحق حسب الحكمة، ومراعاة الضوابط.

معاملة الصحابة للخوارج

معاملة الصحابة للخوارج ثم يقول: ' والخوارج المارقون الذين أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم'. وهؤلاء الذين ورد النص صريحاً في قتالهم، فـ علي رضي الله عنه يأمره أصحابه ويقول: ابحثوا عن ذي الثدية، فيقولوا: ما وجدناه، قال: والله ما كذبت ولا كُذبت، ويأمرهم بالبحث عنه، وهو رجل -كما في الحديث- له مثل الثدي في يده، فبحثوا حتى وجدوه تحت الجثث فجاءوا به. فالمقصود أنه مع وضوح قتالهم كالشمس في رابعة النهار، ومع ورود أنهم يمرقون من الدين، وأن صلاتهم وصيامهم لا تنفعهم، وأنهم كلاب أهل النار، وهذه أوصاف نصية قطعية، مع ذلك عوملوا معاملة المسلمين في أحكام القتال، فلم يقاتلوا حتى اجتمعوا وأمرُّوا أميراً فخرجوا عن الجماعة، ثم سفكوا الدم الحرام، ثم لما قوتلوا لم تُسبَ نساؤهم وذراريهم، ولم تُغنم أموالهم، ولم تبطل عقودهم في النكاح وما أشبه ذلك من المعاملات. يقول: 'وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يُكفَّروا مع أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم' أي: إذا كان اشتبه الحق على بعض العلماء، واستبان البعض لغيرهم، فلا يجوز لهم أن يكفر بعضهم بعضاً، ولا أن يضلل بعضهم بعضاً، والمسألة التي أسوأ من هذا أنه قد يكون البعض ممن ليس من العلماء، ولكنه يضلل العلماء -وهذه أشد- لكن الكلام هنا عن العلماء أنفسهم إذا اختلفوا في مسائل؛ فإنه لا يجوز أن يبغي بعضهم على بعض، ولا أن يضلل بعضهم بعضاً. والقاعدة في هذه الأمور جميعاً هي: العدل والقسط، وقد أُمرنا أن نكون شهداء لله قوامين بالقسط، وقوامين لله شهداء بالقسط -كما في الآية الأخرى- وهذا هو الميزان الذي يجب أن يكون عند أهل السنة وعند شبابهم جميعاً.

ميزان التعامل مع المخالف

ميزان التعامل مع المخالف ثم يقول: 'فكيف إذا كان المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ ' أي: أن هذا الميزان لما فقد، وقال الله تعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:8 - 9]. فقد حصل الضلال عند المسلمين من جهتين -كما ذكر رحمه الله- طائفة من جهة الإفراط، وطائفة من جهة التفريط. أما التي من جهة التفريط وهي أكثر المسلمين -مع الأسف- فإنهم يزكون ويشهدون للإنسان بالخير أياً كان، حتى وإن لم يصل، بل يقال: {ما أظرفه، ما أجلده، ما أعقله، وليس في قلبه مثقال حبة من إيمان!} وتهاونوا في هذا الأمر، حتى إنهم قد يعدّون بعض المرتدين والمجرمين من المؤمنين المتقين، وهذا الحال الذي غلب على أكثر الناس -نسأل الله العفو والعافية- وهذا لا يجوز؛ لأن الميزان يجب أن يكون بما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. والطائفة الأخرى: التي أخذت بجهة الإفراط والغلو، وهؤلاء يأتي منهم البغي، ويأتي منهم العدوان والظلم. وأهل السنة والجماعة بريئون من هذا وهذا، ومنهجهم ومذهبهم وتعاملهم دائماً هو بالقسط، فلهذا لو آذاهم من آذاهم، وبما يؤاذيهم به، ولو وصل الأمر إلى أن يقتلهم فإنهم لا يظلمونه، ولا ينكرون حقاً أو فضلاً له، ولا يغمطونه خيراً عنده، ومثال ذلك الحجاج حيث كان نائباً لبني أمية، وقد قتل من أهل السنة سعيد بن جبير، وقتل من القرّاء من قتل، فهل أنكر وجحد أهل السنة له أنه أرسل الجيوش وفتح البلاد، وأدخل في دين الله عز وجل أمماً كثيرة؟ وهل أنكروا له أنه لما مات لم يخلف إلا مصحفاً وبضعة دراهم، وأنه لم يكن يأخذ من بيت المال شيئاً؟ فلم ينكروا أي فضيلة من فضائله ولم تغمط، بل تذكر هذه، وتذكر هذه. وهذه كتب السنة، وكتب الرجال، وكتب التاريخ التي كتبها أهل السنة -والحمد لله- ميزان صحيح لا يحيف ولا يجور أبداً، وبالعكس لو أن منافقاً داهن أهل السنة وولاهم ومكنهم، فسيعلنون أنه منافق، أو أنه مظهر للفجور أو البدعة، فهم يقولون ما فيه. فالشاهد أن تعامل أهل السنة يكون بحسب النص، وكما أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر أهل السنة بالصلاة خلف البر والفاجر، أو على البر والفاجر، والغزو والجهاد مع البر والفاجر لفعلوا كما فعلت المعتزلة والخوارج فتركوا من أجرم وهكذا. سواء في ذلك أئمة الحكم، أو أئمة الصلاة وغير ذلك، ولو أنه يجوز لهم أن يداهنوا مع ظهور الكفر والردة والانحراف لكان الله تعالى أجاز لهم ذلك، فهو أرحم بهم من أنفسهم ولداهنوا كما يداهن غيرهم، لكنهم إنما يزنون الأمور بميزان الشرع. ولهذا لما أوذوا في أيام المأمون لم يداهنوا، بل أوذوا وسجنوا وعذبوا لأن المخالفة للسنة واضحة، ولم يرضوا أن تنتهك هذه العقيدة بذلك الشكل، ومع ذلك مواقفهم في الصبر على الأذى مشهودة ومعلومة -والحمد لله- ولم تخرجهم عن منهجهم في التمسك بالنص، والحكم بالميزان والقسط.

حكم المتأول المكفر والمبدع لغيره

حكم المتأول المكفِّر والمبدِّع لغيره يقول: 'وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك' فإذا جاء شخص مسلم فتأول وكفّر مسلماً، أو قاتل مسلماً متأولاً، فإنه لا يكفر بذلك، فهذا عدل أهل السنة وهم ينظرون في هذا الجانب، فحتى لو أخطأ فاعتدى أو اتهم أو كفّر فلا يقابل بالظلم ولا أو البغي، وإنما يعامل أيضاً بالعدل وبالحق. الدليل؟ ويستدل على ذلك بدليلين صحيحين ثابتين، والدليل الأول: قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حاطب بن أبي بلتعة حينما قال: {يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق} وهذه قصة معلومة مشهورة في الصحيحين وفي غيرهما. فحكم عمر رضي الله تعالى عنه على حاطب بأنه منافق، ورأى استحلال دمه. والقضية واضحة ليس فيها اجتهاد ولا تأويل؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يطلع على السر -وهو غزو قريش- إلا قلة من الصحابة ومنهم حاطب، فكيف يجرؤ أن يكتب كتابه إلى الكفار، ويخبرهم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قادمٌ إليهم يغزوهم؟ فليست هي خيانة لواحد أو اثنين، ولهذا يقول عمر رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه} وقال في آخر الحديث: {فقد خان الله ورسوله والمؤمنين} أي: فكيف نتركه يعيش وقد خان الله وسوله والمؤمنين، وصار جاسوساً للكفار الذين يعبدون الأصنام، ويحاربون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقد يظهر أن القضية واضحة -وهذه هي المشكلة عند كثير من الناس- ولذلك فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد عمر بالدليل الواضح، وهو أن حاطباً شهد بدراً، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}. الدليل الثاني: حديث الإفك الطويل حيث جمع النبي الناس وخطب فيهم: {من يعذرني في رجل آذاني في أهل بيتي، ولا أعلم عن أهل بيتي إلا خيراً -يريد أن يرى رأي الأنصار والمهاجرين في هؤلاء الذين افتروا على أم المؤمنين هذا الإفك العظيم والفرية العظيمة- فقام إليه سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، وقال: يا رسول الله! إن كان منا معشر الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج فأمرني بأمرك أفعل ما تشاء}. فقام سيد الخزرج سعد بن عبادة وكان مؤمناً، ولكن أخذته الحمية، فهو سيد قبيلته، فقال لـ سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه {كذبت، والله لا تفعل ذلك ولا أدعك تفعل} واحتدم النقاش واختصموا، فقال له أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه وكان ابن عم سعد بن معاذ: {والله ليفعلن، ولكنك منافقٌ تجادل عن المنافقين، فاختلف القوم حتى هموا أن يقتتلوا} أي: كاد أن يقع القتال بين الأوس والخزرج بسبب هذا الموقف. والشاهد: أن عمر قال لـ حاطب: إنه منافق قد خان الله ورسوله والمؤمنين, وأن أُسيداً قال لـ سعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، فلم يرتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوليهما حكماً؛ لأن كلاً منهما أصل كلامه وموقفه هو الغيرة على دين الله، والانتصار للحق، ولم يقصد مجرد الهوى، أو الطعن أو التكفير -مع أن النفاق هنا هو النفاق الأكبر- ولذلك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: {فقد باء بها أحدهما} ولم يقل أحد: هذا قد كفرني يا رسول الله! وإنما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن كان يسمع قدروا الموقف، وعلموا الدافع. فالمقصود من هذا أنه حتى لو أخطأ المخطئ فكفّر أو بدّع أو ضلل وكان اجتهاداً منه، وغرضه الحق والدفاع عن الحق وإقامة الدين، فإنه يُخطئ في اجتهاده، ولا يقال: هذا صار من الخوارج ممن يكفر بالذنب، بل يُرد إلى الحق، وهذا هو الموقف العدل. قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'فهؤلاء البدريون فيهم من قال للآخر منهم إنك منافق' فـ عمر وحاطب بدويان: 'ولم يكفر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة'. يقول: 'وكذلك ثبت في الصحيحين أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه: {قتل رجلاً بعدما قال: لا إله إلا الله، وعظم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لما أخبره، وقال: يا أسامة بن زيد! أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟! وأخذ يكررها، حتى قال أسامة بن زيد: حتى تمنيت أني لم أسلم إلا يومئذٍ} ومع هذا لم يوجب عليه قوداً ولا ديةً ولا كفارة'. ويمكن أن يأتي شخص ويقول: الآية هكذا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] إذاً نقتل أسامة بن زيد بهذا الرجل، وليس الأمر كذلك لأن أسامة بن زيد فعله متأولاً مجتهداً، فقال: {إنما قالها خوفاً من القتل} فهو يتمنع بها من السيف، وهذا اجتهاده، ولو قال: هذا رجل مسلم معصوم الدم وبريء ولكن أنا سأقتله؛ فهنا يقع القود وتكون التهمة؛ فبالنسبة للميت يقال لمن قتله: {أشققت عن قلبه؟} كيف عرفت أنه إنما قالها تعوذاً أو خوفاً، فلو جاء أولياء المقتول، وقالوا: يا رسول الله! إنه قتل أبانا بعدما شهد أن لا إله إلا الله، فلن يقول: نعم هذا قتله إذن نقتله به، أو يدفع الدية، لأنه لا يعني خطؤه أن يقاد به، أو يدفع الدية، لأنه فعله مجتهداً متأولاً. يقول رحمه الله: 'فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]-إلى آخر هذه الآية- فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض، إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل، ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين' وهذه هي الأخلاق العالية، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم والسلف ليسوا هم أفضل الأمة فقط في حالة الاتفاق، بل أفضل الأمة في المواقف عند الاختلاف، فيقاتل بعضهم بعضاً لاجتهاده أنه ينصر الدين. ولكن لم يقطعوا الموالاة في الدين فيما بينهم، يقول: 'ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، ولا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض' لا كما قال الخبيث واصل وأمثاله: لو شهدوا على باقة بقل أو على درهم ما قبلت شهادتهم؛ يعني أهل الجمل أو صفين. قال رحمه الله: 'ويأخذ بعضهم العلم عن بعض' فعندما وقعت الفتنة لم يقل علي رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيقوم -مثلاً- أهل الجمل أو أهل صفين فيقولون: لا تأخذوا عنه الدين، بل كانوا: يأخذون العلم بعضهم عن بعض، وبعد أن هدأت الفتنة رجعت الأمور إلى مجاريها، وكانوا يأخذون العلم عن الصحابة، وعن السلف أجمعين من غير أن يقولوا: هذا كان من أصحاب كذا، وهذا كان من أصحاب كذا، فهذه النفوس العالية التي ارتفعت وأصبحت أهلاً لأن تحمل أمانة هذا الدين، فكان يشهد بعضهم لبعض، وتقبل شهادتهم لبعض أو على بعض. قال رحمه الله: 'ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم بعضاً' حتى وإن كان هذا في صف، وهذا في صف، فالمعاملة واحدة على الاسلام، رغم وقوع أشد أنواع الاختلاف، وهو الاقتتال بالسيف. ثم يستدرك -رحمه الله- ويأتي بأدلة تبين أن الفرقة واقعة، وأن الخلاف واقع، وإنما الواجب علينا أن نتقي الله إذا وقع الخلاف، ونحسن التعامل قال: 'وقد ثبت في الصحيح: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل ربه، ألا يهلك أمته بسنةٍ عامة فأعطاه ذلك، وسأله ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك} وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً، وثبت في الصحيحين: {لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] قال: هاتان أهون' أو قال: هذه أيسر، وهذه أهون، وهذا الحديث مشهور. والمقصود أن الفرقة حق وواقع، وهي عذاب لم يرفع عن هذه الأمة، بل ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صحيح آخر: {هذه الأمة عذابها الفرقة وفتنتها المال} فعذاب هذه الأمة الفرقة، وأكبر ما عذبت به في تاريخها الطويل هو الفرقة وليس الصليبيين أو التتار، أو اليهود، أو النصارى، ونسأل الله أن يجمعها على الحق إنه سميع مجيب.

الفرقة قدر الأمة

الفرقة قَدَر الأمة الفرقة واقعة والأصل هو الاجتماع، وهو الذي يجب أن يدعى إليه دائماً، لذلك ذكر بعد ذلك، قال: 'هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف' أي: أمر الله الشرعي، وليس أمر الله القدري، فأمر الله الشرعي الديني، أن نكون أمةً واحدة، وأن نعتصم بحبل الله، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] فهذا أمرٌ شرعيٌ ديني، لكن الأمر الكوني الذي قضاه وقدره هو وقوع الخلاف، حتى إن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أحب خلقه إليه تضرع وصلّى صلاة رغبة ورهبة، ودعا الله، ولم يعط هذه، ولكن قال: {هذه أهون أو هذه أيسر} أن تختلف الأمة أيسر. فمع الاختلاف هي أمة مرحومة؛ من جهة أنها لم يسلط عليها عدو يستأصلها، ولم يسلط عليها عذاب يأخذها من فوقها ولا من تحت أرجلها؛ لكن أيضاً هي أمة معذبة لأنها تذنب، ولأن الله تعالى لا يحابي أحداً، بل يؤاخذ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] فهذه الأمة تعمل السوء فتجزى وتعاقب بالعذاب الذي هو الفرقة.

بذل الجهد في دفع الفرقة وإقامة الملة

بذل الجهد في دفع الفرقة وإقامة الملة ثم ذكر ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاجتماع والوحدة إلى أن قال: 'فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين، أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غالياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك إن أمكن' وهذا كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فنحن دعاة ندعو الضال، ونرشد الغاوي، وندعو المرتد، والفاجر، وأنفسنا إلى الخير. قال: ' فعل ذلك إن أمكن وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاَّه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه' فهذا واجب على الأمة. والإمامة الكبرى الأصل أن يولى فيها من اجتمعت فيه الشروط الشرعية، وإذا قدرت الأمة على ذلك تعين القيام به. والإمامة الصغرى في الصلاة يجب على الأمة أن تسعى لتعيين الأئمة الأتقياء البررة، الذين يخلون من الفجور والبدع، لكن إن لم يمكن ذلك، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، يقول: 'وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً} '

مسألة هجر المبتدع

مسألة هجر المبتدع يقول: ' وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره' فهجر المبتدع ليس على الإطلاق -فمثلاً-: إذا كان أهل السنة في مدينة من المدن، لا تزيد نسبتهم في هذه المدينة على واحد في الألف أو (1%) وواحد منهم اجتهد فأخطأ فهجرته لأنه مبتدع، أو نهجر هؤلاء الناس لأنهم مبتدعة، فمعنى ذلك أنك هجرت نفسك لأنه لا يوجد إلا أنت، وفلان وفلان وأنتم غرباء، فموضوع الهجر مرتبط -أيضاً- بالمصلحة والمفسدة. ومن هنا لا إشكال ولا تعارض بين فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين ما فعله الصحابة أو التابعون في هذا الأمر، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هجر الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، والجيش قوامه -على بعض الروايات- أربعون ألفاً، ولم يحدث قتال، والإسلام قد ظهر، ولا يضر الجيش أبداً أنه نقص منه ثلاثة أنفار، وبعضهم كبير طاعن في السن، فلو حضر لربما لم ينفع بشيء، ولكن هجرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يهجر من تخلفوا عن بدر، ولا من تخلفوا عن الأحزاب، وهنا الحكمة تظهر، فكان الهجر وقت القوة ووقت الظهور ووقت الغلبة؛ لأن الحكمة أنك لا تكون شاذاً إذا أجمعت الأمة؛ والدين قد ظهر، فحتى المنافقون خرجوا مع الجيش، فتتخلف أنت على فضلك. فهجره في مثل هذه الحالة يشعره بالشذوذ، حتى أقرب أقربائه لم يرد عليه السلام، فكان الألم شديد. والتزمت الأمة الهجر، لكن أمة لا تلتزم بالهجر، وأمة أهل الحق فيها قلة قليلة، وليس الحق فيها واضحاً ظاهراً، بحيث أن من خالفه يعد شاذاً، بل الأصل هو الشاذ إلى آخر هذه الاعتبارات، فمن يريد أن يطبق فيها حكم الهجر فقد أخطأ، وهذا الذي كان في أول الإسلام. وكذلك كان حال أئمة السنة، فأول ما ظهر أهل البدع كانوا يهجرونهم هجراً مطلقاً، أيوب وميمون بن مهران والحسن البصري رحمه الله. فيقول أحدهم عن مبتدع: أقسمت بالله أن لا يضمني وهو إلا سقف المسجد، والآخر يقول نفس الكلمة، فكان هجراً كاملاً، وهذا في القرن الأول أو القرن الثاني حين كانت السنة قوية وظاهرة. لكن الذي حصل في القرون المتأخرة لما أصبح الخلفاء معتزلة، والقضاة، والوزراء معتزلة، وتحولت الأمة إلى معتزلة، أو روافض، فـ أهل السنة في هذه الحالة اضطروا أن يخالطوهم، واضطروا أن يغيروا المعاملة؛ لأن الحكمة هنا غير الحكمة هناك، وإلا فـ أهل السنة هم كما كانوا، والمنهج واحد، لكن المصلحة تغيرت. يقول: 'وإن كان في هجره لإظهاره البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا ولي غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رد بدعةً ببدعة' فالذي يفعل هذا الفعل رد بدعة ذلك المبتدع ببدعة أخرى وهي ترك الجمعة والجماعة. لكن إذا كان في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، كما لو كان المأموم ممن له شأن أو يقتدى به، ولو صلّى خلفه لقيل: فلان صلّى خلفه، فيضلل أهل السنة ويقتدون به، فلا يصلي خلفه، وإن كان معيناً من قبل غيره ممن له الولاية؛ لأنه يقتدى به، والمصلحة هنا في أنه لا يصلي، أما من لا مصلحة من هجره كالعامي أو ما أشبه ذلك فهذا حاله يختلف.

مسائل في إعادة الصلاة

مسائل في إعادة الصلاة

حكم إعادة الصلاة خلف الإمام الفاجر أو المبتدع

حكم إعادة الصلاة خلف الإمام الفاجر أو المبتدع يقول: 'حتى أن مصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس من أعادها فهو مبتدع وهذا أظهر القولين'. ونقل عن الإمام أحمد في مسألة إعادة الصلاة قولان: القول الأول: الإعادة، ونقلوا أنه كان وهو في السجن يصلي خلفهم، ثم يعيد الصلاة سراً. والقول الثاني: عدم الإعادة، وقد رجح شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في أكثر من موضع، أن الراجح عدم الإعادة. وعلى هذا فما تجدونه في كتاب الشيخ -مثلاً- سليمان بن سحمان -وهو كتاب كشف الشبهتين وبعضه مأخوذ من كتاب توحيد الخلاق وأمثاله من رسائل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله- مِن تعرضٍ لهذه المسألة وترجيحهم إعادة الصلاة فهم أخذوا برواية، وشَيْخ الإِسْلامِ رجح رواية أخرى. ولا إنكار في ذلك؛ لأن الكلام الذي أورد على الروافض وعلى الجهمية الذين ينكرون علو الله، وينكرون الصفات، وشَيْخ الإِسْلامِ هنا في الحقيقة تكلم عن المبتدعة الذين هم دون ذلك، وعلى هذا فلا إشكال من حيث العمل والتطبيق. يقول: 'لأن الصحابة -أي هذا هو وجه الترجيح- لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلّى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة'.

حكم إعادة الصلاة للمتيمم والمحبوس وأشباههم

حكم إعادة الصلاة للمتيمم والمحبوس وأشباههم ويقول: 'ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلّى بحسب استطاعته لا يعيد حتى المتيمم لخشية البرد، أو المصلي لعدم الماء والتراب إذا صلّى بحسب حاله، والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة، لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلّى الأولى بحسب استطاعته' ثم استدل على ذلك بالحديث، يقول: 'وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماءٍ ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها، ولم يأمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فـ عمر وعمار لما أجنبا فـ عمر لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وقد كانوا غلطوا في معنى الآية، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بـ مكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت -أي: نسخ التوجه إلى بيت المقدس - لم يأمرهم بالإعادة، فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل شيء قدراً'. وهذه الأدلة معروفة في كتب الفروع، والأحكام ثابتة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر أصحابها بالقضاء، لأنهم إما متأولون، وإما جهلة بالحكم، فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، وفي الجاهل متى يعذر، ومتى لا يعذر تفصيل آخر، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وما نقول، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة حول التعامل مع بعض أئمة المساجد

نصيحة حول التعامل مع بعض أئمة المساجد Q ما حكم الصلاة وراء إمامٍ يقول في خطبة الجمعة أحاديث ضعيفة, وإذا أخبرناه أن الحديث ضعيف، قال: أنا أعرف أحسن منكم، وصلاته سريعة جداً، وإذا نصحناه قال: هذا على قدر الفلوس التي يعطوني إياها، علماً بأن المسجد ليس تابعاً للأوقاف؟ A لا بد من مراعاة المصلحة، فإن كان في وجوده مصلحة كأن لا يوجد مثل هذا الإمام فليبق، ولا تترك الجمعة والجماعة، وينبه ويرشد إلى الأحاديث الضعيفة، والمسئولية على الأمة في جملتها، وعليها الاهتمام بالمساجد والصلاة. وأيضاً فيما يتعلق بالحديث، إذا قلت له: الحديث ضعيف، فقال: بل هو صحيح، فإن ذلك لأنه قد لا يراك شيئاً، لكن لو أتيت وقلت له: يا شيخ! كأني سمعت أن هذا الحديث ضعيف، فما رأيك أن نتصل أنا وإياك بالشيخ فلان وننظر صحة الحديث، فإنه سوف يستجيب لك غالباً، لكن عندما تقول له: هذا ضعيف، فسوف يقول لك: ليس هذا من اختصاصك، أو أنا أعرف منك، وذلك لأن الأسلوب له دوره، فيجب أن تكون الأمور تابعة للمصلحة والحكمة. والله المستعان!

سبب نشوء تسمية أهل السنة والجماعة

سبب نشوء تسمية أهل السنة والجماعة Q يقول تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فلماذا لا يتسمى أهل السنة والجماعة بهذا الاسم؟ A { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فالأصل أن اسمنا هو المسلمون، وهذا هو الأصل فلما افترقنا إلى فرق وطوائف، سُمي من كان على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل السنة وسموا الجماعة؛ لأن الباقين أهل بدعة وأهل فرقة واختلاف، تفرقوا عن الحق وتركوه، كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله في مقدمة خطبته، فهم مختلفون في الكتاب ومخالفون للكتاب. فيبقى ذلك الاسم في مقابل الكفار فنقول: المسلمون. ونقول: أهل السنة والجماعة مقابل أهل البدعة والفرقة.

ظلم العبد نفسه

ظلم العبد نفسه تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن موضوع عظيم وقاعدة هامة من قواعد تعامل القلوب مع رب القلوب، وتتعلق هذه القاعدة بالكبائر والصغائر، ومفادها أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغائر من قلة الحياء وعدم المبالاة والخوف ما يلحقها بالكبائر، فرُب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.

أهمية أعمال القلوب

أهمية أعمال القلوب قال ابن أبي العز رحمه الله في شرح الطحاوية: 'وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر -وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله:- (وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون) ولكن ثَمَّ أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره، وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة' أ. هـ هذا الموضوع موضوع عظيم، فإن خير الموضوعات وأنفع العلوم ما كان عِلاجاً للقلوب وأدوائها وأسقامها، وأعظم البلايا والأسقام هو الشرك، كما تحدثنا عنه سابقاً. ثم هنا نأتي إلى قاعدة عظيمة فيما دون الشرك، وهي الذنوب التي لا بد أن يصيبها العبد وأن يَلِم بها.

أنواع الذنوب

أنواع الذنوب المصنف -رحمه الله- بعد أن ذكر الديوان الذي لا يغفره الله تعالى أبداً، ثم ذكر الديوان الذي لا يترك الله تعالى منه شيئاً، ثم أراد أن يبين الديوان الثالث: وهو ظلم العبد لنفسه مع ربه تعالى فيما دون الشرك، الذي ينقسم إلى كبائر وصغائر، وأحال موضوع الفرق بين الصغيرة والكبيرة إلى ما بعد، وهناك سيأتي التفصيل بإذن الله تعالى ونذكر الأقوال في ذلك.

قاعدة في الكبائر والصغائر

قاعدة في الكبائر والصغائر وبعد أن أشار إلى ذلك، ذكر هذا الاستدراك العظيم، الذي هو قاعدة من قواعد تعامل القلوب مع رب القلوب تبارك وتعالى، قال: 'ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له'. ولا يجوز أن يُغفل عنها، وهي قاعدة عظيمة من القواعد التي استخرجها أمثال هذا العالم الفاضل، ومن نقل عنهم -رحمهم الله أجمعين- استخرجوها من كتاب الله، ومن سنة رسول الله، ومن سير العباد من السلف الصالح، الذين قاموا لله تبارك وتعالى بواجب العبودية على نحوٍ يقتدي بهم من بعدهم. قال: وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وإلى أي شيء يرجع الأمر في ذلك؟ قال: وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره. ثم شرع في موضوع التوبة، وأسباب سقوط العقوبة التي أولها التوبة. فالقاعدة هي أن الذنوب: إما كبائر وإما صغائر، لكن الكبيرة التي فعلها صاحبها -وصورة العمل الظاهر الخارجي أن هذا مرتكب للكبيرة- استدرك عليه بقوله: فعل الكبيرة قد يقترن به من الحياء، والخوف، والاستعظام ما يلحقها بالصغائر -وبالعكس- الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. وهذا مفتاح لباب عظيم من أبواب التربية الإيمانية القلبية.

أهمية القلب في أعمال العبد

أهمية القلب في أعمال العبد فالقضية قضية القلب، وإنما الجوارح تتحرك وتعمل وتتأثر لما يحصل في القلب، كما بيَّن ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فمن الواجب إصلاح القلوب؛ لأنها محط ومحل نظر الرب من العبد. يقول بعض العلماء -وهي حكمة عظيمة مأثورة- ': رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً'. فبعض الناس قد يعصي الله، وتكون هذه المعصية سبب الخير وبداية التوبة والهداية في حياته، والبعض ربما كانت الطاعة بداية انحرافه وزيغه، ودخوله في باب الرياء والعجب، ثم خروجه نهائياً من طريق أهل الاستقامة وأهل السنة.

وقائع تبين أهمية القلب في أعمال العبد

وقائع تبين أهمية القلب في أعمال العبد يجب على المؤمن الذي يريد تنقية قلبه، ويحرص على تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينتبه إلى هذه الحقيقة، والأدلة عليها كثيرة جداً، مما ثبت وصح في الوحي، وكثيرة من واقع الناس، وهو المشاهد من أحوال الناس الذين كانوا على ذنوب وفجور ثم تابوا واستقاموا، والذين كانوا على طاعة وخير وعلى طلب علم ودعوة ثم انحرفوا وحاروا، نسأل الله العفو والعافية.

قصة الرجل الذي أوصى عند موته بأن يحرق

قصة الرجل الذي أوصى عند موته بأن يحرق كمثل حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته، وقد رأى نفسه مسرفاً في المعاصي، فخاف من الله تعالى أن يلقاه بهذه الحال، فأوصى أن يحرقوه ويسحقوه، ويذروه في الريح، مع أن هذا الرجل ارتكب ذنباً أكبر ووقع في إثم عظيم، ولكن بسبب هذا الاستعظام والخوف والحياء غفر الله ذنوبه المتأخرة والمتقدمة، وهذا الذنب العظيم والخطأ الجليل هو ظنه أن الله لا يقدر عليه إذا هو مات. يقول: {إذا أنا مت فاجمعوا الحطب واحرقوني، ثم ذروني في الهواء، وضعوا نصفي في البحر، والنصف الآخر في البر، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، ثم جاءه السؤال من رب العالمين: لم فعلت ذلك؟ -ولم يكن السؤال عن الموبقات ولا عن الذنوب الأولى، إنما كان عن هذا الخطأ الكبير- فقال: خوفك يا رب، أو خشيتك يا رب، فغفر الله تبارك وتعالى له}. إذاً، إذا اقترن بالذنوب والمعاصي خوف وتعظيم، وهيبة لله تبارك وتعالى، فإن هذه الذنوب: إما أن تمحى أو تكفر، أو تكون -كما قال الشيخ وهي كبائر- صغائر، أو كالصغائر، فتأخذ حكمها، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] تكفر لما اقترن بها من خوف وخشية وذلة، وهذا الدليل الأول.

قصة توبة الرجل الذي قتل مائة نفس

قصة توبة الرجل الذي قتل مائة نفس والدليل الآخر هو دليل الرجل قاتل المائة نفس، وقد كان قتل في أول الأمر تسعة وتسعين، فذهب إلى العابد فلم تعجبه فتواه فقتله. وهذا الحديث -على كثرة ما فيه من الحكم والدلالات- يدل على فضل العالم على العابد، فقد قال هذا القاتل لذلك العابد: {إني رجل قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فاستعظم الراهب ذلك، فقال: لا أجد لك توبة}. وهذا من قلة العلم والفطنة -كما ذكر العلماء- فإذا قلت له: لا أجد لك توبة؛ فكيف تأمنه على نفسك، وعلى غيرك من الناس؟! على أقل القليل كان من الحكمة أن تقول له ما تدفع به شره في هذه الحياة الدنيا. {فلما قال له ذلك أكمل به المائة، وبعد ذلك ذهب إلى العالم، فأخبره بأن له توبة، وأرشده أن يذهب إلى القرية الصالحة ليعبد الله تبارك وتعالى فيها، ثم كان من أمره: أن قبضه الله تعالى واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذا فيه دليل على أن الملائكة تجتهد في أمر الله تبارك وتعالى، كما نجتهد بني آدم، فأخذوا ينفذون أمر الله تعالى، فملائكة الرحمة تقول: رجل تائب مقبل على الله، كيف ندعه لكم؟ وملائكة العذاب تقول: وأي توبة حصلت لرجل قتل مائة نفس، فحكم الله بينهم وهو الحكيم العليم أن انظروا إلى أي القريتين أقرب فألحقوه بأهلها}. وجاء في بعض الروايات، من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أنه أمر هذه أن تتباعد، وأمر هذه أن تتقارب، فقاسوا فوجدوه إلى أرض التوبة أقرب فغفر الله تبارك وتعالى له، وتولته ملائكة الرحمة}. وعندما نستعرض موضوع التوبة -إن شاء الله- سنتعرض مسألة هل تقبل توبة القاتل أم لا؟ وهذا الرجل القاتل لما اقترن به الخوف من الله دفعه إلى أن يبحث عمن يرى له توبة، فقام بقلبه من ذلك الخوف والإنابة ما دفع تلك الكبيرة العظيمة.

قصتا ماعز والغامدية

قصتا ماعز والغامدية ومن الأدلة على ذلك قصة ماعز والغامدية رضي الله عنهما حيث إنهما أتيا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدان أن يطهرهما وغيرها كثير. وقد أحببت بهذه المناسبة أن أدل على مرجع مفيد في هذا الباب، ومفيد في جوانب عدة، وهو كتاب التوابين للإمام ابن قدامة -رحمه الله- بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، مع العلم أن المحقق لم يعلق عليه في مواضع كان ينبغي أن يعلق عليه فيها، منها أن أغلب من يتوب كما في هذا الكتاب يترك الدنيا بالكلية، ويذهب في البراري والجبال أو في المساجد، ويترك كل شيء، وليس هذا من صفة التوبة الشرعية، ولكن في الكتاب فوائد، ودرر عظيمة جداً، ولا سيما الذين يتوبون من الطرب والغناء، ومن الفسق والفجور كحال العالَم اليوم والله المستعان! ونقتصر على ذكر أو عرض بعض التوبات التي تتعلق بحال العاصي الذي من خلال معصيته اهتدى، وقد ذكر صاحب الكتاب قاتل المائة وتوبته.

قصة الصحابي الجليل أبي خيثمة

قصة الصحابي الجليل أبي خيثمة ومن التائبين الذين كانت ذنوبهم سبباً لتوبتهم الصحابي الجليل أبو خيثمة. وقد نقل الإمام ابن قدامة توبته بالسند، وهو عالم مُحدِّث فقيه بارع كما هو معروف، ولذلك يورد القصص التي يوردها بالأسانيد إلى منتهى السند، سواء أكان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم إلى أحد العلماء من المؤلفين، أو إلى كتب رواة الإسرائيليات، أو أخبار بني إسرائيل إن كان السند ينتهي إليهم. وكان ابن قدامة رحمه الله تعالى من الأئمة المجاهدين مع صلاح الدين الأيوبي في معاركه، ومع ذلك كتب المغني الذي هو من أعظم وأنفع كتب الفقه المقارن، وغير ذلك من المؤلفات النافعة، فذكر بإسناده إلى ابن إسحاق صاحب السيرة. يقول: تخلف أبو خيثمة أحد بني سالم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، حتى إذا سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله. والتخلف عن الغزو كبيرة، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّه} [التوبة:120] فاستخدم أقوى أنواع التعبير في التحذير والنهي، فلا يصح، ولا يليق أن يتخلف أحد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يرغب بنفسه عن نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الخلق وأكرمهم على الله في الحر والرمضاء والحرب وهذا في الظل الظليل مع الأهل والبنين، وهذا هو الذي وقع فيه أبو خيثمة رضي الله عنه. فعاد إلى امرأتين له في عريشين له في حائطه -أي: في مزرعته- وقد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماءً، وهيأت له طعاماً، فالزوجة، والعريش، والماء البارد والطعام، كلها في غاية المغريات المثبطات في زمانهم، فلما دخل قام على باب العريش ينظر، وهنا اشتعل حر الذنب، ثم قال: {رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الضحي والريح والحر -والضحي: حر الشمس قال الشاعر: ضحوت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة ناقصاً - وأبو خيثمة في ظل، وماء بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، ما هذا بالنَّصَف!} أي ليس هذا من العدل والإنصاف، ولا يليق ذلك أبداً، ولا يحق أن يكون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وأن يتخلف عنه أبو خيثمة ويرغب بنفسه عن نفسه، ويتمتع ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك الحال، قال: {والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهيئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأدركه حين نزل تبوك، فلما رآه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكباً من بعيد قال: كن أبا خيثمة، فذهبوا فإذا به هو، فقالوا يا رسول الله! هو أبو خيثمة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أولى لك أبا خيثمة، ثم أخبره الخبر؛ فدعا له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}. ولو أن أبا خيثمة خرج أول الأمر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان ليقع في قلبه من الإيمان والأثر والخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والحرص على الجهاد، والرغبة فيه مثل ما وقع بعدما غلبه الضعف البشري، وتراخى وضعف، ثم ذهب الناس، وذهب هو وحده، وتصور راكباً يذهب وحده في هذه البراري، وهو مستشعر للذنب في شدة الحر، وكل أمله أن يلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف يكون همه وحاله وشعوره في هذه الحالة؟! إذاً قام بقلبه من حقائق الإيمان، والتوبة والندم، والاستغفار، والحياء من الله تبارك وتعالى، ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة اللحاق به أمور عظيمة جداً، فكان في هذا الذنب، وهذا التأخر، والتخلف خير له، وفعلاً: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.

قصة الصحابي الجليل أبي لبابة

قصة الصحابي الجليل أبي لبابة ومثال آخر: مثال أبي لبابة رضي الله عنه، وهذا حال المتقين دائماً، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وهذا ما حدث لـ أبي لبابة رضي الله عنه، فيقول عن نفسه: {لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه أن يرسلني إليهم حين اشتد عليهم الحصار، دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس}. وقد كانوا حلفاء لهم في الجاهلية، وقاتل الله اليهود في كل زمان ومكان، فاليهود هم اليهود، فلا يصدق أن منهم متطرفون ومعتدلون، فكلهم أخباث أنجاس فأرسلوا يريدون أبا لبابة لأنه حليفهم. {قال: فدخلت عليهم، وقد اشتد عليهم الحصار فهشوا إلي، ورحبوا بي، وقالوا: يا أبا لبابة! نحن مواليك دون الناس كلهم، فقام كعب بن أسد وقال: قد عرفت ما صنعنا في أمرك، وأمر قومك يوم الحدائق ويوم بعاث، وكل حرب كنتم فيها -يذكره بأيام الجاهلية- وعملنا معكم الجمائل والفعائل، وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنا للحقنا بأرض الشام أو خيبر ولم نكثر عليه جمعاً أبداً، فما ترى؟ قال: نعم فانزلوا}. لأنه صحابي مؤمن لا يمكن أن يشير عليهم بغير ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل يمكن أن يخالف حكم الله وحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! أو يطلب منهم غير ما طلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! لكن في آخر لحظة أخذته وقعة -وهو الضعف البشري الذي يقع فيه حتى الصحابة الأجلاء- {فقال: انزلوا على حكمه، ثم أومأ بيده هكذا} أي: حكمه فيكم الذبح. وهنا علم أنه قد وقع في الذنب، وبدأ يؤنب نفسه على ما فعله مع أنه لم يره أحد من الصحابة، ورسول الله لا يعلم الغيب، فيقول رضي الله عنه: {فندمت واسترجعت، فقال كعب: مالك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنتُ الله ورسوله، فنزلت وإن لحيتي لمبتلة بالدموع من لحظتها، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقاً آخر} فما استطاع أن يواجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {ثم عاد حتى أتى المسجد فأخذ رباطاً من الشعر القوي وربط ذراعيه ونفسه في سارية من سواري المسجد وأحكمه قال: وبلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهابي وما صنعت، فقال: دعوه حتى يُحدث الله فيه ما يشاء}؛ لأنه هو الذي ربط نفسه، أي: لو كان جاءني لاستغفرت له، فأما إذ لم يأتني وذهب، فدعوه فإنه هو الذي جنى على نفسه فأنزل الله في شأنه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]، وهذه قيلت فيمن هو أعظم جرماً وذنباً من أبي لبابة وهم المنافقون الذين أعرضوا عن حكم الله. قال الزهري: وارتبط أبو لبابة سبعاً في حر شديد لا يأكل ولا يشرب، وقال: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله عليّ. فلم يزل كذلك حتى لا يكاد يسمع صوتاً من الجهد، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إليه بكرة وعشياً، ثم تاب الله عليه، فنودي: إن الله قد تاب عليه، وأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه ليطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه عنه أحد غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الزهري: وحدثتني هند بنت الحارث عن أم سلمة زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: [[رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحل رباطه، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرفع صوته يكلمه ويخبره بتوبته، وما يدري كثيراً مما يقول له من الجهد والضعف وقد كان الرباط حز في ذراعه، وكان من شعر، وكان يداويه بعد ذلك دهراً لتلوثه]]. فهذا الذنب والخطأ اقترن به من الخوف والحياء والمهابة والتعظيم، ما جعل صاحبه يفعل ذلك الفعل، فكانت التوبة من الله تبارك وتعالى عليه، وكان ذلك خيراً له فيما نرجو له عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مما لو لم يفعل شيئاً من ذلك، والله تعالى أعلم.

قصة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان

قصة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وذكر توبة قريبة من هذه، وهي توبة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وهذه لها قصة مشهورة في كتب الأدب، وإن كانوا يذكرونها في كتب الأدب على أنها طرفة، أو ملحة من الملح أو النوادر؛ لكنها عند أهل الإيمان واليقين تدل على ما ذكره الشيخ -رحمه الله- راوياً بالسند. قال: دخلت عزة صاحبة كثير عزة -نسبة إلى المرأة التي عشقها، وكان هذا الرجل باطنياً خبيثاً كان على عقيدة الباطنية، وهو ممن كانوا يعتقدون أن الإمام في جبل رضوى، وأنه في أعلى الجبل، وأن عنده نمور تحرسه، وأن عنده عسل وعنده ماء، وسيخرج في آخر الزمان، وكان هذا في القرن الأول. الشاهد أن عزة دخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز وكانت تسمع من الشعراء، كأي امرأة مترفة ذات ملك وجاه ومال، فلما دخلت عزة سألتها أم البنين -لأنها تعرف خبرها مع كثير، كما يتناقل الناس الحكايات- فقالت لها أم البنين: ما معنى قول كثير: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنَّى غريمها -وهذا السؤال من فضول الكلام، وذلك كما دخل بعض الناس على أحد السلف فقال: إني أرى خشبة في سقف البيت تريد أن تسقط، فقال له: يا رجل! إن لي عشرين سنة في هذا البيت ما نظرت إلى السقف، وكانوا يكرهون فضول النظر، كما يكرهون فضول الكلام- فقالت لها: ما هذا الدين الذي يذكره، قالت: اعفيني. فقالت أم البنين: لا أعفيك حتى تخبريني؟ فقالت: كنت وعدته قبلة فأتاني يطلبها، فتحرجت عليه ولم أفِ له'. وعشاق العرب عندهم العشق على نوعين: نوع إباحي، ونوع عذري، أو الهوى العذري -بزعمهم- وهو فقط الحديث والمزح والكلام دون أي شيء آخر وهكذا كان كثير وعزة، وطائفة من العشاق. والنوع الآخر هو: الإباحي، وهو الذي يؤدي -والعياذ بالله- إلى ارتكاب الفاحشة، وهؤلاء كانوا من الموصوفين بالفجور، فهذه المرأة لم تعطه ما وعدته لحيائها، أو لعروبتها، أو لقبيلتها رغم أنه يخلو بها ويواعدها، ويتحدثان ويخبرها بما قال فيها من شعر، ثم يرجع كل منهما إلى مكانه، وقد قال بعضهم: 'كان العشق فيما مضى أن الرجل يلاقي المرأة فيحدثها وتحدثه، ويناشدها وتناشده، أما اليوم فلا يكاد يخلو بها حتى يفعل بها الفاحشة، وكأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله عنه' وهذا الكلام قالوه في القرن الأول. أقول: حتى المجرمين في ذلك الزمن كانوا أخف جرماً من مجرمي زماننا، فالمهم أن الشيطان جاء أم البنين، فقالت: 'أنجزيها منه وعلي إثمها' فأوبقها الشيطان، ثم راجعت نفسها من وقتها واستغفرت الله، وأعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة، وكانت إذا تذكرت هذه الكلمة بكت حتى تبل خمارها، وتقول: 'يا ليتني خرس لساني عندما تكلمت بها' وتحولت أم البنين من تلك التي تستقبل الشعراء، وتسمع أخبار العشاق، إلى امرأة عابدة مجتهدة صالحة فاضلة، قال: فرفضت فراش المملكة، وقامت تحيي ليلها، وكانت كل جمعة تحمل على فرس في سبيل الله، أي: تجهز فرساً يخرج في سبيل الله عز وجل. وكانت تبعث إلى نسوة عابدات يجتمعن عندها، ويتحدثن معها فتقول أم البنين: 'أحب حديثكن! فإذا قمت إلى صلاتي لهوت عنكن'. سبحان الله! كيف رسخ الإيمان في قلبها إلى هذا الحد، وكانت تقول: 'البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة'. وكانت تقول: 'جعل لكل إنسان نهمة في شيء، وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء، والله للعطية والصلة والمواصلة في الله؛ أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، والشراب البارد على الظمأ'. سبحان الله!! جعل الله نهمتها في العطاء والبذل والإحسان، وهذا خير عظيم فتح عليها، قالت: 'وهل ينال الخير إلا بالاصطناع'، وكانت على مذهب جميل حتى توفيت رحمها الله. فالشاهد أنها وقعت في ذنب، ولكن أعقب ذلك هذه التوبة، وهذه الاستقامة، وهذا الخير، وربما لم تكن لتنال ذلك الخير ولا تحصل عليه لو لم تقع في تلك الكلمة.

قصة عبد الرحمن القارئ

قصة عبد الرحمن القارئ ومثال آخر: رجل من شيوخ القراء، كان اسمه عبد الرحمن، وكان يلقب بالقس أو القسيس، أو العابد، فكان عبد الرحمن القارئ عند أهل مكة من أفضلهم عبادة، وأظهرهم تبتلاً، فمر يوماً بـ سلامة - وهي جارية كانت لرجل من قريش، فسمع غناءها، فأطل مولاها وعبد الرحمن عند الباب، فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع، فأبى عليه، فألح عليه الرجل، فلم يزل به حتى وافق ودخل، فقال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني -وذلك خشية أن يفتتن بها- قال: فدخل، فتغنت فأعجبته، فقال مولاها: هل لك أن أحولها إليك، فأبى وامتنع، فلم يزل به أيضاً حتى وافق، فجاءت فجلست أمامه، فلم يزل يسمع غناءها حتى شُغف بها وشُغفت به، وعلم ذلك أهل مكة وانتشر الخبر بأن العابد الراهب تعلق بهذه المغنية، حتى إنها ذات مرة قالت: أنا والله أحبك! فقال: وأنا والله أحبك! قالت فما يمنعك من الوصال! فوالله إن الموضع لخال، فقال: إني سمعت الله تعالى يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وأنا أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك تؤول بنا إلى عداوة يوم القيامة، قالت: يا هذا! أتحسب أن ربي وربك لا يقبلنا إذا تبنا إليه، قال: بلى، يتوب علينا لو تبنا، ولكني لا آمن أن أفاجأ بالموت، ثم نهض وعيناه تذرفان، فلم يرجع بعد.

قصة وهيب بن الورد

قصة وهيب بن الورد ويذكر ابن قدامة -رحمه الله تعالى- مثالاً آخر، وهو قصير لكنه عظيم جداً، قال وهيب بن الورد أحد العباد المشهورين المعروفين، بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول: 'يا رب! ذهبت اللذات، وبقيت التبعات' والتبعة هي المسئولية، فتبعات اللذات مكتوبة، والإنسان يلقى الله يوم القيامة وقد انقضت اللذات ولكن بقيت عليه التبعات، قالت: 'يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب سبحانك وعزتك إنك أرحم الراحمين، يا رب مالك عقوبة إلا النار؟ '. لأنها تذكرت أنه ليس بعد هذه الدار من دار إلا الجنة أو النار. وكان معها امرأة أخرى صالحة تمشي معها قالت: 'يا أُخية! دخلت بيت ربك اليوم؟ -تقصد الكعبة- قالت: والله ما أرى هاتين القدمين أهلاً للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلاً أطأ بهما بيت ربي وقد علمت حيث مشتا وأين مشتا' سبحان الله العظيم! تذكرت أن هاتين القدمين مشتا إلى فجور وإلى معاصٍ، والآن جاءها الندم، فكان تذكرها لتلك المعاصي والذنوب، أعظم دافع لتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها أن تستقيم وأن تستشعر، وفي هذا الكتاب فوائد قيمة ولو علق عليه لاكتمل جماله. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوب علينا وعليكم، وعلى جميع المسلمين، وأن يبصرنا ويفقهنا في الدين، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول أهل السنة: الإيمان قول وعمل

معنى قول أهل السنة: الإيمان قول وعمل Q ينقل الأخ كلاماً للإمام الحافظ الذهبي رحمه الله من سير أعلام النبلاء (2/ 15) في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي الذي قصته معلومة مع هرقل، لما قبل رأسه، يقول الإمام الذهبي: ' ولعل هذا الملك قد أسلم سراً، ويدل على ذلك مبالغته في إكرام ابن حذافة. وكذا القول في هرقل إذ عرض على قومه الدخول في الدين، فلما خافهم قال: إنما كنتُ أختبر شدتكم في دينكم. فمن أسلم في باطنه هكذا، فيرجى له الخلاص من خلود النار، إذ قد حصَّل في باطنه إيماناً ما، وإنما يُخاف أن يكون قد خضع للإسلام وللرسول، وأعتقد أنهما حق، مع كون أنه على دين صحيح، فتراه يعظم الدينين. يقول السائل: كيف توفق بين قول الذهبي رحمه الله في هرقل وما هو مدون في عقيدة أهل السنة والجماعة بأن الإيمان قول وعمل؟ A أول ما يجاب به: أن الحالات الفردية الخاصة لا ترد القاعدة العامة، والقاعدة العامة معروفة وأوضحها لكم بمثال: القاعدة العامة في الصلاة، قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، هو أن نصلي قياماً؛ لكن العاجز عن القيام يصلي قاعداً، أو على جنبه، فهذه حالة عارضة، وهكذا في جميع الأمور الشيء العارض فيها غير الأصل. فالأصل العام هو أن الإيمان قول وعمل، وأن ندعو الناس إلى أن يقولوا ويعتقدوا ويعملوا، لكن قد يأتي حالة عارضة كحالة هرقل هذه، وكأن الإمام الذهبي يقول: خاف هرقل على ذهاب ملكه عندما ثارت عشيرته، فقال: إنما أردت أن أختبر قوة إيمانكم وإلا فإن دينكم هو الحق، والله تبارك وتعالى لا يضيع عمل عامل كائناً من كان. يقول: لعل هذا حصل له إيمان ما، وبهذا الإيمان يمكن أن ينجو من الخلود في النار؛ لأن حديث الجهنميين: {أخرجوا من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان} وهو شيء لا يرى، فيقول: ربما يكون لـ هرقل هذه الذرة التي نحن لا نراها ولا نعدها، فلا يُعد مؤمناً في أحكام الدنيا، والذهبي لم يعتبره مؤمناً أو مسلماً في أحكام الدنيا، وكذلك لم يعتبره ناجياً من النار مطلقاً، إنما تكلم عن الخلود بسبب هذه الحالة. فهي حالة خاصة كما ظن رحمه الله وقد لا تتحقق، ولا تعارض بين هذا وبين الأصل الكلي المعلوم عند أهل السنة والجماعة. والجواب الآخر: أن الذهبي رحمه الله اجتهد، ولا يعول على الرأي والاجتهاد الفردي في مثل هذه المواضع، ولا حرج في ذلك، ومسألة الإيمان أخطأ فيها بعض التابعين، فلا غرابة أن يخطأ في شيء منها إمام أو عالم من المتأخرين.

القصص وما في نسبتها من أخطاء

القصص وما في نسبتها من أخطاء Q إن بعض الخطباء ذكر عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الأعراف:201] إن شاباً في عهد عمر رضي الله عنه فعل الفاحشة ثم مات عند ذكر هذه الآية، فما صحة ذلك؟ A يبدو لي أن هذه القصة لم يصح وقوعها في عهد عمر رضي الله عنه، وهذا لا يمنع أنها قد وقعت في عهد غيره، كما قد وقعت أشياء للعباد وللتوابين، لكن نسبتها إلى عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إلى عهد الصحابة يكون فيه الخطأ، وكثيراً ما نجد في حلية الأولياء وفي غيرها من الكتب، نجد كلاماً لا يمكن أن يقع في زمن النبوة، لكن قد يمكن أن يكون هذا فيما بعد والله أعلم.

ليالي العشاق

ليالي العشاق Q لقد رأيت العشاق في أحد الليالي بعد نهاية مباراة قدم، حيث خرج بشر لا يحصيهم إلا الله، والأمر المبكي أن بعض الرجال خرجوا ومعهم نساؤهم وسط زحمة الرجال، وبعضهم ترى على مظهره ملامح الصلاة، ولكنهم عشاق من نوع آخر، وهم يُطبِّلون ويرقصون، فما رأيكم في هذا؟ A ليالي العشق حالة عجيبة جداً لا نستطيع أن نأتي عليها في ليلة ولا في ليالي نسأل الله أن يحفظني وإياكم: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا وأساس العشق هو: خلو القلب من الإيمان بالله، وخلو القلب من الهم الذي يشغله بما ينفعه ويهمه في دنياه أو في أُخراه عن هذه السفاسف والأمور التافهات. أما هؤلاء العشاق فهم ليسوا بعشاق ولكنهم دياييث، فالاسم الشرعي للرجل الذي يخرج وتتبرج زوجته، ويراها الناس من أجل مباراة أو غيرها هذا اسمه ديوث، والدياثة درجات -نسأل الله أن يحفظ المسلمين منها جميعاً- أسوؤها أن يعلم الفاحشة في أهله ويسكت عنها، فهؤلاء لا يُعدون من أهل الغيرة في شيء، وليسوا من الإيمان في شيء. أما الإسلام -كما هو معروف- فلا نخرجهم منه، لكن لا يمكن أن يكون إنسان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، وهو يرضى بفاحشة في أهله ويسكت عنها، أو فيمن تحت ولايته نسأل الله العفو والعافية. أما من يرضى بالتبرج، ويرضى بالنظرة فهذا له من الدياثة بقدر ما يرضى، ويكون فقد الغيرة بقدره وكلٌّ بحسبه. وبعض الناس وصلت به هذه الدياثة وفقد الغيرة إلى أنه يجمل ابنته بنفسه، ويراها تتزين لتقدم برنامج الأطفال أو برنامج كذا وكذا، وربما افتخر بذلك، فهذا ممسوخ! وليس فيه من الغيرة شيء، فهو يرى الناس يتلذذون بالفتاة المسكينة، وربما لا يدري ولا يعلم. وبعض الناس يقول: صغيرة، فهذه الآن بنت ثمان سنوات، ثم عشر سنوات ولا زالت صغيرة، ثم ثلاث عشرة سنة وهو يقول: صغيرة، وتبلغ وهي ما زالت في برنامج الأطفال، حتى إذا افتتن بها أحد وسأل بنت من هذه؟ وأين تدرس؟ قالوا: في مدرسة كذا، فيعاكسها، وأكثر المصائب سببها الدياثة، وهو أنه أخرجها أمام الناس، في برامج الأطفال، وكأن الأطفال لا يحتاجون إلا للطبل والرقص واللهو واللعب. إن أطفال علماء السلف الصالح، وخيار هذه الأمة كانوا شباباً في مثل هذا العمر يقودون الجيوش: قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد قاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، واليوم يقال: ما زال طفلاً صغيراً اتركه يلعب، الرجال في مثل هذا السن قادوا الجيوش من عهد ابن قاسم الثقفي إلى محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وهو في الرابعة والعشرين من عمره، أي: بعمر ضابط تخرج من الكلية، وهذا يقود أمة، ويفتح البلد التي عجز عنها الملوك والخلفاء قبله، وغير هذا كثير في تاريخنا.

كيفية التخلص من الذنوب

كيفية التخلص من الذنوب Q إنه واقع في ذنب كلما تاب منه عاد إليه، ويقول: إنه بعد أن يعمل المعصية يندم، ثم يزداد الندم عندما يقوم إلى الصلاة، ويعزم على عدم العودة ولكنه يعود، وعندما يصلي يعاوده الندم ويصمم على عدم العودة، ثم يعود إلى توبة وذنب، فأرشدوني فإن الندم يقطَّع قلبي؟ A هذا دليل الخير -إن شاء الله- عندما يقف بين يدي الله عز وجل يستشعر كيف يقف وهو ذلك المذنب، كما قالت هذه المرأة: كيف أقوم في البيت بأقدامي وقد فعلت ما فعلت، وفي الحديث: {ما يزال العبد يذنب فيستغفر، فيذنب فيستغفر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر له، ويقول: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، قد غفرت له} وهذا إن كان صادقاً ونادماً. أما إن كان نوعاً من الحيل الشيطانية فليتق الله، وليتب من هذا الذنب، ويبدو لي أن هذا الذنب من ذنوب الشهوات؛ لأن ذنوب الشبهات لا تصل إلى هذا الحد، ولكن هذا من ذنوب الشهوات وخاصة من الشباب، والشهوة لها علاج كما أن الشبهة لها علاج. ومن علاج الشهوة: تذكر عظمة الله، وتذكر عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتذكر ضرر المعصية والذنب في الدنيا والآخرة -وكما أحلنا مراراً على كتاب الداء والدواء فقد تكلم عن آثار الذنوب وخطرها وضررها على القلب وعلى البدن، وعلى حياة الإنسان، حتى فيما بينه وبين الله. وبعض العقوبات لا يفطن لها كثير من الناس وهذه من المصائب التي حلت في الذين لم يفقهوا الفقه الرباني الإيماني، أنه يظن أنه ما لم يقم عليه الحد -لا جلد ولا رجم- فلا شيء عليه، والنار لها وقت آخر ويمكن أن يتوب. وعقوبات الذنوب أعظم، ومنها: أن يسلب الإنسان لذة قراءة القرآن، وكم من الناس لا يُفكِّر في هذه العقوبة! فعلى كل شخص أن يختبر قلبه، لماذا يسمع القرآن ولا يتلذذ لسماعه، ولا يأنس به؟! إذاً أنت معاقب يا مسكين عقوبة عظيمة جداً جداً! ومنها: أن يبغض الصالحين والأخيار ويحب الفجار والأشرار، فإذا كان في مجلس فيه أخيار لم يحب أن يجلس معهم، وهو لا يدري أنه معاقب، فانظر إلى قلبك: لِم ألف قلبك الذي يعملون بعمل أهل النار ونفر من الذين يعملون عمل أهل الجنة؟ مقامك في الآخرة أنت تحدده في هذه الدنيا، فإن كنت تريد طريق الجنة فاسلك، وإن كنت تريد طريق النار فهو واضح: {الحلال بيِّن والحرام بين} فالقلب الذي لا يأنس بأهل الخير ويأنس بأهل الفجور والمعاصي فليعلم صاحبه أنه معاقب. وقد يُعاقب الإنسان على الذنب بأن لا يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهو متبلد يرى الليل والنهار ولا يتفكر، يرى النجوم ويرى الكواكب ويرى خلق الله تبارك وتعالى في البر والبحر ولا يتذكر، بل ربما غفل عن هذه الأمور. يقول أهل الفجور: الليلة قمر، فلنخرج لنلعب، فهم في لهو ومعاصٍ بدل التفكر والتدبر، بل وبعض ما خلق الله من الطيور ومن الحيوان أصبحت لهواً، يقولون: تعال! نذهب إلى حديقة الحيوان، لنلهو ونلعب، ولو نظر لها من جانب الإيمان لرأى العجب العجاب في خلق الله، لكن الحس -كما يقول ابن القيم رحمه الله-: الحس بهيمي، حتى لو رأى هذا الطائر الجميل أو الشجرة الجميلة فإنه يفكر بكم القيمة لو باعه، ويسأل هل هذا الطائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل؟! وهذا فيه شيء أبعد من أنك تأكله، هذا فيه جمال، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل في الجمال آية: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] فانظر كيف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هذا الريش، وركب هذه العيون، وجعل هذا المنقار، أشياء عجيبة من خلق الله. حتى في جانب البحر ترى الألوان العجيبة في الأسماك، وليست القضية قضية حيوان يأكل في الماء ويمشي، لو كانت القضية هكذا لكان أي لون يصلح؛ لكن عشرة ألوان في بعضها طراز خاص، وشكل جميل، فتجد الشخص يُفكِّر كيف يصطادها ويأكلها، فهذا حس بهيمي، لكن الحس الإيماني هو أن تفكر وتقول: سبحان الخلاق الذي أبدع وخلق هذا الشيء!! وأقول: من العقوبات: ألَّا يتفكر الإنسان في ملكوت السماوات والأرض، فهو معاقب بضيق القلب، ولا يوجد عقوبة أسوء من هذه -والعياذ بالله- وهي أن يموت القلب، فهذا ميت القلب؛ لأنه ألف هذا الشيء المحرم، أما إن كنت تغار على حدود الله، وعلى محارم الله، وتتمنى كما قال بعض السلف لما رأى رجلاً يعصي الله، قال: ' وددت لو أن جسدي قُرِّض بالمقاريض وأنه لم يعص الله ' إن كان هذا شعورك فأنت مؤمن. أما إذا كنت ترى المعاصي والمنكرات ولا يهمك هذا، فهذا هو موت القلب، فحقيقة الإيمان: أن تغار على محارم الله، وعلى دين الله، وأن تنكر المنكر ما استطعت، وأقل شيء هو أن تغضب وأن تحزن.

شهادات تقديرية للممتنعين عن بيع السجائر

شهادات تقديرية للممتنعين عن بيع السجائر Q وزارة الصحة توزع للمحلات التي تمتنع عن بيع السجائر شهادات تقدير بتوقيع مدير الصحة، فما رأيكم في ذلك؟ A هذا شيء طيب، إن كانوا يعملون ذلك لوجه الله، ويا حبذا أن يصحبها قرار بمنع استيراد السجائر، على الأقل يكون هذا أنفع للأمة.

سوء الظن وأحاديث المجالس

سوء الظن وأحاديث المجالس Q بمناسبة الذنوب وخطرها قدمت من خارج هذه البلاد، وكانت فكرتي عنها طيبة جداً، ولكنني عندما أتيت وقعت في وسط مجموعة، لا يجتمع عندها إلا الأخبار السيئة، أي: الزنا والفواحش، وأخذوا يقصون علي، وأنا أدافع عن نفسي، ولكن النتيجة أنني مرضت بسوء الظن، وأصبحت كلما أنظر إلى شخص أظنه كما قالوا لي، وكأنها صدمة لي، خصوصاً أني شاب، فماذا أعمل خصوصاً وقد بلغ بي ذلك المرض أن ألحظ وأكاد أقع في التجسس، وكل ذلك غيرة ونار في قلبي على المسلمين، فأوصني رحمك الله؟ A أولاً: نوصي الإخوان كلهم بحفظ المجالس، احفظوا المجالس من هذه الأمور، وانصحوا الناس في خطبكم ومواعظكم ألا يتعرضوا لهذه الأمور، وهذا يدخل في قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19]، قوله: {تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] فمسألة أن فلاناً يزني، وفلانة تزني، هذا الرجل ما مرض إلا من شيء، وحتى الملتزمين عندهم كذا!! وحتى التي تراهن محجبات يفعلن كذا، حتى حتى!! فالرجل هذا قلبه -فعلاً- لو رأى امرأة متحجبة متسترة تطوف بالبيت، يقول: حتى هذه، والذي علمه هو مجالس السوء، خاصة بعض دوائر الموظفين الذين ليس عندهم عمل في كثير من الإدارات -مع الأسف- بيروقراطية، وهذه دخلت علينا في الإدارة، كل اليوم كلام فارغ، كما يعبر عنه العامة: (من السرة وتحت)، كل الكلام فلان وفلان وفلان! وهذا فيه تزيين للشهوات وتحبيب بها، فمجرد أن يُقال: إن الزنا يقع ويقع ويقع من غير دعوة ونصح وإنكار وإرشاد، مجرد ذلك تذكر الناس فيه وتثيرهم لهذا الشيء، وخاصة إذا اقترن بفلان وفلان، والأشخاص والبيت الفلاني، والقرية الفلانية، والحي الفلاني فربما بعض الناس لا يعلم أن هناك مناطق وأحياء، الزنا فيها أسهل من غيرها، فبعضهم يتحدث فيروج لهذه الأماكن، وكذلك الكلام عن مجلات خليعة إن هذا يروج لها عند الآخرين، مجلة اسمها كذا، ومجلة اسمها كذا فتشترى، فما لم يكن الكلام موزوناً وفي محله، ومع من ينكر ويغير فلا داعي لمثل هذه الأمور. ثانياً: أنصح هذا الأخ وأقول له: لِمَ الغيرة؟ ولماذا التجسس؟ وهلاَّ اشتغلت بعيوبك! والحمد لله رب العالمين.

آفة الاستعجال

آفة الاستعجال في هذه المادة تحدث الشيخ عن آفة عظيمة وصارف خطير عن العمل، وهذه الآفة هي آفة (الاستعجال)، مبيناً أن الله جل وعلا قد فطر الإنسان على استعجال النتائج؛ لذلك يجب على الدعاة مراعاة حال المدعوين، وعدم استعجال الثمرة قبل أوانها، ثم سرد شيئاً من الآيات التي حكت استعجال الأمم الكافرة بالعذاب تكذيباً للرسل، وذكر استبطاء المؤمنين لنصر الله، مبيناً أنه ينبغي على الدعاة إلى الله أن يعلموا أن هذا من طبيعة البشر، فيجب أن يتحمل بعضهم بعضاً، وأن يعالجوا هذه المشكلة بصبر وسعة صدر، ثم بين أن الجيل المهزوم في داخله لن ينتصر، ولكن عسى أن يكون أرضاً يخرج منها جيل النصر القادم.

خلق الإنسان من عجل

خلق الإنسان من عجل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد: فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي وفقنا للإيمان به، والتمسك بكتابه، واتباع سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما نحمده حيث يسَّر المراكز التي احتضنت الشباب فربتهم وغذتهم، ووسعت مداركهم، وفقهتهم في دينهم، وحفَّظهم من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونمّت عقولهم وأجسامهم، فشكر الله تعالى للقائمين عليها، وأجزل مثوبتهم عنده، ووفق جميع الآباء والطلاب للالتحاق بها وبأمثالها إنه سميع مجيب. ثم إن من الموضوعات المهمة: منهج الدعوة، والأسلوب الصحيح في إنكار المنكر، وفي فقه الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي طلب العلم، وكل ما من شأنه أن يكون منهجاً مسدداً صائباً وفق منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من الموضوعات المهمة في فقه الدعوة: ما يتعلق بالاستعجال، فهذا أمر جدير بالبحث والمطارحة والمناقشة من الجميع، وسوف أذكر إن شاء الله ما يسر الله لي ولو بإشارات إلى رءوس الموضوعات. أول ما نقوله في هذا الشأن: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، وقال عز وجل: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] فالإنسان بطبيعته عجول، والنفس الإنسانية بطبيعتها عجلة، وهذا أمر جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها لحكمة عظيمة، لا نستطيع الآن أن نستعرضها، ولكن حكمة الله أن يكون في الإنسان هذا الطبع وهذه الصفة وهذه الغريزة. ولو أن الناس لم يمنحهم الله تبارك وتعالى العقل والأناة، لأكلوا الثمار قبل أن تنضج، ولربما أكلوا الطعام قبل أن ينضج، إذ في الإنسان هذا الطبع، فإذا كان في طبع الإنسان باعتباره إنساناً أياً كان مؤمناً أو كافراً أن يستعجل، وخلق من عجل، فهذا يوضع في الاعتبار بالنسبة للإخوة الدعاة وبالنسبة للناس المدعوين. أما بالنسبة للدعاة فيجب أن يحمل بعضنا بعضاً على المحمل الحسن، وإذا رأينا هذا الاستعجال من أنفسنا أو من إخواننا الدعاة، فلنعلم أن الطبيعة البشرية قد غلبت جانباً آخر، فلنذكِّر أنفسنا به، وهو "الحكمة والأناة"، حتى لا تغلبنا هذه النزعة وهذه العاطفة. وبالنسبة للمدعوين نحتاج إلى أناة، إننا نريد أن نقول الكلمة اليوم فنرى أثرها عاجلاً الآن أو غداً، نريد أن نقول للناس: هذا حرام، فينتهي الجميع عنه، أو نقول لهم: هذا واجب، فسرعان ما نجدهم قد فعلوه، وامتثلوا أمر الله فيه. والأمر ليس كذلك أبداً، فلِكَوْنِ الاستعجال من طبيعة البشر، ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن بياناً شافياً كافياً له حتى يغير به الأمور والأحوال.

استعجال العذاب

استعجال العذاب ومن ذلك ما ذكره الله في آيٍ كثيرة أن الرسل الكرام عندما يدعون أقوامهم إلى الله وتوحيده يخوفونهم من عذاب الله، وينذرونهم عاقبة المعاصي، والظلم، والجور، والفساد، فإن الجواب عند كثير من الأمم هو استعجال العذاب {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]. انظر حلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسنن الله! يستعجلون أن تحل بهم العقوبة، ولهذا جاء الرد عليهم في آيٍ كثيرة، قال الله تبارك وتعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:204 - 207]. سبحان الله! يستعجلون بالعذاب اليوم، لو فكروا كم سيعيشون، أرأيت إن أمهلهم الله وجعلهم يتقلبون في البلاد؟! أهذا يعني أنه لن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟! سبحان الله! {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء:205] هب أن الأمر كان كذلك {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:206 - 207] هنا المحك، وهنا المعيار. سل من تمتع وتقلب في أنواع الملذات العمر كله، لحظة أخذ الله له أخذ عزيز مقتدر، هل أغنى عنه ذلك المتاع شيئاً؟! {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:50]، فإذا أتاه العذاب تذهب تلك النعمة، وتلك اللذات والشهوات، ولهذا في الحديث الصحيح: {أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض من أهل الدنيا، وهو من أهل النار، فيغمس في النار غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ هل ذقت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله، ما ذقت نعيماً قط والعكس، يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله! ما ذقت بؤساً قط}. إذاً العبرة بالنتائج، فلماذا نستعجل؟ فالمشركون يستعجلون العذاب في معرض التحدي للرسل، وأن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- غير صادقين فيما يعدون به من العذاب، والرسل الكرام يحذرونهم ويبينون لهم أن هذا الإمهال ليس إهمالاً، وأن التأخير ليس إغفالاً، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمهلهم، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته؛ ولذلك يضرب المثل بالأمم التي سبقت من قبلنا تنعمت وعصت {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14]، فلم الاستعجال إذاً؟! ألا ترون ما فعل الله بحضارة عاد؟! وهي من الحضارات المندثرة، التي يحكى عنها الغرائب، كما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه لما دخل مدينة دمشق ورأى ما فيها من النعمة والترف بالنسبة إلى ما كان يراه في المدينة، [[يا أهل دمشق، ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الأمم قبلكم قد بنوا فشادوا، وجمعوا فأوعوا، وإنه قد بلغنا عن عاد أنهم بنوا لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، فمن منكم يشتري تركة آل عاد بدرهمين؟]] لا أحد، لأنه لا وجود لها، فقد محيت، وذهب بها الله. والحضارة الفرعونية إلى الآن، لم يصل العلم الحديث إلى كثير مما كانوا يتعاملون به مع التقنية واستخدام العلم، مثل تحنيط الموتى، ومثل تفريغ الهواء. فإلى الآن يعجب العلم الحديث كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهم الآن قد ذهبوا، وقد كانوا يستعجلون العذاب! كما أن الكفار في كل زمان ومكان يستعجلون العذاب، ويرون أنه تأخر. وإذا طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ونسوا وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ووعيده، ركنوا إلى الدنيا وإلى الملذات والشهوات، وغفلوا عن كل ما جاء من عند الله {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] تأتيهم الخيرات -وهذا الواقع الآن- الحضارة الغربية اليوم عندما نقول للناس: إن الغرب سيسقط، إن الغرب ليس بدائم؛ لأنه يعصي الله، ولأن عذاب الله تعالى الذي دمر الحضارات جميعاً سيدمره، يرى بعض المتفرنجين أو المتربين على آرائهم وأفكارهم، أن هذه الحضارة تملك مقومات الأبدية أو شبه الأبدية، نعم فيها مقومات لأن تستمر إلى ما شاء الله، لكن لا بد من يوم يأخذهم الله تبارك وتعالى فيه إلا أن يؤمنوا بالله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا كل حضارة وكل أمة. فالكفار يستعجلون العذاب، وهو واقع بهم لا محالة، ويرون ما أعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من العذاب بعيداً، سواءً عذاب الدنيا أم عذاب الآخرة، وهو أشد قال تعالى: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7] هذا شأنهم وهذا حالهم.

استعجال عباد الله المؤمنين

استعجال عباد الله المؤمنين وأما ما يتعلق بالمؤمنين فإن استعجالهم من نوع آخر، وهو استبطاء النصر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فهو قريب لكنهم يستعجلون. {ولهذا جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد في ظل الكعبة، فقالوا: يا رسول الله! ادع الله على قريش! وشكوا إليه ما وجدوا، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الظعينة أو الراحلة من صنعاء إلى حضرموت، ولكنكم قوم تستعجلون}، لا تستعجلوا، وقد أتم الله تعالى هذا الدين. {جاء سراقة بن مالك وقد منَّى نفسه بالمائة ناقة، وتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد أن حدثت الآية العظيمة، وساخت قوائم فرسه، يقول له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبشر بسواري كسرى، يا سراقة أمن أجل الدنيا تأتي}. فوعده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسواري كسرى، خيال!!! سواري كسرى! من يحلم أن يرى كسرى؟! من كان يطمع من العرب أن يذكر كلمة كسرى؟! وكسرى أين هو؟! شيء فوق الخيال! وهذا الأعرابي يُوعَد به. وممن يُوعَد به؟!! يوعد به من رجل خرج خائفاً لينجو بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ومعه الصديق، خرجوا خشية أن يقتلهم الذين كفروا أو يثبتوهم، سبحان الله! في هذه الحالة! وهل أمنت على نفسك؟! هذا هو المنطق البشري، منطق الذين يقولون دائماً: الأمر حسابات، واعتبارات وخطط. أنت الآن تريدني أن أرجع، حتى لا أقبض عليك، وحتى لا أدل قريشاً عليك، وتعدني مع ذلك بسواري كسرى! ولم يقل بعد جيل أو جيلين، انظروا إلى أين يؤدي ضعف الإيمان دائماً والاتكال على الأسباب المادية، وعلى النظرة المادية مهما كان عمق التخطيط، كما يظن، فلله تعالى حكم وسنن أعظم من ذلك كله، وفعلاً: لبس سراقة سواري كسرى. الله أكبر! وعندما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحفر الخندق هو وأصحابه، بشرهم أيضاً بفتح كسرى، وإيوانه. قال المنافقون: هذا محمد وأصحابه يعجز أحدهم أن يقضي حاجته، ويعدهم بقصور كسرى! انظروا ضعف الإيمان، وضعف الثقة بالله، والنفاق!! ومع ذلك حقق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك، كما تعلمون -والحمد لله- وصدق فيهم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشارته: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل}. لا تستعجلوا! الكنوز والحضارات التي تبنى، والمليارات التي يملكها الكفار، والذي نفسي بيده إن صدقنا مع الله لتنفقن في سبيل الله! هذه التي جمعت من حرام، أو ربما جمعها الكفار من أموال المسلمين، لا نستعجل: {والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل}، فيكون الأمر عكس ما أملوا، جمعوها ليقاوموا بها الدين والإسلام، فالله عز وجل يجعلها غنيمة للإسلام والمسلمين. يستعينون بها على الجهاد في سبيل الله. لو خرج المسلمون يريدون أن يأكلوها أو يتمتعوا بها ما أُورثوها، ولذلك في هذا الحديث تنبيه للمؤمنين، {لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} فإن قاتلنا فلله، وإن غضبنا فلله، وإن دعونا فلله، وإن رضينا فلله، الكل في سبيل الله، لو خرجوا يطلبون الغنائم، والمتاع الدنيوي ما أُعطوا شيئاً، أو لو كانوا عند أول غنيمة، اقتسموها واختصموا فيها، وما الذي وقع في بلاط الشهداء؟ أثقلوا بالغنائم حتى عجزوا عن حملها! وأقول: استعجال المؤمنين أو استبطاؤهم لنصر الله هذا -أيضاً- مما يجب أن يبين بالأدلة وفقه الدعوة الصحيح أنه مخالف لسنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن كان هو حق قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110]، نعم يأتي اليأس، ويأتي الشعور بأن الأمر قد فرغ، وأنه لا حيلة بعد ذلك، وربما وقع في القلوب أن النصر قد تأخر ولكن نقول: لا يجوز للإنسان أن يفقد أمله في الله، وأن يستبطئ نصر الله ووعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

معالجة آفة الاستعجال

معالجة آفة الاستعجال على الإخوة الدعاة -وفقنا الله وإياهم- أن يعالجوا هذا الأمر مع الأحداث النازلة هذه، وفي كل حدث وفي كل موقف، ومع كل إنسان يدعوه، وأن يعالجوا هذه الغريزة وهذه العاطفة بعدم الاستعجال في أي شيء في تكوينك الشخصي والعلمي وغيره. بعض الإخوان يقول: أريد أن أحفظ القرآن كله، وأن أكون في العلم إلى حد كذا وكذا، يستعجل ليصل إلى مستوى معين من العلم، فإذا لم يتسن له ذلك -ولن يتسنى طبعاً إلا وفق سنة ربانية معينة- ما جعله الله فيه من مواهب ومن طاقات، وما أعطاه من وقت وإمكانيات، فإذا لم يأته لِمَا أراد واستعجل، فربما قنط، وربما ترك ذلك ولم يكمله ففي معالجتك لأي حدث من الأحداث لا تستعجل! لِمَ الاستعجال، قبل أن ترى الحدث كله وأبعاده وما وراءه، قبل أن تلقى أو تسأل من هو أعرف منك، وأبصر منك بهذا الأمر؟! لا تستعجل في الحكم، ولا تتسرع. هناك خصلتان يحبهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أشج عبد القيس الحلم والأناة، فقال: {إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة}، الأناة: الروية، لا يندم الإنسان عليها أبداً، فإذا دعوت إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكن حليماً ولا تستعجل. رُبَّ مجرم ينقلب خيراً للدعوة -وهذا ما وقع والله- وينقلب سيفاً بتاراً على أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى دعاة الشر والفساد، لكن بعد صبر من الدعاة عليه، حتى يفقه الحق، وحتى يستجيب له، وحتى يعرف أنه لم يُدع إلا إلى خير الدنيا والآخرة، فلا بد من الأناة. أما الاستعجال في القرارات الفردية الشخصية، بأن يستعجل الإنسان في قرار ما، ثم يندم عليه، وكذلك الاستعجال في قرارات الدعوة، فيريد أن يرى الإجابة فوراً، ويريد الاستقامة حالاً، أو الاستعجال في سنن الله التي لم تتغير أبداً. لقد وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المؤمنين بالنصر {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] لكن الإنسان يقول: لماذا لم يأتٍ النصر؟!! يريده الآن! فهذا الاستعجال آفة يبتلى بها الناس ولا ينبغي للدعاة بالذات، ولكل من يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقع فيها، وإنما الواجب من الجميع أن يتأملوا سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تغيير الأنفس وفي تغيير المجتمعات. إننا نحن اليوم والأمة الإسلامية تواجه أعداءها من الشرق والغرب أنستعجل النصر، ونستعجل ما عند الله، وما وعد الله به المؤمنين، ونستعجل كيف نعمل وماذا نعمل؟! مع أن الواجب أن نأخذ الأمور بحكمة وبهدوء وبروية، ونقرأ التاريخ، فنأخذ منه العبرة والعظة، كيف غيَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأحوال؟! عندما كانت حملات التتار، أو الحروب الصليبية، أو ما كان قبلها من المعارك أو ما بعدها، لقد جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سنناً للتغيير، وقد ألمحت إلى هذا في محاضرة عن الحروب الصليبية.

انبثاق النصر من جيل الهزيمة

انبثاق النصر من جيل الهزيمة مما رأيته من سنن الله تعالى أن جيل الهزيمة لا ينتصر هو لكن ينبثق النصر منه. فهو أول من يشعر بمرارة الهزيمة ومرارة الذل، وهذه من نعم الله. وربما صحت الأجساد بالعلل فتأتي مصيبة، وتأتي نكبة، وتأتي مشكلة، فيبدأ الشعور بالتقصير، والشعور بوجوب الأخذ بما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فتبدأ الانطلاقة من هنا، ولكي يكون النصر نهائياً يحتاج إلى أمد بعيد وإلى زمن طويل، لا نحدده ولا نقيده بسنوات معينة، لكن هو على أية حال يحتاج إلى صبر وإلى أناة. ومن هنا كان الواجب أنه في كل حدث، وفي كل مرحلة، وفي كل وقت، ألاَّ ننسى دائماً القواعد الأساسية التي عليها يبنى أي عمل مهما كان. ومن أعظم القواعد في ذلك، أن توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأساس الذي يكون منه الانطلاق في الدعوة، والجهاد، وأن التوبة، والإنابة، والضراعة، والاستغفار، وترك الذنوب والمعاصي، والإقلاع عما حرم الله ومحاسبة النفس، كل هذا لا بد أن نستصحبه في كل حال. إذا اراد الفرد في ذاته أن يطلب العلم، فالاستعجال بالتوحيد أول واجب. إذا أراد أن يجاهد فالتوحيد أول واجب. إذا أراد أن يدعو فالتوحيد أول واجب. إذا أراد أي أمر من أمور دنياه فأول شيء لا بد أن يبدأ بالتوحيد، ثم بعده يأخذ بسنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التغيير، ولله تعالى سنن في ذلك. فالجيل الأول جيل الهزيمة أو جيل السقوط لا يفعل شيئاً، ولهذا رأينا الهزيمة المدمرة التي مرت بالعالم الإسلامي، كما حدث عام (67) الأيام الستة وما تسمى نكبة وهزيمة ونكسة، إلى آخر ما قيل، فابتداءً منها ولدت الصحوة الإسلامية والعودة إلى الله. انهارت النظم القومية والاشتراكية، والدعاوى الباطلة، الوافدة المستوردة، وبدأ الناس يفيقون، ويفكرون بالعودة إلى الله. ولننظر كم نحتاج؟ فإلى الآن لم نصل إلى حد أن نكون أهلاً للنصر؛ لأن المسألة تحتاج إلى طول وقت، ولذلك لما أُخذت القدس في الحروب الصليبية الأولى، وقبل أن يأخذوا القدس أخذوا مناطق أنطاكية، وأجزاء الشام العليا. ومرت سنوات حتى ظهر نور الدين، ثم جاء بعد نور الدين، صلاح الدين. ثم كانت حطين في النهاية، ثم بعد حطين كان دخول بيت المقدس. إنها سنن وإعداد مادي، وإعداد علمي، وإعداد أدبي، فعند قدوم الصليبيين كانت هناك مدرسة واحدة في دمشق تعادل كلية كما نسميها اليوم، ودمشق عاصمة الشام، ولم يكن فيها إلا مدرسة واحدة للعلم وللحديث. فلما كانت أيام صلاح الدين، كانت المدارس تقارب مائة مدرسة، فلماذا نغفل عن هذا الجانب؟! ننظر دائماً أن صلاح الدين جمع الجيوش وانتصر، هذا حق وهذا جانب لا يمكن أن يغفل، لكن هل يمكن أن يكون هذا النصر وهذا الجيش لولا أن هناك أمراً آخر حدث في الأمة؟! لقد حدث تغيير أساسي في الأمة، وهو رجوعها إلى العلم وإلى طلب العلم، وإلى الدعوة وإلى الخير. وهؤلاء العلماء وهؤلاء الدعاة هم الذين حرَّكوا الأمة، فهم العصب الذي يحرك هذه الأمة ويجمعها، ويوحدها على الخير بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد كان ابن قدامة رحمه الله صاحب المغني في ميمنة صلاح الدين فاجتمع العلماء على الكتاب والسنة، واجتمع حولهم طلبة العلم على ما اجتمعوا عليه من الحق، فاجتمعت القيادة المؤمنة، مع الدعاة الصادقين، مع طلبة العلم، فكان النصر بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وهذا الذي يجب أن نفكر فيه دائماً، وأن نسعى إليه دائماً، وألاَّ نتيح لأنفسنا ولعواطفنا مجالاً للاستعجال، وقطف الثمرة قبل أن تنضج، مهما كان الأمر، ومهما كانت رغبتنا في تحقيقها وفي قطفها، فهذه سنن ربانية، ولا بد أن تتحقق بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع، وكل العالم يدرك هذه السنن نوعاً من الإدراك. فعندما بدأت اليابان تخطو خطواتها في ملاحقة الغرب، بدأت -وهي تدرك هذا الشيء- وصبرت على الابتعاث وعلى التبعية للغرب، حتى أصبحت منافساً له. بدأت كوريا من نفس النقطة، وبدأت غيرها من الدول، وهي دول لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، لكن أدركت السنن، وأنه لابد من إعداد خطة أو منهج، ثم الصبر عليه حتى يؤتي ثماره، دون استعجال تكون فيه النهاية، وتكون فيه الانتكاسة والبدء من جديد. أقول: إن الاستعجال يحتاج إلى حديث طويل، فنحتاج إلى أن نتحدث عن الاستعجال في أمورنا الخاصة، كالاستعجال في الزواج أحياناً، والاستعجال في قرار دخول الكلية، الاستعجال في قرار يتعلق بحياتك الشخصية، أو بإقامتك لمشروع ما، أو بأي عمل من الأعمال، لكن هذا مجاله طويل. وقد حاولت أن أركز الحديث في القضية الأساسية التي يجب أن تكون دائماً محور حديثنا وموضوعنا.

الأسئلة

الأسئلة

المواطن المحمودة للاستعجال

المواطن المحمودة للاستعجال Q هل توجد مَوَاطن محمودة للاستعجال؟ A الاستعجال الذي تكلمنا عنه، غير المبادرة إلى اتخاذ العمل الصائب والقرار الصائب في وقته المناسب، فلا يفهم أننا كنا نتكلم عن ذلك، فمثلاً من أكثر الناس حلماً الأحنف بن قيس رضي الله عنه، كان مشهوراً بالحلم في الجاهلية والإسلام، حتى ذكر في سيرته أنه كان يوماً محتبياً، فجيء له بابنه وقد قتله ابن أخيه، فلم يفك حبوته. وقال يا بني، قتلت أخوك! ثم قال: اذهبوا إلى أم فلان، فإن رضيت، وإلا فأعطوها الدية، ولم يحل حبوته. وقيل له: نراك حليماً! قال: "نعم إلا في ثلاث": وهذه الأشياء لا بد فيها من المبادرة وغيرها كثير، لكن هذه يذكرها على سبيل المثال: - الضيف إذا قدم: فهل تقعد وتتكئ والرجل واقف عند الباب؟! هذا ليس بحلم! ولاتقل: هذا من الاستعجال، بل قم وانهض، ورحب. - وعند الجنازة: وهذه هي السنة، الاستعجال في الدفن، وألاَّ تتأخر. - والبنت إذا أدركت: البنت إذا أدركت تُزوج، وهذه مفقودة الآن، إذا جاءها الخطيب، قال وليها: لا، حتى تكمل الكلية، بينما هي أدركت في المتوسطة. وهذا في التعامل الشخصي، وكل إنسان منا يمكن أن تحصل له مثل هذه الأمور. فالحلم والأناة لهما موضعهما، وأما المبادرة فأحياناً يحتاج الأمر إلى مبادرة، ويحتاج إلى عجلة لئلا يفوت؛ لأن هناك أموراً حاسمة، لو فاتت وذهب وقتها، لم تعد تجدي شيئاً. ومن ذلك: أمور مجابهة أعداء الله تعالى في الحرب، وقد ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أروع المثل في ذلك. والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء في يوم بدر، ونزل إلى الماء، وجعل الماء من ورائه، وسبق قريشاً إليه. وهناك أمور وخطط، فيجب أن نواجه أعداء الله ونبادر إلى ذلك، ونحث الهمة ونرفعها، ونجتهد في أن نحقق أكبر قدر، وأكبر نصيب من الخير قبل أن يسبقنا عليه الآخرون، فلا تعارض بين هذا وهذا، بل الحكمة المطلوبة دائماً أن تكون الأناة في موضعها، وأن يكون الاستعجال في موضعه. ولكن لما كان الاستعجال من حيث هو طبع غالب، فهو الذي يحتاج الحديث عنه لتقف النفوس عند مواقف معينة، فلا تغلبها هذه الطبيعة وهذا الدافع، فتنسى ما ينبغي أن تكون عليه، إذ الأصل أن يكون الإنسان حليماً، وكما نرى أي إنسان منا يذهب إلى آخر، ويراه يتعامل مع قضية بهدوء وبأناة، ثم ينتجها ويحكمها، يُسَرُّ منه، أكثر مما لو رآى أحداً استعجل ثم لم تثمر عجلته شيئاًًً.

سبل معالجة الاستعجال

سبل معالجة الاستعجال Q ما هي السبل أو الأسس التي يستطيع بها الإنسان أن يعالج الاستعجال؟ A هذا يحتاج إلى التربية والتكوين، فالفرد منا -وكذلك الأمة- يحتاج إلى تربية، وإلى تكوين يستطيع به أن يميز بين مواضع العجلة ومواضع الأناة ومواضع المبادرة، بحيث يستطيع أن يضع الشيء في موضعه، فلذلك لا بد من هذا التكوين للفرد، ولا بد منه للأمة. ومن ذلك أن ندرس ونقرأ ونتأمل سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة الأنبياء وجهادهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وجهاد الصحابة والتابعين وصبرهم، وسير العلماء. فالإنسان منا عندما يقرأ في صفة الصفوة، أو طبقات ابن سعد، ويرى هذه السير، يجد العجب العجاب، ويجد أمثلة حية. أولئك الرجال الذين وهبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه القلوب الكبيرة، وهذه النفوس العالية، وهذه الهمم العظيمة، مع الأناة والهدوء وعدم الاستعجال، حققوا ما لم تحققه أجيال ولا أعمار! فلو أعطي أمثالنا أو من المتأخرين أضعاف أعمار أولئك، ما حققوا مثلما حققوا، فسبحان الله العظيم! كيف كان هؤلاء الناس؟! أقول: هذه النماذج مما يكوّن لدينا ذلك التكوين والتربية عليه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما الصبر بالتصبر}. كل إنسان يحاول أن يطبع نفسه، إذا كان يعرف أنه عجل -وكل إنسان عجول- ولكن بعض الناس يعرف أن عجلته زائدة عن القدر اللازم، فإنما الحلم بالتحلم، فيعود نفسه أن يكون حليماً، ويصبر نفسه أن يتحمل، وإن كان الموقف لا يطاق، وإن كان لا يستطيع أن يتحمل، لكنه يُعود نفسه على ذلك، وقد يكون الإنسان حليماً عن صفة طبعه الله عليها، وقد يكون حليماً عن صفة هو تخلق بها وتعودها، حتى صارت صفة فيه. ومن أعطاه الله الحلم والأناة من عنده فتلك سجية عظيمة، ومنة كبيرة، لكن لا يعني ذلك أن من لم يؤتها لا يصبر نفسه حتى يكون ممن يتحلى بها، بل يجتهد الإنسان في ذلك، والله تعالى سيوفقه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فمجاهدة النفس في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لتكون مستقيمة على أمر الله هذه عبادة، وتأذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن فعلها، واتخذ هذا السبب أن يحقق له النتيجة بإذن الله.

المبادرة مع الخشية من الوقوع في الزلات

المبادرة مع الخشية من الوقوع في الزلات Q أحياناً تكون المبادرة في بعض الأعمال مما يحقق مكاسب للدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن الإنسان يخشى أحياناً أن يبادر فيقع في بعض الزلات أو الأخطاء، كأن مثلاً يُدعى إلى جهاد أو إلى عمل في منطقة ما، فيخشى إذا تأخر أن تفوته فرصة العمل لهذا الدين ونشر منهجه الصحيح، وإذا بادر فإنه أيضاً يخشى أن يقع في زلات أو أخطاء، فكيف الحل في مثل هذا؟ A الحل سهل والحمد لله، فنحن لا نعني بالمبادرة أن يتخذ قراراً اللحظة أو الآن، كما لا نعني بالأناة أن يؤجل الأمر سنة، فهو يستطيع في أيام أو في أسابيع أن يستشير وأن يفكر وأن يخطط، ثم يمشي على بينة. كثير من الشباب الذين يدفعهم الاستعجال في مواقف معينة، كإنكار منكر قد يؤدي إلى منكر أعظم منه، وفي أمور قد يظن أن فيها خيراً للدعوة وتكون شراً، فالمراد هو الاستعجال الآني: أن تكون الفكرة وليدة اللحظة. أما إذا كان هناك أمر أنت مهيأ له، ثم جاءتك فرصته، فقمت، فليس هذا من باب الاستعجال، بل هذا الذي نسميه (المبادرة). مثلاً: هناك إنسان مقبل على الله، وأنت تريد أن تهديه وأن تدعوه، ولكنك تتمهل، وتقول: حتى تأتي فرصة مناسبة! يقول أحدهم: اليوم أريد أن أعتمر، فلا تقل: دعها إلى الأسبوع الآتي ونفكر، وننظر، أو نكون مع بعض، فهذه مشكلة. لكن إذا كان القرار موجوداً والمبادرة هذا وقتها، فانطلق أنت وإياه في أقرب وقت ممكن. وشخص آخر يريد أن يتوب، وقال: أنا عندي بنك ربوي، وأفكر أن أتخلص منه، فلا تقل: انتظر حتى نعمل لك دراسة، ونعطي لك خبراً بعد شهرين! هذا لا ينبغي يصلح، بل نقول: ابدأ واستغفر الله، واعمل كذا، والآن آتيك وأتصل ببعض العلماء، لتعرف ماذا تعمل، وكيف، هذه هي المبادرة. فالمبادرة تكون في الشيء الواضح، أما الشيء الذي يحتاج إلى روية، فلا بد من الروية والتفكير والاستشارة، لكن كم مدة الاستشارة؟! أيضاً قد جعل الله لكل شيء قدراً، بالمعروف والحكمة، فتكون فترة محددة، ثم بعد ذلك يكون القرار الصائب بإذن الله.

الفرق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله

الفرق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله Q قد يختلط على الإنسان أحياناً التفريق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله، فربما يتخذ مسألة الحكمة وعدم الاستعجال سبيلاً إلى التهاون والتساهل، فهل من توضيح لهذا؟ A هذه مع الأسف حقيقةً! وأصبح ذلك ذريعة للتهاون، فإذا نصحت إنساناً، فإنه يقول: يا أخي! الدعوة تكون بالحكمة. بعض الذين يقولون هذا الكلام، لا نراه يدعو أبداً، فإذا وجد داعية يدعو، قال: لا بد من الحكمة، إلى متى الحكمة؟! وما معنى الحكمة؟! ثم هو لا يقول الحق، ولا يأمر بالحق ولا يظهره، فإذا تكلم إنسان، وقال كلمة الحق، قال: يا أخي! لا بد أن يكون بالحكمة! وهذا مما يعانيه الشباب ويعانيه الدعاة، أن هناك من يعكس الأمر. الحكمة لا يجوز أن تكون سلاحاً في وجه من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله؛ لأن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً معارضة لرغبات الناس ولشهواتهم؛ فالجنة حفت بالمكاره، وأما النار فحفت بالشهوات، فالإنسان إذا دعا إلى الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فلابد أن يصادم رغبات الناس، فالناس يريدون أن يناموا إلى ما شاءوا، لا يريدون القيام لصلاة الفجر، فإذا قلت له: يا أخي! جزاك الله خيراً، قم صلِّ الفجر، جاءك شخص، وقال: يا أخي بالحكمة، فهل قصده ألا تكلمه البتة؟! وإذا نصحت إنساناً -زوجته متبرجة- بالأسلوب الحسن، وهو عكس رغبتها؛ لأنها تريد أن تخرج، تريد أن تذهب إلى السوق، لا نتوقع أن الأسلوب ما دام حسناً وما دام حكيماً أن الزوج يقول: جزاك الله خيراً، والمرأة تتحجب! بل ربما ينكرون ويصيحون! ويأتيك أحدهم يعاتبك، وما سمع بالقصة، ويقول: يا أخي، لو دعوت بالحكمة! وأي منكر أنكرته، أو كلمة حق أظهرتها وقلتها، فإنهم يأتونك ويقولون: لو كانت بالحكمة! لكن ما هي الحكمة؟ الإنسان قد يستنفد كل أسباب الحكمة، ومع ذلك لا يُقبل، ويكون مخالفاً لرغبات الناس، فالناس دائماً تريد المدح، وتحب الثناء، قال تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران:188]. فإذا قلت له: أنت على خير، وأنت طيب، سُر من ذلك وهو يعرف أن هذا غير صحيح. لكن لو قلت: يا أخي! أنت وأنت، ومدحته، ثم قلت له: هناك أمر أريد أن أنبهك عليه، وأتيته بأسلوب كأنك تحدثه عن شخص غيره وقال: يا شيخ لو كلمته بحكمة! وهذه مشكلة! فيجب علينا نحن أن نضبط عواطفنا ونفسياتنا، ولا نترك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ولا كلمة الحق، وأي شيء نرى فعلاً أنه بحكمة، نجتهد في ذلك، ونتوكل على الله، وعليه التكلان دائماً قبل العمل وبعده، فنتوكل عليه ونجتهد في الحكمة. فإذا جاء إنسان وقال: هذا خلاف الحكمة. نقول له: بَصِّرْنا كيف نعمل! فإن كان عنده بصيرة، أو رأي جزاه الله خيراً، وإن كان كما نلاحظ هذه الأيام، يريدون ألا نقول ولا نعمل ولا ندعو؛ باسم الحكمة! فهذه ليست حكمة، بل هذا خذلان وتثبيط، وترك لما أوجب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يجوز أن نقر الناس على هذا. حقاً إن الحكمة أصبحت سلاحاً يشهر به في وجه من يدعو إلى الله، ويقول كلمة الحق، وإن كانت بأحكم ما يمكن أن تكون من الحكمة، والله المستعان! والنفوس لا تقبل الحق، وهكذا جبلت، وهكذا طبعت، لكن لا بد من الصبر عليها، ولله عاقبة الأمور.

الاستعجال في تطبيق الفتوى مما يسبب الإرباك

الاستعجال في تطبيق الفتوى مما يسبب الإرباك Q بعض الإخوة يقرأ فتوى أو حديثاً، فيتعجل ويعمل بها، وربما يلزم الناس بها، مما يسبب إرباكاً له ولغيره، فما نصيحتكم لمثل هذا؟ A نعم هذا من الاستعجال، أن الإنسان يقرأ شيئاً من العلم أو من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من كتاب الله، أو من كلام أهل العلم، فيستعجل في فهمه، ويستعجل أيضاً في تطبيقه وفي العمل به، فلا يتأنى ليتبين له ما معناه، وما ملحظه. النصوص قد تعب فيها العلماء الجهابذة الكبار، في تخريجها، وفي بيان ألفاظها ومعانيها، وفي تنزيلها على مواقعها. العلماء يقولون: لا بد من تحقيق المناط، ومن تنقيح المناط، ومن تخريج المناط، في أي نص من النصوص، لكننا الآن نقرأ النص رأساً، ولا شك أن من الخير والفضل أن يبادر الإنسان بالعمل، لكن لا بد أن تفهمه وتفهم موضعه، وأين دلالته، وما مقتضى دلالته، فكونك تستعجل وتنفذ فوراً، هو لا شك مطلوب، لكن بعد أن تفهم ما المقصود منه، وماذا يراد به، ولهذا يقول تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. علينا أن نسأل وأن نتبين ما المقصود بهذه الآية وهذا الحديث وهذا النص، فيما يشكل علينا معناه؟ وليس هذا في أمور عباداتنا بالذات، فالأمور واضحة ومدروسة، ولكن أقول أيضاً: إن هناك أموراً خاصة في الوقائع والنوازل لا بد أن نتأنى فيها، وأن نسأل العلماء، وأن نأخذ كلامهم، وأن نستفهم ماذا أردت بهذا الدليل؟ ماذا أردت بهذه العبارة؟ ثم بعد ذلك يكون عملنا على بصيرة، والإنسان لا بأس أن يسأل عالماً أو عالمين، ويسأل من يطمئن إلى من يتحقق فيه أمران، وهما: معرفة الدليل الشرعي من جهة، ومعرفة الواقع المسئول عنه من جهة أخرى. فإذا سألتُ إنساناً عن طبيعة عملي، -فمثلاً- أنا أعمل في بنك، فعليّ أن اسأل يعرف طبيعة البنوك، بالإضافة إلى أنه يعرف أحكام الربا، فلا بد من الشرط الثاني، كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ، عندما سئل عن قتال التتار، قال: إن الأمر يتعلق بأمرين: الأول: معرفة حالهم، والآخر: معرفة حكم الله في مثلهم، فننزل الحكم على محله، فيكون الحكم صحيحاً.

حال من يشكو من صراع نفسي

حال من يشكو من صراع نفسي Q يقول السائل: إن هناك صراعاً نفسياً يصاحبه -وعبَّر أنه يصاحب كل ملتزم بهذا الدين- فهل هذا الصراع من الابتلاء الذي ابتلاه الله عز وجل به؟ ويقول: إنه ساءت نفسيته بشكل شديد جداً، حتى أصبح يطلب النصر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لشدة ما يعانيه هذا المبتلى، فبماذا تنصحون هذا الأخ؟ A ليس كل تائب، وكل مقبل، وكل منيب إلى الله، يعاني من ذلك، ولكن عموماً كل من دعا إلى الله أو أقبل على الله وتاب، لا بد أن يجد ما يشق على النفس، أو ما يجهدها، من داخل النفس أو خارجها، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، وللنفس دائماً ثلاث حالات لا تخلو عنها: إما النفس الأمارة بالسوء، أو النفس اللوامة، أو النفس المطمئنة، فالأمارة بالسوء -وهذه عند أكثر الناس إلا من رحم الله- دائماً أنفسهم تأمرهم بالسوء. والمؤمن نفسه لوامة، تأمره بالسوء أول الأمر فيفعله، ثم تلومه عليه: لماذا ذهبت إلى السوق من غير غرض شرعي؟ لماذا نظرت النظرة المحرمة؟ لماذا قلت الكلمة الآثمة؟ فتلومه -كما فسرها السلف - على ما فرط وما بدر منه. الثالثة هي: النفس المطمئنة وهذه هي الدرجة العالية. والنفوس المطمئنة: هي التي يصبح الخير والحق هو همها، وهو ديدنها وهو حياتها، وهذه من نعم الله إذا منَّ الله تعالى على الإنسان، بأن تصبح نفسه مطمئنة. فالأخ المهتدي والمستقيم في مرحلة النفس اللوامة، يجد ربما ما يسميه بعض الإخوة الصراع النفسي، وأنه متردد، تأتيه دوافع للقنوط، ودوافع للرجاء والأمل، الخوف والرجاء دائماً يتصارعان في نفسه. ويأتيه حب الخير والإقدام عليه من جهة، ومثبطات ومخذلات من جهة تكبله. يريد أن يحفظ القرآن وأن يتعلم العلم، ولكن يأتيه ما يعيقه. فتجده يعاني ما يعاني من الصراع. فالأب والأم والأهل والزوجة، والأقارب والزملاء في العمل يريدهم أن يهتدوا، هذا من جهة، ومن جهة قد لا يمتلك أسباباً تعينه في الدعوة، فيعاني هذا الصراع. وكل إنسان يعانيه، لكن علينا أن نأخذ بالأسباب وبما أمر الله ونجتهد، ونصبر حتى نستكمل ما أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن لم يصل الإنسان إلى مرحلة النفس المطمئنة، فعلى الأقل يلقى الله، وهو يجاهد نفسه لكي تكون مطمئنة. وما ذكره الأخ من الضراعة في الدعاء لطلب النصر، هذه نعمة، فشعورك بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابتلاك بهذه البلوى، وتضرُّعك ولجوءك إليه نعمة، كما قال ابن القيم رحمه الله: 'إن الإنسان يلجأ إلى الله ويتضرع إليه، فيجد من حلاوة مناجاة الله ومن لذة الدعاء، والتذلل، والتضرع إلى الله، والانكسار بين يديه، نعمة تنسيه النقمة التي يدعو الله أن تزول عنه، أو تنسيه النعمة التي يطلبها من المنعم'. التضرع والدعاء نعمة، والذكر نعمة، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'إنه ليأتي عليَّ أحوال، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم' ويشعر الإنسان أنه مع الله، وأن عمله مع الله، وأنه مستمسك بحبل الله وبالعروة الوثقى من عند الله، ويصل إليها الإنسان المؤمن بإذن الله بمثل هذه الحالات، بمرض، وبمحن، وبالآلام. وكل رسول، وكل داعية يبتلى ويمتحن ويفتن ويُؤْذى، فيجد مثل هذه النعمة في طريقه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

حال الشباب المذبذبين

حال الشباب المذبذبين Q بعض الشباب هداهم الله تتذبذب آراؤهم في كل حين، فتراه في الليل له رأي، وفي النهار له رأي، وينتقلون أحياناً من النقيض إلى النقيض الآخر، فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب؟ A هذه علامة من علامات الاستعجال: عدم الانضباط، التذبذب، وهو مرض في بعض الناس حتى إنه في قراراته الشخصية اليومية يتعب، وبعض الناس يمهد لنفسه أن يصاب بهذا المرض، وذلك لأنه لا يحسن الأمر، ولا يأخذه من أبوابه، بل عجلته في اتخاذ قرار معين هي التي تجعله يندم، ثم تجعله يستعجل في القرار المضاد، ثم يستعجل بضده وهكذا. من أعظم صفات المؤمنين الاطمئنان والسكينة، ولذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما امتن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل عليه سورة الفتح قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4]. وقد كانت النفوس جياشة، كيف يكون هذا الصلح؟! أنرضى بالدنية في ديننا؟! وكانت القلوب تغلي من الحدث، فلما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السكينة في قلوبهم، واطمأنوا وتأملوا، وأيقنوا أن ما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخير، وأن ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الخير. ثم ثبت ذلك في العام الذي بعده، فما بعده، وإذا به فعلاً يكون الخير ويكون الفتح المبين كما قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]، فهذا فضل عظيم، وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جداً لما نزلت عليه هذه السورة. الطمأنينة والسكينة من صفات النفوس المؤمنة، ويجب أن نسعى إلى أن تكون نفوسنا إن شاء الله كذلك، فنطمئن دائماً بذكر الله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. تطمئن أيضاً القلوب وتسكن بالتفكر في وعد الله، وفي أنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن أملى وإن أمهل فإنه لا يهمل أبداً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يخلف وعده، وأن نصره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متحقق، وأن عافيته ستأتي وإن كنا في حال البلاء، وأن نصره سيأتي وإن كنا في حال الهزيمة، وأن عزه سيأتي وإن كنا في حالة ضعف، وهذا مما يطمئن الإنسان به نفسه، ويجتهد في ذلك حتى يأتي الفرج بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أما أن تكون صفة الشباب هي التذبذب، فهذا دليل على أنه ليس لديه ثبات علمي، ولا ثبات في الرأي، ولا استشارة ممن يملكون الرأي، وأحياناً قد يشار عليه ولكنه لا يفعل، ولا يريد أن يفعل، فينقلب ويتخبط، وهذه آفة نسأل الله تبارك وتعالى أن يرفعها عن الشباب وأن يبعدها عنهم.

الكلام حول التنظيم الأصولي والإرهاب

الكلام حول التنظيم الأصولي والإرهاب Q في جريدة الحياة كتب أحدهم موضوعاً عن فشل التنظيم الأصولي -كما يسميه- ثم بعد أن تكلم عن هذا قال: إنه سيتكلم في عدد لاحق عن كيفية مواجهة الإرهاب، يقول السائل: من المقصودون بهذا؟ A الأصوليون أنتم وأنتم المقصودون، كان الغرب يتكلم عن الأصولية الإيرانية كما تسمى أيام الخميني، ثم عرفها وعرف حقيقتها، وعرف ما قدمت له من رصيد لمحاربة الإسلام من أفعالها ومن تصرفاتها. والآن إذاعة لندن تسمعونها قبل أحداث الخليج ومن سنوات تتكلم بذلك، وكذلك مونتكارلو، وصوت أمريكا. الكلمة البديلة، والتي يخشون من ظلالها، والأصولية الحقيقية التي يخافونها هي ما يسمونها بـ الوهابية. يقولون: الجهاد الإسلامي في أفغانستان نوعان، التنظيمات الوهابية، وهذه التي لا تقبل مساومة. وأما التنظيمات الأخرى فهي التنظيمات المعتدلة، بمعنى أنها تقبل الحكم الديمقراطي والنيابي، وهذا هو المعتدل عندهم. الأصولي: من يرجع إلى الأصول، أي: إلى قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم لا يريدون إلا المعتدل في نظرهم، والوسط على مزاجهم، أما الذي يريد الحق كما أمر الله، وكما أنزل الله، فلتأته التهم، ومنها أنه أصولي، ويربطون بين الإرهاب والأصولية. باول شميدس في كتابه الإسلام قوة الغد العالمية، يقول عبارة خطيرة جداً لكنها حقيقة، يقول: 'إنه قد تبين من التاريخ أو من استقرائه أنه أينما وجدت الحركة الوهابية، فإنه يوجد معها مقاومة الغرب ومقاومة الاستعمار'. لأن منهجهم قال الله، قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج الغرب وحضارة الغرب وإلحاده وكفره شيء آخر، فلا يجتمعان، وقد وجدوها هم في جزيرة العرب وهي منبع ومهبط الدعوة. في الهند عندما كان عباد الأبقار قد استسلموا للإنجليز حتى كان الإنجليزي -خاصة من أهل اسكتلندا - من شحه لا يركب قطاراً ولا يركب حماراً بل يركب على ظهر الهندي، ويمشي به مسافة بعيدة. وأما المسلمون فكثير منهم من تخاذل وركن إلى الدنيا، ومن جاهد وقاوم الاستعمار الإنجليزي وجدوا أنه متأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أو على منهجه. وجدوهم في نيجيريا: عثمان بن فودي ومن معه. وجدوهم في الصومال وجاهدوهم. حتى مهدي السودان أصل دعوته كانت على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من التوحيد وهدم القبور، ثم دخله الفساد -والعياذ بالله-، لكن أول دعوته كانت محاربة الشرك والبدع. وكذلك عمر المختار في ليبيا. والأصولية الوهابية التي ترجع إلى الكتاب والسنة، أو الحنبلية كما تسمى أحياناً، وهي ألقاب ينبزون بها من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الأحداث الأخيرة غطت على ما حدث في الجزائر، بغض النظر عن رأينا الكلي فيها حدث. وهناك عبرة معينة أريد أن أسلط الضوء عليها الآن: لقد انزعجت الصحافة الفرنسية وانزعج الغرب انزعجوا جداً من انتشار الأصولية في الجزائر؛ لأنهم عرفوا دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وأنه أقام الدعوة على أساس التوحيد، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما جاء بها، وكتب عن الشرك والبدع والخرافات. وكان من منهج الشيخ عبد الحميد أن أول ما يبدأ به هو محاربة البدع والخرافات عند الشعب، حتى ينتشر العلم الشرعي، ثم الولاء والبراء، ثم الجهاد، وهي مرحلية لم يفطن لها الاستعمار، ولهذا تركوه أول الأمر يدعو، وتركوه يفتح الصحف، وما فطنوا إلى أنه لا يرضى بالوجود الفرنسي. لكنه -رحمه الله- يريد أن يبدأ بالأساسيات، مرحلة الدعوة أولاً. نقول: تحليلات خطيرة جداً غطت عليها الأحداث الأخيرة، وكانت دائماً ترددالأصولية في الجزائر، الأصولية هنا، والحادث الذي جرى في جزر ترينداد، ربطوه بالأصولية وبـ الجزائر، وقالوا: الأصولية خطر يهدد العالم، لكن جاءت أحداث أخيرة وطغت على ذلك، والله المستعان!

المستعجلون من الشباب في طلب العلم

المستعجلون من الشباب في طلب العلم Q بعض الشباب يستعجل في الوصول إلى أعلى درجات العلم والعلماء، حتى إنهم يقولون على الله بغير علم، ويفتون بغير علم، وبعضهم يقرأ كتباً أعلى من مستواه، ومن مستوى إدراكه، فما نصيحتكم لهؤلاء؟ A هذا من أنواع الاستعجال: الاستعجال في طلب العلم، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما فسر الربانيين {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] قال: [[ومن يربي الناس بصغار العلم قبل كباره]]. ولا يعني بالصغر والكبر أن الصغيرة النوافل والكبيرة التوحيد. إنما يعني بالصغار: البديهيات والمسلمَّات الواضحة، والكبار: هي الأمور المعقدة والصعبة، ودائماً أقول للإخوة الكرام: ابدءوا العلوم بدراسة متون معينة، مبسطة، ثم خذ شرحاً مبسطاً عليها، ثم توسع فيما بعد ذلك وهكذا. لكن عندما يأتي بعض الإخوان يريد أن يبدأ في طلب العلم، فيبدأ في الكتب الكبيرة، فبعضهم قال: بدأنا بـ فتح الباري، والأخ الثاني يقول: بدأنا بـ مجموع الفتاوى. سبحان الله! إنني عندما أقرأ في فتح الباري، أجد أنني أحتاج في صفحة واحدة إلى أن أراجع عدة كتب، وأن أنقب، وأن أفتش، وأن أكلم المشايخ بالتلفون، فالمسألة ليست سهلة، ويمكن أن يكون هناك من فتح الله عليه، لكن أنا أقول فيما نرى وما نعلم من تكويننا وتربيتنا جميعاً؛ لأن دراستنا دراسة نظامية، وهي لا تعطينا الزاد الكافي لمثل هذه الأمور. كذلك مجموع الفتاوى لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، بعض الكلمات مع الأسف مطبوعة خطأ، ويأتي من يشرحها، وقد تمرس على كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فيشرحها خطأ. وأحياناً تكون غير مشروحة في الهامش، أو غير واضحة، أو واضحة، لكن لم يفهمها؛ لأنه رجل عميق، يكتب في بحور من العلم عميقة وغزيرة، يحتاج كلامه إلى أن يفهم على مستوى معين، فلا نستعجل فنطمر الأمور طمراً. إذا بدأنا بـ فتح الباري، ومجموع الفتاوى ننتهي بـ عمدة الفقه، أو بـ الأربعين النووية بدأنا السنة من أعلاها، ولم نأخذ الأمور من أولها. بعض الإخوة يبدأ بالقراءات، ولا أعترض على من لديه دراسة منهجية يمكن أن يحفظ القرآن بالقراءات، لكن بالنسبة للحالات العادية، وهي من كان مثل حالة معظم الإخوة، الذين يعيشون طبيعة دراسية نظامية مع عمل وأسرة، فهذا أقول له: ابدأ بما أمكن أن تبدأ به وأتقنه، ثم انتقل إلى ما بعده. والسلف الصالح رضي الله عنهم ضربوا لنا المثل في عدم العجلة فقد كانوا يطلبون العلم ويرحلون في طلبه، ثم يحدثون، لا تجد أحداً من العلماء ابتدأ يحدث، بل تعلم وحفظ وطلب العلم، ثم حدث.

السيرة النبوية ومراحل الدعوة

السيرة النبوية ومراحل الدعوة Q لا شك أن قراءة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودراستها مما يقي الإنسان من الوقوع في العجلة وفي الاستعجال، ولكن هل يلزم الداعية إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يدعو سنين دعوة سرية كما فعل عليه الصلاة والسلام، ثم ينتقل إلى الأقربين وهكذا، أي ثلاث عشرة سنة مثلاً بحال معين، وأخرى بحال أخرى، أم أن الاستفادة تكون عامة؟ A لا شك أن دراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرورية، وهي الأساس الذي يجب على كل داعية أن يتخذه منهجاً في دعوته، فهو الأسوة الحسنة لنا، لكن فرق بين التقيد الحرفي بوقت الدعوة، بمددها ومراحلها، كما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين أن ننظر إلى ثمرة المرحلة، ونهاية المرحلة، وغاية المرحلة، فالوضع غير الوضع. فقد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوم كفار، كما هو معلوم، ولكن نحن الآن في أمة مسلمة، ولكنها تحتاج إلى تصحيح، هذا أحد الفوارق وأهمها، وهناك فوارق أخرى. فننظر إلى الثمرة، فما هي ثمرة المرحلة الأولى؟ وما غايتها؟ غاية المرحلة الأولى السرية هي إيجاد أناس إذا ظهروا فيما بعد يكون لديهم قوة، لا يستطيع الأعداء أن يستأصلوهم، وإن كانوا سيؤذون، وقد أوذوا، فإذا وجدت الدعوة في بيئة لا تحتاج إلى هذه المرحلة؛ لأن الفئة المؤمنة يمكن أن تظهر أو هي ظاهرة، بمعنى أنها واضحة، ومع ذلك لم تستأصل، فهذا خير. إذاً: لا نحتاج إلى المرحلة الأولى لأن ثمرتها موجودة والهدف منها موجود. مرحلة الجهاد: نقول أيضاً: لو وجدت أمة تعيش في مرحلة يمكن أن ننقلها رأساً إلى مرحلة الجهاد، نقول: على هذه الأمة أن تجاهد، وننقلها إلى الجهاد، ونستكمل بعض أمور التربية في الجهاد، وهذا صحيح. لكن إذا وجد أن الأمة تحتاج أولاً إلى الدعوة والعلم والإعداد للجهاد، والجهاد لا نقصد به جهاداً معيناً في بلد معين، بل الجهاد باعتباره حالة دائمة، فالأمة الإسلامية في جميع عصورها في حالة استنفار دائم، ويجب أن تكون مناهجها مناهج جهادية، وحياتها حياة جهادية، فجهاد الطلب عندنا هو الأساس. ومفروض أننا نصلح أوضاع الأمة هذه، ثم نقوم بجهاد الطلب، ونقاتل. وجهاد الطلب غير جهاد الدفع، فجهاد الطلب: أن نذهب إلى الصين، إلى الروم، نغزوهم في بلادهم، لندخلهم في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا يجب أن تكون حياة المسلمين جميعاً، فنعد العدة لهذا الجهاد. نعد الأمة في مرحلة الدعوة لهذه المرحلة التي هي آخر المراحل وهي مرحلة الجهاد، فيبسط الله سلطان هذا الدين في الأرض، ويُمكّن له، ويورث الأرض عباده الصالحين كما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويمكّن لهم، ويورثهم الأرض بهذا الأمر. إذاً: يكون الأمر بحسب البيئات وبحسب أحوال الناس، وبحسب المقصود بتلك المرحلة، أما التقيد الحرفي فليس صحيحاً كما يظن بعض الإخوة. بعض الجماعات أو الدعوات فهمت تكفير المجتمع بناء على المرحلة المكية، وأسقطت كثيراً من التكاليف، وقالوا: نحن في المرحلة المكية، وهذا من أكبر الأخطاء الدعوية. ومن جملة ما فيه من أخطاء: أنه نسخ أحكاماً ثابتة قطعية، بدعوى أو بزعم الرجوع إلى مرحلة قد نسخت وانتهت. فلا بد من إدراك متأنٍ ومتفقه، في مسألة الفرق بين هذه المراحل، وبين ضرورة الإفادة من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك أنها الأساس، والصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- كانوا ينظرون إلى واقع الأمة، فيبنون على الواقع الموجود، فعندما وصلت الأمة إلى مرحلة الصفر، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما بدأ دعوته من مرحلة الصفر، ومثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، حيث جاء والأمة قد نزلت إلى الصفر إلى الشرك، فما بعد الشرك شيء، وابتدأ يدعو كما دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التوحيد، وابتدأ قليلاً قليلاً ثم قامت من جديد ولله الحمد! لكن في عهد الإمام أحمد كان الانحراف في مسائل معينة كلامية مثل خلق القرآن وما أشبهه، فقاومها، وقضى عليها، والحمد لله! الأمة صالحة وهكذا، فالمرحلية يجب أن تفهم فهماً صحيحاً. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

قيمة العمر

قيمة العمر تحدث الشيخ حفظه الله عن موضوع مهم قد غفل عنه الكثير منا ألا وهو قيمة عمر الإنسان، وما الذي يجب أن يمثله هذا العمر بالنسبة للمسلم، وضرب أمثلة لذلك من واقع السلف وحرصهم على أعمارهم، كما أورد نقيض ذلك من الأمثلة التي تصور تفريطنا في أعمارنا رغم أنها أغلى ما نملك، ثم ختم حديثه بالحث على استغلال الأعمار في طاعة الله.

خلفة لمن أراد أن يذكر

خلفة لمن أراد أن يذكر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الحمد لله الذي هدانا للإيمان، أما بعد: فإن الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه موضوع عظيم -وإن كان ليس جديداً- ولكن يجب أن نذكره، ألا نغفل نغفل عنه، فإن الله تبارك وتعالى خلقنا في هذه الحياة الدنيا لحكمة عظيمة وغاية جليلة، وجعل الليل والنهار وهذه الأعمار مطايا وأوعية لهذه الغاية وتلك هي الحكمة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]. إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا هملاً، وإنما جعل لنا هذا الدين، وبعث إلينا هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنزل إلينا الكتاب، وعمَّرنا ما يتذكر فيه من تذكر، ولهذا يقول تبارك وتعالى لأهل النار: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] فقد عمر الله تعالى هؤلاء القوم ما يتذكر فيه من تذكر وأعطاهم من العمر مهلة وفسحة تكفي بأن يعتبر من يعتبر، وأن يتفكر من يتفكر، وأن يتذكر من يتذكر، وأن يتأمل كل أحد، لماذا جئت؟ ومتى سأرحل؟ وبأي وجه ألاقي الله تبارك وتعالى؟ فمن آياته عز وجل أنه {َهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فجعل الليل والنهار خلفة أي متواليين يخلف أحدهما الآخر {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً اً} [الفرقان:62] فمن أراد أن يتذكر أو يعتبر فلينظر إلى هاتين الآيتين العجيبتين الليل والنهار، فلو أن الله تبارك وتعالى جعل النهار علينا سرمداً إلى يوم القيامة، أو جعل الليل كذلك وكانت الحياة لا تتغير ولا تتبدل لغفلة كثير من الخلق عما يعد لهم، وكان ذلك أدعى أن ينسوا الموت ولا يتفكروا في النهاية والعاقبة، فيظلون يعملون ويكدحون حتى يأتيهم الأجل، لكن من حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل هذين يتداولان ويخلف أحدهما الآخر. فأنت في نهار يعقبه ليل، وفي ليل يعقبه نهار، فتعلم أن انقضاء النهار ومجيء الليل هو انقضاء لعمرك وانقضاء لجزء منك، كما قال الحسن البصري رحمه الله: [[إنما أنت هذه الأيام فإذا مضى منك يوم فقد مضى بعضك]] وذلك إلى أين؟ إلى الدار الآخرة كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [[ألا وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ولت مدبرة، وإن لكلٍ منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا ومن أبناء الدنيا]] فكل يوم يقربك ويدنيك من القبر ومن الآخرة، ويبعدك عن الدنيا ومتاعها وعن لحظة الميلاد، والعمر إنما هو بين الميلاد إلى الوفاة.

حقيقة العمر

حقيقة العمر ولو تأمل العاقل وفكر لوجد عجباً مما يغري الناس ويلهيهم ويطول أملهم، يجد أن ما مضى من العمر أحلام، وما بقي منه أمانٍ كما قال بعض السلف: ما مضى أحلام، كالنائم إذا نام ورأى في المنام ما يعذبه ويؤذيه، ثم أفاق وقد ذهب ذلك الألم، أو رأى في نومه ما يسره ويفرحه ويبهجه، ثم أفاق وقد ذهبت تلك البهجة وتلك الفرحة. فانظروا بارك الله فيكم فيما مضى من أعماركم أهو حلم قد انتهى؟ ما كان فيه من راحة أو متعة أو فرحة أو لذة أو بهجة -فالعمر هو كما ما ترى في المنام- وما كان غير ذلك وخاصة إذا كان من معصية الله تبارك وتعالى فقد وقع، كما قال أحد التائبين رضي الله تعالى عنهم قال: {{ذهبت اللذات وبقيت التبعات}} وأما ما بقي من عمرك فهو آمال، ولا تدري هل تتحقق أم لا تتحقق، فلهذا يقول الله تعالى في حق الكفار: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، وكما في الآيات العظيمة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]. هذا المستقبل آمال قد تموت الليلة أو غداً أو بعد غد، وقد لا تدرك مما تؤمل شيئاً، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وهذا حال المؤمن، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه لما روى الحديث قال: {إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء} وهو يفسر كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناه، هذه حقيقة المؤمن أنه في الدنيا كالغريب أو عابر السبيل الذي لا ينوي الاستقرار، وإنما يتأهب ويتهيأ ويستعد للرحيل، فما لديه من ساعات أو أيام في سفره فهي استعداد وتهيئة لكي يصل المقر الذي يكون فيه. ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: {مالي وللدنيا! ما أنا فيها إلا كراكب قال تحت شجرة ثم قام وتركها} أي: أنه ارتاح وقت القيلولة تحت شجرة ثم قام وتركها، هذا هو حال الدنيا، والعمر هو فترة القيلولة هذه، تبقى ثم ترتحل وتترك هذه الشجرة، فما حال الذي يعلم أنه إنما يعيش مثل هذه القيلولة؟ هل رأيتم مسافراً ذهب إلى صحراء في وسط الطريق بين البلد الذي خرج منه، والبلد الذي يريد الوصول إليه فأقام هناك، ووسع الفراش ووطَّأه، وأتى بكل أدوات الاستقرار، وأقام هناك وقال: هذا مكاني؟! لا يفعل ذلك عاقل أبداً، لأنك راحل، وليست هذه دار مقام. ولهذا ذكَّر الله تبارك تعالى، وذكَّر الرسل الكرام، وذكَّر عباد الله الصالحون بهذه الحقيقة قال تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، قليل: زينة وتفاخر وتكاثر، ولكن تذهب كما يمضي الليل أو كما يمضي النهار، ويقول بعض السلف في هذا: [عجبت لمن كان يومه يأكل شهره، وشهره يأكل سنته، وسنته تأكل عمره وهو في غفلة] اليوم الذي يمر ينقص من الشهر يوماً، والشهر الذي يمر ينقص من السنة شهراً، وكلما مرت عليك سنة فقد قلَّ من عمرك. فقال العلماء في قول الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] بعضهم قال: إنه أربعون سنة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: {إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] فالأربعين كافية بأن يتذكر الإنسان، وقال بعضهم: لا. بل نستند إلى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة} فبعدها يتوقع الموت أو القبر. لو فرض أن عاقلاً يريد أن يسافر إلى مكان أو أنه مشى في طريق طوله ستون ميلاً، فوصل إلى لوحة مكتوب عليها الباقي ثلاثون ميلاً فإنه سيقول في نفسه: لقد اقتربت لأنني الآن في النصف، وكل شيء مضى منه نصفه فهو قريب الانتهاء، وإذا كنت مسافراً إلى المدينة -مثلاً- والمسافة هي حوالي 400كم من مكة أو جدة فوجدت لوحة أمامك 200 كم تقول: الحمد لله، اقتربنا من المدينة وهكذا حياتنا. وهكذا في كل شيء من حياتنا إلا في الموت والعمر، لهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت]] الموت هو الشيء الوحيد الذي نخل فيه بهذه القاعدة -قاعدة رياضية بسيطة سهلة نستخدمها في حياتنا كلها- إلا في العمر والموت، فلا تجد ابن الثلاثين منا يقول: أنا عمري ثلاثين إذن أنا اقتربت من الموت، وكل من رآه قال: تبارك الله! ما زلت في عز الشباب وبدايته، مع أن كثيراً من الناس لا يبلغون الستين، ولهذا قال بعض الحكماء: ' أكثر الناس يموتون وهم شباب' وإذا أردت أن تتأمل ذلك فلاحظ أن أكثر الناس يموتون وهم شباب أي لا يبلغون إلى الستين، بل يموتون بعد الأربعين أو ما حولها، وانظر إلى قلة الشيوخ في القرية أو في الحي، وهذا دليل على أن أكثرهم ماتوا وهم شباب.

الإنسان بين الغبن والنذير

الإنسان بين الغبن والنذير فإذا كان هذا الحال فتأمل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} ولهذا قال بعض السلف (إن المغبون من غبن الليل والنهار) ليس المغبون هو الذي اشترك في بضاعة فذهبت أو أكثرها، أو اجتهد لينجح في دراسة ففشل، فأكبر مغبون في هذه الدنيا هو المغبون في عمره، فيذهب الليل في المرح والسهر والنوم، ويذهب النهار في اللهو واللعب وفي أعمال لا تنفعه، فغبن عمره، وفي النهاية يجد نفسه نادماً حاسراً يتمنى الرجعة قال تعالى عنهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]. فيقول: كلا. فقد عَمَّرك الله ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءك النذير، والأولى بتفسير الآية أن أي وقت أمكن لأحد فيه أن يلقى الله ويتذكر الآخرة فقد عمَّره الله، وأبلغه الله ما يتذكر فيه من تذكر. أما النذير فقد قال بعض العلماء: (النذير هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولا شك أنه نذير وبشير ومنذر كما جاء في الذكر الحكيم، لكن بالنسبة لكل واحد منا فقد جاءه نذير أكثر من ذلك، النذير: اسم لكل ما ينذرك بدنو أجلك وقرب ارتحالك، فالنذير هو القرآن وهذا حق، والنذير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جاءنا وعلمنا وهذا حق، والنذير هو: الشيب كما فسر ذلك أيضاً بعض السلف، فالشيب إذا ظهر فهو نذير، وإن لم تره فيك ورأيته في غيرك فاعلم أن غيرك أيضاً سيرحل، والنذير أيضاً: الموت، إذا رأيت الموت قد حل بمن تعرف، فاعلم أنه إن أخطأك اليوم وتعداك إلى غيرك فإنه نازل وواقع بك غداً، إذاً جاءك النذير مما تراه في مخلوقات الله تعالى. جاءك النذير من أحوال الغابرين من أهل الحضارات القديمة، أين الذين أخبر الله تعالى عنهم ممن بنوا وشادوا، أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها من كان قبلهم وقال الله تبارك وتعالى عنهم: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45] أين هم؟ أين الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130] أين عاد؟ أين ثمود؟ أين قوم نوح؟ أين فرعون ذو الأوتاد؟ أين وأين كل هؤلاء قد ذهبوا، إذاً جاءكم النذير. مَن مِنا يستطيع أن يقول: ما جاءني نذير، أو ما علمت وأتاني الموت فجأة، أو أتاني أمر الله غفلة، لا أحد له عذر.

الغافل من فرط في عمره

الغافل من فرط في عمره يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا أحد أحب إليه العذر من الله} ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأقام الحجة على الخلق فلله الحجة البالغة على الخلق جميعاً، وإنما هي الغفلة وإنما هي الغباوة، كما جاء في الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وكل شيء يذكر الله تبارك وتعالى} فالسماوات والأرض والجبال والطير والأنهار، وكل ما في الوجود يذكر الله وأعظمهم ذكراً الملائكة، وما استثنى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا طائفتين لا تذكران الله تبارك وتعالى قال: {إلا المردة من الشياطين والأغبياء من بني آدم} فالمردة هم شياطين الجن، وهم شر محض لا إيمان ولا خير فيهم، وهؤلاء لا يذكرون الله تبارك وتعالى. وكل يوم تطلع فيه الشمس عليك صدقة -كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل يوم محسوب عليك، وأقرب مثال نراه نحن -الآن- في حياتنا هو هذا التقويم الذي يعلق في البيوت وفي المساجد، إذا أخذت كل يوم منه ورقة تفاجأ وإذا به قد انتهى وهكذا العمر كل يوم تأخذ منه ورقة، وإذا بالعمر فجأة ينتهي، فهذا فيه عبرة لمن اعتبر. ومن العجب أن بني آدم أحرص شيء على هذه الدنيا، ولو تفكر ابن آدم لوجد أنه من أقل مخلوقات الله عمراً، سبحان الله! فبعض الطيور يعيش 300 سنة أو 400 سنة، والأشجار تجد الشجرة عند البيت من عهد جدك ومن قبله ولا تزال موجودة، ويموت الابن وابن الابن والشجرة موجودة، أما الجبال والبحار فهي أكثر بكثير، ولكن الإنسان يظن أنه الوحيد المخلد الذي يمتلك هذه الدنيا، ولذلك لو تأمل العقلاء ما اختلفوا وما اقتتلوا، وما بغى بعضهم على بعض من أجل قطعة أرض، أو من أجل بئر، هذه الدنيا طوت قبلنا أمماً عظيمة وقروناً طويلة، وسوف نطوينا بعد كذلك.

الغفلة عن الآخرة

الغفلة عن الآخرة إن كل ما نرى في هذه الحياة الدنيا مما يتقاتل عليه الناس، ويبغي بعضهم على بعض بسببه، وما يشغلهم عن ذكر الله من أراضٍ أو دور أو عقار ما هو إلا عارية عندهم ينتقل من بعضهم إلى بعض، وكلما انتقل إلى شخص قال: هذا بيتي هذه أرضي هذا ملكي، ولو تأمل في حاله فسيرى أنه ما وجد إلا أياماً قليلة بالنسبة لعمر هذه القصور التي كانت قبل ثلاثين أو أربعين سنة تعد أفخم وأعظم وأفخر القصور، والتي لو تهدى إلى بعض الناس اليوم هدية والله ما يقبلها، وإنما يقال: انتبه لا تذهب إليه هذا خرابة، وفيه جن -مثلاً- أو كذا -سبحان الله! - أليس هذا من الدلائل الواضحات؛ على أن هذه الدنيا لا تستحق أن نتنافس من أجلها، ولا أن نتدابر أو نتقاطع أو نتهاجر ونتحاسد من أجلها. وإنما الواجب أن نعمر أوقاتنا ونستغل حياتنا في ذكر الله، وفي عبادته، وفي طاعته، وفي العمل بما يرضيه، ولا يعني ذلك أن نتركها، وألا نقتني البيت الحسن، أو المرأة الصالحة، أو المركب المهيأ، ما قال أحد بذلك لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن المشكلة هي الغفلة عن الآخرة بالكلية وأن نتعلق بهذه الدنيا، ورحم الله من قال: والله لو كانت الدنيا بأجمعها تُبقي علينا ويأتي رزقها رغدا ما كان من حق حرٍ أن يذل لها فكيف وهي متاع يضمحل غدا يقول: لو كانت الدنيا هذه باقية، وأننا مخلدون فيها ومتاعها يأتينا رغداً، ونحن إن شئنا بقينا فيها، وإن شئنا قلنا يا رب نعمل صالحاً وتنقلنا إلى الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفكروا في هذه المعادلة لو قيل لك كذلك: أنت مخير بين هذه الدنيا فتدوم دواماً أبدياً لا نهاية له ولا موت فيه، ونعيمها دائم وهو نعيم دنيوي، أو أن تعمل فيها وتجتهد لطاعة الله وتقول: يا رب انقلني إلى الجنة التي فيها هذا النعيم الذي ليس في الدنيا منه إلا الأسماء، ماذا يختار العاقل؟ العاقل يقول: لا أختار الدنيا على الآخرة، فهو متاع قليل زهيد لا يساوي شيئاً، بل أختار أن أجتهد، وأن أعبد الله وأقول: يا رب اجعلني من أهل الآخرة، وانقلني إليها حتى أنال هذا النعيم، فهذا لو كانت الدنيا دائمة، ونعيمها يأتي رغداً، فكيف وهي مضمحلة زائلة، وتخرج منها مضطراً من غير خيار؟!

نماذج للقدوة في شغل العمر بالطاعة

نماذج للقدوة في شغل العمر بالطاعة قال بعض السلف عندما زاره أخٌ له في الله فرأى بيته، ورثة حاله، وقلة متاعه، فقال له: إن هذا حال من يتهيأ للرحيل، قال: أهو ارتحال؟! إنما أطرد طرداً، أي ما هو بارتحال على هوانا، بل نُخرج وننُتزع ونُطرد من هذه الدنيا، إذاً هل يختار العاقل متاعاً قليلاً وضئيلاً ونكداً ومنغصاً لا تدوم نعمته ولا لذته ويطرد منه وينزع منه بلا مقدمات فجأة؟ كما قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] لا يفعل عاقل ذلك أبداً؛ لكن هذا حالنا قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27]. والواجب على المؤمنين المتذكرين المعتبرين الذين أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العقول والألباب ألا يكونوا كذلك، بل لابد أن يعلموا أن أعظم نعمة أعطوها في هذه الحياة الدنيا أن يعطى من العمر ومن الصحة والفراغ ما يعبد الله تبارك وتعالى فيه ويتقرب إليه، ولا يخسر من وقته شيئاً ولا كلمة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. بعض السلف جاءته ابنة له وهو بين إخوانه في الله قالت: يا أبت أريد أن ألعب فأعرض عنها، فقال الآخر: قل لها تلعب، قال: لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً، وهذا جائز وليس فيه شيء أن يقال ذلك؛ لكن من شدة تحريهم -رضي الله تعالى عنهم- يعلمون أن كل كلمة وكل دقيقة محسوبة عليهم، وكل لحظة في الحياة يجب أن تستثمر في طاعة الله عز وجل. ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أصحابه من بعده والسلف الصالح كانت حياتهم كلها ما بين جهاد وعبادة، ما بين قراءة قرآن وأداء حقوق للعباد، فأعطوا كل ذي حق حقه، وجاهدوا في الله حق جهاده، حتى حصل لهم قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] هذا من باب الصدقة، وهذا من باب الجهاد، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من باب الصيام، وهكذا كل منهم اجتهد في طريق أو أكثر من طرق الخير، فهو يذكر الله ويجاهد في سبيل الله. وكان بعض السلف في المعركة يجاهد ويقرأ القرآن أو يذكر الله حتى لا يضيع الوقت، فله أجر الجهاد وله أجر الذكر، أناس عرفوا قيمة العمر، وعرفوا قيمة الحياة، وعرفوا أن الجنة سلعة الله، وعلموا أن سلعة الله غالية. مر بعضهم بأناس في مقهى -وما أكثر من في المقاهي أو في الملاهي أو ما يسمونها: شاليهات أو منتزهات- وهم جالسون يضيعون الأوقات في الحديث واللعب واللهو، فتندم وتحسر، قالوا: مالك؟ قال: تمنيت والله أن الأوقات تشترى! فقد تحسر أن لو كانت الأوقات تشترى لاشترى من هذا يوماً، ومن هذا يومين، ومن هذا ساعة، ومن هذا شهراً، ويعمل فيها ويجتهد فيها لطاعة الله، لكن الأوقات لا تشترى. فمن لديه غفلة فإن أوقاته ضائعة، وتراه يقول: احترت اليوم ولم أدر أين أذهب، أي: لا يدري كيف يضيع الوقت، والمؤمنون الذاكرون لا يستطيع الواحد منهم أن يفي بالواجبات الملقاة عليه، ويتمنى أن يزيد اليوم ساعة أو نصف ساعة أو دقائق ليغنمها في أداء واجب، أو في عمل طاعة تقربه من الله تبارك وتعالى؛ أو في علم يستفيده ويعمله فيكون من ورثة الأنبياء، أو في ذكر لله أن يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) أو في آية يتلوها من كتاب الله وهو يعلم أن الحرف الواحد بعشر حسنات {لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} فهل يضيع هذا ممن يعرف قيمة ذلك؟. وبعض الناس يضيعون أوقاتهم في متابعة المسلسلات التلفزيونية، أو قراءة مجلات لا فائدة من قراءتها وكم من كتاب لا خير فيه فإما مجون، وإما عبث، وإما عقائد باطلة أو فلسفات يظل الإنسان يقرأ فيه ويحقق ويلخص بل يحصل شهادة الدكتوراه، أو الماجستير قد يُمضي فيها الإنسان سنوات طويلة حتى يتخرج وينال الشهادة فيها وهي كلام تافه لا قيمة له ولا منفعة منها، فهذا أفنى زهرة عمره وريعان شبابه فيما لا خير فيه، والبعض يعشق فتاة فيظل يلاحقها، وينتظر تخرجها، وبعد التخرج يتهيأ لزواجها ويبذل ما يبذل، فأضاع العمر كله من أجلها، ولسنا نقول لأحد: لا تأخذ الشهادة، أو لا تتزوج، ولكن أن يضيع العمر في هذا، فهذا لا يليق بالمؤمن. أما إن أضاع وقته في الحرام فهو عليه عقاب، وهو عليه حساب وحسرته مضاعفة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان عليهم ترة يوم القيامة} أي: حسرة وندامة ونقصاًُ هذا إذا كان مباحاً، لكن لو كان مجلس غيبة أو لهو فهذا لا شك أنه إثم وندم، فكيف إذا لم يكن الندم على مجلس واحد بل على عمر، وعلى الشباب الذي يقضيه كثير من الناس، هذا في تشجيع الكرة، وهذا في اللهو واللعب والفنون الشعبية، وهذا في متابعة الأفلام والسهرات، وهذا في ضياع الأوقات في التمشيات، وهذا في كذا من العلاقات. فتضيع الأعمار ويذهب الشباب ولا حصيلة من ذلك إلا الخسارة والإثم الذي يلاقي به الله تبارك وتعالى يوم القيامة، ثم يستحي أن يعرض عليه هذه الأعمال وهو قد عملها، إن كل عاقل في هذه الدنيا ليستحي أن يراه بعض الخلق على ما لا يرضيه، فكيف بالوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى وفي ذنوب مجتمعة، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ورحم الله من قال: هبه تجاوز لي عما أسأت به واحسرتى من حياء يوم ألقاه

من العاقل؟

من العاقل؟ فالعاقل هو من يأخذ من دنياه لآخرته، من يأخذ من صحته لمرضه، من يأخذ من فراغه لشغله، من يأخذ من غناه لفقره، وقد أرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا، وهكذا كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، فهذا العمر أمانة، وهو نصيبك من الدنيا الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] نعم لا تنس رزقك الذي كتب الله تعالى لك أن تأخذ منها في الحل، وأن تنفق في حقه، وأيضاً لا تنس نصيبك من الدنيا ومن هذه الأيام، فلا تضيعها فيما لا خير فيه. فالواجب علينا أن نتقي الله تبارك وتعالى، وأن نعظ أنفسنا، ونعظ إخواننا هؤلاء -وما أكثرهم! - يأتون ويقولون: هذه عطلة وهذه إجازة، وكأنها عطلة من كل واجب أوجبه الله تعالى، وكأنها إجازة من كل ما افترضه الله تعالى، وكأنه يباح فيها ما كان حراماً قبلها. وهذه العطل لو كنا أمة فاتحة، لو كانت جيوشنا قد عادت بعد أن فتحت روما وقهرت أوروبا وحررت الهند، والصين وفتحت العالم لما كان هذا العبث لائقاً بنا، فكيف ونحن بهذه الحالة من المآسي والفجائع والنكبات في كل بلد من بلاد المسلمين؟! كيف ونحن في هذه المهانة والضعف والذلة من بين العالم؟! كيف ونحن مسئولون بين يدي الله تبارك وتعالى؟! العاقل منا والعالم سيقف بين يدي الله ويسأله عن الغافلين، كيف يليق بنا أن نلهو ونعبث، وأن نظن أن هذه العطل أو الإجازات أو أي لحظة من هذا العمر أننا فيها أحرار نمضيها كيفما نشاء، نترك الجمعة والجماعات، ونتخلف عن أوامر وواجبات كثيرة، وننظر إلى ما حرم الله تعالى؟! فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى، وأن نعمل بوصية الله التي أوصانا بها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ونعلم أن كل آت قريب، وأن أجل الله تبارك وتعالى آت، وأننا موقوفون بين يديه، فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنجعل عمرنا وأوقاتنا هذه ساعات: ساعة كما جاء في بعض الآثار [[ساعة تناجي فيها ربك، وساعة تحاسب فيها نفسك، وساعة تتفكر فيها بخلق الله، وساعة تعمل فيها لمعيشتك]] نجعل أوقاتنا هكذا، ولا تعارض بين هذا أبداً ولله الحمد. فلنحفظ الله تبارك وتعالى في أوقاتنا، ولنحفظه في جوارحنا، ولنحفظ في أعمارنا، ولنتق الله حيثما كنا كما أوصى أيضاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يَمنَّ علينا بتقواه وطاعته ورضاه، وأن يرزقنا البصيرة والتذكر، وأن يجنبنا الغفلة والسهو واللهو عما افترضه تبارك وتعالى علينا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يتقبل منا طاعتنا، وأن يجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

استغلال الوقت في طلب العلم

استغلال الوقت في طلب العلم Q أنا شاب -ولله الحمد- أحب الله ولقاءه, ولا أخاف الموت بل بالعكس أتمناه, وذلك ليس بسبب فقر أو مشاكل ولكن لحبي للقاء الله, ولكن هناك عيب فيَّ وهو عدم استغلال الوقت في طلب العلم, ولكن لا أستغله إلا في الخير, فأريد نصيحة لاستغلال الوقت في طلب العلم. A ما شاء الله! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً كذلك, هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان, يحب لقاء الله, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه} , فالحمد لله أن في الأمة من امتلأ قلبه بحب الله, ولذلك يقول: أحب الله ولقاءه. فعلى كل حال أولاً: لا يجوز للمؤمن أن يتمنى الموت, وإنما عليه أن يستعيذ بالله تعالى من البلاء, وعليه أن يستفيد من عمره وأن يستغله في طاعة الله, فأنت يا أخي! ما دمت تحب لقاء الله فلا بأس أن تحب الحياة, لماذا تحب الحياة؟! حتى تجتهد فيها وتكثر فيها من الطاعات, فإذا لقيت الله في الوقت الذي قدره الله تبارك وتعالى -لا تستقدم عنه ساعة ولا تستأخر- لقيته بأعمال صالحة كثيرة, فكان لقاؤك إياه بها أفضل مما لو لقيته الآن بأعمال أقل, فعليك -بارك الله فيك- وعلينا جميعاً أن نتنبه لهذا, ولهذا لما جاء بعض السلف الموت, فأخذه نوع من البكاء, قالوا: أتبكي خوفاً من الموت يا فلان؟! قال: والله ما أبكي فرقاً من الموت ولا حرصاً على زرع الأشجار ولا جري الأنهار, ولكن لما سأفقده من قيام الليلة الباردة وظمأ الهواجر, يبكي خوفاً من أن تفوته هذه الأعمال وتنقطع عنه, يريد أن يطول به العمر ليجتهد أكثر, لأنه كان يتمتع بها ويرتاح, فكان يريد أن تطول هذه الراحة ويلقى الله تبارك وتعالى وقد عمل من الصالحات ما هو أكثر, وهذا أصل ثابت في أحاديث كثيرة. فكون الأخ لا يطلب العلم, فكل ميسر لما خلق له, إذا كان الله تعالى لم يهيئك للعلم فلا يقدح هذا في إيمانك، وليس شرطاً أن يكون كل واحد منا عالماً, فكن ذاكراً كن مجاهداً كن آمراً بالمعروف كن ناهياً عن المنكر كن زاهداً في الدنيا كن محباً لأهل الخير كن عطوفاً شفيقاً على المسلمين تقول الكلمة الطيبة تعين هذا على دابته تحسن إلى هذا تتصدق على هذا, كل هذه من طرق الخير والحمد لله.

شهوة الشباب وكيفية ترشيدها

شهوة الشباب وكيفية ترشيدها Q أنا شاب صغير في المرحلة المتوسطة أحضر حلقات العلماء، وأحفظ القرآن، ولكن يدور في ذهني أفكار وصور كنت شاهدتها قبل هدايتي، والآن لا أستطيع الصبر عن هذه الشهوة التي ما تكاد تذهب عني، فاضطر إلى فعل العادة السرية، وأنا حائر في أمري لا أجد حلاً طبياً لهذه العادة، فما الوسيلة للانقطاع عن هذا العمل؟ A الكلام في هذه القضية يطول؛ لأنه لا يتعلق بهذا الأخ وحده، ولا يتعلق أيضاً بالشباب وحدهم، ولا بالآباء وحدهم، هذه القضية قضية المجتمع كله، قضية الأمة التي تدفع بالشهوات، وسائل إعلام تدفع بالشهوات وتبهرجها وتزينها في الإعلانات، وفي المسلسلات، وفي الأحاديث، وفي اللقاءات، وفي الكتب، والأحاديث بين الناس، والهواتف والمعاكسات، والأسواق وما فيها من مثيرات، والتبرج وغيره، كل هذه المظاهر من دواعي الشهوة التي تجتذب الشباب. والشاب حائر إما أن يقع فيها فيضل ويتوه، أو أن يريد أن يعف نفسه فلا يستطيع، حتى هذا الأخ في المتوسطة لا يمكن أن يتزوج لأننا قد اختلقنا أوضاعاً غير عادية، فأصبح المتمسك المهتدي يعيش حالة غير عادية فيضطر أن يقع في الحرام -والعياذ بالله- أو أن يفعل هذه الفعلة وهي من الحرام؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] فأي شيء وراء ذلك فإنه تعدٍ لحدود الله تبارك وتعالى. فأوصي هذا الأخ بتقوى الله، وأوصي إخواني جميعاً بغض النظر وترك هذه الشهوات، والمغريات، والمثيرات، وأن نتعاون جميعاً على تقوى الله تبارك وتعالى وإعفاف وإحصان الشباب ذكوراً وإناثاً. وبهذه المناسبة أمامنا دعوة للمشروع الخيري للزواج، وهو مشروع عظيم النفع -نسأل الله تعالى أن يثيب المحتسبين القائمين عليه بخير الثواب- وهم يدعونكم إلى التبرع وإلى دفع ما تجود به أنفسكم، ونبشركم -والحمد لله- أنه قد استفاد منه حتى الآن 3700 شاب وشابة، وصرف لهم مبلغ (24. 000. 000) ريال، وبلغ عدد المواليد الأوائل لهؤلاء الشباب حتى الآن 531 مولوداً ولله الحمد، هذه نعمة فكيف لو كان في كل حي، وفي كل قرية، وفي كل قبيلة مثل هذا التعاون على الخير، ومع ذلك فإن هذا لا يغني عن وجوب الدعوة إلى ترك المثيرات فإنه واجب على الجميع كما في مثل هذه الحالة التي يعاني منها هذا الأخ.

إيثار الدنيا على الآخرة

إيثار الدنيا على الآخرة Q ما حكم من يتخذ الأسباب ليستيقظ للعمل ولا يتخذها لصلاة الفجر، نرجو التنبيه على ذلك؟ A هذا هو الذي ينطبق عليه القول المأثور: دينار أحب إلى أحدهم من صلاته -والعياذ بالله- دنياه أحب إليه من صلاته، وظيفته أو عمله أحب إليه من دينه، إذاً هذا دنياه مؤثرة على آخرته، فهذا هو الخاسر الذي باع العظيم الباقي الذي فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بالحقير التافه الزائل الذي كله نكد وآلام، فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوقظ قلوبنا جميعاً لذكره وتقواه، ويجعلنا ممن يؤثر الآخرة على الدنيا.

دور الشباب في الدعوة إلى الله

دور الشباب في الدعوة إلى الله Q نرى هذه الأعداد الكبيرة من الشباب المهتدين, ولكن أين هؤلاء الشباب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أين هؤلاء الشباب من الإنكار في الأسواق وغيرها؟ فنرجو توجيه الشباب إلى هذا الأمر العظيم. A أظن فيما قاله الأخ كفاية, وكل منكم يعلم قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فيا إخوان! والله أن المرء يفرح فرحاً عظيماً حين يرى مثل هذا العمل والحمد لله, لكن تخيلوا لو أن كل واحد منا في حيِّه وفي عمله الذي يعمل فيه قام بالدعوة كما ينبغي, والله ليكونن الخير أضعاف أضعاف ما هو موجود الآن؛ لأن هذا الجمع الكبير الآن -والحمد لله- خير كثير, وما كان الهداة ولا الدعاة إلا الفئة القليلة في جميع العصور, فالواجب أن يقوم كل منا بجهده, وبما يستطيع في الدعوة إلى الله, ويبارك الله في هذه الجهود بإذن الله.

وساوس الشيطان

وساوس الشيطان Q إنه يعتلي قلبي خواطر وأفكار - لا يريد ذكرها- وبعد ذلك يقول: وأشعر بضيق في قلبي، وألم وحرقة، فما هو الحل والعلاج؟ A دائماً يأتي مثل هذا السؤال ويتكرر، وهذا دليل على الهداية -والحمد لله- لأنه عندما تكثر مثل هذه الأسئلة فإنه دليل على أن المهتدين كثير، وأبشركم أن هذا دليل خير، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر أصحابه بذلك، بل قال: {أو قد وجدتموه، ذاك صريح الإيمان} النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: {أو قد وجدتموه} كأنه شيء ينتظره، وكأنه لا بد منه، وهذا شيءٍ ملاحظ أن كل من يتوب ويهتدي لا بد أن يجد هذا، فبعد فترة من هدايته يجد شكوكاً وخطراتٍ ووساوس وأموراً غريبة، ويتألم ويكون كما قال الصحابة: {إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به} لا يريد أن يقوله لأحد، لأنها لم تكن تأتيه في حال الغفلة، واللهو واللعب، والآن بعد الهداية والالتزام والتمسك تأتيه فيتعجب من هذا، ولكن أبشروا فإن هذا محض الإيمان ولهذا قال في رواية أخرى: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} أي أنه ما بقي للشيطان في قلبك إلا هذه الوساوس، فاصبر عليها، وهي تذهب من البعض بعد شهر أو شهرين أو أقل أو أكثر، فنرجو لك يا أخي الشفاء، ونسأل الله أن يشفي قلوبنا جميعاًُ إنه سميعٌ مجيب.

نصيب الإنسان من دنياه

نصيب الإنسان من دنياه Q كيف تأخذ نصيبك من هذه الدنيا، وهل هناك مقدار معين؟ A نصيبك من الدنيا هو هذا العمر، فقد أوصى الله تبارك وتعالى في قوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] أوصى بها الأغنياء جميعاً، وإن كانت تتحدث عن قارون أي: خذ بحظك الذي كتب الله لك في هذه الدنيا ولا تضيعها {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] هي للمؤمنين في الدنيا استحقاقاً، أما غيرهم فلا يستحق منها شيئاً إلا لتفاهتها وحقارتها {ولو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء} لكنه لتفاهتها وحقارتها جعلهم شركاء فيها، فنصيبك من الدنيا -أي من الحياة- وهو العمر، هو هذه الأيام، فعليك أن تتقي الله ولا تضيعها.

حكم العمل مع من يتهاون في الطاعة

حكم العمل مع من يتهاون في الطاعة Q إني شابٌ ملتزم -والحمد لله- ولكني أعمل مع أناس لا يصلون ويتهاونون في طاعة الله، فأرشدني ماذا أفعل، فهل يجب علي ترك العمل؟ A أما من كان يعمل وهو في إمكانه أن يدير العمل، أو كان رئيساً ولو لمجموعة قليلة كمدير مدرسة -مثلاً- أو رئيس قسم أو إدارة، فالواجب عليه أن يأمر من تحت يده بطاعة الله وتقواه، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} والتغيير باليد في حق كل ذي ولاية: في بيتك تغير باليد لأن لك ولاية، أو في إدارتك تغير باليد لأن لك ولاية، أو في الإمارة إن كنت أميراً، أو في الوزارة إن كنت وزيراًُ، في الدولة إن كنت حاكماً، وهكذا يجب التغيير باليد ولا يجوز أن تنزل عنه إلى اللسان، وأما إذا كان مأموراً مرءوساً أو كلهم زملاء له فالواجب عليه النصيحة، والإنكار باللسان والموعظة، فإن نجح في ذلك فالحمد لله، أما إن غُلب وأصبح يخشى أنه يترك طاعة الله ويتهاون فيها، أي خشي على نفسه من ذلك فليترك هذا العمل، وينتقل إلى بيئة صالحة طيبة.

الكتب التي تهدى إلى النصارى لدعوتهم إلى الدين

الكتب التي تهدى إلى النصارى لدعوتهم إلى الدين Q في حيّنا نصارى كثيرون، وأريد أن أدعوهم إلى الدين، فما هي الكتب التي تنصحني أن أهديها لهم؟ مع العلم أنهم يفهمون العربية؟ A النصارى هؤلاء أول ما ينبغي أن تخاطبهم وتكلمهم وتحدثهم وترى عمق ما عندهم من دين، أكثر هؤلاء القوم وهذه الملة -بالذات- أكثرهم لا يعرفون من دينهم شيئاً، ودينهم دين متناقض، وأكثرهم ينتسب إليه انتساباً فقط، فإذا جلست إليه وخاطبته فاسأله عن التثليث، كيف يكون الواحد ثلاثة، كيف يكون الله تبارك وتعالى ثلاثة؟ تعالى الله عما يشركون، كيف يكون لله ولد وصاحبه، فإذا شككته في هذه العقيدة الباطلة الفاسدة وتهيأ للتوحيد، فعلمه إياه بأي كتاب تراه مفيداً من كتب التوحيد، وفي إمكانك أن تشرح له ذلك، ومن أسهل ما يمكن في الدنيا أنك تدعو النصراني للإسلام، فيمكن لأي أخ أن يتحدث مع أي نصراني -ولو كان من أكبر القساوسة- وحين ذهب بعض الإخوان إلى ألبانيا وسجلوا بعض المشاهد، من جملتها أن طفلاً صغيراً يبلغ عمره 11 أو 12 سنة جاءه أحد كبار رجال الدين من روما إيطاليا هذا الطفل ناظر ذلك الكافر النصراني مناظرة عجيبة جداً وهو طفل صغير يقول له: كيف يكون الواحد ثلاثة؟! كيف تجعلون لله ولداً؟! كيف أدخل أنا ديناً متناقضاً، أو بعضه يناقض بعضاً وبعضه يكذب بعضاً؟ فهو دين وواضح البطلان، واضح البهتان، فلا إشكال في دعوتهم، إنما المشكلة أننا ننظر إليهم ونعظمهم ونقدرهم، فالمشكلة فينا نحن وليست في دينهم.

مجاهدة النفس

مجاهدة النفس Q عندما أذهب إلى المحاضرة أتوب إلى الله، وعندما أذهب إلى البيت يتغير قلبي وتمسكي، فكيف أعمل؟ A هذه الحالة بالضبط وبالذات شكاها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، {شكاها حنظلة ومر على أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو يبكي فقال له: مالك يا حنظلة قال: نافق حنظلة يا أبا بكر! نكون ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما لك يا حنظلة قال: نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تدومون على الحال الذي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وساعة وساعة}. فالواجب علينا أن نحاول أن نستزيد من إطاله فترة هذا الإيمان، ومن إطاله فترة الرقي أو السمو الإيماني، واللذة الإيمانية التي نشعر بها، نحاول أن نطولها فلعل الملائكة تصافحنا في الطرقات، لكن لو ضعف ذلك فهذا طبيعي، فإن الله تعالى خلقنا بشراً وركب فينا الغفلة والشهوة والتعب والملل والسآمة، هكذا خلقنا الله، فعليك إن جاءتك هذه النفس في رغبة وشوق وطاعة فاجتهد فيها أن تبلغها أكبر مرحلة، وإن وجد منها غير ذلك فعليك أن تجاهدها، ولهذا شبه بعض السلف نفس الإنسان بالدابة، فهي أحياناً تذهب وتنطلق، فإذا كنت مسافراً أو تريد أن تذهب إلى مكان -وأنت على هذه الدابة- فوجدتها منطلقة فحثها أكثر حتى إذا تلكأت تكون قد قطعت أكبر شوط، فهكذا جعل الله تبارك وتعالى طبيعة هذه النفس.

كيف نخرج حب الدنيا من قلوبنا

كيف نخرج حب الدنيا من قلوبنا Q كيف نخرج حب الدنيا من قلوبنا؟ A سأل بعض الخلفاء بعض علماء التابعين سؤالاً مثل هذا أو قريباً منه: لماذا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ قيل إن السائل هو سليمان بن عبد الملك سأل أبا حازم، فقال: [[لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب]] هكذا حال الإنسان. علنيا أن نخرج حب الدنيا ونحن إذا علمنا أن الدنيا فانية، وأنها زائلة، ومتاعها قليل، وأنها كما ضرب الله تبارك وتعالى فيها المثل، مثل النبات يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً حتى ينتهى، وأن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، خير وأبقى، وفيها ذلك النعيم، وذلك الجحيم لمن خالف -والعياذ بالله- فتخرج بذلك حب الدنيا من قلبك، وتستعد للآخرة دون أن يعني ذلك -كما أشرنا- أن يترك الإنسان حق الله وما أوجب عليه في الدنيا من إعفاف لنفسه، ومن إطعام لأهله، والإنفاق عليهم، ومن خير يفتحه الله له في هذه الدنيا فيجتهد فيه كما قال النبي: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار} هذا من رحمة الله تبارك وتعالى، وهذا لا يدخل في حب الدنيا، إنما حبها: إيثارها.

محق البركة في الأعمار

محق البركة في الأعمار Q ما سبب محق البركة في الأعمار والأزمان، حيث إنه يمر بي الزمن الطويل ولا أجد أني قد عملت ما أحسب أني أدخره لليوم الآخر؟ A حتى الصلوات باتت إلى العادات أقرب منها للعبادات، وما قاله الأخ الكريم حق، كل منا يشعر به ويتعجب -فعلاً- لماذا محقت بركة الأعمار، والأوقات، والأموال -والعياذ بالله! - والإجابة على هذا تطول جداً، لكن نشير إليها إشارة ولبعض أسبابها: فمن ذلك أنه اختلط أكلنا الحلال بالحرام، فالربا والمال الحرام دخل حياتنا -والعياذ بالله- فمن لم يأكله صريحاً ناله غباره، كأننا مستنقع للربا والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له} لا يوجد بركة في عبادتنا، لأن هذه الأجساد دخلها الحرام -إلا ما رحم الله- هذه بعض الأسباب. ومنها أن ذكرنا لله تعالى قليل، وذكر الله هو الذي يعمر الحياة ويجعلها طويلة، كما قال بعض الحكماء وذكر الله معناه أعظم وأوسع من مجرد أن تقرأ آيات أو تسبح، فأنت تذكر الله تبارك وتعالى في كل عمل، من أعمالك، فالجهاد ذكر، والصلاة ذكر، وكل عمل في الدنيا فيه إعلاء لكلمة الله هو من الذكر، ولإعلاء كلمة الله، فإذا ذكرنا الله واهتممنا بالدار الآخرة، نجد أن هذه الحياة يكون لها بركة.

حكم الطعن في العلماء وغيرهم

حكم الطعن في العلماء وغيرهم Q أليس من الاستشعار بقيمة العمر عدم قضائه بالجرح والقدح في العلماء وطلبة العلم، وأن يراعى في ذلك قيمته، وعدم استغلالها في تشويه ما لا ينبغي تشويهه، وأن يصرف ذلك الوقت إلى ما يفيد المرء في الدنيا والآخرة، وأن يتذكر حال الأمة وما صارت إليه؟ A هذا ليس فقط من استشعار قيمة العمر، بل هو واجب من الواجبات: ترك الغيبة، وترك سوء الظن، وترك القدح أو الطعن في أهل الخير واجب، وإذا كان الإنسان مقيماً عليه فهو مقيمٌ على كبيرة من الكبائر -والعياذ بالله- مهما ظن أنه على خير أو على طاعة أو على هدى؛ فهو مرتكب لكبيرة عظيمة، وحسبه أن يأتي يوم القيامة وخصومه بين يدي الله كل هؤلاء من العلماء أو الأخيار أو الأفاضل، والعاقل لا يضيع وقته فيما لا خير فيه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} لأن ما لا يعنيك يشغلك عما يعنيك، فكيف إذا كان فيما هو أشد من ذلك، وهو أن يضيعه فيما يضره، بل ربما فيما يكون سبباً في أن يطبع على قلبه، والعياذ بالله. ولاحظوا أن من عير أحداً بذنب واتهمه به فربما -كما جاء في بعض الأحاديث ولبعضها ما يصححه- قال: {لم يمت حتى يفعله} حتى يقع فيه إن كان بدعة، وإن كان ضلالاً، وإن كان حباً للدنيا، فعلى العاقل أن يعف نفسه، وأن يعلم أنه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم} هذا اللسان هو الذي أورد أكثر الخلق المهالك نعوذ بالله!

السكن مع من يتعامل مع الجن

السكن مع من يتعامل مع الجن Q أنا ساكن مع أهلي في البيت، وأهلي يعملون أعمال شيطانية -والعياذ بالله- أي يستخدمون الجن، وأنا وبعض الإخوة الطيبين حاولنا معهم بكل طريق، لكن بدون جدوى، وهم مع ذلك لا يصلون، هل أجلس معهم؟ A الذين يستعينون بالجن ويدعونهم، والذين لا يصلون هؤلاء ليسوا مسلمين، أنا الآن لا أتكلم عن واحد معين، أقول عموماً: من كان يدعو الجن، ويستغيث بهم، ويستعين بهم ويخدمهم ويخدمونه، وهو أيضاً لا يصلي، تارك للصلاة تركاً كلياً فهذا ليس بمسلم -والعياذ بالله-، والواجب على الإنسان إن كان ابناً أن يجاهدهما كما قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] لا تطعهما بل قابل مجاهدتهما لك على الكفر بأن تجاهدهما وتعظهما وتذكرهما بالإيمان، وصاحبهما في الدنيا معروفاً: وبالذات الوالدان فإن لهما المصاحبة بالمعروف، أما غيرهما من بقية الأهل فالفراق خير، وحتى الوالدان إذا كانا يعملان مثل هذا العمل فله أن يقوم ببعض البر ويفارق الجلوس والبقاء معهما حتى لا يقع في مثل هذه البلايا إذا كان هذا يحل مشكلته.

اليقين

اليقين Q هل يمكن الانتقال من الشك إلى اليقين، وكيف يمكن الحصول على اليقين التام؟ A نعم يمكن ذلك، واليقين لا بد منه للإيمان، واليقين لا بد منه للدعاة إلى الله ولطلبة العلم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] هذا الأول {وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] وهذا الشرط الثاني، فاليقين لابد منه، والانتقال إلى اليقين يكون بذكر الله، وبالتفكر في ملكوت الله، وبقراءة القرآن، وبالاعتبار بأحوال الأمم الماضية، وبكل ما هو من مقويات الإيمان.

الخوف من عدم قبول الطاعات

الخوف من عدم قبول الطاعات Q أنا رجلٌ إذا صليت كنت من الذين يبكون في الصلاة ويخشعون -والحمد لله- ولا أزكي نفسي على الله لكن بعد الصلاة أحس بأني قصرت فيها وأحياناً أحس أنها غير مقبولة فلماذا؟ A الحمد لله! ما دمت ممن يخشع فيها ويبكي فيها فلا يأتيك الشيطان ويقول: غير مقبولة إنما نحن جميعاً بين الخوف والرجاء، نخاف أن لا يتقبل منا؛ لكن لا يغلب الخوف على الرجاء، والله تبارك وتعالى عندما قال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] وهذه فيمن يصلون ويزكون ويعملون الطاعات ولكن يخشون ألا تقبل منهم، فهم يرجون القبول ويخافون من الرد، وذلك أحرى أن يستمروا في الطاعة وألا يأخذهم الغرور بها. أما إذا غلب على العبد جانب الخوف فربما ترك الطاعة -والعياذ بالله- أو إذا غلب عليه جانب الرجاء فربما ركن إلى عمله فيكون هالكاً -والعياذ بالله- فلا بد أن يتوازن عنده الخوف والرجاء معاً، ولا يخرجنك الشيطان عن هذا الخط القويم إلى أحد مجالي الانحراف، إما ذات اليمين، وإما ذات الشمال.

حكم العمل تحت رؤساء كفار

حكم العمل تحت رؤساء كفار Q أريد أن اعمل في شركة لكن المسئولين فيها أمريكان، ويجب عليَّ أن أداهنهم وأن أسكت عن بعض المنكرات، وأن أرد التحية عليهم وأبادلهم إياها إلى آخره، هل علي في ذلك حرج؟ A أولاً: لا يجوز أن يكون لهؤلاء الكفار مكان في هذه البلاد الطاهرة كما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يجتمع دينان في جزيرة العرب} فلا يجوز أن يكونوا فيها. وإن جاءوا لضرورة فلا يجوز أن يكونوا هم المدراء أو المسئولين، بل يجب أن يكونوا تحت المؤمنين حتى ولو كانوا أعلى في الشهادة أو الدرجة أو في أي شيء، يجب أن يكونوا مرءوسين مأمورين، ويكون المتأمر والرئيس مسلماً مؤمناًً حنيفاً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا وقع غير ذلك، وأمرنا إلى الله، -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وهذا من عقوبات الله لنا -والعياذ بالله- ومن تهاوننا في طاعة الله، وتركنا لما فرض الله، أصبح الكفار يترأسون على المسلمين في بلاد الإسلام. فالواجب على الإنسان أن يتقي الله وألا يري الكفار أي شيء يشعرهم بالولاء أو المودة أو المحبة، وإنما يقوم بالعمل الآلي أداء عادياً، لا يبدؤهم هو بالسلام، وإذا كان ولا بد ويضطر إلى ذلك فليقل أي كلمة عامة، ولا يقل السلام الذي يعهده المسلمون فيما بينهم، ويبغضهم بقلبه وإن لم يستطع أن ينكر عليهم بلسانه أو بيده فليدعو الله تبارك وتعالى أن يذهب عنا شرهم ومكرهم، وليجتهد أن يحل محلهم هو أو إخوانه المؤمنين الذين يمكن أن يحلوا محلهم إذا اجتهدوا في إتقان هذا المجال، المهم أن يعلم أن هذه حالة طارئة عارضة، وأنه لا يجوز له أن يواد هؤلاء الذين هم أعداء الله تبارك وتعالى.

معنى قول الله: (يعلم خائنة الأعين)

معنى قول الله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) Q ما معنى قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]؟ A أي أن الله تبارك وتعالى محيط علمه، وهو مطلع ورقيب على كل شيء حتى في الأمور الدقيقة، فكثير من الناس لو أنك جالس معهم وخالفت عينك ونظرت تتوقع أنهم ما علموا ذلك، فهي أقل ما يمكن من الحركات العملية الظاهرة، ومعنى قوله (وما تخفي الصدور) أي: تخفي الصدور هو الأسرار الباطنة، فالله تبارك وتعالى يعلم أدق الأمور الظاهرة، وأدق الأمور الباطنة، فهو يعلمها تبارك وتعالى، ولا يخفى عليه شيء.

المخرج من أزمة المسلمين

المخرج من أزمة المسلمين Q ما المخرج من أزمة المسلمين؟ A المسلمون يمرون بأزمات شديدة في شتى أنحاء العالم فهم يقتلون ويشردون ويضطهدون، وكل هذه الفتن يجب أن نتوب إلى الله ونقنت ونضرع إلى الله تبارك وتعالى أن يرفع عنا هذا العذاب {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] نتضرع إلى الله ونمد لهم يد العون والمساعدة، ونحيي قضاياهم في إعلامنا ومجالسنا وأينما كنا، نذكر بقضايا هؤلاء المسلمين، ونعلم أن خير ما نقدمه لهم هو دعوتهم إلى الله والعلم الشرعي الذي هو التوحيد والسنة، فإنهم إذا تابوا وأنابوا ورجعوا إلى الدين رفع الله عنهم هذا البلاء.

الانشغال عن الآخرة بالدنيا

الانشغال عن الآخرة بالدنيا Q لي أب أخذته الدنيا عن الآخرة، فهو يجري وراء لقمة العيش ويغفل عن الآخرة، وكلما ذكرته بالآخرة يقول: من أين آتي لكم بلقمة العيش؟ A نعم، كثير من الناس يظن أنه هو الذي يرزق نفسه أو يرزق أبناءه، ولو أنه ابتغى الرزق من الله وعلم أن الله تبارك وتعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، لو علم ذلك واتقى الله وقام بما افترضه الله تعالى عليه، ولم يشغله شيء عن عبادة أو طاعة أوجبها الله، لو علم ذلك لما كان كذلك، فذكره -يا أخي- بالله، وذكره بطاعة الله، وذكروه أنت وإخوانك بأننا لا نريد منك أن تنفق علينا إلا من حلال، ولا نريد أن يشغلك أي شاغل أو مانع من أجلنا عن تقوى الله وعن الواجبات التي افترضها الله تبارك وتعالى علينا وعليك.

النساء وضياع الأوقات

النساء وضياع الأوقات Q ما هي نصيحتكم للنساء اللاتي يضيعن أوقاتهن في غير فائدة، وإذا قيل لإحداهن إقرئي القرآن أو اجتهدي في تحفيظ ابنتك القرآن، قالت: كله قرآن قرآن، علماًَ بأن معظم الوقت يذهب سدى؟ A يا ليتنا نعطي كتاب الله ولو ساعة واحدة من اليوم فهي قليلة، ولكن ذلك خير كثير، أوصي أخواتي وإخواني وكل أحد منا أن نتقي الله في أوقاتنا، وألا نضيعها، ونعلم قيمة هذا العمر وقيمة هذه الحياة، فنعمرها بخير ما تعمر به وهو الإقبال على كتاب الله، وأن نتلوه حق تلاوته قراءة وحفظاً، وأيضاً عملاً واتباعاً فلا يغني شيء من ذلك عن شيء.

دراسة العلوم غير المفيدة

دراسة العلوم غير المفيدة Q ما رأيكم فيمن أفنى عمره في الدراسة الأدبية مثل الاجتماع وعلم النفس؟ A عموماً من أفنى عمره في دراسة العلوم التي تشغل عن طاعة الله أو التي لا تنفع فعليه أن يتقي الله ويحفظ ما بقي من عمره من هذه العلوم، وأن يسخر هذه العلوم في طاعة الله، فمن تقوى الله ومن التوبة أن يسخر هذه العلوم في طاعة الله، وأن يبين ما فيها من ضلال وباطل، ويبين ما يمكن فيها من خير إن كان فيها شيء من الخير، ويبينه للناس من خلال إرشاده لهم أن ما جاء في القرآن، والسنة هو أفضل منه وأعظم، فإذا سخرت هذه العلوم جميعاً لخدمة هذا الدين فيكون ذلك العمر ما ضاع بل يكون فيه خير، -إن شاء الله-. ولذلك كثير من الإخوان ممن هداه الله لا يندم على أنه أمضى فترة من عمره في هذا، لأنه بعد أن عرف الله واتقاه استطاع من خلال تلك العلوم أن يدعو إلى الله، وأن يكون تركه لها ودعوته إلى تركها عن بصيرة وعن اقتناع، ولا يمكن لأحد أن يتهمه أنه مجرد متطرف أو متعصب أو يكره هذه العلوم لأنها علوم جديدة وحديثة.

الاستفادة من الوقت

الاستفادة من الوقت Q ما هي الحلول العملية للاستفادة من الوقت بالنسبة للنساء والرجال والصبية؟ A كل واحد يضع له جدولاً معيناً وبرنامجاً: أنني أكمل في هذا الشهر -مثلاً- شيئاً من القرآن، وشيئاً من العلم وكذا وكذا، أقوم بهذا الواجب، فيضع له برامج محددة من خلال إمكانيته ومواهبه وموقعه في الحياة.

طول العمر وحسن العمل

طول العمر وحسن العمل Q { خيركم من طال عمره وحسن عمله} ما تعليقكم على هذا الحديث؟ A الحديث واضح ولا يحتاج إلى تعليق, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون جميعاً كذلك.

لزوم الرجوع إلى الميقات لمن فاته الإحرام منه لعذر

لزوم الرجوع إلى الميقات لمن فاته الإحرام منه لعذر Q والدتي جاءت إلى جدة وهي من سكان الجنوب, وفي نيتها أداء العمرة, ولكن لعذر العادة الشهرية لم تتمكن من ذلك, وجاءت إلى هنا وتريد أداء العمرة, علماً بأنها لم تمر بالميقات, أرشدونا ماذا نفعل؟ A لو أنها أحرمت من الميقات وبقيت على إحرامها حتى تطهر ثم تعتمر فلا شيء في ذلك مهما بقيت في جدة , أما وقد جاءت ولم تفعل وتريد العمرة فإنها تعود إلى الميقات وتحرم فتعتمر.

الاقتصاد في المآكل والمشارب يعين على الطاعة

الاقتصاد في المآكل والمشارب يعين على الطاعة Q قرأت أن السلف رحمهم الله حذروا من كثرة الأكل والشرب والضحك, وإني ضعيف أمام الأكل, فإني أعزم على الاقتصاد وعدم الإفراط, ولكن أمام السفرة أنسى ذلك؟! A هذه مشكلتنا جميعاً, الحقيقة أقول لكم وأنا منكم: لو يعرض الواحد منا أكله على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وإن كان ولابد فليجعله أثلاثاً, ثلث لنَفَسِه وثلث لطعامه وثلث لشرابه} الحقيقة لا يوجد فينا من يكون كذلك إلا ما رحم الله. فمثل هذا الأخ يُشْعَر بمثل هذا, وينبه بمثل هذا, فلو أننا نأكل أكلاً قليلاً يكون كافياً من الناحية الغذائية إن شاء الله لكان نومنا قليلاً, ولما احتجنا إلى العلاج من كثير من الأمراض, لماذا يحتاج كثير من الناس إلى التخفيف من الوزن؟! ويذهب ويدفع الأموال ويضيع الأوقات والأعمار من أجل التخفيف من الوزن؟ لأن أكبر سبب في ذلك كثرة الأكل وقلة الحركة والعمل وهكذا فإذا نحن اتقينا الله واتبعنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ربحنا الأوقات وربحنا الأعمار, وانظروا إلى أحوالنا في رمضان -نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا رمضان إنه سميع مجيب- الواحد منا يشتغل أحياناً حتى يأتي وقت المغرب بالرغم من أننا نعيش في منطقة حارة وتصل فيها فترة الصيام إلى 14 ساعة. والكفار لا يصدقون هذا الكلام, فلا يستطيع أحدهم أن يصبر ساعتين في منطقة حارة, وإذا أخذ المسلم لقيمات خفيفة بقي نشيطاً وصلى التراويح بنشاط والحمد لله, فإذا أكل وأكثر تعب حتى يتثاقل في الركوع والسجود وما إن يسلم الإمام, حتى يستلقي وينام وهذا شيء مجرب! فقلة الأكل كما نبه إلى ذلك كثير من السلف مما يستعان به على طاعة الله تبارك وتعالى, كذلك لو الواحد منا إذا أكل أكلاً اكتفى بما يحتاج إليه فقط لكان عقله أكثر استيعاباً وفهماً, لكن إذا امتلأت المعدة بالطعام انشغل الدماغ بها عن ما سواها وهذا الكلام معروف.

البديل المناسب للعب الأطفال

البديل المناسب للعب الأطفال Q وما هي الوسائل التربوية الصحيحة في نزع المنكرات المتأصلة في الأطفال مثل مشاهدة أفلام الكرتون وحب كرة القدم؟ A هو أن تجعل له بديلاً يشغل وقته باللهو المباح، لا بد من لعب للأطفال ولا نستغرب من هذا فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ويأتي الحسن والحسين ويتسلقان ويركبان على ظهره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأطفال هكذا، فلابد أن أوجد لهم البديل من لهو مباح، فيمكن مثلاً أن يلعبوا الكرة؛ لكن في أوقات محددة، فلابد أن أوجد لهم مجالاً لذلك، وأعطهم ما مما يرون أن فيه متعة لهم أو راحة أو فسحة، واصبر عليهم فما من أب إلا وهو تعب في تربية أبنائه.

حديث: (ساعة وساعة)

حديث: (ساعة وساعة) Q ما هو الحديث الذي ذكره الأخ الذي لبس عليهم الشيطان {ساعة وساعة} فهل معناه أن ساعة في المعصية هي أمر طبيعي؟ A ليس المقصود ساعة فيما يغضب الله ويقرب من النار، وساعة فيما يرضي الله ويقرب من الجنة، محال هذا! والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقصد ذلك، بل إن المقصود هو ساعة جد وعمل وساعة راحة، كما في حديث حنظلة، فنذكر الله ساعة في مجلس ساعة ما بين المغرب والعشاء، مثلاً ثم نأكل ونشرب ونتحدث حديثاً طيباً في ساعة تالية، فحياة المؤمن دائرة بين الطاعة وبين المباح، أما أن يكون البديل عن الطاعة هو المعصية والذنوب والإجرام فهذا هو المفهوم غير صحيح.

دخول المسجد للحائض

دخول المسجد للحائض Q أن هناك فتوى للشيخ ابن باز بأن أي مصلى للنساء يجوز للمرأة الحائض دخوله لأنه لا يعتبر من المسجد، رغم أنه قد يكون داخل المسجد، هل هذا صحيح؟ A لا أعلم من سماحة الشيخ فتوى في هذا، وإنما مصلى النساء هو من جملة المسجد، هذا الذي أعرفه، وعلى الأخت أن تطلب من التي قالت لها ذلك أن تأتيها بفتوى، فربما يكون فهمه خطأ أو شيء من هذا، والمعلوم أن المسجد كله مسجد ما كان منه للرجال وما كان منه للنساء، أما في صلاة العيد فقد كن يخرجن الحيض، ولكن كن يعتزلن الصلاة ويقفن خلف الناس، ولكن هذا في صلاة العيد التي تكون خارج البلد لأن السنة فيها أن تكون في فضاء خارج العمران، فربما اشتبه الأمر على الأخت، والله أعلم.

الإشادة بالكفار

الإشادة بالكفار Q هل يجوز أن أقول: إن الغرب عندهم عدالة واحترام لحقوق الإنسان، وهل ينبغي للمسلم أن يشيد بهم، مع العلم أني سمعت من بعض الخطباء يشيدون بهذا؟ A الإشادة بالكفار والثناء عليهم ومدحهم لا يجوز بأي حال من الأحوال، فهؤلاء أعداء الله وكيف تمدحهم؟! وكيف تثني عليهم؟! وكيف تمجدهم وقد ذمهم الله وعابهم ولعنهم وغضب عليهم؟! لا يمكن هذا ولا يصح ولا يجوز، لكن لا يعني كفرهم أن يغمطوا ويبخسوا كل فضيلة عندهم، فهناك فرق بين هذا وهذا، فنحن لا نمدحهم ولا نشيد بهم أبداً، لكن إن كان فيهم شيء من العدل أو الخير نذكره من باب العدل، والله تبارك وتعالى أمرنا بالعدل مع كل أحد سواء مع المؤمنين أو مع الكافرين، في حياتنا أو في أنفسنا، أينما كنا نحن مأمورون بالعدل {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9] وأي شيء توزنه أعمال أمم أو أفراد أو هيئات لا بد أن يكون الوزن بالقسط والحق والعدل. ولا شك أن في بعض أهل الكتاب وفي بعض دول الكفار شيء من ذلك، فعندهم شيء من العدل واحترام حقوق الإنسان بالنسبة لبعض البلاد الإسلامية، لكن لا يقال إن ذلك خير من حكم الله أو عدله لا يمكن ذلك، لكن فعلاً عندهم بعض العدل، كما شهد لهم بذلك عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في الحديث في صحيح مسلم قال: {وأنهم أمنعهم -أمنع الأمم- من ظلم الملوك} فالروم وهم الغرب الآن هم أمنع الأمم، والحكومات هناك إلى الآن أمنع وأبعد الحكومات أن تظلم الشعوب والأفراد. هذه فضيلة فيهم تذكر لهم مع كفرهم ومع أنهم أعداء الله ومع بغضنا لهم أشد البغض، لكن لا نظلمهم بأن نقول: كلهم كذابون، وخونة، وليس فيهم عدل ولا خير {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] الله تعالى ذكر هذا وذكر أيضاً بالمقابل {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] هكذا {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113] فليسوا سواء فيهم وفيهم؛ ولهم بعض المزايا كالبشر. فالله تعالى خلق الشياطين شراً محضاً، أما غيرهم من الخلق ففيهم شيء من الخير ومن الشر، والعرب في الجاهلية كان لهم شيء من المزايا أيضاً: من الكرم والإيثار وحماية الجار، وقد أفاد منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأفادت منها الدعوة إلى الله، فمن باب العدل لابد أن تذكر، لكن لا يعني من باب الثناء عليهم مطلقاً أو تمجيدهم أو تحبيبهم إلى نفوس المستمعين -والعياذ بالله! -

المسلمون في الهند

المسلمون في الهند Q يريد كلمة عن إخواننا الهنود وما يعانونه الآن من الحكومة الهندية، وهؤلاء الكفرة الملحدين الهندوس، لأنني أشعر بالتكتم العام لجميع الوسائل حتى الوسائل الهندية؛ وفي الكلام عن تشريدهم ومعاناتهم؟ A الكفار عموماً ومنهم أعداؤنا عباد الأبقار في الهند أعداؤنا، ولا غرابة في أن يعاملونا بما عاملونا به، ويجب أن نكون منصفين، أنا أقول: إن اللوم الأكبر فيما يجري في الهند يقع على المسلمين، لأننا نحن المسلمين حكمنا الهند ثمانية قرون، وفي النهاية لما جاء الإنجليز أخذوا هذا الحكم، وإذا بعباد الأبقار أضعاف أضعاف المسلمين؟ لأننا كنا مشغولين ببناء تاج محل، ونصنع الأعواد الموسيقية، ونؤلف الكتب في اللهو والأدب والمجون، شغلنا عن هؤلاء، فلو دعوناهم إلى الله -وقد كنا نحكمهم- كما فعل الصحابة الذين لما دخلوا بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها جعلوها كلها إسلامية -إلا ما قل- لتغير الحال، فنحن الآن ندفع ضريبة تفريطنا، وندفع ثمن اشتغالنا بالدنيا والزخارف والأضرحة والقصور والمتاع الفاني وتركنا للدعوة، هذا أول شيء. الشيء الثاني: وقع ما وقع لأنه لا تعاطف ولا تراحم ولا تناصح بيننا. فمن منا بمجرد ما سمع هذا الخبر تأمل في عماله فقال كل عامل عندي هندوسي فليرحل فوراً، وأرجو أن يقع مثل هذا -إن شاء الله- لكن ما بلغني شيء من هذا، بل نحن نأتي بهؤلاء الكفرة إلى بلادنا ويستفيدون الخبرة والمال ويستعينون بهذا على تقتيل إخواننا هناك، ويبعثون التبرعات بل هي ضرائب يدفعونها شهرياً من رواتبهم لجمعية هندوسية هناك، ونحن في غفلة ونقول العلاقات الأخوية. وقاتل الله القومية العربية لأنها أتت لنا بمصائب كثيرة هذه منها، فمنذ كان جمال عبد الناصر الهالك زعيم الأمة العربية وكانت القومية العربية؛ في أوجها، من كان أصدقاء جمال عبد الناصر الذين أحبهم الشباب العربي: نهرو في الهند هذا حبيب الأمة العربية، وكان تيتو في يوغسلافيا وكان لومومبا وكان نكروما فنشأت الأمة ونشأ الشباب على أن هؤلاء لهم حقوق كأنهم إخوة، فقالوا: مؤتمر عدم الانحياز، وعقدوا أول مؤتمر لدول عدم الانحياز، وإذا بالهند يطلق عليها زعيمة دول عدم الانحياز، عباد الأبقار لما رأوا العالم إما شرق شيوعي وإما غرب رأسمالي، قالوا: أين البقرة، أين مكان البقرة؟ فيعنون البقرة الثالثة، فجاء المسلمون وصاروا أتباعاً لعباد البقر!! لأننا نحن يجب أن نكون قادة العالم وسادة الدنيا، ويجب أن ننير هذا العالم المظلم بتقوى الله، فالقومية العربية جعلتنا نمضي إلى الهند فإذا بها زعيمة دول عدم الانحياز، فنسينا إخواننا المسلمين في الهند وفي كل مكان، وتغاضينا النظر عن كل ما يصابون به. والآن ومع الصحوة والإفاقة -والحمد لله- وانهيار القومية العربية لا ردها الله، وبقي من آثارها شيء، ولكن نرجو أن تنهار إلى الأبد، يجب علينا أن نراجع أمورنا، ونجعل ولاءنا وبراءنا بحسب العقيدة، وبمقتضى العقيدة ولا بمقتضى الانحياز وعدم الانحياز، لا بمقتضى المجاملات الدولية، والمداهنات السياسية، ولا بمقتضى أي علاقات مادية، وإنما لله وفي سبيل الله. وإذا كنا كذلك فو الله سيغنينا الله من فضله، فالأمة الإسلامية فيها من الخيرات ومن الثروات ومن الطاقات البشرية ما لا يوجد في أي أمة من الأمم، فأين الذين يدعونها وأن تكون أمة ربانية حقاً، وأن تكون أمة مؤمنة حقاً؟! أن تقود العالم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] أين الذين يجمعون طاقاتها كما يجمع هؤلاء طاقاتهم؟ ويجمعون أموالهم لإبادة الإسلام، نجمع طاقاتها لتحارب أعداء الله، من يقف في وجهنا بالله عليكم؟! من يقف في وجه هذه الأمة إذا هي أفاقت واستيقظت؟! نحن رأينا في هذا الحرب الأخيرة، أن كل الدول تجمعت على العراق ولو كانت بريطانيا وحدها لن تنهزم العراق وهم بعثيون وروافض، وفيهم من ترك الدين، وما فيهم إلا من رحم الله، فبالله كيف إذا عدنا كلنا -كل الأقطار التي فيها المسلمون هم الأكثرية أو شبه الأكثرية- لو عدنا جميعاً إلى الإسلام وجمعنا قوتنا وكنا قوة واحدة، هل تغلبنا أي دولة من الدول أو أي تجمع عالمي؟! والله لا يغلبنا، أما ونحن في حالة المهانة والذل فيغلبنا عباد الأبقار، وأصبحت الهند الآن تطالب أن يكون لها مقعد دائم في مجلس الأمن، وهذا يجعلنا -والعياذ بالله- نخضع لها أكثر، ونتوسل إليها إذا كان لدينا قضية أن تصوت معنا، وإذا استخدمت حق (الفيتو) انتهى العمل كله من أوله إلى آخره. لماذا؟! لماذا نرضى لأنفسنا بهذه المهانة؟! لا حل لنا من هذه المشكلة أو غيرها إلا أن نرجع إلى الله، وأن نحيي الجهاد في الأمة كما بدأ في كشمير وإن شاء الله يبدأ في مناطق أخرى بـ الهند يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} هذا هو الحل، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرجعنا إلى ديننا، وأن يردنا إليه رداً حميداً، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال إنه سميع مجيب.

العبر في انهيار الشيوعية

العبر في انهيار الشيوعية قام الشيخ حفظه الله بسرد عرض قصير وموجز لنشأة الشيوعية، والأسس التي بنت عليها نظرياتها، وعن مؤسسي هذه الشيوعية وأشهر رجالها، وكيف استطاعت أن تسيطر على جزء كبير من العالم، ثم تحدث عن بداية تراجعها وانحسارها، ومن ثم كيف كان انهيارها، وكان محور الحديث مركزاً على العبرة والموعظة التي تستفاد من هذا الانهيار.

تمهيد عن الشيوعية

تمهيد عن الشيوعية الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيك ورسولك وعبدك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا من فضلك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوما، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً. وبعد: فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأنعم علينا باتباع سنة وهدي خير الأنام، صلوات الله وسلامه عليه، فإنها نعمة عظيمة لا يعرف قيمتها ولا يقدرها حق قدرها إلا من اطلع على ما عانى العالم منه قديماً، وما يعاني منه حديثاً في ظل العقائد البعيدة عن هدي الله، والمخالفة لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلنا نسمع في هذه الأيام أغرب ما يمكن أن نسمع، وأعجب ما كنا نتوقع أن نسمعه، بل بعضنا لم يكن يتوقع ذلك ولا يخطر له ببال، ألا وهو هذه الأحداث الكبرى التي تجري فيما يسمى بـ أوروبا الشرقية. ولسنا بمعزل عن هذا العالم وعن عقائده وأديانه مهما حاولنا أن نكون بمعزل، وذلك لأن وسائل إعلامنا تكاد تكون -في كثير من الأحيان- صدىً لما تردده وسائل الإعلام العالمية، فما يردد هناك تجده هنا، ويعجب الإنسان ويحار وهو يسمع الأحداث كل يوم، ولكنه لا يعرف تفسيرها، ولا يدري لماذا؟ لأن ما يعرض لديه هو نسخة مطابقة لما يعرض هنالك. أما نحن المسلمين الذين نملك تفسير الأحداث تفسيراً إسلامياً، فإننا لانجد المفسر أو المحلل الإسلامي الذي يعطينا التحليل وراء وقوع هذه الأحداث، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العالم كله متقارب كما ترونه اليوم. وما يدور في داخل المعسكر الشيوعي يهمنا، إذ نحن الآن -في العالم الإسلامي- نصطلي بنار الشيوعية الحمراء في أفغانستان وفي مناطق كثيرة جداً من أنحاء العالم الإسلامي، ومعرفتنا لعدونا هي الخطوة الأولى التي لا يمكن تجاوزها في مقاومته وصد كيده وجهاده في سبيل الله عز وجل، ومن هنا كان علينا أن نتطلع إلى معرفة هذه الأحداث ومعرفة ماذا يدور وراءها. والحقيقة أن الوقت يضيق جداً عن سرد الأمر بالتفصيل ولا سيما ما يتعلق بنشأة الشيوعية، ولماذا نشأت هذه الفكرة؟ ثم كيف طبقت؟ ثم ما هي التعديلات التي جرت عليها؟ ثم التعديل المفاجئ الأخير، وما هي أبعاده؟ وما هي أهدافه؟ والكلام في هذا الموضوع يطول جداً، وإنما أردنا فيما يناسب المقام والمكان هنا أن نحدث إخواننا المسلمين عن بعض العبر التي تهمنا، سواء أكان ما يحدث الآن على يد ميخائيل جورباتشوف تطويراً للشيوعية ووسيلة لتغلغلها في العالم بشكل أكبر كما يرى طائفة من المحللين، أم كان بخلاف ذلك إنقاذاً لها من الانهيار وتغييراً جذرياً لها، وهو كما يرى البعض أنه ما هو إلا عميل أو ألعوبة غربية أرادت تقويض مذهب أمته، وبين هذين التحليلين نستخلص عبراً لا تتغير أياً كانت النتيجة، أو أياً كانت العلة الحقيقية بالنسبة لهذا التغيير المفاجئ، على أنه يجب علينا أن نعطي بعض الضوء على هذا المنهج الخبيث بإيجاز شديد جداً.

الشيوعية

الشيوعية أولاً: الشيوعية أو ما يسمى بـ الماركسية تنسب إلى اليهودي الألماني كارل ماركس وهو يهودي ابن يهودي لا شك في ذلك، وقد أعانه على وضع هذا المبدأ الخبيث رجل آخر يدعى فريدريك إنجلز، وهذان الرجلان هما اللذان وضعا الأساس الفكري للشيوعية بمفهومها الحاضر.

أصول الشيوعية

أصول الشيوعية أما أصولها فهي مأخوذة من عدة أفكار، من أهمها نظرية داروين التي تعلمونها جميعاً، وهي أن الكائنات الحية مرت بسلسلة من التطورات انتهت بالإنسان؛ فهو المرحلة الأخيرة للتطور، وهذا التطور حتمي وجبري، كما يزعم أولئك الظالمون الكافرون الذين قال الله تعالى فيهم: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51]. وثاني هذه المصادر هي: الفلسفة المثالية الألمانية، وقد برع الألمان في الفلسفة النظرية البحتة وتوسعوا فيها، وكان من أبرزهم الفيلسوف الأوروبي الكبير هيجل، الذي أخذ عنه ماركس نظرية النقيض، ولكن هيجل جاء بها نظرية خيالية في علم المنطق كما يسمونها، وجاء ماركس فطبقها على الناس، وقال: إن الناس في صراع، وإن الحياة في صراع، وأساس الصراع -في نظر هذا اليهودي وفي نظر الشيوعية - بين الناس هو الاقتصاد والبحث عن الطعام والشراب، وبناءً على ذلك وعلى الحتمية التي أخذها من النظرية الداروينية، قسموا تاريخ الإنسانية إلى خمس مراحل نوجزها لكم، ولعلكم إن شاء الله تستوعبونها، لتعلموا أن هذا المذهب منافٍ كل المنافاة لما أنزله الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جميع الرسل.

تطور الحياة عند الشيوعية

تطور الحياة عند الشيوعية يقولون: أول مرحلة هي الشيوعية المطلقة "البدائية" فالإنسان -كما يزعمون- في هذه المرحلة بعد أن تطور من مرحلة الحيوان حتى أصبح إنساناً عاش عيشة حيوانية مطلقة، فكانت الشيوعية الأولى وهي الشيوعية المطلقة، فكان الإنسان لا يملك زوجة ولا مالاً ولا شيئاً قط، وإنما يعيش في الغابات هكذا. المرحلة الثانية: ثم انتقل الإنسان إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة الرق -كما يسمونها- وهي وجود أقلية مسيطرة تسترق وتستعبد بقية الناس، وتسخرهم عبيداً ليحرثوا وليزرعوا لها الأرض. المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الإقطاع، وفي هذه المرحلة أصبح الملاك الإقطاعيون يملكون المزارع الكبيرة التي قد تضم عدة مزارع أو قرى يملكها الإقطاعي أو الشريف أو النبيل إلخ، بمن فيها من عبيد ورقيق إلى آخر ما لا نستطيع التفصيل فيه. المرحلة الرابعة: هي مرحلة الرأسمالية، وهي مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، واكتشاف الآلة البخارية وأمثالها، حيث تحول الناس -كما يقولون- من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي الحديث. المرحلة الخامسة والأخيرة: بعد مرحلة الرأسمالية، هي مرحلة الشيوعية الأخيرة، فالعالم عندهم يبدأ بـ الشيوعية وينتهي بـ الشيوعية، والشيوعية الأخيرة لابد أن تحكم العالم. ويهمنا هنا مسألة أساسية وقضية مهمة جداً وهي ما قررته الشيوعية من أن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أمر حتمي، فيسمونه الحتمية، فهو حتمي قسري جبري قهري ليس للإنسان ولا للشعوب أي إرادة فيه، فالتاريخ يمشي بهم هكذا، وسيتحولون رغماً عن أنوفهم، وليس لهم خيار في هذا التحول، وليس لهم خيار في التراجع عنه مطلقاً، وأيضاً سبب التحول من مرحلة إلى مرحلة هو اكتشاف مادي، فعند الشيوعية أن أفكار الناس وعقائدهم وأديانهم وأخلاقهم وفلسفاتهم وآدابهم هي من نتاج الواقع الذي يعيشونه، فإذا تغير الواقع المادي تغيرت الأديان وتغيرت الحياة، والانتقال من مرحلة إلى أخرى هو بسبب مسألة مادية بحتة وليست عقلية ولا ذهنية. فمثلاً: الانتقال من الشيوعية الأولى إلى الرق سببه اكتشاف الزراعة، ويقول هؤلاء المفترون الكاذبون: إن الإنسان في المراحل الأولى كان همجياً يأكل كل شيء، ثم اكتشف الزراعة لأنه رأى الثمار تسقط ثم تنبت، فلما اكتشف الزراعة انتقل حتمياً وبغير إرادته إلى مرحلة الرق، فالذين استرقوا -المزارعين- هم تلك الطبقة أو الفئة القليلة. ثم انتقل الناس إلى مرحلة الإقطاع عندما اكتشفت الآلات الزراعية مثل المحراث، فإذاً الآلة هي سبب نقلة التاريخ، فالتاريخ الإنساني كله يتغير لاكتشاف يكتشف، فاكتشف المحراث فتغير مجرى التاريخ وأصبح العالم كله يخضع لنظام الإقطاع. بعد ذلك اكتشفت الآلات الصناعية؛ فانقلب وجه التاريخ كله أيضاً فتغير وأصبح رأسمالياً. ثم الشيوعية -المرحلة الأخيرة من الشيوعية - أيضاً حتمية لأنها تطبيقاً لنظرية النقيض. والرأسمالية تحمل في ذاتها نقيضها، مما هو نقيض الرأسمالية والرأسماليون الصناعيون يستأثرون بالثروة جميعاً، فتكون النتيجة أن العمال يُضطهدون ويُهضمون، وقد كان ذلك واقعاً أن يثوروا على الرأسمالية، فينشأ من الصراع بين العمال وبين الرأسمالية ظهور القوة الثالثة حسب المنطق الجدلي الجالكسيدي -كما يسمونه- فتنتج قوة ثالثة هذه القوة هي الشيوعية الجديدة متمثلة في دولة البرولوتاريا أي: الدولة العمالية. هذا هو المذهب الشيوعي نظرياً بإيجاز شديد، لكن واقعياً كيف طبق؟؟

الأدلة الواقعية على بطلان مذهب الشيوعية

الأدلة الواقعية على بطلان مذهب الشيوعية أول ما حدث الخلل في هذه الحتميات أن كارل ماركس وهيجل توقعا أن الشيوعية تنجح، وأول ما تنجح في بريطانيا لأنها أكبر دولة صناعية رأسمالية في القرن التاسع عشر، لأنهما كما تعلمون كانا في القرن التاسع عشر، أي قبل مائة سنة أو أكثر فكانت هذه النظريات، وكانت أحوال العمال في بريطانيا تدعوا إلى الرثاء فعلاً، كان النساء والرجال يعملون لمدة ثمانية عشر ساعة تحت الأرض في أنفاق مظلمة ويجرون عربات معبأة بالفحم، من أجل استخراج الفحم لأنه كان الوقود الرئيسي في ذلك الزمن، وكثير منهم يموتون ويدفنون في هذه الأنفاق ليس لهم أي حقوق ولا يؤبه لهم، فقال ماركس: لابد أن العمال سيثورون، فتكون الشيوعية في بريطانيا، لأن حتمية التاريخ هكذا. فأول ما أكذبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأبطل قوله للعالم كله، أن الدولة البريطانية حتى اليوم لم تصبح دولة شيوعية، وإنما نجحت الشيوعية وقامت في دولة زراعية وهي روسيا القيصرية وكانت دولة زراعية، فانتقلت من مرحلة الزراعة إلى مرحلة الشيوعية دون أن تمر حقيقة بمرحلة الرأسمالية. فهذا أول تكذيب للنظرية، نحن نعلم كذبها من كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحتاج هذا عند المسلمين إلى نقاش، لكن نتكلم من خلال منطقهم ومنظورهم هم، لأننا وللأسف الشديد ابتلينا بهذه النظريات في بلاد المسلمين، وسوف نعرض له -إن شاء الله- ولا يزال كثير من المسلمين أو من أدعياء الإسلام المعتنقين لهذه النظرية في عمىً وغفلة عن هذه الحقائق الواضحة، إذاً كان هذا أول ما أفسد الحتمية. الأمر الثاني: أن في عام (1917م) قامت الثورة الشيوعية وحكمت روسيا، فجاء التكذيب الثاني من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما قرره هذا اليهودي وأتباعه، وهو أن المفروض أن تكون الحكومة حكومة عُمالية، فالذي يحكمها المفروض أن يكون العمال، ومع الزمن تتلاشى الدولة نهائياً. والمفروض في الشيوعية الأخيرة ألا يكون هناك دولة على الإطلاق إنما الناس هكذا يعيشون، وكل يعمل حسب طاقته وله حسب حاجته فقط، وليس هناك دولة ولا ضابط ولا نظام، والذي حصل أنه لما حكم لينين ثم استالين شهدت روسيا دكتاتورية فظيعة تسلطية، لم يكن لها نظير إلا ما يذكره الغرب عن هتلر وعن موسليني وعن أشباههما، واستالين أشد منهما ومن غيرهما، فلم تكن هناك أي حكومة للطبقة الكادحة -كما تسمى- بل كانت الحكومة للحزب الشيوعي، بل كان الثراء الفاحش والاستبداد الفظيع والاستئثار الكامل للسلطة وللثروة؛ وكل شيء لأعضاء الحزب، وأما البقية فبقوا في حالة يرثى لهم. ثم جاء الانهيار وجاء التكذيب الثالث من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في واقع الشيوعية، عندما كان من المفروض أن تشمل الشيوعية العالم كله، كان التخطيط أن الشيوعية هي دين المستقبل وهي عقيدة المستقبل، وأنه لن يبقى على وجه الأرض أي دولة إلا وتكون فيها الشيوعية. فمن النكت الظريفة التي في هذا الباب -والتي تعد من نكت التاريخ وهي حقيقة- أنه لما قامت دعوة الإخوة في الهجر التي انطلقت أساساً في هذه البلاد، ثم كانوا هم الجيش الذي كان هو جيش التوحيد؛ وفتح الله على أيديهم هذه البلاد، فلما قامت هذه الحركة تجمع الناس حولها وفي الهجر كانوا يعلمون الناس الأصول الثلاثة والتوحيد والعقيدة ثم ينطلقون للدعوة، ثم كان الجهاد كما تعلمون جميعاً، وقد علقت جريدة البرافدا في روسيا بأن تأثير الثورة الشيوعية وصل إلى وسط صحراء الجزيرة العربية، وها نحن نجد الهجر ونجد الدعاة فيها يترسمون خطى الثورة الشيوعية البلشفية، ولا يمكن للعقل أن يصدقه! ولكن هكذا كل شيء في التاريخ أن الأصل والقاعدة والقانون فيه: هو القانون الذي وضعه ماركس وإنجلز.

ظهور الاشتراكية العلمية

ظهور الاشتراكية العلمية ولو دخلنا إلى جانب آخر من جوانب النقض لوجدنا الشيء العجيب من الناحية الحتمية البحتة، فقد بنت الشيوعية نظريتها على نظرية داروين، وبنتها على أساس أن المادة هي الحقيقة. ولا بأس أن نستطرد في هذا الأمر قليلاً لأن الإخوة على مستوى جيد من فهم هذا الكلام، وكان ماركس يقول: ليس هناك وجود للغيب -عياذاً بالله- أنكر الغيب كله، الوجود الحقيقي هو وجود المادة، والمادة هي الشيء الموضوعي الوحيد، فما هي المادة؟ قال: المادة لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى بيان، فالجدار مادة، والحديد مادة، والجسم مادة، وشيء أمامك تؤمن به وانتهى الأمر، لكن الغيب لا تؤمن به ولا تصدقه، وكان هذا الكلام هو القول السائد والمنتشر، بعد ذلك جاءت نظرية إنشتاين على سبيل المثال، ونظريات علمية أخرى فأصبح تفسير المادة أشبه ما يكون بعلم الغيب؛ لأنك الآن تقول هذا الشيء الذي أمامي مادة. وحقيقة لو أن لدى أحدنا منظاراً يكبر الأشياء بشكل كبير جداً، لا ستطاع أن يرى المادة بشكل آخر، فسيرى الذرة، ويرى النواة، ويرى الإلكترونات وهي تدور حولها -مثلاً- فلا يرى إلا مجموعة من الأشياء تدور حول بعض، فوجدوا بعد أن مات ماركس أن حركة الإلكترونات حول النواة في أي شيء من المادة؛ أنه يشبه حركة المجموعة الشمسية في الفضاء، بشكل مذهل، فما هي الذرة؟ وما هي النواة؟ وجدوا بالعملية الحسابية التي اكتشفها إنشتاين أن الانشطار الذي يحدث بين الإلكترونات وبين النواة هذا يؤدي إلى القنبلة الذرية التي هي مبنية على هذا الاكتشاف. إذاً: كل ما قيل في القرن التاسع عشر كله كلام غير عملي، وكله أشبه -كما يقال- بكلام العجائز أمام العقل الإلكتروني، فليس هناك أي نسبة، ومع ذلك يسمونها الاشتراكية العلمية، وإلى الآن الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي يسمون الشيوعية الاشتراكية العلمية؛ لأنها قائمة على العلم، أما غيرها فهي اشتراكيات غير علمية.

مناطق النفوذ الاشتراكي

مناطق النفوذ الاشتراكي وليس ذلك هو المقصود وإنما نقول بعد ذلك: بعد أن كان مخططاً أن تسود الشيوعية العالم كله، وإذا بـ خريتشوف يضع تطويراً جديداً أو إعادة بناء، وهي التعايش السلمي عندما اتفق واصطلح مع الرئيس جون كندي -الذي كان رئيس أمريكا في ذلك الوقت- على مبدأ التعايش السلمي، والحرب الباردة بدلاً من الحرب الساخنة، فبدلاً من الصواريخ تبقى الإذاعات والصحف، كل من المعسكرين يطعن في الآخر. ثم تلا بعد ذلك اقتسام مناطق النفوذ، وقنعت الشيوعية أنها لن تسيطر على العالم، وأكبر المفكرين والمحللين الإسلاميين في موضوع الشيوعية في تلك الفترة هو الأستاذ/ سيد قطب رحمه الله، كان يتوقع أن تسيطر الشيوعية على معظم العالم، وكان هذا هو المتوقع لدى عامة الناس. وتعلمون أنها بالفعل حاولت أن تسيطر على أكثر العالم، وقد حكمت أوروبا الشرقية جميعاً كما تعلمون، وكانت الأحزاب الشيوعية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا من أقوى الأحزاب جميعاً، ويمكن أن تصل إلى الحكم. ثم في العالم الإسلامي وهو أخطر وأهم منطقة يكون الصراع عليها نجد أن الاشتراكية أعلنت عندما أعلن الزعيم الهالك جمال عبد الناصر الاشتراكية مبدأً عاماً، وكانت الدعايات الضخمة ليل نهار، والمليارات تنفق على الدعايات الاشتراكية ومبادئها، فكانت أيضاً مرحلة تطبيقية واضحة وواقعة. وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان أصله حزباً قومياً، والذي حكم بلاد الشام والعراق، أعلن وأدخل الاشتراكية البلاد فأصبح شعاره ثالوثياً: وحدة، حرية، اشتراكية، وأيضاً دول المغرب العربي: الجزائر -مثلاً- ثم تلتها بعد ذلك مصر، ثم جاءت ليبيا فكانت أيضاً أن أعلنت الاشتراكية، على اختلاف في المناهج. وفي السودان الحزب الشيوعي كان من أقوى الأحزاب، حتى إنه حكم السودان وقام بثورة في السودان، وكاد أن يحكمها، لكن النميري رجع مرة أخرى وعادت السلطة له. وفي جنوب الجزيرة العربية الشيوعية حكمت وما زالت إلى الآن، وفي إندونيسيا قامت ثورة كبيرة جداً وكادت أن تحكم هذا البلد المسلم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دمرهم وثار عليهم الشعب، وقضي عليهم والحمد لله، ولكن بقي الشيوعيون لهم قوة لا يستهان بها. وفي باكستان -كان رئيسها ذو الفقار علي بوتو - كان أيضاً اشتراكياً وينادي بـ الاشتراكية، وكانت الأحزاب الشيوعية مثل الحزب الشيوعي البلوتوستاني كانت قوية، وكانت تحاول وتجتهد أن تكون باكستان دولة شيوعية، وكذلك في بلاد الهند. والصين وهي أكبر دولة آسيوية أصبحت دولة شيوعية بالكامل، وما بقي إذاً إلا مثل اليابان، وفيتنام الجنوبية، وكذلك المناطق التي تسيطر عليها أمريكا سيطرة قوية تماماً. إذاً: كادت الشيوعية تماماً أن تجتاح العالم، وحتى في أمريكا الوسطى والجنوبية! كانت الشيوعية موجودة، إما أنها تحكم أو أن لها أحزاباً قوية، وهكذا كادت الشيوعية أن تطبق على العالم.

العبرة مما سبق

العبرة مما سبق ومن العبر التي يجب أن نأخذها هنا، أن الغرب لا يملك عقيدة تواجه العقيدة الشيوعية، ولذلك لجأت أمريكا وحلفاؤها إلى اختلاق أحزاب اشتراكية وأحياناً الشيوعية لكنها أمريكية، لما رأوا أن الشيوعية تكاد أن تنتشر وتكتسح العالم، أصبحت أمريكا بنفسها ترعى أحزاباً الشيوعية وتربيها، ثم تحكم المنطقة فتكون قد استهلكت الشعارات، فأخذت الشعار، لكن الحكام الماركسيون الاشتراكيون هم في الحقيقة أمريكيون، يتوجهون أيضاً بتوجه أمريكا، وذلك أيضاً بسبب طغيان هذا المبدأ. الحيلة الأخرى التي لجأ إليها الغرب أنه لجأ إلى إشاعة الإباحية والانحلال في الشعوب التي يخشى عليها من الشيوعية، لأن الانحلال يضعف أصحابه عن اعتقاد أي عقيدة -أياً كانت- وكما هو معلوم أن الشيوعية عقيدة ومبدأ وثورة، ولهذا حرصت أمريكا أن تكون الدول التي تدور في فلكها أو مواليةً لها أن تكون دولاً منحلة مترفة، بعيدة كل البعد عن كل منهج يمكن أن تحمله، ولا يمكن أن تتحمل أي عقيدة، فهذا يعطي نوعاً من الحصانة ضد تغلغل الفكر الشيوعي، لأن الناس ليس عندهم أي استعداد لقبول أي مبدأ، وإنما يعيشون لشهواتهم ويفكرون في شهواتهم، ويمضون أي شيء من أجل هذه الشهوات، ثم بعد ذلك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم بالمرصاد.

محاولة إعادة البناء

محاولة إعادة البناء كانت مرحلة الثمانينات الهجرية أو الستينات الميلادية هي أشد مرحلة، وكانت الدولة التي لا تطبق الاشتراكية تكاد تطرق رأسها من الحياء والخجل أمام العالم، كأنها دولة رجعية متخلفة؛ وهكذا توصم في جميع المحافل الدولية التي تسيطر عليها الشيوعية، ثم شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وانقلبت المعايير والموازين وجاء برجنيف، وللعلم فقد كان ماركس يهودياً، ولينين يهودياً، واستالين يهودياً، وخريتشوف يهودياً، وبرجنيف يهودياً، وجورباتشوف ليس عندي علم به لكن سيكشفه الزمن، لكن علي أي حال كلهم يهود، فجاء برجنيف وهنا نأتي إلى نقطة مهمة جداً، فوجدت الشيوعية نفسها أنها ستنهار فعلاً من الداخل بسبب الإلحاد، وهذا من أعظم عوامل انهيارها، أنها لا تؤمن بالله، ولأنها لا تعبد الله، ولأنها تعلم الناس الإلحاد وتربيهم عليه، ولذلك تُبُنيَّ ميخائيل جورباتشوف من قبله برجنيف وأتباعه ليقود المرحلة الجديدة للشيوعية.

البناء الديني

البناء الديني من أهم غرائب الدنيا التي سجلها التاريخ: أن زعيم أكبر دولة شيوعية في العالم، يحتفل بمرور ألف عام على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية فاحتفل الاتحاد السوفيتي بمناسبة مرور ألف سنة على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية، ثم أعقب ذلك قبل شهرين أن جورباتشوف بنفسه وهو صنيعة برجنيف ومن بعده، وذهب وزار البابا في الفاتيكان وقابله، وهذا أيضاً من الغرائب والعجائب إذ كيف يحصل هذا؟! وهم الذين يعتبرون أن مجرد كلمة دين رجعية. فالدين كما قال كارل ماركس: أفيون الشعوب الذي يخدرها، يقولون قبحهم الله -وهذا القول يتردد في العالم الإسلامي ولكن بلهجات أخف- يقولون: إن الدين شيء اصطنعه الإقطاعيون والملاك وأصحاب السلطة والاستبداد ليخدروا به الشعوب، وليأكلوا دنياهم، ويعدونهم بالعوض في الدار الآخرة. وهذا كان واقع رجال الدين من النصارى، كما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] فهذا حال النصارى، لكنهم يعممون الكلام على الدين كله، فيقولون هذا هو الدين. لكن الآن انقلب الحال هذا إلى الاعتراف بالدين وكما في كتاب جورباتشوف " إعادة البناء البروستريكا " يقول: 'إن القيم الروحية ضرورية ولابد منها' سبحان الله!

البناء الأسري

البناء الأسري ومن العجائب التي لن تصدقونها وقد قرأتها في الكتاب بنفسي أن جورباتشوف ينتقد أو يريد إعادة الحساب في موضوع المرأة، كيف؟! الشيوعية التي تقول: إن العالم بدأ بـ الشيوعية البدائية التي لا يملك المرء فيها زوجة أبداً، والمرأة كانت كالرجل تعمل، وتنتهي بـ الشيوعية الأخيرة التي تحكم العالم وتسيطر عليه، والتي تقول: إن المرأة كالرجل في كل شيء، الشيوعية التي تفتخر بأنها أخرجت النساء إلى المعسكرات العمالية والمصانع، وأنتجت وبلغت الذروة -كما يقولون- في كل شيء. غورباتشوف يقول: لا، كنا مخطئين، وكانت ظروف الحرب من جهة، وكان واقعنا ونحن نريد أن ننشئ البلد اقتصادياً من جهة أخرى، جعلنا نستعجل ونخرج المرأة؛ ونعطي قومية المرأة شكلاً أكبر مما تستحق، أما الآن ونحن نعيد البناء فلابد أن نفكر في وظيفة الأمومة وبوضع المرأة في البيت. نعم، يا دعاة تحرير المرأة في كل بلد وفي كل مكان! هذا جورباتشوف بنفسه يقول: نعم، نحن أخطأنا، ولم ندرك حقيقة وظيفة المرأة، ولهذا فإن من ضرورات إعادة البناء: إعادة بناء الأسرة سبحان الله! ماذا كان الشيوعيون يقولون عن موضوع الأسرة؟! الأسرة تقليد برجوازي، تقليد إقطاعي، وعبارات سخيفة لا أريد أن أثقل بها عليكم، حتى لو فتحت إذاعة من إذاعات الدول التي ما زالت حتى الآن شيوعية، وتدندن للشيوعية البرجوازية من بين كل عشر كلمات تجد كلمة برجوازي، والمهم أي كلام، فيقول: الأسرة تقليد برجوازي. وكان ماركس يقول: أصل الأسرة ليست شيئاً حقيقياً، أي: أن الأسرة خلقها وأوجدها العامل الزراعي فقط، أي: عندما كان في العصر الزراعي كان الرجل يزرع والمرأة تزرع معه، وهو يجني الثمار وهي تطبخ، فمن هنا وجد ما يسمى الأسرة فقط، لكن في عصر الصناعات والآلات فالرجل يصنع قطعة والمرأة تصنع قطعة ويضعونها في الجهاز ويشتغل، هذا يعمل من ناحية وهذه تعمل من ناحية أخرى، ما الضرورة الآن لوجود أسرة! فألغى ماركس الأسرة تماماً! ولما جاء استالين قال: لا يمكن للناس أن يعيشوا هكذا، فقال: الأسرة البرجوازية هي الأسرة التي تعيش بأخلاق العصر الزراعي أو بالدين، لكن نحن نستطيع أن نوجد أسرة تقدمية وعلمية، كيف؟ قال: أن تغير المرأة النية، فقد كان الشخص يتزوج لكي ينجب أطفالاً ويعيش معهم في عصر الانحطاط والتأخر والرجعية أيام الأديان، أما الآن فلا بد أن تغيروا النية، وانووا عندما تتزوجون أن تنجبوا أبناءً عماليين، يصبحون عمالاً في المصانع وأعضاء في السوفيتيات حتى ينهض البلد ويتقدم ويحقق الشيوعية في العالم، فأعاد تكوين الأسرة لكن بشكل آخر وباسم آخر. الآن غورباتشوف يقول: حتى الكلام هذا لا فائدة منه، بل الحقيقة التي لابد أن نعترف بها أن الأسرة لابد أن تقوم، وأن المرأة لابد أن تعرف دورها المهم وهو أنها أم، وتكون في البيت. والمجال لا يتسع لكي أذكر لكم كلامه بالنص، المهم أنه قال: من أهم الأشياء أن ترجع الأسرة، هذا الكلام سيترتب عيه أن البناء الشيوعي بأكمله سينهار، والحقيقة أنه على اختلاف المحللين في مسألة إعادة البناء، ليس المهم عندنا السبب بالضبط أو النتيجة أياً كانت، بل يهمنا أن إعادة البناء منطقياً تبتدأ من هدم الموجود، فلابد أن يهدم الموجود أولاً. ففي العالم الإسلامي هل تعيش الأحزاب الشيوعية أو الاشتراكية هذه المرحلة؟ هل نحن الذين واقعنا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} وفي رواية: {ولو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتموه} والعياذ بالله! عندما غزيت الأمة الإسلامية بهذه الفكرة وبهذا المذهب واعتنقته، وأصبح يحكم أكثر العالم الإسلامي، كيف نظر العالم الإسلامي إلى عملية البناء؟ اختصاراً للوقت ولكي آتيكم بمثال حي حاضر، أقول لكم ماذا حدث في الجزائر منذ أسابيع الحزب الشيوعي الجزائري جمع نساء عدة، وأخرج ثلاثة آلاف امرأة متظاهرة من الرفيقات، لأن العضو في الحزب الشيوعي يسمى رفيقاً، فأخذوا ثلاثة آلاف رفيقة أو رقيقة، وقالوا لهن: اخرجن وطالبن بإلغاء قانون الأسرة، أي عكس ما يجري في الاتحاد السوفيتي تماماً، إلغاء قانون الأسرة لأنه مشتق من الشريعة الإسلامية أو لأن فقرات منه مأخوذة منها، فخرج الثلاثة آلاف واتجهن إلى مبنى البرلمان، ورفعن الشعارات الشيوعية وطلبن بإلغاء قانون الأسرة، فماذا كانت النتيجة؟ تداعى أهل الغيرة والحمية والإيمان، وهبوا من كل جهة، فخرج مليونان ونصف المليون من المتظاهرين من بينهم مليون ونصف امرأة خرجن في العاصمة وبعض الولايات يطالبن بالحجاب، ونشرت الصحف صورهن والتلفزيونات الغربية ذهلت من هذا المنظر، وكن يلبسن الحجاب، كما ترون النساء المغربيات في الحج والعمرة لا يبدو منهن إلا العينين، ويرفعن اللافتات العريضة: احكمونا بالإسلام، شعب الجزائر مسلم، فصعقوا وذهلوا. ولكن هل قالوا: يحق للأمة الإسلامية إعادة البناء؟ لا، بالنسبة للاتحاد السوفيتي بحق له إعادة البناء وإعادة النظر فيما هو سائر فيه، أما المسلمون فلا يحق لهم إلا أن يعيشوا تبعاً وأذلاء وموالين ورقيقاً للشرق أو الغرب، ولا يحق لهم إلا ذلك. والصحف الفرنسية بالذات صعقت وذهلت وعلقت تعليقات كبيرة، وبعد أن تأكد رئيس فرنسا من حقيقة الموضوع؛ قال: هذا أمر لا يمكن السكوت عليه، ولو أن هؤلاء الأصوليون وصلوا إلى السلطة لتدخلت عسكرياً كما تدخل بوش في بنما، فهذا لا يمكن! لكن أن تغير روسيا أو تغير بريطانيا من رأسمالية إلى شيوعية أو من شيوعية إلى رأسمالية هذا ممكن، لكن الأمة الإسلامية تقلب من أمة اشتراكية إلى إسلام فهذا لا يمكن أبداً!

من نتائج إعادة البناء

من نتائج إعادة البناء وهنا نقف على عبر عظيمة يجب أن نستنتجها، ومن أهم ما يجب أن نعلمه من الأحداث الكبيرة؛ ومن القضايا الرئيسية في مشروع البناء الذي نادى به غورباتشوف قال: يجب أن يقدم مؤتمر الأمن الأوروبي من السنة القادمة إلى هذه السنة، ويكون توحد أوروبا -الذي سيكون بعد سنتين- يبتدأ من هذه السنة ويشارك فيه الاتحاد السوفيتي، بمعنى أن أوروبا سوف تكون بعد سنتين دولة واحدة تتكون من عدة ولايات، مجموع سكانها ثلاثمائة وخمسة وعشرين مليوناً، ثم ينضم إليها الاتحاد السوفيتي وسكانه قرابة ثلاثمائة مليون، فيصبح المجموع ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً ويصبح لها برلمان موحد وكأنها دولة واحدة، وداخل هذا البرلمان الكبير الأحزاب الاشتراكية هي المسيطرة. ومن العجائب أنه رغم كل هذه الانهيارات المتتالية في الدول الشيوعية للأحزاب التقليدية إلا أن رؤساء الأحزاب هم في الأصل شيوعيون، والتغيير هذا له ما بعده، ووراءه مؤامرة كبرى، فإذا صار ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً تقريباً؛ فإن أمريكا والغرب سيصيرون شيئاً واحداً. وأعلن الاتحاد السوفيتي قبل شهرين أو ثلاثة شهور -تقريباً- أنه سيسحب جميع قواته من داخل الاتحاد السوفيتي، وعددها أكثر من ستمائة وسبعين ألف، وأعلنت أمريكا أنها سوف تسحب قواتها من أوروبا الغربية وعددها ستمائة ألف، سبحان الله! وماذا يبقى؟ إذا كانت أوروبا والاتحاد السوفيتي تعدادهما ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً، وانضم إليها الثلاثمائة مليون أيضاً في أمريكا وكندا، يصبح تعدادهم ألف مليون، أي أن هذه القوة البشرية ستكون أقوى قوة في العالم بشرياً، وأقوى قوة في العالم اقتصادياً، وأقوى قوة في العالم عسكرياً، فهذه لما تصبح قوة واحدة وتتوجه بتوجه واحد، فمن الضحية؟! ولابد أنكم قرأتم أنه من أهم خطوات غورباتشوف في إعادة البناء السماح لليهود السوفييت بالهجرة إلى إسرائيل، وهذا مؤشر وله ما بعده، أيضاً الدول الشرقية الأخرى طولبت جميعاً بنفس العمل -وقد بدأت بعضها- بعمل لجنة تقوم بإعداد هذه العملية، وبدءوا بالسماح لليهود الشرقيين بالهجرة إلى إسرائيل. يقابل ذلك أن الجهاد الإسلامي في فلسطين المسمى (الانتفاضة) يخسر كل يوم ثلاثمائة ألف حالة إجهاض، والقتلى، والجرحى بالآلاف، وكل يوم يسقط عدد من القتلى، ويعوض إسرائيل أن يتدفق عليها كل يوم مجموعة كبيرة من الروس وغيرهم. آخر إحصائية نشرت قبل أسابيع تقول: إن عدد اليهود الروس الذين وصلوا في العام الماضي أكثر من ثلاثة وسبعين ألف يهودي، أي أكثر مما يفقده المسلمون في هذا الجهاد، وسيزيد العدد أكثر إذا تحسنت الأحوال أكثر. ومن أهم شروط أمريكا لإعادة البناء المطالبة بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، ويعقب ذلك بلا شك -وهذا أمر متوقع بإذن الله- انهيار للأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي، لكن ماذا ستكون النتيجة إذا انهارت الأوضاع والنظم الموالية للغرب في العالم الإسلامي؟

عبر ودروس من الواقع

عبر ودروس من الواقع حادثة الجزائر هذه نأخذ منها العبرة، فما دام أنهم استطاعوا أن يحركوا هذه الملايين فممكن أن يصلوا، ولو انهارت النظم الموالية للغرب وجاءت نظم إسلامية كما يسمونها أصولية، ماذا ستكون النتيجة؟! لم يبق هناك أي حل إلا حل واحد فقط وهو المواجهة العسكرية، والتدخل العسكري المماثل. لأن الأحزاب العلمانية والاشتراكية والشيوعية والنظم الموالية لهم ضاغطة وقائمة وتحمي إسرائيل وتدعم وجودها، والطوائف الباطنية التي تشقق العالم الإسلامي والطوائف الصوفية، وغير ذلك قائمة بجهود، فإذا سقط القناع وسقطت هذه الجهود والنظم، فماذا يبقى أمام الشرق والغرب وهم أقوى وأكثر العالم عدداً إذا توحدوا؟ إذاً: لا يوجد حل إلا التدخل العسكري المباشر. إذاً: ممكن أن تتكرر حملة صليبية جديدة على العالم الإسلامي، ونحن نعطي هذا كمثال؛ لأن هذا المثال قد ورد وعرفه العالم وسمعه، فمثلاً فرنسا ستضطر أن تنزل إنزالاً عسكرياً في الجزائر لو أن المسلمين هناك وصلوا إلى أن يحكموا البلد، وقس على ذلك بقية البلدان، فماذا ستكون الحالة؟! وخاصة أن المصالح الغربية ستتضرر، بل قد تنعدم إذا وعى المسلمون دينهم ورجعوا إلى عقيدتهم وأصبحوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم، فهنا ستكون الملاحم العظيمة. ونحن نقول: لعل في ذلك خيراً، وهذه مجرد توقعات، والله أعلم كيف ستكون النتيجة، لكن نقول: إذا حصل ذلك فلا نتيجة لذلك إلا الملاحم التي ستكون بيننا وبين أولئك القوم، ونقول هذا الآن ولا نستعجل الأحداث ولا نستبقها، ولكن نقول: لنأخذ العبرة والعظة، أين نحن؟ هل واقع الأمة الإسلامية -الآن- يهيئها لمقاومة ومواجهة هذا الزحف الهائل بهذه القوة الرهيبة؟! وإذا كانت حرب النجوم أو أشباهها بعد عقد أو عقدين، ولو بعد مائة سنة، إذا أصبحت مسخرة فقط لحرب المسلمين، وتعاونت القوتان مع بعضهما؛ وأصبح العدو المشترك هو هذا العالم الإسلامي! فهل الأمة الآن تربي أبناءها ذكوراً وإناثاً، وتوجه وسائل إعلامها وشعوبها لهذا الخطر الداهم ولمقاومته، وهنا سؤال يطرج نفسه وهذا السؤال الكبير يفرض نفسه ونحن في غمرة العاطفة والابتهاج بسقوط هذا النظام الخبيث. أقول: نحن المسلمين دائماً ندغدغ بالعواطف، مع أننا نحمد الله ونشكره على انهيار هذه النظم، وسوف ينهار الكفر كله، وسوف يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار -بإذن الله- وسوف نغلبهم، وسوف ندخل روما بإذن الله، وهذا لا شك فيه، لكن ماذا أعددنا؟! {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] الدين منصور، ولكن على يد من؟ إن لم يقم به من سمع ووعى وعقل؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يذل هؤلاء بأولئك الكفار، ثم يستخلف من بعد ذلك قوماً يحبهم الله ويحبونه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] هؤلاء الذين سينصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أما من يواليهم، ومن يأخذ أنظمتهم، ومن يتبع طرقهم في الأحوال الاقتصادية أو الاجتماعية، أو يعتبرهم قدوة له، وأساتذة وقواداً ورواداً فهؤلاء جديرون بأن يسقطوا في أحضانه، وجديرون بأن يلفظوا من الشرق ومن الغرب، أي أن الأمة الإسلامية ستلفظهم، والغرب سيلفظهم -أيضاً- إذا لم يقوموا بالدور المطلوب، فإذا رأى الغرب أنه فشل في تحقيق المهمات التي يريدها فمهما قدم لهم من تضحيات، فإنه يركلهم كما تركل الحذاء ويأتي بغيرهم. ولهذا نقول: اتقوا الله يا أولياء المسلمين، اتقوا الله يا من تنادون بـ الاشتراكية وما تزالون تنعقون بها في بلاد الإسلام، واتقوا الله يا دعاة العلمانية، واتقوا الله يا دعاة الربا، واتقوا الله يا دعاة التحررية والديمقراطية، وأشباهها مما أوجعتم به قلوب المؤمنين وأفئدتهم، اتقوا الله في هذه الأمة، وثقوا بأن هذا الدين باق منصور، وصدق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله} فنحن ننتظر ذلك بإذن الله تعالى. وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم العظة والعبرة مما نسمع ومما نرى، وأن يجعلنا له جنوداً مخلصين صادقين، وأن يعز بنا هذا الدين، وأن نكون وسيلة لإيقاظ هذه الأمة اللاهية في شهواتها، العابثة في ملذاتها لتعرف عدوها، وتعرف ما قيمة دينها، وتجاهد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتعرف أنها خلقت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، ولم تخلق لتقلدهم في ملاهيهم وألاعيبهم ومسارحهم ومراقصهم، وتعيش كما يعيشون حياة البهيمية والانحطاط، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحقق ذلك، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيب الماركسية من الحداثة

نصيب الماركسية من الحداثة Q قال الدكتور محمد مصطفى هداره في محاضرته القيمة في مؤسسة الملك فيصل الخيرية بـ الرياض عن الحداثة، والمحاضرة هذه أعيدت مرة أخرى ثم طبعت في كتاب نحو أدب إسلامي، طبعته ووزعته أم القرى، ولعلكم قرأتموه إن شاء الله. يقول الدكتور محمد مصطفى هداره: والحقيقة هي أن الحداثة أخطر من ذلك بكثير، فهي اتجاه فكري أشد خطورة من اللبرالية ومن العلمانية ومن الماركسية وكل ما عرفته البشرية من اتجاهات ومذاهب هدامة، ذلك أنها تتضمن كل هذه المذاهب والاتجاهات، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني أو النقد الأدبي، ولكنها تعم الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على السواء. السؤال: ما هو نصيب الماركسية من الحداثة، وما هو موقف الحداثيين بعد انهيار الشيوعية؟ A هذا سؤال مهم جداً، وكنت أريد أن أتعرض له في أثناء حديثي، لكن ما قضيناه هو ساعة لا يمكن أن تستوعب الكلام عن الحداثة وإعادة البناء. فـ الحداثة هي جزء من إعادة البناء وتعني الحداثة بالنسبة لـ غورباتشوف التغلغل الأدبي داخل الغرب، أي: لا نستطيع أن نقوم بثورة حمراء، عندما كانوا يقولون: يا عمال العالم اتحدوا، لم يكن هناك عمال لكي يتحدوا، لكن الآن يتغلغل داخل أوروبا الغربية وداخل العالم عن طريق الحداثة. وهناك مفكر شيوعي حداثي فرنسي اسمه هنري لوفيفر له كتاب " ما الحداثة " ويقول في كتابه هذا: إن الحداثة هي ظل الثورة الغائبة هنا والناقصة هناك - ويقصد بـ (ظل الثورة الغائبة هنا) أي في باريس و (الناقصة هناك) أي في موسكو - الحداثة تريد الوصول إلى الشيوعية النهائية بأسرع مما تريده الثورة الحمراء الدموية. ولذلك فـ الحداثة تعتمد على شيء مهم جداً -كما تعلمون- وهو العاطفة لا العقل، اقرأ أي قصيدة حداثية، وحاول أن تحللها بعقلك، إذا قلت: أن هذا مشبه وهذا مشبه به، وهذا مجاز فإنه سوف يسخر منك ويقول لك: هذا كلام سخيف، وهذا كلام غريب، وهذه كلاسيكية وهذا تقليد، لكن القصيدة الحداثية تقرؤها ولا تفهم منها شيئاً، والقصة الحداثية تقرؤها ولا تفهم منها شيئاً. يقول: لأننا لم نعد نخاطب القوالب العقلية الجامدة، وهذا ما يقوله الشيوعيون: إن كلام كارل ماركس ولينين كانت قواعد علمية، قواعد مقننة مقرة ذهنياً، والآن العالم لا يحتمل الفكر المقنن، العالم الآن يجري ويبحث ويلهث ووراء عاطفة، وراء خيال بعيد عن إطار العقل. ولهذا يقولون: إن غاية الإنسان وحقيقة الإنسان في شيئين، الأول: الحلم، والثاني: الجنون، وفرويد عبر عن ذلك بالعقل الباطن، والحداثيون يقولون: الجنون، ولهذا زعماء السيريالية في العالم والدادية والتكعيبية وكل المدارس الحداثية كلهم من مدمني المخدرات، لماذا؟ لأن المخدرات تجعل الإنسان يفقد العقل وتجعله يعيش في أوهام الخيال. وهذا هو الشعر الذي كان يأتي به شعراء الحداثة كـ برايكون وأمثاله، ويأتي بشعر غامض وذلك بعد أن يحشش، وهذا الشعر غير مفهوم وتنطبق عليه صفات السريالية والحداثة. لكن الشعر الذي يمليه العقل يكون فيه علاقات عقلية أو ربط عقلي بين أجزائه وهذا لا يريدونه، فإذاً عملية البناء تشمل التغلغل داخل المجتمعات الغربية بهدم القوالب العقلية، سواء ما كان منها في الاتحاد السوفيتي أو في خارج الاتحاد السوفيتي، فـ الحداثة موظفة توظيفاً خاصاً لأغراض البروستريكا أو إعادة البناء.

البديل الذي ينادي به من يثور على الشيوعية

البديل الذي ينادي به من يثور على الشيوعية Q لا شك أن من أسباب قيام الشيوعية ردة الفعل عند الرأسمالية، شأنها في ذلك شأن جميع المذاهب الفكرية، إلى أن يقول: فما هو البديل الذي ينادي به الآن من يثور على الشيوعية، لا سيما أن جميع الفلسفات والنظريات قد أفلست؟ A البديل الآن الذي ينادى به أن وظيفة الدولة ليست العقيدة، يقولون: الدولة ليست وظيفتها العقيدة -وهذا كلام مخالف لكلام كارل ماركس ولينين، الذين يقولون: وظيفة الدولة هي العقيدة- الآن وظيفة الدولة هي الرفاهية، فكل العالم الآن الشرق والغرب يبحثون عن الرفاهية، وعلماء السياسة -وبعض الإخوة في كلية الآداب يدرسون هذه النظريات- يقولون: إن الدولة الحديثة وظيفتها الأساسية تحقيق الرفاهية لشعبها، أما التركيزعلى العقيدة والتأكيد على العقيدة فهذا كلام مضى. فحدثت عدة حوادث أرغمت غورباتشوف على ذلك، نذكر منها حادثتين. الحادثة الأولى: حادثة الإشعاعات النووية التي تسربت من تشر نوبل هذه الحادثة جعلت الاتحاد السوفيتي يقف عاجزاً لا يستطيع أن يعمل مضاداً للإشعاعات؛ فاستعان بالتكنولوجيا الغربية. الحادثة الثانية: الزلازل التي حدثت في أرمينيا، وكان الاتحاد السوفيتي الذي ينافس أمريكا على غزو الفضاء، لم يستطع أن يأتي بحراثات لنشل الجثث ونشل الضحايا، فاستعان بالأجهزة الغربية. هاتان الحادثتان جعلتا غورباتشوف يعلن أننا مفلسون في التكنولوجيا، وكذلك انهيار البلد اقتصادياً واحتياجه إلى القمح واحتياجه إلى السكر. أحد الصحفيين العرب ذهب إلى موسكو لكي ينظر إلى ما حدث من تغيير وما هي أسبابه، فقال: لا يوجد سكر ولا قمح، ولذلك يرفع غورباتشوف شعار الرفاهية كما يرفعها بوش أو غيره. والبديل الآن ليس بديلاً عقائدياً وإنما هو بديل اقتصادي بحت، فالدولة التي تحقق أكبر قدر من الترفيه لشعبها هي الدولة النموذجية المثالية، هذا بالنسبة لشعبها، أما خارج شعبها فالقوة العسكرية هي الأساس، ولهذا روسيا رغم انحطاطها في كل شيء إلا أنها متفوقة جداً في مجال واحد وهو المجال العسكري.

السر في انهيار الشيوعية

السر في انهيار الشيوعية Q ما هو السر في انهيار الشيوعية في هذا الوقت بالذات، وفي جميع البلاد الشيوعية وكأن الأمر يسير حسب خطة مسبقة؟ A أنا ضربت للإخوة فيما سبق، مثل تمثيلية تعرض لمدة ثلاث ساعات، فانتهى الوقت وبقي من المسرحية فصلين أو ثلاثة، فقاموا بعرض الباقي باللقطات السريعة، أي فعلاً لينين غير، وبرجنيف غير، ثم قالوا: غورباتشوف يمكن ألا يثبت، ويمكن ألا يأتي زعيم آخر تتوفر فيه جميع الصفات، فبدأت الحركة سريعة جداً، وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وأطول شيء رومانيا بقيت حوالي شهر وانتهت، فهي حركات مسرحية درامية كما يعبر المسرحيون. فلا شك أن ذلك يسير على خطة محكمة مبيتة، فمن غير المعقول أن تكون صدفة، قالوا: الظلم، والظلم موجود من البداية، ثم يقول: اهترأت الأحزاب وتآكلت الثورة، التآكل موجود، ولكن أن تتآكل وتسقط في ظرف أسابيع متتالية فهذا مستحيل؛ إلا أن يكون بخطة محكمة مدبرة.

موقف اليهود من انهيار الشيوعية

موقف اليهود من انهيار الشيوعية Q يقول الأخ: ذكرتم في كتابكم العلمانية أن اليهود يستغلون الأحداث ولا يصنعونها، فما هو موقف اليهود من انهيار الشيوعية كما ترون؟ A اليهود قد يصنعون بعض الأحداث، لكن من الخطأ أن نقول: إن اليهود يصنعون كل الأحداث ويسيرون كل التاريخ كما في كتاب " أحجار على رقعة الشطرنج "، لا ليس كذلك، لكن نقول: إن اليهود يستغلون أي حدث وهذا هو الواقع، فاستغل اليهود هذه الثورة وإعادة البناء بلا ريب. وذكرنا لكم مثالاً على ذلك وهو هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل، وهذا بعض النماذج، وسوف تسمعون بعد ذلك الشيء الكثير، لأن الاتحاد السوفيتي كما ذكر غورباتشوف في إعادة البناء: الغرب يتهموننا بأنا متحيزون مع العرب ضد إسرائيل، ونحن أول دولة اعترفت بإسرائيل. وهذا في نفس كتاب إعادة البناء، فهو صادق وهو الكذوب فعلاً، أول دولة اعترفت بإسرائيل هي الاتحاد السوفيتي وهي معها، لكن اللعبة كانت أن يكون أحد الطرفين هنا والآخر هناك في التعامل مع العرب وإسرائيل، واتفقنا أن نغير اللعبة وأن نغير اللاعبين، وأحياناً لابد من تغيير اللاعبين.

انتهاء الشيوعية

انتهاء الشيوعية Q هل تعتقد أن انهيار الشيوعية عالمياً في أوروبا الشرقية وروسيا يدعو إلى انهيار الشيوعية في العالم العربي، رغم اتهامهم للشيوعيين في روسيا وفي شرق أوروبا بالرجعية؟ A في فرنسا كان يقال: (لا تكونوا ملكيين أكثر من الملك) أيام لويس الرابع عشر، فعندنا الآن شيوعيون أكثر من الروس، فلا يزال هناك في العالم الإسلامي من يقول: هذا غورباتشوف عميل للغرب، أو هدم الشيوعية وهي في أوج قوتها ويمكن أن تستمر، أي: يرى أن إعادة البناء ليس لها أي داعٍ، نعم يوجد هذا الشيء لكن في النهاية سوف تسقط بلا ريب جميع الأحزاب إن شاء الله.

دور الجهاد الأفغاني في سقوط الشيوعية

دور الجهاد الأفغاني في سقوط الشيوعية Q ما هو دور الجهاد الأفغاني في انهيار الشيوعية؟ A ليس هناك شك في أن الجهاد الأفغاني كان له تأثيره المباشر في عملية إعادة البناء، ولا أقول انهيار الشيوعية بإطلاق فيفهم أنها انهارت بسببه؛ لأنني قلت: إن المسألة فيها نوع من التغيير ونوع من المكر الجديد، لكن لا يوجد شك في أن الجهاد الأفغاني الإسلامي كان له أثر واضح، وكان له من الآثار ما أقر به الجميع ومنهم الروس ومنهم الغرب، لكن لا يصح لنا أن نقول: إنه مجرد أن انسحبت روسيا من أفغانستان تغيرت الشيوعية فهذا ليس صحيحاً، لكن انسحابها من أفغانستان هو جزء من إعادة البناء، فالجهاد الإسلامي عجل فيه وأثر فيه بلا شك، وكان من الأسباب التي جعلتهم يدرسون الموضوع بدقة أكثر. وأنا بهذه المناسبة أذكر شيئاً عن اللعبة الدولية وهو: أنها إذا أريد لها أن فإنها تتم، تتم بأساليب ذكية وخفية، وقد كان غورباتشوف يريد أن يغير كل الجهاز العسكري الأعلى في الدولة، حتى يستطيع أن يسيطر ولا يبقى له منافس، فماذا عمل؟ دبرت له حادثة سمعناها جميعاً وضحكنا لها وفوتناها جميعاً، ولم نحللها لأنها لا تحلل. شاب ألماني ركب طائرة هوائية صغيرة، وأخذ عشيقته في الطائرة، وأقلعوا من ألمانيا ومشوا على مسافة قريبة من الأرض، واخترقوا الاتحاد السوفيتي ونزلوا في الساحة الحمراء في موسكو -سبحان الله- اندهش العالم كله حتى أمريكا، كيف هذا الشاب يعمل هذا الشيء وبطائرة شراعية، وعشيقته معه، حتى يقولوا في العالم الإسلامي: أكيد أن هذا صاحب حب، وليس برجل مخابرات مدرب، ولا هي امرأة استخبارات مدربة، إنما هي حكاية عشق وحب هكذا، ويخترق الحدود جميعاً والرادارات الضخمة، وأين ينزل؟ في الساحة الحمراء! أي: أن جورباتشوف ينظر من الشباك فيرى الطائرة في الأسفل، ما هذه السخافات. ثم يحصل التمثيل الواضح وهو: أن ينفعل غورباتشوف ويصدر قرار إقالة وزير الدفاع، وإقالة القائد العام للطيران، وإقالة القائد العام للدفاع الجوي، فهل تستحقون أن تكونوا وزراء وهذه الطائرة الشراعية قد فعلت كل هذا! فقضى عليهم وتفرد بالسلطة. فنقول: إن هناك أحداثاً تكون كالقشة ولكنها تقسم ظهر البعير -كما يقال- أي: إن الأمر مبيت من قبل، ولكن تأتي أحداث تدفعه أكثر وتؤثر فيه وتوجهه، أو تُستغل وتوضع كأنها السبب الأساسي، والسبب ليس هذا. ومع ذلك فالحمد لله أن الجهاد الأفغاني -بغض النظر عن الروس- أثر في الأمة الإسلامية الخاملة المريضة التي ما كانت تعرفه تقريباً؛ وقد عرفته ولكن بشكل مغمور. وكان عندنا أحمد الشفيري يلبس البدلة الشيوعية وهي نفس بدلة ماو بالضبط، كان يراد ألا تكون هناك أي حركة جهادية في العالم الإسلامي إلا أن تكون حركة شيوعية اشتراكية، ولكن الحمد لله أثبت المسلمون بالجهاد الأفغاني والأرتيري والفليبيني أنه يمكن أن يوجد جهاد حقيقي، ويقاوم أقوى وأعتى الدول، وأن الحل هو الجهاد وليس هذه الأحداث الثورية.

مقولة: (المادة لا تفنى ولا تستحدث)

مقولة: (المادة لا تفنى ولا تستحدث) Q هل هذا القول صحيح 'المادة لا تفنى ولا تستحدث' مع العلم أن هذا هو الذي ندرسه في مادة الكيمياء، يقول: هل هذه القاعدة هي من أسباب انهيار الشيوعية في المجال الفكري وفي المجال الفلسفي؟ A نحن المسلمون نعرف أن هذا خطأ، أي أن هذا الكلام خطأ إن كان يقصد به أن هذا الكون قديم لا أول له، وباق لا آخر له من غير رب، أما لو فسرت العبارة بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الكون وجعل المادة تتغير من حال إلى حال ولا تنتهي، ولكن هو الخالق وهو الذي يقلبها ويسيرها، لو فسرت على هذا القول يكون الخلاف فقط في الأولية. أما النهاية فنحن نعلم أن أهل الجنة خالدون فيها أبداً لا نهاية لوجودهم، فالجنة لا تفنى، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يفنى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فمع ذلك نقول: بقاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس كبقاء الجنة، أي أن بقاء الجنة ليس كبقاء الله، لأن بقاء الله ذاتي منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما بقاء الجنة فهو بإبقاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها. ونحن نعتقد - أهل السنة والجماعة - أن السماوات والأرض هذه لن تعدم عدماً كاملاً مطلقاً ثم تخلق من جديد، وقد أوضحنا هذا من قبل، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة أنها تبدل، والإنسان يفنى ويبقى منه عجب الذنب، ثم يركب منه خلق آخر، كذلك السماوات والأرض لا تفنى بالكلية وإنما تبدل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48]. فهم يقولون: إنها لا تفنى، ولكنها تتحول من نسب كمية إلى نسب كيفية أو العكس، فهو كلام قد يكون فيه شيء من الصحة، لكن إذا فسر بمعنى يخالف الكتاب والسنة فهو مرفوض مرجوع، أما من الناحية العلمية البحتة فلا شك أن مثل هذه النظرية كانت من أسباب هدم المبدأ الشيوعي من الناحية الفلسفية.

القراءة في كتب الشيوعية

القراءة في كتب الشيوعية Q يقول الأخ: ماذا تقولون لمن يقرأ عن الشيوعية وليس لديه ركيزة إيمانية في التوحيد؟ A الأصل أنه لا يوجد خوف، ومع ذلك نقول: لا يقرأ عن الشيوعية إلا من هو مؤهل في القراءة عنها، لكن نخاف على أحد أن يلحد إذا قرأ كتاباً شيوعياً، فهذا غريب وإن كان قد يقع، ونحن إذا قرأنا أو سمعنا أن الرجل زار الفاتيكان واحتفل بمرور ألف عام على الكنيسة، فهل يترك المسلم دينه لهذا الخبر؟! وإذا عادوا هم للثالوثية الصليبية التي وضعها لهم بولس وزورها عليهم، فهل نترك نحن ديننا دين إبراهيم ودين الحنيفية لأجل ذلك؟ هذا لا يمكن أن يقع من مسلم، لكن يفضل ألا يقرأ أحد هذه الكتب إلا من كان أهلاً لذلك.

بشائر هذا الدين

بشائر هذا الدين Q الأخ يقول: أخفتني يا شيخ، فهل من بشائر لهذا الدين؟ A بالعكس أنا قلت: سنفتح روما كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بإذن الله- ففي الحديث أن أحد التابعين سأل عبد الله بن عمرو أي المدينين تفتح أولاً؟ قال عبد الله بن عمرو مدينة هرقل تفتح أولاً، فـ مدينة هرقل فتحت وبقيت مدينة روميا وستفتح -بإذن الله- وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا شك أن المستقبل للإسلام بإذن الله. ولو لم يكن فيها إلا الملحمة الأخيرة، وقد أثبت فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أننا سوف نغلب الروم وسوف نهزمهم، عندما ينقسم المسلمون ثلاثة أقسام: ثلث ينهزمون فهم من شر خلق الله حينئذ، وثلث يقتلون فهم من خير الشهداء عند الله، وثلث ينتصرون، فهذا أيضاً موجود في آخر الزمان. وإذا جاء عيسى عليه السلام فإنه يضع الجزية، أي: ينسخ حكم الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فسوف يدين العالم بأكمله بدين الإسلام -بإذن الله- والبشائر كثيرة، فلا نخاف. فهناك فرق بين أن نخاف فلا نأمل، وبين أن يوجد عدو قائم ولا أحد يحذرنا منه، كما قلت: من أين نجد التحليل الحقيقي لما يدور في الغرب، لا نجده، بل يتكلم عن العملية هذه وغيرها من الأحداث على أنها تغييرات وعبور وأشياء شخصية، ويُعلق عليها تعليقاً عادياً مثل أي كلام، لكن لو وعت الأمة الإسلامية خطورة الوضع وعرفت حقيقته، فهذا لا يميتها ولكن هذا يستنهض الهمم، حتى لا نتولى فيستبدل قوماً غيرنا، فنكون كما قال تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وبإذن الله سننتصر وقد مرت الأحاديث في نصرة الطائفة المنصورة.

مضمون كتاب المستقبل لهذا الدين

مضمون كتاب المستقبل لهذا الدين Q عن كتاب المستقبل لهذا الدين لـ سيد قطب رحمه الله؟ A بالنسبة للشيخ سيد قطب رحمه الله، فإنه نقد كلام " رسل " في أن المستقبل للشيوعية، وذكر في كتابه المستقبل لهذا الدين، أن الشيوعية هي المؤهل لأن تسيطر كفكرة بشرية مادية غربية، وبعد أن تسيطر يأتي الإسلام ويتفوق عليها ويلغيها فتكون العاقبة للإسلام، لكن رسل يرى أن الغرب هو المواجه، والإسلام غير وارد في ذهنه أصلاً، ويرى أن الذي سيسيطر في النهاية هي الشيوعية أو أي مبدأ آخر كما يراه.

المقصود بالصراع بين الطبقات عند الشيوعية

المقصود بالصراع بين الطبقات عند الشيوعية Q ما المقصود بالصراع بين الطبقات عند الشيوعية؟ A كلمة (الطبقة) عند الشيوعيين اختلفوا فيها، وإلى الآن لم يتفق الشيوعيون على معنى محدد لكلمة "طبقة" لكن نحن نستطيع تقريباً أن نقول: أصحاب المصانع طبقة، العمال طبقة، فهذا أوضح شيء، فالصراع بينهما حتمي، فـ الشيوعية لا تقول: الصراع ممكن، بل تجعله حتمياً، ومن الصراع بينهما تنشأ القوة الثالثة، تطبيقاً للنظرية الجدلية التي هي الديالكتيك أو الجدلية، ويمكن الآن ألا تجد جريدة يومية إلا وتقول من منظور جدلي، ومن مفهوم جدلي، هذه هي نظرية هيجل التي أخذها كارل ماركس أن الأشياء تحمل نقيضها في ذاتها. إذاً نبسط المسألة فنقول: عندنا عمال في بريطانيا ً -مثلاً- وعندنا أصحاب العمل -مثلاً- فلابد أن يتصارع العمال وأصحاب العمل ويثوروا، النهاية تخرج قوة البروليتاريا أو الحكومة العمالية حيث تكون الملكية مشاعة للجميع، لا العمال يملكون ولا الشركة تملك، وإنما لكل حسب جهده وحسب طاقته وحاجته، فهذه الشيوعية خيالية. والواقع: أنه في بريطانيا -كما قلنا- لم تنجح فيها الشيوعية فأصحاب العمل تنبهوا إلى خطر ثورة العمال فقاموا وقالوا: لكل عامل من العمال الحق في أن يكون له أسهم في الشركة. على سبيل المثال: يوجد بنك رأس ماله عشرة ملايين دولار يعمل فيه عدد كبير من العمال، وأيضاً هناك عمال يشتغلون في السيارات في الورش، لكن لو نجحت الاشتراكية فيهم لثاروا على البنك، خاصة إذا قال لهم الشيوعيين: خذوا مليوناً، أو كل واحد يؤمل أن تكون العشرة مليون دولار في جيبه، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يحسر الفرات عن جبل من ذهب في آخر الزمان، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون كل يظن أن الجبل له}. فكيف يتخلص البنك من هذه العملية؟ قام بوضع حوالي (50%) مثلاً أسهم، فيشترك الناس كلهم العمال والموظفون وغيرهم ويكون لهم أسهم في البنك، فلن يأتوا بعد ذلك إلى البنك، فقد أصبح البنك كله للناس، ولو كان ما تملكه عشرة ريال، فإنك تقول: دع البنك يبقى من أجل العشرة التي لي، فانتبه الاشتراكيون لمثل هذا الشيء، وشركات السيارات الضخمة انتبهت لهذه النقطة أيضاً، وعمال السيارات يقولون: من حقك أن توظف دخلك ليكون لك أسهماً في الشركة، فساهم في الشركة واتفق مع صاحب العمل، أو يأتي صاحب العمل ويقول للعمال: كل عشرين عامل ينتخبوا عاملاً، ونعقد مجلس شورى يتكون من رؤساء العمال، وهذا العامل هو في الأصل مندس بينهم، فيصير مجلس الإدارة مرتب على هوى رئيس الشركة، والعمال يقولون هذا جيد! فإذا أتى الشيوعي وقال: يا رجعيين، يا إمبرياليين، يا برجوازيين، ثوروا، فسيقولون: على من؟! هذا لي وأنا مرتاح له! أيضاً الشركات أصبحت تعطي سكناً صحياً، تعطي تأميناً اجتماعياً للإصابات، وللأضرار، فيقول لك الناس: لماذا تريد أن نكون شيوعيين؟! فنظرية ماركس لم تعد حتمية، لأن الواحد بعقله على الأقل في ظاهر الأمر أنه لا يوجد داعٍ لأن يثور، ولا حتمية، وهذا كله كلام لا فائدة منه.

نصيحة للدعاة إلى الشيوعية

نصيحة للدعاة إلى الشيوعية Q أرجو أن توجه كلمة إلى أناس من بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا ولا يزالون يتبنون الشيوعية ويتمسكون بها، ويصفون من حاد عنها بالمرتدين؟ A نحن قرأنا جرائدهم، وبعضها قرأناها سوية في أحد الأيام، يقولون: كيف تخرج طالبات الثانويات يطالبن بالحجاب؟! وكيف وكيف؟! والأحزاب المنشقة يقولون: مرتدة مرتدة، مرتدة على ماذا؟! مرتدة على الشيوعية الحرفية اللينية الماركسية، هذه ردة عندهم! فكيف نوجه لهم: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي لا نوجه لهم إلا أن نقول لهم: اتقوا الله وعودوا إلى الله، لكن الذي يهمنا حقيقة هو أن نوجه الكلام لكم أنتم يا جنود الله الذين سيرغمون هؤلاء على الحق، أما الأذناب فيظلون أذناباً، وأضعف الإيمان أن يهتدي أولئك الأذناب، فإن الأسياد تركوا وهم ما تركوا، فليس لنا إلا أن نقول لهم: اتقوا الله، وتوبوا إلى الله، هذا كلام نقوله لأن الله تبارك وتعالى أمرنا به، فقط إقامة للحجة، ومعذرة إلى الله، وإلا فهم من أبعد الناس عياذاً بالله عن الرجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهم كأفراد قد يهتدي بعضهم، أما ككيان لا يرجع إلا إذا أرغمهم الأسياد، ونحن لا نريدهم أن يفعلوا ذلك، بل نريد أن نكون نحن الذين نرغمهم -بإذن الله- بالعقيدة الصحيحة، وبالعلم الصحيح وبالجهاد الإسلامي الحق المستجمع لجميع شروط الجهاد، والذي يسير وفق المنهجية المرحلية التي تسير بها الدعوة الإسلامية بلا ارتجال ولا عشوائية.

خطر الطلبة المبتعثين

خطر الطلبة المبتعثين Q هل يشكل الطلبة المبتعثون إلى الغرب خطراً على بلادهم عند رجوعهم إليها؟ A الاشتراكية والفكر الشيوعي دخلت كل بلد، والطلبة المبتعثون في الغرب من جميع البلاد يوجد بينهم أحزاب أو منظمات متأثرة بـ الشيوعية، لكن ليس لهم أي قيمة، ولا يشكلون أي خطر -بإذن الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

البديل للشيوعية ومقاومتها

البديل للشيوعية ومقاومتها Q بعد انهيار الشيوعية والنظام الاقتصادي القائم، فماذا تتوقعون البديل، كما أنه ظهرت مدارس فكرية وأدبية منحوتة شقيت بها الإنسانية كـ الوجودية وغيرها، فماذا تتنبئون لهذه المدارس، وما هي توقعاتكم للـ رأسمالية؟ A الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو العالم، لكن نحن نرى في الجملة أن الوجودية سقطت كما أن الاشتراكية سقطت، والأفكار الشرقية والغربية لم تعد تكفِ الإنسان أبداً، فيظل الغرب يتميز ويتفوق علينا بشيء واحد وهو القوة العسكرية، لأننا كما هو الظاهر الآن والعلم عند الله كم من القرون ستمضي حتى نستطيع أن نكون مثلهم؟ مع العلم أن لدينا القوة العظمى التي يفتقدونها، لا شك في ذلك. لكن نقول: إن تفوق الغرب ينحصر في قوته العسكرية وقوته المالية والاقتصادية، أما النواحي الفكرية فقد أفلست تماماً، حتى الوجودية أفلست وغيرها ولم يبق إلا فتات وهراء، وهذه فرصة عظمى لنشر الإسلام، لكن لا يعني ذلك أن نشتت جهودنا لهداية أفراد أو آحاد من الغرب، ليس هذا هو المقصود. لكن نقول: إن الغرب إذا أفلس مهما كان قوياً عسكرياً، إذا كنا على عقيدة صحيحة على الكتاب والسنة، وعلى الدين الذي لا يقبل الله تعالى سواه، وعلى مذهب أهل السنة والجماعة، ومنهاج الفرقة الناجية، وأقمنا الإسلام هنا في بلاد الإسلام، فعند المواجهة مع الغرب -بإذن الله- سوف يذعن الغرب ويركع ويخر للحق -بإذن الله- وسيدخل منهم من يدخل في الإسلام. كما تعلمون في معركة اليرموك أن العدو هو العدو، والروم هم الروم، جورجيف الذي كان من قواد الروم أسلم وبين للمسلمين عورات الصليبيين وانتصروا -بإذن الله- وهكذا عندما يصبح المسلمون قوة سوف يسلم الغرب جماعياً، ومنهم من يكون طوعياً ومنهم من يكون مكرهاً، والمشكلة -والله أعلم- في تحليلي أنها ستبقى مشكلة التفوق في النظام، التفوق في القوة، والتفوق في الاقتصاد، ونحن مازلنا كما ترون عالة عليه، والأدهى أن الإعالة قد تكون في الحالة الفكرية، يعني أننا لم نتحرر فكرياً بعد. وبهذه المناسبة نقول: إن التحرر من الغرب ليس صعباً، لكن لا يطيقه إلا أصحاب العقائد القوية، كانت المعركة بين فيتنام الشمالية، وفيتنام الجنوبية، وكما تعلمون أن الأمريكيين كانوا يحكمون فيتنام الجنوبية وكانت أقوى الطائرات وأحدث الطائرات الأمريكية تضرب الفيتناميين الشماليين، فماذا حصل؟ كان الشيوعيون الفيتناميون الشماليون يتحدون الغرب وعندهم مبدأ وعقيدة، فأنشئوا الجامعات تحت الأشجار، وأنشئوا الورش تحت الأرض، وطوروا أنفسهم واستمروا يقاومون الأمريكان ويعملون، وفي النهاية يحتلون فيتنام الجنوبية. وغيرهم كثير مثل الصين الوطنية، وكوريا الشمالية والآن أمريكا منزعجة جداً من قوة كوريا الشمالية لأنها مقبلة على التصنيع، أي أن التحرر من الغرب ممكن، ولكن المهم وجود الإرادة، وهل هناك إرادة أقوى من إرادة المسلم صاحب العقيدة الصحيحة، لا يوجد أبداً، الذي يعرف أن هؤلاء كفار وأنه لا يجوز موالاتهم، وأنه يجب جهادهم، وأنه يجب الاستغناء عنهم، فهذه تعطي المسلم إرادة، ولو عصبنا الحجارة على بطوننا على ألا نشتري منهم شيئاً حتى ننتج بأنفسنا لفعلنا ذلك، ونحتسب ذلك عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن كنا نألم فإنهم يألمون كما نألم كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ونرجو من الله ما لا يرجون.

أصل جورباتشوف

أصل جورباتشوف Q ذكر الشيخ أبو بكر الجزائري في إحدى محاضراته أن غورباتشوف مسلم وأمه مسلمة وهو من أصل تركي؟ A لا أدري والله، إذا كان قال الشيخ ذلك فلابد أنه استند على شيء، لكن أنا ما عندي علم في ذلك، لكن على أي حال لا يهمنا، أما أن كل مولود يولد على الفطرة فهذا صحيح، لكن غورباتشوف الآن سيكشفه الزمن.

ماذا عن الترف

ماذا عن الترف Q يقول الأخ: موضوع الترفيه؟ A نسأل الله تبارك وتعالى أن يصرف عنا وعنكم موجبات غضبه وانتقامه، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] كنا في الماضي ننتظر متى يأتي موسم الحج ونفرح بقدوم الحجاج، هذا يخدمهم، وهذا يحمل لهم المتاع، وهذا يعمل عندهم، وهذا يطبخ لهم، المهم كان دخلنا هو هذا الشيء، أن نخدم عباد الله لنقتات، وكنا محافظين على أصالتنا وعلى عقيدتنا وعلى الكثير من الخلال الحميدة التي كانت فينا وهذا حق. فلما أغنانا الله ووسع علينا وبنينا البنيان العالية وجاءت الطفرة وإذا بنا نرى الألعاب في مدن الكفر ونريد أن نقيم مثلها هنا، هذا -والله- إنه نذير شر وشؤم، هذا هو الترف، وهذا هو داء الأمم، ليس هذا ترفيهاً والله، نحن ما عدنا من جبهات القتال حتى نقول: نتنزه على البحر يوماً أو يومين، بل على العكس نأتي من سهرات على التلفزيون أو الفيديو أو في الليل نسهر على البحر، ما الفرق، هنا سهرة وهنا سهرة! وأعمالنا الإدارية! نحن نعرف ماذا نعمل في الإدارات، نقرأ الجرائد ونشرب الشاي، إلا من رحم ربك، وأعمالنا الدراسية معروف الآن ماذا نَدرس وماذا نُدرس، فلابد أن ننظر فنحن أمامنا أهوالاً عظيمة. ووالله لو أن الإنسان تفكر في مصيره ومآله واعتبر فيما يرى، واعتبر حتى بهذا البحر الذي أمامنا، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أغرق به أمماً أعظم منا. أغرق الله تبارك وتعالى قوم نوح وهم أعظم منا. وأغرق الله فيه قوم فرعون الذي حضارتهم أعظم من الحضارة الحالية الآن في كثير من الأمور لم يصلوا إلى مثل ما أنتج فرعون، وذكر الله تبارك وتعالى ذلك لنا في القرآن. كل ذلك بسبب الفساد يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14] وقال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. نعوذ بالله من غضب الله، عذاب الله ما هو ببعيد أبداً إذا أراده، فإنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، فكيف ندفع عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ ندفعه بتقوى الله، وندفع الأعداء بالتقوى والصبر، وندفع عذاب الله القدري الكوني بالتقوى والإيمان، وبالدعوة والضراعة إلى الله، وبالإنابة، أما الطغيان والترف واللهو واللعب فهذا شيء ما خلقنا له: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]. يا سبحان الله! نحن الذين أورثنا الله الكتاب واصطفانا، ونريد أن نكون كالذين أوتوا الكتاب، يكون في بلادنا تعرٍ، وانحلال، وتفسخ، وترفيه -كما يسمى- ألهذا خلقنا؟! أهذه رسالتنا إلى العالم؟! يأتينا هذا الغربي الكافر الذي لا يجوز أن يطأ بلاد الإسلام والطهارة، فبدل أن نقول: قد جاء فلابد أن ندعوه ونهديه، إلى الإسلام فيأتي ويجد البلاد مثل بلادهم، والتعري مثل التعري عندهم، ولا يشعر بالغربة أو يحس بأنه فقد شيئاً! والله اليوم وأنا آت من مكة قابلني إنسان -عامل بسيط كنت أريد أن يصلح لي شيئاً في البيت- فقال لي: أنا اشتغلت في الدمام وفي جدة، فقال: ما هذا الذي في جدة، شيء عجيب! ذهبنا إلى البحر في يوم الجمعة، وكله فساد، كله مثل الهنود ومثل عباد البقر، أين الدين أين الإيمان؟!! والله لقد وعظني موعظة عظيمة تحز في نفسي، وهو ما يعرف شيئاً ولا يعرف أن يقرأ الفاتحة! نحن بهذا نرضي الكفار ونغضب الله أولاً، ونغضب المؤمنين الذين يرون هذه المناظر، نحن تبلدت قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، ونعوذ بالله أن يعمنا الله بعقاب من عنده، ونبرأ إلى الله من كل معصية له، حتى إن متنا فيبعثنا الله عز وجل ونحن على هذه النية، وإن قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم السلامة ولنا فنكون قد عملنا الواجب علينا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعافينا دائماً، فنحن والله ننكر هذا كل الإنكار، ولا يجوز لواحد منا وأنتم والحمد لله فيكم المسئولون ومن له شأن ودور وتوجيه، لا يجوز لأحد منا يستطيع أن ينكر هذا الأمر إلا وينكره بما يستطيع في أسرته، وفي عمله، وفي مدرسته، وبيده إن كان من أهل الولاية، ونتعاون على البر والتقوى كما أمر الله تبارك وتعالى. وختاماً: أسأل الله تبارك وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد، وأن ينفعنا بما نسمع وبما نقول، وأن يحيينا على هذا الدين القويم ويبعثنا عليه، إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.

رسالة إلى فتاة الإسلام

رسالة إلى فتاة الإسلام ألقى الشيخ هذه المحاضرة في الفترة التي تلت -مباشرة- المظاهرة النسائية المشبوهة التي خرجت في الرياض داعية إلى السماح للمرأة بقيادة السيارة، فاستعرض الشيخ هنا التاريخ الذي مرت به دعوات تحرير المرأة في بداية تغلغلها في البلاد العربية، ونفاذها إلى مصر بداية، ثم استعرض الدور التاريخي الذي نمت فيه هذه الدعوة في السعودية، ومظاهر الفساد التي تم تسربها شيئاً فشيئاً، مستعرضاً بدايات ذلك في التلفزيون، والصحافة، والكلام فيها عن المسائل الشائكة حول تحرير المرأة، والجمعيات والنوادي النسائية، والنساء الغربيات في السعودية، وغيرها من الأحداث الهامة التي تبين تطور هذه الظاهرة في بلاد الحرمين.

إلى من هذه الرسالة؟

إلى من هذه الرسالة؟ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزى الله خيراً القائمين على التوعية الإسلامية في هذا البلد الحرام، وجزى الله خيراً كل من أسهم في نشر الخير ونصح الأمة وبيان الحق لها، ممن لم يتركوا لنا مجالاً للحديث في هذه القضية التي نحن -ولله الحمد- في غاية الفهم وغاية العلم بها، وهي في غاية الوضوح لدينا. إن الرسالة التي كنت أريد أن أوجهها إلى الفتاة المسلمة دارت في ذاكرتي بشأنها أمور عدة: قلت: إلى من أوجهها؟ هل أوجهها إلى الفتاة المسلمة في مصر، البلد الذي كان أول من عانى من التغريب ومن خدعة ولعبة ما يسمى بتحرير المرأة وقضية المرأة، وإذا بي أنظر؛ فإذا بالفتاة المسلمة في مصر قد انتفضت على هؤلاء المجرمين، وعرفت مكرهم وغشهم وخداعهم، وإذا بالحجاب الشرعي الكامل يطرق جامعة مصر، ويطرق جامعة القاهرة التي أنشأها وأسسها دعاة التغريب الأولون لتكون جامعة علمانية، لا أثر فيها للدين، وإذا بالفتاة المسلمة هنالك تتحمل ألوان الأذى وأصناف التعذيب من أجل حجابها، ولكنها متمسكة به، ولا عبرة بالكثرة الغافلة؛ فالمهم أن العجلة قد دارت وأن الزمان قد استدار، وأن الحق قد ظهر وبان، وأن العاقبة للتقوى. قلت: فليكن الخطاب إذاً إلى الفتاة المسلمة في بلاد المغرب التي احتلها الفرنسيون، وفرضوا عليها حضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم ودياثتهم وإباحيتهم، فنظرت وإذا بالفتاة المسلمة في الجزائر قد أعلنتها صريحةً على الملأ منذ ما يقارب السنة تقريباً، حين أخرج الشيوعيون في مظاهرة تعدادها قرابة الثلاثة الآلاف، فرد عليهم الإسلاميون -وليس كل الإسلاميين، بل البعض الذين كانوا مقتنعين بالرد وبأن يكون الرد مظاهرة- وخرجت في الجزائر مظاهرة تعدادها على أعدل الأقوال، خمسمائة ألف امرأة، رداً على أولئك الثلاثة الآلاف. وفزع الغرب فزعاً شديداً، وذهلوا ذهولاً عظيماً، -ولا سيما فرنسا - حتى صاح ميتران بملء فيه: 'إذا تولى الأصوليون الحكم في الجزائر، فسوف أتدخل عسكرياً كما تدخل بوش في بنما ' وقلت: لم لا يكون الخطاب والرسالة إلى الفتاة المسلمة في تركيا، البلد الذي كانت فيه أوضح وأعظم دعوة للانحلال من هذا الدين بقيادة اليهودي المجرم اللعين كمال أتاتورك، فقرأنا وسمعنا أن الفتاة المسلمة في تركيا قد عادت إلى إيمانها ودينها، وحجابها، رغم الكيد والأذى والتعذيب، وإذا بالعجلة قد دارت، وإذا بالمسيرة قد بدأت، فقلنا الحمد لله الذي رد كيد الخائنين، الذي لا يصلح عمل المفسدين، والذي جعل العاقبة للمتقين. قلت إذاً: لما لا نوجه الرسالة إلى الفتاة المسلمة في أفغانستان أو الباكستان أو الهند، فوجدنا أن المرأة المسلمة هنالك هي السند بعد الله تبارك وتعالى لأولئك المجاهدين جهاداً باليد أو بالدعوة والقلم، وإذا بالمرأة المسلمة هنالك -والحمد لله- تدافع عن دينها وتعيش إيمانها وتسعى وتحرص كل الحرص أن تكون كما يريد الله، وكما كان المجتمع الإسلامي من قبل، فالدعوة هنالك قد قامت؛ والمسيرة -أيضاً- قد بدأت، ولا التفات إلى الوراء، ومنذ أن ذهبت الرافضية من الحكم، فلا عودة أبداً إلى هذه القضية، بل وئدت مسألة تحرير المرأة مع وأد تلك الخبيثة الفاجرة التي ما تولت الحكم إلا بنسج من أيدي أمريكا ومن معها. إذاً من بقي؟ هل أوجه الرسالة إلى الفتاة المسلمة في بلاد الشام، التي لم يُنزع حجابها إلا قهراً؟

خطاب إلى بنت الخليج

خطاب إلى بنت الخليج ما كنت أظن أنه يأتي اليوم الذي نحتاج أن نخاطب فيه المرأة المسلمة في أرض التوحيد، وبلاد الإسلام ومهد الإيمان، في هذه الجزيرة، في بلاد الحرمين، في هذه الأرض الطيبة التي ما خرجت دعوة؛ ولا قامت نهضة إيمانية، ولا عادت المرأة المسلمة في كل مكان إلى دينها إلا لتقتدي بالمرأة المسلمة هنا، لأنها مضرب المثل في تلك الدول، وإذا بالمفاجأة تأتي، وإذا بالحدث الجلل والخطب العظيم يأتي، وإذا بتلك اللعبة والخدعة الكبرى التي مرت في بلاد الأفغان والترك ومصر وتونس والشام والجزائر إذا بها وفي آخر الزمان، وبعد أن حلّت عروش الطغيان، وبعد أن ولى جيش الظلام، وانهزم الكفر وأهله، وبعد أن قامت الصحوة الإسلامية واستوت على سوقها في كل مكان، وإذا بهؤلاء الناعقات يأتين وفي قلعة وعاصمة التوحيد، ويردن أن يكن مثل أولئك. عجباً والله! من كان يظن أن ذلك اليوم سيأتي، وأن هذا الخطاب سيكون موجهاً إلى الفتاة المسلمة في هذه البلاد، منذ ثلاث سنوات تقريباً، وفي هذا المكان الطاهر بالذات. لما كانت محاضرة بعنوان: (المؤامرة على المرأة المسلمة) كنا نتكلم عن تلك البلاد، أما هذه البلاد فنحذر، ولا نتوقع أن يقع فيها ما وقع، ولكن التذكير والتحذير واجب، وإذا بنا نفتح أعيننا على هؤلاء المستغربات. إن هذا يستدعي منا أن نعيد النظر لِمَ كان الأمر بهذه الكيفية؟! هل هذه هي النهاية؟! وهل هذه هي الغاية؟ أم أنها بداية لمرحلة جديدة، ولماذا هذا التوقيت؟ ومن وراءه؟ وماذا يريدون؟ أسئلة كثيرة هزت كل وجدانٍ وقلب حي.

الصليبيون واهتمامهم بالمرأة

الصليبيون واهتمامهم بالمرأة لا بد أنكم تساءلتم: ما ارتباط الدعوة بخروج المرأة، وتمردها على ربها وعلى سنة نبيها، وشريعة دينها، وأولياء أمورها، بالصليبية الغربية، ارتباط ذلك بالحملات الصليبية التي تفد على هذه البلاد الإسلامية كل حين، وما من صفحة من صفحات تاريخنا -واقرأوه- إلا ولنا مع الغرب والصليبيين معركة، ومع كل حملة تفد، تفد معها الدياثة، والتمرد، والانحلال، والخروج، ولأولئك دور وضلع لا يمكن إنكاره في هذا الخروج وفي هذا التغرب.

الحملات الصليبية الأولى القديمة

الحملات الصليبية الأولى القديمة إنّ الحملات الصليبية الأولى القديمة التي قدمت منذ ألف سنة، قام بها وحوش همج أوروبيون، لا يعرفون حضارة، ولا مدنية، وسخر منهم المسلمون ومن دياثتهم، ومن انحطاط خلقهم، ومن سفالتهم، بما لم يدع مجالاً لأن يُقتدى بهم.

المرحلة الأولى: الحملة الصليبية الحديثة على مصر

المرحلة الأولى: الحملة الصليبية الحديثة على مصر لنتجاوز ذلك إلى العصر الحديث -كما يسمى- فأول حملة صليبية قامت في العصر الحديث هي حملة نابليون بونابرت على مصر في مطلع القرن التاسع عشر وأواخر القرن الثامن عشر ميلادي، فعندما قدمت هذه الحملة، واعتبرها البعض بداية لـ حركة تحرير المرأة، ومنهم المرأة المشهورة في الحركة درية شفيق، نظيرة وزميلة هدى شعراوي المشهورة والمعروفة، اعتبرت هذه الحملة بداية لدعوى تحرير المرأة -كما يسمونها- كيف كان ذلك؟ عندما جاء الفرنسيون بعد قيام الثورة الفرنسية التي قامت عام (1789م)، ورفعت شعار المساواة، والحرية، والإخاء -الشعارات الماسونية الكاذبة- وجاءوا بنسائهم متبرجات متهتكات. وقد وصف المؤرخ السني الجبرتي رحمه الله صاحب التاريخ المشهور عجائب الآثار في التراجم والأخبار، قدوم الحملة وآثارها وكيف تأثرت بها المصريات، وكيف قلدن الفرنجيات في عاداتهن، وكيف أن الأمر تعدى مجرد اللباس إلى صحبتهن في الزوارق على النيل، والرقص معهن والتهتك والتخلع بخلاعتهن، فاعتبرت هذه هي البداية، وفعلاً قد كانت هي البداية. ومن العجيب أن نابليون عندما قدم إلى مصر، وادعى أنه حامي الإسلام، وأنه ما جاء إلا لتأييد الإسلام، بل سمى نفسه محمد نابليون ضحكاً على المسلمين، وسخرية، واستهزاءً بهم، وطالب بالحرية الاجتماعية على نمط الثورة الفرنسية، وقال: 'إن مصر مجتمع متأخر منحط وقال: لا بد من إنشاء حكم يقوم على الطريقة الغربية' مع أن الغرب في ذلك الزمان لم تكن الديمقراطية قد تبلورت عندهم، فكانت الثورة حديثة عهد في فرنسا نفسها. فأنشأ نابليون ديواناً للشورى، وقال: يشترك فيه جميع المسلمين، وانطلاقاً منه بدأت قضية المرأة، ولم لا تشترك المرأة، ولم لا يكون لها دور في هذا المجتمع؟ ولا سيما وقد قال نابليون: 'لا بد أن يكون هذا الديوان ممثلاً لجميع فئات المجتمع' فدخل النصارى -وقد كان النصارى وما يزالون دائماً عملاء للصليبيين الوافدين- ودخلت معهم أيضاً الطوائف الأخرى. فإذاً كانت القضية حملة صليبية، صحبها تهتك، ودعارة، وخلاعة في النساء، ومطالبة بحكم شوروي نيابي؛ فانفتقت الأذهان عن هذه الفكرة الخبيثة، أو هكذا -على الأقل- فهم دعاة إفساد المرأة الذين جاءوا فيما بعد في المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية: حملة صليبية أخرى

المرحلة الثانية: حملة صليبية أخرى في هذه المرحلة تجلت بوضوح قضية إفساد المرأة مع ظهور حملة صليبية أخرى في عهد إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا المشهور، كان إسماعيل باشا حاكماً على مصر في أواخر القرن الماضي الميلادي، وقد تلقى تعليمه في باريس، ثم لما تولى حكم مصر، شُقت قناة السويس؛ فكان الاحتفال التاريخي -كما يسمى- حضرته الامبراطورة يوجيني، وحضره امبراطور النمسا، وحضره كثير من زعماء أوروبا المتهتكين المتخلعين، وكان الرجل قد تربى تربية غربية؛ فقام بتطبيق الحياة الغربية بحذافيرها في مصر، أو شرع في ذلك؛ فهو أول من أدخل نظام الجمارك -مثلا- وهو الذي أدخل ديواناً أو مجلساً كما أسماه الشورى بظنه، وأنشأ جمعية عمومية، وعاش في الترف والبذخ، حتى ورط مصر في ديون بلغت مائة مليون جنية، وهي من الناحية المعنوية تعادل اليوم مائة مليار جنية. وفي عهد إسماعيل باشا افتتحت لأول مرة في العالم الإسلامي مدارس للبنات، على نمط مدارس البنين وعلى الطريقة الغربية، تحتوي على سنوات معينة ومنهج كمنهج البنين، ثم مراحل بعضها يتلو بعضاً، كانت هذه هي المرة الأولى، ونتيجة للسيطرة الإنجليزية والفرنسية التي جاءت بسبب هذه الديون بدأت في عهده دعوة الانحلال، والفسق، والفجور، وكان رئيس وزرائه نوبار باشا الأرمني، وكان في حكومته وزيران: أحدهما فرنسي والآخر انجليزي، وفي ظل حكم هذا الرجل قامت ونمت وترعرعت الدعوة إلى الإباحية وإفساد المرأة. حتى أن الإنجليز عندما جاءوا وأجهضوا ثورة أحمد عرابي وقضوا عليها، كان ممن أيد الإنجليز ودلهم وشجعهم على دخول القاهرة وحثهم على ذلك، وقاوم الشعب وقال لهم: لا تقاوموا الإنجليز، وهؤلاء إنما جاءوا لمصلحتنا، وما قدموا إلا لخير البلاد، ولدفع الظلم، ورفعه عنها، ولكي تكون حكومة شوروية انتخابية كان من جملتهم المدعو محمد سلطان باشا، وهو والد هدى شعراوي التي قد يأتي الحديث عنها -إن شاء الله- فالقضية ضالعة عميقة الجذور في العمالة أيضاً. المهم أنه لأول مرة في الشرق عرف ما يسمى "البرلمان" في أيام إسماعيل باشا عام (1866م)، ثم خلفه الخديوي توفيق، ولأول مرة -أيضاً- في الشرق يعلن ما يسمى الدستور، فأعلن الدستور في عام (1882م)، وفي كل مرة يراد أن توجد حياة نيابية، أو دستورية، أو شورية -إن استخدم المصطلح الإسلامي- تظهر قضية المرأة لأن الأعداء المتربصين يريدون أن يفيدوا من هذا الوضع، فيقولوا: نصف المجتمع لا بد أن يظهر، وأن يمّثل، وأن يكون له دورٌ ووجود، وفي هذه الأثناء وبعدها ظهرت الحركة، وظهر جمال الدين الأفغاني الذي تتلمذ عليه محمد عبده، والشيخ محمد عبده -كما ثبت- هو الذي وضع أكثر كتاب قاسم أمين تحرير المرأة وظهرت دعوة قاسم أمين -المتوفى عام (1908م) - وانتشرت الحركة وكان اللورد كرومر المندوب البريطاني يرعاه.

الحرب العالمية الأولى

الحرب العالمية الأولى بعد الحملة السابقة جاءت الحركة الأخرى التي كثيراً ما تنسى أو لا تذكر على أنها حملة صليبية، وهي الحرب العالمية الأولى، ونجد أن التمثيلية نفسها تتكرر، قامت الحرب العالمية الأولى عندما اتفق الإنجليز والفرنسيون على تقسيم العالم الإسلامي، وإخضاعه لسيطرتهم، وبدءوا يشيرون العرب ليثوروا معهم على الترك، فأعلن الإنجليز أنه لا بد أن يكون للعرب حكم مستقل. ومن المكاتبات المشهورة التي كتبها السير هنري مكمهون إلى الشريف حسين يقول: "من السير هنري مكمهون مندوب الدولة البريطانية العلية، إلى الشريف حسين سليل الأسرة الطاهرة العترة الشريفة وكذا ويفيض عليه من المدح وأنك حفيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف يصبح الحكم في أيدي الترك؟! وكيف يكون الأتراك هم الخلفاء والعرب موجودون، والسلالة الشريفة الطاهرة على قيد الحياة ويتولى الأتراك الحكم، والدولة العلية البريطانية تريد الخير والسلام، وعودة الأمور إلى شرعيتها، وتريد أن تنصبكم خليفة على العرب، وزعيماً لهما بشرط أن تقوموا معها، وتثوروا وتخرجوا على الترك، وقد عزمت على إقامة العدل والقضاء على الاستبداد التركي إلى آخر ذلك الكلام. أما لورنس -المعروف بـ لورنس العرب الخبيث والمشهور- فقد خرج وخرج معه العرب المغفلون المخدوعون لمحاربة الترك والاستبداد التركي، يقول لورنس: 'كنت أشعر بتأنيب الضمير، وأنا أرى هؤلاء الناس يخرجون معي، ويقاتلون بني دينهم -يعني الأتراك- أملاً وطمعاً في أحلام ووعود وعدناهم بها ولم تتحقق' لقد كان الضمير يؤنبه، لأنهم ضحكوا على هؤلاء المساكين، فلا شرعية، ولا استقلال، ولا عدل، ولا حق، وإنما هي أطماع صليبية سُخِّرت لهذا الهدف. ودخل اللنبي القائد الإنجليزي القدس وجيشه من الإنجليز والعرب -وفتحوا القدس - فلما وقف على جبل الزيتون، غرس رمحه بقوة وقال: 'الآن انتهت الحروب الصليبية'. وأما الجنرال الفرنسي غورو فإنه تقدم ومعه أيضاً العرب في جيشه إلى دمشق، وقال العرب: لنا حكم بلاد الشام ويكون الشريف هو الخليفة وأبناؤه هم الحكام على هذه المناطق، هذا من عدالة الغربيين، ومن حسن أخلاقهم ومن حرصهم على الشرعية. لما دخل غورو إلى دمشق قال: دلوني على قبر صلاح الدين، فدلوه عليه فأخذ يركله بقدمه، ويقول: قم يا صلاح الدين ها قد عدنا، وها قد انتصرنا، يا ثارات ريتشارد، يا ثارات بوهمند، يا ثارات فلان وفلان من قادة الحروب الصليبية الذين قتلوا أو أسروا في أيام صلاح الدين، وإذا بها حملة صليبية مكشوفة، وإذا بالعرب يخدعون وإذا بالوعود كلها تذهب هباءً. المقصود ليس هذا -فكلكم تعرفونه- لكن انبثقت من خلال هذا: الحركة النسائية أيضاً، فلما انتهت الحرب العالمية الأولى عام (1918م) وإذا بـ سعد زغلول ومن معه وهدى شعراوي، يخرجون في العام التالي (1919م) يطالبون بالحرية والاستقلال وقالوا: لا بد أن يكون للمرأة دور، رتب سعد زغلول مع هدى شعراوي -وكانت رئيسة اللجنة المركزية لـ حزب الوفد للسيدات- ومن معها المظاهرة، فخرجت مظاهرة ضد الإنجليز، وخرجت المتظاهرات ونزعن الحجاب. سبحان الله! يتظاهرن ضد العدو وينزعن الحجاب، ما هي القضية؟ وما العلاقة بين نزع الحجاب وبين المطالبة بإخراج المحتل؟! لكنها لعبة مدبرة، مزقن الحجاب وأخذن يطالبن بالحرية والاستقلال!! الحرية مِن مَن من الإنجليز أم من الحجاب الذي مزقنه ونزعنه؟! وجاء الإنجليز بتمثيلية من هنا ومن هناك فأطلقوا الرصاص، وقيل: هؤلاء البطلات الثائرات الرائدات الزعيمات، وإذا بالشعب والصحافة من كل مكان والأحزاب يقولون: المرأة تبذل نفسها من أجل الوطن، فماذا قدم لها الوطن! وإذا بالدعاة -دعاة الإفساد- يقولون: ها هي ذي المرأة تتطوع وتخرج وتقاتل وتواجه المستعمر، فماذا نقدم لها، أتظل حبيسة البيت وقد أثبتت وجودها ووطنيتها. لقد صور الشاعر حافظ إبراهيم خروج المظاهرة وكيف استقبلها الإنجليز، ثم ردت على أعقابها، وسخر من هؤلاء الهزيلات والضعيفات ذات الجنس الرقيق والناعم، حتى هو رغم هذا الموقف شارك غيره من الشعراء والكُتَّاب في الحملة والدعوة إلى مشاركة المرأة في الدفاع عن البلاد، وعن الاستقلال، ومن ذلك القصيدة المشهورة التي كانت في مناهجنا التعليمية وقرأناها وحفظناها، وهي بعنوان: فتاة اليابان، لقد كان حافظ إبراهيم يمجد فتاة اليابان التي اشتركت وتطوعت في الحرب ضد أعداء اليابان في الحرب العالمية والتي قال فيها: لا تلم سيفي السيف نبا صح مني العزم والدهر أبى أنا يا دنية لا أنثني عن مرادي أو أذوق العقبا هكذا الموساد قد علمنا أن نرى الأوطان أماً وأبا فيقول: لا بد أن تخرج وأن تتطوع المرأة، وبالفعل تطوعت المرأة وخرجت في الدفاع عن الوطن، ويا سبحان الله! تبذل نفسها وتقابل الرصاص وتتطوع من أجل الوطن، ثم لا تمنح حرية الحياة ونزع الحجاب وأن تكون كالمرأة الغربية تتحضر وتترقى، وتفوز بالبرلمان، وتدخل المجالس النيابية وتعطى الوظائف، فهي تقدم دائماً والرجل ظالم لها لا يعطيها أي شيء، هكذا قيل وهكذا كانت تلك المأساة.

ظهور الحركة النسائية والاتحاد النسائي

ظهور الحركة النسائية والاتحاد النسائي بعد ذلك ظهرت الأحزاب النسائية بالإضافة إلى أن هدى شعراوي -الزعيمة كما قلنا- وهي ليست هدى شعراوي، بل هي هدى بنت محمد سلطان، لكن انتسبت إلى علي شعراوي، وهو زوجها كما هو النظام عند الغربيين، كما انتسبت صفية زغلول إلى سعد زغلول، وهي ليست بنته، وإنما هي زوجته على عادة الغربيين، فهذا محمد سلطان -كما أشرنا- العميل الذي أُعطي أعلى الأوسمة والنياشين، والتي لا يعطاها في إنجلترا إلا من يصل إلى درجة أو مرتبة (سير) ويلقب بلقب (سير) وهو أعلى لقب هنالك بعد لقب (لورد). أسست هدى شعراوي الحزب أو الاتحاد النسائي، بدايةً للمرحلة الجديدة التي انتقلت إليها مرحلة الأحزاب النسائية، وهذا بعكس ما حصل هنا، فعندنا هنا بدأ أولاً بتأسيس الجمعيات، ثم بعد ذلك نودي بالخروج، لكن بدأ هنالك بالخروج ثم أنشئت الاتحادات. فالاتحاد أو الحزب الذي أسسته هدى شعراوي، أرسل وفوداً، ومن ذلك الوفد الذي أرسله لحضور المؤتمر النسائي العالمي في روما، وهذا مما يكشف ويفضح أن دعوات إفساد المرأة دائماً مرتبطة بالغرب، فهنالك ألقيت الكلمات، ومن الطرائف أن الوفد كان يتكون من ثلاث نسوة، منهن: اثنتان سافرتان، والأخرى الثالثة أخذها الحياء نوعاً ما؛ فكانت محجبة، فقال الإيطاليون وأعضاء المؤتمر: إن هاتين ليستا مصريتين، وإن هذه هي الوحيدة المصرية المحجبة، فقالوا: أكيد أن مصر استعارت امرأتين لتمثلها، لأنه لا يمكن أن تكون المرأة المصرية إلا محجبة. وليس معنى ذلك كما يقول البعض الآن: تكشف الوجه وتقول: محجبة، كشف الوجه ما سمي حجاباً لا في اللغة ولا في الشرع أبداً، فالحجاب تغطية الوجه في اللغة وفي الشرع، وفي مصر كانت المرأة لا تكشف شيئاً أبداً، ولما جاءت هذه وهي متحجبة، قيل: هذه فعلاً التي تمثل مصر. إن أولئك يعرفون أن المحجبة هي الأصيلة، وأن المتهتكة هي الغربية التي لا تمثل بلدها، ولم يُصدَّقوا أنهما مصريتان. قابلت هدى شعراوي الزعيم موسيليني، وافتخرت بذلك، وقالت: كانت مقابلة عظيمة ورائعة وتحدثنا إليه عن تحرير المرأة وطالبنا بكذا -وموسيليني هذا هو زعيم الفاشية وكل زعماء الغرب موسيليني وهتلر، ولكن الزمان يدور دورته، المغلوب كما يقول المثل: إذا طاح الثور كثرت السكاكين. لو أن هتلر هو الذي انتصر لكان الكلام اليوم في العالم، أنَّ هتلر هو حامل راية الحرية، وأن آيزن هاور ومن معه كانوا دعاة الطغيان والاستبداد للشعوب، لكن لأن الذي انتصر هو آيزن هاور الأمريكي، أصبحت أمريكا حاملة راية الحرية وغيرها هو العدواني وهو المتسلط. المقصود أنها قابلته، وفي الطريق قابلت أتاتورك -انظروا إلى العمالة والنذالة- وأشادت به وجلست معه جلسة طويلة؛ وقالت له: أنت لست أتاتورك -أي أبو الترك- بل أنت أتا شرق، أي: أبو الشرق كله، هذا اليهودي المجرم الخبيث تقول عنه هكذا. ومن تلك الحركات حزب فتاة النيل الذي كان وراءه وبكل وضوح زوجة الرئيس الأمريكي روزفلت، كانت تموله وكنَّ رائدات الحزب كله يذهبن إلى السفارة الأمريكية ويتلقين التشجيع والتهنئة بنجاح المؤتمر النسائي الذي عقدنه من زوجة الرئيس الأمريكي روزفلت. وأصبح الآن لا مجال للنقاش في أن الحركة النسائية في مصر إنما هي عملية للصليبيين من الإنجليز والأمريكان ومن أمثالهما وأشباههما.

مسيرة إفساد المرأة في المملكة العربية السعودية

مسيرة إفساد المرأة في المملكة العربية السعودية بعد هذا العرض، ننتقل إلى هذه البلاد الطاهرة، وكيف بدأت المسيرة فيها، ولا بد أن نوجز إيجازاً وقد يكون مخلاً أيضاً.

التعليم

التعليم الحركة عندنا هنا، كما كتب عنها من الكُّتاب الرسميين كما في كتاب معجزة فوق الرمال، أرادوا أن يبدءوا من باب آخر، ويعتبروا بما جرى في مصر وغيرها قالوا: تبدأ الحركة بالتعليم، والإسلام دين العلم، والمطالبة بالعلم لن يرفضها المجتمع، وليكن المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، هو المسئول على التعليم. ولم يكونوا في المرحلة الأولى يريدون إلا مجرد التعليم، فلو أن الشيخ محمداً -رحمه الله- جعل التعليم كله قرآناً وفقهاً وتوحيداً لقبلوا، ولو جعله بدون شهادة لقبلوا. المرحلة الأولى كانوا يريدون فقط تعليماً -أي تعليم- لأنهم يخططون على الأمد البعيد، ونحن -مع الأسف وهذه مشكلة نعاني منها- أننا لا نخطط ولا نفكر على المدى البعيد، إذا ارتبط الأمر برجل فالرجل يموت، وكل الرجال يموتون ولكن من سيخلفه؟ كيف يكون الحال من بعده؟ ففات الإسلاميين أو فات حملة العقيدة أن يضعوا نظاماً للتعليم مختلفاً اختلافاً كلياً عن نظام الأولاد. ومع الأسف بُدِئ به كتعليم الأولاد: ست سنوات ابتدائي، وثلاثة متوسط، وثلاثة ثانوي، والجامعة على نفس النمط، بل وضعت مناهج هي نفس مناهج الأولاد، حتى الجبر والإنجليزي، والكيمياء، والفيزياء، عجيب جداً! كيف مضى هذا الأمر، وكيف لم نتنبه لهذه الخدعة؟! وقد فرح وابتهج العلمانيون بهذه الخطوة العظيمة التي -أحسب وكما قرأت من كلامهم- ما كانوا يتوقعونها بهذه السرعة، لقد كانوا يظنون أنها تبدأ بكتاتيب القرآن، ثم توحيد وفقه، ثم كذا، وفي الأخير سوف يصل الأمر. المهم أنشئ التعليم، ويا للأسف أنه أُنشئ كما أنشأه إسماعيل باشا، على نمط تعليم البنين.

الجمعيات

الجمعيات أنشئت بعد ذلك الجمعيات النسائية، وأشير إلى جمعية النهضة النسائية هي أول جمعية أنشئت في المملكة، وأعطيت ترخيصاً خاصاً، كانت مُنشئتها هي سميرة خاشقشي، وهي ليست مجهولة، ولا يمكن لأحدٍ أن يتهمها بأنها امرأة صالحة أو ذات دين، أو ذات خلق لأن مؤلفاتها ورواياتها وقصصها تملأ الأسواق، وسيرتها معروفة، وتعليمها وحياتها في الخارج معروفة ومكشوفة للجميع، ثم تُعطى ترخيصاً بإقامة هذه الجمعية. ورحمة الله على المنتبهين والناصحين، كم ينصحون ولكننا لا نحب الناصحين، ورحمة الله على الشيخ عبد الرحمن الدوسري فقد نبهنا والله وكأنَّ صوته يرن في أذني الآن، وهو ينبه إلى خطر هذه الجمعيات، وإلى الأيادي الماسونية من ورائها، ولكن من ينتبه، إنما نخدر بكلمة واحدة وبمقولة: إن هذه ضمن تعاليم ديننا، وفي إطار شريعتنا وتقاليدنا، فما دام قالوا هذه الكلمة، إذاً فليفعلوا ما يشاءون. أرادات الجمعية أن تبدأ من هنا، وأخذوا يكتبون أعمدة نسائية في الصحافة، وبدأوا يظهرون صوت المرأة في الإذاعة، أحد وزراء الإعلام السابقين يقول: إنني لما لم أجد أحداً، وجدت فلانة بنت فلان، وزوجته، وبدأ صوت المرأة يظهر في الإذاعة السعودية، ولكن الاعتراض والاستنكار ما يزال قوياً، فما الحل؟ فكروا في الوسيلة الخبيثة الماكرة التي فتحت لهم باباً عظيماً في الفساد، قالوا: إن أظهرت لهن مجلة هنا في المملكة سيثور عليها الناس، وسوف تقفل وتمنع، فما الحل؟ الحل: أن تنشأ صحافة في بلد غربي، ثم تصدر إلى البلاد، فأنشأت سميرة خاشقشي مجلة الشرقية، وفي عاصمة الظلام -أو عاصمة النور كما يسمونها- في باريس وهي تخاطب المرأة السعودية، والمجتمع السعودي، فإذا جاءت هنا، وقيل: الرقابة، قالوا: هذه صحافة أجنبية، وإن قيل: أفسدت بناتنا، قالوا: لا، لا بأس، فمع الزمن يعترض المعترضون كالعادة، نعترض ثم نهدأ ثم نسكت ثم نستسلم، أما هم فيتقدمون خطوات، وإذا بـ الشرقية تستمر وتنطلق. استنكرتها بعض الأصوات كـ مجلة الدعوة السعودية، وقد كانت قوية في عصرٍ مضى، ولكن مضى الأمر وهكذا. وانتشرت الجمعيات النسائية، وإذا بالجمعيات تقيم الحفلات للأزياء، وتقيم الحفلات للتمثيل، والمسرحيات، تقيم ما تقيم من الأمور التي لا تخفى عليكم جميعاً، ولا نريد أن نستطرد فيها، فالمقصود: أن إنشاء الجمعيات النسائية هو نمط مبدل للأحزاب النسائية في البلاد الأخرى. وهنا لا بد أن نقول كلمة: إذا كان إنشاء جمعية خيرية نسائية -مثلاًَ- على سبيل أن النساء ينفصلن عن الرجال ويعملن أي عمل من أعمال الخير، فهذا يبحث وينظر في ضوابطه وقيوده، ولكن لم يكن هذا هو الهدف، الهدف هو إيجاد صراع بين الذكر والأنثى في المجتمع، فتقوم الجمعيات لتطالب بحقوق المرأة، ويرد بعض الناس -وقد يكونون مفتعلين- على مطالبها، فتنشأ المعركة. كالحال في المجتمع الغربي الذي لا يحكمه شرع الله، فالعمال في صراع مع أرباب العمل، والطلاب في صراع مع مديري ومسئولي الجامعة -مثلاً- والشعب في صراع مع الحكومة، والمعارضة في صراع مع الحكومة الدستورية، والمرأة في صراع مع الرجل، وأحياناً تكون -أيضاً- النوعية فالشباب في صراع مع الكبار، أو المحافظين في صراع مع أصحاب التحرر؛ فكل الغرب يعيش في صراع وفي تناحر، فتقول المرأة: إنما أريد أن أكون مطالبة بحقنا، إلى متى نظل مهضومات؟ إلى متى نظل كذا؟ فكان هذا هو الغرض الذي امتد وانتشر في أمور أخرى غير الجمعيات.

التلفاز

التلفاز جاء التلفاز بعد ذلك وفي أول الأمر وأذكر -كنت حينها في المرحلة الابتدائية في الرياض - أن أحد العلماء خطب، وقال: "لقد وعدنا وعوداً قاطعة جازمة، ألاَّ يكون هناك امرأة تظهر فيه، ونعوذ بالله، وهل يعقل أن نظهر النساء في دولة الإسلام" كلمات قوية لا زلت أحفظ بعضها إلى الآن، فكانت هناك وعود من المسئولين ألاَّ تظهر المرأة في التلفاز، وأنه لن يكون فيه موسيقى، وأنه لن يكون إلا وسيلة للخير، وهو سلاح ذو حدين، قلنا: مادام ذو حدين الحمد لله، لو كان حداً واحداً لغضبنا، وسكت الناس وخدعوا. وبعد فترة قالوا: لا بد للمرأة أن يكون لها دور، قالوا: الطبخ كيف تتعلمه؟ فكانت تظهر حلقات وبرامج صغيرة عن الطبخ، تظهر فيها الكفان فقط وهي تقطع البصل. بعد مدة ظهر الذراع، ثم ظهر الوجه، ولكن كانت متسترة وكبيرة في السن، قلنا: هذه من القواعد، فلا مشكلة، نعم دائماً يضحكون علينا لأننا نحن الذين نقبل هذا، ولا أحد يستنكر. واحد يسكت، وواحد يقول: أنا أصلاً ما أدخلت التلفاز بيتي، فليذهب الناس إلى الجحيم أو الجنة، فالطريق واضح؛ وكل ذلك في ذمة الذي أتو به -المهم أن لكل إنسان أعذار- وبدأت المرأة. وبدأ بعد ذلك -وكما رأيتم- الانفتاح قالوا: نأتي بمسلسلات ونراقبها، بدأت المسلسلات ثلاثة أنواع أو أربعة؛ مسلسلات أجنبية أمريكية وغربية وغيرها، مسلسلات مصرية ومصر كانت قد قطعت شوطاً في التغريب- والأخرى المسلسلات البدوية، وكل نوع من الشعب يُفسد بوسيلته التي يعجب بها، أهل البادية يحبون المسلسلات البدوية، تجعلها بعد المغرب أو في وقت مبكر قبل أن يناموا، أما الأفلام الأمريكية آخر الليل وهكذا، والمصرية بعد العشاء -مثلاً- المهم كل واحد على منزلته، فلا تظل فئة من فئات المجتمع إلا ودخلها الفساد. اعمل إحصائية لهذه المسلسلات وقسها وانظر، فإن لم نقل (100%)، فـ (90%) منها عشق وغدر، وزنا، وفساد، وخلاعة، وفي النهاية إن كان الزواج آخر شيء، حفل الزواج آخر مقطع في المسلسل بعد ثلاثين أو أربعين حلقة، أما ما قبل ذلك من الصحبة والذهاب والرجوع والمرأة تقود السيارة، وتذهب وتواعد حبيبها وتركب معه السيارة، كل هذا قبل الزواج بمراحل، في أول الفيلم وأول المسلسل هكذا كانت الخطة. وسكت الناس وما كان يدور في عقولهم أن ما نراه في الشاشة، سيأتي من يطالب به في الواقع، وهذا من استحكام الغفلة على قلوبنا-نسأل الله العفو والعافية-.

الصحافة

الصحافة نأتي -أيضاً- إلى ملحظ آخر وهو الصحافة: كانت الصحافة تطالب من بعيد، وأحياناً تتقدم خطوتين وتتأخر خطوة، وفي تلك الأيام أو البدايات الأولى ظهرت دعوى قوية -والحمد لله- مضادة لهذه الحركة، ونذكر منها الأستاذين الفاضلين الكاتبين، الأستاذ أحمد محمد باشميل، والأستاذ أحمد محمد جمال، اللذان ألفا: لا يا فتاة الحجاز، ومكانك تحمدي، فمن قرأ الكتابين وجد أنهما رد على دعوة كانت قائمة في البلاد، والمملكة كانت فيها مجلات كثيرة، كان أي أحد يستطيع أن يفتح مؤسسة ويعمل مجلة، فكانت كثيرة حتى كان هناك مجلة اسمها البعث، وصدر منها عدة أعداد، وكانت مفتوحة حتى نزلت المؤسسات الصحفية. المهم أن الصحافة أخذت بنصيبها وأخذت على عاتقها نفس الدعوة وسايرت الجمعيات، وسايرت التلفاز، وظهرت الدعوة بوضوح بعد مقتل الملك فيصل وظهور الصحافة الأمريكية، وتعليق الصحافة الأمريكية بأن موت الملك فيصل هو بداية عصر جديد في السعودية للتحرر، وإذا بالجرائد ومنها جريدة الرياض تقول نفس العبارات: إن المرأة السعودية ستشهد عصر النور والانفتاح، وقد مضى عصر الظلام! بهذا النص. وكتبت جريدة الرياض في أحد الأعداد، تقول: إنه قد يأتي اليوم الذي تكون هناك المقاهي المختلطة في الرياض لا في باريس بل في الرياض، ويجلس الرجل والمرأة في المقهى ويستمتعون ويشربون الشاي، ويكون -أيضاً- هناك ممثلون وممثلات، ودور السينما، وأخذ المقال يفيض بهذا الكلام، وإذا كان ذلك سيتحقق فلم لا نتعجل به، إذا كانت الدعوة تريد ذلك. في أثناء ذلك -أيضاً- ظهرت ضمن الصحافة جريدة اليوم التي تصدر في المنطقة الشرقية وظهر أحد الشعراء وقال القصيدة المعروفة: مزقيه مزقيه ذلك البرقع مزقيه أي ذل أنت فيه أي شؤم أنت فيه أي ليل أنت فيه أي قبر أنت فيه مزقيه مزقيه واسألي يا بنت رب العالمين واسألي من أنزل الآيات والسور هل يخفى القمر أعوذ بالله، يريد أن تكفر بالله، وأن تسأل الذي أنزل الآيات والسور لماذا ينزل الحجاب؟ نسأل الله العفو والعافية. فتحرك بعض أهل الخير وكانت تلك الأيام -مع الأسف- سنوات الطفرة، فالناس مشغولون بالسهرات وبالعمارات، لا يوجد متفرغ للثاني، لكن تنبه من تنبه، وعوقبت الجريدة بعقوبة صارمة للغاية! فأغلقت ثلاثة أيام!! وكان من المفروض أن يقام حد الردة، وهنا نقف وقفة. حد الردة ما من حدٍ يسقط فلا يقام، إلا وتظهر عقوبة ذلك في المجتمع، متى أقيم حد الردة على أي ملحد؟ أيعقل أننا مع هذا الفساد العظيم ما ظهر فينا ملحد من سبعين سنة؟! معقول! ما وجد فينا مرتد من سبعين سنة! لو أقيم حد الردة على واحد والله لزجرت أمم وألوف من الناس، ولذلك طوي ملف الحداثة وحفظ، وإلا فالردة الصريحة موجودة فيه، لو حوكم أصحابه على الردة وقتل منهم اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة، ومن قبل الحداثيون الأوائل، الذين ركبوا الموج أخيراً وغيروا، وإلا فدواوينهم معروفة، ونساؤهم معروفات، كن يخرجن في الرياض، وهم الآن يتمسحون باسم الدين، ويقولون: إن الفتوى ستتغير بتغير الأزمان والأحوال، هؤلاء أنفسهم هم أول من تبرجت زوجاتهم، وأول من طالبن قبل الحداثيين بالإلحاد والكفر، والفجور. فالمهم أنه لما لم يقم على هؤلاء ولا على هؤلاء حد الردة، حتى تجرأ من تجرأ والله المستعان. وفي هذه الفترة -أيضاً- ظهرت الدعوة عبر الصحافة إلى دور السينما، وقالوا: لا بد من وجود سينما في المملكة تراقب، كما ظهرت الدعوة في مصر، وقالوا: من اللازم أن توجد بيوت للبغاء وللدعارة، وتراقب صحياً واجتماعياً خير من أن البلد يكتسب الزنا ويصاب بالمرض، قالوا: تراقب؛ فظهرت، وتبنت جريدة عكاظ الخطة بعد أن تركها الأستاذ أحمد غفور عطار، وقد أعلن براءته منها بعد أن تبنت هذا الخط، ودعمتها جريدة الرياض، والجزيرة واليمامة وغيرها، وقامت بقوة، وانفردت جريدة المدينة بالوقوف ضد الدعوة إلى دور السينما، حتى أن واحداً من المعلقين الكبار، قال: دور السينما لا بد أن يوجد، وأيضاً نشكر الأستاذ أحمد محمد جمال، والأستاذ صالح جمال أخوه، ووقفتهما التي وقفوها ضد هذا التيار. وأذكر أننا كنا في السنة المنهجية هنا في الجامعة، وأعددنا تحليلاً لتلك الأيام، فاشترك بعض الإخوة بمقالات صغيرة أرسلت إلى الجريدة؛ ويشهد الأستاذ أحمد محمد جمال ومن فرحته ومن غربة من يتكلم في هذا الموضوع، كتب عنواناً بخط كبير: لست في الميدان وحدي، وقال: "الحمد لله جاءني تشجيع، جاءتني رسالة من طالب جامعي يكتب في الموضوع، ولا زلت أذكر العناوين التي كان يكتب بها بعنوان: (لا تهدموا هذا الكيان الكبير) يقول: هذه الدعوة هدم لهذه المملكة الكيان الكبير، هذه الدعوة إلى الإباحية وإلى ظهور المرأة في المسرح، هذه دعوة لهدم هذا البلد وهدم الجيل، وكان هذا ما كتب، وجزاه الله خيراً، وهناك من كتبن ضد هذا الموضوع من أسرة الأستاذ صالح بالذات.

تطوير الجيش

تطوير الجيش النساء في تلك الفترة -أيضاً- ابتلين بتطوير الجيش، الذي خسرنا عليه مليارات -والله يعوض خيراً- فتطوير الجيش وتحديثه قامت به عدة شركات أمريكية، وكان في كل القواعد الجوية الأمريكية نساء أمريكيات يعملن في القواعد وغير ذلك، ومن هذه الشركات (لوترب) وشركة (ماكدونلد) وشركات كثيرة في كل القواعد. أما المستشفيات والخطوط السعودية فحدث ولا حرج -هذا أمر معروف وظاهر للجميع- فكانت المرأة تعمل في عدة قطاعات من المجتمع مع الرجل، وإن كان الغالب أنهن كافرات، لكن -أيضاً- وجدت بعض التعقيدات؛ فظهرت الدعوة التي تقول: لماذا لا تكون العاملات من أبناء الوطن وفي حدود شريعتنا وتقاليدنا؟ لماذا تظل هذه الوظائف حكراً على النساء الوافدات كالمذيعات في التلفزيون -مثلاً- أو الممرضات، أو المضيفات، أو العاملات في القطاعات الأخرى والشركات؟ وظهرت هذه الدعوة ووصل الحال إلى أن وزارة التخطيط تبنَّت بنفسها توظيف النساء، وخصصت لهن مكاتب كثيرة وتوظف النساء؛ وكما قال وزير التخطيط في الندوة التي عقدت في جدة: إن الوزارة تهدف إلى تهيئة الكوادر، ثم تصديرهن فيما بعد إلى الوزارات الأخرى، فبالطريقة هذه تصبح الوزارات جميعاً مختلطة، وما المانع أن يكون هناك موظف إلى جانبه زميلته موظفة في إطار وحدود شريعتنا وتقاليدنا. في هذه الفترة ظهرت المطالبة بجامعة للبنات، ولكن كلما ظهرت فكرة جامعة البنات توأد ولا نسمع لها أثراً، فجامعة البنات قالوا في أول الأمر: إن التعليم سيكون إسلامياً؛ وأن المفتي هو المسئول عنه، وقالوا: لا، مع أن بعض الوزارات شققت في تلك الأيام إلى أربع وزارات، فوزارة المواصلات كم شقوا منها وزارة؟ ووزارة الداخلية كم شقوا منها وزارة؟ أموال كثيرة والحمد لله، ووظائف تراد أن تُفتح، فكثروا الوزارات إلا هذه، قالوا: الأحسن لو دمجت وزارة المعارف مع الرئاسة العامة، لأنه لو وضعنا جامعة للبنات ربما يختل عندهم هذا الشرط الذي يسعون إليه. ثم قالوا: نريد أن يدرس الأبناء معلمات في المرحلة الابتدائية، وكتبوا ذلك، وكان لسماحة الشيخ عبد العزيز فتوى في الرد عليهم في ذلك، وأن هذا لا يجوز؛ لأنه يفتح باب الفتنة، فقالوا: تنازل يا سماحة الشيخ يدرسن إلى ثالث ابتدائي فقط، بعد ذلك تدخل من باب المدرسة لكن لا تدخل فصل سنة سادسة أي من ثالثة وتحت، تتقابل مع المدير والوكيل والفراشين والمراقبين، لكن سنة رابعة، وخامسة، وسادسة ما تقابلهم، فأرادوا أن يستغفلونا ويضحكوا علينا؛ ولكن قامت الدعوة -والحمد لله- ورفضتها الرئاسة؛ أما جامعة البنات فإنها لم تر النور بعد والله المستعان.

ابتعاث النساء إلى الخارج

ابتعاث النساء إلى الخارج في نفس الوقت ظهرت مصيبة الابتعاث مع سنوات الطفرة والنعمة، ونعوذ بالله من أن نكون من الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار. والله لما سمعت ما فعله هؤلاء الفاجرات الفاسقات في الرياض، قلت: يا سبحان الله! لو أنَّ كل واحدةً منهن سألت أباها أو جدها، كيف كنت تعيش؟! ونظرت إلى ما أنعم الله تعالى به عليها، لشكرت الله وحمدته، وما فعلت هذا الفعل، فوصل الحال في مجتمعنا إلى هذا الحال، أن الناس يأكلون الجيف. والله لقد حدثنا ثقات أنه خرج ثلاثة من شدة الجوع قبل حوالي سبعين سنة أو ستين سنة، فلم يجدوا ما يأكلون، واستمروا في الصحراء، فما وجدوا شيئاً يأكلونه، فناموا، واتفق اثنان على أن يقتلا الثالث ويأكلاه -والله من الثقات- ولكن في أثناء التشاور كيف يقتلونه وهو نائم وإذا بكلب يمر، فأيقظوه وحاصروا الكلب وذبحوه وأكلوا لحمه. أقول وأمثله كثيرة وآباءنا يعرفونها، جوع شديد جداً، بل إلى قريب بعد أن تأسس الجيش، كان الجنود يمضون أحياناً سبعة أشهر لا يأخذون الراتب. أقول: أنعم الله علينا -والحمد لله- بالمال وهذا البترول، فهل شكرناه أم كفرناه؟ قلنا: نبتعث البنات للخارج، هل هذا جزاء النعمة وشكر المنعم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويرسلن إلى الخارج، هذه في كولورادو، والأخرى في مسلدن، والثالثة في كاليفورنيا. وهنالك لا أقول: تعلمن قيادة السيارة، ليست القضية قيادة السيارة، بل تعلمن كل أنواع الفساد والانحلال والإباحية، ثم جئن هنا ليربين الأجيال! ابتعثن من غير محارم وما يزلن يبتعثن من غير محارم، ويفعلن ما شئن، فهل نتوقع أنها هناك مجرمة وفاسقة ومتهتكة، ومتخلعة؛ فإذا عادت هنا تتحول إلى ملاك؟ لا يمكن. وصحب ذلك حملة خبيثة مسمومة من هؤلاء المبتعثين وقد يأتي لنا وقفه مع هؤلاء، لأن الذين يقفون وراء هذه الحركة الخبيثة رجال معرفون بأسمائهم ولو شئنا لسميناهم تستروا حتى تعرفوا أنها حركة مدبرة، بأسماء نساء، وأخذوا يكتبون في الجرائد في جريدة الرياض، وفي الجزيرة، وفي اليمامة، وفي عكاظ، وفي المدينة، كلام كثير جداً، فقام المعارضون ومنهن فتيات -والحمد لله- وتعرفون بعض أسمائهن، واعترضن وطال النقاش. ومن أطرف ما نشر -والحمد لله أننا تنبهنا بعد فوات الأوان- طالبت بعض الفتيات المؤمنات اللاَّتي كن يحاربن هذا الفكر الخبيث، ونريد أن نتصل بكن يا فلانة، وفلانة، وفلانة، (ونجمة الحمود، وطفول عبد العزيز) وغيرهن، فتكتب تلك وتقول: إني موجودة ومعروفة، فتكتب تلك وتقول: أعطني هاتفك أتصل بك، أو مكان كليتك أريدك، وإذا بالأمر أنه ليس هناك نساء بهذه الأسماء، إنما هم رجال مجرمون ومعروفون بأسمائهم، يكتبون بأسماء نسائية، يقول أحدهم: أنا امرأة محطمة، وأنا متأخرة! وهو رجل يكتب ليفسد المرأة المسلمة، ويضحك علينا ونحن مع الأسف في غفلة عن هذه الأحداث التي تجري من حولنا، والطيّب فينا ربما لا تتجاوز قراءته أو فهمه حدود مسجده أو الحي الذي هو فيه، والدنيا الأخرى لا شأن له بها، والله المستعان!

نواد رياضية للنساء

نوادٍ رياضية للنساء ثم نشأت بعد ذلك دعوة غريبة جداً، تطالب بنوادي نسائية للرياضة، فيصبح هناك منتخب الرياض للفتيات، ومنتخب جدة، وبعد ذلك تعقد مباراة، وتنقل في التلفزيون، فيحضرها الرجال، وقالوا: لا بد من نوادي، وحكومتنا الرشيدة قد هيأت كل شيء، وتدفع آلاف المليارات على الرياضة، لا يمكن أن تحرم الفتاة التي تخدم الوطن والتي كذا وكذا، وطالبوا معها بمكتبات، والمكتبات أمرها أخف! لكن المقصود أنهم يريدوا أن يجعلوها صراعاً وخروجاً عن الدين، ولو كان الغرض مكتبة ليقرأن، لطالبنا نحن بذلك، لكن لهم أهداف خبيثة من وراء ذلك، وظهرت هذه الدعوات المحمومة -وربما لا تزال- وظهرت معها الدعوة إلى المهن المختلطة، وحتى فتحت معاهد التمريض في أكثر المدن -مع الأسف الشديد- ثم أخذت المقابلات تُجرى عن أول فتاة في دولة كذا تقود الطائرة، وأول عسكرية في دولة كذا، وأول شرطية في دولة كذا، من أجل أن يقولوا: أين المرأة السعودية وما دورها؟ هنا -أيضاً- نشيد بالأخت سهيلة زين العابدين فإنها ممن قاوم هذا الفكر المنحرف، ولها ردود في هذا المجال وغيرها من الأخوات التي -مع الأسف- اختفت ولا أدري لماذا اختفت.

دخول القوات الغربية

دخول القوات الغربية وعندما جاءت هذه الحشود والقوات الغربية، الفتنة الكبرى التي ما أظن مر على تاريخ الإسلام وتاريخ جزيرة العرب كارثة أعظم ولا أكبر منها، وجاء معهم النسوة التي لا يخفى على أحد أعمالهن ولا تحركاتهن، وقد حُذر مع الأسف، ولكن قد كان الواقع الذي ترونه، والذي يراه كل أحد يزور المناطق التي يتواجدون فيها وهم ليسوا ببعيد، المهم لما جاءوا كان طبيعيٌ جداً أن تتكرر الدعوة القديمة دعوة تغيير المجتمع. الذي نعرفه أنكم جئتم لإعادة الشرعية، وللدفاع عن البلاد، أمّا أنكم تقولون: تغيير المجتمع، التغيير الاجتماعي، والديمقراطية، وتغيير التركيبة، وتغيير البنية الاجتماعية، ما علاقة هذا بهذا. ولكي أختصر عليكم الإحالات -وهذا شيء أنا أرجو أنه لا يفوت ذلك الكثير منكم حتى تعرفوا ماذا يراد لنا- كل يوم في الصباح وأيضاً تأتي في الليل أحياناً لكن أنا لا أسمعها إلا في الصباح أقوال الصحف الأمريكية تأتيكم في صوت أمريكا باللغة العربية نسمع ماذا تقول، والعاقل يفكر، المسألة ليست مسألة شرعية. ويتكلمون عن غياب العدل لدينا، وأي عدل أقامه الغرب في حياتهم، أي شرع فَكَّرَ الغرب أن يقيمه في حياته كلها، إنها مآرب أصبحت غير خافيه على أحد -والحمد لله- ولهذا لا نفيض في الحديث عنها؛ فإن الواقع أكبر من أن يتكلم عنه، لكن المقصود أن ارتباط وجود هذه القوات مع المطالبة بالتغيير الاجتماعي، والتغيير في سياسة أو طريقة الحكم، وفتح المجال للشورى وللمقاطعات إلخ، هو نفس المشهد الذي رأيناه في أيام نابليون ثم في أيام إسماعيل، ثم في أيام سعد زغلول، ثم فيما بعد تكرر. وإذا بالمنتمين إلى الفكر الغربي، الذين قبلتهم ليست مكة إنما واشنطن، ولم يتلقوا العلم الشرعي من سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وميراثه الذي ورثه لنا، وإنما تلقوا تعليمهم الإلحادي في تلك البلاد الكافرة، وإذا بهم يطالبون نفس الشيء، ويدعون إلى التحرر والإلحاد والخروج فكانت المسيرة. فاجتماع هذه الأمور من وجود القوات ووجود هؤلاء السافرات الفاجرات ومعهن الكافرات، ووجود التوجيه من الخارج بالتغيير الاجتماعي -الذي لا بد أن يطرأ على دول المنطقة بعد قدوم هذه القوات- هذا هيأ الفرصة لخروج ما سمي بالمظاهرة، فخرجت وقد ظنوا -وخيَّب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ظنهم- أننا قد متنا وأنه (ما لجرح بميت إيلام)، فظنوا أن الإيمان قد فُقِِدَ، أو ذُبح، وأن حب الدنيا، وغلبة الشهوات، والتربية الإعلامية الطويلة على الانحلال، والسفر إلى الخارج المفتوح على أبوابه، وأكل الربا، والانغماس في الشهوات، وإبعاد الشباب عن حياة الجد، وغيرها من العوامل، أن ذلك كله قد قضى على شخصيتنا الإيمانية. وتوقعوا أنه سيعترض بعض من سموهم أصحاب المكانس، ولكن سنغلبهم وسيعترف المسئولون بالأمر الواقع، وسيكون لنا كيان ووجود، ويكتب التاريخ أننا الزعيمات الرائدات لهذه الحركة، وكانت -والحمد لله- غلطةً كبرى، ووهماً عظيماً وقع فيه المخططون، ولا نعني المنفذات الغبيات، وإن كان فيهن من هي على علم، ولكن وقع في الوهم الكبير المخططون، ومن يقف وراء المخططين، وأخطئوا التوقيت، وعبارة (وأخطئوا التوقيت) كثيراً ما سمعناها، لكن نحن نريد بها معنى آخر، نقول: إنهم أخطئوا التوقيت بأن قدموا الأمر في وقت ظنوا فيه أننا قد متنا، ولكننا -والحمد لله- ما زلنا أحياء، وظنوا أنهم سيضحكون على علمائنا، ولكنهم والحمد لله تنبهوا، بعد أن كاد الأمر أن يفلت بتعهد، لكن الاستنكار الذي قوبلن به قضى على الأمر.

الصبر والمجاهدة تجاه الفساد

الصبر والمجاهدة تجاه الفساد لقد كشفت المؤامرة، وعرف من وراءها، وعرف المخرجون والمنفذون، ولم يسكت المؤمنون الغيورون على هذا الأمر أبداً، ولن نسكت أبداً، والقضية ليست قضية قيادة المرأة للسيارة، إنَّ القضية قيادة الأمة إلى الهاوية، وعندما أفتى العلماء بتحريم قيادة المرأة للسيارة، وصدر بها بيان من وزارة الداخلية، وعقب على ذلك أيضاً وزير الداخلية في مكة -كما سمعتم- ظهر العلمانيون المجرمون لمصادرة هذه الفتوى، وكتبوا وقالوا: إن هذا الأمر قابل للنقاش، وللحوار، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والأحوال. عجيب ما المقصود؟ ولماذا يكتب في جريدة مشهورة، ثم يقرأ عقب الأخبار في التلفزيون، وكأنه تعليق رسمي من الحكومة؟ وكأنه يقول: انتظروا قليلاً، نحن الآن مجبورون أمام هؤلاء، لكن سيموتون هؤلاء الأربعة أو الثلاثة، ويأتي الجيل المرن فيما بعد، وتتغير الفتوى ويكون حلالاً. وضربوا أمثلة، قالوا: تعليم المرأة كان مرفوضاً ثم أبيح، وظهور المرأة في التلفزيون كذلك وذكروا كثيراً من المنكرات، التي تغيرت الفتوى فيها، أو الزمن غيرها ثم أُقرت. نقول: خاب ظنكم! وخاب شأنكم! ووالله لا يكون إن شاء الله، ونحن الشباب المسلم -والحمد لله- كثير وكثير جداً، بل نحن الأمة كلها قد عاهدنا الله ألا يتم ذلك، بل المرأة المسلمة الغيورة استنكرت، وكثيرٌ منهنَّ لم تستنكر لعفافها ولكن لا يخرج عنها علم أو خبر. وإلا لو كانت المسألة كما في المجتمعات الأخرى مظاهرة ويرد عليها بمظاهرة، لكان بإمكان العلماء والدعاة أن يخرجوا مقابل أربعين، أو بضع وأربعين عاهرة أو فاسقة، أو فاجرة -أياً كانت- أن يخرجوا ثمانية ملايين امرأة، إن كان عدد النساء عندنا ثمانية ملايين، لكن نحن لا نرى أسلوب المظاهرات أصلاً. وهم يقولون: إن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، نقول: نعم! لن تعود أبداً بل بدأت -والحمد لله- تدور إلى الأمام في مصر، والجزائر، والمغرب، وتركيا، وأفغانستان وفي كل مكان، بدأت المرأة المسلمة تعود إلى حجابها وتعرف دينها، حتى في الأرض المحتلة في فلسطين المحتلة، وحتى في غيرها من البلاد -والحمد لله- بل حتى الفتيات المؤمنات داخل المجتمع الغربي الكافر نفسه، بدأت المرأة المؤمنة تعرف أنها مؤمنة، وتتمسك بحجابها في تلك الدول، هنالك في تلك المجتمعات؛ والطفلة فاطمة التي هزت فرنسا وغيرها من الأمثلة على ذلك -والحمد لله- فنعم، عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، وقد بدأت مسيرة الإيمان إلى الأمام، والمسألة ليست عقارب ساعة، لكن المسألة هي مسألة غفلة وران تجتاح القلوب بالمعاصي والذنوب، وبحب الشهوات، وبأكل الربا، وبالانحراف عن شرع الله، وبعدم تحكيم شرع الله وإقامة دينه. ولكن هذه الأمة تفيق وسرعان ما تفيق، وإذا أفاقت؛ فإنها تُحِكِّمُ كل القيود، وتفجر كل السدود بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا ما نص عليه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين}، وفي رواية {يقاتلون على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم} لا يضرهم من خالفهم كائناً من كان، الشرق أو الغرب، حتى يأتي أمر الله، فيستمرون والغلبة لهم، وما مر بهذه الأمة مرحلة ضعف وخذلان، إلا وعقبها يقظة ونهضة قوية، وأعقبها غسل للعار، وأخذ بالثأر من كل مجرم جعل عرضها أو دينها أو شرعها مهزلة أو سخرية. هذه حقائق يجب أن يعلمها أولئك، ويجب أن يعلمها الشباب وبالذات في هذا البلد الحرام. أقول: إن ما بلغني وما سمعته من استنكار شديد في أوساط الشباب، والمشايخ وعلى رأسهم العلماء والحمد لله، العلماء في محكمة التمييز، وفي شئون الحرمين، وفي الجامعة وفي كل مكان من هذا البلد، الدعاة والطالبات والمدرسات في الكليات، أقول: هو خير كبير ومع ذلك لا يكفي بالنسبة إلى إنكار غيرها من المدن، يجب أن يكون هذا البلد الحرام هو المتصدر الأول للإنكار على هذا المنكر. هذا البلد الذي انطلقت منه دعوة الخير والنور، والهدى يجب أن يكون أكثر المدن إنكاراً لهذا الفساد العظيم، وأكثر مطالبة لحكم الله، لا نطالب إلا بحكم الله في كل قضية، حكم الله عز وجل، أما تعهد فهذا لا ينفع نحن نريد حكم الله وشرعة، وما يحكم به القضاة في كل المسائل التي تعرض عليهم من شرع الله نرضى به ولا بد أن نرضى به في هذه المسألة، ولا يمكن، ولا ينبغي، ولا يحق لأي مؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن طالب بحكم الله فما ظلم ولا تجنى على أحد. نطالب وبكل شدة وإلحاح، وسنستمر في المطالبة بأن يعرضن على شرع الله، وإن لم يحاكمن، وإن لم تقم تحتسب الجهات المسئولة بإقامة دعوى عليهن، فلا يجوز لنا أن نسكت، وسنأثم -جميعاً- إن لم يكن منا من يحتسب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقيم الدعوى لوجه الله. وعلى النائب أو المدعي العام أن يستمع الدعوى، وأن يرفعها ويوصلها إلى القضاء، وتكون محاكمة بين هذا المحتسب أو المحتسبين، وليكونوا من علمائنا الأجلاء والحمد لله، فليحتسبوا هم بإقامة هذه الدعوى، ليرفعهم الله بها في الدنيا والآخرة، ثم حكم الله يمضي، ولا نعيد الكرة، لا نعيد ما حدث في ملف الحداثة، وماقبله مما نشر من إلحاد وكفر وضلال، فهذا البلد -والحمد لله- ما قام إلا على التوحيد والسنة، وسيستمر على التوحيد والسنة، رغم أنوف الكائدين والحاسدين من المنافقين هنا، {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61]، ومن الأعداء هنالك الذين يحركونهم ويشجعونهم، وسيرغم الله تبارك وتعالى أنوفهم بنصرة دينه وإقامته.

واجبنا تجاه هذه القضية

واجبنا تجاه هذه القضية لا نعني حل هذه المشكلة في ذاتها فهو ما أشرنا إليه حل سهل وواضح، وعادي، ومطلب مشروع جداً، وليس في إمكان أحد كائناً من كان، أن يلومنا عليه وهو المطالبة بحكم الله فيهن، هذا واضح، لكن ليست هذه هي القضية، فالقضية أنه يجب علينا أن نطالب، وأن نسعى إلى استئصال هذا الشر من جذوره، وتجفيف كل منابعه، وتطهير وسائل الإعلام من تلفاز وإذاعة، وصحافة، تطهيراً كاملاً من كل ما حرم الله. ومن ذلك -أيضاً- تطهير الأسواق، والنوادي، ومراكز التجمع النسائية، وغير النسائية كائنة من كانت، من كل ما حرمه الله، من كل ما يغضب الله، وتطهير المناهج من كل دخن، وتطهير القلوب من أمراض الاعتقاد أو الشبهات، وأمراض الشهوات، والإذعان والانقياد والاستكانه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. على أية حال نقول: لا بد من عودة صادقة كاملة إلى الله، نزيل كل ما حرَّم الله، فمحلات الفيديو لابد أن تقفل -جميعاً- إلا ما كان منها منضبطاً بشرع الله، وكذلك التسجيلات التي تبيع الغناء المحرم وكل التسجيلات غير الإسلامية لابد أن تقفل جميعاً، وكل شيء خالف شرع الله في حياتنا العامة، وإن لم يكن يتعلق بالنساء خاصة، كالبنوك الربوية تقفل جميعاً، وبدون تردد ولا استثناء. فكل شيء عصينا الله فيه، فنرجو الله بأن نقفله أو نمنعه، فإن قيل: هذا شيء كبير، وتحول خطير، ونحن لسنا على استعداد أن نغيرها، وأن نتوب هذه التوبة. فلنقل إذاً: أنكون على استعداد لغضب الله، ومقته وعذابه وتسليط الله تبارك وتعالى العذاب علينا، يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] إن لم نستكن ونتوب ونتضرع؛ فإذاً لا بد أن تنزل العقوبة كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. بل يجب أن نحمد الله أن فينا من أنكر، وأنَّ هذا الإنكار الذي يدل على وجود مُصلحين هو الذي يدفع الله تعالى به العذاب، لأنه تعالى ما كان ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولم يقل: صالحون، فوجود المصلحين والمنكرين نعمة عظمى من الله، وقد كنت والله أخاف أن يباغتنا عذابٌ من الله تبارك وتعالى فيسلط علينا هؤلاء الأعداء أو غيرهم، جزاء بما اقترفنا وعصينا، ولأننا لم نظهر توبة صادقة حتى الآن، فلما جاء هذا الإنكار اطمأن قلبي نوعاً ما، وفرحت وقلت: الحمد لله، إن الله لن يهلكنا وفينا هؤلاء المصلحون، هذه نعمة من الله، فالحمد لله. إذاً سيدفع الله تعالى عنا العذاب، وسيصد الله تعالى أعداءنا من عنده وبأيدينا -أيضاً- بإذن الله، هذه نعمة، فكلما ضاعفنا الإنكار، واستئصلنا شأفة الذنوب والمعاصي، وكلما صدقنا مع الله إنابة وتوبة، وإخلاصاً، وصدقاً، وتضرعاً، فذلك -والله- هو الخير والنجاة والفلاح والسعادة. وأما غيره فهو الخسارة، والهزيمة، والنكال، والعذاب، والهوان، ولا سيما لهؤلاء الذين توعدهم الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] انظروا! ليس فقط في الآخرة بل في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون. لا تقولوا: كيف تأتيهم العقوبة، إن لم نعاقبهم نحن، فإن هناك أبواباً من العقوبات لا نعلمها، سوف يسلطها الله تبارك وتعالى على هؤلاء، فنحن -والحمد لله- مهيئون للتوبة وللإنابة، وإن لم يكن هذا البلد هو المهيأ، وإن لم يكن حملة الإيمان فيه هم الدعاة إلى هذه التهيئة فمن إذاً يكون؟ والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

انتشار ظاهرة تدليك النساء

انتشار ظاهرة تدليك النساء Q انتشرت محلات التدليك النسائي بكثرة حتى في هذا البلد مكة، وهناك سهولة في الحصول على الترخيص؟ A وذلك لأنه لو أراد ترخيص لتسجيلات إسلامية فسيتأخر سنتين، لأنها لا تناسب ولا تعجب هؤلاء العلمانيين، ولهم أيادي وسلطة في بعض القطاعات لا تخفى عليكم، ولذلك يمنعونهم، لكن أماكن التدليك جزء من الظاهرة الكبيرة، وهي الانحراف والبعد عن دين الله -كما قلنا- وهذا هو إشارة إلى مرض من الأمراض.

حكم قيادة المرأة للسيارة

حكم قيادة المرأة للسيارة Q حكم كبار العلماء في قيادة السيارات شيء جيد، لكن أود منهم أن يفتوا، وأن يقوموا بالدعوة إلى إقفال تلفاز القناة الثانية وغيره؟ A موضوع قيادة السيارة للمرأة لا يحتاج فيه إلى كلام، وليست القضية قيادة المرأة للسيارة أبداً، ولا نعالج الخطأ بالخطأ، ولا نعالج المرض بالمرض، أصل قضية المرأة الله سبحانه قد حسمه وقد حله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وقرن هذا الأصل {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] هذا كلام رب العالمين، فالأصل هو أن تقر المرأة المسلمة في بيتها، ولا تخرج إلا لحاجة أو ضرورة، هذا أمر آخر وشيء يبحث، وفي حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة والتابعين كان هذا واقعاً فلا جديد في الأمر، أما أن نخرج على شرع الله في أمر من الأمور، ثم نريد أن نرقع، فنحل المشكلة بخطأ أو مصيبة أخرى؛ فلا يُضحك علينا بذلك. الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهموا أول الأمر من نزول الحجاب أن ذلك حتى لا تُعرف المرأة أصلاً، والحديث الصحيح الذي رواه البخاري في عدة مواضع ورواه غيره من حديث سودة رضي الله تعالى عنها لما خرجت أم المؤمنين من عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتعشى وفي يده عرق اللحم، خرجت فرآها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في الليل، وكانت محجبة، لكن كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث: {وكانت امرأة بدينة لا تخفى على من يراها، قال عمر: قد عرفانك يا سودة فانظري كيف تخرجين، فانكفأت رضي الله تعالى عنها راجعة}. انظروا إلى أخلاق وآداب الإسلام، انكفأت راجعة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له ما قد جرى، فتغشى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يتغشاه إذ نزل الوحي وما يزال اللحم بيده حتى أفاق، ثم قال: {إن الله قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن}. أي: ليس الشرط أن لا تعرف المرأة، حتى لو عُرِفَت أنها فلانة، ما لها ذنب، ما دامت متسترة ومتحجبة، لا يُرى منها شيء. انظروا! كيف فهم الصحابة من الحجاب أنه لا تعرف أصلاً، لا يرى إلا السواد، ولا يدرى سواد من هذه. فكيف الآن يقال: تقود أو لا تقود، لا ينقلونا نقلةً بعيدة، فالمسألة مسألة التزام بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا بد أن نلتزم به، وقيادة السيارة يرجع الأمر فيه إلى أصل الخروج وإلى حاجته، وإلى ضرورته، وإلى تحريم الخلوة بالسائق الأجنبي، وإلى غيره من الأمور المحكمة في هذا الشأن والتي تكلم فيها علماؤنا والحمد لله.

التحسن الطفيف في برامج التلفاز

التحسن الطفيف في برامج التلفاز Q في بداية هذه الأحداث المؤسفة لاحظنا تحسناً طفيفاً على برامج التلفزيون فاستبشرنا خيراً، ولكن بعد أسبوع أو أسبوعين عاد الحال إلى ما هو عليه؟ A الله أكبر! يقول تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:43 - 45] سُنة الله! نعوذ بالله أن تكرر فينا، نسينا ما ذُكِّرنا به؛ فلما فتح الله علينا الخير؛ حتى الأمن فتح، فتح عندنا الأمل في الأمن وأن صدام لن يفعل شيئاً، كنا خائفين، فذهب الخوف، والآن محميين ومنا من ترضى عن بوش ودعا له، فانتهى الأمر ونسينا ما ذكرنا به، ورجعنا إلى معاصينا نسأل الله العفو والعافية.

مخططات تدمير أخلاق المرأة المسلمة

مخططات تدمير أخلاق المرأة المسلمة Q ما هي توقعاتكم لمخططات أعداء المرأة المسلمة في هذا البلد؟ وهل سيحدث أو سينجحون في تدمير أخلاق المرأة؟ A هم أحقر وأذل وأقل من أن ينجحوا بإذن الله.

الأسواق والصحف الداعية للسفور والرذيلة

الأسواق والصحف الداعية للسفور والرذيلة Q إنَّ الأسواق لا زالت تعج بالصحف والمجلات الداعية للسفور والرذيلة ومحاربة كل ما هو إسلامي؛ فما السبيل للحد من هذه المجلات؟ وهل من كلمة إلى طلبة العلم تبين خطرها؟ A الكلمة موجهة ومعروفة، ومن ذلك فتوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح عثيمين جزاه الله خيراً، مطبوعة وما أظن يخلو منها أي بيت، والقضية هي قضية الإنكار. إذا أنكرنا فأولاً لا نشتريها. ثانياً: ننكر على أقربائنا وإخواننا، وزملائنا ونحذرهم. ثالثاً: نكتب ونحذر أيضاً ونبين لوزارة الإعلام خطر وفساد هذه الجرائد، وأرجو إن شاء الله أن نجد التجاوب منها إذا رأوا الإنكار شاملاً كما حدث في الإنكار على هذه المصيبة.

تطوع المرأة في الحرب

تطوع المرأة في الحرب Q يقول بعضهم: إن تطوع المرأة جائز، بحجة أن المرأة شاركت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حروبه، وفي إسعاف الجرحى، ما هو تعليقك؟ A نخشى -والعياذ بالله- أن يتحقق فينا قول الله تبارك وتعالى في المنافقين إذا دعوا إلى ورسوله أعرضوا، قال: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] إذا كان لنا شهوة ورغبة في أمر من الأمور قلنا الفتوى صدرت وجائز وفي عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفتاوى العلماء في الربا أليست في القرآن وفي السنة وفي جميع كتب الفقه؟ أليس العلماء ليل نهار يفتون؟ أعجبتنا هذه وهذه ما أعجبتنا! نتخير في دين الله كما نشاء! نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع إن المفروض بعد هذه الأحداث ألاَّ يبقى شاب إلا وأصبح متدرباً ومتطوعاً وجندياً للجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله في كل مكان، وفي كل بلد وفي كل قرية، حتى لو عطلنا الدراسة، المهم كلنا نتحول إلى جيش، ونقول: أربعة أشهر فقط، ويكون عندنا مليون جندي، ولا نستعين بكافر ولا مسلم، نحن في غنى عنهم، عندنا الحمد لله المال، وبلدنا أغنى بلد في العالم، وثرواتنا مكدسة في بنوك الغرب، وعندنا الإمكانيات، وعندنا الشجاعة بل نحن معدن الشجاعة في الدنيا كلها، نحن أحفاد الصحابة. فلنتدرب ولنستعن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولنقاتل كل من يحاول أن يهاجم بلادنا، بل نجاهد الكفار والمنافقين في عقر دارهم، والله نستطيع ذلك لو أردنا، ولوكانت لنا قلوب حية وصادقة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكن المصيبة أن الأحداث تمخضت عن فتح باب التطوع للنساء. أنا أضرب مثلاً في مكة هنا، ليس فيها مركز تطوع للرجال، أما النساء أكثر من ثمانمائة امرأة في الدفعة الأولى، وما أدري كم الثانية وكم الثالثة؟! أعوذ بالله! أليست هذه انتكاسة ومصيبة وكارثة؟ ومع ذلك أيضاً استغلوا هذا الموضوع وأخذوا يشقشقون منه دورة بسيطة تأتي بتوقيع الوزير، ثم يقال: دورات للمتفوقات، ثم ربما يأتي دبلوم، وماجستير، ودكتوراه، يراد أن تمطط، وأن تعمم، وأن تنتشر؛ لأن الله تعالى قال وهو أصدق القائلين: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:27 - 28]. فهذا حال المتبعين للشهوات، يريدون ذلك، ففتح الباب، ثم أخذ القوم، وقالوا: المرأة ساهمت في خدمة الوطن، وتطوعت من أجل الوطن، ومع ذلك ماذا قدمنا لها؟ إذا قلنا: ماذا نقدم لها؟ الدعاء! ما يريدون الدعاء إذاً ماذا نقدم هل نقدم المال؟ كل واحد منا يُعطي زوجته إذا تطوعت خمسمائة ريال أو نحوها، مكافأة لها تقود السيارة وتحمل السلاح، وبعد ذلك تذهب إلى الجبهة، وتسير بين الأمريكيين والأمريكيات، هل هذا هو المطلوب؟! انظروا يا إخوان قبل يومين في أحد وكالات التلفزيون أو قنوات الإذاعة الأمريكية -والخبر أنا أخذته من الإذاعة- نقل مقابلة مع جنديتين في الفرقة (251) الأمريكية التي جاءت إلى المملكة، جنديتين بين ألف رجل، انظروا الحرية والديمقراطية والحياة التي يطالب بها هؤلاء الفاجرات ومن ورائهن، تقول الجنديتان: لقد شعرنا بالألم وبالقرف، وبعبارات كثيرة مترادفة. وقالت إحداهن: وجدت أني امرأة واحدة أنام على سرير وحولي ألف رجل، وفي جو صحراوي موحش، هذه تقاتل بالله عليك، هذه تخاف من ألف وحش وهي كالدجاجة بينهم، وأبناءها وأطفالها هنالك، لا تستطيع أن تفعل شيئاً، ولكن لا بد أن تثبت جدارتها، حتى قال رئيس هيئة الأركان الأمريكية: إن دخول المرأة الأمريكية في الجيش هو أقوى أو أعظم من دخول القنبلة النووية، يعني: في عظمته وفي هزته. فهذه الأمريكية، تصرخ وتجأر، تقول: تمنيت وندمت أنني انخرطت في السلك العسكري، وتمنيت أني لم أنخرط فيه، ولم آت إلى هذه البلاد، فالمرأة بفطرتها ما تريد هذا الشيء، ومع ذلك يقال: إن هناك من طالبن بذلك وتم نشر صورهن في الشرق الأوسط، وفي جريدة الرياض، وفي الظهيرة، وفي المجلة الخبيثة التي يسموها سيدتهم، وفي أمثالها، ويطالبن بكثرة التدرب على السلاح وبالمشاركة بالجبهة، إن كنا نطمع أنهن يدافعن عن البلاد، الله المستعان! مثلما قال الشاعر النبطي: لبس الرجال العبي وأعطوهن البنادق واللحى

فهم خاطئ

فهم خاطئ Q ذكرتم في محاضرة سابقة، أنكم سوف تمرون على المراكز المعدة لتدريب الفتيات وتعليمهم التمرين؟ A لا. أنا ما قلت هكذا، وكثيراً ما أُفهم خطأ، الإخوان سألوني وقلت لهم: إلى الآن لا أعرف طبيعة التطور، كنت ذلك الوقت لا أعرف حقيقتها، وقلت: ربما تكون بعض التدريبات -مثلاً- وفي أوقات معينة، وبضوابط معينة مع المحارم، أو يقوم بها النساء للنساء، وقلت: ممكن أن نقترح إذا جعلوها في التلفزيون -مثلاً- وتراها المرأة وتطبقها، للاحتياجات المنزلية، أنا ما أجبت جواباً قاطعاً، وقلت: سأستفهم من المسئولين في إدارة الشئون الصحية، ما قلت: سوف أمر على المراكز. وعلى كل حال: لسنا بحاجة إلى أن نمر على المراكز، قد علم الأمر ونشرت الصور في الصحف، وأجريت المقابلات معهن، وقرأتم جميعاً ماذا يردن، وماذا يطالبن، فلم يعد الأمر يحتاج أن أمر وأخبركم ماذا رأيت؟

الوجود الصليبي وإفساد المرأة

الوجود الصليبي وإفساد المرأة Q ألا توجد صلة وثيقة بين الوجود الصليبي في المنطقة وبين ما حدث؟ A أنا ذكرت أن الصلة موجودة بين الوجود الغربي الصليبي وبين هذه الحركة منذ الحملة الفرنسية ثم إسماعيل باشا، ثم الحرب العالمية الأولى، ثم ما بعد، فالصلة قائمة في كل الأوقات، وفي كل مكان.

حكم احتفال النصارى بأعيادهم في بلاد الإسلام

حكم احتفال النصارى بأعيادهم في بلاد الإسلام Q ما حكم احتفال النصارى بأعيادهم في معقل الإسلام وبين المسلمين، مثل: عيد الشكر، وعيد الكريسمس وغيره؟ وما حكم الرضا بذلك؟ وما العمل تجاه ذلك؟ A حكم أعياد الكفار أو المشاركة في أعياد الكفار معروف، وهو من مشاركتهم في دينهم، لأنها من شعائر دينهم، كما ذكر ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " وابن القيم في " أحكام أهل الذمة " وكذلك أفتى به -والحمد لله- سماحة الشيخ عبد العزيز وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، والفتاوى معروفة بل ومعلقة في بعض المساجد. وبهذه المناسبة نقول للإخوة الذين سألوا عن عيد الشكر الذي قد يُقام بعد يومين: عيد الشكر هذا -أيضاً- من الأعياد الدينية للنصارى، وهو عيدٌ تقيمه الكنيسة البروتستانتية شكراً لله بزعمهم بعد أن نزلوا الأرض الجديدة، وتيسر لهم فيها هناك رخاء بعد جهد وبلاء وقحط نالهم فيها، بعض الناس يقولون: إنها كانت جدب ثم جاءت نعمة، وفيه الديك الرومي الطعام الطيب، فلذلك يحتفلون في هذا العيد بأكل هذا الديك الرومي. المهم أنها شعيرة دينية وعيد ديني للنصارى، ولا يجوز أن يقام في أرض الإسلام، الذي قال فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} ويجب أن ننكر ذلك، ومن أنكر باللسان نرجو أن يكون قد برئ إن شاء الله تعالى. أما عيد الميلاد فمشهور ومعروف، وتألمت عندما نشرت بعض الجرائد تقول: إنه ليس عيداً دينياً، فإذا لم يكن دينياً فما معناه، وكان من خصائص أو من شعائر الكفار اليومان اللذان كانا للعرب في الجاهلية قبل الإسلام، هل نستطيع أن نقول: إنهما كانا دينيين؟ وفيها شعائر دينيه كانا جاهليين. المهم أن أي عيد غير اليومين الذين شرعهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا وهما الفطر والأضحى؛ فإنه لا يقر أياً كان، فإن كان الأمريكان يقيمونه على أنهم نصارى؛ فلا خلاف بأنه حرام، وحتى قيل: إنهم يقيمونه على أنهم لا دينيون؛ فلا نقول: الذي يقيم عيداً إلحادياً يقر، والذي يقيم عيداً دينياً يمنع! فكلها كفر وكلها سواء. فعلى أية حال هذه الدعوى التي نشرتها بعض الجرائد لا تنفع قائلها، وتذكرون هذه عادة عند النصارى قديمة، ومن ذلك لما انتصر هرقل عظيم الروم على الفرس، نذر أن يحج إلى القدس ماشياً، وأن يبيت عشرة أيام على الصيام شكراً، هذا العشرة الأيام أيام شكر، يصومونها زيادة على ما فرض الله أيام الشكر، أي: أن النصارى يشرعون في دينهم شكراً لنعمة من النعم؛ هذا قديم وما فعله الأمريكان هو امتداد لما فعله هرقل من قبل والحكم واحد للجميع.

الغزو الفكري عبر المجلات النسائية

الغزو الفكري عبر المجلات النسائية Q بعض الإخوان يستنكرون المحلات النسائية التي تحمل غزواً فكرياً خطيراً للمرأة؟ A نعم، ولا بد من تعاون الجميع على إنكار ذلك وفيما تقدم ما يكفي عنه.

أنصار الباطل

أنصار الباطل Q أدلى أحد المسئولين في إحدى الإذاعات الخارجية عن رأيه فيما حدث من مظاهرة النساء في قيادة السيارات، فقال: إن هؤلاء المعارضين -ويقصد الملتزمين- هم الذين عارضوا من قديم، عند الاستماع ومشاهدة الراديو والتلفزيون، وقال: إنه إذا لم تقد المرأة السيارة اليوم فسوف تقودها غداً؟ A كما إن للحق أنصار فإن للباطل أنصار، مهما كانت درجته ومهما كانت أسماءهم، ومثل هذا القول من الفضيحة والخزي الذي يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يذلهم بها، وهي من عذاب الدنيا الذي ذكره {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} [النور:19] أن الإنسان يفضح نفسه فيقوم ضد حكم الله وضد مجتمعه، وضد بلاده، وضد ما أعلنته رسمياً وما أعلنه العلماء؛ فيقول: أنا أؤيد أو أنا أتوقع، فيكفي ما حصل له أياً كان.

عمل المرأة في المستشفيات كممرضة

عمل المرأة في المستشفيات كممرضة Q يدَّعي كثير من الناس أن المرأة يجوز لها أن تعمل كممرضة في المسشفيات، وذلك وفق التقاليد الإسلامية، ثم نراهن وقد تبرجن وكشفن عن وجوههن، وسيقانهن، ونحورهن، وتزين وتسكعن في المستشفيات، أليس هذا الواقع حجر نلقمه هؤلاء الأدعياء، الذين اتخذوا عبارة (وفق التقاليد الإسلامية) رماداً يذرونه في العيون، وأمثال هذه القضية كثير؟ A بلى، ولتعرفوا أثر الدعاية والتضليل، نضع هذا المثال: لو أنَّ رجلاً من الناس له نعمة، صاحب مال، فتح الله عليه، وعنده أب كبير، أو أم كبيرة، وكلاهما عاجز وهو بارٌ لوالديه، اتصل بأحد الناس، السلام عليكم يا فلان، أنا فلان ابن فلان التاجر المعروف، حياك الله، ماذا تريد؟ سمعت أن عندك بنتاً معها الثانوية، أو أخذت المتوسطة، لو تعطيني إياها أجعلها تخدم والدي عندي وأعطيها خمسة الآف ريال، ماذا يقول له بالله عليك؟ يمكن أن يتقاتل معه ويسبه ويشتمه، إن كان فيه مواجهة ويمكن ألا تفصل بينهما إلا الشرطة، يقول مستنكراً: أنا بنتي خدامة عندك يا فلان، ويقوم الدنيا ويقعدها. هذا لأنه بطريقة مباشرة وهو واضح، وهذه طريقتنا نحن في الإنكار، أو طريقتنا حتى في عرض القضايا نحن الإسلاميين، نعرضها بوضوح فقد يفاجئون الناس بها، أو ممكن بوضوح، قالوا: هؤلاء مثيرين، ومفتنين، ومفسدين، أولئك يعرفون كيف يعرضون، وكيف يستغلون وسائل التغرير والتضليل الفاسدة. يقول لك: خدمة الوطن، وخدمة البلاد، وتعمل في المستشفى، ويأتي لك صورة السابقات الأوليات، وكذا وكذا، وهي في الحقيقة خادمة هناك لكل مريض، وتحمل الدواء والآنية لكل طبيب، ولكل رئيس ممرضين، وتناوب في الليل وفي النهار، ومختلطة بالرجال. فلا فرق بين أن تخدم عجوزاً في بيت منعزل، محافظ، وبين أن تخدم في مستشفى. لو يوجد عاقل يقول: والله أجعل ابنتي عند هذا الرجل ولا أجعلها عند أولئك، ولكن مع ذلك نستنكر هذه لأنها واضحة ومباشرة، والتغرير والتضليل جعلنا الآن نقبل تلك بل نعدها وطنية، والله المستعان!

الرقابة الإسلامية على الصحف

الرقابة الإسلامية على الصحف Q أين الرقابة الإسلامية على الصحف، حيث نشرت إحدى الجرائد قصيدة لإحدى الفتيات وهي كما هو مكتوب (فتاة الحريبي) تقول في بعض أبياتها: ألا يا هلي ليتني ما لبست خماراً وليت البراقع ما ربطن عراويها أنا أستغفر الله معقل الحكمة الجبار ولكن بلادي غالية كيف نفديها A في الحقيقة القصيدة جاءتني، وقرأتها ولا أرى فيها اعتراضاً على الحجاب، بل يمكن أن يكون شعوراً طيباً لو وُجِّه وجهة صحيحة، أن المرأة المسلمة لما رأت الرجال ما صنعوا شيئاً، فهي تتمنى أن تكون رجلاً، لا اعتراضاً على حكمة الله في أن جعلها امرأة، لكن تقول: مصيبة الرجال لم تفعلوا شيئاً، ولذلك ذكرت صاحب البسطار، وصاحب الخوذة، وصاحب الرادار في آخر القصيدة وهي موجودة عندي تقول: ما عملوا شيئاً، نحن نصرف عليهم الملايين من سنين، وجاء وقت الحاجة وما رأينا شيئاً، فياليتني أستطيع أن أخدم، دون اعتراض على حكمة الله. أتوقع أن هذا نوع من التعبير، والشعر باب واسع يحتمله، فأرجو أن نغتفر، وأن يغفر الله لها، إن كانت إن شاء الله صادقة، وما مرادها إلا التعبير عن الألم والخيبة، والمرارة التي أحس بها الإناث، عندما رأوا أننا لاشيء، بعد ذلك الوهم الكبير الذي كنا نعيشه، أظن هذا خير، والله تعالى قد أمرنا بالعدل والإنصاف، وماوجدنا للقوم محملاً أو مخرجاًَ إلا أخذنا به.

التشهير بأسماء كبار المفسدين

التشهير بأسماء كبار المفسدين Q لماذا لا يتم التشهير بأسماء المفسدين الكبار وفضح مخططاتهم وأهدافهم، وتحذير الناس منهم؟ A ليست القضية قضية أسماء، وإلا فهم معروفون، حتى بعضهم كانوا في الجامعة عندنا، نعرفهم بأعيانهم ولو شئنا لسمينا، لكن القضية ليست هي قضية فلان وعلان، لكن القضية شر سيمثله فلان أياً كان، وخير يجب أن نكون نحن الممثلين له إن شاء الله الداعين إليه.

دور حزب البعث في تحرير المرأة

دور حزب البعث في تحرير المرأة Q ما هو دور حزب البعث في تحرير المرأة؟ A معلوم أن بعضهن لهن صلات عن طريق إخوانهن وأقاربهن بـ حزب البعث من جهة، ومن جهة أخرى المتزعمات بعضهن حداثيات، والحداثة لا يشك أحد بصلتها بـ البعث من الناحية القومية، ولو راجعتم صحفنا وجرائدنا وقرأتم للسياب، وما أدراك ما السياب، وعبد الوهاب البياسي الذي جيء به إلى هنا وكان ما كان من الاعتراض، وقدم إلى هذه البلاد رغم إلحاده، وغيرهم من الشيوعيين، أو البعثيين، أو القوميين، وكل المهرجانات التي أقيمت في العراق وغيره، وحضرها بعضهم، بل بعضهن -أيضا- حضرن المهرجانات تلك، كلهم تغنوا بقداسية صدام وأثنوا عليه، ولو تراجعوا المجلات فهي شاهدة بذلك، فصلتهم بـ البعث واضحة، ولا استغراب. بعض الإخوان يقولون: كيف لهم صلة بـ البعث وفي نفس الوقت لهم صلة بالغرب، هي واضحة جداً ولا تحتاج إلى دليل، نقول حزب البعث نفسه حزب صليبي غربي، ولهذا في مقابلة لـ مجلة المجلة مع حسن العلوي، -المستشار الإعلامي لـ صدام وحزبه- فقيل له: ما رأيك في دعوى صدام للجهاد؟ قال: حزب البعث حزب علماني خرج من رحم التغريب، ولا يمكن أن يكون إسلامياً أبداً، وكلام طويل مشهور منشور في مجلة المجلة.

نداء من فتاة

نداء من فتاة تقول: من الفتاة السعودية إلى دعاة العلمانية، أيها العلماني! لا مكان لك بيننا، اذهب بعيداً عنا، فنحن حفيدات خديجة، وعائشة، وأم سلمة، ونسيبة، وأم عمارة، فنحن في بلاد الحرمين ويحكمنا القرآن، لماذا تريدون المرأة أن تخرج من بيتها وتخلع حجابها وتقود السيارة، لماذا؟ أتريدون منا ذلك؟ أما رأيتم المرأة في الغرب وما وصلت إليه الآن، وما أصبحت تنادي به إلى الرجوع إلى البيت، هيهات لكم يا دعاة العلمانية، فنحن سنخرجكم بإذن الله من بلادنا، وسنتمسك بحجابنا أكثر، فالحمد لله فما ازددنا إلا إيمانا وتمسكاً بديننا. المقصود أننا نشكر الأخوات على هذه المشاعر الطيبة، وحقاً قلن عندما قالوا: سنخرجكم من بلاد الإسلام والسنة، من لم يكن على منهج القرآن وعلى الإسلام، يريد علمانية أو ديمقراطية أو شيوعية أو أي شيء غير الإسلام، ومن لم يكن على السنة، بل يريد أي مذهب من المذاهب المارقة الخارجة فلا مكان له في هذه البلاد، لا بد إما أن يخرج وإما أن يُخرج. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الممتاز في شرح بيان ابن باز

الممتاز في شرح بيان ابن باز بدأ الشيخ ببيان الفرق بين الكفر والشرك، ثم انتقل إلى شرح البيان الذي أصدره سماحة الشيخ ابن باز مبتدئاً بتوضيح جهود الشيخ ابن باز العلمية والدعوية، وأوضح في شرح البيان بعض أوصاف الخوارج التي اتصف بها من تهجم على مشايخ أهل العلم، مبيناً أنهم اتهموا مشايخ العلم في قضايا خلافية لا تقبل القدح في دين المخالف، داعياً إياهم إلى إعلان التوبة بإصدارات جديدة تبرئ ساحة مشايخ العلم، ثم عرج على التطورات الحاصلة في انتخابات الجزائر والتي دخلت فيها جبهة الإنقاذ الجزائرية، وبين أنها اختارت خيار دخول الانتخابات وحصدت أصواتاً كبيرة، مما جعل الأعداء يهددون بتدخل الجيش خوفاً من قيام دولة إسلامية على أرض الجزائر.

الفرق بين الكفر والشرك

الفرق بين الكفر والشرك الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: Q ما هو الفرق بين الكفر والشرك؟ A الأصل أن المعنى واحد، فكل كافر مشرك، وكل مشرك كافر، لكن يختص كل واحد منهما بمعنى غير الذي يختص به الآخر، وذلك أن الكفر في اللغة هو الجحد، والستر، والتغطية، ومن هنا سمي الفلاحون أو الزُراع كفاراً؛ لأن الفلاح يستر ويغطي البذرة بالتربة. فالكافر يستر الإيمان والفطرة التي فطره الله عليها، ويستر الدين ويجحده ويغطيه، ويكفر بآيات الله تبارك وتعالى، فهناك مناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي. أما الشرك فإنه كما يدل عليه لفظه: هو جعل ند مع الله، أي: اتخاذ إله مع الله، فهذا هو الشرك، وهذه حقيقته. فإذا ذُكِرَا معاً فلكل منهما دلالته، كما في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] فهاهنا أهل الكتاب المقصود بهم: اليهود والنصارى، والمشركون المقصود بهم: الأميون من العرب وأشباههم. وإذا أُفرد ذكر الشرك أو الكفر مطلقاً، فإنه يعم اليهود والنصارى ومشركي الأمم والعرب، فكلهم يشملهم هذا التعبير، فالكفار هم كفار، وهم مشركون، فمن شركهم: أنهم قالوا: إن عيسى ابن الله، وإنه إله، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهم مشركون وهم كفار، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] وإذا أُطلق الشرك، فإنه يشمل أولئك أيضاً، فبهذا يكون المعنى قد اتضح.

بيان للشيخ عبد العزيز بن باز

بيان للشيخ عبد العزيز بن باز وندخل الآن في موضوع كثر عنه السؤال والكلام في هذه الأيام، والذي طلب فيه الكثير من الإخوة إيضاح حقيقته أو المراد به، أو كما يعبرون: وضع النقاط على الحروف فيه، وهو البيان الذي أصدره سماحة الوالد الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين وعن الدعاة وطلبة العلم خير الجزاء، فهو أب كريم وموجه ومربٍ حكيم، وهو ناصحٌ مشفق، وهو الذي رتب هذه البرامج الدعوية، وتخرجت هذه الأجيال على يديه وبأثر علمه، وهو الذي ذب عن أعراضهم لما رأى النيل والقدح والطعن فيهم، فهو جدير أن يشكر بعد شكر الله تبارك وتعالى منا جميعاً، من الذين دافع عن أعراضهم، ومن كل المسلمين الذين من حقهم أن يشكروا سماحته على هذا الجهد، ونسأل الله تعالى أن يذب النار عنه يوم القيامة، فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر عن ذلك بقوله: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عنه النار يوم القيامة}.

الدفاع عن النفس والدفاع عن الدعوة

الدفاع عن النفس والدفاع عن الدعوة وهذا البيان ما كنت أريد أن أتحدث عنه، ولا أن أبينه بنفسي لما في ذلك من دفاع عن النفس، وإنني -كما تعلمون والحمد لله- لم أكن في أي يوم من الأيام لأجعل من نفسي أو شخصي قضية لأحد؛ لأن أمر الدعوة أهم، نحن نجعل أنفسنا ودماءنا وأرواحنا وأموالنا وأعراضنا فداءً لدين الله، ونسخرها لخدمة كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن نحتسب كل ما يصيبنا من أذىً في سبيل الله، ونعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]. فلا بد من العداوات والأذى والحسد، ولا بد أن يقع الدعاة فيما وقع فيه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأقوامهم من قبل، وهذا أمر نعلمه، فمنذ أن بدأنا طريق الدعوة، ونحن موقنون به، وكل ما يقع لا نجد فيه جديداً أبداً. لكن الموجب لهذا الإيضاح الموجز هو سوء الفهم والتفسير والتدليس الذي حصل نتيجة هذا البيان الذي أراد به سماحته أن يكون كالماء يطفئ النار -وهو كذلك والحمد لله- فإن كلَّ طُلاَّب العلم قد عرفوا ما يريد ويقصد الشيخ، وقد أطفأ الفتنة والحمد لله، وأظهر الحق وأبانه، ودافع عن المظلومين والمهضومين، ونصح المعتدين والباغين، بأجلى وأوضح بيان وعبارة، وإن كان قد ترك الأسماء فلمصلحة ولحكمة.

بيان المقصود من بيان ابن باز

بيان المقصود من بيان ابن باز وليس مقصود البيان ذكر الأسماء، بقدر ما هو بيان الحقيقة لمن يعلمها ومن لا يعلمها، فهي بالنسبة له موعظة عامة، ونصيحة عامة، يجب أن تؤخذ كما يؤخذ غيرها من النصائح، لكن لوجود بعض محامل السوء والتدليس، سواء ما ظهر من عناوين بعض الجرائد مع الأسف، أو من بعض الناس الذين افتروا افتراءات عجيبة، وإن كانت نادرة وقليلة ولا يقبلها عاقل، كقولهم: إن الشيخ أراد بها الرد على الدعاة والانتصار للعلمانيين -والعياذ بالله- فهل هذا يعقل؟! ولوجود هذا الاشتباه، ولأن المسألة تحتاج إلى تجلية، ليؤدي هذا البيان القيم العظيم حقه ودوره كاملاً كما أراد منه كاتبه حفظه الله فنقول: إن المقصود هم فئة محدودة معدودة قليلة جداً؛ لأنه قال: 'إن كثيراً من المنتسبين إلى العلم والدعوة' إذاً هي قضية دعاة وطلاب علم 'وهم فئة قليلة جداً، يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين' فالقضية قضية دعاة لا دخل فيها للعلمانيين ولا للخرافيين ولا للمشركين ولا لدعاة الشرك؛ لأنهم ليسوا من الدعاة، ولا من إخوان الدعاة، وإنما هم أعداء الدعوة. إذاً ما الذي فعل هؤلاء؟ لقد وقعوا في أعراض إخوانهم الدعاة المشهورين، ولا بأس أن نسمي؛ لأنه إن لم نسمِّ لن تتضح الحقيقة، فالدعاة المشهورون الذين تكلم في حقهم هم: فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله، وفضيلة الشيخ: عائض القرني حفظه الله، وفضيلة الشيخ: ناصر العمر حفظه الله، وفي أخيكم العبد الفقير إلى الله، وكذلك تُكِّلم في أعراض كثير من الدعاة، حتى لم يكد يسلم أحد من هؤلاء الناس، والأدلة موجودة. وكما ذكر الشيخ حفظه الله قال: 'يفعلون ذلك سراً في مجالسهم' فيأتي أحدهم من المدينة ويعقد جلسة في جدة مع بعض الخاصة ثم يذهب بعضهم إلى الطائف، وبعضهم إلى الشرقية، وبعضهم إلى حائل، فيقطعون هذه المفاوز ليجمعون من يجتمع لهم من طلاب العلم، ويحرصون دائماً على الصغار أو المبتدئين، أو حديثي عهد بالدعوة، ويجلسون ويذكرون لهم أشخاصاً، ويلصقون بهم التهم، ويأتون بألوان من التهم والظلم والبهتان والافتراء، وقد علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلم خلقه الذين يسمعون، أن هذا كذب وزور وافتراء واختلاق ليس له أي أساس من الصحة، فهم يفعلون هذا سراً في مجالسهم.

أثر الطعن في العلماء على طلاب العلم

أثر الطعن في العلماء على طلاب العلم ثم وجدوا أن هذا لا يكفي، فأصبحوا يسجلون ما في الجلسة وينشرونه على الناس، ويأتي شاب قد يكون حديث عهد بالاهتداء يريد أن يعرف الحقيقة، وأن يعرف طريق الجنة والنار، فيقال له: خذ هذا الشريط واسمع، فيذهب ويسمع، فماذا تكون النتيجة؟ إذا سمع الطعن في فلان وفلان وفلان وفلان، فهل سيهتدي؟! هل سيحب الدعاة؟! هل سيخلص لله؟! هل سيقنت في طاعة الله؟! هل سيشعر بالخشوع في صلاته؟! هل سيقبل على قراءة القرآن برغبة؟! عندما يسمع هذه الطعون في العلماء والدعاة والمشايخ، الذين كل الناس من حوله يتحدثون عنهم ويسمعون لهم، فيزدادون إيماناً إذا سمعوا كلامهم، فسيتبلبل ذهنه لا شك بسبب هذا الكلام، لما فيه من بهتان وظلم يمرض قلوب الخاصة، وقد شكا من هذا بعض العلماء الكبار، وقال: عندما سمعت هذا تأثرت وتألمت وتكدرت! وهو من العلماء الذين هم في درجة عالية من العلم، فكيف بطالب علم مبتدئ؟! ماذا تتوقعون أثر مثل هذا الكلام على هذا المسكين في عبادته وإيمانه؟ قد ينتكس. وقد كُتِبَ إليَّ أن بعض حالات الانتكاس حدثت! ويقولون: قد كنا نثق في هؤلاء! إذاً لا خير فيهم جميعاً، وخاصة أن الطاعنين متهورون؛ فمن أول مرة تجلس معه يطعن في المعروف الموثوق، والنتيجة أنك تخسر هذا وهذا قطعاً، فأنت عادة إذا سمعت أن إنساناً يشكو ويخاصم إنساناً، تتحفظ عما يقول عنه، لأنك تعلم أن هذا من منطلق عداوة وخصومة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن يكون حالنا عند الخصومة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] حتى لو عاداك ولو ظلمك، فكيف بإخوانٍ لكم لم يظلموكم، ولم يمسوكم، أو يتكلموا عنكم بسوء، ولم يقعوا في أعراضكم؟! أقول عن نفسي وإخواني هؤلاء: ما عملنا شيئاً من هذا بعد أن افتروا وظلموا وبهتوا، فكيف نفعله قبل ذلك؟! لا نستحله ولا نستزيده، ونحن نترفع عن هذه الأمور عملاً بقول الله تبارك وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] وهذه آداب تأدبنا بها والحمد لله، لكنهم لم يكونوا كذلك! أما أسماء الأشرطة فمتعددة، فواحد "الجماعات" وواحد باسم "السرورية" وواحد باسم "البراءة إلى الله" إلخ. فالأسماء مختلفة، والمضمون واحد، وهو مثل هذا البهتان والإفك المبين.

بعض أوصاف الخوارج

بعض أوصاف الخوارج وهنا تجدون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وصف الخوارج وهم أهل البدع، الموصوفون والمسمون بأسمائهم، الذين تواتر الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان حالهم ووصفهم فقال: {يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان}. وهذا الذي عبر عنه أحد العلماء لما سمع أحد الناس يقع في أعراض العلماء، قال له: يا بني أقاتلت الروم؟ قال: لا. قال: أقاتلت الترك؟ قال: لا. قال: أسلم منك الروم والترك ولم يسلم منك المسلمون؟! وهؤلاء الناس هل ردوا على الرافضة ووزعوا الأشرطة عنها، فـ الرافضة يشكلون الربع أو الثلث من أهل المدينة كما هو معلوم، هل ردوا عليهم واجتهدوا سراً أو جهراً وأوصلوها إلى بيوتهم؛ ليبينوا لهم ما هم عليه من الشرك والضلال؟ لم يفعلوا ذلك!! هل ردوا على الصوفية وأشباههم؟ هل ردوا على أعداء السنة الحقيقيين الذين يسخرون بعلماء السنة؟ فيقول أحدهم: ذاك لحيته مثل التيس، وآخر يقول: كل ما عندهم: حدثنا كحكوح بن سمعان إلخ ما تسمعون. وهذا الكلام يقال في صحف ينشر من بعضها مليون نسخة، أو مليون ونصف نسخة، فيكون فيها استهزاء بالسنة. والآخر يدافع عن أبي رية بأنه مجتهد، وهو الذي أبطل سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره كثير. وهم يومياً -تقريباً- يعتدون على القرآن وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويهدمونهما هدماً صريحاً. أتطعنون فقط في من تصدروا وتصدوا للدفاع عن هذا الدين؟! وإذا أخطئوا هم انصبت عليهم الردود من كل حدب وصوب، وكلنا نعلم أنهم ليسوا بمعصومين، فمن قال منهم: إنه معصوم؟ وصدق الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه فإذا وجدت عيباً فابذل نصيحتك، وإن لم تُقبل فاكتبها إلى سماحة الشيخ واسمع الجواب منه، أما الاعتداء والهجوم والظلم والعدوان، بغير سبب وبغير مبرر، فهذا فعلاً هو مقاتلة لأهل الإسلام وترك لأهل الأوثان نسأل الله العفو والعافية! ثم إن من صفات الخوارج أيضاً -ونحن لا نقول: إنهم من الخوارج، كما قالوا هم في حقنا لكن نبين من أقرب الطائفتين إلى هذه الصفة- أنهم يعمدون إلى آيات نزلت في الكفار، فيجعلونها في أهل الإسلام، وهذا كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه وعلي وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم وغيرهم ممن رأى الخوارج وناظرهم، فهؤلاء يأتون إلى أبواب من أبواب العقيدة العظيمة؛ التي ذكرها العلماء في بيان أهل البدع، والتحذير منهم، وتنفير الناس عنهم، وهي أبواب عظيمة، ونحن -والحمد لله- شرحناها، ومن أطول الكتب التي ذَكَرتها فيما أعلم، هو كتاب اللالكائي، وقد بينا خطرها، وحاضرنا في هذا الموضوع -أيضاً- مستقلاً ومنفرداً لأهميته وخطره. فهؤلاء يعمدون إلى هذه الأبواب -أحاديث أهل البدع، وآثار أهل البدع- ويجعلونها في هؤلاء الدعاة، فهؤلاء الدعاة عندهم هم أهل بدع. إذاً: هذا وصف آخر وهو: أنهم عمدوا إلى آثار وأحاديث في أهل البدع فأنزلوها على إخوانهم المؤمنين أهل السنة، كما وصفهم الشيخ، ولا نزكي أنفسنا على الله تبارك وتعالى، ولكن هذه الظواهر والله تعالى هو العليم بالبواطن، وهو من يحاسب الناس عليها. وقد فعلوا ذلك علانية في شريط معلن موجه إليَّ بعنوان: نصيحة إلى فلان، ومنه -أيضاً- الرد على الشيخ سلمان في شريطه "جلسة على الرصيف" وغيرها، والله تعالى حسيبهم في ذلك.

من صور التعدي على الدعاة

من صور التعدي على الدعاة ثم يقول الشيخ ابن باز: ' وهذا المسلك مخالف لما أمر الله به ورسوله من جهات عديدة منها: 1 - أنه تَعدٍّ على حقوق الناس من المسلمين، بل من خاصة الناس من طلبة العلم ومن الدعاة، الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس وإرشادهم وتصحيح عقائدهم ومناهجهم، واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات، وتأليف الكتب النافعة '. وهذا واضح، فمن جهة الاعتداء على الحق يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه} وواضح أن {أربى الربا هو الاستطالة في عرض أخيك المسلم}، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا مخالف لما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به: {لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره} {حق المسلم على المسلم الحديث} فهذه براهين عظيمة، وهذا موضوع واسع لو استطردنا فيه لطال المقام. وهذا يدلك على عظم حق المسلم -أي مسلم- فكيف بمن كان من الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذين نفع الله بهم بقدر وحسب اجتهادهم، وبما بذلوا من دعوة أو محاضرة أو تأليف أو أي منفعة حصلت منهم للدعوة إلى الله تبارك وتعالى. ' أنه تفريق لوحدة المسلمين، وتمزيق لصفهم ' وهذا ليس فيه شك وواضح -أيضاً- من عملهم. يقول الشيخ: ' وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة، والبعد عن الشتات، والفرقة، وكثرة القيل والقال فيما بينهم ' تصور أنهم (دبلجوا) أشرطة شيخ يتكلم، وشيخ آخر يرد عليه، فهذا يقول كلمة وهذا يرد عليه. أليس التفرق -إذاً- هو المقصود؟! وكم يحصل بهذا من الشتات ومن الفرقة والقيل والقال! ومن يسمع الشريط فإنه لا يخلو إما أن يؤيد هذا أو يؤيد ذاك، مع أن أحدهما ليس مخالفاً للآخر. فمثلاً: محاضرة تلقى قبل أربع أو خمس سنوات، فتقتطع منها عبارة، ويلقى محاضر آخر محاضرة في مكان آخر بعد سنوات فتقتطع منها عبارة، وتضرب هذه بهذه فما النتيجة؟! ولو جلس المحاضران وتكلما وتبادلا أطراف الحديث لما اختلفا، لكن لما ضربت العبارة بالعبارة أحدثت بلبلة، فيأتي طالب علم مبتدئ، فيسمع هذا ويسمع ذلك فيستغرب، ويندهش وقد ينتكس -كما ذكرنا- ويأتي طالب علم ويقول: الحق مع هذا! فيقول له أخوه: بل الحق مع هذا! فيتناقشان ويتجادلان بالليل والنهار، وقد يتهاجران ويتدابران فمن المستفيد؟ لا أحد. فهذه هي الفرقة والشتات، والأمة في أشد ما تكون إلى الوحدة، وإلى التعاون على الخير والبر والتقوى، والبعد عن الشتات والفرقة وكثرة القيل والقال.

ثناء ثم تهم باطلة

ثناء ثم تهم باطلة ثم قال رحمه الله: 'خاصة وأن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة، المعروفين بمحاربة البدع والخرافات، والوقوف في وجه الداعين إليها، وكشف خططهم وألاعيبهم'. إذاً: ليسوا كما قال أولئك: أنهم من أهل البدع، وأنهم يوالون أهل البدع ويلبسون ويدلسون على الشباب، بل قالوا كلاماً يستحي الواحد أن يذكره، قالوا: إنهم أخطر من اليهود والنصارى -أعوذ بالله- وإنهم وراء المظاهرة النسائية التي قامت في الرياض، وإن هؤلاء ليسوا على عقيدة أهل السنة والجماعة، فهم إنما يتخذون العقيدة وسيلة ومطية لما يريدون! نعوذ بالله. والكفار لا يقولون هذا، بل يقولون: هؤلاء وهابية متعصبون، وكلنا قرأنا وسمعنا الصحافة الأمريكية، وكثرة تردادها لهذه الكلمات: وهابيون متعصبون، أي: دعاة هذا البلد، ودعوتهم هي الدعوة والعقيدة الصحيحة -والحمد لله- وإن سموهم الوهابية فهي عقيدة أهل السنة والجماعة وما جاء في الكتاب والسنة. وبعد كل هذا، يأتي أخوك المسلم ويطعنك هذه الطعنة النجلاء، ويجعلك أخطر من اليهود والنصارى، ويقول: كل كلامهم عن العقيدة وعن الدين والدعوة ما هو إلا ستار، ومحاولة للوصول إلى مآرب أخرى، مع أن الناس وطلاب العلم يسمعون هؤلاء المشايخ والدعاة المظلومين منذ أعوام، فلو كانوا يرون شيئاً أما كانوا سيقولونه؟! أيكتمونه طوال هذه السنين؟! سبحان الله ما أكثر الظلم! وما أعظم الظلم والبهتان! وهل يريد هؤلاء الدعاة إلا أن يبينوا الحق ويوضحوه للناس، ثم إن هذا اتهام بالنفاق! فمن الذي أطلعكم على نيتهم وما في بواطنهم، فإذا قال أحد: كلامهم نافع وأشرطتهم نافعة ومحاضراتهم نافعة؟ قال: نعم. ولكن لهم أهداف أخرى. سبحان الله! من أين علمت هذا؟ فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعرف المنافقين، وقد أنبأه الله تعالى عنهم، وأطلعه على أحوالهم ومعرفته لهم بسيماهم، فقال له: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] وغير ذلك، ومع ذلك فعاملهم على الظاهر، عاملهم معاملة المسلمين، وقال في حديث المقاتلة: {وحسابهم على الله} وأنت تقول: لا. مهما أظهروا! وقد كلمهم كثيرون، ونصحوهم وقالوا لهم: اتقوا الله! من أين لكم هذا؟ فيقولون: أنتم لا تعلمون شيئاً، فيقال لهم: هؤلاء قد زكاهم العلماء، فيقلون: لا يعلم العلماء عنهم شيئاً، وهناك أمور أخرى، سبحان الله! فكيف عرفتموها؟ ثم إن من العجب أن هؤلاء قليلو المخالطة للدعاة المظلومين المفترى عليهم، فكيف عرفتم حقيقتهم وأنتم لا تجالسونهم؟ فلو أن واحداً منهم خدمه -مثلاً- أو رافقه أو صحبه؛ لكان في كلامهم شيئاً من القبول، ولكن لم يحدث شيء من ذلك. ولهذا فالقريبون منهم يعلمون براءتهم، والبعيد يفتري عليهم، ويبهتهم بما ليس فيهم. إذاً: هذا دليل على شحناء -والعياذ بالله- غلٍ وضغينة وحقد يترفع عنه طالب العلم. أما الخلاف الفقهي، فلا ننكره، بل نقول: إنه إثراء للقضية، وسيأتي -إن شاء الله- عندما نشرح كلام الشيخ عن هذا الموضوع.

مصلحة الأعداء من الشقاق

مصلحة الأعداء من الشقاق ثم قال: 'ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق، أو من أهل البدع والضلال' وصدق والله فالمصلحة -والله- لهؤلاء وأضرب لكم مثالاً: اتهام منهاج الجماعات الإسلامية بالابتداع، ويقولون: الإخوان والتبليغ إلخ، ويتكلمون عنهم كثيراً، فكيف سيكون حال الناس إذا ظنوا أن هؤلاء الدعاة مع هذه المناهج -خاصة بعدما استفادوا من علمهم وأشرطتهم ومحاضراتهم بالآلاف- عندما يقال لهم: إن فلاناً وفلاناً ممن يدعون إلى هذه المناهج، لاشك أن الناس سيتبعونهم؛ لأنهم قد أحبوهم وألفوهم، كما أنهم لا يلقون بالاً للتسميات، فإذا علموا أن فلاناً الذي أحبوه ووثقوا به من الجماعة الفلانية، قالوا: نحن معك، وأنا قد جاءتني رسائل تعبر عن إرادة المساعدة، وحب الخدمة، والاستعداد لذلك. إن التسميات ليست مذمومة لذاتها، فليس في القرآن ذم لكلمة (إخوان، تبليغ) فيقول الناس إذا كان الأمر كذلك وكان القائمون عليها أمثال هؤلاء الرجال، فنحن معهم ومنهم، ولا يهمنا الاسم، وتكون النتيجة عكس ما أراد هؤلاء المصرون. فإذا كان غرض هؤلاء محاربة الدعاة؛ ويقولون: نحن نحارب أهل البدع، وهؤلاء من أهل البدع، فسيقول الناس: هذه البدع على عيوننا ورءوسنا، وإذا كان أحد من أهل البدع فهو أنتم، وقد يردون بعض الحق الذي يقوله أولئك، وسبب هذا أن الافتراء العظيم يقابله عادةً غلو وتعصب عظيم. ومثال آخر: تصوروا لو جاء رجل من المعتزلة، وقال: الإمام أحمد بن حنبل منا، فجاء رجل من أهل السنة، وقال: هذا صحيح، ليس الإمام أحمد منا، بل من المعتزلة، فسيقول المعتزلة: أحسنت. أهديت لنا هدية عظيمة. إن الروافض إلى الآن يحرصون على أن ينسبوا الصحابة من أهل بدر ونحوهم إليهم، لماذا؟ لأن كل عاقل يعلم أنك عندما تأتي إلى أناس لهم خير وفضل فتنسبهم إليك، فإن هذا أقوى وأفضل، بالنسبة إلى هؤلاء -سبحان الله- الذين انتكست عقولهم، فيأتي ويقول: هؤلاء ليسوا من أهل السنة. ولهذا أجابهم بعض طلبة العلم وقالوا لهم: حسن، لقد عرفنا الآن من هم أهل البدع، فإذا ذهبت إلى القصيم فلن أحضر لا للشيخ سلمان بن فهد العودة أو من كان على شاكلته، وإذا ذهبت إلى جدة فلن أحضر عند سفر الحوالي ولا إلى من هو مثله، وإذا ذهبت إلى أبها فلن أحضر لا للشيخ عائض القرني ولا إلى من هو مثله، وإذا ذهبت إلى الرياض فلن أحضر لا للشيخ: ناصر العمر ولا إلى من هو مثله؛ لأنهم كلهم أهل بدع، ومجالسهم مجالس بدعية، فمن أهل السنة غير هؤلاء لنحضر لهم في هذه المدن الثلاث؟ والحمد لله، لا تجد أي داعية يحمل غلاً أو ضغينة على الآخر. فلو ذهبت إلى أبها، فأكثر إنسان أحب أن أراه، الشيخ: عائض القرني، ولو جاء إلى جدة كان كذلك، أو مكة كلنا كذلك والحمد لله، إنها محبة إيمانية، فكل منا يريد بل ويفرح أن يسمع أن الناس يسمعون محاضرات أخيه وأشرطته وكتبه، وكأنه هو الذي كتب، لا فرق عندنا، لأن هذا هو الحق، ولو كان مكتوباً في أقاصي البلاد، لكن أولئك أفسدوا ويظنون أنهم يصلحون.

أصحاب الصف الواحد

أصحاب الصف الواحد إن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة للمغرضين من العلمانيين والمستغربين، وغيرهم من الملاحدة الذين اشتهر عنهم الوقيعة في الدعاة، والكذب عليهم والتحريض ضدهم فيما كتبوه وسجلوه، فعندما جاءت الفتنة أو الأزمة -والتي يسمونها "أزمة الخليج "- تكلم من تكلم منا وأبرأ ذمته، ولا أدل على أن الأمر هو براءة للذمة من اختلافنا نحن الأربعة -الذين يقال عنا ما يقال- فكل واحد منا لو سمعته تجده قد أخذ الموضوع من منحى خاص، وصحيح أن الهدف والمؤدى واحد، ولكن لكل واحد وسيلته، ليس كما ذكر هؤلاء أنها اخطبوطات في الخفاء، أو كما اتهمونا بأننا يديرنا جهات خارجية. إننا نعتبر أن هذا البلد بلد القيادة -لا نقول هذا فخراً، لكنها الحقيقة- فهنا المنبع، فكيف ندار من الخارج؟ قد يكون لنا إخوة في الله يشاركوننا من أهل السنة في بعض آرائنا ومواقفنا، وطبيعة أهل السنة أنهم أمة واحدة، وفرقة واحدة، في كل مكان، لكنا لا ندار أو نوجه من الخارج. فهؤلاء الذين كتبوا وطعنوا كانوا يمدحون ويثنون عليّ بما أنا أعلم أنه كان فيه نوع مبالغة، وأقول لأحدهم: لا تبالغ بارك الله فيك، وهذا حادث ويشهد به المئات، إن لم أقل الألوف من الذين يحضرون مجالسهم، حتى جاءت هذه الأزمة، وكان لنا رأي فيه مخالفة أو معارضة للموقف الرسمي للدولة؛ إبراءً للذمة، فنحن في هذا البلد ليس لدينا معارضة سياسية أو معارضة حزبية، بل عندنا كلمة حق تقال، لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها، فإن أخذوا بها فالحمد لله، وإن لم يأخذوا بها برئت ذمتنا وهم حسيبهم الله تعالى، وقد يكون اجتهادهم هو الصواب. ونحن نقول، وما زلنا نقول: إن هذا رأي ليس فيه وحي نزل من السماء، ونحن عندما قلنا هذا الكلام انقلبت هذه المحبة والمبالغة في المدح إلى عداوة مقيتة شديدة غريبة -سبحان الله- واشترك فيها الطائفتان، حتى تعرفوا من يعاون هؤلاء، فيأتي: غازي القصيبي في كتاب حتى لا تكون فتنة فيقول: وافتتح هذه الفتنة " سفر الحوالي بشريطه (ففروا إلى الله) ثم ثنى بفلان، وخص كل واحد من الإخوة الثلاثة برد خاص مستقل، ويوزع الكتاب بالكراتين. وفي نفس الوقت تكيل الصحافة السب والشتم الصريح لـ حسن الترابي، وراشد الغنوشي، وعباس مدني، وعلي بلحاج وأشياعهم عندنا هنا، فمن يقصدون بأشياعهم هنا -إنهم معروفون- وأتباعهم في دول الخليج؟ ومع هذا السب والشتم سكتنا، واستمرت دروسي إلى أن أوقفت، ثم عادت، وتركنا موضوع الأزمة جانباً، وانصرفنا إلى قضايا علمية بحتة، وقامت الحرب، ولم نعلق على هذه الأحداث، وواصلنا كما كنا، وهذا فيه دليل على أنه لا غرض نريده إلا بيان الحق. لكن العلمانيين غضبوا وقالوا: ما دام هؤلاء قد خالفوا الحكومة، فإنهم يريدون الكراسي والمناصب والحكم مثل حسن الترابي وراشد الغنوشي وعباس مدني، وفي هذا الوقت بالذات كُتب غازي القصيبي توزع، وكلام الجرائد يومياً إلا ما رحم الله منها، فلا نعني الجميع طبعاً، وتأتي الأشرطة وتوزع في وقت واحد. إذاً أليس المصدر واحد؟ أليس العقل المدبر واحداً؟ وسوف ندع ما خفي جانباً، وإن كان عندنا حقائق لا نظهرها، ولكن نتكلم عن الظاهر الآن، وهو أنك أنت والعلماني الملحد والمستغرب قد وقفتم في صف واحد ضد أخيك هذا المسكين، الذي قال كلمة وانتهت، فتأكل عرضه، وتنهش لحمه، ليل نهار من أجل ماذا! ثم إن هذه الآراء اجتهادية وقد أوضحها الشيخ -رحمه الله- فهي مما يقبل النقاش، ولكن المسألة بدت رداً للسنة وإنكاراً لها، وأنهم أتباع فلان القبوري، وفلان الشركي، ثم إغواء الشباب أن هذا شيء لا ينصره العدل. فإذا كان الذبح يحتاج إلى الإحسان: {وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة} ولو رأيت كائناً صغيراً أتطلق عليه الرشاش؟ لا. بل كل بحسبه. فالمسألة ولو كانت خطأ، فلا يكون الرد بهذه الصورة، لكن هؤلاء ما أحسنوا حتى القتلة والذبحة.

الفتنة تفسد قلوب العامة والخاصة

الفتنة تفسد قلوب العامة والخاصة ثم قال الشيخ ابن باز: 'إن في ذلك إفساداً لقلوب العامة والخاصة' وحقاً -والله- لقد وقع، فعندما امتلأت الدنيا نشراً وترويجاً للأكاذيب والإشاعات الباطلة، كثرت الغيبة والنميمة، وفتح أبواب الشر بمصاريعها لضعاف النفوس، الذين يدأبون على بث الشبه، وإثارة الفتن، وممن يحرصون على إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا. 'وقد تبلبلت الأذهان، وتفلتت الألسن، وصرف الشباب عن طلب العلم النافع، ومدارسة الكتاب والسنة، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووقع التهاجر والتباغض فيما بينهم، وراجت الإشاعات والأكاذيب والأباطيل' فراجت على مستوى العامة، وعلى مستوى الحكومة، وعند أعداء الدعوة، وراجت في كل مكان، ويقولون: إن هؤلاء لهم أهداف خبيثة، ووراءهم أشياء عظيمة، ولهم علاقة بالخارج، وهكذا دواليك حتى تشوشت أذهان كانت من أصفى ما يكون، فكيف بالذي هو حديث عهد وابتلاء؟! وقد بلغت الضغينة مبالغ عجيبة جداً، وهناك أمثلة كثيرة مشهودة على هذا الشيء. فمثلاً: سافر الشيخ عائض القرني حفظه الله إلى المدينة ودعاه أحد المشايخ المحترمين الفضلاء، والذي يعرفه الناس، وجاء بعض أولئك من غير دعوة، ودخل الشيخ، ومعلوم أنك تفرح إذا لقيت شيخاً وسلمت عليه، وهذا أمر ملموس، ومن طباع الكرام والمؤمنين، ولكن هذا لم يقم ولم يسلم مع أنه جاء بغير دعوة وأساء الأدب، أليست هذه ضغينة وبلبلة؟! وآخر بعدما بلغه خطأ وكذباً أن الشيخ سلمان بن فهد العودة قد اعتقل، سجد سجدة شكر وهكذا تكون الضغينة!!! مع أن المخالفة هينة، أو خلاف فقهي كما يقولون، فلو بلغك أن الشافعي كلامه راجح، وكلام مالك مرجوح أتسجد؟! لكن هذا دليل على أن هناك ضغينة، ولقد بلغ التدليس والتلبيس شيئاً لا يطاق. حتى أنهم بلغ بهم الحال أن سجلوا شريطاً في المدينة ونسبوه إلى أحد هؤلاء المشايخ الذين يطعنون فيهم، وزعموا أنه من إصدار أحد التسجيلات المشهورة في جدة، وهي تسجيلات ذات سمعة حسنة، وكل مادة الشريط كانت مملوءة بكلام غيبة ونميمة وافتراء. فهل هذا مجرد خلاف -فعلاً- حتى يصل إلى درجة الكذب والبهتان والتزوير، وينشر هكذا ليضلل على الناس؟ هذه أمثلة على كلام الشيخ ابن باز -حفظه الله- في البيان.

تهم متوهمة

تهم متوهمة ثم يقول رحمه الله: ' إن كثيراً من الكلام الذي قيل لا حقيقة له، وإنما هو من التوهمات التي زينها الشيطان لأصحابها وأغراهم بها' وقد أنطق الله بعضهم، وقالوا: هذه أوهام، فأهل البدع يزرعون بيننا الأوهام، ليفرقوا بيننا؛ لكن بعد فترة رجع إلى هذه الأوهام والخيالات، فمثلاً: وهم الحزبية، وأن هناك حزب وهمي يسيطر ويدير كثيراً من الناس ومنهم: حسن الترابي وراشد الغنوشي وجبهة الإنقاذ إلخ، هذه خيالات الغربيين، فقد وضعوا فيلماً عن أحداث آخر الزمان من نبوءاتهم وأوهامهم الباطلة. وهذا الوهم ركَّبه بعضهم، وصارت كلمة يقولونها: الإخوان، ونحن بيننا هنا إخوة سودانيون، سلوهم هل حسن الترابي فعلاً ينتمي إلى منهج حسن البنا وسيد قطب والإخوان أم أنه مخالف له؟ بل لقد خرج بمدرسة مستقلة. سلوا الإخوة الجزائريين: هل عباس مدني من الإخوان أو من مدرسته؟ إن الإخوان لهم حزب مستقل تماماً بـ الجزائر عن جبهة الإنقاذ. ثم قالوا: وهؤلاء الإخوان تعانوا مع صدام، وقالوا: والذين هنا تحفظوا على وجود القوات الأمريكية الأجنبية، إذاً هم صداميون وإخوان! انظروا الوهم، كيف يكون! فقد جعلوا كل حادثة تبع. فعندما جاءت حادثة كنر، وقالوا: وراءها الإخوان -ونحن والله مع أهل السنة وسننصرهم بإذن الله تعالى- لم يتفهموا الموضوع، ولم يسمعوا تفاصيله، بل قالوا في البيان: لقد لبس الإخوان على الشيخ، وضحكوا عليه. ووهم آخر توهموه، وهو قولهم: إن هؤلاء يعادون العلماء، ونحن -والحمد لله- نحضر كل رابع أسبوع اجتماعاً مع سماحة الشيخ، وهذا من بعد الأزمة، وهذا غير اللقاءات الأخرى التي تقع أحياناً بعد أسبوعين أو أقل من ذلك، وغير الاتصالات والمراسلات والمشاورات في أمور الدعوة، وغير ما نرفع به إلى سماحة الشيخ: محمد بن عثيمين ويعلم الجميع حبنا له، وفرحنا بمجيئه، وكلامه فينا ثناءً ومدحاً والحمد لله، أما إذا خالفت عالماً في فتوى فإنه لن يغضب. وهو معنى كلام الشيخ عبد العزيز بن باز: 'ما يسوغ فيه الاجتهاد لا يؤاخذ' فالأمر ليس فيه أي شيء، خاصة إذا لم يسم، فإذا قيل -مثلاً- بعض العلماء قال كذا، ولكن بعض العلماء ما قال هذا، فهل يعني هذا المعاداة والطعن والتجريح للعلماء؟! بل نحن -والحمد لله- معهم، ونحن أبناؤهم وطلابهم، حتى أن من الأقوال التي يقولون أني قلتها: ما كان فينا من خير فهو من فضلهم وتربيتهم، حتى هذا القول جعلوه ضمن ما يقال أنه عداوة للعلماء، ويؤولون ويقلبون الحقائق والعبارات، وهذا من الافتراء وسوء الظن. ولذلك يقول الشيخ: 'والمؤمن ينبغي أن يحمل كلام أخيه المسلم على أحسن المحامل' وقد قال بعض السلف: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً، حتى لو قال: هذا الحديث لا أعمل به؛ فظن به الخير، وقل: لعله عارضه عنده حديث آخر، أو آية، أو اعتقد أن هذا الحديث منسوخ. ولا تقل: رد السنة. ولكن المصيبة، أننا ما وقفنا عند التأويل، وعند المحمل السيئ فقط، بل ضربوا عبارة قطعوها بعبارة أخرى، كما لو قرأ أحدهم مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] وقطعها، وهكذا هم، فأين كلامنا الأول، ومحاضراتنا الأولى؟ كلها لا تهمهم، وإنما المهم هذه القطعة أو الفقرة، فتعدوا سوء الظن وما نهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه ودعا لاجتنابه؛ إلى التلفيق المتعمد للأكاذيب والأباطيل.

المؤاخذة في الخلافات الاجتهادية

المؤاخذة في الخلافات الاجتهادية ثم قال رحمه الله تعالى: 'وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم، مما يسوغ فيه الاجتهاد -كمسألة الاستعانة بالكفار مثلاً، فإنها مسألة اجتهادية والخلاف فيها قديم- فإن صاحبه لا يؤاخذ به، ولا يثرب عليه، إذا كان من أهل الاجتهاد، فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن '. والله تعالى يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فإذا كان هذا مع اليهود والنصارى من المجادلة بالتي هي أحسن دون تهم أو تلفيق فكيف بمن هو أخوه!! ويقول: ' حرصاً إلى الوصول إلى الحق من أقرب طريق، ودفعاً لوساوس الشيطان، وتحريشه بين المؤمنين، فإن لم يتيسر ذلك، ورأى أحد أنه لا بد من بيان المخالفة، فيكون ذلك بأحسن عبارة، وألطف إشارة، ودون تهجم ولا تجريح أو شطط في القول، قد يدعو إلى رد الحق والإعراض عنه، ودون تعرض للأشخاص، أو اتهام للنيات'. وقد اجتمع مجموعة، وأخذوا معهم غيرهم وهم قلة، وذهبوا إلى سماحة الشيخ في الطائف وقالوا: نريد منك إيقاف درس شرح العقيدة الطحاوية، ونحن سندرس العقيدة مكانه، فقال الشيخ جزاه الله خيراً: هذا درس مفيد فيه خير، وأنتم جزاكم الله خيراً نفتح لكم دروساً في مدن أخرى، قالوا: نحن في جدة، قال: ولو في جدة، افتحوا درساً في المسجد، ولا مانع من ذلك، قالوا: نريد أن تكتب لنا كتاباً إلى مركز الدعوة، فكتب الشيخ لهم. والكل يعلم أننا لم نُحج أحداً أن يذهب إلى الشيخ من أجل أن يعطيه خطاباً ليحاضر في جدة، بل نحن نفرح عندما نجد من يلقي محاضرة في جدة، ونرحب به وندعوه، ونقول له: لو تلقي دروساً كل يوم فأهلاً وسهلاً ونرحب بك، كأخينا الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله، والشيخ ناصر العمر، ونحن نرى كيف يفرح الشباب عندما يأتي هؤلاء المشايخ، فنفرح لفرحهم، وكثيراً ما تأتيني رسائل بطلبهم، فنحن حريصون على هذا. والشاهد من هذه القصة أن الشيخ اشترط عليهم وأمام جمع كبير من الدعاة: ألاَّ يتعرضوا للأشخاص ولا للمشاكل، وأن يتكلموا في التوحيد والعقيدة والدعوة. فجاء هؤلاء، وتكلموا بما ذكرت سابقاً، ولما رأى الشيخ أن الأمر قد استفحل، ولم يلتزموا بما قال لهم، أصدر بياناً وجعله عاماً، وهذه حقائق يجب أن تعرف، وما كنا نريد أن تقال لكن هذا ما حدث. يقول الشيخ: 'دون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات' إذاً لا تتكلم في نيته، بل تكلم في حدود الألفاظ، واحملها على المحمل الحسن. 'وإذا وجدت زيادة في الكلام لا مسوغٍ لها' لا تضع من عندك زيادات أو عبارات، أو سوءاً تلصقه بالكلام المنتقد، وإنما تقول: أخطأ. وأيضاً لا تُعدد أفعالاً تذمه بها، مع أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول في مثل هذه الأمور: {ما بال أقوام قالوا كذا وكذا}.

نصيحة للذين يقعون في أعراض الدعاة

نصيحة للذين يقعون في أعراض الدعاة ثم قال: 'والذي أنصح به هؤلاء الإخوة الذين يقعون في أعراض الدعاة، والنيل منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم، أو تلفظت به ألسنتهم، مما كان سبباً في إفساد قلوب بعض الشباب وشحنهم بالأحقاد والضغائن عن طلب العلم النافع وعن الدعوة إلى الله'. كذلك كانت نصيحة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، فقد ذهب إليهم وحاضر عندهم بعنوان (موقف أهل السنة والجماعة من الخلاف) والشريط معروف. إذاً لا بد من التوبة، والتكفير عن الكتب والشرائط السابقة، بجديدة ترجعون فيها إلى الحق، فهذا ما يفتي به علماؤنا وينصحون به. والآن ظهر فعلاً من الذي يعصي العلماء، ولا يسمع كلامهم، ويرمي به عرض الحائط، فهل ستظهر الآن هذه الطاعة، وهذه المحبة للعلماء، فيتوبون ويستغفرون ويكفرون بأشرطة أو غيرها، توضح بأنهم رجعوا عما قالوا، وأنها كانت ظنوناً، وأنهم يبرءون إلى الله من إثمها، ويرجون من أصحابها العفو والصفح عنهم؟ فهل يفعلون ويمتثلون كما أمر الشيخ؟ قال: 'وشغلهم عن طلب العلم النافع، وعن الدعوة بالقيل والقال، والكلام عن فلان وفلان، والبحث عما يعتبرونه أخطاءً للآخرين، وتصيدها وتكلف ذلك' هذا ما قاله الشيخ. ومن طلاب العلم من جاءني مراراً يقول: يا شيخ ما الذي نفعل؟ إنني أطلب العلم النافع وأحرص عليه من الكتاب والسنة، فأقول له: العلماء كثير، فخذ منهم واستفد، واترك هذا الموضوع ولا تشغل نفسك بإخوانك، ولا تثره في أي مكان، وهذه نصيحة نكررها لأكثر من يأتينا، ما لم يلح في طلب معرفة القضية، فأحدثه يسيراً وأنا كاره؛ لأننا لا نريد أن ننشغل عن الدعوة، وهي مهنتنا وقضيتنا الأساسية، أما أولئك فقد تتبعوا بعض أشرطة المشايخ القديمة والتي كانت قبل الأحداث، وقاموا بربطها بالأحداث، وركبوا منها موقفاً غير الموقف الذي وقفه بكل وضوح وعلانية، فشغلوا الشباب بها. كما ذكر لي أحد الإخوة يقول: زميل لي في العمل -في مؤسسة حكومية كبيرة جداً- ملئا بكل ما تتخيله من منكرات، وهذا الأخ يعمل عندنا في المكتب، ويوجد عندنا من لا يصلي مطلقاً وعندنا الكفار، وعندنا من يروج لكتب الشرك وأمثالها، وهذا الزميل كل أسبوع يذهب إلى المدينة، وأحياناً إلى حائل، فيجمع شريطاً من هنا، وكلمة من هناك، ويذهب بكلمة ويأتي بكلمة، وينشغل بالقيل والقال، ولا يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وهذا مثال لما ذكره الشيخ عن هؤلاء الشباب. فننصحهم أن يكفوا عن أفعالهم، وأن يقبلوا على الأعمال المفيدة التي تقرب إلى الله، وتكون نافعة للعباد -وهذه نصيحة لنا جميعاً- وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير أو التفسيق أو التبديع بغير بينة ولا برهان، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما} ومن قال لأخيه: يا فاسق! يا خارجي! يا عدو السنة! يا متستراً بالعقيدة! فقد يكون الأمر كذلك.

فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون

فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال الشيخ رحمه الله: ' ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمر من كلام أهل العلم أو غيرهم أن يرجعوا فيه إلى العلماء المعتبرين ويسألوهم عنه؛ ليبينوا لهم حقيقة الأمر ويوقفوهم على أصله، ويزيلوا لهم ما في أنفسهم من التردد والشبهة، عملاً بقول الله عز وجل في سورة النساء: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، وأن يجمع قلوبهم وأعمالهم على التقوى، وأن يوفق جميع علماء المسلمين وجميع دعاة الحق لكل ما يرضيه، وينفع عباده ويجمع كلمتهم على الهدى، ويعيذهم من أسباب الفرقة والاختلاف، وينصر دينه الحق، ويخذل الباطل إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين '. في 17/ 6/1412هـ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد). وكل من يحبنا منكم فحق ودين عليه أن يشكر سماحته بأية وسيلة.

الجزائر وجبهة الإنقاذ

الجزائر وجبهة الإنقاذ الموضوع الآخر وهو موضوع حديث الساعة كما يسمى في الشرق والغرب، هو موضوع الجزائر، ونحن مبدئياً نعتقد أن الديمقراطية كفر ليس في ذلك عندنا أي شك، ونعتقد كذلك أن قيام الإسلام في الأرض ليس بهذه الطرق وبهذه الوسائل بالضرورة، بل الطريق الصحيح والمنهج الحق هو: الدعوة وطلب العلم ونشر الفقه في الدين، وتربية الناس على ذلك، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن تأتي مرحلة تمايز الصفوف، هنا يأتي الجهاد في سبيل الله، وإقامة الدين بعد البيان والحجة وإبلاغ الحق، وهذه بديهيات معروفة والحمد لله، لكن نحن نتكلم عن قضية واقعية وأمر قد وقع.

خيارات جبهة الإنقاذ في الجزائر

خيارات جبهة الإنقاذ في الجزائر لم يكن هناك مناص، أو مفر من أحد أمرين إما أن تقع أحداث كأحداث تونس، والتي فيها الآن ما لا يقل عن خمسين ألف معتقل ومعتقلة، يعذبون بأشد أنواع التعذيب التي كانت في أيام جمال عبد الناصر كما في نافذة على الجحيم وقد كتب عن هذا شيء فظيع، وتواتر وتناقله الثقات من الإخوة السلفيين الموثوقين بعقيدتهم ونقلهم وكتبوا ذلك، وعندي أشياء كثيرة مؤلمة، ومقلقة تطير النوم، وتذهب الراحة من القلوب. المقصود: أن هذا كان اختياراً أو حلاً، فلو سيطرت الجبهة الاشتراكية الحاكمة الخبيثة، أو جبهة القوى الاشتراكية فهذا ما يريدون أن يفعلوه، حيث يريدون التنكيل والإيذاء وضرب الصحوة وفتح المعتقلات، وهذا ما فعلوه أيضاً بـ الجبهة وأعضائها. أو البديل الآخر مع اعتقادهم أن الديمقراطية كفر، وعلى أن نتائج الانتخابات قد لا تكون مضمونة، تلافياً للتهم وعدم الشرعية قالوا: ندخل، ونرتكب أخف الضررين، ونحقق أعلى المصلحتين، ونثبت للغرب والشرق أن هذا الشعب لا يريد إلا الإسلام، وهذا هو الذي عملت به الجبهة وغيرها في بعض الدول، وهناك فتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بأنه إذا كانت الضرورة، أو مصلحة الدعوة في دخول الانتخابات أو البرلمان فلا بأس بقيودها، وهكذا حصل. فتصوروا جبهة تحارب ويعتقل منها الآلاف، وإلى الآن شيوخها في السجن كالشيخ: عباس مدني والشيخ: علي بلحاج؛ ومع ذلك تأتي الانتخابات، وتأتي هذه النتيجة العجيبة، فيكون للحزب الحاكم (16) مقعداً والجبهة (202) وقد تصل إلى (210)، فهي نسبة غريبة جداً، تدل على أن هذه الأمة لا تريد إلا الإسلام ولا نعني أن كلهم صحابة فضلاء علماء، ولكن المقصود أن الرغبة والعاطفة والشعور إسلامية، فالمعنى أنهم مستعدون أن يتربوا على الإسلام ويتبعوا المنهج الإسلامي بدل المنهج الاشتراكي، ويريدون المحاضن الإسلامية بدل المحاضن العلمانية، وتعليم العربية بدل الفرنسية، وتعلم التفسير والتوحيد والفقه والحديث بدلاً من تعلم الكفر والإلحاد والتاريخ القومي وغير ذلك. فهذه دلالة على أن الشعوب تريد الخير، وشعب الجزائر شعب غيور، وصادق ومتدين بالفطرة والحمد لله.

ردود الأفعال على نتائج الانتخابات الجزائرية

ردود الأفعال على نتائج الانتخابات الجزائرية لما ظهر هذا الحدث الكبير تباينت ردود الأفعال، فـ فرنسا تلمح بأن الجيش سيحل المشكلة، مع أنهم يزعمون أنهم دعاة الديمقراطية، ويقولون: إن الثورة الفرنسية فجرت الديمقراطية في العالم، لأنها حررت الشعوب، وعبرت عن إرادتها، وهذا شعب عبر عن إرادته، فلماذا تلمحون أن الحل سيكون في تدخل الجيش؟! وبعض الدول والإذاعات والصحافات سكتت، ولم تتكلم مطلقاً، ولو كانت جبهة اشتراكية في كولومبيا أو جامايكا أو غيرها لجاء الخبر على الفور، لكن في بلد إسلامي كبير يبلغ تعداده حوالي ثلاثين مليون، وهناك أحداث خطيرة، ومع ذلك لا تسمع لهم حساً، وبعض الصحف كتبت عن " جبهة الإنقاذ " ولم تذكر الإسلامية، لماذا؟ إنهم يريدون أن يظهروها كغيرها من القوى، وإلا لماذا لم تميز؟! وبعض الصحف تجرأت أكثر، ومنها جريدة الشرق الأوسط، وقالت كلاماً عجيباً، حتى كلام الشيخ حاولت أن تحرفه وتؤول معناه، فلقد حاولت في قضية الجزائر أن تدخل البلبلة بعناوينها، ومن ذلك كلمة بعنوان: (كلمة لا بد منها حول الانتخابات الجزائرية) تقول: 'إنا قد علمتنا التجارب أن القوى التي تعيش في ضمن قالب أيديولوجي- أي: عقدي- جامد، أو تتعرض للقهر والاضطهاد، ولا تجد أمامها الفرصة الكاملة للتنفيس أو التعبير عن الرأي، تطرح شعارات مبسطة تتعاطف معها الجماهير' ومعنى كلامها: أن الناس مغفلون، وتقول: 'ومع الوقت تصبح بعض الشعارات التي دغدغت أحلام الناس بتذليل كل الصعاب، وترياق يعالج كل المشاكل، ويسهل تصديق هذه الشعارات، وتتحول من زفرة للفت النظر إلى برنامج عمل سياسي' فانظروا كيف الطعن والدس! وبعدما يذكر قدوته الاتحاد السوفيتي والقوى الاشتراكية، كما قرر جار الله الخبيث وأمثاله، أي: أن الإسلام والشيوعية عندهم نظامين شموليين، ويقول: (تجارب روسيا دلت على هذا، وكذلك هناك تدل على أن الحكم أكثر من مجرد شعارات ونية طيبة واستلهاب للهمم أو تحريض للشارع، فالمشاكل المتراكمة لا تحلها النظرات المثالية، ولا تنهض بأعباء حلها الشعارات أو تغيير الأسماء والوجوه وإنهاء سلطة هذا الحزب وإسناد الرأي لذلك، إنما تكمن في الحلول وفي الرؤية الواقعية الاختبارية لحقيقة الأوضاع لكي تصبح الحرية والكساء والغذاء والطبابة في متناول كل عقل وكل جسد). فهو مقصوده إبعاد الدين! وهذه نظرة مادية بحتة، وهذه الدول الغربية تؤمن لمواطنيها الدواء والغذاء والراحة والحرية، حرية: التعري، والزنا، والسكر، والعربدة فهذا هو النموذج، أما الشعارات والدعوة للدين والإسلام، فلا يريدونه لا في الجزائر، ولا في أي مكان على حسب رأي الجريدة، يقول: (وفي بذل الجهد وجمع طاقات أبناء الشعب تحت مظلة الأمن والانسجام الاجتماعي بعيداً عن صفات التشنج والعصبية التي تزرع الريح فلا تحصد إلا العاصفة) إلى آخر ما قالوا وما كتبوا، فهناك ردود فعل كثيرة جداً، وما زالوا في أولها.

نصيحة لجبهة الإنقاذ

نصيحة لجبهة الإنقاذ ثم نوجه نصيحة للإخوة في جبهة الإنقاذ نقول لهم: أولاً: بغض النظر عما يقوله العلمانيون، نحن لا تغرنا الشعارات فقط؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريد منا إيماناً حقيقياً وقلباً صادقاً مخلصاً، وليس مجرد الشعارات، وإن كانت شعارات حق، وأذكر من شعارات الجزائريين أنهم يجولون ويقولون: لا ميثاق لا دستور، قال الله قال الرسول، وغيرها، وهذا شعار حق، الله تعبدنا به ويجب أن نعتقده لكن لا يكفي الاعتقاد، يجب أن يتحول إلى عمل، وأن يكون احتكامنا فعلاً إلى ما قال الله وإلى ما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثانياً: أن الجماهير تحتاج إلى تربية بل طبقة المثقفين، فنحن لا تغنينا هذه الجموع عن التربية، وعن فتح حلقات العلم في المساجد ونشر العلم الشرعي، والتفقه في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي التوحيد الذي هو أعظم ما أمر الله تبارك وتعالى به، وبيان الشرك، وبيان البدع، وخطرها وضررها وبيان العلمانية والرد عليها في جميع فروعها، وبيان القومية، والتي يسموها "جزأرة" أو أياً كانت، وفضح كل ما يمس بالعقيدة. المهم أننا ننصح الإخوان في الجبهة، وفي كل مكان بأن يتمسكوا بكتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنها أمانة عظيمة حملوها، سواءً فازوا في الانتخابات أم لم يفوزوا، في المرحلة الأولى أم الثانية، وصلوا للحكم أو لم يصلوا، ليست هذه هي القضية الأصلية، بل القضية أنكم حملتم الآن أمانة عظيمة، خاصة أنتم أيها الدعاة في الجزائر؛ ونحن الدعاة في كل مكان أمام هذا الشعب الذي تخرج منه كل هذه الملايين، وتقول: لا نريد إلا قال الله وقال الرسول. إنها -والله- أمانة عظيمة علينا، فلا بد أن نرسل لهم الكتب، وأن نبعث لهم بالأشرطة، وهم -والحمد لله- يتلقفونها كما يتلقف العطشان الماء البارد في كل منطقة، وفي كل ولاية من ولايات الجزائر، وأن نمدهم بالدعاء، فندعو لهم دائماً أن ينصرهم الله تعالى، وإنه لفتح كبير أن تكون دولة لا إله إلا الله، التي على منهج السلف الصالح والخلافة الراشدة في الجزائر، فنرجو أن تكون كذلك إن شاء الله، فلندع لهم بالتوفيق والسداد والتثبيت. ونقوم بالواجب ولا يكفي النقد لأنه سهل، ولكن ليس هذا هو المطلوب، بل المطلوب النصح والتأييد، وأن أقول وأبلغ بما أستطيع لما فيه خيرهم، وخير الإسلام والمسلمين، ولله الحمد والمنة. ثم ننصح الإخوة الصحفيين في بلادنا أن يتقوا الله، وأن يعطونا معلومات عن هؤلاء الناس، وأن تترك التجريح خاصة جريدة الشرق الأوسط التي تجرح وتشهر بمثل هذا الكلام، لماذا لا يسافر مندوبون من جرائدنا ومنها عكاظ، وأخصها لأن لها مندوبين في كثير من أنحاء العالم، لماذا لا يذهب هؤلاء ويقابلون قادة الجبهة وتنشر مقابلاتهم في صحفنا، ويعرف الناس الذين يدعون إلى الله، والذين يُتهمون بأنهم وهابية؛ لأن هذا البلد محط أنظار الناس، وهم يريدون أن يسمعوا منا أية كلمة، ولو كانت صغيرة فيعملون بها شهوراً وأياماً وليالي، فأرجو أن تكون هذه النصيحة لها قبول عند أولئك. هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

العزلة الفكرية لدى الشباب المسلم

العزلة الفكرية لدى الشباب المسلم تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن العزلة الفكرية التي يعاني منها الشاب المسلم، مبيناً أن الشاب المسلم يعاني اليوم عزلة كاملة عن دينه وتاريخه، وأن هذه العزلة جزئية بالنسبة لشباب الصحوة، ثم بين الشيخ حقيقة هذه العزلة، وأسبابها، ونتائجها، وضررها على الفرد، وعلى الأمة ككل، والحلول المناسبة لهذا الداء العضال.

النوع الأول: العزلة الكاملة وفقدان التوازن

النوع الأول: العزلة الكاملة وفقدان التوازن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين , وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: إن العزلة لدى الشباب المسلم هي من أخطر الأمراض التي يعانون منها، ولا سيما في هذا العصر، وسوف نوضح -أولاً- حقيقة هذه العزلة، ثم ننظر إلى خطرها وضررها على الشباب المسلم من خلال ذلك.

حقيقة العزلة الكاملة

حقيقة العزلة الكاملة أولاً: هناك عزلة كاملة يعاني منها الشباب المسلم اليوم، عزلة كاملة عن دينه وعن تأريخه، وعن كل ما يهمه ويجب عليه أن يعرفه، وهذا ما يعاني منه شباب الإسلام في معظم بقاع الدنيا؛ فهم أبناء الجيل الأول وأحفاد الصحابة الكرام، وحملة الأمانة، الأمانة التي حملتها هذه الأمة المباركة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. ولكنهم مع ذلك لا يعلمون من هذه الأمانة ومن هذا الحمل شيئاً، بل يعيشون كما يعيش أبناء اليهود والنصارى والمجوس وعباد البقر والأصنام، لا يعملون شيئاً إلا لشهواتهم ولدنياهم، قد حببت إليهم هذه الحياة الدنيا وغفلوا غفلة تامة عن الحياة الأخرى, وحبب إليهم كل كتاب إلا كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وكل عظيم من العظماء أو العباقرة أو الأبطال إلا أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو صحابته الكرام, وعظُم لديهم كل عالم في الدنيا إلا أن يكون عالماً من علماء الأمة الصابرين المجاهدين. وهذه عزلة عظيمة وقع فيها وكان ضحيتها الشباب المسلم في أكثر أرجاء الأرض.

صانعو العزلة الكاملة

صانعو العزلة الكاملة إن سبب هذه العزلة هو سيطرة العلمانيين والماديين والملحدين وغيرهم من الأحزاب الخبيثة أو من الطواغيت المجرمين الموالين لأعداء الله تعالى في الشرق والغرب، ففرضوا على هذه الأمة المباركة الطيبة المصطفاة هذه العزلة، وأصبحوا يربون الأشبال وأبناء الأسود كما تربى فراخ الدجاج، ولذلك نجد أن هذه الأمة فصلت عن تاريخها، وعزلت عن ماضيها وعن مصدر حياتها وعن مقومات وجودها، وأصبح هذا الشباب يعيش على هامش الحياة وعلى هامش العالم، ونتيجة لذلك ظهرت هذه العزلة في هذا الشباب.

نتائج العزلة الكاملة

نتائج العزلة الكاملة ومن نتائج هذه العزلة الانتماءات الكثيرة المتشعبة المتفرقة, فهذا يتجه إلى الشرق، وذاك يتجه إلى الغرب وإذا ظهرت في الغرب اتجاهات فإنهم يتسارعون ويتسابقون إلى أيها يذهبون، وبأيها يأخذون، وكذلك في الغرب وهكذا فلا تكاد تجد اثنين من الشباب على قلب واحد، ومن لم تتخطفه الانتماءات المختلفة ذات اليمين وذات الشمال إلى غير دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإن الشهوات تفتك به, وإن الإباحية والمادية تحيطان به من كل جهة. وهذا النوع من الشباب نستطيع أن نقول: إنه يعاني من العزلة الكاملة عن الإسلام، وهذا هو الذي يسعى إليه -دائماً- أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويخططون له.

وسائل العزلة الكاملة

وسائل العزلة الكاملة ومن وسائل هذه العزلة وسائل الإعلام؛ لأنها تصرف الشباب عن الجد، والدين، والحق، وعن معرفة الله، والتفكير بالدار الآخرة, إلى الشهوات والأفكار الخبيثة فإذا لم يسمع الشاب أو لم يرَ أو لم يقرأ إلا ما كان بعيداً عن دينه، فإن هذه العزلة تزداد وتستحكم، فمن أين للحق والخير أن ينفذ إلى قلبه؟! ولا سيما إن كان الدعاة في قلة أو في ذلة, وكانت المساجد لا تؤدي الواجب الذي شرع فيها، وكان أئمتها مقصرين, وكانت حلقات العلم فيها معدومة أو ضعيفة إلى غير ذلك، فهنا تستحكم هذه العزلة على هذا الشباب المسكين. ومن أعظم وسائل العزلة: المناهج التعليمية: فإنك تجد الشباب يتخصص في مجالات كثيرة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، فهو يعيش في مجالات متنوعة: منها ما تسمى علمية، أو ما تسمى أدبية، ولكن أقل القليل هو من يتفقه أو يقرر عليه شيئاً من دينه؟! وأكثر الجامعات الإسلامية لا تقرر أية مادة إسلامية شرعية، معتمدة على أن الطالب كان لديه في المرحلة الثانوية كتيب صغير جمعوا فيه الفقه والتوحيد والحديث إلى آخره. ثم يأتي الطالب في الجامعة خاوياً وخالي الذهن، فإن لم يجد المنهج ولم يجد المدرس بطبيعة الحال، فمن أين له أن يعرف دينه وأن يطلع على حقائقه؟! وحينئذ يكون هذا محسوباً رقمياً على الأمة الإسلامية، ولكنه حقيقياً عضواً من الأعضاء الذين إن لم يكونوا ضد الإسلام فهم على الأقل لا يحسبون له حقيقة؛ لأنهم لا يعيشون قضية الإسلام، ولا يدرون لماذا جاءوا، وإلى أين يذهبون، ولا تهمهم قضايا أنفسهم وعبادتهم التي خلقوا من أجلها، ولا قضايا أمتهم التي يجب أن يضحوا ويعملوا في سبيلها. هذا هو النوع الأول، وأرى أن أمره واضح، وأحسب -والحمد لله- أن مجتمعنا هذا إلى حد ما ليس عنده هذا النوع من العزلة، وليس مستحكماً فيه؛ نظراً لوجود هذه الصحوة الطيبة المباركة، والدعوة التي آتت ثمراتها والحمد لله، وما وجود مثل هذه المخيمات، ومثل هؤلاء الإخوة في كل جامعة -وأمثالهم كثير- إلا دليل على ذلك.

النوع الثاني والثالث: العزلة الجزئية

النوع الثاني والثالث: العزلة الجزئية والنوع الثاني من العزلة التي يعاني منها الشباب المسلم هي: "العزلة الجزئية" وهذه العزلة موجودة لدى شباب الدعوة الإسلامية، وهي التي يجب أن نتنبه لها، وأن نكون جميعاً على وعي تام بخطرها وضررها.

أسباب العزلة الجزئية

أسباب العزلة الجزئية إن التخصص -أيها الإخوة الكرام- مطلوب, بل لا بد منه لكي يُتقن الإنسان فناً أو مجالاً، لكن كثيراً من الشباب باسم هذا التخصص، يغفلون ضروريات وأساسيات لا ينبغي إغفالها, ثم بعد ذلك يرون أن ما أتوا به هو الحق وحده، فماذا تكون النتيجة؟ إذا أخذتُ أنا جانباً من جوانب العلم أو الدعوة أو الجهاد ثم جعلته هو كل شيء، ثم بعد ذلك اعتبرت أن من لم يكن مشاركاً لي فيه فلا شيء عنده، فإن ذلك ينتج عنه الاختلاف، ولا بد؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك من ضمن أسباب اختلاف الأمم قبلنا: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14] كمثل النصارى أخذوا حظاً ونسوا حظاًآخر, فإذا نسي المسلم حظاً مما ذكر به -وإن أخذ بحظ آخر- فإنه يعادي من أخذ بالحظ الذي نسيه وترك الحظ الذي أخذ به، والحظ معناه القسمة والنصيب. فمثلاً: شاب مسلم اتجه إلى الدعوة وجعل همه الدعوة, وأي شيء يعاب على من اتجه إلى الدعوة؟! بل هذا فضل عظيم وخير كبير، لأن هذا منهج الأنبياء وهو طريقهم, لكن باتجاهه إلى الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واشتغاله بها دائماً وعدم اهتمامه بالجانب العلمي -مثلاً- فلم يهتم بالعلم الشرعي، ولا بالاطلاع، ولا بالتفقه بالدين، ولا في معرفة المسائل بأدلتها التفصيلية, ثم بعد أن تعمق في ذلك ورأى كثيراً ممن تفقه وتبحر وتوسع في المسائل لم يغير منكراً، ولم يحرك ساكناً ولم يؤدِّ واجباً, فيرى أن الحق كل الحق هو ما عنده وما هو عليه، فيعيب ذلك الآخر, والآخر يعيبه. فيقول: أنت تدعو إلى الله على جهل، وأنت كذا، وأنت كذا وهذا الشاب يزداد حرصاً وتمسكاً بما هو عليه عندما يرى الآخرين لم ينتفعوا بعلمهم، ولم ينشروا هذا العلم, فيقول: الحمد لله الذي جعلني من أهل الدعوة إلى الله، ولم يجعلني من أهل العلم والفقه في الدين، وهو في الحقيقة نسي حظاً وأخذ حظاً، فيقابله الآخر الذي جاءته العزلة من جانب آخر، وذلك أنه يقول: يا سبحان الله! دعوة بغير علم، يدعون ويذهبون إلى كل مكان، ويتحدثون عن أي شيء، ولكنهم جهلة بكتاب الله، وجهلة بسنة رسوله، وما عندهم شيء من العلم فلا خير في هذه الدعوة، فلنتركها ونتفقه ونتثقف. إلى متى تتفقه يا أخي؟! حتى تكمل علوم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أو الحافظ ابن حجر! أو إلى متى إذاً؟ فيضع هذا الشاب أمامه مشاريع ضخمة لا يستطيع عشر عشرها، وخاصة في زماننا هذا, ثم يظل يستمر ويقرأ ويطلع تاركاً الدعوة إلى الله جانباً، ثم إذا ذكر عنده من يقوم بالدعوة أو طلب منه أن يدعو أو يشارك في الدعوة فإنه يقول: الدعوة ليست بجهل، الدعوة ليست أي كلام! وهذا صحيح بلا شك, ولكن ادعُ بما عندك من العلم وبما علمك الله. فيقول الأخ: هذا فيما بعد، وهذا في وقت آخر، فَيُسَوِّف ويعلل، والنتيجة: أن يصبح هذا خصماً لهذا، وإن لم يتخاصما في الحقيقة، فليس شرطاً في الخصومة أن تكون بمعنى المواجهة، ولكن إذا أخذ هذا بطرف، وهذا بطرف آخر فإنهما ضدان متقابلان، فيأتي الشيطان أيضاً، فيجعل من ذلك خصومة حقيقية وخلافاً حقيقياً.

فقدان التوازن بين واجب النفس وواجب الأمة

فقدان التوازن بين واجب النفس وواجب الأمة هناك أيضاً نوع من العزلة، يأتي ضمن النفس الإنسانية الواحدة, وهو: فقدان التوازن بين واجب النفس وواجب الأمة، ونعني بذلك أن الشاب يعيش في انفصام أو في معركة أو في تجاذب وتنافر بين واجب النفس وبين واجب الأمة، مع أننا نحمد الله على أن الشباب المسلم بدأ يتنبه، ويعي ضرورة أن يكون عمله وفكره وتطلعاته على مستوى الأمة جميعاً، لا لنفسه فقط, وهذا ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرسل الكرام والصحابة, فقد كانوا دعاة خير للإنسانية جمعاء, وكانوا يفكرون في أمر العامة كما يفكرون ويجتهدون في أمر الخاصة، وكانوا يعرفون زمانهم، وتعلمون كيف كان واقعهم كان فيه قلة الأخبار، وقلة الاتصال، وقلة وسائل المعرفة والاطلاع، ومع ذلك فقد كانوا يحيطون بما تستدعي الحاجة أن يحيطوا به من أخبار فارس والروم والحبشة والقبط، ومعرفة القبائل، ومعرفة الناس بحسب ما تقتضيه الدعوة في مرحلتها وفي طبيعتها. ومع ذلك كانوا يوازنون بين واجب العامة وبين واجب الخاصة. فالإنسان يقول: يجب علي أن أعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجب علي أن أطلب العلم بنفسي، ويجب علي أن أنقذ نفسي من النار، وأن أفعل كل عمل يقربني من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن أهتم أيضاً بحقوق النفس الواجبة كحق الزوجة أو الوالدين أو الأهل عامةً وما أشبه ذلك، فهذه حقوق يريدها الإنسان في نفسه، ويجد أنه من الواجب أن يقوم بها لنفسه. وهناك حق الأمة وواجب الأمة فبعض الشباب ينسى نفسه وربما قصر في عبادته نتيجة انشغاله بالأمر العام، فهو يفكر في الدعوة، ويهتم بالمسلمين في كل مكان , وهذا واجب يُشكر عليه , لكنه ينسى نفسه هو، وربما ينسى واقعه القريب المحيط به في انشغاله بالواقع البعيد الذي هناك، فتكون النتيجة أن هذا الشاب يفقد التوازن، فلا ينفع ولا يفيد في أمر عام إلا على حساب أمر أو واجب خاص.

نماذج في التوازن

نماذج في التوازن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك كان صحبه الكرام الذين اهتموا بأمر هذا الدين والدعوة ونشرها في الآفاق والجهاد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ما كانوا قط مقصرين في الواجب الفردي الشخصي. فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- يقوم الليل، وكان يؤدي النوافل، بل كان يؤدي حقوق الأهل وواجب الزوجات، وكان يستقبل الوفود، وكان يعاشر الناس جميعاً بأفضل وأحسن المعاشرة وكذلك صحبه الكرام، وهذا لم يتعارض قط مع الواجبات العامة أو مع أداء المهام العامة للأمة. وكذلك نجد سير العلماء رضي الله تعالى عنهم , فقد كانوا في غاية العلم والعبادة والاتباع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وفي نفس الوقت نجد أنهم كانوا يهتمون بأمر العامة، وبإنكار المنكر، وبإقامة دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والنصح للحكام والإنكار عليهم، وبالاهتمام بما يجري في الأسواق، وما يظهر من البدع في الآفاق كل ذلك نجدهم معتنين به ومهتمين به دون أن يطغى جانب على جانب. ومع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق النفوس وجعل لها خصائص فبعض الناس يصلح للجهاد ولا يصلح للعلم، وبعضهم يصلح للعلم ولا يصلح للجهاد، وبعضهم يصلح للدعوة ولعرضها وبسطها وجلب الناس إليها، ولا يصلح لإنكار المنكر؛ لأنه يضعف عن ذلك، وبعضهم يصلح لإنكار المنكر ومواجهة المفسدين؛ ولكنه لا يستطيع أن ينشر الدعوة وأن يبينها لأحد وهكذا ومع وجود ذلك، إلا أنه وجدت أيضاً نماذج من القدوة والأسوة الحسنة ممن استطاعوا أن يستكملوا هذه الخلال، ويستجمعوا هذه الصفات الطيبة.

الشخصية المتكاملة وحاجة الأمة إليها

الشخصية المتكاملة وحاجة الأمة إليها الأمة الإسلامية في هذه الحقبة أحوج ما تكون إلى تلك النماذج، التي تتكامل فيها جوانب الشخصية المسلمة، فتستطيع أن تعبد ربها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتقوم بالواجب على النفس، ثم تقوم بالواجب العام من الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم تعرف كيف توازن بين هذه الواجبات، وكيف توفق بين العلم وبين الدعوة، وكيف تجمع بين الصبر وبين اليقين، وكيف توائم بين العصر الذي يصعب استيعابه بأحداثه وبأفكاره وبآرائه وبين تاريخها وماضيها وتراثها وبين العلم الشرعي الذي هو أشرف العلوم وقد ورَّثه لنا سلفنا الصالح من علوم العقيدة والتوحيد والفقه والحديث والتاريخ، وغيره من العلوم العصرية. فلا بد أن يوجد في هذا الشباب الطيب المبارك من يجتهد في استكمال هذه الجوانب ما أمكن، وذلك لكي يقدم للأجيال المعاصرة نماذج حية وقدوات مباشرة ملموسة محسوسة في تكامل الإسلام؛ لأن الشباب المسلم إذا تكاملت شخصيته، فإنه يستطيع أن يظهر ويبرز في الوجود، ويثبت الوجود الإسلامي -كما كان السلف الكرام رضوان الله تعالى عليهم- في هذا العصر على تفرق المسلمين وعلى ذلتهم وقلتهم، وعلى ما يعانون فيه من العبودية للشرق أو الغرب. أيها الإخوة الكرام: إن هذا الدين دين شامل متكامل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] وعلينا أن ندخل في هذا الدين كله، وأن نطلب العلم من أصوله ومن أبوابه المشروعة في الحلقات العلمية، وأخذه من العلماء العاملين المتفقهين في الدين، وفي الوقت نفسه لا نألو جهداً ولا نقصر في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل نجعل العلم سلاحاً للدعوة، وتكون الدعوة وسيلة لنشر العلم، كما يجب علينا أن نعي واقعنا وزماننا، كما قال بعض السلف الصالح: {{رحم الله امرأً عرف زمانه واستقامت طريقته}}. ومن معرفة الزمان أن تعرف هذا العالم جملة، وما يموج فيه من أفكار، وما يضطرب فيه من الفتن والضلالات, وتعلم بأن الحل في يدك، وأنك تستطيع أن تقدم لهذه الإنسانية التائهة الحائرة الحل الذي لا يملكه غيرك أبداً، وهو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. كما يجب علينا -أيها الإخوة الكرام- أن نوفق وأن نوازن بين الواجب على النفس وبين الواجب للناس جميعاً، فإنه يجب علينا أن نعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن نحافظ على الواجبات، ونتقرب بما استطعنا -أيضاً- من النوافل بحسب الإمكان، وأن نعبد الله ونذكره ونشكره؛ حتى تكون حياتنا زكية، وتكون أعمالنا زكية خالصة. ثم ندعو الناس -أيضاً- ونصبر على أذاهم ونأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، ولا نغلب جانباً على جانب. أما إذا اعتزل الشاب الناس بالكلية, أو اعتزل جانباً من جوانب الحق والخير بالكلية أو شبه الكلية، فإنك ستجد الشخصية غير المتزنة، وستجد أن هذا الإنسان إن وعى عصره وواقعه وجهل العلم والفقه الشرعي بأدلته، فإنه قد يتخبط في الفتوى ويقول على الله تبارك وتعالى بغير علم، وإن وعى جانب العلم الشرعي وتفقه فيه ولم يعش عصره وواقعه، فإنه لجهله بعصره هذا قد يضع تلك الأدلة في غير موضعها، فيستدل على أمور من غير انطباق أدلتها عليها -أي ما يسمى تحقيق المناط في أصول الفقه- فالعلم الذي لديه لم ينتفع به؛ لأنه لم يضعه في مناطه الصحيح. وأنتم -والحمد لله- قد هيأ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكم في هذه الجامعة وفي هذا البلد الطيب من وسائل تحقيق التوازن والتكامل الشيء الكثير، فاشكروا نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليكم، واحمدوه على ذلك، واجتهدوا في إيجاد الشخصية المسلمة المتكاملة. وأسأل الله تبارك وتعالى لي ولكم القبول، وأن ينفعنا بما نسمع وبما نقول، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

حل مشكلة العزلة الجزئية

حل مشكلة العزلة الجزئية Q إني أحبك في الله! ذكرت العزلة الجزئية، فما هو الحل؟ A أنا أشرت إلى الحل وذكرته، وإيضاحاً لذلك كله، أقول: إنه يجب علينا في أنفسنا أن نسعى إلى التوازن والتكامل، ويجب على المربين والموجهين أيضاً أن يبرزوا ذلك للشباب، وأن تكون من الجانبين؛ لأن المربي والموجه إن لم يجد من يتقبل هذا التوجيه منه، لم يكن لتوجيهه معنى ولا أثر، وكذلك الشاب إن لم يجد من يوجهه ويربيه على ذلك، ويزكيه بهذه التزكية الإيمانية المتكاملة، فإنه -أيضاً- لا يفيد، فلا بد من وجودها في منهاجنا التعليمية، ووسائلنا التربوية وفي علاقتنا الفردية، وأيضاً في علاقتنا الأخوية، كل ذلك يؤدي -إن شاء الله- إلى ترك هذه العزلة الجزئية.

الدعوة في مرحلة الدراسة

الدعوة في مرحلة الدراسة Q السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: هناك العديد من الشباب أثناء فترة دراستهم في الجامعة لا يكون لهم أي نشاط تجاه إخوانهم في السكن الجامعي بحجة أن هذه الفترة فترة تحصيل، والدعوة تكون بعد التخرج؛ فما رأيكم في ذلك؟ A هذا خطأ، وهذا -كما أشرت- إخلال بأمر الدعوة، وإن كانت حجة الأخ هي التحصيل، فنقول: إن الإنسان إذا أراد أن يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يعد للأمر عدته، ونعوذ بالله أن نكون من المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46]، فالمنافقون يزعمون؛ لكن واقع حال الإنسان يبين: هل هو يعد العدة أم لا؟ إن الشاب الذي يدعو إلى الله ويريد أن يكون داعية إلى الله تجده من الآن يدعو إلى الله، ولا يعني ذلك أنه يتقحم في المسائل أو أنه يبدد الوقت ولا يفيد في الجانب العلمي والتحصيلي، لا نقول ذلك، لكن يا أخي ادع إلى الله بما تستطيع وأنت في السكن -كما أشار الأخ- واحرص على أن يؤدي الصلاة كل من كان معك في السكن، وأن تصحح له عقائده وتتعلم معه ما ينفعك الله به في جانب العقيدة، وهي أهم جانب في الحياة، وأن ترشده إلى بعض الأحكام، وأن تأخذه معك إلى مجلس علم أو حلقة ذكر أو إلى أي شيء من الخير، فهذا من الواجب عليك، ولن يكون هذا متعارضاً مع تحصيلك العلمي أو توسعك في أي فن من الفنون. فعلى الإنسان أن لا يضيع هذه الفرصة الثمينة، وهي فرصة التجربة، فلا أراه قد ينتج فيما بعد، فإذا خرج الإنسان للمجتمع وأصبح مدرساً في مدرسة أو أصبح زميلاً في إدارة، فإنه يكون فاقد التجربة في مجال الدعوة، بخلاف ما إذا عايش التجربة في السكن مع زملائه، فإنه يستفيد ممن هو خير منه وأقدم منه، وفي نفس الوقت يفيد من دونه من الناس بعد التخرج، فهو بين حالتين: إن وجد من هو فوقه فإنه يستفيد منه ويتعلم كيفية الاستفادة، وأما إن وجد من هو دونه فإنه يفيده ويتعلم كيفية الإفادة، لكن إذا بقي منعزلاً في السكن ثم تخرج، فكيف يكون حاله بعد التخرج؟ وبعض الإخوة -مثلاً- قد يكون حفظ بعض الأدلة فقط، فإذا تخرج إلى إدارة أو مدرسة معينة، فيرى فيها شيئاً محرماً، فيقول: هذا حرام، والدليل كذا فقط، ولا يستطيع أن يفهم الطلبة كيف يستوعبون هذا الكلام، فينفرون منه مثلاً، فتكون النتيجة أنه لم يستطع أن يقوم بالدعوة، لا لقلة العلم، ولا لعدم الإخلاص، ولكن لقلة التجربة في مجال الدعوة، ولو أنه كان مع إخوانه في السكن يمارس الدعوة، فإن أخطأ فخطؤه مغفور مع إخوانه، لكان ذلك أفضل له.

التوازن في التخصصات الإسلامية

التوازن في التخصصات الإسلامية Q ذكرت يا شيخنا أن هناك شباباً يصلحون للدعوة ولا يصلحون للجهاد، وآخرون يصلحون للجهاد ولا يصلحون لطلب العلم، فكيف يمكن للإنسان أن يوازن بين تلك الأمور كلها ليكون شخصاً مسلماً متكاملاً؟ A قلنا: إن الأصل هو التكامل، وهو الذي نسعى إلى تحقيقه؛ ولكن: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق النفوس وأعطاها إمكانيات، فـ خالد بن الوليد رضي الله عنه أُعطي السيف، فهو سيف الله، فكان مجاهداً بينما أعطي معاذ رضي الله عنه العلم، وأعطي أبي بن كعب رضي الله عنه القراءة، وأعطي عمر رضي الله عنه القوة في الحق، وهكذا كل واحد من الصحابة، وهم النموذج الأسمى لنا، وكل منهم يسر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له شيئاً، وكل ميسر لما خلق له، وأعطي له ذلك حتى تتكامل هذه الجهود. ونحن نحاول أن تتكامل هذه الصفات في الإنسان، فإن لم تتكامل فيه، تكاملت في الأمة ما استطعنا، ولو أن هذه الجهود تكاملت وتعاونت، واجتمعت على الحق وعلى الكتاب والسنة والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لوجدنا أن كل طاقة تفيد، وأن كل خبرة تنفع، وأن كل اختصاص يوضع في محله، ولكن جاء التنافر، وجاء الاختلاف من أنفسنا نحن، وليس ناتجاً من جهة ما جعله الله من خصائص وما أودعه من طاقات، لا! فهذه فطرة وسنة جعلها الله تعالى كذلك، وليست هي السبب في الحقيقة، بل السبب يعود إلينا نحن في أن الإنسان يأخذ جانباً من الحق ويغفل عن الجانب الآخر، مثلهم كمثل العميان مع الفيل، وكثير من الشباب المسلم اليوم ينطبق عليهم هذا المثل. وذلك أن واحداً أمسك بأذن الفيل، فقال: هذا جلد، والثاني أمسك برجله، فقال: هذا جذع شجرة، والثالث أمسك الخرطوم، فقال: هذا أنبوبة، وكل واحد وصف الفيل بحسب ما لاحظه؛ لكن لو رأوا الفيل كله، لكان وصفهم له واضحاً. فهذا المثال الساذج يكاد ينطبق على واقع الشباب، فالذي ينشغل بالجهاد -مثلاً- ينكر على المشتغل بالعلم، والمنشغل بالعلم ينكر على المشتغل بالدعوة وهكذا، مع أن كلنا على حظ وخير، وإن اجتمعت هذه الصفات في شخص لكان خيراً عظيماً. فالصحابة رضي الله عنهم جمعت فيهم على الأقل هذه الصفات الثلاث، وهكذا كان الإمام أحمد رضي الله عنه، وكذا شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وهكذا العلماء الذي أقاموا هذا الدين وأسسوه، وهذه الخلال والصفات ليست متضادة ومتناقضة، لكننا نحن بأخطائنا في الدعوة نناقض بينها.

التوازن بين معرفة الواقع البعيد والقريب

التوازن بين معرفة الواقع البعيد والقريب Q شيخنا الفاضل! ما المقصود بمعرفة الواقع البعيد وعدم معرفة الواقع القريب، مع المثال لذلك؟ A المقصود بذلك أن الأمة الإسلامية الآن تعيش قضايا يمكن أن تسمى بالقضايا الساخنة، يعني القضايا التي تهمنا يومياً -تقريباً- نسمعها ونتابع أحداثها، كقضية الجهاد الأفغاني، قضية إخواننا المسلمين في أفغانستان، وقضية إخواننا المسلمين في ظل الحكومات الشيوعية، مثلما في أوروبا الشرقية، وقضية المجاهدين المسلمين في الفلبين، وفي إرتيريا، وفي أماكن كثيرة، فهذه قضايا مهمة. وجميل وحسن أن نفقه وأن نعي ما يخططه أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك البلاد، وأن نكون مع إخواننا بما نستطيع؛ لكن لا يحسن بنا أبداً أن ننسى ما يخططه لنا الأعداء هنا في بلدنا أو مدننا؛ بل في جامعتنا أحياناً، فإذا كانت الدعوة هنا لها أعداء، وهناك لها أعداء، فإنه يجب أن نفكر في الأمرين بتوازن. ولنضرب على ذلك مثلاً: الجزائر تعاني التغريب، وتعاني الإنكار والتمرد والجحود على أحكام الله، وتعاني معاناة شديدة من كل الاتجاهات؛ فالمسلم الجزائري الذي يشتغل ويفكر ويجعل كل همه مع المسلمين في الفلبين جزاه الله خيراً لا أحد يستطيع أن ينكر عليه ذلك؛ لكن يجب عليه ألا يغفل عن الجزائر وما يحاك وما يدبر ضدها؛ لأن الأخ الذي في الفلبين وفي أفغانستان لا نطلب منه أن يدع الجهاد هناك وينشغل بأمر الجزائر؛ بل نقول: جاهد هنا، وأيضاً ادع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن لم يكن إلا الدعاء، وأما أنت هنا فيجب عليك أن تعرف الواقع الذي تعيش فيه، ولهذا لو أننا نحدث أهل الجزائر عن المشاكل الإسلامية البعيدة، ونترك لهم واقعهم هذا القريب، لما وجدنا عندهم أي تجاوب، وأقل شيء يشعرون به أننا لا نقدم لهم شيئاً جديداً بطبيعة الحال. وأيضاً يأتي أعداء الدعوة ويقولون: هؤلاء لا يعيشون قضايا المجتمع ولا يعيشون قضايا الأمة، وهذه هي الورقة التي يلوح بها أعداء الإسلام من العلمانيين والمجرمين في كل مكان، يقولون: أنتم تنسون قضايانا وأحداثنا، وتنسون مجتمعنا، وتنسون التضخم، وتنسون التنمية، ولذلك يجب أن نقطع الطريق على هؤلاء ونوازن بين هذا الواجب في المجتمع القريب وبين ما للمجتمع البعيد والكل جسد واحد لا ريب في ذلك؛ لأن الأمة الإسلامية جسد واحد، فيبدأ الإنسان بنفسه وبمن يعول، ولا بد من هذا التوازن.

تنظيم الوقت للشباب المسلم

تنظيم الوقت للشباب المسلم Q فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إن أكثر ما نعاني منه في حياتنا: عدم القدرة على تنظيم الوقت والمحافظة عليه، فنرجو منكم توجيهنا في هذا الموضوع؟ A نعم! مشكلة الوقت هي المشكلة الحقيقية التي يعاني منها كثير من الشباب؛ لأن الواجبات تتعدد، والهموم تتوزع، والوقت محدود، ولذلك ينبغي أن نأخذ العبرة والعظة من النظر إلى أوقات العبادات مما فرض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا؛ فهذه الصلوات الخمس هي من العبادات التي تقربنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن الذكر له، ولكن مما فيها من فوائد ثانوية أنها تعرفك قيمة العمر وقيمة الوقت، يجلس الشخص فترة بعد صلاة العصر، وإذا بالمغرب يؤذن، فيصلي المغرب ثم ما هي إلا لحظات وإذا بالعشاء يؤذن وهكذا، فتحس بأن الوقت قد مضى، وأن هذا وقت له واجب محدد، وأن الوقت الآخر له واجب آخر، فلا تحيل واجب وقتٍ إلى غيره، هذا مما يستشعره المسلم، ولهذا كان المسلمون أكثر الناس محافظة على أوقاتهم. والوقت ليس فيه توقف، كما قال ابن القيم رحمه الله: عند قول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، قال رحمه الله: 'ليس في الشريعة ولا في الطبيعة توقف البتة' فليس هناك توقف، إما أن تتقدم وإما أن تتأخر، فمجرد التوقف هو تأخر، لو قلت: أنا أكتفي في هذا اليوم بما عندي من العلم، فمعنى ذلك أنك تأخرت؛ لأن الوقت يمضي، وهذه الأيام مراحل تطوي الإنسان، وما من يوم يمر إلا ويزيدك من الدنيا بُعْداً ومن الآخرة قُرْباً، وكما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -ومنها- عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن شبابه: فيمَ أبلاه؟}، وضرورة المحافظة على الوقت مهمة، ومن ذلك أن تحفظ وقتك فتشغله في الأهم عن المهم. أقول هذا، لأن الشباب -إن شاء الله- لن يشغلوا أوقاتهم في غير مهم، لكن قد يشغلونه في مهم ويتركون الأهم منه، ولهذا قال بعض السلف في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، قال: هذه فيها نصف العلم، أي: لو عرفت ما لا يعنيك وتركته فإن فيه نصف العلم والوقت، وقال بعضهم: من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد: أن يشغله بما لا يعنيه. وما لا يعنيك قد يكون لا يعنيك مطلقاً، وقد يكون لا يعنيك في هذه الساعة، وقد يكون لا يعنيك وغيره حاضر، لأن غيره أهم منه، فهو لا يعنيك الآن، فلو عرفنا ذلك لضبطنا أوقاتنا -إن شاء الله- فلهذا نبدأ بالأساسيات من العلم، ونبدأ بالضروريات من الدعوة، ثم نترك ما بعد ذلك لما يفضل.

التمسك بمنهج أهل السنة

التمسك بمنهج أهل السنة Q شيخنا الحبيب! ما هي الوسائل التي تعيننا على التمسك بمنهج أهل السنة والجماعة وذلك في الواقع الذي نعيش، بالتفصيل والتصريح؟ A مما يعيننا على ذلك -وهذا يجب أن يكون حالنا دائماً كما أشرنا- العلم بهذا المنهج، فلا يصح أن يكون الإنسان جاهلاً بمنهج أهل السنة والجماعة مهما كان محباً له حباً صادقاً خالصاً وعلى معرفة إجمالية لا يكفي ذلك، بل لا بد من المعرفة التفصيلية له، وأشرف العلوم هو ما يتعلق بمعرفة الله وتوحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبعد ذلك معرفة السنة من البدعة، ثم معرفة الحلال من الحرام، فيجب علينا أن نعرف هذه الأحكام معرفة تفصيلية بأدلتها الشرعية، ومن مصادرها الأصلية، ونحرص على أن نتلقاها من حلقات العلم، لأن اجتهاداتنا الفردية والشخصية ليست دائماً مثمرة أو ناجحة، والعلم يؤتى من أبوابه، وأبواب العلم الحقيقية هي مجالس العلماء، وإن لم يمكن مجالسة العلماء فبوسائل أخرى، والحمد لله نحن في زمن تيسرت وتوفرت فيه الوسائل. والأمر الآخر: أن نضبط دعوتنا أيضاً على منهج أهل السنة والجماعة؛ لأن منهج أهل السنة والجماعة ليس مجرد عقائد تحفظ، أو تصورات تقال، وإنما هو حقائق يعمل بها، فيجب على الإنسان أن يعرف الحق ويؤمن به ويدعو إليه، ثم يصبر على الأذى في سبيل الدعوة إليه. ونحن في هذا الزمن من أوجب ما يجب أن نعرفه في هذه المسألة: معرفة الطرف المخالف المناقض؛ لأن الحق يتضح به، وبضدها تتميز الأشياء، إذا أردت أن تعرف حقيقة منهج أهل السنة والجماعة، وأنت شاب وطالب علم وداعية فيجب أن تعلم الفرق بينه وبين الفرق الأخرى، تعرف حقيقة عقائد الرافضة وبطلانها، وعقائد أهل الكلام عامة وبطلانها، وأسسهم التي ضلوا بها؛ لتجتنبها ولتدافع عن الدين وعن منهج أهل السنة والجماعة من خلالها، ولتستطيع أن تقيم الحجة عليهم؛ فهذا عدو حاضر قائم، وهذا هو السرطان الذي يفتك بجسم الأمة الإسلامية، ويمنعها من مقاومة عدوها الخارجي، بل إن الأداة التي يستطيع العدو الخارجي أن يدخل منها إلى الأمة الإسلامية هي هذه الطوائف والفرق والنحل والضلالات والبدع. إذاً: لا بد من الإحاطة بها ومعرفتها، وهي جزء من الواقع الذي يجب أن يعرف ويطلع عليه بتوازن، مع إعطاء الفرصة للتخصص، فكل من تخصص في فن منها أو بفرقة منها، فإنه يشجع ويشكر على ذلك، حتى نستطيع -إن شاء الله- أن نكون المنهج الملائم، والموضوع طويل ولكن الإشارة تكفي.

كيفية تكوين ثقافة المسلم الإسلامية

كيفية تكوين ثقافة المسلم الإسلامية Q شيخنا الفاضل! كيف يكّون الإنسان الشباب المسلم ثقافته الإسلامية؟ هل يكتفي فقط بالمطالعة أم يكثر من الجلوس في حلقات المشايخ؟ A ليس هناك تعارض، فالإنسان يحضر حلقات العلم، لأن أساس العلم -كما قلت- هو حضور حلقات العلم والسماع إلى العلماء، ثم أيضاً يقرأ ويفيد ويطلع، ولا سيما أننا في زمن قَلَّتْ فيه حلقات العلم والله المستعان، فيجمع بين الحسنيين، ولا إشكال في ذلك، لكن يجب عليه أن يعرف من يجالس، وأيضاً يعرف ماذا يقرأ، وإذا جمع بين ذلك فأرجو أن يوفق إن شاء الله.

كيفية تعلم أسلوب الدعوة

كيفية تعلم أسلوب الدعوة Q إذا كان الشخص عنده من العلم المحصلة الطيبة، ولكن إذا قيل له: لماذا لا تدعو؟ قال ليس عندي أسلوب؛ فما السبيل إلى توجيهه؟ A هذا الشخص يجب عليه أن يتعلم الأسلوب الأمثل في الدعوة، فلن يتنزل عليه هذا من السماء، وبعض الإخوان يقول: أنا لا أستطيع أن أواجه الناس بالدعوة، فنقول له: إذا لم تستطع ذلك فعليك بطريقة أخرى كالتأليف والكتابة أو ما يكون به نفع للمسلمين، فإذا كان عندك علم، وعندك مصادر، فاكتب، وهذا عمل عظيم، فلو أن الكاتب يكتب، والخطيب يخطب، والمحدث يتحدث، والعالم يُعلِّم، ولنا كلنا هدف واحد، وهو: اتباع منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، لتكاملت الجهود. فليس من الشرط أن يخطب ويكتب، فبعض الناس يخطب، ولو قلت له: اكتب، لما قدر على ذلك، وبالعكس: بعض الناس إذا قرأت له تدهش وتسر، ولكنك لو سمعت له خطبة لما أعجبتك وهكذا، والذي ليس عنده أسلوب في معاملة الناس، يمكن أن يكون عنده الأسلوب في الكتابة، وأيضاً كلٌ منا يكمل صاحبه، فأنت أصِّل المسألة واكتبها، وأنا أبلغها بطريقتي الخاصة، إذا كنت أنا أجيد عرض الكلام، ولا أجيد أن أتعلم أو العكس، فنحن جميعاً نتكامل في دعوة واحدة.

العيش في واقع الأمة

العيش في واقع الأمة Q شيخنا الفاضل! هناك بعض الشباب الملتزم الذي يقول: إنه من ضياع الوقت ومن فضول المطالعة: قراءة أخبار ما يجري في العالم الإسلامي وغيره، وإن من فضول القراءة: قراءة الكتب التي تتحدث عن التيارات المعاصرة فما رأيكم في ذلك؟ A نحن أشرنا إلى هذا، وكررنا وقلنا: إن من الخطأ أن يعيش الإنسان بعيداً عن واقع أمته، وبعيداً عن الأفكار التي تعصف بأمته. المسألة الآن -أيها الإخوة- لم تعد مجرد أن تعرف شيئاً لكي تستطيع أن تحاربه أو لكي تتعرف على ما لا تعرف الآن، فهذا الغزو، وهذه التيارات تصب علينا صباً، وتدخل كل بيت عن طريق التلفزيون، وعن طريق الإذاعة، وعن طريق الصحف، فهي تدخل كل بيت، فليس لأحد خيار فيها: إما أن يستسلم لها أو يقاومها، ولا خيار ثالث لها أبداً، والذين يظنون بابتعادهم عنها أنهم قد تركوها وأهملوها هم في الحقيقة قد استسلموا لها وسلموا لها أنفسهم وأبناءهم وأزواجهم ومجتمعاتهم وهم لا يشعرون، فليس هناك خيار في هذا الشأن.

حكم تعلم العلوم العلمية

حكم تعلم العلوم العلمية Q شيخنا الفاضل! ما هو رأيكم في العلوم غير الشرعية: كعلم الكيمياء، وعلم الرياضيات؛ علماً بأن بعض العلماء وبعض المشائخ ينفرون من هذه العلوم؟ A العلم نوعان: كما يقسم الآن تقريباً ما يسمى في العرف الحاضر: العلوم العلمية: وتشمل الكيمياء والفيزياء وما أشبهها من العلوم. والثاني: العلوم الأدبية: وهي علم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم الإنسانية -كما تسمى- والآداب الإنسانية، والإدارة الخ. أما بالنسبة للعلوم العلمية بالمفهوم المعاصر كالفيزياء والكيمياء وما أشبهها، فهذه نقدر أن نسميها علوم التوحيد أو علوم العقيدة المساعدة، فهي ليست علوم التوحيد الأساسية، فالتوحيد الأساسي معروف، لكن هذه علوم التوحيد المساعدة، فالإنسان الذي يتعلمها ويستطيع أن يضمها إلى ما عرفه من الحق، من علم التوحيد الأساسي، يجد أنها تقوي إيمانه وتعمل على زيادته. إذا كنتُ أنا الذي ما أعرف شيئاً، إذا نظرت إلىملكوت السموات والأرض بعيني المجردة في الليل، فإنه يزداد إيماني، فكيف بالفلكي الذي ينظر بالمنظار، ويرى المجرات ويرى المسارات والمدارات والأقمار، ويرى أشياء أخرى؟! لا شك أنه سيزداد إيماناً أكثر منا. إذا كنت أرى من خصائص ما أودعه الله في هذا الوجود عجائب، أراها بعيني فأذهل لها، فلا شك أن الأخ الذي في الكيمياء أو في الأحياء يضعها تحت المجهر ويرى من العجائب بالتفصيل ما لا أرى، فإنه أكثر إيماناً مني، وهكذا كل إنسان بحسب ما يعلم، وكل إنسان مأمور أن ينظر إلى الكون، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل النظر متاحاً لكل إنسان، حتى أن العامي إذا نظر إلى الإبل استجابة لقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] بمجرد أن ينظر إليها يعجب من خلقها، وهي عجيبة بلا شك، وصاحب الأحياء وصاحب التشريع ينظر إلى تفاصيل هذا الجمل، فيجد العجب أكثر وهكذا، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من نعمته وفضله أنه أتاح للإنسان المعرفة، لكن التفصيل -لا شك- أنه أفضل من الإجمال. إذا جردت العلوم عن النظريات والتأثيرات الإلحادية فيها، فهي علوم خير وحق وهدى. والهندسة -مثلاً- أو الرياضيات أو العلوم البحتة -كما تسمى- هذه أيضاً تحتاج لها الأمة الإسلامية، وقد تكون من فروض الكفاية، ونص على ذلك العلماء منهم شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله. فهي من فروض الكفاية؛ لأنه لا يمكن أن نقيم مشاريعنا ومساكننا وحياتنا إلا على أمور هندسية ورياضية، فلا بد منها، ولا يمكن لأحد أن يشكك فيها. أما العلوم الأدبية والآداب عموماً -كما تسمى- فهي التي يجب أن تمحص فقرةً فقرةً، وكلمةً كلمةً، فمنها ما يرد جملة، ومنها ما يرد بعضه ويؤخذ بعضه، والمهم أن نأخذها من مأخذ الاستعلاء كما قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] ومعيار الحق معنا، نزن به هذه العلوم، ولا يصلح منها إلا ما يثبت صلاحيته، أما العلوم الأخرى تلك، ففي الحقيقة أنها تقبل ويرد منها ما يرى أنه ينافي الأصل.

معنى قول عمر من لم يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام

معنى قول عمر من لم يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام Q شيخنا الكريم! نرجو توضيح قول عمر رضي الله عنه: [[من لم يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام]]، وهل هذا شرط في الدعوة؟ A هذه كلمة عظيمة وحكمة جليلة، ولها دلالات كثيرة: منها: أن الإنسان الذي عرف الجاهلية ثم هداه الله بالتوحيد فضلاً من الله ونعمة، حتى تصححت عقيدته ونظراته وموازينه، فاستقام منهجه، فهو لذلك يعرفه حق المعرفة، لأنه عرف الجاهلية وعرف حقارتها، ورذالتها، وانحطاط موازينها وقيمها، وانعكاس تصوراتها فلا شك أن من عرف ذلك فإنه يعرف الإسلام أكثر، ولذلك تجدون الشاب الذي كان منحرفاً عاصياً أو كان كافراً ثم أسلم معتزاً بالإسلام وبالطاعة، ويجد من المحبة له في الغالب أكثر من ذلك الذي أخذه بالوراثة ولم يعرف قيمته؛ لأن ذاك ذاق مرارة الشرك وعرف الظلم وعرف الظلمة التي تحيط بالقلب في حال الشرك والبدعة، تجد الإنسان -أيضاً- الذي عاش في البدعة ثم عرف السنة، تجده من أشد الناس تمسكاً بالسنة، فهذا نعيم بن حماد رضي الله عنه -شيخ البخاري - كانوا يقولون له: إنك شديد على الجهمية، قال: لأني كنت منهم! كان منهم، فلما عرف الحق وعرف السنة، تمسك بالسنة أشدّ التمسك، فالإنسان بلا شك تزداد عنده قيمة الحق متى عرف الباطل، والشباب المسلم هنا إذا سمع عن أمريكا، وعن التكنولوجيا، والكمبيوتر، وغزو الفضاء، وحرب النجوم، وأشياء مذهلة، فإنه يذهل، فإذا ذهب إلى هناك، ورأى المآسي، ورأى الظلم والانحلال والفساد، فإنه يعتز بواقعنا الحاضر على مافيه من بعد عن الإسلام، ويؤمن بأن واقعنا هذا أفضل من أمريكا مليون مرة، فهذه في الحقيقة من الحكم الصادقة التي يدل عليها الواقع.

الاختلاف بين الدعاة

الاختلاف بين الدعاة Q شيخنا الفاضل! هناك بعض الدعاة يحذرون من بعضهم، لأنهم خالفوهم في شيء معين، ويقولون فيهم ما ليس فيهم، فما رأيكم في هذا؟ A هذه الأمة كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها: {فتنتها المال وعذابها الفرقة} {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بعض} [الأنعام:65] فأما الأولى والثانية فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعوذ بوجهك! أعوذ بوجهك! -وأما الثالثة فقال-: هذه أيسر -أو أهون-} فالفرقة واقعة في هذه الأمة منذ أن وضع فيها السيف، وذلك عندما قتل عثمان رضي الله عنه، وهذا من الواقع الذي لا نريده، ولا يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يريده لنا إرادة شرعية، لكنه واقع على أية حال، فإذا وضع السيف في الأمة فإنه لا يرفع إلى يوم القيامة، فما دام واقعاً ونحن لا نريده ولا نرضاه، فيكون واجبنا على نوعين: أولاً: أن نعرف -في زحمة هذا الاختلاف- الحق وأن نتبعه، فإن الحق واحد لا يتعدد، والجماعة هي الحق وإن كنت وحدك، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[فإن كان سائر الناس أو معظم الناس قد خالفوا الجماعة، فالجماعة ما وافق الحق]] هذا أمر. الأمر الآخر: أن تكون علاقتي بالآخر -المخالف- مضبوطةً بما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقد أرى مخالفاً لي وهو في الحقيقة غير مخالف، وإنما هذا من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وهناك فرق بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد. ونحن قلنا: إن اختلاف التنوع كمثل من اشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذاك اشتغل بالعلم -مثلاً-، توسع هذا في هذا، وتوسع هذا في هذا، فهذا تنوع وليس تضاد، فيجب أن نعرف أن هذا ليس خلافاً، ومن ثم فلا يترتب عليه أيُّ نوع من أنواع العداوة، فعرضه حرام علي، ولا يجوز أن أطعن فيه، وإن رأيت منه أخطاء، فهذا أصلاً يجب التناصح معه في ذلك، وهذا وارد في حق أيّ مسلم، فكيف للداعية؟! فيجب علي أن أنصح له، وأن أبين له الحق، وأن أرشده. ومن الناس من إذا عرفته وعرفت حقيقة خلافه، وجدت أنه خلاف ناشىء عن جهله ببعض الحق الذي عندي، فهذا واجب أن أبين له ما عندي من الحق، ويجب عليه أن يتسع صدره ليسمع ما عندي، ومن الناس من خلافه خلاف عناد وابتداع -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا إذا ثبت أنه يعاند عن علم ويكابر عن الحق، فننظر بحسب المصلحة، قد تكون هناك مصلحة في أن نغض الطرف عنه، وألا نكلمه أصلاً، ولا نتحدث معه بالمرة، وقد تكون المصلحة في أن أهجره، أو أزجره، أو أعاديه، بحسب الحالة، حتى من كان رافضياً، أو خارجياً، أو معتزلياً، أو مؤولاً، أومعطلاً، فحتى هؤلاء كان للسلف الصالح فقه للتعامل معهم، فليسوا على حالة واحدة، وعلى وتيرة واحدة، مع أن الأصل أن يهجروا، ويعزروا، ويؤدبوا إلى آخره، وإن ذلك يختلف بحسب الحال والظروف، وبحسب ما يحيط بالدعوة عموماً، فلا بد أن تكون الأمور منضبطة، وأنا بهذه المناسبة أقول: إن الأمة التي كتابها واحد، ورسولها واحد، وقبلتها واحدة، ومنهجها واحد، وهو منهج أهل السنة والجماعة، فكيف تختلف؟! وكيف تنشأ الاختلافات بينها؟! فيجب أن نتجرد عن الهوى، وإذا تجردنا عن الهوى، وعن حب النفس، وعن الحسد، وعن الغل الذي قد يلقيه الشيطان بين الشباب لبعضهم، فإننا سنجد أنفسنا إخوةً متحابين، كما قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا إذا نظرت إلى أخيك نظرة المحبة -مهما كان فيه من أخطاء- فإنك تتسامح معه فيها، وإذا نظرت إليه نظرة العداوة فإنك لا تقبل محاسنه، بل تصبح محاسنه مساوئ، فيجب علينا أن نصحح هذه النظرة، فالأصل هو الاجتماع لا الافتراق، والأصل هو التعاون لا التنافر والاختلاف، والأصل هو المحبة لا البغضاء. ولقد ضرب الله مثلاً عظيماً في سورة يس: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. سبحان الله! آذوه ولم يؤمنوا بما قال بعد أن كذبوا بالأنبياء قبله، ومع ذلك لما دخل الجنة، قال: ياليت قومي يعلمون، أي: لو علموا ما أنا فيه من النعيم لآمنوا مثلي، فهو يحب الخير لهم، مع أنهم مخالفون له؛ فكيف بإخوانك المسلمين؟! وأنا أقول هنا: إن المهمة تقع على عاتق المربين والموجهين للشباب، فيجب عليهم أن يوجهوا الشباب جميعاً إلى المحبة والائتلاف، وخاصة -كما ذكرت- ما يتعلق باختلاف التنوع الذي لا بد أن يقع؛ لأنه سنة هذه الحياة فيجب أن تتسع له أذهاننا وآفاقنا، وأوسع وأشمل منهج هو منهج أهل السنة والجماعة؛ لأنه هو منهج الإسلام، وهو حقيقة الإسلام الفطري الشامل الذي يتسع لكل النفوس، ولكل الإمكانيات، ولكل التطلعات، فيشبعها جميعاً بلا تنافر وبلا تناقض أو تضاد فيما بينها.

التعامل مع العصاة

التعامل مع العصاة Q شيخنا الفاضل، قابلت اليوم شاباً، يقول: إنه قد تاب، ويعاتبني بعد مقابلتي كثيراً لعدم نصحي، ومن أخباره السابقة أنه كان يرتكب الفواحش ويتعاطى المخدرات؛ فما رأيكم بمجالسة هؤلاء؟ A هذا الموقف يعطينا عبرة عن تقصيرنا في الدعوة إلى الله، فهذا اهتدى وأتى يعاتب أخاه، ويقول: أين كنت؟ وأنا قد كنت أفعل وأفعل، والآن اهتديت، والحمد لله، كثير -والله- أمثال هذا الشاب في المجتمع، وبعضهم -والله- ليس بينه وبين الخير إلا خطوة، ولا حركة ولا خير يُبذلان له، فكيف نتغافل عنهم؟! كيف ننسى هؤلاء؟! وهم أمانة في أعناقنا، صحيح أن الوقت يضيق ومجالات الدعوة واسعة، ولكن يجب أن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحسب الاستطاعة في هؤلاء، بالذات من كان له زميل في السكن أو في الدراسة، أو له جار في الحي، أو كل من كان بالإمكان أن يهدي له الحق أو الخير دون أن يكلفه ذلك شيئاً فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهذا الأخ الثبات، إنه سميع مجيب كما نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا جميعاً أن يبصرنا بالحق، وأن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا هداة مهتدين، والحمد لله رب العالمين.

المناهج

المناهج تحدث الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن عدة مواضيع بيَّن فيها حكم أعمال الباطن، والفرق بين كفر العمل وكفر الاعتقاد، والفرق بين الإسلام والإيمان، ثم انتقل إلى الحديث عن الخطة اليهودية النصرانية الهادفة إلى تغيير المناهج في أنظمتنا التعليمية بغرض حذف العلوم الإسلامية والمواد الدينية، ثم تحدث عن البيان الذي أصدره الاتحاد الإسلامي الصومالي عن خبر التدخل العسكري الأمريكي في الصومال.

أعمال القلوب

أعمال القلوب الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: Q يقول أحد الإخوة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابي الذي قتل الرجل بعد قوله الشهادة: {أشققت عن قلبه} الحديث, هل هذا إقرار بالإسلام بدليل الكلمة؟ أم أنه كان يجب على الصحابي التيقن؟ A قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أشققت عن قلبه} وأمثاله كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] يدل على وجوب التثبت أو التبين، وقد قرأ بالوجهين فتبينوا أو فتثبتوا، لأن إجراء الحكم هو على الظاهر لا على الباطن, فكون الإنسان يقتل رجلاً كما وقع في حديث أسامة , فكأنه علم أنه لم يقل الشهادة إلاّ لينجو بها وليتعوذ بها من السيف, وهذا حكم بالباطن، ولا يجوز الحكم على الباطن لأنه من علم الغيب, وفي الظاهر أن من قال الكلمة أُلزم بالشرائع الظاهرة, ونَكِلُ أمره إلى الله، وهذا في الحكم الظاهر, كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم, إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله} أي: في البواطن, فقد يقولون ذلك ويفعلونه, وهم في الباطن منافقون في الدرك الأسفل من النار, فحسابهم على الله في بواطنهم, وفي هذا حكمة عظيمة لكل من يريد إجراء الأحكام، أو يصدر أحكاماً، فلك أن تحكم على الأقوال، ولك أن تحكم على الأعمال, أما البواطن فلا يحكم عليها إلا الله الذي يطلع عليها.

الفرق بين كفر العمل وكفر الاعتقاد

الفرق بين كفر العمل وكفر الاعتقاد Q هل هناك فرق بين كفر العمل وكفر الردة؟ A ليسا متجانسين, ولا وجه لاقترانهما، لأن كفر العمل ليس بكفر ردة، وإذا كان المقصود بكفر العمل ارتكاب عمل من الأعمال التي بها يكفر صاحبها ويخرج من الملة, فهو ردة بالأعمال, فكما أن الردة تكون بالأقوال, فكذلك تكون بالأعمال, كمن يسب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أشبه ذلك. والردة بالأعمال كمن يدوس المصحف أو يهينه، أو يفعل أي عمل من الأعمال؛ كأن يسجد للأصنام ويعبدها، أو يتحاكم للطواغيت، فهذه ردة بالأعمال. فالردة تكون بالأقوال وتكون بالأعمال, إلا أننا نطلق كفر العمل في مقابل كفر الاعتقاد, فيكون المقصود الكفر الأصغر, أي: الذي لا يخرج صاحبه من الملة, ولكنه بأي حال من الأحوال هو أكبر من الكبائر الأخرى, وما سماه الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفراً -وإن لم يكن الكفر الأكبر- فهو أعظم وأشد مما لم يسمه الله تبارك وتعالى كذلك من الذنوب والمعاصي. فمثلاً: يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سباب المسلم فسوق, وقتاله كفر}، فنعلم بهذا أن قتال المسلم مع أنه لا يخرج من الملة، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] إلا أنه من حيث الجرم أكبر وأعظم من أي ذنب آخر كسرقة المسلم أو سبابه، أو غير ذلك مما لم يسمه الشارع كفراً.

معنى انتفاء الإيمان عن أصحاب الكبائر

معنى انتفاء الإيمان عن أصحاب الكبائر Q هل الزاني وشارب الخمر وما شابهما في المعصية سواء؟ وما معنى انتفاء الإيمان عنه؟ وهل المقصود به مطلق الإيمان؟ وإذا بقي مسلماً؛ فما الذي ينتفي عنه؟ A معنى النفي هنا أنه ترك الكمال الواجب من الإيمان، ولا ننفي عنه مطلق الإيمان, بمعنى أنه غير مسلم، وإنما ننفي عنه الإيمان المطلق ونقيده. أي: ننفي المطلق ونثبت المقيد, فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته, حتى نخرج عن مذهب الخوارج الذي يقول: إنه كافر, وعن مذهب الإرجاء الذي يقول: إنه كامل الإيمان, ويبقى مسلماً ما لم يستحل ذلك، فإن فعل الزنا أو الخمر أو الربا أو أية كبيرة من الكبائر مستحلاً لها, معتقداً أن هذا جائز , معرضاً عن كل ما جاء في ذلك من آيٍ أو أحاديث, فهذا يكون كافراً , وهذا يُسمَّى كفر استحلال، وهو نوع آخر من أنواع الكفر والردة.

الفرق بين الإسلام والإيمان

الفرق بين الإسلام والإيمان Q هل يمكن أن يكون في شخص إسلام ولا يكون فيه إيمان؟ إذا كان ممكناً فكيف يكون ذلك؟ A هذا ظاهر حديث سعد الذي قال فيه الإمام أحمد: 'حديث سعد أحب إليّ'؛ لأنه أوضح عندما قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو مسلماً؟) فهو يقول: {يا رسول الله! إني لأراه مؤمناً, فيقول النبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً؟}، فالفرق بينهما واضح, وقد يكون الرجل مسلماً, ولكن لا يكون مؤمناً؛ لأنه لم يأتِ بمرتبة الإيمان ولم يحققها، وهي فعل الواجبات وترك المحرمات.

خطة تغيير المناهج وفق النظام الدولي

خطة تغيير المناهج وفق النظام الدولي وهناك موضوع مؤلم جداً, كتب عنه الكاتبون في عكاظ وغيرها, وتحدث عنه بعض الإخوة، ورَدَّ بعض الإخوة على من كتبوا عن هذا الموضوع, وهو موضوع المناهج, وهو موضوع مؤلم جداً , وأوسع وأكبر مما نظن أو نتخيل, إنه موضوع توجه، وإن لم يكن كلياً -وقد يصبح كلياً- فهو بداية خطيرة لتغيير كبير في عقيدة الأمة وولائها وبرائها وانتمائها. فالمسألة ليست كما نظن أنها مجرد تعديلات خفيفة أو تخفيفات وضعت بغرض التعديل والتغيير، وإنما وضعت بغرض حذف العلوم الإسلامية والمواد الدينية بالدرجة الأولى، وبالذات على الموضوعات المتعلقة بحقيقة التوحيد في هذا العصر، في ضوء الواقع المعاصر الذي نعيشه, وبما يتعلق بالولاء والبراء لليهود والنصارى, فبعض الأحكام الفقهية المهمة في حياتنا، والتي لا بد أن يتعلمها المسلمون، ولا ينبغي أن تخفى عليهم حذفت. فالحقيقة هذا موضوع جلل يجب علينا أن نتنبه له؛ لأننا إما أن نكون مُعلمين نُعلم الخير ودعاةً إلى الله تبارك وتعالى, وإما أن نكون معلمين في المدارس، وهم -أيضاً- معلمون للخير يجب أن يتنبهوا إلى هذا وينكروا ويستنكروا ذلك. وكذلك المسئولون عن التعليم في كل مكان، وكذلك نحن آباء, وإن لم نكن آباء فهؤلاء هم من أبنائنا، ولم يتعلموا الحقائق العلمية، وإذا لم يتعلموا الولاء والبراء، وإذا مسخوا وأصبحوا لا يشعرون بأي انتماء لهذه الأمة؛ فماذا نريد منهم أن يكونوا؟! فإن ما يحدث من تغيير في المناهج مرتبط ارتباطاً واضحاً بما يُسمى: عملية السلام، والتطبيع بين المسلمين وبين اليهود والنصارى, وإن شئت تعبيراً أعم, فقل: هو يتعلق بالنظام الدولي الجديد الذي يريد أن يُفرض هيمنته على العالم, ويدعو إلى وحدة إنسانية مشتركة كما يزعمون!! يريدون عالماً يكون فيه الأوائل هم اليهود ثم النصارى , والمسلمون تحت الأقدام, هذا الجديد في النظام الدولي الجديد باختصار. ما الذي حدث في مناهج أبنائنا؟! أكثرنا لا يدري! ولم يسأل أبناءه عن مناهجهم. كتاب التوحيد للسنة الثالثة الابتدائية, نسبة الحذف فيه تصل إلى (60%)! يا أهل التوحيد في بلاد التوحيد, (60%) من مقرر التوحيد يحذف! ويبرر الحاذفون -كما ذكر في عكاظ - بأن هذا صعب! سبحان الله! نترك الرياضيات ويراد أن يقرر الإنجليزي والتربية الوطنية والموسيقى والكمبيوتر وما إلى ذلك, والصعب فقط والذي يحذف هو التوحيد, والذي لا يريدونه هو التوحيد, ولا يبقى منه إلا معانٍ عامة. حذفت منه فوائد كثيرة متنوعة دون بديل لها , وحُذِفَ منه موضوع الشرك الخفي -وهو من أنواع الشرك- مع أنه سهل مفهوم للطلاب, ويقع فيه كثير من الناس. حذفت أنواع الكفر الأكبر الخمسة. حذفت القواعد الأربع. وحذفت نواقض الإسلام العشرة كلها. فما المقصود من حذف هذه المسائل؟ المقصود هو أن يبقى الإنسان مؤمناً بالله واليوم الآخر إيماناً سطحياً, وإذا سألته قال: أنا أومن بالله واليوم الآخر، وليس لديه إلا مفاهيم عامة لدينه، أما نواقض الإسلام، وأنواع الكفر, وأنواع الشرك، فلا يدري عنها شيئاً، وربما يقع فيها ولا يشعر. إن الغلو أو ما يسمونه بالتطرف ينتشر في بعض البلدان؛ لأن العقيدة لم تدرس في المناهج, فيأتي شباب لم يدرسوا العقائد، أو درسوا في معاهد قديمة أو جامعات نحت منحىً إرجائياً، فيدرسون الإسلام من زاوية معينة , فيأتي الآخرون ويدرسون الإسلام من زاوية أخرى، فيقع هؤلاء في الغلو وهؤلاء في الغلو. لكن إذا درَّسنا أبناءنا من الابتدائي أن الكفر درجات وأنواع, فإن الشاب منهم يتخرج وقد صحت نظرته واستقامت، فلا يذهب إلى غلو هؤلاء المرجئة، ولا إلى غلو هؤلاء الخوارج. فهذا الذي حُذف من المناهج هو الذي يميز بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم، فكيف يحذف ما يتعلق بأنواع الكفر؟ كيف تحذف القواعد الأربع المهمة التي تعتبر من أهم مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهي أساس عظيم لا بد منه للعامة وللخاصة؟ ثم تحذف نواقض الإسلام العشرة حتى يرى الإنسان أنه ما زال مسلماً مهما فعل ومهما ارتكب! الفقه نسبة الحذف فيه (30%) تقريباً. أولاً: حذف باب الجنائز كله, حتى لا يدرس موضوع يُحدث الطلبة عن الموت ويذكرهم بالله، فمتى يسمع أطفالنا المساكين -الذين لا يتربون إلا على أفلام الكرتون وعلى المجلات الفاسدة، وعلى المجالس مع الأمهات والآباء التي لا خير فيها- عن الموت؟ متى يتذكرون الموت؟ متى يعرفون أحكامه؟ ثانياً: حذف اشتراط وجوب المحرم للمرأة في الحج, لأننا في عصر النظام الدولي والتقارب والخادمات، وهذا الموضوع يسبب إشكالاً عند الطالب, فهو يرى الخادمة في البيت ليس معها محرم وتحج مع أمه وأبيه, ولا يمكن أن نطرد الخادمات من البيوت، والأسهل أن تغير المناهج لذلك! ثالثاً: حُذِفت المواقيت، والأنساك الثلاثة، وصفتي الحج والعمرة, أي: حذف الحج كله؛ لأن معرفة الحج تتطلب أن توضح للطالب المواقيت، وتبين له الأنساك الثلاثة، وتبين له صفتي الحج والعمرة، أي: أننا نلغي ركن الحج مرة واحدة. والأمر هو كما ذكر الإخوة الذين يقومون بتدريس هذه المواد أن كتاب العلوم الدينية لا يعادل كتاب الرياضيات, فهو صغير بالنسبة لحجم كتاب الرياضيات، ثم يحذف منه (30%) وتقطع أوصاله, وهم يقولون: هذه علوم مهمة وعلوم العصر. الإنسان الآن يعيش في عصر الكمبيوتر, والحاسب والرياضيات وما إلى ذلك! إن الإنسان في كل العصور وفي كل الأحوال أحوج إلى أن يعرف الله، ويعرف الإيمان الصحيح، والتوحيد والشرك والعبادة الصحيحة، وأن يتفقه في الدين, فهو أحوج إليها من حاجته إلى الغذاء والماء والطعام والشراب والهواء -التي قد يعيش ببعضها- إلا الإيمان بالله تبارك وتعالى فهو بغيره حيوان، بل أضل من الأنعام, ولا قيمة له أبداً، وإن كان يشاهد البث المباشر ويأتي الكمبيوتر ويفعل كل شيء ويتحضر، كما يقولون. فمهما عمل وهو مجرد عن الإيمان بالله عز وجل فلا خير فيه ولا في أعماله في أي حال من الأحوال, بل حتى حياته لا تكون إلا نكداً وضيقاً، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]، نسأل الله العفو والعافية.

الحذف في المستوى الرابع الابتدائي

الحذف في المستوى الرابع الابتدائي حذف من التوحيد الأمثلة على أنواع العبادة كالدعاء, والذبح، والنذر, مع أنها أمثلة مهمة توضح سعة مفهوم العبادة وحقيقة العبادة, وتعين الطالب على معرفة ما يقبح فعله من العبادة لغير الله، فإذا حذفت هذه فماذا بقي؟ وقد يقال: إن هذه حذفت لأنها سوف تتكرر في سنوات قادمة, ونقول: إنها تتكرر لأننا بحاجة لتأصيل حقيقة الشرك والتوحيد والمواضيع الفقهية، فنحن بحاجة لتكرارها في كل سنة, بل في كل يوم, وهذا كتاب الله بين أيدينا, ألم يتكرر فيه الإيمان بالله واليوم الآخر, والدلائل على نبوة رسول الله، والدلائل على البعث، والدلائل على ما وقع وما حلّ على الأمم السابقة، وتكررت قصصهم وتحدث عنها مراراً كثيرة؟ وليس هذا عبثاً -تعالى الله وتقدس- وكتابه أجل من ذلك, وإنما لأنه لا بد من التكرار, لأن الناس يحتاجون إلى التذكير الدائم المستمر بهذا, ثم ليس هذا التكرار فقط في علم التوحيد، فكل العلوم فيها تكرار, فالرياضيات والكيمياء والجغرافيا كلها فيها تكرار, الكل إذاً قائم على تكرار, إما إعادة الشيء لغرض وإما تفصيل بعد إجمال, وإما شرح بعد تبسيط وهكذا. حذف أيضاً من الفقه (30%) للسنة الرابعة, والتفسير حذف أيضاً وبُتر, وتفسير سورة الفاتحة حُذف منه وصف اليهود بأن الله غضب عليهم ولعنهم, وحذف وصف النصارى بأنهم افتروا على مريم بهتاناً عظيماً, وإذا كانت هذه الأوصاف في القرآن وسهلة وقصيرة، فلماذا تحذف؟ وما الذي يضر هذا الطفل أن يدرس ألفاظاً سهلة وواضحة؟ لكن لأنها تربي الطفل على أن اليهود أعداء الله, والنصارى أعداء الله، وهم يريدون أن يكون أبناؤنا مثل الدواجن, التي تتربى في محاضن وتفرخ وتسمن، لا توالي ولا تعادي, همُّ أحدهم الطعام والشراب, ينسى الموت ويحاول لمدة طويلة أن يشتري سيارة, وبعد مدة طويلة -ربما عندما يبلغ الستين- أن يحصل على بيت, وهو طوال عمره يفكر كيف يحصل على بيت، ويقول: الليلة أشاهد التلفاز أو الفيديو عند فلان، فهذا ليس إنساناً, لأن الإنسان بعقيدته وبإيمانه, وبمقدار ولائه وبرائه وبحقيقة انتمائه لدينه, فحقيقة الإنسان هي في انتمائه. ولهذا تسأل أي إنسان تقابله عن بلده وعن دينه حتى تعرف انتماءه إن كان يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً، ولا تحكم عليه رأساً، لأن الإنسان إنما يعرف بانتمائه لا بمظهره الخارجي، فهناك أناس هم أحقر خلق الله ديناً وخلقاً ولديهم الأموال الطائلة, وهناك دول كذلك. ويوجد من أفضل خلق الله ديناً وخلقاً مثل الأنبياء صلوات الله عليهم، وهم من أفقر الناس وأزهدهم في حياتهم الدنيا, ومنهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينام على الحصير حتى أثر في جنبه الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلا تقدم تكنولوجي ولا رفاهية ولا تنمية ولا شيء من هذا , ومع ذلك كان هو سيد ولد آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ولم ينزل هذا من قدره شيئاً؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن لم يحب كما قال: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء:20]. فتقليص المناهج الدينية الشرعية بحجة أننا حريصون على التنمية وعلى التطور من أجل أن يحل محلها علوم أخرى يقتضيها التطور أمر باطل، مع أن المقصود ليس هو التطور ولا التنمية, إنما المقصود هدم عقيدة الولاء والبراء بالدرجة الأولى.

الحذف في المستوى الخامس الابتدائي

الحذف في المستوى الخامس الابتدائي التوحيد حذف منه (30%) حذفت المسائل الأربع المهمة الواردة في سورة العصر، والتي هي: العلم والإيمان والعمل والدعوة إليه والتواصي بالصبر عليه، فلماذا حذفت هذه؟ وما الذي يخسره الطالب إذا قرأها وحفظها؟ حذفت أيضاً المسائل الثلاث المهمة في التوحيد: وهي الغاية من الخلق وأن الله لم يخلقنا هملاً، ولم يخلقنا عبثاً، والنهي عن الشرك, وحذفوا وجوب المعاداة في الله والبراء من الشرك وأهله , ولم يستبدل بها أي شيء أيضاً, فلماذا تحذف الآيات والمقررات والأحاديث التي تتحدث عن الولاء والبراء، ونحن نرى المسلمين يذبحون في كل مكان؟! فتارة يقتلهم النصارى في البوسنة والهرسك , وهناك في إفريقيا أكثر من دولة يباد فيها المسلمون كما في بعض دول غرب إفريقيا , وتارة يبيدهم الهندوس إبادة كاملة كما في كشمير , وكذلك في بورما وفي غيرها, وتارة تبيدهم الشيوعية، كما في طاجكستان وفي أماكن أخرى، وأينما اتجهت تجد أتباع الديانات المحرفة يبيدون المسلمين في كل مكان, ونحن نحذف ما يتعلق بالولاء والبراء ومعاداة الشرك وأهله! الفقه حذف منه (50%)؛ فقد حُذِفَ المسح على الجورب، وهذا مهم, والناس مقبلون على الشتاء, صحيح أن بعض المناطق مثل: مكة وجدة لا يحتاجون الجوارب؛ لأنه لا يوجد برد عندهم، لكن الناس يحتاجون مثل هذه الأحكام حتى الصغار منهم, وقد حذف حتى مدة المسح وبدايتها ونهايتها, وهو حكم ليس بصعب, وحذفت آداب المشي إلى الصلاة جميعاً, وحذفت صفة الصلاة كلها, ويستصعبون على الطالب في الصف الخامس أن يقرأها كلها، ولو قرروا ذلك في الخامسة ثم أعادوه في السادسة وأول متوسطة, ولكن بتفصيل أكثر, أما أن تحذف حذفاً كلياً فلا يدرس الطالب كيفية الصلاة, فماذا يدرس إذن؟! وماذا يهمه إذن من الفقه ومن حياته؟! وقد حُذِفَ حكم صلاة الجماعة, وهو الوجوب، وبقي ما يدل أنها سنة فقط؟ وهم يريدون -حسب ظنهم- ألَّا يكون الطالب متطرفاً، لا يقول لأبيه: المؤذن يؤذن وأنت تصلي في البيت؟ فلذلك حذفوا ما يدل على أن صلاة الجماعة واجبة، بل ينقدح في ذهنه أنها سنة ومستحبة, فيكون طالباً معتدلاً، قد ربي على الاعتدال مع اليهود والنصارى ومع تاركي الصلاة, ومع المتخلفين عن الجماعة, ويكون شجاعاً على الدعاة فقط؛ لأن هؤلاء هم المتطرفون وهم الأعداء, أما بقية الناس فهم يعاملون بالحكمة والنصيحة. وبعد هذا -كما ذكر الأخ الذي كتب هذا وهو متخصص- يقول: الذي تولى الحذف والتعديل شخص واحد غير متخصص، لكنه أجاد دوره, فهو يعرف ماذا يحذف، الانتقاء واضح فليس خبطاً عشوائياً!! يقول: رغم أن العلوم الدينية الأربعة: التوحيد، والحديث، والفقه، والتجويد، مجموعة في كتاب واحد, يقل حجمه عن كتاب الرياضيات أو العلوم، إلا أن الحاذف قد أثخن فيه حذفاً وشطباً وإلغاءً, حتى أنه ألغى من كتاب سنة رابعة (30 %) من الفقه, و (75%) تقريباً من التجويد, حتى القرآن لماذا؟ لأن العصر عصر كمبيوتر, وهو عصر التغيير! وهي نفس الحجة التي قالها مشعل السديري أو غيره ممن يكتبون في عكاظ , ممن يُسر ويعلن أنها مناهج ثقيلة, وللعلم أنهم بعد تخفيض المنهج بدءوا يقولون: المنهج صغير. إذاً فهو لا يحتاج إلى كل هذه الحصص، لا بد أيضاً من تخفيض الحصص، فالغرض هو التخفيض المستمر. ومن أعجب التخفيضات أنك تجد الطالب في الفصل الدراسي كله يحفظ سورة واحدة, كالغاشية أو عبس أو الانشقاق أو غير ذلك, في فصل دراسي كامل. حتى أن بعض مدرسي التربية الإسلامية يقول: والله لا أعرف ماذا أُسَمِّعُ في الحصة؟ آية أو نصف آية؟! كيف أوزعها؟! الطلاب في هذه المرحلة يستطيعون أن يحفظوا كل شيء, لأن عقولهم مهيأة، وهم أذكياء؛ لأنهم من أبناء هذه البلاد الأصيلة التي هي معروفة بالحفظ، وهم يقولون: الحفظ يشتت الذهن, ولكنهم لا يقبلون هذا الكلام في الرياضيات ولا في الكيمياء, فترى الطالب يحفظ المعادلات التي لا يحتاج إليها في حياته أبداً, وبمجرد أن يتخرج ينساها, والكثير ممن تخصص في الرياضيات أو في غيرها ثم تخرج، فتسأله عن بعض المعادلات، فيقول لك: درسناها قبل ثلاث سنوات, ولا يتذكر منها شيئاً، كما أنه لا يستفيد منها شيئاً ولا يطبقها في حياته, ولن يستخدمها طوال عمره لا في بيته ولا مع الناس. وهناك أحكام علمية شرعية يحتاجها في عباداته لا يدري عنها شيئاً، وكتاب الله أجل من ذلك وهو أعظم لا يُحفَظُ منه في الفصل الدراسي إلا سورة واحدة! فأصبحنا ننظر إلى الدنيا على أنها هي الأساس ونعظمها، وبعضنا يقول: نحن والحمد لله مجتمع التوحيد وبلد التوحيد, حتى إذا لم ندرس الدين فليس هناك مشكلة! سبحان الله! إنها أماني، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123]. إن الإنسان الذي لا يعرف التوحيد ولا مقررات التوحيد, ثم يقول: "الحمد لله! نحن من بلاد المسلمين" هو إنسان خدعته الأماني. وإذا ألغينا مقررات الفقه بحجة أن بلادنا بلاد الإسلام، ولم نعمل بالشريعة لأننا بلاد الشريعة؟ وإذا ألغيناها وعملنا على هوانا فلن تنفعنا الشعارات، ولا يريد الله منا هذه الشعارات، كما قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] المسألة مسألة حساب بين يدي الله. وإن اليهود هم الذين قالوا: "نحن شعب الله المختار, كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ما قالوا هذا, وفي جيل الصحابة في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يقل الناس: نحن أصحاب الإسلام وأهل الدين وأهل التوحيد, فكل عمل نرتكبه فلا حرج. والآن إذا قلت لأحدهم: اتق الله! لِمَ تفعل هذا؟! أو قلت: هذه المصائب زادت عندنا، قال: نحن أحسن من غيرنا! لا تنظروا إلا إلى هذا الجانب, ذهبت أمور كثيرة وضاعت أصول عظيمة, والكذب والتحريف وصل إلى مقررات التوحيد في مناهجنا, وما زلنا نقول: أهل التوحيد , بلاد التوحيد, عقيدة التوحيد إلى آخر هذه الشعارات التي لا تنفع إلا بالعلم والعمل والدعوة والصبر على العداء في سبيل هذه الدعوة. أما ما يقال من أن هدف التعديل هو التيسير على الطلاب -وهذا ما يُذكر في الصحف- فهذا كلام غير صحيح، فإن التيسير لا يكون بحذف الموضوع بأكمله، وإلا فلماذا لا يستخدمون هذه الطريقة في الجبر والكيمياء؟ بل إنهم في هذه المواد يريدون أن يضيفوا بعض الإضافات.

ما حذف من النصوص والمطالعة

ما حذف من النصوص والمطالعة أقرأ عليكم الموضوعات التي حذفت من اللغة العربية, والنصوص, والمطالعة: أولاً: موضوع حديث الجهاد. ثانياً: فلسطين. ثالثاً: أول شهيدة في الإسلام. رابعاًً: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خامساً: الهجرة. سادساً: أبو عبيدة رضي الله عنه أمين هذه الأمة، لأنه ذهب مع وفد نجران بعد أن قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هذا أمين هذه الأمة} وذلك أن وفد نجران طلبوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً أميناً، والذي يقرأ القصة يتعجب من حذفها. سابعاً: "كيف ضاعت الأندلس؟ " أُلغي هذا الموضوع، لأنهم يريدون القضاء على الأمة كلها, ولا يتفق هذا مع تذكير الناس بضياع الأندلس , وهم يريدون إلغاء قضية البوسنة وكشمير والفلبين وإرتيريا , والصومال إلخ، يريدون إلغاء هذه القضايا من أذهان الناس. ثامناً: معركة القادسية: هذه المعركة ألغيت، لأننا نريد تحسين العلاقة مع الروافض. تاسعاً: {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13]، التي هي صور من غزوة بدر: حذفت لأن لها علاقة بالجهاد والشرك والمشركين. عاشراً: معركة اليرموك: حذفت أيضاً، لكيلا يغضب الروم والنظام الدولي الجديد، وهم أحبابنا وأسيادنا، فلا داعي لذكر اليرموك، رحمهم الله ورحم الله من قادها! الحادي عشر: أحمد بن حنبل: حذفت سيرته لما فيها من ذكر السنة والبدعة وخلق القرآن، ومقاومة الظلم، والصبر على أذى السلاطين, ولا داعي له , فيحذف حتى لا يفسد عقول الشباب. الثاني عشر: إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب حذفت سيرته إرضاءً لمن يقول: إن الوهابية يكفرون المسلمين، وإرضاءً للشيعة والصوفية وكثير من الطوائف التي لا يعجبها ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب. كما أن الروافض قبحهم الله يقولون: إن أولادنا لا يستطيعون دراسة مقرر الثانوية لوجود الصحابة, فحتى لا يتخلف أبناؤهم عن المدارس، أُلغي ذكر الصحابة وعلماء أهل السنة. الثالث عشر: الكتاب الذي كتبه الشيخ صالح الفوزان , أُلغي كاملاً لأن الرافضة لا يريدون ذلك, والصوفية تريد الموالد وما يتعلق بها, وهكذا نقطع ديننا, حتى تبقى مقررات المواد الدينية مجرد توجيهات وآداب عامة, ليرضى بها الدرزي والنصيري والرافضي والصوفي والبدعي, ولو أن أهل السنة تخلف أبناؤهم لقالوا: هذا إضراب، وطبق عليهم خمسة عشر سنة سجن، فالكيل بمكيالين ليس فقط عند النظام الدولي الجديد, وإنما أيضاً في التعامل مع أهل السنة , وأهل البدع, والخارجين عن عقيدة أهل السنة والجماعة. الرابع عشر: حطين: أيضاً حذفت, فلا داعي لـ صلاح الدين ولا لـ حطين , ولا لتذكير الناس بأن فلسطين أرض إسلامية, وأنا ضحيّنا مراراً من أجلها. الخامس عشر: موضوع القدس عاصمة فلسطين: حذف أيضاً لأنها يمكن أن تصير عاصمة لإسرائيل, والسفارة الأمريكية تنتقل إليها, لا حرج في أن تبقى القدس عاصمة لإسرائيل. في كتاب النصوص, أيضاً أربعة نصوص عن فلسطين , هي (من -أمين- لاجئ)، و (صرخة في أرض المسجد الأقصى) , و (الشهيد) , وهكذا نرى أنه حتى الأشعار التي تتعلق بالمسجد الأقصى, وبـ القدس وصلتها هذه الأيادي, ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مقرر التوحيد للسنة الثالثة المتوسط

مقرر التوحيد للسنة الثالثة المتوسط حذف من المنهج من (95 - 110) وحذف "موقف العقيدة الإسلامية من التيارات والمذاهب الفكرية الحديثة" لأن هذا الكلام يغضب البعثيين والقوميين والاشتراكيين والعلمانيين والحداثيين, فهم لا يريدون هذا الكلام, أيكون الأب حداثياً، وولده يدرس موقف العقيدة الإسلامية من التيارات الفكرية الحديثة؟! فحتى يوفقوا بين ما يهوونه وما يدرسونه قاموا بإلغائها. كما ألغي موضوع "نظرة الإسلام إلى الوجود" و"ثروة الشريعة الإسلامية" و"ضرورة تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع شئون الحياة". فكأنهم يقولون: يكفي بعض الجوانب, أما كلها فهذا تطرف. وحذفت "أساليب الدعوة الحديثة" وموضوع "إعداد الطالب روحياً وفكرياً واجتماعياً ليكون قدوة حسنة". وحذف موضوع "سماحة الإسلام" ويُسر تعاليمه وأسئلة على الموضوعات, "ونبذة عن العقيدة الإسلامية" كل هذه الموضوعات حذفت, في مقرر التوحيد للسنة الثالثة المتوسط, ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأنا -أيها الإخوة- لم أذكر إلا جزءاً، ولذلك فإن علينا مسئولية كبيرة لا نعفى عنها, لا في الدنيا, ولا بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, بل ربما يحاسبنا عليها أبناؤنا أنفسهم في هذه الدنيا، ويسألوننا: لماذا لم ننكر هذا؟ فعلى كل واحد منا أن يكتب ويقدم، وتصوروا لو أن كل أب غيور, سأل أبناءه وتأكد ولاحظ ما قلته، وقارن بين منهج هذه السنة ومنهج السنة الماضي وكتب , فلا شك أن يتغير المنهج ويعود إلى الأصل الصحيح, بل يزاد فيه, فإذا كان الروافض طالبوا واستجيب لهم بالباطل, فيجب أن تطالبوا أنتم ويستجاب لكم بالحق, فهذه أمانة عظيمة أنا ألقيها في أعناقكم, وأنتم آباء وأنتم مدرسون، وأن كل واحد منا يتنبه لأبنائه, وهذه أمانة عظيمة, وليس هذا المنكر مثل أي منكر أو مثل أية حادثة عابرة، ليس كحفلة فيها اختلاط, ولا كصورة عليها صليب, بل إنها أكبر من ذلك بكثير. إنها أجيال كاملة تتربى على غير وضوح في العقيدة, وعلى غير فهم للتوحيد, وعلى غير معرفة لأحكام دينها الأساسية. إن ذلك تقليص لدينها وإضافة لمواد أخرى لا تنفعها جيل بأكمله, قد ينصر فيما بعد, قد يُرفَّض قد يصوّف! وهذه قضية خطيرة, أخطر من أية قضية أخرى قد تتصورونها, لعلاقتها الأساسية والمباشرة بتوحيد الله وهو أساس كل شيء، وبالعقيدة وبالأحكام الأساسية في حياة الإنسان المسلم. فلا بد من الإنكار من الجميع كلُّ بحسبه, وبالأسلوب الذي يستطيع, وليكن الإنكار في الصحف, وأنا أشكر الإخوة الذين كتبوا وأعطوني صوراً من مقالات ذكرت في الصحف سواءً نشرتها الصحف أم لم تنشرها, لكن اكتبوا وأكثروا على الصحف, وسوف ترون أثر ذلك -إن شاء الله- بل إن بعضها قد نشر. وحتى لو قالوا: نحذف بعض المنهج فلماذا الحذف؟ ولماذا يعاد كل سنة طبعات جديدة بملايين الريالات؟ لماذا يريدون هذا التخفيف على الطلاب؟ حتى يتفرغوا لمتابعة الكرة والبث المباشر واللهو! أو أننا نريد أمة عالمة بدينها, غير جاهلة ولا مجهلة. ولم نستوعب كل التعديلات. فهذا أحد المعلمين يقول: إن هناك حذفاً في التاريخ، وهذا يدل على أن الإخوة المعلمين لديهم شعور بأن هذا الموضوع في غاية الحساسية والخطورة والأهمية, ويقول: لا يكفيني مجرد كلام عابر، بل لا بد من رصد لهذه الحركات, ووضع البرامج اللازمة لمقاومة ذلك. والمعلم يستطيع أن يُدرك أكثر من غيره الفروق بين المنهج القديم الذي لم يُلغَ والذي ألغي, ويستطيع أن يبرئ ذمته بأن يعطي كل طالب من طلابه بياناً بذلك، ويوضح لهم حتى يستنكر آباؤهم, ولا يكن همَّ المعلمين أن يأخذ الراتب، فلن تنفعنا هذه الرواتب وهذه المناصب وهذه الدنيا إن كنا نضحي بديننا. يا أخي! أخبر كل طالب بأن عليه أن يحدث أباه أن المناهج قد حذفت وقد غيرت, لعل أباه يتصرف. يجب علينا جميعاًَ أن نتعاون في هذا وأن نطالب، والحمد لله أن الموضوع سبق فيه مطالبة, ونحن إن طالبنا نحركها, وتقدم بعض الغيورين إلى سماحة الشيخ عبد العزيز وإلى هيئة كبار العلماء, وطالبوا بأن تبقى المناهج، بل أن تزاد وتقوى من الناحية الإسلامية, فمطالبتنا تزيد الموضوع قوة وتحريكاً , أي: أن الموضوع من قبل قد طولب به, ومن المنطقة الغربية لا أظن أن أحداً سبق أن تحرك وتكلم, فلذلك نستعرض لكم هذا لنقوم بواجبنا أسوة بإخواننا في المناطق الأخرى, جزاهم الله خيراًَ.

بيان الاتحاد الإسلامي الصومالي

بيان الاتحاد الإسلامي الصومالي هذا بيان إخوانكم في الاتحاد الإسلامي الصومالي، مكتب العلاقات الخارجية والإعلام أرسلوه إلى بعض الصحف، وأكثرها لم يستجب لهم, وكذلك بعض الإذاعات العالمية المشبوهة, مثل: لندن، ومونتكارلو، وأشباهها, لم تستجب لهم ومن واجبنا جميعاً أن نبلغه للأمة يقول الإخوة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وبعد البيان رقم (13) بتاريخ: 7/ 6/ 1413 هـ , 1/ 12/ 1992م وبعد: فقد تناقلت وكالات الأنباء خبر التدخل العسكري الأمريكي في الصومال بقوات قوامها (30. 000) جندي تحت غطاء هش باسم الأمم المتحدة بحجة حماية الإمدادات الإغاثية وترحيل أطراف صومالية, بهذا التدخل العسكري الأمريكي الواضح, بالرغم من أننا نتألم من معاناة شعبنا وبلدنا من جراء هذه الحرب المفروضة عليه من قبل أولئك الذين فقدوا كل إحساس بالمسئولية, والذين أوصلوا الشعب إلى هذه الدرجة من الإحباط واليأس, إلا أننا نرى أن هذا التدخل العسكري الأجنبي لا يحمل أي حل لمشكلة الصومال وإنما سيسبب لنا ضرراً دينياً جسيماً للأجيال الحاضرة والقادمة, تهون دونه الأنفس والأموال، والفتنة أشد من القتل, ونود أن نشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتحفظ باستمرار منذ بداية الأزمة من تدخل الأمم المتحدة في القضية, كلنا كنا نسمع هذا، فقد كانت أمريكا لا تريد أن تتدخل الأمم المتحدة في قضية الصومال , عندما كان الشعب الصومالي يتعرض للإبادة والتشريد, وكانت الأوضاع أسوأ مما هي عليه الآن, ولم تتحرك إنسانية الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت, لذلك فإن التغير الأمريكي المفاجئ، وبهذا الحجم الكبير من القوة العسكرية يثير الشكوك, لا سيما أنه جاء بعد حملة إعلامية مضخمة في الإعلام الغربي حول ما سموه الأصولية المتنامية في الصومال كما في الواشنطن بوست، والهردزسرديون، والجارديان , وبعض وكالات التلفزة إلخ. كذلك فإن المعلومات التي ذكرتها الأمم المتحدة ما بين (70 - 80%) من إمدادات الإغاثة تتعرض للنهب, هي معلومات مضللة, حسب تعبير منظمات إغاثية دولية -في الجارديان - وإنما جاءت هذه المعلومات المضللة وغيرها من الممهدات الإعلامية, من أجل تبرير الغزو الأمريكي المشبوه, لذلك يعلن الاتحاد الإسلامي الصومالي , رفضه القاطع لهذا التدخل الأمريكي الصارخ, ويعتبره غزواً لدولة مستقلة وانتهاكاً صريحاً لسيادة أمة, ويُحذر الإدارة الأمريكية من عواقب هذا الغزو. وإنا ندعو الشعب الصومالي المسلم إلى اليقظة والانتباه للأضرار الدينية والاجتماعية الجسيمة التي تترتب على الاحتلال الأمريكي, وندعوه أن يفوت الفرصة على عدوه، ويدرك أن الحل الصحيح يكمن في الأخذ بأيدي السفهاء وحل مشاكلهم, وفقاً لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]. ونناشد إخواننا المسلمين في كل مكان, أن يقفوا مع الشعب الصومالي المسلم في محنته هذه؛ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]. الاتحاد الإسلامي الصومالي. مكتب العلاقات الخارجية والإعلام.

التعليق على تقرير الاتحاد الإسلامي الصومالي

التعليق على تقرير الاتحاد الإسلامي الصومالي قضية الصومال ليست خافية عليكم, ونحتاج أن نتحدث بإيجاز عن جذورها وعن أهدافها. أولاً: الله تبارك وتعالى له سنن: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَن} [آل عمران:137]، أي: سنن ربانية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] وما ينزل بـ الصومال , وبغيرها من البلدان لا بد أن وراءه أسباباً وفقاً للسنن الربانية, فهذا المجرم الطاغية زياد بري ومن معه عاثوا في الأرض الفساد, قتَّلوا العلماء وشردوهم, كمموا أفواه الدعاة, أغلقوا المساجد, منعوا المناهج الإسلامية, والأشرطة الإسلامية, وعملوا كل جهد للقضاء على الدعوة, وكانت استخباراتهم ورجال أمنهم همّها الأكبر القضاء على الدعوة الإسلامية, وكان الشعب -إلا القليل- في غفلة عن هذا كله, ولا يبالي، ولا يهمه، ولم يثأر لدعوته، ولعقيدته ولعلمائه. لم يناصح الظالمين المجرمين، زياد بري ومن معه، ولم يأخذوا على أيديهم، بل سكتوا, وانشغلوا باللهث وراء الطعام والشراب, حتى جاءت هذه الكارثة عقوبة للجميع, عوقبت الحكومة الكافرة التي لم تحكم بما أنزل الله, وعوقب شيوخها وعلماؤها، ومنهم وزير الأوقاف وغيره, الذين كانوا لا يصرحون إلا ضد الشباب المسلم، ولا يتكلمون عن غيرهم, ذهبوا مع تلك الدولة الظالمة, وعوقب الدعاة لأنهم لم يقوموا بالواجب الشرعي من بيان الحق والدعوة إليه, وإنما قام به بعض قليل منهم، لم يكن يكفي على مستوى الأمة, وعوقب الشعب الذي سكت, حين رأى الدعوة انتهت، ورأى العقيدة تضمحل وتدمر, وآثر الدنيا على الآخرة, عوقب بهذا التشريد وهذا الجوع. لا يعني هذا أننا نتشفى، معاذ الله! ولكنها سنة الله لتتذكر بها الأمم جميعاً, وأن ما حل بهم يمكن أن يحل بغيرهم, فالسنة جارية على الجميع, فلما فعلوا ذلك نالهم ما نالوا من هذا العذاب, نالهم الكيد الذي لم يحل بينه وبينهم التقوى والصبر، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فالكيد الصليبي تآمر عليهم, الحبشة من جهة, والصليبيون من كينيا وغيرها من جهة أخرى.

أهداف أمريكا من هذا الغزو

أهداف أمريكا من هذا الغزو أمريكا تقول: إننا ما جئنا غازين, إنما جئنا من أجل عمل إنساني, ومن أجل إمدادات الأغذية, والسؤال الواضح الذي قاله جميع الصحفيين في الشرق والغرب وكل المراقبين والمحللين، أين أنتم من إمدادات سراييفو؟ وهي عاصمة أوروبية في قلب القارة المتحضرة, التي علمت الناس -كما تزعمون- الإنسانية؟! عاصمة دولة أنتم اعترفتم بها في مجلس الأمن الأمريكي، ومع ذلك لا يصلها الطعام, وهؤلاء الوحوش يبقرون بطون الأمهات, ويشوهون الأولاد، وينتهكون الأعراض, ويقتلون الشيخ الطاعن في السن بالفأس, وبالخناجر وبأنواع الأذى, ترون هذا ولم ترسلوا جندياً واحداً, ولم توصلوا أية إمدادات إلى سراييفو , أما الصومال فليست القضية قضية إمدادات, ولا قضية حرب خارجية أو اعتداء خارجي, بل هي فتنة داخلية, والأصل في الفتن الداخلية ألِّا يقع تدخل مع أحد من الأطراف, وما دامت منظمات الإغاثة تقول: نحن نقوم بأعمالنا فمن الطبيعي في الفتنة أن يتعرضوا لشيء من الأذى, لكن أن تترك عدواً معتدياً غازياً وحشياً بمثل وحشية الصرب يعبث ويفعل ما يشاء، وتذهب إلى دولة أخرى وتنزل هذا العدد الكبير, فهذا الغطاء الإنساني كذب وافتراء, ولا ينطلي إلا على أسذج خلق الله. أما في الحقيقة فلها عدة أهداف, هدفها الأول: تحقيق استراتيجيات وضعت من قبل للتحكم والسيطرة على منابع الثروة من النفط والغاز الطبيعي وغيره, فالعالم كله يحتاج هذه المنطقة, وأهم منطقة في العالم من ناحية الثروة بعد الخليج , هي منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بـ المحيط الهندي , لأن خطوط الملاحة العالمية المهمة والثروات جميعاً تمر بها، فهي منطقة مهمة جداً. والثاني: وهو جزء من الأول أو تابع له: إثبات الوجود الأمريكي في ظل غياب القوة السوفييتية، فمنذُ مدة وأمريكا تتطلع إلى قاعدة لها في الصومال , وكان الروس هم الذين يمنعونها، وقد سبقوها إلى ذلك، وعندما كانت عدن موالية للشيوعيين في أيام الاتحاد السوفيتي في وقته, وكذلك الصومال، وكان هذا أحرج وضع مر بـ أمريكا من ناحية السيطرة على هذه المناطق, ثم بعد ذلك استمالوا الصومال وبقيت عدن مع الروس, وخف الأمر عليهم، ولكنهم الآن يبنون ما يشاءون ويسيطرون كما يشاءون بلا حسيب ولا رقيب؛ لأن القوة المنافسة غير موجودة, أما دول العالم الإسلامي فإنها لن تفعل شيئاً غير الاجتماعات الطويلة، والنداءات المتكررة وبعد الموت، وبعد المذابح يجتمعون، ويصدرون توصية أو قرار مطالبة للأمم المتحدة, فلا يحسب حساب لهذه القوة أصلاً. وأما جامعة الدول العربية -والصومال عضو فيها- فلا أحد يحسب حسابها، لم تحل مشاكل العرب حتى تحل مشاكل الصومال , ولا يمكن أن ترسل جيشاً، ولا يمكن أن تتدخل. فهي إذاً فرصة لهيمنة أمريكا وإثبات أنها شرطي العالم الذي يؤدب من يشاء كما يشاء، ويدع من يشاء يقتل كما يشاء, لأنه شرطي مجرم في نفس الوقت, وليس شرطياً عادياً, فهو يتحكم بإجرامه في هذا الكون ليفرض سيطرته كما يشاء. الثالث: المحافظة على أمن إسرائيل من جميع النواحي, فإسرائيل مثل ما قال أحمد شوقي قال: إن للظالم بطناً يشتكي من غير علة الظالم دائماً بطنه يوجعه, مع أنه لا علة به؛ لأنه يريد أن يأكل أموال الناس, فإسرائيل تقول: باب المندب خطير, كيف لو أغلقوه؟ من أين أحصل على إمدادات من بعض الأشياء؟ والقناة مهمة لا بد أن نفتحها, وجبل طارق مهم بالنسبة لإسرائيل لا بد يكون فيه كذا, وألمانيا النازية لا بد أن نتحارب فيها, ومقابر اليهود في باريس لا أحد يتعرض لها, واليهودي الفلاني في نيويورك لا أحد يتكلم عليه، العالم كله يشتكي بطنه من مشاكل اليهود في جميع أنحاء العالم, لأنها تريد أن تلتهم المنطقة كلها كما تشاء، وأن يكون لها فيها قواعد، وتريد باسم علم الجيش أمريكي أو الأمم المتحدة الأمريكية أو الأمم المتحدة اليهودية سموها كما شئتم فلا فرق حقيقة أن تسيطر على المنطقة بأكملها, وتصبح السيدة الأولى فيها، وتتحكم في ثرواتها وفي مستقبل أجيالها كما تشاء. الرابع: ظهرت حركات جهادية؛ ففي إرتيريا حركة جهادية, وفي أوجادين حركة جهادية, في الصومال حركة سلفية دعوية, وهي حركة سلفية إسلامية نقية أصيلة وتنتمي إليها كل القبائل, وليست حزبية طائفية, والنصارى في الحبشة محصورون, فهم أقلية في الحبشة وفي السودان , وهذا خطر كبير بالنسبة للغرب, يكاد النصارى يخرجون نهائياً من جنوب السودان , والسودان فيه نظام أصولي, كما يعبرون بالمصطلح الغربي، فهم يريدون أن يرغموا هذه القوى الجهادية وهذا النظام الأصولي, ويضربوها بجيش أمريكي مباشر, بحيث لا يستطيع أحد أن يرفع رأسه داخل الصومال. ومع وجود السلاح في أيدي المجاهدين فيمكن أن تتحول إلى أفغانستان ثانية، خاصة أوجادين , ولو اتحد المجاهدون في الصومال وفي إرتيريا , لتقوّضت النصرانية بشرق إفريقيا بأكمله, وهذا لا يريده الغرب أبداً أن تصبح من الصومال إلى الحبشة إلى السودان إلى تشاد إلى مالي إلى المحيط الأطلسي منطقة إسلامية, لا يمكن أن يقرّ الصليبيون العالميون هذا أبداً. فهم يخافون من هذا الخطر, ولذلك هم يريدون أن يوجدوا قوة مباشرة ترغم السودان للخضوع لهم, وتقوّي بشكل مباشر أو غير مباشر النصارى في جنوب السودان وفي كينيا، وتجهض أي محاولة جهادية إسلامية في هذه الدول, هذه كلها مصالح تريد أمريكا تحقيقها. ولا يعني ذلك أن أمريكا تريد أن تحتل الصومال إلى الأبد, فهذا خطأ دائماً نقع فيه. يظن الناس أن الاحتلال معناه وجود قوة مباشرة ودائمة، وهذا غير صحيح، فالقوة إذا حققت أهدافها يبقى منها ما يكفي لتحقيق باقي الهدف، وينسحب الباقي. أي: إذا انتهت المهمة تقول أمريكا: الآن الإمدادات أصبحت تصل، والقضية الإنسانية انحلت، فنرجع أبناءنا، وانتهى الموضوع, وهو لم ينته. هل تصدقون أن أمريكا تريق قطرة دم جندي أمريكي واحد من أجل غرض إنساني فقط, ليس لها فيه أية مصلحة؟! هذا مستحيل, المائتين وأربعين أو مائتين وخمسين في بيروت المارينز الذين قتلوا أحدثوا ضجة هائلة في أمريكا كلها, فكيف لو حدث هذا للأربعين ألف أو أكثر؟ فهم لا يعملون هذا إلا على استراتيجية بعيدة. والغرض منه بالنسبة لنا من الناحية الإسلامية ومن الناحية العقدية، هو تقوية شوكة الصليبية في قلب العالم الإسلامي, فـ الصومال كل سكانها مسلمون، فعندما تنزل هذه الجيوش بنصرانيتها، وقد كانوا يشتكون من هيئات الإغاثة الصليبية, فكيف ستتحول إذا كان جيشاً صليبياً؟ كم سيرحل من أناس؟ وكم سَيُنصّر من أناس؟ إلى أي مدى ستتغير التركيبة الاجتماعية بالفساد والمخدرات والدعارة التي يحملها الجيش الأمريكي معه أينما نزل وحيثما ما حلّ؟ لا بد أن اختلالاً كبيراً يقع -على الأقل في أذهان الناس- وهذه منطقة مهمة جداً يمكن أن تكون رديفاً وسنداً لهذه الجزيرة - جزيرة العرب - التي هي جزيرة الإسلام. ولا ننسى أن هذه بادرة قد يتبعها بوادر أخرى, فلو أن اليمن -وهي أقرب مثال- ساءت الأحوال فيها, والأحزاب متناحرة مثل: الصومال، وهم قبائل مثل الصومال , فما الذي سوف يحدث؟ ما دامت أمريكا ضبطت الصومال -والله يجزي المحسنين خيراً- وأحسنت إليهم واستقرت الأوضاع, ووصلت الإمدادات, فيمكن أن يتحججوا بأن اليمن فيها فتنة، فأفضل شيء أن ينتقلوا من الصومال إلى اليمن , فهي قريبة, والمبدأ قد أقر وهكذا, وهذا يمكن أن يقع، ونقول كلاماً للمسلمين عامة وفي أي مكان: الخلاف شر، والفرقة والفتنة شر, يتسبب عنه مثل هذا التدخل، والحل هو بالالتفاف حول علماء الأمة، فإنه لا يجمع الأمة إلا علماؤها. أما إذا تحولت إلى فصائل قبلية فلن تجتمع أبداً, فها هو زياد بري يحارب عيديد، وعيديد يحارب فلاناً، وفلان يحارب فلاناً, لكن إذا التفت الأمة حول العلماء فإنهم سوف يجمعون الأمة، ولذلك قلت: إن علماء الصومال للأسف تخلوا عن دورهم وعن واجبهم, فبعضهم خرج من البلاد, وبعضهم سار في ركب السلطة, والذي على الحق وقال كلمة الحق أودع السجن, أو منعت كتبه وأشرطته من الانتشار, وسكت الناس, فكانت هذه العقوبة. فالذي يجمع الأمة هم العلماء, ولهذا يجب أن يكون للعلماء مواقف خالصة مخلصة متجردة ناصحة, يقولون كلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم, ويقفون موقفاً قوياً وسداً منيعاً في وجه دعاة الفرقة والضلالة والبدعة والشرك والانحلال, وكل نوع مما حرم الله تبارك وتعالى مما يمكن أن يؤدي إلى تدمير الأمة وإلى تفكيكها. فإذا لم يقم العلماء بهذا الواجب, فتوقع للأمة أن تنهار، ويمكن أن تقسم وأن تجزأ، فلن تجمعها أية رابطة إذا لم يجتمع علماؤها, هذه قاعدة, طبقوها وجربوها في أية دولة أو في أي مكان.

أعياد الميلاد

أعياد الميلاد أما ما يتعلق بعيد الميلاد، فإن الإخوة يشيرون إلى ضرورة التنبه إلى نشر الفتاوى والأشرطة بخصوص ذلك ومحاربته، فهو قريب, وأنبه إلى شيء مهم, وهو أن بعض الشركات تقيم احتفالات وهمية، وجوائز للمتفوقين في الوظيفة, وتخفيضات عامة, ومباريات ومسابقات، ويكون تاريخها مطابقاً لتاريخ احتفالات النصارى, فتوقد الأنوار ويحضر الحفل والكيك والأكل والمشروبات والرقص, ويقولون هذا بمناسبة كذا , وليس لغرض عيد الميلاد. ولعلنا -إن شاء الله- نحرر كتاباً بهذا الشأن. ومن ذلك هذه الشركة (برنتان العمودي) فإنها أقامت احتفالات لقسم العطورات وقسم الملابس وقسم الأدوات, بالبطاقات، وتاريخها مطابق لتاريخ احتفالات النصرانية. ومن الغريب أن تجد فوق ظرف الدعوة، إما صورة بيت عربي أو صورة سوق مثل سوق جدة القديم أو صورة عرب راكبين بعيراً قبل الحضارة الأمريكية, ثم تفتح وتقرأ، وإذا فيه "أطيب التهاني وكل عام وأنتم بخير"، وهذه حيلة منهم، وبعد أن تشتري يقول لك: هذا تراث وطني, وهذه ذكريات شعبية, وهذا في الحقيقة كما يقال: في الظاهر مسجد وفي الداخل بيوت غريبة! فهم يحتالون علينا، وهذه كلها مما يجب أن تحارب. ومن الاحتيال ما يفعله صاحب شركة (أرامكو) فهم في ينبع عملوا حيلة أن الأرامكيين كما سموهم هم فقط الذين يأتون الحفل، ولا يعلنون الموضوع ولا يدعون أحداً غيرهم, وهذا نوع من أنواع الحيلة حتى لا يعلم رجال الحسبة -المطاوعة كما يسمونهم- فيقيمون هذا الحفل على الخط السريع, وقد تحدثنا عنه، ولما ذهب بعض أهل الخير لينكروا هذا المنكر، وإذا بهم يقولون: عندنا تصريح سنستمر في الحفل، وإذا تكلمتم فسوف نستدعي رجال الأمن, فعادوا مكسورين، فهم يخافون من هذا, نسأل الله العافية. لكن لابد أن نبرئ الذمة, وليس شرطاً أن ينتهي المنكر إذا برأنا الذمة وحاولنا، فالإثم على من أقر هذا, وأعطى التصريح به.

نموذج من التعصب الصليبي

نموذج من التعصب الصليبي يذكر أحد الإخوة أن في فرنسا ستة من كتب الشيخ ديدات -حفظه الله- منعت من دخول فرنسا رسمياً, وبقرار من وزارة الداخلية, وهذا نموذج للتعصب الصليبي الحاقد من بلاد الحرية والانفتاح والديمقراطية. ويقول: لكن الله دائماً لهم بالمرصاد, فقد تسلمت بالأمس كتاباً وضعته باحثة فرنسية اسمها آني غرين , عن الشيخ واسمه " أحمد ديدات رجل ورسالة " وقد حررته المرأة بصفتها مسيحية نصرانية كاثوليكية، وفيه تدعو النصارى جميعاً إلى أن الله واحد لا شريك له، وأن المسيح نبي وليس إله. سبحان الله! كلما منعوا هذا الدين فتح الله عز وجل له وسائل جديدة, فمن فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يصدر هذا الكتاب من فرنسا , ولكن هذا ليس بعجيب إذا علمنا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تكفَّل بإظهار دينه ولو كره المشركون. ومن فضل الله تبارك وتعالى أن عدداً كبيراً من السوبر ماركات -كما تسمى- ومنها سلة العائلة في حي الجمران جوار مركز الجمجوم, قد امتنع عن السجائر والتدخين والحمد لله، وكذلك مركز الخضر وغيرها. ونرجو من الإخوة تشجيع هؤلاء وحثهم على الخطوة التالية, وهي خطوة ترك بيع المجلات.

الجرائد النصرانية

الجرائد النصرانية جريدة الحياة مع أنها الآن أصبحت محسوبة على أنها جريدة سعودية- تنشر تعازي النصارى ولا غرابة، فقد نشرتها جريدة الشرق الأوسط لكن يوجد كلمة من الإنجيل: 'من آمن به وإن مات فسيحيا' ثم يذكرون فقيدهم الغالي, أي: فلان وفلان وفلان، ينعون فقيدهم الغالي المرحوم! يطلقون عليه أنه مرحوم مع أنه من أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وإن لم تكن جريدة سعودية بالكامل فإن أكبر سوق لها هو هذه البلاد, فلو كُتِبَ لها وأُنذِرَتْ وحُذِّرَتْ وقيل لها: ما دمت تنشرين مثل هذه, فلن يشتريك مسلم، فعندها لن يحدث مثل هذا, تتحدانا في ديننا ونحن أحياء ونشتريها وتدخل كل بقالة, ومكتبة, وكل بيت تقريباً.

التحذير من أعمال التنصير

التحذير من أعمال التنصير ويذكر أحد الإخوة قصة عجيبة، وهي أن رجلاً ينتمي -مع الأسف- إلى البلاد التي بارك الله فيها للعالمين, إلى فلسطين , وهو في حي (الثغر)، ويقوم بأعمال الدعوة إلى التنصير, ولا أطيل في ذكر الموضوع، إنما أنبه الإخوة إلى أن هذه الجهود تتخذ أشكالاً غريبة، حتى إن الرجل يسكن في غرفة قديمة، ولكن مع ذلك يتدخل في قضايا في السفارة الأمريكية, وكما ذكر الأخ -ويحلف أنه متأكد من هذا- وهذا يدل أن للتنصير علاقات خفية ومريبة وإنه يثبت جذوره في هذه البلاد.

الاعتراض على سنة النبي صلى الله عليه وسلم

الاعتراض على سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتراض على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينشر صيدلي في إحدى الصحف في عكاظ , ويقول: "الحبة السوداء لا تصلح علاجاً إلا للسعال"! وربما يأتي طبيب آخر ويقول: الحبة السوداء لا تصلح علاجاً حتى للسعال, ولا تصلح لأي شيء؟ فهم يكذِّبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال: {الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت} ثم يقول: لا تصلح إلا للسعال, والثاني يقول: لا تصلح حتى للسعال, والله تعالى يكذبهم حتى من أقوالهم، وإنما أهلك الأمة نصف فقيه ونصف طبيب, أما المتعقلون فإنهم لا يقولون هذا الكلام, لكن هؤلاء نصف طبيب تخصص في جانب معين. وصاحب السعلة هذا قال: السعلة ليست شيئاً واحداً! والسعلة هي عبارة عن السل وكذا وكذا, وذكر أدواء كثيرة, فتقول له: ما دامت السعلة ناشئةً عن أدواء كثيرة, والأطباء يقولون: إنها علاج للسعلة, فهي إذن علاج لجميع الأدواء التي تنشئ وتسبب السعلة, وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , هذا الذي نقول، ولو كان عاقلاً لجمع هذا ولاستنتج أنها -فعلاً- كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفاء من كل داء. والقضية ليست قضية الحبة السوداء, فلسنا ندافع عن الحبة السوداء، نحن ندافع عن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعترض عليها المعترض, وأن يقدم بين يدي الله ورسوله، وأن يتجرأ عليها، كما تجرأت أيضاً جريدة الشرق الأوسط , عندما كتبت هذا الموضوع: "حلاقة الذقن سلوك حضاري لا يتطلب خبرة سابقة"! فهذا اعتراض على من؟! أين الغيرة على السنة؟! أين الذي يغارون على سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لماذا لا نتكاتف -جميعاً- في أن تحظر هذه الجريدة من جميع البقالات ومن جميع البيوت حتى تتأدب وتلتزم بمنهج الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

إنفاق الأموال في الرياضة

إنفاق الأموال في الرياضة من المؤلمات عنوان كبير في مجلة الرياضة تقول: كيف تشتري الأندية السعوديين اللاعبين الكفرة بمبالغ خيالية. الأهلي اشترى لاعباً بخمسة وسبعين ألف دولار. الاتحاد اشترى لاعباً بمائة وأربعين ألف دولار مقدم عقد، وراتب شهري وقدره (9000) تسعة آلاف دولار, أكثر من خمسمائة ألف ريال مقدم عقد, والراتب الشهري أكثر من (34000) وهكذا, أندية كثيرة موجودة لا داعي لذكرها فقط هذه نماذج. الأمة تحتاج للريال, إخواننا المسلمون في الصومال وفي كشمير وفي البوسنة وفي كل مكان يحتاجون للريال الواحد! أتدرون أن راتب الإنسان في هذه الدول يقدر بعشرة ماركات أو خمسة ماركات؟! والمارك يعادل ريالين أو نحو هذا؛ فهذا المبلغ الذي يُعطى للكرة أو لأي أمر تافه يمكن لو أعطي لجمعية خيرية أن يطعم المئات من الجوعى, والأرامل, واليتامى والمشردين, الذين يريدون أن يعيشوا وأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن يعبدوا الله، فلا يجدون ذلك، والأموال تبذر على اللهو واللعب, وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تنبيهات

تنبيهات

التنبيه الأول

التنبيه الأول بهذه المناسبة أقول: يوجد لدى الهيئات الإسلامية في الصومال مشروع كفالة يتيم في الصومال، ولأن البطاقات لا تكفي فنرجو من كل أخٍ منا أن يهيئ نفسه ومن يستطيع من أسرته بأن يكفلوا ولو يتيماً هناك تحت إشراف هيئات إسلامية معروفة موثوقة, منها ما هو تابع للاتحاد الإسلامي ومنها ما هو تابع لهيئات إسلامية معروفة، فكل واحد منكم يهيئ نفسه أن يكفل ولو يتيماً واحداً علماً بأن كفالة الطفل شهرياً ما يعادل مائة وعشرين ريال, أي ما يعادل ألف وأربعمائة وأربعين ريال سنوياً للطفل الواحد, وهذا أقل ما ينبغي، أن نفعله.

التنبيه الثاني

التنبيه الثاني أرجو أن يكون للأخوات الإسهام الأكبر فيه والواجب هو على الجميع وهو: الأخوات المسلمات في شرق إفريقيا , وفي غيرها من المناطق, يحتجن إلى مكائن خياطة, فمكائن الخياطة اليدوية تفيد عدة فوائد أولاً: أن تبعث من هنا مكينة خياطة، ومعها القماش، وهن يفصلن حجاباً ويفصلن ملابس, وتعمل -الأخت- فتجد ما يقيمها وما يكفيها من قوتها وقوت أبنائها, وبدلاً من أن تعطيهم مائة ريال أو مائة وخمسين ريالاً, تعطيهم إياها على شكل آلة، ويستمر المبلغ في العطاء والإنتاج بدلاً من أن يستهلك ويذهب, وهذا المشروع مطروح لدينا؛ ونرجو من كل أخت خاصة، ومن الإخوة جميعاً أن يتبرّع كل واحد منهم بآلتين أو ثلاث أو أربع من آلات الخياطة اليدوية التي لا يتجاوز سعرها مائة وخمسين ريال, بإمكانك أن تتبرع بمكينة ولو مستخدمة أو التبرع بثمنها، وهو في حدود مائة وخمسين ريال كما قدرت, وقد ثبتت فائدتها كما ذكرت لكم في عدة مناطق للأخوات المسلمات الأرامل، أو اللاتي أزواجهن في الجهاد، أو في الدعوة بعيدون عن الوطن والله المستعان.

اقتراحات

اقتراحات نتعرض لبعض الاقتراحات المفيدة التي تأتينا سواء ما يتعلق بترجمة الكتاب أو بأي عمل دعوي, كما اقترح الأخ الكريم أن يوضع دروس لتعليم الخطابة للأئمة, ودروس لأصول الفقه. ا- موضوع ترك الصلاة، ظاهرة تفشت، من الذين ينتظرون خروج الطالبات من المدارس وفي السوق الجنوبي وسوق الحلقة, وسوق الخضار في الشمال, وقد جاءتني عدة كتابات عن ترك الصلاة, وأنه يؤذن المؤذن وتقام الصلاة وكثير منهم لا يصلون نسأل الله يهدينا وإياهم وأن نقوم بواجبنا في ذلك. ب- والاقتراحات أيضاً استغلال أغلفة الأشرطة وما يبقى منها في نشر وطباعة الدعوة لنشر كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح , ونشكر الإخوة على هذه الاقتراحات النافعة. ج- أيضاً الأخ الذي قد كان جمع مالاً من الحرام, وما يزال متبقياً لديه يريد أن يتخلص منه، ويمكن أن تعطيه لنا ونرسله للمجاهدين أو اليتامى هنالك, فتتخلص منه من جهة, وهم في أشد الحاجة إليه من جهة أخرى. د- الغرفة التجارية قامت مشكورة بإرسال تعميم للفنادق والصالات والمطاعم بعدم وضع إشارة تدل على عيد الميلاد, من الظل أو الشجرة أو غير ذلك. وكما ذكر الأخ وهو مشكور, كما نشكر الغرفة التجارية، يجب أن نستغل مثل هذه التعميمات، وأن نرى أثرها، وأن نذكر أصحاب هذه الأماكن بها, وهذا واجب علينا جميعاً, ولا نعذر في ذلك والإبلاغ عن المخالفات التي قد تقع من هذا. هـ- نشكر جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وخاصة الشيخ فراج العقلا مدير عام الهيئات الغربية, على اهتمامهم بإزالة الحجر الذي في مكة الذي يسمونه (المغضوبة أو المسخوطة) إلى آخره, وهو حجر أصم نحتته الرياح بقدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فاعتقد عامة الناس أنه لامرأة ممسوخة, كما أنه نشروا الخبر أنهم سوف يزيلونه، وقد أزالوه, نسأل الله أن يجزيهم خيراً على ذلك, فإنه بمثل هذه الأمور التي يُظَنُ أنها بسيطة تنتشر الوثنية، وأنا أشكر الإخوة الذين يبذلون جهدهم في إنكار هذه المنكرات وفي بيانها, وجزاهم الله خيراً. ويقول الأخ: سبق أن تعرضت في درس سابق لموضوع إلغاء الأذان والإقامة في مطارات المملكة , وكان لهذا الموضوع موقعه من الاهتمام عند المسئولين برئاسة الطيران المدني, بعد التحقق والنظر في فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله, والاستماع إلى الشريط تم التعميم على جميع مطارات المملكة برفع الأذان والإقامة, في جميع أوقات الصلاة. هذه فائدة الإنكار وجزاكم الله خيراً, وإنكار المنكر لو لم يكن إلا لبراءة الذمة لكفى ذلك, ونشكر الإخوة في رئاسة الطيران المدني عموماً، فقد أبلغوني بواسطة أحد الإخوة, أنهم جدد وأنه ما كان عندهم علم بهذا القرار, وظنا فيهم وهو كذلك -إن شاء الله- وأن كل مسلم غيور على دينه وعلى شعائر دينه وعلى حرماته يجب عليه هذا. فلهذا نقول: أنكروا المنكر, ونقول: يا من تتصدون لمن ينكر المنكر، وتقولون: إن هذا إثارة، وإن هذا ضد البلد، اتقوا الله, هؤلاء الناس يقولون: ما علمنا، ويقولون: جزاكم الله خيراً على أنكم ذكّرتمونا, فلماذا تحرمون أنفسكم من هذا الأجر والفضل؛ وتتركون المنكرات تستشري، وتقولون: لا ينبغي ذلك ولا يذكر ذلك, وليس هذا هو المنكر الوحيد الذي غُير, بل والأصل أننا نغيّر المنكر ولكن التذكير واجب من الجميع. ز- الأخ يقول: إن هناك مسجداً لا يُصَلَّى فيه, كما ذكر الإخوة, وهذا لا يجوز، وإذا كان المسجد معطلاً, فماذا نريد ذنباً أكثر من ذلك؟! قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] , فهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال إلا إذا كان هناك عذر معين أو خللٌ فيصَلَّى جماعة في مكان آخر، ويوقف المصنع أثناء الصلاة، ويتم إصلاح المسجد, أما إذا كان غير ذلك فلا يجوز، بل يجب أن ننكره. الأخ ذكر أيضاً بأنه في المسجد وجد أحد المصاحف التي طبعها المجمع خطأً في ترتيب السور, وكان على الأخ إرفاق هذا المصحف نفسه وينبه إلى ما فيه, وإن شاء الله تكون نسخة واحدة, فالغالب أن ذلك لا يكون في جميع النسخ أو في كثير منها, قد يكون في نفس الدفعة أو في رصّة يمكن أن تكون ألفاً أو ألفين أو عشرة آلاف, فلتتدارك بناءً على معرفة النسخة الموجودة إن شاء الله. ي- هنا بطاقات تخفيض للزيوت وللمستشفيات ولغيرها, هذه كلها داخلة في القمار, وقد وزعت الفتوى هنا لسماحة الشيخ عبد العزيز , ومن يريد الاستيضاح يمكن أن يطلب الفتوى مرة أخرى, ونرجو الإخوة الذين عندهم الفتوى أن يعلقوها في المساجد, وأن تقام الحجة على هؤلاء. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدين اتباع وليس ابتداعا

الدين اتباع وليس ابتداعاً في هذه المادة افتتح الشيخ الدرس ببيان أهمية اللقاءات الأخوية، ثم تكلم عن مسألة الاتباع، مبيناً وجوب الاتباع وترك الابتداع، وشرح خلال ذلك سورة الفاتحة مبيناً اشتمالها على أنواع التوحيد، ثم تكلم أول شرك وقعت فيه البشرية، وبيّن أن اختلال أحد شرطي العمل الصالح يؤدي إلى عدم قبول هذا العمل، ثم ذكر صوراً لضلال اليهود والنصارى، وبعض الفرق الإسلامية التي شابهتها.

أهمية حلقات الذكر

أهمية حلقات الذكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،، فإن خير الكلام كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل قلوبنا خاشعةً بما نسمع من آياته، وجوارحنا وأعمالنا تابعةً لما بلغنا عن هدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تنبع أهمية حلقات الذكر من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بها، وكان يبايع عليها أصحابه الكرام، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة} هذه الكلمة العظيمة الجامعة، ولذلك لا بد من التناصح، ولا بد من إعلاء ذكر الله تبارك وتعالى، ولا بد من إغاظة أهل البدع والفجور، بأن يجتمع المؤمنون في بيوت الله تبارك وتعالى كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:26 - 27]. والإخوة الذين تجمعهم رابطة شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بالله تبارك وتعالى، وتوحيده، واتباع سنة نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه المجالس وحلقات الذكر هي رياضهم، وهي روحهم وريحانهم في هذه الحياة الدنيا، وهي خير البقاع التي يسعى إليها كل مؤمن، ويهفو إليها كل قلب.

الدين اتباع وليس ابتداعا

الدين اتباع وليس ابتداعاً دين الله الذي أمرنا باتباعه هو دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دين الإسلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى ليمحو به من الأرض كل بدعةٍ ورجسٍ أحدثه المبتدعون، من الشرك والضلالات إلى أقل معصية عُصي الله تبارك وتعالى بها، فهو اتباع وليس ابتداعاً، فما معنى هذا؟ إن الله تبارك وتعالى أنزل في كتابه الكريم آياتٍ في آخر سورة الأنعام، هذه الآيات هي الوصايا العشر، التي قال عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنهما: [[من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عليها خاتمه -أي التي كأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتبها وختمها، وبعث بها إلى كل واحد منا كأنها رسالة خاصة مختومة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فليقرأ هذه الآيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]]].

الأمر بالاتباع وعدم الابتداع في الوصية الخاتمة

الأمر بالاتباع وعدم الابتداع في الوصية الخاتمة هذه الوصايا العشر بدأها الله تبارك وتعالى بالوصية الأولى، وهي الوصية العظمى، وهي توحيد الله وعدم الشرك به سبحانه وتعالى، فهذه أول ما يجب علينا أن نعلمه من ديننا، وأول ما يجب أن نتمسك به، وأول ما يجب أن ندعوا إليه، كما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً إلى اليمن فقال له: {إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} وفي رواية: {إلى توحيد الله} وفي رواية {إلى عبادة الله} ولا تنافٍ بينها، وكلها روايات صحيحة، فعبادة الله هي توحيده، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فهذا أول ما يجب. ثم بعد ذلك آخر الوصية التي كأنها وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عليها خاتمه، وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] أي: التمسك بهذا الهدي، والسير عليه، وعدم الالتفات يميناً أو يساراً، فهذه الوصية الخاتمة الأخيرة من الوصايا العشر، وهي التي تضبط كل الوصايا، فكل عملٍ لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا بد أن يكون وفق ما شرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أي مردود على صاحبه، ليس عليه أمرنا بمعنى: أن كل الأعمال تحت هذا الأمر، هي خاضعةٌ لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي تحته، وهذا الأمر عليها وفوقها، حاكماً ومهيمناً، فإذا لم يكن أي عملٍ من الأعمال -ابتداءً من التوحيد وانتهاءً بأمور المعاملات وفروع الشريعة- وفق ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو مردود على صاحبه.

سورة الفاتحة وما تضمنته من بيان حقيقة الاتباع

سورة الفاتحة وما تضمنته من بيان حقيقة الاتباع ولكون هذا الدين اتباعاً وليس ابتداعاً ولا يخضع للهوى -لأهميته ولعظم شأنه- جعله الله تبارك وتعالى في كل ركعةٍ من ركعات الصلاة، فكل مسلم يقرأ في كل ركعة من صلاته سورة الفاتحة، التي هي أم القرآن، والتي هي أفضل سورة في كتاب الله تعالى، نقرؤها في كل ركعة من الركعات وجوباً، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من صلى صلاةٍ لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج} فهذه فاتحة الكتاب تضمنت هذا المعنى وهو أن الدين اتباع وليس ابتداعاً. وقد تضمنت سورة الفاتحة أمور التوحيد وأمور الدين، ولو أخذنا بالقسمة التي يقسمها بعض العلماء، وهي أن التوحيد أربعة أقسام: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الطاعة والاتباع؛ فإنها متضمنة في سورة الفاتحة. والقسمة هذه قسمة اصطلاحية، ولا مانع أن تكون أربعة أو أن ترد إلى نوعين، فيقال: إن التوحيد على نوعين: توحيد علمي اعتقادي، وهو يشمل توحيد الأسماء والصفات، وتوحيدٌ عمليٌ طلبي، وهو توحيد العبادة، أو ما يسمى بتوحيد الألوهية، ويدخل توحيد الربوبية في ضمن توحيد الأسماء والصفات , وقد تدخل بعض جوانبه في توحيد الألوهية. والمراد أن التوحيد الذي هو أعظم واجب، والذي هو حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العبيد قد تضمنته سورة الفاتحة بأنواعه وبأقسامه، سواءً جعلنا توحيد الطاعة والاتباع قسماً مستقلاً، أو قلنا إن توحيد الطاعة والاتباع هو قسمٌ من توحيد العبادة أو من توحيد الألوهية، فالنتيجة واحدة. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في سورة الفاتحة توحيد الربوبية في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فهذه الآية تضمنت توحيد الربوبية، ثم قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وهذا توحيد الأسماء والصفات {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وهذه تضمنت -بالإضافة إلى أنها من الأسماء والصفات- تضمنت التذكير بأعظم يوم، وبركن عظيم من أركان الإيمان وهو يوم القيامة ويوم الجزاء، الذي فيه تُنصب الموازين وفيه تقبل الأعمال أو ترد، وفيه يكون الناس فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير. ثم قال بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهذا هو توحيد العبادة وتوحيد الألوهية، وهو إفراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعبادة، ولذلك قدم الضمير {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وذلك لحصر العبودية والاستعانة به سبحانه، وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك:29] فهذا هو مضمون ذلك، فعبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي الغاية التي نسعى من أجلها، وهدفنا وغايتنا هي رضا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ورؤية وجه الله الكريم في الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهلها- فهذه هي غاية كل مؤمن يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" نعبدك وحدك يا رب، نريد وجهك، ونريد أن تجعلنا من أهل الجنة، وأن تمتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، والنظر إلى وجهه الكريم هو الغاية التي شمر لها الصالحون والسابقون. ثم قوله تعالى: "وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" فالوسيلة والمعين في هذا الطريق لتحقيق هذه الغاية؛ لا يمكن أن تكون إلا منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالأمر كله منه وإليه جل شأنه، وليس لنا حول ولا طول في هذا الأمر. وقد قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين} فلننظر ما بين النصف الثاني في سؤال العبد عندما يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] يجب علينا أن نتدبر كتاب الله، وأن نعي كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإننا لم نؤمر ولم يفرض علينا أن نردد هذه السورة العظيمة في كل ركعة إلا لحكمة عظمى، وكل كلام الله فيه الحكمة، وفيه العبرة والعظة، فما ظنك بأفضل سورة وهي تردد في كل ركعة من فريضة أو نافلة؟! {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فهذا هو طلبنا الذي نطلبه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم، فما هو الصراط المستقيم؟ الصراط المستقيم هو مضمون قولنا إن الدين اتباع، فالصراط المستقيم هو الإسلام، وهو هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو طاعة الله تبارك وتعالى دون أن يحيد الإنسان عنها لا ذات اليمين ولا ذات الشمال، حتى قال من قال من السلف: إن الصراط المستقيم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؛ أي الطريق الذي كان عليه أبو بكر وعمر، والسلف الصالح، فإذا قلنا القرآن، أو الإسلام، أو الدين، أو السنة، أو الخلفاء الراشدين، كل ذلك يدخل في أنه هو الصراط المستقيم الذي ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا إليه. ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثَّل هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] مثلها عملياً مثل وسائل الإيضاح التي تعرض على الطلبة في المدارس لتتضح لهم بعض المعالم الجغرافية أو الرياضية، خط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطاً مستقيماً، وخط خطوطاً ذات اليمين وذات الشمال، وقال: هذا هو الصراط، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فهذا الصراط هو الإسلام وهو السنة، وهذه الخطوط: هي الأهواء والبدع والضلالات التي كثرت، والتي تكثر في كل زمان ومكان تصديقاً لما قاله الرسول: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: يا رسول الله من هي؟ قال: الجماعة} وفي رواية قال: {ما أنا عليه اليوم وأصحابي} وهذه السبل التي على جنبات الصراط هي هذه الفرق والأهواء، وهي الضلالات التي ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبنا إياها، وندعوه أن يثبتنا على الصراط المستقيم، وهو اتباع دين محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته.

الابتداع هو أصل ضلال البشرية

الابتداع هو أصل ضلال البشرية والانحراف عن الصراط واتباع الأهواء والبدع قديم، وهذه الآية نفسها تشير إلى ذلك، فهي تشير إلى أمتين انحرفتا عن الطريق وهما اللتان آتاهما الله الكتاب من قبلنا: اليهود والنصارى. بل لو رجعنا إلى أبعد من ذلك؛ لوجدنا أن أصل ضلال البشرية جميعاً وانحرافها من التوحيد إلى الشرك كان بسبب الابتداع وعدم الاتباع. ما وقع الشرك في ذرية آدم إلا بسبب البدع والابتداع واتباع الهوى وتزيين الشيطان، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق أبانا الأول آدم نبياً مفطوراً على التوحيد، وفطر جميع ذريته على التوحيد، أي جعل التوحيد فطرةً في قلب كل إنسان، فجعله يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده الرب المعبود الذي يطلع على كل شيء، والذي يجب أن يتوجه إليه الإنسان بكل نوع من أنواع العبادة، ولهذا كان كل مولود من آحاد الجنس البشري يولد على الفطرة، ثم بعد ذلك: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} أي أن المجتمع والبيئة والتربية تصرفه عن ذلك. وهذا تصديق لما قاله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] هؤلاء ذرية آدم الذين مسح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ظهر آدم فكان منه فرقتان سود وبيض وقال تعالى: {هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي} وحينئذٍ أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منهم الميثاق، ويذكر بهذا الميثاق من نسيه يوم القيامة، فيقول: قد أخذت عليك الميثاق وأنت في صلب أبيك ألا تشرك بي شيئاً.

أول ضلال وشرك وقعت فيه البشرية

أول ضلال وشرك وقعت فيه البشرية لقد بقيت ذرية آدم على التوحيد كما قال حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- عشرة قرون. وكان في القرن العاشر رجالٌ صالحون عبَّاد، مشهورون بالعبادة، والتقوى، وبالورع، والخشوع، أحبهم الناس وعظموهم وقدَّروهم لعبادتهم ولخشوعهم، واعتقدوا فيهم الخير والولاية والصلاح؛ لما كانوا يرون فيهم من علامات الخير والتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد ذكرهم الله في كتابه وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، هؤلاء كانوا رجالاً صالحين وعبَّاداً مجتهدين، كانوا قبل قوم نوح في الجيل الأخير الذي انقطع منه التوحيد، ثم وقع الشرك فيمن بعده. ماذا فعل أتباع هؤلاء القوم لما ماتوا؟ قالوا: إنَّا كنَّا -القول بالمعنى- نتذكر عبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بوجود هؤلاء الناس، يذكروننا بالله، ويأمروننا بالمعروف، وينهوننا عن المنكر، فكل ما يقرب إلى الله عز وجل يذكروننا به ونراه متمثلاً فيهم، والآن ماتوا؛ فكيف نتذكر عبادتهم، ونجتهد مثل اجتهادهم ونكون مثلهم في الطاعة؟ جاءهم الشيطان وقال لهم: ما دام هؤلاء قد ماتوا فلو صورتموهم، فتذكرتم عبادة الله تعالى عندما ترون هذه الصور -فكأن الصورة هي تعبير عن الحقيقة المفقودة ومثال لها- إذا رأيتم الصورة كأنكم ترون هذا العبد الصالح: وداً، أو سواعاً، أو يغوث، أو يعوق، أو نسراً، فتعبدون الله وتجتهدون في طاعة الله، مثلما كنتم تجتهدون وتذكرون الله عز وجل إذا رأيتم هؤلاء الأشخاص وهم أحياء -كما كنتم من قبل- ففعلوا ذلك، فصوروهم. فهل أذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فعلوا ذلك، ثم جاء الجيل الثاني، ثم الجيل الثالث، وكان الجيل الأول يرونهم فيتذكرونهم، فيعبدون الله عز وجل، لكن بعد ذهاب الجيل الأول ماذا جرى؟ نسخ العلم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه أي أن العلم يضمحل ويقل مع مرور الزمن، جيلاً بعد جيل حتى يأتي الله تعالى بدعوةٍ جديدة، أو بنبي جديد، وهذا قبل بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يبعث في كل فترة رسولاً، وفي هذه الأمة يهيئ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها. فجاء الشيطان إلى الأجيال الأخيرة، وقال لها: إن من كانوا قبلكم كانوا يعبدون هذه الأصنام وهذه الصور، فصاروا يعبدونها ويدعونها من دون الله عز وجل ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، ويقولون: نحن أناس ضعفاء، مساكين، وفينا ذنوب، وفينا أخطاء، كيف نتوجه إلى الله؟ كيف نتقرب إلى الله؟ هذا لا يمكن. وهكذا الشيطان سول لهم وأملى لهم أن: نعبد الله عن طريق هؤلاء الصالحين، فنجعلهم واسطة ووسيلة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقربونا إلى الله، فهم شفعاء يشفعون لنا عند الله فعبدوا هذه الصور بهذه الشبهات الشيطانية الكاذبة، عبدوا الصور وعبدوا الأوثان من دون الله، ونُسي توحيد الله، وبعث الله تعالى فيهم نوحاً عليه السلام، وأخذ يدعوهم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ألف سنة إلا خمسين عاماً، سبحان الله! كانت الأجيال البشرية طويلة العمر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقام الحجة عليهم بهذه الأعمار، وبهذه الدهور الطويلة، ومع ذلك ما آمن له إلا قليل، كما ذكر الله تبارك وتعالى، وكان ذلك أول شرك وقع في بني آدم، وبذلك كان نوح عليه السلام أول رسول أرسله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى الناس ليردهم من الشرك إلى التوحيد.

النية الصالحة وحدها لا تكفي في صلاح العمل

النية الصالحة وحدها لا تكفي في صلاح العمل الذين صوروا هذه الصور -صور الرجال الصالحين- هل كانت نيتهم الشر؟ هل كانوا يريدون أن يعملوا هذه الأعمال لتدخلهم النار؟ هل عملوها ونصبوها وعظموها ليبتعدوا عن الله، ولينالهم غضب الله عز وجل؟ هذا شيء لم يريدوه مطلقاً كما هو ظاهر في القصة السابقة، ولذلك لا حجة لأي مبتدع، ولا صاحب هوى، أن يقول: ما قصدنا إلا الخير، ونيتنا طيبة، وهدفنا سليم، هذا صحيح، ونحن لا نتكلم عن نياتكم، فيمكن أن تكون نياتكم طيبة، فإن هدف قوم نوح ونيتهم وغرضهم كان سليماً وما كانوا يريدون لأنفسهم أن يكونوا من أصحاب الجحيم، ولا كانوا يقولون: نريد أن نبتدع في الدين؟ بل كان الغرض سليماً، لكن هذا الغرض لمّا كان من عند أنفسهم، ولما كان ابتداعاً لم يتبعوا فيه شرعاً ولا وحياً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينفع ذلك الغرض. ولهذا لما ننتقل إلى الأمتين -اللتين نستعين الله عز وجل في كل ركعة وفي كل صلاة على ألا يجعلنا كحالهما، وأن يثبنا على الصراط المستقيم، ويجنبنا طريقهما - نجد هذا أيضاً موجوداً بالذات في أمة الضلال: اليهود المغضوب عليهم، خصت الأمة اليهودية بالغضب، كما خصت الأمة النصرانية بالضلال، وكلاهما مشرك، وحكى الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] كلاهما مشرك بالله عز وجل، وكلاهما كافر ومتوعد بالنار، كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل، وكما نص عليه نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يبلغ أحداً من هاتين الأمتين دين محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا يؤمن به؛ إلا كان من أهل النار. ثم لننظر إلى حال هاتين الأمتين، فبعد سورة الفاتحة تقرءون سورة البقرة في كتاب الله، وهذا الكتاب العظيم يشمل كل الكتب السابقة، ومصدقاً لها، ومهيمناً عليها، وكل خبر جاء في الكتب السابقة، فإن القرآن قد شملها وزاد عليها، والقرآن كله شملته بالجملة سورة الفاتحة، فإذا قرأنا سورة الفاتحة فقد قرأنا مجمل ما في القرآن.

أصل الضلال هم اليهود والنصارى

أصل الضلال هم اليهود والنصارى عندما نقرأ سورة البقرة، فإننا نقرأ تفصيل ما قرأنا في سورة الفاتحة، فماذا نجد في سورة البقرة؟ كم فيها من الحديث عن بني إسرائيل! أخبار كثيرة عن بني إسرائيل بنوعيهم: اليهود والنصارى، وإن كان الحديث عن اليهود أكثر، وهنا سؤال هام وهو: لماذا خصت الأمة اليهودية بالغضب؟ ولماذا وكيف عاندوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟.

صور من ضلال اليهود

صور من ضلال اليهود عندما نقرأ قصة اليهود تقشعر منها قلوب المؤمنين، فنجد أن الله -تبارك وتعالى- ينجيهم من فرعون وملئه وقومه، ويهيئ لهم طريقاً في البحر يبساً، بعد أن أدركهم العدو، وقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] وينجيهم الله تبارك وتعالى ويخرجون إلى البر، ويغرق عدوهم ويهلكه، ماذا قالوا بعد ذلك؟ هل شكروا الله؟ هل استقاموا على دين الله؟ هل اتبعوا رسول الله موسى عليه السلام؟ لا، وجدوا أناساً يعبدون الأصنام، أولئك في مصر يعبدون فرعون، ووجدوا هؤلاء يعبدون أصناماً، فحكى الله عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} [الأعراف:138]. سبحان الله العظيم! أين نعمة الله؟! وأين توحيده؟! وشكره؟! طلبوا إلهاً كما أن لأولئك آلهة. ثم يذهب موسى عليه السلام ليتلقى التوراة، ويتلقى الألواح من الله عز وجل، ويغيب عنهم أربعين ليلة، ويأتي وإذا بـ السامري الضال قد ابتدع لهم بدعة، وصرفهم من التوحيد إلى الشرك، هذا السامري قبض قبضةً من أثر الرسول، أي: أخذ قبضة من أثر الرسول، وصنع العجل الذهبي، وقال: هذا إلهكم وإله موسى، وصدقه أكثرهم وآمنوا به وعبدوا العجل، وما يزالون إلى اليوم؛ فرقة من اليهود تسمى - السامرة أو السامريون، سبحان الله العظيم يعبدون العجل! وحدثت لهم الأحداث بعد ذلك؛ فقالوا: أرنا الله جهرة، ثم أعطاهم المن والسلوى، فقالوا: لا نريد المن والسلوى، نريد البقل والقثاء والفول والعدس، وعندما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] أي: خذوا بقرة واذبحوها، أخذوا يتعنتون ويتشرطون، ثم في الأخير: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] أخيراً بعد العناد وبعد المشادة ما كادوا يفعلون ذلك. ولا نريد أن نطيل في الحديث عن هذه الأمة إلا لنأخذ العبرة، إذاً ما هي الصفة التي نلمحها في اليهود؟ أنهم يعصون الله -عز وجل- ويشركون بالله على علم، كما قال علي -رضي الله تعالى عنه-: [[ما جفت أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] وما غاب عنهم موسى عليه السلام إلا أربعين ليلة حتى عبدوا العجل!]]. هؤلاء الناس يأمرهم الله عز وجل أن يدخلوا القرية الأرض المقدسة ويعدهم بالنصر؛ فيقولون لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] هذا خذلان! نعوذ بالله من الخذلان، دين الله بين أيديهم، وكليم الله يهديهم ويدعوهم، ولكنهم قومٌ معرضون، فأعرضوا عن علم. ولهذا قال الإمام الجليل سفيان بن عيينة -رضي الله تعالى عنه- وهي منقولة أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة قال: 'من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى'. فقولنا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] لا نريد الضلال على علم -مثل ضلال اليهود- ولا نريد عبادة الله تعالى بالجهل والضلال عن طريق الجهل وهو عبادة النصارى وطريق النصارى، إنما نريد طريق الذين أنعم الله عليهم، الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الآية الأخرى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] وهذا هو الصراط المستقيم.

أهل الكلام شابهوا اليهود في الضلال

أهل الكلام شابهوا اليهود في الضلال وأصحاب الضلال الذين ضلوا عن طريق العلم لهم نموذجٌ في هذه الأمة كثير، فمن أعظم النماذج أصحاب الكلام الذين يسمون علماء الكلام، الذين جعلوا دين الله عز وجل فلسفات وأموراً معقدة وغامضة، وأدخلوا فيه كلام اليونان وقواعدهم المنطقية، وأشباهها من الأمور التي يطلع عليها المختصون، ووصل غبارها إلى العامة أيضاً في كل أمر من الأمور، هؤلاء أشبه شيء بالأمة المغضوب عليها التي عصت الله عز وجل على علم. وهؤلاء يقولون: إن الدين ليس اتباعاً، فلا نأخذه بالوحي، ويقولون: إن النصوص من الكتاب والسنة لا تفيد اليقين -نعوذ بالله- من أين نأخذ اليقين؟ قالوا: اليقين في القواطع العلمية، وفي البراهين النظرية التي تتفتق عنها عقولهم، أما نصوص الكتاب والسنة فهي ظواهر ظنية، هكذا يقولون وهكذا سول لهم شيطانهم والعياذ بالله. ونضرب مثالاً فقط ليفهمه الجميع: علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على خلقه، هل أحد ينكر أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق العالمين وفوق العرش؟ كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وأوضح من الاستواء: العلو نفسه، الفطرة الموجودة في كل إنسان تشهد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في العلو، في السماء فوق العالم، فجاء هؤلاء وكابروا الفطرة وجحدوها وأنكروها، وقالوا: البراهين العقلية لا تدل على أنه في السماء، كما أخبر -والعياذ بالله- وردوا كل الآيات وكل الأحاديث، وقالوا: هو لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله نسأل الله العافية. يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: لو قيل لأحد عرِّف العدم فعرفه بهذا، فقال: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله لما كان أتمّ من ذلك، لكن هؤلاء يقولون: هذه هي القواطع والبراهين العقلية. إذاً فالمتبع لديهم ليس كتاب الله ولا سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المتبع هو عقولهم وآراؤهم، ولهذا عاشوا في حيرة عظيمة. هؤلاء أصحاب العقول وهم كثير في الناس حتى من العامة -إلا من رحم الله- تقول لهم: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول لك: لكن هذا -في عقلي- لا يمكن! في عقلك سبحان الله! وهل أحالنا الله عز وجل للعقول؟! أرسطو وأفلاطون وهؤلاء الذين يأخذون عنهم هذه العقول وغيرهم من الفلاسفة، كانوا موجودين قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أليس كذلك؟ لو أن هؤلاء لديهم الهدى، ولديهم الخير، والحق وسبيل الرشاد، ما احتاج الناس إلى أن يبعث الله تعالى إليهم نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما وقد بعثه الله وأمر أن نتبعه فإن كل ما عدا شريعته ضلال، مهما كان قائله، لو أن العقول تشرع في دين الله، وتشرع في صفات الله، وتشرع في أمور التوحيد، لكان هذا شرك. ويقول لك أحد العامة: ليس هذا شرك، وهذا ظاهر بالعقل، فأنا لا أعتقد أن غير الله يؤثر، بل التأثير كله لله، لكن هذا واسطة! فنقول: ما هو الدليل؟ هل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا أن نتوسل بالأموات وبأصحاب القبور؟ فسيقول: لا يوجد دليل، ولكن هذا واضح بالعقل والفكر، فبذلك رجعنا لقضية اتباع الهوى، واتباع الخرص والظن، وإن سموه عقلاً، فوقعوا في الحيرة، ووقعوا في الضلال. وكل من خاض في علم الكلام وهذه الأمور الجدلية بغير هدىً من الله، ندم وحار وضل وتخبط، والسعيد منهم والناجي منهم الذي قال عند الموت، كما قال الجويني: لقد ركبت البحر الخضم وخضت فيما نهى عنه علماء الإسلام، وهأنذا أموت على دين عجائز نيسابور، فالويل لـ ابن الجويني إن لم يغفر له الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فهذا يموت على دين العجائز -يعني الفطرة الأولى- ترك البحر الخضم وما خاض فيه، فكل ما كان مخالفاً لشرع الله عز وجل وإن سميت فلسفات وإن سميت علوماً: علم اجتماع، علم نفس، علم اقتصاد، علم سياسة، القضية ليست قضية العلم، ولا تسمية العلم. فالسحر تعلمه كفر، هكذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] المعلمان هاروت وماروت هما أول من علم الناس السحر، يقولان: هل تريد أن تتعلم السحر؟ يقول: نعم، فيقولون: إنما نحن فتنة فلا تكفر، أي: لو علمناك تكفر. فالسحر إذاً كفر، ومع ذلك، سماه الله علماً. إذاً القضية ليست قضية علم فقط، ولكن هل هذا العلم اتباع؟ وهل هو وحي من الله؟ هل هذا العلم مما كان عليه السلف الصالح؟ هذا هو الأساس، وإلا فالعلوم كثيرة، ولكن المعيار هو كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإذاً يشبه أمة اليهود من هذه الأمة الذين يعرضون عن دين الله، وعن كتاب الله عز وجل على علم. الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لنا هذا البيت قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] وجعلنا نقبل هذا الحجر الأسود، وقد شرع ذلك لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك يقول عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-: {والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع؛ ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك ما قبلتك} هذا هو الحجر الأسود، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم وأعز على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الحجر الأسود بلا ريب، هل جلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل كفه حجراً أسود يقبل ويستلم من غير تشريع الله؟ هل فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لا! لم يفعله. فإذا جاء من يحملون الشهادات العلمية، ومن يكتبون المؤلفات الكبيرة، ويجعلون أكفهم كالحجر الأسود يستلم ويقبل، وينحني الإنسان ويقبل ويذهب ويجلس، فهذا ينطبق عليه ما ينطبق على الأمة الغضبية الأمة اليهودية أنها عصت الله على علم، يعلمون أن هذا لم يشرعه الله ولم يأذن به الله، ومع ذلك يفعلونه، يستعبدون المريد الذي يسمونه مريداً من دون الله، ويريدون أن يحولوه إلى شيطانٍ مريد على شرع الله وعلى أمر الله. حتى قال قائلهم: إذا أمرك الشيخ بأمرٍ فلا تعصه، وكن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، هكذا يقول أئمة الصوفية أئمة الضلال، يجب على المريد أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، حتى لو أمره بفاحشة، قالوا: لأن الشيخ أعلم، ربما يرى أن في صالحه أن يفعل تلك الفاحشة، فيندم ويتوب ويكون أفضل له، وأفضل لحاله نعوذ بالله من الضلال. فيعلمون أن الله حرم هذا ويأمرون به، ويعلمون أن هذا من البدع ويفعلونه، من أجل المتاع القليل، ومن أجل أن يأكلوا أموال الناس بالباطل كما حكى الله عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] ومن أجل أن يُعظَّموا بالباطل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. فالأمة الغضبية اتخذت الأحبار، وأمة الضلال اتخذت الرهبان آلهةً من دون الله، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] ابتدعوا هذه الرهبانية، ولم يتبعوا ما أنزل الله، وإنما ابتدعوا شيئاً ما كتبه الله، ومع ذلك قال تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].

الخوارج والصوفية شابهوا النصارى

الخوارج والصوفية شابهوا النصارى لقد وجد في هذه الأمة نموذج الضلال الذين عبدوا الله على جهل، وإن كانوا يريدون الحق، ومنهم الخوارج، ولما دخل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكرام - أبو سعيد وابن عباس - إلى معسكرهم خشعت قلوبهم من كثرة ما سمعوا من أنين الخوارج بالقرآن، يتهجدون بالقرآن كلهم، وفي جباههم وأيديهم مثل الثفنة التي تكون في ركبة البعير من كثرة العبادة والاجتهاد، ولكن هل نفعهم ذلك شيئاً؟ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عادٍ وثمود} وقد قاتلهم أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قتلوا منهم قرابة أربعة آلاف في معركة واحدة، وأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وهم أعلم الناس بدين الله على قتال الخوارج، يقاتلون أناساً هذه حالهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون عبادتكم إلى عبادتهم وقراءتكم إلى قراءتهم} يقاتلوهم وهم بهذه الحال؛ لأن هذه العبادة وهذه القراءة على ضلال وجهل بالدين؛ فهم بهذه الحال مثل رهبان النصارى. والفرق الأخرى التي وجدت كانت أيضاً بتأثير مباشر من الأمتين أمة الغضب وأمة الضلالة، عافانا الله وإياكم منهما! وهدانا إلى الصراط المستقيم. عندما قال أهل الكلام: إن المرجع في الدين ليس كتاب الله ولا سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو العقل، جاء أناس آخرون، وقالوا: ليس المرجع العقل، بل المرجع الكشف الذي يقع في القلوب، علم المكاشفة، والعلم اللدني. ما هو العلم اللدني؟ وما هي المكاشفة؟ قالوا: نتيجة الذكر، والعبادة، والسهر يوحى إليك في المنام، ويلقى إليك كلام في قلبك فتعلم أن هذا هو الصراط المستقيم، وهذا هو الصحيح، وهذا هو الدين فتتبعه. الواحد من أئمتهم يقول: أُلقي في قلبي أن نعمل الذكر الفلاني، فُيسأل كم مرة يا شيخ؟ قال: عشرة آلاف مرة، فإذا قيل له: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بعد الصلاة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر مائة مرة، قال: لا، بل عشرة آلاف مرة، ثم إن الشيخ يلقى إليه في وقت آخر أذكار ليست باللغة العربية أصلاً، ثم إذا جاء عنده المريض كتب له حجاباً، وقال له: علقه على صدرك، ولو فتحت الحجاب لرأيت مربعات ومثلثات، وكلمات ليست عربية. ما هذا؟ أي علم هذا؟ قالوا: هذا من العلم اللدني، ومن الكشف، وإن سألتهم عن القرآن والسنة، قالوا: هذا العلم الظاهر، فهم يسمون الكتاب والسنة بالعلم الظاهر، فالعوام الذين يقرءون القرآن يمشون على الظاهر، أما أرباب الحقائق وأرباب المكاشفات (الأولياء) فهؤلاء يتبعون العلم اللدني، والعلم الكشفي. وإذا قلت لهم: هذا الحديث ضعيف، أو موضوع، مثل أحاديث فضائل رجب، وأحاديث زيارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حج ولم يزرني فقد جفاني}، {من زارني وجبت له شفاعتي} وأحاديث كثيرة موضوعة، قالوا: هذا الحديث وإن قال علماء الجرح والتعديل أنه موضوع، لكن صححه الأئمة والأقطاب عن طريق الكشف. إذاً عندنا معيار آخر نصحح به الأحاديث ونضعفها، وهو طريق الكشف، كل واحد يأتينا بكشف غير الآخر؛ لأن هؤلاء شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، وكل شيطان يكاشف وليه من شياطين الإنس بما لم يكاشف به الشيطان الآخر، فتكثر الضلالات، والبدع، وتكثر الطرق. كم طريقة اليوم في العالم الإسلامي؟ كثيرة جداً، وكل طريقة تتفرع إلى طرق، الطريقة القادرية هي أكبر الطرق، والقادرية عدة طرق، كل شيخ يشقق الطريقة إلى طرق، والله عز وجل يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] فهو صراط واحد فقط وقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وقال: {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] لا تتبعوا هذه الطرق، وهذه الطرق هي السبل، وهي التي لما رسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخط المستقيم، رسم خطوطاً على يمينه وعلى شماله، فـ الخوارج وأئمة الصوفية وكل من عبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالجهل وتعبده بالبدعة -وإن جاهد وقاتل وصام وإن صلّى وإن زعم الولاية- هؤلاء أعمالهم باطلة وليسوا على الصراط المستقيم.

الصوفية جمعوا بين نوعي الضلالة

الصوفية جمعوا بين نوعي الضلالة ويتحقق في حق الصوفية وأتباعهم كلا النوعين، فمنهم نوعٌ يلحق باليهود، وهم الذين عصوا الله عز وجل على علم، ونوع آخر يلحق بالنصارى، وهم الذين عبدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على جهل، وهؤلاء أناس موجودون اليوم، لو سألت من هدى الله منهم؛ لقال لك: إنه كان يجلس ليلة كاملة يقول: سبحان الله أو الحمد لله، طوال الليل كله، وكان يعد أحد عشر ألف مرة، لابد أن يكمل أحد عشر ألف مرة، وأحياناً يقول له الشيخ: سبعة آلاف مرة، فلابد أن يكمل سبعة آلاف مرة. كيف يتعبدون هذه العبادة الطويلة؟ أليس عندك كتاب من كتب الأذكار؟ كالأذكار التي تقال بعد الصلاة؟ مثل تحفة الأخيار، وهو كتاب صغير معروف لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وأمد في عمره ونفعنا بعلمه، وفيه أذكار نبوية، وهو منتشر، لكنهم لم يسمعوا به؛ لأنهم لا يتلقون إلا من الشيخ يقول: عشرة آلاف، فيقولون: عشرة آلاف، ولو كان الله سبحانه ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالا مائة! لقال هو: جعلناها عشرة آلاف، لأن العشرة الآلاف أكثر من المائة. هل صاحب العشرة آلاف مأجور، وصاحب المائة آثم، لأنه أقل؟ لا! صلاة المغرب هي ثلاث ركعات، فإذا صليناها ثلاثين ركعة وهي أكثر من ثلاث ركعات، فهل يقبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك منا؟ لا يقبل الله منا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أي: فهو مردود غير مقبول، فمهما كان هذا العمل، ومهما ظن صاحبه، ومهما حسن قصد صاحبه، فإنه مردود غير مقبول.

قبول الأعمال

قبول الأعمال فما هو العمل الذي يقبله الله؟ وما هو الدين الذي يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، شرطان للعمل لكي يتقبله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكما تعلمون حال الأمة، وكل منا أعلم بحال نفسه، مقصرون في طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكلنا نرجو فضل الله، ونرجو مغفرة الله، ونرجو عفوه، فيا لله العجب! إذا كنا في الطاعات مقصرين فكيف نجتهد في الابتداع؟! كيف نجتهد في البدعة ونحن ما قمنا بإتمام الطاعة؟ ما أدينا الواجبات المفروضة والطاعات التي يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها في الحديث القدسي: {وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه} فأحب شيء إلى الله ما افترضه الله، الصلوات الخمس، الصوم، الحج، العمرة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا أحب شيء يتقرب به إلى الله، الأمة التي لم تقم بالواجب الذي فرضه الله عليها، كيف تجتهد في إقامة البدع، وتستحدث في الدين؟! هل أكملت الواجبات ثم المندوبات حتى تفكر فيما بعد ذلك؟ لن يستطيع أحدٌ ذلك؛ لأن الدين أعظم وأوسع، فما تقرب العبد إلى الله عز وجل بشيء أحب إليه مما افترضه عليه. فمن أراد أن يدل الناس على طريق الخير، ويدعوهم إلى الله، ويذكرهم بالله، وباتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبمحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليبدأ بتذكير الناس وبدعوتهم بما افترض الله تبارك وتعالى عليهم، افترض علينا التوحيد، وهو أعظم واجب، فنبدأ بتعليم الناس التوحيد ودعوتهم إليه، ثم الصلوات الخمس، ثم ترك الفواحش والمنكرات والكبائر الواضحة: كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والخيانة، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وقطيعة الأرحام، وهي محرمات ظاهرة، ومع ذلك متفشية في مجتمعاتنا وموجودة. فالغفلة موجودة عن أداء الواجبات والتزام الطاعات، ثم نريد أن نعمل من البدع: موالد أو رجبيات أو شعبانيات، كل هذا لم يشرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، من أين أتيتم بهذا؟ هل جاءت في كتاب الله؟ هل جاءت في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لو أنها شرعت، ولو أنها في كتاب الله وسنة رسوله، لما جاز لنا أن نقدمها على ما أمر الله تعالى أن نقدمه، وهو التوحيد والأركان الخمسة، فكيف -وهي لم تشرع- تقدَّم وتعلَّم، ويترك الأصل العظيم، الأصل الذي ينجو به العبد بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! وهو التوحيد. توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هو تجريد هذه القلوب لطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يسأل إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يستعان إلا بالله، ولا يتوسل إلى الله إلا بما شرع الله، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فكل مؤمن وكل مسلم مطالب بأن يبتغي إلى الله الوسيلة، وأن يتقرب إلى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فبماذا يُتقرب إلى الله؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه}. نبدأ بالواجبات، ثم ننتقل بعد ذلك إلى النوافل؛ بالشرطين السابقين، هذه هي الوسيلة، وما أعظم باب الوسيلة في ديننا! الكلمة الطيبة صدقة، كل تهليلةٍ صدقة، كل تحميدةٍ صدقة، كف الإنسان لسانه عن الشر صدقة ووسائل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيرة! كل هذه هي الوسيلة، وهي القربة التي يُتقرب بها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فلابد في العمل الصالح من شرطين: الأول: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا لم يكن العمل خالصاً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يقبله، كإنسان يريد الدنيا بعمله، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} وقال: {أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك} لماذا تشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو غني عن جميع الأعمال التي تعملها؟! حالك مثل من يهدي إلى تاجر غني -والله هو الغني وله المثل الأعلى- هدية، ويقول: هذا لك، واعط فلاناً منها قليلاً، فيقول لك: اعطها كلها لفلان فأنا لست محتاجاً لها، فكيف والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الغني العظيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يقول: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً} {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيجب أن يكون العمل خالصاً لوجه الله. والشرط الثاني: أن يكون صواباً وفق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف يكون العمل صواباً، وبماذا؟ بالعلم {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] بعض الناس يصلي عمره خمسين سنة، لكن لو أتينا ونظرنا إلى هذه الصلاة هل هي كما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل هي كما قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي}؟ فلذلك فإنها لا تقبل.

عبادة الأحبار والرهبان من دون الله

عبادة الأحبار والرهبان من دون الله {دخل عدي بن حاتم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]. قال عدي -وكان نصرانياً-: يا رسول الله، ما عبدناهم} لأن عدياً يفهم أن العبادة هي الركوع والسجود للأحبار، أو الرهبان، أو الأنبياء، أو الأقطاب، أو الشيوخ، أو العظماء، أو الملوك، أو ما أشبه ذلك ممن يعبد من دون الله -عز وجل- فأجابه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضح له قال: {ألم يُحلِّوا لكم الحرام فتطيعوهم، ويحرموا عليكم الحلال فتطيعوهم، قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم}.

خطورة الابتداع في دين الله

خطورة الابتداع في دين الله ألم تعلم أن الله تعالى حرم الابتداع؟ فلا تطع فيه غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ألم تعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يشرعه ولا أذن به، ولا ارتضاه، ولا جعله طريقاً ولا وسيلة إليه؟ فلا تقبله من أي إنسان، لأنه بدعة، والبدعة تبعد ولا تقرب، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي روي من أكثر من طريق: {إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة}. نسأل الله العفو والعافية! إن الذي نسعى إليه وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً ونرجوه هو أن يختم لنا بحسن الخاتمة، وأن تكون آخر كلماتنا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن يوفقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عند الموت للنطق بهذه الكلمة العظيمة، وأن يوفقنا في القبر لنجيب بالجواب الصحيح. أما أصحاب البدع فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحجز عنهم التوبة، ومما يدل على ذلك أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يوفقهم عند الاحتضار بالتوبة، جزاءً وفاقاً على ما كانوا عليه من بدع في دين الله، يشرِّع من عند نفسه، ويأمر الناس بما لم يشرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! فانظروا إلى خطر البدع، تضيع الفرائض، وتضيع حسن الخاتمة، ويأتي الإنسان وقد عمل كثيراً، ولكنه كما قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} [الكهف:103] {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]. أموال، وجهود، وأعمال، وخشوع، وبكاء، لكن ذلك لا ينفعهم، ولا يجدي شيئاً؛ لأن الله لم يجعل طريقاً إليه إلا اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لا بد من وجود شرطين في أي عمل حتى يتقبله الله، وهما:- أن يكون خالصاً لوجه الله، وأن يكون صواباً وفق ما أنزل الله تعالى.

الشرك وبداية ظهوره في بلاد العرب

الشرك وبداية ظهوره في بلاد العرب إن الشرك والضلال والانحراف الذي وقع في الجاهلية الأولى، ومن بعدهم إنما وقع نتيجة الابتداع في دين الله تعالى. كانت العرب على دين التوحيد منذ أن بنى إبراهيم الخليل وإسماعيل البيت الحرام، حتى ظهر رجل يقال له: عمرو بن لحي الخزاعي، هذا الرجل ذهب في رحلة إلى الشام، فوجد أُمّةً متحضرة ليست مثل العرب تسكن الخيام وترعى الغنم والإبل، وجد هناك حضارة، وأنظمةً، وملكاً، وأبهةً، فغرته تلك المظاهر، ثم تأمل في دينهم فوجدهم يعبدون الأصنام، إذ أنهم يصورون الصور، ويضعونها في الكنائس كصورة عيسى عليه السلام، وصورة مريم العذراء، وغيرها من الأنصاب والتماثيل، ثم يعبدونها من دون الله، فاستحسن هذا الأمر، لأنه صادر عن أمة متحضرة وليست كالعرب. فأخذ هذه الصور وجاء بها إلى مكة ووضعها العرب بالكعبة، ولهذا رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: {وهو يجر قُصبه -يجر أمعاءه- في النار} عافانا الله وإياكم، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وكان أول من سيب السوائب} التي قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] فهذا كان أول من افترى على الله الكذب، وسيب السوائب، وابتدع هذه البدعة في الإبل: البحيرة، والوصيلة، والحام، هذه الإبل جعل لها علامات معينة تنذر للأصنام، فجاء بالأصنام وأدخل الشرك إلى بلاد العرب، وجاء بهذه البدع ليجعلها قربات إلى الأصنام، فكان هذا الرجل أول من غير ملة إبراهيم عليه السلام من التوحيد إلى الشرك، فحذر منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بل جاءت رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصحيحاً للشرك الذي وقع فيه العرب بعد أن كانوا على ملة التوحيد، فمن جاء ليصرفنا عن ملة التوحيد، التي وحدنا الله تبارك وتعالى بها بعد الفرقة، وجمعنا بها بعد الشتات، وأنار بها قلوبنا بعد الظلمة، فلا طاعة له، لأن محمداً صلى الله عليه سلم ليس إمامه وقدوته، وإنما إمامه وقدوته عمرو بن لحي. ولا تستغربوا أن يظهر في كل أمة، أو في كل فترة عمرو بن لحي جديد؛ لأن من السنن الكونية أن يظهر صاحب الشرك؛ فيظهر أصحاب التوحيد، ويظهر الباطل، فيظهر الحق وهكذا، فرعون قال -كما حكى الله عنه-: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، ومات هذا الفرعون وانتهى، لكن في كل زمان ممكن أن يظهر فرعون جديد وإن لم يسم نفسه فرعون، وإن لم يقل: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فكل من بدل دين الله، وغير شرعه، وجعل الناس يعبدونه من دون الله، فهو في عمله هذا كفرعون. ولهذا فقدوة أصحاب البدع والضلال هم قوم نوح الذين غيروا دين الإنسانية من التوحيد إلى الشرك، ثم عمرو بن لحي الذي غير ملة العرب من التوحيد إلى الشرك. أما حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله} فإن معناه أن كل من يأتي ويدعو إلى أية بدعة من البدع فإن دعوته خاسرة، فإن هذه الطائفة المنصورة سينصرها الله تعالى عليه.

نصيحة للأمة

نصيحة للأمة التوحيد التوحيد! والسنة السنة! من تمسك بها نجا، سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي سفينة نوح، من تمسك بها نجا، ومن حاد عنها غرق وهلك، وإن زعم أنه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء، لا عاصم أبداً من عذاب الله، إلا باتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا طريق إلى الله إلا باتباع سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. هذا هو الطريق الوحيد، فمن كان يَدَّعِيْ محبة الله، ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليقدم حبه على نفسه، وأهله، وماله، وولده، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين} فلا بد أن تكون محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الدرجة. والمحبة تتمثل في حب سنته وهديه، فمن والى الفجار، والعصاة، والكفار، فهذا لا يحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل يمكن أن يزعم أحد أنه يحب أحداً ما وهو يخالف طريقته، ويرد أمره، وينقض قوله؟ هذا لا يحبه، وهذه دعوى كاذبة، ولهذا قال تعالى في الآية التي تسمى آية المحنة، أو الفتنة، أو الابتلاء: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. ادعى قوم محبة الله فأنزل الله هذه الآية، هكذا قال أكثر من واحد من السلف، فهذا هو المعيار: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فاتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الصراط المستقيم الذي ندعوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ركعة من فريضة أو نافلة أن يثبتنا عليه، قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. وندعوه أن نكون على السنة القويمة، وألا نزيغ عنها على علم، أو نعبده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالجهل والضلال، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم ذلك، ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا جميعاً الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، وأن يوفقنا لسماع الحق وقبول واتباعه، وأن يجنبنا طريق أهل الأهواء والزيغ والبدع والضلال، إنه سميعٌ مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

موقف الإسلام من أهل البدع

موقف الإسلام من أهل البدع Q ما هو موقف الداعية المسلم من أهل البدع؟ A الحمد لله، حكم أهل البدع بإيجاز قد بينه الصحابة الكرام، كما فهموه وسمعوه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكما قرءوه من كتاب الله تعالى وأهل البدع أصناف:- منهم من يُقْتَل فيُقَاتَل، ولهذا قاتل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخوارج وقتلوهم، ومنهم من يُهجر ويُزجر، وهذا أدنى ما يجب، فقد هجر السلف الصالح أهل البدع، حتى إن بعضهم أقسم ألا يجتمع مع صاحب بدعة، حتى إن واحداً من السلف لما جاءه صاحب بدعة، أقسم ألا يجتمع معه تحت سقف واحد غير المسجد، وجاء رجل من أهل البدع إلى أيوب السختياني رحمه الله، فقال: نريد منك كلمة؟ فقال له: ولا نصف كلمة، أما الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة فقد نهى عن الصلاة خلف أهل البدع، والسلام عليهم، ومؤاكلتهم، ومجالستهم، وأمر بهجرهم وبزجرهم. فمن كان من أهل البدع، وكانت بدعته مغلظة كبيرة، وخرجت إلى حدود الشرك أو الكفر، فهذا حكمه القتل، فإذا كانوا طائفة مجتمعة، فإنهم يقاتلون حتى يرجعوا إلى السنة، وإن كان فرداً يدعو إلى بدعته فإنه يقتل -أيضاً- كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -ومنها-: التارك لدينه المفارق للجماعة} فترك الدين، ومفارقة الجماعة -أي مفارقة السنة إلى البدعة- يقتضي إباحة دم المبتدع. وإن كان لا يدعو إلى بدعته أو متستراً بها، فإنه يزجر ويراقبه المجتمع المسلم مراقبةً شديدة؛ حتى لا يبث هذه البدعة، لكن لا يقتل أو يقاتل حتى يظهر شيئاً من ذلك، ويتيقن عنه، فهناك شروط وأحكام معروفة. وحاصلها أن صاحب البدعة يجب أن يكون مرذولاً مهجوراً في المجتمع المسلم مثل الذي يحمل أشد الأوبئة، كالإيدز في هذا العصر، أو أي وباء خطير، ويعزل ويفصل عن المجتمع، فلا يجالس، ولا يؤاكل، ولا يشارب، حتى لو جاء يجادل بكتاب الله أو يتكلم بآيات من كتاب الله أو من سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يهجر؛ لأن الهجر فيه حكم عظيمة. أعظم ما في ذلك أننا نتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، ومن ذلك أن القلوب تضعف من الشبهات، كما قال بعض السلف لما قيل له: [[لِم لا تسمع من أهل البدع؟ قال: إن القلوب تضعف عن الشبهات وما يدريني أن يقول كلمة فتبقى في قلبي فلا تزول]]. إذا كان السلف الصالح يقولون: لا تقرأ أي كتاب من كتب أهل البدع مع أن فيها ذكر الله، فنحن نقول: لا تقرأ ولا تفتح لهم كتاباً أبداً، ولا تجالسهم ولا تسمع لهم شريطاً أبداً، احذرهم واحذر كتبهم واحذر السماع منهم، فإن هذا أشد من السم عليك، ولك في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي علماء المسلمين الثقات الغنية والغنى. أما مسألة الصلاة خلف أهل البدع، فقد فصل فيها العلماء، فقالوا: إن كانت البدعة مكفرة كبدعة غلاة الروافض وغلاة الصوفية، فالصلاة خلفهم لا تجوز، ولا تصح، وإن كانت البدعة ليست مكفرة، ولا تخرج من الملة، فالصلاة لا تجوز خلفه، لكن إن وقعت صحت، كما لو كنت عابراً مجتازاً من طريق في مكان ما، فصليت خلف إنسان ولا تدري عنه أنه مبتدع، فَبَلَغَكْ فيما بعد، أو علمت أن هذا إنسان لديه بدعة من البدع، فإن صلاتك صحيحة ولا تُعد، لكن لا يجوز أن تتعمد الصلاة خلفه، هذه بعض الأحكام المتعلقة بأصحاب البدع عافانا الله وإياكم منها!

الرد على من زعم أن عمر بن الخطاب ابتدع صلاة التراويح

الرد على من زعم أن عمر بن الخطاب ابتدع صلاة التراويح Q كيف نرد على من يقول: إن عمر بن الخطاب ابتدع صلاة التراويح؟ A النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى التراويح جماعة، ولكن خشي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تفرض فتركها، وبقي الناس يصلون فرادى إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنظر عمر بن الخطاب وإذا بالحكمة التي من أجلها ترك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة جماعة وهي خشية أن تفرض علينا قد انتفت؛ فجمع الناس على مثل ما جمعهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول الأمر، وصلوا جماعة، وقال: [[نعمت البدعة]]. وهذا لا يعني أن عمر رضي الله عنه ابتدع في الدين بدعةً لم يفعلها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبداً؛ لأنه إنما أعاد ما كان عمله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن العرب يطلقون على الشيء الجديد أنه بدعة في اللغة. البدعة في اللغة: الشيء الجديد، أو الشيء غير المألوف. أو يكون كما قال الإمام الشافعي: إن كان رفضاً حب آل محمدٍ فليشهد الثقلان أني رافضي فلو فرض أنهم سموها بدعة فهي: نعمت البدعة، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلها. ثم إنه جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، يقول: {وعظنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظةً بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة -إلى أن قال- وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا علينا بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة}. فحذر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البدع والمحدثات، وأمرنا باتباع سنته وسنة الخفاء الراشدين المهديين، وهم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فإذا اجتهد الخلفاء الراشدون، وأمروا بأمرٍ أو عملوا بعملٍ فإن هذا من السنة، لأنهم لن يحدثوا في دين الله عز وجل، ولا يمكن أن يأمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتباع من أحدث في دين الله أبداً، قال: {وإياكم ومحدثات الأمور} إذاً: هؤلاء الذين أوصانا أن نتبعهم لن يحدثوا، وإنما يحيون السنة، فـ عمر رضي الله عنه أحيا السنة، واتباعه بذلك اتباعٌ لسنة الخلفاء الراشدين التي أمر بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كذلك الأذان الأول في صلاة الجمعة، يقولون: أول من أحدثه عثمان رضي الله عنه، ويقولون: هذا بدعة، وهو ليس بدعة، لأن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين المهديين، فالعمل به سنة، فقد كان النداء يسمعه الصحابة كلهم ولم ينكر عليه أحد، فأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علموا أن هذا جائز، وأنه لا بأس به، وأنه مشروع؛ لأنه من سنة الخلفاء الراشدين، وأقروا ذلك، وما أقره أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنحن أولى أن نقر به، فما فعله الخلفاء الراشدون فهو سنة وليس ببدعة، فهذه بعض الأجوبة التي تقال. ولكن لنعلم أن أهل البدع يتصيدون الشبهات، وإذا لم يجدوا الشبهات فقد يكذبون ويضعون ذلك؛ فلا نستغرب كثرة الشبهات، ولا نجهد أنفسنا أننا نقول: كيف نجيب على هذه الشبهات، ولذلك أقول لكم: عليكم بالطريق الواضح المستقيم! وتمسكوا به واعرفوه، ولا يضيركم بعد ذلك من ضل إذا اهتديتم، وتمسكتم بالصراط المستقيم. لا يضركم أن لأولئك شبهات ومجادلات، فإن أهل العلم كفوكم إياها، والأجوبة موجودة -ولله الحمد- لكن لا نريد أن تدخلوا في جدال مع أهل البدع، فيظهروا عليكم، ويقولون: نحن عندنا حجة، ودليل، وأنت ليس عندك شيء، يكفيك أنه دعا إلى بدعة، وأنك علمت أنها بدعة فلا تتبعه، ولا تسمع له، ولا تتجادل معه أبداً.

ضابط البدعة

ضابط البدعة Q ما هو ضابط البدعة؟ وما هو الكتاب الذي تنصح بقراءته ليجتنب الإنسان البدعة؟ A ضابط البدعة أو حقيقتها: هي كل أمرٍ عُمِل مضاهاةً للشرع، فأي أمر يحدث مضاهاةً ومشابهة لما شرعه الله تعالى بنية التعبد، فهو بدعة، ولهذا أهل البدع يقولون: أنتم تقولون: هذا العمل بدعة، فعلى قولكم تكون السيارات بدعة، والجامعات بدعة، والطرق بدعة! نقول: ليس هذا بدعة، هذا لم يحدث مضاهاةً لما أنزله الله وبنية التعبد. وقد يأتي آخر، ويقول: أنتم تتكلمون على أهل البدع، لماذا لا تتكلمون عن الشيوعية، وعن الإلحاد، وعن القوانين الوضعية؟ أما واحد شرع ركعتين ما شرعها الله فقلتم: هذا من أهل البدع، وحاربتموه، والذي يغير حكم الله تعالى من الرجم أو من الجلد إلى السجن والغرامة، ما تكلمتم عنه وما ذكرتموه، فلماذا لا تحاربوه؟ نقول: هؤلاء لم يعملوا هذه الأعمال مضاهاةً للشرع، لم يعملوها على نية المضاهاة والمجاراة والمماثلة للشرع، ويجعلون العمل بها ديناً يؤجر عليه صاحبه، لو فعلوا ذلك لدخلوا في أهل البدع، وكانوا من أهل البدع الخارجة من الملة، لكن إذا قال: أنا عندي قانون وضعي وضعته من عندي، والشريعة لا أضاهيها، والشريعة فيها رجعية وتخلف، فهذا لا يدخل في أصحاب البدع، هذا أصلاً يكفر ويخرج من الملة؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. فمن شرع ما لم يأذن به الله، أو غير أحكام الله، أو بدل ما أنزل الله كمن يحل الربا -مثلاً- فإنه يكفر بنص كتاب الله عز وجل، ونحن لا نتكلم مع هؤلاء، إنما نتكلم مع من يقول هذا من الدين، وهذا له أجر، أما الذي يحل الربا، ولا يقول: هذا من الدين؛ فهذا معرض عن شرع الله، مغير لشرع الله، تارك لحكم الله، فهذا لا يخرج من باب البدعة، إنما يخرج من باب الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا له مجاله وهذا له مجاله. إذاً البدعة هي كل أمرٍ أُحدث في الدين مضاهاةً لصاحب الشريعة أو مضاهاةً للشريعة. ومن أمثلة البدعة: الاجتماع على الذكر بعد الصلوات وحضور المولد. أما الكتب المؤلفة في التحذير من البدع فهي كثيرة، ولنبدأ أولاً بأهم شيء، وهو أن نعرف الكتب التي تدل على السنة، فإذا عرفنا السنة عرفنا البدعة -إن شاء الله- ولذلك يجب علينا أن نعرف العبادة الصحيحة التي تعبد بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع أعماله. ثم إذا أردنا أن نعرف أحكام البدعة، نقرأ ما كتبه السلف في كتبهم في بيان البدع، وحكم أهل البدع وأهل الأهواء، وهي كثيرة مثل كتاب السنة لـ عبد الله بن أحمد، والشريعة للآجري، والإبانة لـ ابن بطة، فقد ذكروا بدعاً كثيرة كبدعة الجهمية، وبدعة الرافضة، وبدعة الخوارج، والبدع العقائدية الأخرى، ثم ما كتب بخصوص معرفة البدعة من غيرها، مثل: البدع والحوادث، والبدعة وأثرها السيئ، والرسائل التي كتبها العلماء كالشيخ الجزائري وغيره -جزاهم الله خيراً- الذين خصوا موضوع البدعة بالذات التي هي ضد السنة، لكن الأساس أن نعرف السنة، فمثلاً الشيخ ناصر الدين الألباني جزاه الله خيراً لما كتب حجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جعل في الأخير البدع في الحج، ذكرها بالترتيب فقرة فقرة، فنعرف بدع الحج -مثلاً- وإذا قرأنا كتب أحكام الصلاة نعرف بدع الصلاة، وإذا قرأنا كتب الأذكار الصحيحة نعلم أن ما عدا ذلك بدعة، ونجد فيها بيان الأذكار البدعية وهكذا.

حكم صلاة التسابيح

حكم صلاة التسابيح Q سمعت من شخص يقول في صلاة التسبيح: لا بد أن يصليها الإنسان في اليوم مرة، أو في الأسبوع مرة، أو في الشهر مرة، أو في السنة مرة، أو في العمر مرة، ما هو تعليقكم حول هذا؟ A صلاة التسبيح اختلف فيها العلماء، وسبب الخلاف: الحكم على الحديث، والراجح أنها لم تصح ولم تثبت. فالإنسان لا يتعبد الله تعالى إلا بما شرع، وفيما ثبت وصح الكفاية، ففي حديث الولي: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فيما يرويه عن ربه-: {وما تقرب إلي عبدي بشيء، أحب إلي مما افترضته عليه} فالفرائض معروفة، وكذلك النوافل الثابتة، مثل: السنن الرواتب، والوتر، وصلاة الضحى، وغيرها مما ثبت النص به، فهذا فيه الكفاية عن الأمر المختلف فيه، فالراجح أنها لم تصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا فإنها تدخل في البدع.

حكم قراءة القرآن على الأموات

حكم قراءة القرآن على الأموات Q ما حكم قراءة القرآن على الأموات؟ هل هو بدعة أو سنة؟ A الإنسان قد يموت له أب أو قريب، ويريد أن يحسن إلى هذا الميت، والله تعالى لم يقطع عنا هذا الإحسان، لأن هذه الشريعة سمحة وميسرة بل جعل لنا أبواباً واسعة -ولله الحمد- كالدعاء للأموات، فنحن عندما نزور القبور ينبغي أن ندعوا لهم، هذا مما شرعه الله تعالى، والحج عن الميت وارد وصحيح، والصوم أيضاً ورد في حق الأم إذا نذرت الأم أو الأب أن تصوم فيصوم عنها الولي، والصدقة وهذه من أوضح وأفضل ما يتقرب به الإنسان إلى الله عن الميت، إذاً: لدينا أبواب ومجالات واسعة، فما ضيق الله تعالى علينا. أما مسألة قراءة القرآن، فهل يقرأ القرآن على الميت بحيث أن إنساناً يمسك المصحف، ويقرأ سورة من القرآن، ويهدي ثوابها إلى الميت بهذا الشكل لم يرد، وهذا هو أخف أنواع البدع في هذا الشأن. وبعض العلماء أجاز ذلك على أساس دخوله في عموم الطاعات والقربات، والراجح أنها ما دامت لم ترد، فلا نفعلها أبداً، لأن ديننا اتباع وليس ابتداعاً، أما أن يجتمع الناس ويقرءون على رأس الأربعين أو ثلاثة أيام، يقرأ قارئ القرآن كله، أو ثلاثين قارئاً، كل قارئ يقرأ جزأً معيناً، ونجعل هذا من سنن العزاء، هذا أكبر أنواع الابتداع. وهذه المسألة لم يختلف فيها أحد من العلماء أبداً، فالذي يقول: إن العلماء اختلفوا في قراءة القرآن، لا يعني ذلك أن العلماء اختلفوا فيمن يجمع ثلاثين قارئاً، أو يأتي بواحد يقرأ ثلاثين جزءاً على رأس الأربعين، أو ثلاثة أيام بعد الموت، هذا لم يختلفوا فيه، فهو بدعة باتفاق. إنما الذي وقع فيه الخلاف -كما بينا- هو: أن يقرأ الإنسان -وحده فقط- شيئاً من القرآن، ويهدي ثوابه إلى الميت، ومع ذلك نقول: لا تفعلوا هذا، فهذا غير جائز، وهذا بدعة؛ حسماً لمادة البدع من أصلها، لكن الصدقة بابها مفتوح -والحمد لله- فليتصدق الإنسان أو يحج أو يعتمر عن الميت، هذا جائز ووارد، والحمد لله.

حكم التسبيح بالمسبحة

حكم التسبيح بالمسبحة Q ما رأي الدين الإسلامي في التسبيح بالمسبحة، سواء بعد الصلاة أو في أورادٍ أخرى؟ A أولاً: ننبه أنه لا يقال ما رأي الدين، هذا من التعبيرات الصحفية التي أحدثها أناس جهال، فالدين ليس بالرأي أصلاً، هذه أحكام قال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10] فالقرآن حاكم يحكم، والسنة حاكمة، والسؤال الصحيح أن نقول: ما حكم الله، أو ما حكم الإسلام، أو ما حكم كذا في الإسلام، هذا هو السؤال الصحيح، ولا نقول: رأي الدين، لأن هذا حكم يجب أن نلتزم به، أما كلام البشر المجرد فهو رأي، والرأي يجوز أن يكون حقاً وأن يكون باطلاً، فنقول: ما حكم كذا في الإسلام؟ السؤال الصحيح إذاً أن نقول: ما حكم المسبحة في الإسلام؟ فنقول: هل سبح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها؟ لم يكن عنده مسبحة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عند الخلفاء الراشدين المهديين، فالمسبحة بهذا الشكل هي من بدع الهندوس، وانتقلت إلى الأمة الإسلامية عن طريق الصوفية الذين أخذوها من أولئك القوم، ولهذا قيل لواحدٍ منهم: ألا تترك هذه المسبحة؟ قال: شيءٌ دلني على ربي لا أتركه؛ لأن عندهم هذه الأشياء هي التي تدل على الله، إذاً اتخاذ مسبحة يسبح الإنسان بها بدعة. لكن أحب أن أنبه على قولنا: بدعة، هل كل واحد نرى معه مسبحة نقول: أنت مبتدع؟ لا. لأن كثيراً من الناس يجهل هذا الحكم، ومنهم من لو جئته بهذا العنف والشدة لنفر منك ومن السنة التي قد تكون لديك، وهي أهم من ذلك. فيجب علينا أن نكون لطفاء في الإنكار ولا بد أن تكون لدينا حكمة وأسلوب في إنكاره، فإذا رأينا من يفعل ذلك، نقول: يا أخي بارك الله فيك -بعد أن تسلم عليه- هذه أصابعك، قل باليمنى: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، هذه سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه المسبحة لم يتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون، ولا ينبغي لك هذا، وأنت إن شاء الله حريص على الحق، فتكون النصيحة بالحسنى، ولا نحكم عليه بأنه مبتدع. فأهل البدع هم الذين بدعهم واضحة، كالذين يجلسون في حلقات وحضرات مخصوصة للابتداع، فيأتون بمسبحة بعضها ألف حبة، ثم يسبحون بها، كما تفعله بعض الصوفية، هذه هي البدعة التي ننكرها بقوة، وأقصد قوة الإنكار بالقلب، وقوة الإنكار بالحجة وبالدليل، وحتى ونحن نلاطفه ونخاطبه بالحكمة نكون أقوياء في الحرص على أن يجتنب هذه البدعة. وبعض الناس يقول: هذه الحجارة من النوع الكريم، تجلب الرزق -والعياذ بالله- أو تؤلف قلوب الناس لك، نسأل الله العافية! فهذه تدخل في الشرك، ليست فقط في البدعة.

البدع كلها سيئة

البدع كلها سيئة Q هل هناك بدعة حسنة في الإسلام وبدعة سيئة؟ A النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول ويردد في خطبه: {كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار} وكلمة "كل" من ألفاظ العموم، فإذا قلت لك: كل الناس صلَّى العشاء؟ فأنت تقول: لا، أنا رأيت مجموعة لم يصلوا، أو إذا قلت لك: كل الناس مسلمون؟ فأنت تقول: لا. يوجد من هو مسلم ومن هو غير مسلم، وإذا استدركت فمعناه أن العبارة خطأ، إذاً ما رأيك فيمن يقول: البدعة منها ما هو حسن ومنها ما هو بدعة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار} أليس هذا يستدرك على رسول الله -نعوذ بالله من الضلال- من هذا الذي يجرؤ أن يخطئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرددها دائماً في خطبه، وخطباؤنا في كل جمعة يقولون: كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار، لماذا كررها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكررها أصحابه، ويكررها الأئمة أيضاً؟ فليس هناك بدعة حسنة أبداً! قد تقول: بعض العلماء قالوا مثل هذا الكلام، كبعض علماء القرن الخامس أو السادس، فنقول: أولاً: إننا نتبع ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدين، والسلف الصالح، لا أئمة القرن السادس ولا السابع. ثانياً: الأئمة الذين قالوا: إن البدعة خمسة أحكام: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحرم، يقصدون المعنى اللغوي، ولهذا يقولون: بدعة واجبة، مثل جمع المصحف أو بناء المساجد، فهذه ليست بدعة، لأنه يقصد بها الشيء الجديد فقط، وهو المعنى اللغوي للبدعة، فنقول: هذا الكلام بهذا التخصيص اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن الاصطلاح إذا فهم منه غير الحق، أو إذا كان وسيلة لأصحاب البدع إلى الباطل، فإنه يكون خطأ، ولا نتخذه، لأنه يمكن أن يكون وسيلة إلى الشرك، وإن كان هو في ذاته لا يدل على الشرك بالضرورة، فإننا نتركه، ونجتنبه، لماذا؟ لأنه من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، فنتقي الشبهات بأن نترك ذلك. نقول: هذا الكلام جرأ أهل البدع، لأنهم أصبحوا يبتدعون ما شاءوا في الدين، ويقولون: هذا من قسم البدع الحسنة، مع أن العلماء كـ العز بن عبد السلام الذي قال هذا الكلام ما قصدوا هذه البدع، وإنما قالوا هذا على الأشياء الجديدة الحسنة، فلنفرق بين هذا وبين هذا، وحتى لو فرض أن أحداً كائناً من كان قال بخلاف ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلامه مردود غير مقبول، ويبقى العموم محفوظاً في قوله صلى الله عليه السلام: {كل بدعة ضلالة} وقوله: {من عمل عملاً}، فعملاً نكرة مطلقة، {ليس عليه أمرنا فهو رد} وفي رواية: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه} فكلمة "ما ليس منه" تشمل كل شيء إذاً ليس هناك أي تخصيص لعموم ما نهى الله عنه ورسوله عنه من البدع.

حكم التداوي بكتابة القرآن على ورق وشرب مائها

حكم التداوي بكتابة القرآن على ورق وشرب مائها Q هل التداوي بالقرآن وذلك بكتابته بالزعفران ثم وضعه في ماء وشربه هل هذا بدعة أو غير بدعة؟ A الصحيح أن هذا العمل بدعة، وإن كان قد ورد عن بعض من تقدم، ولكن هذا يترك ويزجر عنه، لأنه ذريعة ووسيلة إلى غيره، فكتابة القرآن وشربه من البدع، وإن كان صاحبه يقصد التداوي به، ويغنينا عن ذلك الرقية، بأن يقرأ الإنسان القرآن ويرقي نفسه، أو يرقيه إنسان آخر أما أن يكتب ثم يذاب ثم يشرب، فهذا من البدع التي لا شك فيها، ولا ريب أنها أصبحت وسيلة وذريعة لبدع أكبر، بل للشرك الأكبر، فتكتب قل هو الله أحد ويكتب معها أسماء أعجمية بالسريانية هي أسماء آلهة ومعبودات من الجن. وهؤلاء وبعض الناس يسمونهم سادة، يكتبون آية الكرسي ويكتبون معها رموزاً وأشياء معينة، ويضعون معها أسماء معبودات من الأصنام أو من آلهة الجن أو من الشياطين المعبودة، لا ندري عنها، لكن هو يعرفها، ويقولون للمريض: اكتبها وبلها بالماء واشربها، فيقول المريض: الحمد لله شربت آية الكرسي وشفيت، إنما شرب أسماء الجن والشياطين ومعبودات الشياطين، ولهذا نقول: ما دامت قد أصبحت مدخلاً لأهل البدع والضلال، ولم يصح فيها شيء مرفوع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، فهي بدعة، والتداوي الذي ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرقية ثابت، وفيه غنى وكفاية.

الدعاء يرد القضاء

الدعاء يرد القضاء Q إذا كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر على الإنسان وقضى عليه سابقاً بشيء، ثم دعا الله وردّ عنه هذا البلاء، فكيف يجمع بين هذا وذاك؟ A الجمع بين هذا وذاك بإيجاز: الوجه الأول: هو ما جاء ذكره في قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. فأُم الكتاب هو اللوح المحفوظ وهذا لا تغيير فيه ولا تبديل، لكن -كما تعلمون- هناك تقدير سنوي حولي في السنة، ويكون في ليلة القدر، وهناك تقدير عمري، وهذا يقدر إذا نفخ الملك الروح في الإنسان، وهناك التقدير الكوني، وهو الذي في اللوح المحفوظ، فيجوز أن يكون في التقدير العمري أو التقدير الحولي أو التقدير اليومي، الذي يقدره الله أمر معلق، ولكنه في اللوح المحفوظ ثابت، والأمر المعلق مثل أن يقدر الله على إنسان بمرض في التقدير الحولي أو العمري أو اليومي، لكنه يعلق بالدعاء، فإذا دعا الإنسان صرف عنه هذا التقدير، وإلا فإنه يحل به، أما التقدير الكوني فإنه لا بد إما أنه مكتوب بأنه يدعو، فينجو من المرض -مثلاً- أو لا يدعو فيصيبه المرض، فيكون هذا حافزاً لنا أن ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً، ندعو الله تعالى ونستيقن أن هذا الدعاء سيصرف الله تعالى عنا به شيئاً من الشر، أو يحقق لنا شيئاً من الخير، أو يدخره لنا عنده. الوجه الثاني: وهو أن الدعاء سبب من الأسباب، فمثلاً أنت تخشى أن تقع في مصيبة -عافانا الله وإياكم- فلو أنك مشيت في آخر الليل وأنت سهران، لربما وقع لك حادث، لكن لو قلت: أنا لن أقود السيارة وأنا سهران! فإنك تنجو بإذن الله، فهذا سبب تتخذه فتنجو بإذن الله. والدعاء سبب من الأسباب المشروعة شرعها الله لنا، فنتخذه لندرأ به ما نتوقعه من الشرور، فإن لله عز وجل أقداراً تمشي وفق السنن المعروفة لدينا، ونحن نعلم من السنة الربانية -وكل إنسان يعلم هذا- أن كثيراً من الناس دعوا الله عز وجل فجنبهم الله مصائب حاقت بمن حولهم، وهذا بفضل دعائهم لله عز وجل، بل حتى المشركين إذا دعوا الله عز وجل في البحر فإنه ينجيهم. إذاً: الدعاء سبب واضح مجرب يدفع بعض ما يقتضي في علمنا الإنساني البشري وقوع الشر ووقوع المصيبة، التي قد تكون مكتوبة عند الله أنها لا تقع، فالمسلم مطلوب منه أن يدعو الله عز وجل ويتخذ ذلك الدعاء سبباً لدفع الشر، ودفع البلاء الذي يتوقعه والذي يخافه، فلا ننسى دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل وقت وفي كل حين، ولو من أجل شيءٍ بسيط.

حكم من يقول عند قراءة الإمام (إياك نعبد وإياك نستعين) استعنا بالله

حكم من يقول عند قراءة الإمام (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) استعنا بالله السؤال يقول: عندما يقول الإمام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كثير من الناس يقولون: استعنا بالله، فما هي نصيحتكم لهم؟ A ننصح هؤلاء بألا يقولوا ذلك؛ لأن هذا لم يرد، وإنما عليك أن تنصت إلى قراءة الإمام إن كان يقرأ جهراً، وأنت إذا قرأت تقول بنفسك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وإذا كان الإمام يقرأ؛ فإنك تسمع وتخشع لقراءته وتنصت لها، هذا هو القول الصحيح الراجح في مسألة القراءة خلف الإمام، فهذا لم يرد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي}.

وجوب العدل بين الزوجات

وجوب العدل بين الزوجات Q ما رأيك في الرجل الذي يتزوج امرأتين ولا يعدل بينهما؟ ثم ما هي نصيحتك لأولئك الأخوات اللاتي حضرن ولأول مرة في هذا المسجد؟ A قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من تزوج امرأتين ولم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل}. وقد أمر الله تعالى بالعدل وقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، والعدل مطلوبٌ في كل شيء. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والمقسطون هم الذي يعدلون في أهليهم وما ولوا} أي: تولوا من الأعمال. فالعدل به تقوم السماوات والأرض، وعليه قامت، ويجب علينا جميعاً أن يكون العدل هو شأننا ودأبنا في جميع أمورنا، ولا سيما بين الزوجات، فيعدل فيما يملك، في المبيت، وفي النفقة، وفي الأمور الظاهرة التي بينها الشرع بالتفصيل، ولا يجب عليه -وهذا من فضل الله- أن يعدل فيما لا يملك، كأن يميل قلبه إلى إحداهن لكن لا يظهر أمام الأخرى ذلك، وإنما يجب أن يحرص على أن يظهر أمام كلٍ منهما على أنه يعامل الأخرى بالمثل، سواء بسواء، فإن كانت الأولى فلها حق العشرة السابقة، وإن كانت الأخرى فلها حق أنه تزوجها فرضيت به مع أن لديه زوجة وهكذا. فالمؤمن يجب أن تكون حياته بالعدل ما أمكن، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سددوا وقاربوا} العدل عسير، لكنه ليس عسيراً على من سدد وقارب، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ييسره عليه، والنصيحة إلى هذا الأخ أن يتوب وأن يتقي الله، وكل من يفعل ذلك عليه أن يتقي الله تعالى في أهله ونفسه وما ولاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وأما النصيحة إلى الأخوات فإنها لا تخرج عما ننصح به أنفسنا جميعاً، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، ودين الله عز وجل وكتابه وهدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو للمؤمنين وللمؤمنات معاً، وإن ورد الخطاب بصيغة الرجال أكثر، فهو لأنهم قوامون على النساء، والنساء لهم تبع في ذلك كله. فالذي أنصح به إخواني عامة ونفسي به أولاً: هو تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنها وصية الله إلى الأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وهي الوصية التي كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي بها أصحابه، وكان أصحابه يتواصون بها. والتقوى في حق الأخت المسلمة لها أمور تختلف عن الرجل؛ لأنها معرضة للفتنة، إما أن تُفتن وإما أن تَفتن؛ ولأنه يدار لها في هذا الزمان ويحاك لها مؤامرة خطيرة، يراد أن تتخذ المرأة المسلمة منفذاً لهدم المجتمع المسلم، ولهدم العقيدة الإسلامية، ولأن النساء هن أكثر أهل النار، كما ذكر ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اطلع على النار، والنساء بلا شك أكثر عدداً من الرجال، ولعل من أسباب كونهن أكثر أهل النار: أنهن أكثر في العدد، وأيضاً لأنهن أكثر تعرضاً للفتنة وأكثر استجابةً لها. والحمد لله رب العالمين.

الشباب مسئولية من؟

الشباب مسئولية من؟ بدأ الشيخ هذا الدرس بمقدمة عن أهمية الشباب في بناء الأمم وسقوطها، مبيناً بعض أحوال الشباب في مجتمعاتهم، ثم بدأ يستعرض بعض المؤثرات التي لها دور في إصلاح الشباب أو إفسادهم، مركزاً على دور الأب والأم في تربية الأبناء، وذكر بعض الأمثلة، ثم تكلم عن دور المدرسة الحاضن الثاني للأبناء مبيناً ضعف جانب التربية فيها، وتكلم عن حال الطلاب مع محيط المدرسة من مدرسين ومناهج ونظام. ثم تكلم عن المناهج وخصها بالذكر لأهميتها ودورها في صياغة فكر الطلاب، ثم ذكر نبذة عن الشباب المنحرف، وبين أسباب فساد الشباب في هذا الزمان والمتمثلة في ضعف التربية وفساد وسائل التوجيه العامة من إعلام وغيره.

أهمية الشباب في بناء الأمم أو سقوطها

أهمية الشباب في بناء الأمم أو سقوطها الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على خير خلق الله أجمعين، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: إنه بقدر اتساع مشاكل الشباب، وهمومهم، وواجباتهم، وكذلك بقدر واجبنا نحوهم؛ يكون موضوع (مسئولية الشباب) موضوعاً واسعاً جداً، لا يمكن بأي حالٍ أن يستوعبه كلام عابر في لقاء محدود؛ بل يجب أن يكون قضية عامة في أي مجلس، وأن تخصص له مراكز وأجهزة ومؤسسات لدراسته؛ ولا سيما في هذا العصر المعقد.

زيادة الشباب في أمتنا الإسلامية وقلتهم في الغرب

زيادة الشباب في أمتنا الإسلامية وقلتهم في الغرب إن أولى البشائر التي نبشر بها إخواننا الشباب، أن هذه الأمة أمةٌ شابة في جملتها وفي مجموع حياتها؛ ثم إنها أمة شابة في واقعها الذي تعيشه الآن وفي هذه الظروف، فأكثر أمم الأرض شباباً هي الأمة الإسلامية والحمد لله. كانت أكثر الأمم عدداً في أوائل هذا القرن هي أمم الغرب، فقد كانت دول الغرب تعد بعشرات الملايين؛ في حين كانت بعض الدول الإسلامية مثل: مصر -قبل مائة سنة- كانت خمسة أو ستة ملايين فقط، بينما كانت بريطانيا تزيد على 20 مليوناً، وكذلك فرنسا وأمثالها. فكانت أمم الغرب أكثر أمم الأرض شباباً، ولكن من حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن أترف هؤلاء في الحياة الدنيا، وأعطاهم زينة ومتاعاً يستدرجهم به، ويمهلهم حتى يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر. لقد جاء الوقت الذي اشتغلت فيه هذه الأمم بلذاتها وشهواتها من جهة، ومن جهة أخرى استفاقت أمتنا -والحمد لله- واستيقظت، والعوامل في ذلك كثيرة - عوامل انحدار أولئك، وعوامل إفاقة هذه الأمة- لا مجال لعرضها، وهناك عوامل أوسع وأعم من عوامل الانحدار أو الإفاقة، وهي عوامل بشرية بحتة. فهذه العوامل بجملتها أدت إلى أن تصبح الأمة الإسلامية هي -والحمد لله- أكثر أمم الأرض شباباً؛ ولو أخذنا مثالاً على ذلك تركيا -مثلاً- سكانها الآن أكثر من 70 مليوناً، نسبة الشباب فيهم عالية جداً، لا تكاد تقارن هذه النسبة لو قارناها بـ ألمانيا وتركيا، فهما أكثر دولتين بينهما نوع من العلاقة العمالية وما أشبه ذلك؛ حتى إن ألمانيا لما أرادت أن تضع إعانات لزيادة عدد السكان كان أكثر من حصل على هذه الإعانات هم العمال الأتراك، الذين يعملون في ألمانيا. إذن نحن أمام خير كثير -والحمد لله- فالأمة شابة، نحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها؛ لكن هذا يستتبع مشكلات ومسؤوليات وتبعات كثيرة جداً، فمن يربي هؤلاء الشباب ومن يوجههم ويقومهم؟ قبْل أيام قليلة فقط أصدرت الأمم المتحدة بياناً عن الإحصاء العام للعالم، وذكرت أنه في نهاية عام (2000م) سيصبح عدد المسلمين (ألف وستمائة مليون).

أحوال المجتمع وواجبه تجاه الشباب

أحوال المجتمع وواجبه تجاه الشباب إننا لو افترضنا أن الشباب فقط (ستمائة مليون) معنى هذا أن الشباب المسلم وحده سوف يكون أكثر من عدد سكان أوروبا بشيوخها وشبابها وصغيرها وكبيرها، وهذا يستتبع مسئولية عظيمة جداً؛ فهم يخافون منا، ونحن إلى الآن لم ندرك قيمتنا، ولم نعرف واجبنا، ولم نضع نوعاً من الأسس العامة لتربية هذا الشباب واحتضانه؛ بل إن أكثر ما عندنا من توجيه للشباب هو: لوم هؤلاء الشباب، فإن تحدثنا عن الشباب فباللوم، فالشباب المنحرف يلام من الدعاة ومن الشباب المستقيمين؛ ومن الوعاظ، والخطباء، ومن رجال الأمن، ومن كل من يهمه صلاح المجتمع، ومن كل من يصطلي بنار الفساد والانحراف الذي يأتي من قبل هؤلاء الشباب، فنجد اللوم الشديد لهم، وهذا الكلام هو بالنسبة إلى الشباب المنحرف، وأما الشباب المستقيم، فإنه يذم ويطعن فيه، ويتهم بالتهم التي لا تخفى على أمثالكم. إذاً فعماد الأمة، وقوام وجودها، وأساس نهضتها -بإذن الله تبارك وتعالى- هم الشباب المستقيم، فكيف توجه إليهم التهم من كل مكان؟! فإن تعرض متعرض أو متحدث لواقع الشباب، فأول ما ينصرف إلى أن الشباب لا يقدرون المسئولية، والشباب لا يقوم بواجباته، ويعزف عن الأعمال الضرورية للأمة والمجتمع إلى أعمال أخرى، ويضيع أوقاته ووهكذا؛ لكن أين البديل؟ أين ما خُطِّط له ليكون هذا الشباب كما نريد من الاستقامة؟ وكما يريد الله تبارك وتعالى له؟ نحن نعيش في هذا الوضع الحرج الصعب، وحال شبابنا أشبه ما يكون بقول القائل: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

غياب دور الأب والأم في تربية الأبناء

غياب دور الأب والأم في تربية الأبناء فماذا فعل الأب؟ وماذا فعلت الأم؟ بل ماذا فعلت المدرسة؟ وماذا فعلت وسائل الإعلام والصحافة؟ وماذا فعل المسجد؟ فلو اختبرنا هذه العناصر الأساسية في بناء الشباب وتربيته وتوجيهه؛ لوجدنا التقصير الشديد في حق هؤلاء الشباب، وقد يطول المقام لو ضربنا الأمثلة على هذه كلها؛ أما الآباء فأجزم جزماً -وعندي الأمثلة والأدلة عليه- أن بعضهم لا يدري عن ابنه أين ينام؟ وأين يذهب؟ ومن أين يأكل؟ ومن أين يأخذ مصروفه؟ بل بعضهم لا يدري في أية سنة يدْرس أبناؤه! وحصلت أمثلة كثيرة من ذلك. فقد حدثني أحد مديري المدارس في الثانوية: أنه أرسل إلى أحد الآباء يطلب منه الحضور لمعالجة وضع ابن له، وهذا الابن طالب في الأولى الثانوية؛ قال: فتأخر الأب فقال له: لماذا تأخرت؟ قال الأب: ذهبت إلى المتوسطة، فقد كنت أظن أن ابني في الثالثة المتوسطة، فذهب إلى المتوسطة وهي في حي بعيد، وقال للمدير: طلبتموني فجئت، فقال له المدير: ما طلبناك، قال: بل فعلتم وأنا أبو فلان، فقال له المدير: سامحك الله؛ إن ابنك تخرج العام الماضي، فاذهب وابحث عنه في أية ثانوية ففكر الأب واتصل بالأم، ثم بحث عنه فوجده في مدرسة أخرى. وهذا الموقف هو واحد من نماذج كثيرة، تبين أن الأب لا يدري شيئاً عن ولده، وبعض الآباء يقولون: شباب اليوم خائب، وليس فيه خير، وشباب اليوم كذا وينسون واجبهم هم. إن مثل هذا النموذج قد يكون كثيراً، وإن التقصير أيضاً كثير، وإن عقوق الآباء للأبناء موجود، وكذلك الأم، فكثير من الأمهات يهمها حضور الحفلات والزيارات والتسوق والتجول، وتذهب هنا وهناك، ولا تدري عن أبنائها أو حتى عن بناتها شيئاً، والخادمات هن اللاتي يتولين تربية الأبناء، ولهذا فإن هناك من المفاسد والأضرار ما لا يتسع له المقام، قد حدثت كثيراً حتى من ناحية الصلة المعنوية والإحساس والشعور النفسي. ولا بد أن كثيراً منكم قد سمع عن هذه الأسر: عندما سافرت الخادمة، بكى الأبناء بكاءً مراً، وهم يودعونها إلى المطار؛ والأم تسافر في العطلة، وتذهب أينما تشاء، ولا يبكي أحد من أبنائها لماذا؟ لأن الطفل يبكي على الحنان الذي سيفقده، وأما الحنان الذي لم يره ولم يشعر به فلا يبكي عليه؛ إنما يبكي على هذه التي عطفت وشفقت عليه، وحملته وربته وأرضعته. إذاً: فالذي قام بهذه التربية هن أولئك مع أن فيهن ما فيهن، فمنهن التي ليست بمسلمة أصلاً، ومنهن التي لا تعرف من دينها شيئاً، ومنهن التي لو كانت عابدة تقية فأقل ما يمكن أن يتربى عليه الطفل أنه يتربى على لغتها وعلى مفاهيمها؛ وأمه تلك التي قد تكون عاملة أو مثقفة، لم يستفد ولم ينل من ثقافتها شيئاً. إذاً: فنحن أضعنا البيت؛ الأم والأب أضاعوا الشباب، وهذه إيماءة أو إشارة إلى ما وراءها، ولا يخفى عليكم ما بعد ذلك.

دور المدرسة في تربية الأجيال

دور المدرسة في تربية الأجيال لو نظرنا إلى المدرسة فإننا نجد أن العدل والإنصاف يقتضي منا أن نقول: إن الشباب مظلوم في المدرسة؛ نعم! كثير من الشباب لا يقبل التوجيه، وكثير من المدارس والمدرسين فيهم من الخير ما فيهم، لكن يبقى للشباب حق، وأنه يحتاج إلى صوت يقول لهؤلاء: أنا مظلوم وأنا لم أنل حقي الذي يجب عليكم شرعاًَ أن تعطوني إياه، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته}. وهذا النص وهذا الكلام هو من جوامع كلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي أوتيها، ولو جمعنا كل علماء القانون والتربية والاجتماع وعلم النفس، وكل هؤلاء الذين يبحثون ويضيعون الأعمار في تأصيل مسئولية الأمة وأجهزتها تجاه ما عليها من الحقوق، لم نصل أبداً إلى مثل هذا النص الجامع الصريح الواضح: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}، ابتداءً بالإمام فهو راع للأمة ومسؤول عنها كما قال عمر -رضي الله عنه-: [[لو أن بغلة تعثرت في العراق لسئل عنها عمر]] وانتهاء بالزوجة وفي رواية: بالعبد الرقيق الذي هو راعٍ في مال سيده وهو مسئول عن رعيته. إنَّ الأحكام يشترط لمن يؤديها أن يكون حراً ذكراً بالغاً أما العبد فقد سقطت عنه كثير من الأحكام والواجبات؛ ومع ذلك فإن مسؤوليته لا تسقط أبداً مع أنه أقل عضو أو عنصر في الأمة. إذاً، لو نظرنا أو تأملنا المدرسة لوجدنا أن هناك خللاً كبيراً في التربية، ولا يتسع المجال هنا لتفصيله؛ من حيث تعامل المدرسين، ومن حيث المناهج، ومن حيث الأسلوب العلمي أو الطريقة التي تمكن للنظام أو المنهاج العام غير المنهج الدراسي. فنحن نعيش الآن -كما ترون- كثيراً من آثار هذا التذبذب وهذا الاقتراب، أما من حيث المدرس؛ فالمدرس: إما أن يكون نموذجاً للجيل الضائع -جيل الطفرة الذي لم يتربَّ ولم يعرف كيف يسير في هذه الحياة- وُكِّل إليه أبناء وهو لا يحسن تربية نفسه فضلاً عن أن يحسن تربيتهم؛ وإما أن يكون لديه جانب علمي جيد، ولكنه ليس لديه جانب تربوي؛ فكيف يعطي؟! وكيف يبلغ هذا العلم؟! فليس الحل هو المواد التربوية التي يزعمونها، فهذه مواد في الحقيقة هي: فلسفة التربية أو هي عبارة عن فلسفة غربية للتربية، وليست هي التربية النبوية التي يجب أن تكون عليها الأمة، إلا ما عُدِّل وما يحاول أن يعدَّل، ففيها شيء من ذلك. وإن كان المدرس ناجحاً مستكملاً للشروط؛ فإن مدرسين آخرين يخذلونه في واجبه، فما يرتقه يفتقونه، وما يصلحه يفسدونه، بالإضافة إلى المفسدات أو العوامل الأخرى المثبطة في المدرسة، فالأمة تحتاج إلى تكامل، وهذا واقع نراه جميعاً في هذا الميدان وحده في مدارسنا أو في كثير منها.

فساد مناهج التربية في المدرسة وتناقضها

فساد مناهج التربية في المدرسة وتناقضها إن نظرنا إلى المناهج؛ فسبحان الله! إن العقل البشري فطره الله تعالى على الانضباط، وجعل الفطرة لا تتناقض معه، ولهذا لو نظرنا إلى كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يخاطب الفطر، ويخاطب العقول أَلَّا تتناقض، فمثلاً: خطابه للمشركين كيف تعرفون وتقرون: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، فكيف تتناقضون، وتقولون: إنَّ الله هو الخالق ثم تعبدون غيره، وهذا كثير جداً؟! إذاً: هذه هي أهم قضية وهي قضية التوحيد؛ فنجد القرآن دائماً لا يخاطب النفس بمنهج مضطرب؛ لأنها ترفض التناقض، لكننا نجد مناهجنا متناقضة، ففي مادة التوحيد يدرس الطالب أن هذا من الشرك، ويدرس في الحديث أو في مادة الثقافة أن دين الإسلام دين شامل كامل إلى آخره -وهذا حق-. ثم تأتي مادة أخرى كمادة الاجتماع أو الأدب أو غير ذلك -فتصنف بعض العلوم، أو بعض المجالات والميادين على أنها خارجة عن نطاق الإسلام وعن نطاق الدين؛ فيقرأ الطالب حديثاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلاً في مادة الحديث كقوله: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه} أو حديث: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت} إلى آخره -وهذه أشياء بدهية- ويجده يقرأ في مادة الأدب قطعة تحتوي موضوعاً عن الهجاء، أو موضوعاً عن الغزل -من أوله إلى آخره- وأنواعه، ومن الذين بلغوا القمة فيه؟ فيكون فيه القذف، وفيه الكذب، الافتراء، وفيه ما فيه مما يخالف ما قرأه في المادة الأخرى وهكذا. وهذا غير التناقض الذي نجده في مواد أخرى مثل الذي نجده بين العقيدة والتاريخ، فيدْرُس في العقيدة أن الباطنية فرقة هدامة كافرة ومرتدة -هذا إن درسها- وقد ألغيت المادة التي تتعلق بهذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يَدْرُس في التاريخ أن العبيديين أو الفاطميين لهم حضارة، ولهم ولهم من الأمجاد الكثيرة، وربما ترفق صور للقباب التي بنوها، والضرائح التي عملوها، وهذه من الشرك؛ لأنها تخالف ما تقرر في التوحيد، وهكذا يتناقض الشباب، ولا يدري كيف يفكر، ومن أين يأخذ، فأقل ما في هذه المناهج أن يعيش الطالب وقد استقر في ذهنه هذا الانفصال الكبير، بين حقائق إيمانية دينية وبين أمور أخرى قد تكون علمية؛ كما تسمى وتصنف لهم.

شمولية المنهج التعليمي في الإسلام

شمولية المنهج التعليمي في الإسلام نأتي إلى موضوع المنهج العام للأمة الذي يجب أن تسير عليه في تعليمها، فنحن -والحمد لله- الأمة التي علمت العالم، والأمة التي علمت الدنيا كلها. فهذا تاريخ الحضارات الموجود أمامنا، وما عرفت الدنيا كلها تعليماً عالمياً أبداً، ولا حضارة عالميةً أبداً إلا بالإسلام ومن المسلمين؛ فكل الحضارات الماضية -الرومانية واليونانية- كلها حضارات محلية محدودة، لم تكن تفكر تفكيراً عالمياً، ولم تعط نظرة تربوية عالمية أبداً، فجاءت هذه الأمة، بهذه الحضارة التي انبثقت من خلال أمة تؤمن بالله واليوم الآخر، ونظرها أبعد من هذا العالم؛ لأنها تؤمن بالآخرة التي هي المجال الرحب والواسع جداً، أما هذه الدنيا فقد استوعبتها، وكل أنواع ووسائل التعليم وطرائقه وأساليب التلقين، قد دُرِست وهضمت في هذه الأمة -والحمد لله- وكُتب عنها المؤلفات. أما أوروبا، ويؤسفنا أننا نضطر أن نقارن دائماً؛ لكن واقعنا هو أن الفكر الغربي يسيطر على أكثر أمور حياتنا ومناهجها؛ فنضطر أن نقارن هذه الأمة بأوروبا التي مرّ عليها أكثر من ستة قرون لم يؤلف فيها كتاب واحد، في أي علم وفي أي فن، ولا حتى وريقات؛ في الوقت الذي كان في هذه الأمة يؤلف بعض علمائها (200) كتاب أو (300) أو أكثر. ومن ذلك ما يتعلق بتربية الإنسان وبتربية الشاب منذ أن يولد؛ بل من قبل ذلك -والحمد لله- من الزواج، فقد علَّمنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف نختار، ثم علَّمنا العشرة مع الزوجة، ثم علَّمنا أول ما يولد الطفل ماذا نفعل، إلى أن يربى وإلى أن يكبر، فهناك منهج مرسوم وواضح. ومن الناحية العملية رسم لنا علماؤنا منهجاً عجيباً فريداً جداً لا نظير له في الدنيا، ويكفينا أن نعلم أن خيرة علماء الأمة وحفاظها تصدروا للتعليم والتدريس والإفتاء، وبعضهم دون العشرين، وبعضهم قريب من العشرين، فكيف وصل هؤلاء؟ ابتداءً من عبد الله بن عباس ونظرائه من الصحابة، وانتهاءً بالإمام مالك والشافعي وأحمد وغيرهم؛ ففي سن مبكرة يصبح اسم هذا العالم يتردد في جنبات الدنيا شرقاً وغرباً، رغم أنه كانت وسائل الإعلام محدودة جداً، فكيف حصل هذا؟! نحن الآن يدرس الطالب (18سنة)، وتأتي إليه وهو شبه أمي! (6 سنوات) مرحلة ابتدائية و (6 سنوات) مرحلة متوسطة وثانوية، فهذه (12 سنة)، وبعد ذلك يأخذ (4 سنوات) في الجامعة -وبعضهم لا يكتفي بالأربع، فالذي يتخرج الآن من الجامعة بعد (4 سنوات) يعد مجتهداً أو مثالياً، وكذلك قد يكمل البعض أكثر من ذلك (18 - 20 سنة) حتى يتخرج مع من يرسب ومع من يعيد؛ فتجده يكاد أن يكون أمياً ما أتقن شيئاً؛ وهذا خلل كبير في المناهج وخلل في أسلوب التعليم، إذن فهذا حال الشباب في المدرسة.

دور المجتمع في إصلاح الشباب

دور المجتمع في إصلاح الشباب وعندما ننتقل إلى المسجد فماذا نجد؟ فالخطباء والدعاة أكثر ما يتكلمون -كما أشرت- إلى عيوب الشباب، وذنوبهم الشباب، وأخطائهم؛ بل ربما قد تكون كلمة المتحدث، أو موعظة الواعظ مما ينفر الشباب الذين يحضرون إلى المسجد؛ فضلاً عن الشباب الذين لم يدخلوا المسجد؛ فليس هناك نوع من الخطاب المدروس، وكيف يخاطب هؤلاء الشباب خطاباً مدروساً، ليعي واجبه، وليفقه حقيقته، وليعرف ما له وما عليه؟ أما الشباب الذينهم خارج المسجد، فيكاد يكون أمرهم ساقطاً من حساب أهل المسجد ومن يأتون إليه، وعند خروجهم من المسجد سواءً كان ذلك بعد محاضرة فيها المئات منهم، أو كان ذلك بعد صلاة جمعة؛ قد يجدون أمام المسجد تجمعات من الشباب الذي لا يصلي فلا يؤبه لهم، ولا يخاطبون، وكأننا غير مسئولين عنهم، فأصبحت هذه ظاهرة عادية جداً؛ ولنأخذ مثالاً: صلاة المغرب التي يجتمع بها أكثر عدد من المصلين بالنسبة لبقية الفروض، وكما ترون يخرج الناس تباعاً، فيجدون كثيراً من تجمعات هؤلاء الشباب بجوار المسجد وفي الشارع، فلا يكلمون أحداً منهم، ولا ينظرون إلى أحد منهم أيضاً، ثم في النهاية نأتي ونلوم هؤلاء الشباب؛ فماذا قدمنا لهم؟ ماذا عملنا لهم نحن المصلين أو الدعاة أو الخطباء أو الوعاظ؟ لا شيء، بل ربما لم نفكر فيما يجب علينا نحوهم.

وسائل وأسباب انحراف الشباب

وسائل وأسباب انحراف الشباب فإذا انتقلنا إلى وسائل التوجيه العامة، نجد أنه يقصر التعبير عنها، إن قلنا: إنها لا توجه الشباب توجيهاًً صحيحاًَ، فهذا التعبير قاصر جداً عن الحقيقة، بل نقول: إنها توجهه توجيهاًً سيئاً ومنحرفاً إلا ما ندر أو قل؛ أما الصحافة فإن الشاب يشتري الجريدة، فيجد فيها أربع صفحات أو أكثر -أحياناً- ملحقاً كاملاً كله عن الرياضة؛ ففيها لهو ولعب، وأخبار عن النجوم والأبطال، فمن هم هؤلاء النجوم والأبطال؟ علَّمنا شبابنا أن البطل هو بطل السينما، وأن النجم هو الممثل أو الممثلة وأن وأن؛ فأصبح الشاب لا قضية له ولا هم له إلا هذه الأمور، وأكثر الشباب لا يشتري جرائد إلا لهذه الأمور، فإذا ترك هذه الأمور وهذا العفن أو نظر ومد بصره إلى الصفحات الأولى، فماذا يجد؟ سيجد أخباراً وقضايا لا تهمه، ولا تعيشها أمته، ولا علاقة له بها. ثم بعد ذلك نقول: الشباب مقصر، الشباب يقترف الإجرام، ونجد أكثر من عصابة من الشباب، وعندما حُقِّق مع عصابات سرقات أو مخدرات، اعترفت أنها رأت هذا العمل في الأفلام؛ فهل نتج عن هذا منع لهذه الأفلام؟ وقد حصل أن قُبِضَ على شاب في خلوة وفي زنا ثم عوقب -ولا بأس فهذا أمر قرره الله وشرعه الله- لكن هل حصل أن عاقبنا صاحب الفيلم أو صاحب الفيديو الذي أنتج الفيلم، والذي أثار غريزة هذا الشاب للزنا؟ وهل عاقبنا المجلة التي أفسدت فطرة هذا الشاب، ودعته إلى الفاحشة؟ وهل عاقبنا الذين يدفعون هؤلاء الشباب في مجالسهم وفي ملاهيهم وفي كازينوهاتهم أو في مقاهيهم وفي التبرج؟ بل بالعكس؛ فقد تهيأ أحياناً بعض هذه الأمور على أنها من أمور الترفيه العام، ثم إذا عمل الشاب شيئاً عوقب وجلد؛ ولذلك لم يصلح هؤلاء الناس اليوم.

من أسباب انحراف الشباب

من أسباب انحراف الشباب أقول بكل أسف: لماذا لا يصلح الشباب الذين يسجنون؟ فالأصل في المجتمع المسلم: أن من يقام عليه الحد أو يجلد أنه يتوب ويتطهر، وهو كفارة له كما في حديث عبادة المتفق عليه، والذي يبين أن العقاب كفارة له عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أما الآن هل يستقيم هذا الشاب؟ لا، فمن يدخل السجن هذه الأيام يزداد إجراماً، لماذا؟ وما أسباب ذلك؟ لا نقول: إن السبب الوحيد أنه يفاجأ بفعله؛ بل كل ما فعله وما في ذهنه أن يفعله ينسق مع ما ترَّبى عليه، فلما عمل هذا العمل جاءه اللوم، وجاءه العتاب، وقمع وضرب وسجن، لماذا؟!! وقد يقال له: كيف تخلو بهذه الفتاة مثلاً؟! وكيف تتفق أنت وهي وتذهبون وتسافرون إلى مكان بعيد إلى الخارج؟! فيقول في نفسه: عجيب! كل يوم أنا أرى في الأفلام أناساً يختلون بنساء ولا قرابة بينهم! وكذلك أركب الطيارة، وأجد أن المضيفات ليس لهن محرم، ويخلو بهن الناس أيضاً، سبحان الله! وأيضاً أذهب إلى المستشفى فأرى الممرضات بدون محارم، ونحن لا نبرر ذلك لكن نقول: نحن على منهج مضطرب، ويجب أن نكون صادقين في تربيتهم أي: الشباب فمثل هذا يرى أنه يعاقب بشيء، تقول له نفسه وشيطانه: إنه يتمشى مع ما رُبي عليه، وهو مع ما يراه؛ ولكن لو أننا فعلاً جففنا كل منابع الشر ومنعناه عن الأمة، ونحن نعرف أن الشرع الذي حرم الزنا أول ما حرم النظر؛ لأن النظر وسيلة، وهذه قاعدة عامة من ديننا، والأمثلة عليها كثيرة جداً، لا نستطيع الآن أن نأتي بأدلة عليها، وهي قاعدة (سد الذرائع) فكل شيء محرم؛ فإن ما يؤدي إليه يحرم.

عقبات أمام التزام الشباب

عقبات أمام التزام الشباب ثم نأتي إلى الشباب المهتدي، هذا الشاب الذي سَلِمَ من كل هذه العوارض والعوائق -والحمد لله- تخطَّى عقبة البيت والخادمة والأم والأب، وتخطَّى عقبة المدرسة وما فيها من مشاكل ومدرسين وفساد في المناهج، وتخطَّى عقبة الإعلام مثل الحصان الجواد السابق الذي قد تخطَّى حواجز كثيرة جداً جداً، حتى وصل إلى بر الأمان. وحاله يقول: الآن التزمت وتمسكت واهتديت -والحمد لله- وعرفت الله، فمن يشجعه على هذا؟ بل قد تبدأ الدوامة من جديد؛ فكل من كان يلومه على ما كان يفعله وهو في ضياعه يلومه الآن، فهذا يقول له: يا أخي أنت متزمت جداً، حتى لحيتك جعلتها هكذا، وهذا يقول له: حتى زوجتك لا يراها أحد حتى إخوانك؟ والله إنها مصيبة، ثم تأتي الجرائد وتقول: (هؤلاء المتطرفون والأصوليون). والعجيب أنه إذا جاء هذا المسكين يتكلم في الشرك، قالوا: كفَّرت الناس! كفَّرتنا ونحن مسلمون! -لا حول ولا قوة إلا بالله- وإذا تكلم في السنة قالوا: أنحن أهل بدع؟! بدَّعتنا وضللَّتنا! وحتى بعض الدعاة يقول: هذا ليس عنده حكمة في الدعوة. فمن أين تأتي الحكمة، أو من علَّمه الحكمة؟! الحمد لله أنه اهتدى، وبدأ يتكلم؛ فلا تهاجموه بل وجهوه، ونقول للدعاة: إن التوجيه من قبلهم قليل، وقد يكونون معذورين، وقد لا يكونون كذلك فهذا أمر آخر. لكن المقصود أن الشباب -حقيقة- يعاني ويتعرض لضغوط شديدة، قد تجعله ينحرف ويرجع، ويقول: ولم لا أكون كما كنت؟! وإذا بدأ العد التنازلي فإنه لا ينتهي إلى حد، فيبدأ يهمل موضوع السنن مثلاً، ثم موضوع الحجاب بالنسبة للزوجة، ثم هكذا حتى يعود في النهاية إلى ما هو أسوأ مما كان عليه! نسأل الله العفو والعافية! إذاً: هناك قضية مهمة جداً يجب أن نتنبه لها جميعاً، وهي أن الشباب في هذه الأمة مظلوم على ما فيه من أخطاء، وعلى ما فيه من أمور ليس هذا المقام مقام تفصيل لها، ولا أن نعذره بها، لكنه مظلوم من جانب؛ وهو يعاني العقوق بينما يشكو الآباء من عقوق أبنائهم، ويشكو المدرسون من عقوق طلابهم أيضاً، فكذلك الابن يعقه أبوه، ويعقه مدرسوه، وتعقه أمته بهذا التوجيه السيء المنصب عليه ليل نهار، والذي نهايته هذه البلبلة وهذه الحيرة.

غياب دور الدعاة والعلماء عن الاهتمام بالشباب

غياب دور الدعاة والعلماء عن الاهتمام بالشباب إننا نجزم جزماً أنه لو استقامت أمور هذه الأمة، ومؤسساتها الدعوية -ومن أهم ذلك البيت، والمدرسة، والمسجد، ووسائل الإعلام- لو استقامت كما يريد لها الله؛ لغيَّر شباب هذه الأمة وجه الدنيا كلها. فالآحاد منهم -قلة أو عشرات- نبغوا في علوم لم يكن أحد يتوقع أن ينبغوا فيها، فمن توجه منهم للإنفاق في سبيل الله أتى بالعجائب، ومن توجه للجهاد أتى بالعجائب، ومن توجه للعلم أتى بالعجائب، وهكذا مع كل هذه العقبات. ولو وُجهت الأمة كلها طاقاتها وقواها وخططها إلى التوجيه الصحيح والسليم، الذي لا يتناقض ولا يضطرب ولا يتعارض، لوجدنا فعلاً أن هذا الشباب سيكون -حتى مع انحرافه- كـ أبي محجن الثقفي؛ وتعلمون قصة أبي محجن في يوم القادسية فـ أبو محجن كان شاباً عابثاً، شرب الخمر، فسجنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -وهو قائد الجيش أيام القادسية - في قصره؛ ودارت المعركة التي لم يشهد التاريخ القديم لها نظيراً، فليالي القادسية -الطويلة المشهورة- ما كانت حتى كاليرموك، بل أشد بكثير؛ فـ أبو محجن هذا -وهو الذي سجن لشربه الخمر، وتعلمون أن أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الشاب هو أن يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات عياذاً بالله- تحسَّر وتقطَّع قلبه أنه لم يكن في الجيش؛ فطرق على امرأة سعد، وصرخ فيها، وعاهدها بالله لئن أعطته فرس سعد رضي الله عنه (البلقاء) وخرج، ليقاتلن ولَيَرَيَنَّ الله تعالى ما يصنع، فإن سَلِمَ ليعودن إليها، وأنه لن يمنعه من العودة إليها إلا أن يُستَشْهَد في سبيل الله؛ فقبلت منه، وأعطته الفرس وخرج. فعجب المسلمون من هذا الرجل الذي يضرب في الأعداء، فإن أتى على ميمنتهم أخذ فيهم ما أخذ، وإن أتى على ميسرتهم فتك بها، وإن وقف منهم صنديد بوجه المسلمين بطش به، والناس يتعجبون، وسعد يقول: [[والله لولا أنَّ أبا محجن في القيد، لقلت: إنه أبو محجن وأن هذه هي البلقاء]] وكان سعد رضي الله عنه مريضاً، وعندما افترق الصفان، وأظهر الله تعالى المسلمين رجع أبو محجن قبلهم، ووضع القيد في يديه، وأرجع البلقاء إلى مكانها؛ فجاء سعد وقال لامرأته: رأيت عجباً! قالت: وما رأيت؟ قال: كذا وكذا، قالت: فإنه أبو محجن، وإنها البلقاء! فنقول: هذا مثال والأمثلة كثيرة جداً، على أنه عندما يعيش الشباب قضيته، ويعيش هموم أمته، ويُوَجَّه التوجيه الصحيح، ويرى المعركة مشتعلة، فوالله سيأتي بالعجائب بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، على ما فيه من تقصير، وعلى ما فيه من معاصي؛ أما أن تتعاون فئات وجبهات كثيرة جداً عليه في حال انحرافه، ثم في حال توبته وهدايته، فلا نتوقع من هذا الشباب إلا أن ينجرف حتى في حال الهداية. فيؤدي به إلى جنوح بعض الشباب إلى الغلو في الأحكام، والغلو في بعض القضايا، أو جنوحه إلى نوع من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وكلاهما من الغلو المذموم، وإن أي خطأ قد يقع في العقائد أو في السلوك أو في التعامل مع المجتمع، فنحن -بالدرجة الأولى- المسؤولون عنه! نعم نحن قبل كل شيء؛ ثم بعد ذلك نلوم هؤلاء الشباب. نرجو أن نكون قد وفقنا -بإذن الله تعالى- في إثارة هذه القضية، وأن تكون حاضرة في أذهاننا جميعاً، لنعرف واجبنا نحو إخواننا الشباب، المنحرف منهم والمستقيم، الفاجر والتقي؛ ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يغفر لنا ولكم، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.

الأسئلة

الأسئلة

أسباب الفجوة بين الشباب الملتزم وكبار السن

أسباب الفجوة بين الشباب الملتزم وكبار السن Q غالباً ما تحدث فجوة بين الشاب الملتزم وبين كبار السن، فماهي الأسباب وكيف نتجاوز هذه الفجوة؟ A الأسباب كثيرة: منها ما يتعلق بالشاب، ومنها ما يتعلق بالكبار، والأمة الإسلامية لا تعرف هذا الانفصال الذي يُدَّعى دائماً بين الكبار والصغار، وبعض الناس يؤصلون هذا الانفصال، وينسبون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا ترغموا أبناءكم على أن يعيشوا كحياتكم، فإنهم ولدوا لزمان غير زمانكم" أو ما أشبه ذلك، وهذا الحديث باطل وكذب لم يقله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس في ديننا أن الشباب لهم رأي، وأن الكبار أو الشيوخ لهم رأي ووجهة أخرى، فلا نفترض هذا التعارض أو التضاد حتى لا نفكر كيف يجتمع هذا وهذا. وإن من حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جعل في الشباب طاقات، وهذه الطاقات توجهها حكمة الكبار، وتجاربهم؛ فالأمة جسد واحد، وكل عضو من هذا الجسد له قيمته وله دوره؛ فبعض الشباب قد لا يحسن أسلوب الدعوة، ولا يحسن التعامل -وكثيراً ما ننبه ولا نمل من هذا التكرار- إلى الإحسان في المعاملة وحسن الخلق، ولا سيما مع الوالدين الذين قال الله تبارك وتعالى فيهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فإذا كانا كافرين، ويجاهدانك على الكفر، وأُمرتَ بأن تصاحبهما في الدنيا معروفاً؛ فكيف بهما إذا كانا مؤمنين، ولكن لديهما بعض الأخطاء أو الانحرافات أو التقصير؟! فلا بد من الرفق والإحسان، ومن ناحية أخرى يجب على الكبار أن يتفهموا أيضاً مشاكل الشباب، وألاَّ يقيسوا الأمور من خلال مفاهيم وتقاليد ورثوها، ربما تكون خاطئة، وربما تكون بحاجة إلى تعديل، وربما يكون ما عند الشباب خير. لكن في بعض أمور الدين حقيقة، فالكبار ربما يكونون أكثر محافظةً على الصلاة -مثلاً- من الشباب، ولكن من جانب آخر، فالشباب أكثر إتقاناً لواجبات الصلاة وسننها وآدابها من الكبار، وهذا لا يعني الاختلاف، إنما يعني أن الابن يصحب أباه كلما استيقظ الأب وذهب إلى المسجد، والأب يأخذ من ابنه كيف يصلي، ولا يقل: (عشرون سنة وأنا أصلي هكذا، وأنت تأتي وتقول لي كذا) بل اقبل منه يا أخي، اقبل من ابنك؛ لأنه يعلم ما لا تعلم أنت، فلا بد من الإحسان والرفق والتفاهم من الطرفين.

تقلب حال المسلم في الطاعة بين الفتور والصحوة

تقلب حال المسلم في الطاعة بين الفتور والصحوة Q فضيلة الشيخ: حينما أكون مع الشباب الصالح أكون نشيطاً، ولكن إذا ذهبت إلى منزلي وإلى المدرسة أُصبح سلبياً، فهل هذه ازدواجية في شخصيتي؟ وبماذا تنصحون؟ A نرجو ألاَّ تكون ازدواجية، وإنما تكون كحال حنظلة رضي الله عنه كما تعلمون حديثه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولكن ساعة وساعة}. القلب البشري مشدود ومرتبط بالأرض، فالإنسان خلق منها؛ ولذلك هناك نوازع ودوافع تدفع الإنسان إليها، وهذا من حكمة الله؛ ليكون هو موضع الإبتلاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهذا العبد أيرتفع أم يهبط؟ والإنسان لا يستقر على حال، ولو أن كل إنسان عرف الإيمان واليقين والتوحيد استقر عليه؛ ما تفاضل الناس في الإيمان هذا التفاضل، ولا تفاضلت موازينهم يوم القيامة؛ لكن من الناس من يأتيه اليقين ثم يضعف ثم قد يفقده -عياذاً بالله- ومنهم من يأتيه الشك أيضاً ثم يضعف، ثم يذهب ويحل محله اليقين وهكذا، فالنفس الإنسانية لا تستقر على حال. ومن هنا أُمر الإنسان دائماً أن يتعاهد إيمانه، وأن يجدده وأن يحرص عليه؛ فإن من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص، لكن الواجب عليك يا أخي أن تأخذ من حال إقبالك لحال إدبارك، ومن حال يقينك لحال شكك، ومن حال قراءتك لكتاب الله وتلذذك به وتلذذك بالدعاء والمناجاة والضراعة، أن تأخذ من ذلك وتستبقي إلى الحالات التي تجد نفسك فيها قاسي القلب، لا ترى الخشوع، ولا تحس بلذة الضراعة ولا لذة المناجاة. هذا هو الواجب، وينبغي للإنسان أن يتعامل مع هذه النفس، وكثيراً ما يشكو الإخوان من هذه الظاهرة، وكثيراً ما تحدثنا عنها، وتحدث عنها العلماء رحمهم الله قبلنا.

خطر الخلاف بين الدعاة والملتزمين

خطر الخلاف بين الدعاة والملتزمين Q أنا شاب التزمت بدين الله -والحمد لله- ولكني فوجئت بواقع الشباب؛ حيث أنهم يعيب كل منهم الآخر، فكاد هذا الأمر أن يصرفني عن الالتزام وعن الطريق المستقيم، فما توجيهكم؟ A هذا جزء مما أشرنا إليه من التناقض، فالتربية إن لم تكن مضطردة، فلا شك أنها سوف توقع الشاب في الحيرة والربكة والتناقض، فإذا كان المدرسون متناقضين أو أن البيت يتناقض مع المدرسة يقع الشاب في الحيرة؛ فكيف إذا كان التناقض بين من هم في نظر الشاب يمثلون الخير والصلاح والاستقامة؟ ولا يعني ذلك أنه لا يوجد خلافات بين العلماء أو بين الدعاة فإنها موجودة، لكن ما فائدة أن تعرض هذه الأمور أمام الشباب؟! وما فائدة أن ينتقد الشباب بعضهم بعضاً، أو أن ينتقد بعض الدعاة بعضاً، أو أن ينتقد بعض الشباب بعض الدعاة أو العلماء أمام هذا الشاب الذي هو أحوج ما يكون أن يصلب عوده، ويقوى إيمانه في معرفة الحق والخير والتمسك. فالواجب والأساس هو: أن ندعو الشباب إلى التمسك بالكتاب والسنة إلى الحق لا إلى الرجال فنحن بالحق نعرف الرجال، وليس بالرجال نعرف الحق -أي أن المعيار هو الحق لا الرجال- فإذا أصَّلَت هذه القضية عنده أي: الشاب الملتزم واستوعبها وفهمها وتربى عليها، ثم علَّمته أدب الخلاف، وعلَّمته أن الأمة الآن متفرقة، وأنها تُخترق من أعدائها ولكن الحق واحد، وأن الطريق إلى الحق يمكن الوصول إليه -والحمد لله- بانتهاج منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم بالاستدلال والسؤال وكذا وكذا، فإذا تعلم الشاب وعرف ذلك؛ فإنه عندما تعرض عليه العوارض يكون لديه المنهج والميزان. لكن أن نبدأ بتعليمه المشاكل، وليس لديه ميزان ثابت، فهذا -وأقولها بكل ألم وأسف- أَوجد نوعاً من الشباب الذين انحرف بعد الهداية، وارتد بعد الاستقامة -نسأل الله العفو والعافية- لأنها أمور تُؤدِّي إلى خلل كبير في التربية، وتفقد الشاب القدوة؛ ومن طبيعة الشباب التعلق بالنموذج. فهذه قضية يجب علينا أن نعيها، فهي المدخل الذي دخل منه المجرمون والمفسدون؛ فعلموا الشباب أن النموذج هو لاعب الكرة، أو أن النموذج هو الممثل. فلا بد للشباب من نموذج يحبه كشيخ أو داعية أو عالم وهكذا، فبقدر ما تمس أنت هذا النموذج، فإنك تُحطِّم الأمل الذي لديه؛ ولذا يجب أن نربيهم على ألاَّ يتعلقوا بالأشخاص؛ لأنه لا يمكن أن نستأصل من قلوبهم ومن فطرتهم ومن عواطفهم التعلق بنموذج معين حي أو ميت، ولهذا نقول: إن النموذج الذي يجب أن نتبعه جميعاً هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. ومن الضوابط التي لا تخفى -إن شاء الله- ألاَّ نحاول تحطيم هذا الشاب بضرب النموذج الذي يحبه أو يميل إليه، ما دام هذا النموذج من أهل السنة والجماعة، وهذا الشرط الأساس الذي لا نتعداه. أما إن كان من أهل البدع، وله مناهج بدعية منحرفة، فهذا لا يصلح أن يكون نموذجاً، بل ليس عضواً فضلاً عن أن يكون نموذجاً.

الانشغال بعيوب الآخرين

الانشغال بعيوب الآخرين السؤال يقول: أجد نفسي شغوفاً بتقصي عيوب الآخرين متناسياً عيوب نفسي، فهل من علاجٍ لذلك؟ A نسأل الله أن يشفيك يا أخي، وأن يشفينا جميعاً، اللهم يا رب! نسألك أن تؤتي نفوسنا تقواها، وأن تزكيها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. إن هذا من شر الأدواء الذي يصيب طلاب العلم -نسأل الله العفو والعافية- فشر الناس من شُغِلَ بعيوب غيره عن عيوب نفسه، وكما قال بعض السلف الصالح: 'علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه' وقال الآخر: 'كانوا ينهون عن فضول النظر كما ينهون عن فضول الكلام'، فكان السلف الصالح -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- يُربون تلاميذهم وأمتهم على ذلك؛ فكان عمر رضي الله عنه يُربي الأمة كلها من فوق المنبر فيقول: [[رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي]] فعرف أولئك الأخيار الأطهار أن الذي يضرك هو عيبك أنت، وأن الذي يسيء إليك هو ذنبك أنت لا ذنوب الناس وعيوبهم. إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لولا أنه يضرنا تركه لما قمنا به، وهذا هو المحمل الصحيح لقول الله تبارك وتعالى: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] أي: إذا قمتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يضركم، ولكن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر وندعو إلى الله، وأن نقول للكافر: أنت كافر، وللمبتدع: أنت مبتدع، وللظالم: أنت ظالم؛ لأن الله أمرنا بذلك ففعلنا، وإلا لو لم يأمرنا به لكفانا ظلم أنفسنا وعيب أنفسنا وما فينا من شرك -عياذاً بالله- أو بدعة أو تقصير عن غيرنا. أمَّا أن يصل الأمر إلى أن هذه الشهوة النفسية الموجودة لدى كثير من الشباب تُشبع وتثار، فيصبح بعضهم يتتبع عورات المسلمين، ويتتبع عورات وسقطات العلماء أو الدعاة، ويُربىَّ على ذلك؛ فهذا من أسوأ أنواع التربية، وهذا مرض خطير نسأل الله العفو والعافية، وأُبشِّر من قد يربي الشباب على هذا بأن الدور سيأتي عليه: فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها وأول راضٍ سيرة من يسيرها وتأكدوا أن أي إنسان يطعن وينال ممن يقوم بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن أخطئوا -وكلنا عرضة للخطأ- لكن من يكون هذا همه؛ فإن الله سيسلط عليه من يفضحه؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف رحله} نسأل الله العفو والعافية. حرصٌ على تتبع الأخطاء ففلان قال فيه كذا، وهذا وقع في كذا، وهذا عيبه كذا سبحان الله العظيم يا إخواني! حتى أئمتنا الأجلاء الكبار الأئمة الأربعة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم لديهم أخطاء؛ فهل يحسن أن نعرضها على الناس، وأن نقوم في المسجد ونقول: الإمام مالك أخطأ في كذا وكذا، والشافعي قال كذا. فالأشياء واضحة جداً ولا نريد أن نخوض في شيء وننهى عن الذي نقول، وكمثال على ذلك -وهذا الذي يقع دائماً بعد شهر رمضان- الإمام مالك رحمه الله -إمام دار الهجرة وهو المحدث المشهور الذي ورث هذا العلم العظيم، وأورثه للدنيا كلها- كان يكره صيام الست من شوال، فهل نعدها من السقطات عياذاً بالله؟ أو نقول شيئاً غير ذلك؟ فهؤلاء الأئمة، فكيف بالعلماء من دونهم وكيف بطلاب العلم؟ فالذين يتتبعون هذه المثالب والعورات، ويحبون تتبع عيوب الآخرين؛ يجب أن يعلموا أنهم واقعون في هذا الخطر العظيم، وسيلقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنخشى أن يلقوا الله مثل "الرجل المفلس" الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات مثل جبال تهامة، ولكن يأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته -مقابل ما فعل وما انتهك- فإن نفدت حسناته يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه فيلقى في النار} نسأل الله العفو والعافية. فاحذروا يا شباب -بارك الله فيكم- واحذر يا أخي؛ حتى مع أهلك في البيت إذا بدأت زوجتك أو أمك تقول: فلانة، فقل لها: لا يا أمي! هذه غيبة، فعلِّم نفسك وعلِّم إخوانك، ولا تذكر مسلماً بشيء أبداً، وإن كان من زملائك أو كائناً من يكون، إلا ما اقتضت بذلك مصلحة شرعية لا مصلحة نفسية أو ذاتية، فبعض الناس يخلط بينهما فيقول: أنا لا أقصد إلا الشرع، اختبر نفسك فإذا كان غرضك الشرع؛ فعلامة ذلك أن تنتقد هذه الكلمة أو هذا الموقف من أي شخص كان، أما أن تنتقدها إن كانت من فلان، فإن جاءت من غيره فإنك تغض الطرف عنه، فاعلم أن الأمر لنفسك وليس لربك، فكل واحد منا يختبر نفسه، والله تعالى حسيبه.

واجب شباب الصحوة في التضحية في سبيل الله

واجب شباب الصحوة في التضحية في سبيل الله السؤال يقول: شباب الصحوة -والحمد لله- كثير، ولكن يفتقد كثير منهم -ونحن منهم- التضحية لهذا الدين، فكيف نجعل في أنفسنا هذه السمة؟ A نعم هذا حق، ونسال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا جميعاً للقيام بهذا الواجب، وأن يكون همنا حين نمسي وحين نصبح هو رضاه سبحانه والدعوة إليه والعمل لأجله؛ فالمؤمن الحقيقي هو الذي يكون هذا حاله؛ ولذلك يضحي، لأنه عرف أنه ما خلق إلا لهذا، وما ائتمنه الله تبارك وتعالى بالعلم إلا لهذا. ولذلك كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضحين غاية التضحية، فضحوا بالأوقات رضي الله تعالى عنهم وضحوا بأنفسهم في سبيل الله، وماتوا شهداء، وكذلك ضحوا بالعلاقات، وقطعوا كل الأواصر والتواصل مع أقرب الناس إليهم، إذا لم يكونوا كما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أما نحن فحقاً هذا موجود لدينا -عدم التضحية- لضعف إيماننا وقلة يقيننا، وتشعب همومنا، فليس همنا واحداً، وعندما قال ابن القيم رحمه الله: فَلِواحدٍ كن واحداً في واحدٍ أعني طريق الحق والإيمان فلواحد: هو الله تبارك وتعالى، وكن واحداً: أي كن أمة لا تتشكك ولا تتشعب أيضاً؛ في واحد: أي في طريق واحد وهو طريق الحق وطريق الإيمان. نحن الآن: يُزاحم هذا الهم -هم الدعوة، وهم رضى الله تبارك وتعالى، والعمل للدار الآخرة- يزاحمه العمل للدنيا والوظيفة، وحظ النفس، وحب الراحة والإخلاد إلى الكسل، كلها تزاحم هذا الهم؛ ولذلك يجب أن نضحي، ويجب على الشباب أن يتعود على التضحية. فنقول: ضحِ يا أخي بوقتك، وضحِ بمالك، وأنفق في سبيل الله عز وجل؛ ولو أن تشتري شريطاً أو كتاباً أو أن تشتري ورقة تكتب فيها إعلاناً أو تصور إعلاناً من إعلانات الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ضحِّ ولو بسمعتك؛ فلماذا قال الله تبارك وتعالى: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]؟! لأن اللُّوام كثير؛ فهذا يقول: جن الرجل! وهذا يقول: أصابه الخبل! وذاك يقول: ترك وظيفته من أجل الدعوة!! وهذا يقول: ضحى بنفسه! فكل واحدٍ سيلومه، ولكن ضحِ بكل هذا، ولا يهمك إلا أن تكون فعلاً كما يرضي الله، فإن أرضيت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كفاك الله تعالى عن كل ما عداه، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للجهاد والتضحية والبذل له وفي سبيله.

توحيد الله هو قضية الأمة بأجمعها

توحيد الله هو قضية الأمة بأجمعها Q لقد ذكرت أن الشباب إذا اهتموا بقضيتهم فإنهم يُنتجون، فما هي قضيتنا حتى ننتج؟ A قضيتنا هي توحيد الله وعبادة الله، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وإقامة هذا الدين في الأرض، والاهتمام بأمر المسلمين؛ لأن {من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم}، فهم {كالجسد الواحد} كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه قضية المؤمن؛ بل قضية كل إنسان يريد أن يسعى إلى رضى الله، وأن يقدم مرضاة الله على هوى النفس وعلى حظها، وأن يقدم في الدنيا ما يقربه في الدار الآخرة، ويرفعه الله أو يقدمه في هذه الحياة الدنيا؛ وأن يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، وأن يوالي في الله، ويعادي في الله. فهذه قضية أو جوانب من القضية الرئيسية الكبرى؛ ثم تندرج تحتها الواجبات مما فرض الله تعالى علينا القيام به جميعاً، من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد وكل ما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو لم يكن عند المسلمين إلا سنةً من سنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهملت أو أميتت أو تركها الناس؛ فإنه يجب علينا أن نحييها، فكيف إذا أُهمل التوحيد؟! وكيف إذا أهملت أركان الإسلام؟! إذاً يجب أن نجاهد لكي نحيي ما أمات الناس، ونصلح ما أفسد الناس، لتكون فينا صفة الغرباء الذين أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حالهم وبينه، فهي قضية واحدة، وتستطيع أن تجعلها قضايا كثيرة بحسب التخصص والتأهل، فقضية العلماء غير قضية العامة، وقضية المتخصص في جانب معين غير قضية من يتقن جانباً آخر، قضية التاجر المسلم -صاحب المال- غير قضية صاحب العلم، فصاحب العلم يؤلف، ويدحض الشبهات، ويبين البدع، ويكشف الضلالات، ويقيم الحجة؛ أما التاجر المسلم فقضيته أن ينفق وأن يعطي، ويمد الجمعيات الإسلامية التي على الكتاب والسنة ومنهج السلف، وأن يبني المدارس والمساجد وهكذا. فكلٌ منا له قضية بحسب موقعه الذي أعطاه الله، فقضية المدير في إدراته أو الوزير في وزارته أو الحاكم في دولته هي إقامة دين الله، وإقامة حدود الله -إقامة فرائض الله بحسب ولايته التي أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكذلك قضية الزوجة في بيتها: أن تحفظ نفسها وتطيع ربها وتطيع زوجها وتربي أبنائها؛ وكل هذا قد جعله الله تعالى على التفصيل أيضاً، فكل منا له قضيته، لكن في الجملة قضية الأمة قضية واحدة، وهي توحيد الله تعالى، وكذلك القضايا الأساسية الأخرى المتفرعة عنه.

وسائل تفعيل قضية التوحيد والدعوة إلى الله

وسائل تفعيل قضية التوحيد والدعوة إلى الله Q ألا تظن أن المعرفة الذهنية لهذه القضية موجودة؟ ولكن ماهي الوسيلة لجعلها يقيناً يتحرك من أجلها كل مسلم؟ A نعم. يكون ذلك باستشعار المسئولية التي سوف يسألك الله تبارك وتعالى عنها يوم القيامة؛ وكما ألمحنا أن كل منا مسؤول عن هذه القضية، وعن هذا الهم، وإذا علمت أن الله تعالى سيسألك بحسب علمك أو بذلك أو الجانب الذي أعطاك؛ وأن الله تبارك وتعالى إن أعطاك المال فليبتليك ويختبرك، وإن أعطاك العلم فلذلك أيضاً، وإن أعطاك ما أعطاك، فإنما أعطاك كل ذلك لتقوم بحقه تبارك وتعالى فيه بأقل شيء وهو -كما نقول دائماً وهو الذي لا نملك نحن أن نعتذر عنه- أن ندعو الله تبارك وتعالى، فعمل القلب مهم، كحب الأخيار، وحب الصالحين، وحب الدعاة إلى الله، والدعاء لهم بأن يحفظهم الله، وأن ينصرهم، وأن يؤيدهم، وكذلك حب إخواننا المجاهدين -في كل مكان- والداعين إلى الكتاب والسنة في كل مكان أيضاً، ودعاء الله تبارك وتعالى لهم، والذب عن أعراضهم. وأيضاً: كُره المنكرات وأهلها، والبدع والضلالات ومن دعا إليها، ودعاء الله تبارك وتعالى أن يهديهم أو يهلكهم، فإن هذا أمر قلبي. أما أن المؤمن يعيش فيصبح ويمسي وهمه الدنيا والمطعم والمشرب والوظيفة والزوجة والسيارة، ولا يهمه رضى الله، ولا توحيده، ولا طاعته، ولا نشر السنة، ولا نشر الحق والخير؛ فهذا الذي -في الحقيقة- يجب عليه أن يعيد النظر، وكل منا حسيب نفسه بأن يعيد النظر ليختبر إيمانه ويجدده، لينال رضى الله وينال جنة الله تبارك وتعالى. فاتقوا الله، واعملوا أن هذه الأعمار ثمينة، فوالله إن الإنسان يوم القيامة سيندم، ويتمنى لو أنه يجد دقيقة واحدة يقول فيها: سبحان الله أو الحمد لله أو لا إله إلا الله أو الله أكبر، لأن هذه غراس في الجنة؛ فإذا رأى أن غراس أخيه أكثر من غراسه، تمنى ولو دقيقة ولو لحظة ليعود، قال تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيتمنى أن يعود إلى الدنيا ليقول: (أشهد أن لا إله إلا الله). فهذا العمر ثمين جداً، ولكنه يُضاع، وأعظم طاقات الأمة تُضاع في اللهو وفي اللعب، ولو أن أحداً بدد ثروات الأمة، ونهب بترولها، ودمر مدنها؛ لغضبنا جميعاً. فوالله إن طاقات الشباب، وأعمارهم، وأوقاتهم، أثمن وأغلى من البترول، ومن كل حضارة مادية ننجزها؛ ومن كان يخالفنا في هذا فليس بيننا وبينه اتفاق في شيء.

شمول الرسالة لكل زمان ومكان

شمول الرسالة لكل زمان ومكان تحدث الشيخ حفظه الله عن الرسالة والمرسلين بشكل عام، وعن الرسالة المحمدية بشكل خاص، وتطرق في أثناء حديثه إلى ما تتميز به الأحكام في شريعة الإسلام، ثم عرض الشبهة التي ردت بها الأمم السابقة رسالة رسلها زاعمة أنها ذات حضارة وعلم وبين الرد على هذه الشبهة، ثم تحدث عن أهمية الشرع كميزان توزن به الأعمال، وأن من حكم الشرع سعد في دنياه وأخراه، ومن عصى ربه وترك شرعه ذل وهان على الله في الدنيا واستحق عذابه في الآخرة. ثم ختم حديثه مبيناً أن شرع الله ثابت لا يتغير بتغير الأزمان والأشخاص.

عموم الرسالة المحمدية

عموم الرسالة المحمدية إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وبعد: الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه، ليس بفريد ولا بجديد عليكم، وكما تعلمون جميعاً أننا أمة تنتخب، وتتبع أفضل رسول وهو رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذا النبي فضَّله الله تبارك وتعالى -كما أخبر هو عن نفسه- فقال: {فُضلت على الأنبياء بست، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة}، وفي بعض الروايات: {بخمس} فهذه من أعظم الخصائص والمميزات التي تميزت بها رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما ذكرها الله تبارك وتعالى وأمر بها في كتابه الكريم، حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال جل شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28]، فرسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه وشرعه عام، وهذا العموم من جهتين: الجهة الأولى: من جهة عموم من أُرسل إليهم، فقد كان الأنبياء ممن قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبعثون إلى قومهم خاصة، وبعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الناس عامة، فهذا من جهة المرسل إليهم والمبعوث فيهم. الجهة الأخرى: من جهة الزمان، فإن شريعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأما شريعة من قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن النبي كان يُبعث وشريعته مؤجلة ومؤقتة إلى أمد معين. فبهذا العموم يتبين لنا: أنه لا يمكن ولا يصح أن نتصور أن أمرًا من أمور الحياة يخرج عما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نتصور -أيضًا- أن فردًا من الأفراد -كائنًا من كان- يخرج عن شريعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فالظروف تتغير، والأحوال تتجدد، والأمم تحيا وتبيد، والحضارات تنشأ وتضمحل. ولكن المنهاج الواضح والشريعة الواجبة على الجميع، الملزمة لكل واحد منهم، باقية وخالدة إلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها؛ فلا يخرج أحد عن شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائنًا من كان، ولا تخرج قضية من قضايا الزمان عما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائنةً من كانت هذه القضية، وقد ظهر أثر هذا العموم في التشريعات التفصيلية التي جاءت بها هذه الشريعة العامة الشاملة الكاملة.

شمول أحكام الشريعة

شمول أحكام الشريعة فإن من الأحكام ما يتعلق بالإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن كونه متحضرًا أو مبتدياً في بادية، يعيش في غابة أو يعيش في مدينة، متعلمًا كان أو جاهلاً، فبغض النظر عن هذا كله، فإن هنالك أحكاماً تتعلق به من حيث كونه إنسانًا، والإنسان من حيث إنه إنسان له مشاعره وله أخلاقه، وله أسرته التي لا تتبدل ولا تتغير، مهما كان وضعه ومهما كانت حياته، ومهما كان عصره؛ ولهذا نجد في ديننا وفي شريعة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأحكام التي تتعلق بهذا الجانب ثابتة راسخة محددة. فمثلاً: فإن أعظم الواجبات، وأعظم ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء جميعًا هو: توحيد الله تبارك وتعالى؛ فالإنسان أينما كان، في أي عصر وفي أي مصر، في أرقى المدن الصناعية أو في الغابات البدائية أو في الصحراء البدوية أو في أي مكان، هو عبد يجب أن يُوحد الله تبارك وتعالى ويفرده بالعبادة، ولا يخرج عن ذلك قيد أنملة ولا قيد شعرة. ومن هنا جاءت أمور العقيدة مفصلة مبينة لكل إنسان وفي كل زمان؛ فأنواع الكفر واضحة، والشرك الأصغر، والأكبر، الكبائر والصغائر، وكل ما يتعلق بأمر العقيدة، وكل ما يتعلق بأمور الغيب التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها قد جاءت محددة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها؛ لأنها تتعلق بك أيها العبد. فمن حيث أنك إنسان، فأنت بذلك عبد، وكل عبد فإنه لابد أن يعبد الله تبارك وتعالى، وإنه إن خرج عن ذلك؛ فإنه سيعبد غير الله، فالإنسان عبد لا محالة؛ ولكن يجب عليه أن يصرف العبودية لله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، وكذلك في التشريعات أيضاً. نجد أن أحكام الأسرة، أحكام الطلاق، وأحكام العدة، والظهار، والإيلاء، وكل الأحكام -حتى في الإرث- قد فصَّلها الله تبارك وتعالى، فالإنسان أينما كان يحتاج إلى الزواج، ويحتاج إلى الأسرة -في أية بيئة عاش، وفي أي زمان عاش- ومن هنا جاءت هذه الأحكام مفصلة منذ أن يبدأ الإنسان بخطبة المرأة، ثم العشرة بين الزوجين، ثم تربية الزوجة والأبناء على طاعة الله تبارك وتعالى إلى أحكام الميراث، والطلاق، والمظاهرة، والإيلاء. فكل هذه الأحكام جاءت مفصلة، فلا يخرج عنها عبد؛ لأن هذا الإنسان العبد المخلوق بمقتضى إنسانيته سوف يصير من هذا النوع، فسوف تحصل له هذه الرغبة، ويتزوج ويكون ذا أسرة؛ فيجب أن تكون أموره منضبطة وسائرة وفق ما شرع الله تبارك وتعالى، فهذه الأمور لا مجال فيها لأن يقال: هي في عصر كذا تختلف عنها في عصر كذا؛ لأنها متعلقة بكل عصر وبكل إنسان وبكل زمان ومكان.

اختلاف الأحكام من حكمة الله تعالى

اختلاف الأحكام من حكمة الله تعالى وأما الأحكام الأخرى فمن حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن الأحوال والظروف تختلف فيها؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع لها من الأحكام قواعد عامة، تندرج تحتها كل أمور وأحوال الناس، فأمر الله تبارك وتعالى بالعدل، ونهى عن الظلم والبغي والعدوان، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وأمر بالخير وبالبر وبحسن الخلق، ونهى عن أكل المال الحرام وأمثال ذلك. والإنسان يجد أنه مهما تغيرت أنواع المال أو أنواع الممتلكات؛ فهي إما من حلال، وإما من حرام، فهذه القواعد العامة تحكم وتضبط هذه الأمور، وتندرج تحتها مهما تغيرت الأزمان، ومهما تغيرت الأحوال.

شبهات المكذبين بالرسل

شبهات المكذبين بالرسل

أولا: دعوى رد الرسالة

أولاً: دعوى رد الرسالة إن كثيراً من الناس يغره الزمن الذي يعيش فيه، وقد وقع ذلك في الأمم التي من قبلنا، فكانوا يظنون أنهم بلغوا غاية الحضارة وغاية العلم كما بيَّن ذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وهكذا كانت حالة الأمم. فكانت كل أمة تأتيها دعوة الله تبارك وتعالى إلى التوحيد وإخلاص العبودية لله، تقول: نحن لدينا العلم لدينا ما يكفينا لدينا حضارة لدينا وسائل للحياة وللترفيه وللسعادة؛ فلا حاجة لنا بما تدعونا إليه ومما يطبع على قلوب العباد، ومما يسبب لهم الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، ويصدهم عن دعوة الأنبياء وعن دعوة الدعاة، وعن دعوة المصلحين في كل زمان ومكان. فالتعلق بهذه الحياة الدنيا إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وعلى ما عند الله تبارك وتعالى، فيظن الإنسان أنه في هذا العصر قد بلغ الحضارة التي لا غاية بعدها، وهو بذلك ليس بحاجة إلى الدين؛ فكأن الدين جاء لعصر متأخر، أما نحن في عصر الحضارة هذه، فلا حاجة بنا إلى العبودية، والكبر الموجود في النفوس يرتفع بها عن أن تخضع لعبودية الله تبارك وتعالى. وهذا جواب قديم أجاب به قوم فرعون، وأجابت به عاد وثمود وقوم نوح، وكل من سبقنا من الأمم التي ذكر الله تبارك وتعالى؛ أنهم أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها من بعث فيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين ما بلغوا معشار ما آتى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الأمم. وما تزال آثارهم باقية شاهدة، كالآبار المعطلة، والقصور المشيدة، والسدود المنيعة، والحصون، والأهرامات، ومدائن صالح، وهي الأماكن التي تقصد للسياحة. سبحان الله العظيم! النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا -وهو مفهوم كتاب الله عز وجل ومنطوقه- إذا مررنا بهذه الديار أن نمر بها مستعبرين، أي: باكين مسرعين، وألاَّ نقيم فيها؛ فهي ليست للتفرج ولا للتنزهه، لا الأهرام ولا مدائن صالح ولا سد مأرب ولا كذا ولا كذا، إنما هي للعبرة والاتعاظ. ولكن أين المعتبرون؟! وأين المتعظون؟! فالله تعالى جعلها علامات شاخصة ناطقة، تشهد بما فعلت الأمم التي قبلنا، حيث قال سبحانه: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:11 - 13] ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، أي: فمن عمل مثل عملهم جوزي بمثل جزائهم وعوقب بمثل عقوبتهم، قال سبحانه: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، أي: هكذا الأمم، فكل أمة أخذت بذنبها، وإن اختلفت وتنوعت العقوبات. فبقيت هذه الآثار شاهدة على أن الحضارات مهما تطورت، ومهما تقدمت، وتفننت بأساليب العيش، أو بالقصور المشيدة، أو بالمزارع الفخمة، أو بوسائل الترفيه، أو بوسائل التسلية؛ فإنها لابد أن يكون مصيرها إلى الدمار والخراب إذا عصت الله عز وجل وفسقت عن أمره تبارك وتعالى. فالمسارح الرومانية ما تزال إلى اليوم وهي مسارح كان يجتمع فيها الرجال والنساء ويرقصون ويمرحون، وكانت فيها حلبات للمصارعات الحرة بين الرجال والوحوش وكل هذا كان في القديم، فالدورات الأولمبية التي نسمع عنها اليوم، كانت موجودة عند اليونان بجميع أنواع الألعاب المختلفة، وكانت معروفة لديهم. إن كل أمة أخذت في هذا الجانب كانت تظن أنها في غاية الحضارة وقمتها، وأن أي داعية يدعوها إلى الله وإلى الدار الآخرة؛ فإنه لا استجابة له ولا إذعان ولا قبول؛ لأنه يدعونا لأن نترك هذه الوسائل وهذه الحضارة وننسلخ منها، ونطلب المتاع الذي لا يريدون أن يطلبوه، ويؤثرونه على ما عندهم من المتاع، ثم خلف الله تبارك وتعالى من بعدهم بالخلوف، وجئنا نحن في هذا العصر، واستجدت في هذا العصر أحداث وأحداث، حتى ظن الناس -بما أنهم اليوم قد ركبوا الطائرة أو السيارة، أو أن بعضًا منهم قد غزا الفضاء وما أشبه ذلك- أن أمر الدين وأمر الله تبارك وتعالى كله أو بعضه لا ينبغي أن يقال أو أن يقدم في هذا العصر عصر الحرية عصر الانطلاق عصر كذا وكذا.

ثانيا: الجواب على الدعوى

ثانياً: الجواب على الدعوى إن الجواب على ذلك -كما سبق أن أوضحنا هذه الشبهة الشيطانية- أن الإنسان هو الإنسان، سواءً كان على الأرض، أو كان في الفضاء، أو كان في أي مكان؛ فهو عبدٌ لله تبارك وتعالى، ويجب أن يعبد الله وأن يوحد الله تبارك وتعالى. أما أن الإنسان يطلب زيادة في الترفيه والتنعم؛ فهذا من فضل الله عز وجل، ولا ضير في ذلك؛ بل إن من أعظم ما ميَّز الله تبارك وتعالى به الإنسان عن الحيوان أن الإنسان يعمر الأرض؛ لكن يجب أن يعمرها بما أمر الله تبارك وتعالى؛ وهذا قولهم بأنفسهم، يقولون: إنهم نظروا، فوجدوا أن أذكى الحيوانات وهي القردة أو الثعالب التي في القرن العشرين، تسكن في البيت الذي كان يسكن فيه القرد أو الثعلب منذ أمد الآماد، والبيت هو نفس البيت -من حيث الشكل- بدون أن يحدث أي تجديد؛ لكن الإنسان يسكن في العشب في الخيمة وأحيانًا في كهف ثم يبني ثم يتطور البناء ثم يتجدد، وكل ذلك لا ضير فيه في ذاته.

الشرع هو ميزان الأعمال

الشرع هو ميزان الأعمال إن الله تعالى قد ميَّز الإنسان، وأذن له، وجعل له الأرض ذلولاً، وأمره أن يمشي في مناكبها، وأن يأكل من رزقه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]. أي: أنه يجب أن يكون السعي في هذه الأرض موافقًا لأمر الله؛ فلتتجدد هذه الوسائل ما شاءت. المهم أن الإنسان يكون قلبًا وقالبًا خاضعًا لأوامر الله تبارك وتعالى. فلا تُذَمُّ اللذة أو حب الخير أو حب النفع؛ بل أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحرص على ما ينفعنا، ونحمد الله تبارك وتعالى أن ديننا كذلك، فما من خير إلا ودلنا عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما من طيبة إلا وأحلها الله تبارك وتعالى في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذًا: ما الذي حرم علينا؟ وما الذي منع عنا؟ وما الذي نهينا عنه مهما تغيرت الأزمان والعصور؟ إنه ما حرم الله تبارك وتعالى، فلا يعني ذلك أنه: إذا كانت الخمر تشرب من العنب أو من الشعير، وتصنع منه بطريقة بدائية في أواني من الفخار فهي حرام، فإذا صنعت في زجاجات فاخرة، وختمت بالشمع أصبحت حلالاً! لا والله! أو أن المرأة إذا كانت بدوية، أو متنقبة في البادية، أو في الخلاء، أو في القرية، فحرام أن ننظر إليها، وحرام أن يخلو بها إلا ذو محرم؛ فإذا كانت متعلمة أو مثقفة في المدينة، أو في أية وسيلة من وسائل الإعلام أصبح النظر إليها حلالاً لا والله! فالوسائل تتغير، وتتجدد، ولكن الحكم لا يتغير ولا يتبدل؛ واللذة أو المنفعة لا تأتي في هذا الجانب. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فطر الإنسان على طلب الخير ولذة الخير؛ ولكن ما الضابط؟ وما المرجع؟ وما المعيار الذي نعرف به هذه اللذة النافعة من اللذة الضارة؟

شرع الله لا يتغير

شرع الله لا يتغير إن الأشجار وهي أشبه بالجماد، تتجه عروق الشجرة إلى جهة الماء، وتتجه -أيضاً- أغصانها إلى جهة الضوء، لماذا؟! تريد أن تحيا، وتريد أن تنمو؛ فهل هذا يضير؟ لا ضير في ذلك، وكذلك الإنسان يريد أن يتغذى، فهل حرَّم الله تعالى عليه ذلك؟ لا! الإنسان يريد أن يتزوج، يريد هذه الرغبة الجنسية، فهل حرمها الله؟ ليس في ديننا رهبانية. الإنسان يريد أن يُمتِّع ناظريه ويرى، فهل حرم الله ذلك؟ فأية طيبة لم يحرمها الله تبارك وتعالى في أي عصر وفي أي وقت. والذي جعله الله تعالى معيارًا للتمييز بين النافع وبين الضار من هذه الملذات ومن هذه الشهوات، هو أن نتبع ما شرع الله تبارك وتعالى، فإذا اتبعنا أمر الله، ووقفنا عند حدود الله، وتمتعنا بالطيبات التي أحلها الله؛ ففي ذلك الغنية كل الغنية عما حرم الله، وفي ذلك السعادة والطمأنينة والأمن والراحة والرخاء للمجتمع، وللأمة بأسرها، وللعالمين أجمعين.

الشرع به يحيا العباد

الشرع به يحيا العباد إننا إذا خرجنا عن حدود الله عز وجل، ورأينا أن ذلك يحقق لنا مصلحة أو دنيا أيًا كانت؛ فهو الشر وهو الوبال -كما ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك المثل في القوم الذي ركبوا السفينة واستهموا، فكان قوم في أسفلها وقوم في أعلاها، فقال الذين هم في أسفلها: إذا أردنا الماء نصعد إلى الأعلى ثم نستقي، لماذا والماء قريب منا؟ هلاَّ خرقنا من هاهنا وأخذنا الماء! فيرجع الأمر إلى الذين في أعلاها، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعًا، عافانا الله وإياكم من الهلاك. فالإنسان كونه يطلب الشيء لا مانع، لكن يطلبه من الطريق المشروعة؛ فلا تقل: أنا أريد أن أمتع ناظري بما أشاء من هذه الوسائل الجديدة. ولا تقل: أريد أن أمتع سمعي بما أشاء من هذه الوسائل الجديدة. لا تقل: العصر قد تغير! نعم العصر يتغير، والزمان يمر ويمر؛ ولكن دين الله تبارك وتعالى باقٍ، وأنت عبد؛ عبدٌ إن خلقت قبل قرون أو إن وجدت بعد قرون أو في هذا الزمن، فأنت عبد له تبارك وتعالى، ولا تخرج عن طاعة الله تبارك وتعالى، ولا تخرج عن شرع نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله تبارك وتعالى إنما جعل هذا الدين وهذا العقل ليميز الإنسان به في حياته، جعل له نبراساً ومنهاجًا، فلو وكل الله تعالى الأمر لعقولنا لما اتفقنا على شيءٍ أبداً. انظروا إلى العالم الغربي الذي يتخبط! تجدون التخبط العجيب في حياتهم! لأنهم لا يملكون الميزان، ولا يملكون المنهاج الذي يسيرون عليه، وكلما تغير الزمن؛ تنمو العقول فهذه أخلاق العصر الزراعي، وهذه أخلاق العصر الصناعي، فالمرأة في العصر الزراعي تعمل مع الرجل في المزرعة، ويملكها رجل واحد فقط، والمرأة في العصر الصناعي من أخلاقها أنها تخالط الرجال، وتسهر كما تشاء، وتظهر كما تشاء، وتتبرج كما تشاء! لماذا؟! قالوا: العصر تغير! فالأول عصر زراعة، وهذا عصر صناعة؛ فجعلوا الذي يغير الأخلاق ويغير ما تعارف عليه الناس من قديم، بل ما نزلت به الشرائع من عند الله تبارك وتعالى هو: حالة الإنسان الدنيوية، ونحن الآن كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه}، وفي رواية للإمام مالك رحمه الله قال: {لو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتموه} عياذًا بالله. أي: أن ذلك من شدة اتباعنا لهم؛ وهذا ما يحصل الآن أو ما يراد أن يحصل أن نتبع الغرب وأن نغير ما شرع الله، أو نعرض عما أنزل الله، بحجة أن الزمن قد تغير، وأن العصر قد تبدل. فلنحرص جميعًا على أن نزن أمورنا وأعمالنا ومعتقداتنا وأحكامنا وآراءنا ومناهجنا وطرائقنا ووسائلنا وغاياتنا؛ نزنها جميعًا بما أنزل الله تبارك وتعالى؛ ففي ذلك الهدى كل الهدى، وهذا هو الاتباع الذي بغيره لا نكون مؤمنين أبداً. يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. فهذا هو الذي يحقق لنا الإيمان والانقياد والإذعان لأمر الله من غير منازعة ولا معارضة ولا مدافعة؛ وإنما هو التسليم والانقياد فورًا، كما كانت الخمر حلالاً، فأنزل الله تبارك وتعالى تحريمها، ثم قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]، قالوا: انتهينا انتهينا! وجرت أزقة تظلل بالخمر من دون رقابة ولا هيئة ولا تفتيش، إلا رقابة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي في القلوب، وكما كان الرجال والنساء يختلطون، وينظر بعضهم إلى بعض، فلما نزلت آية الحجاب، فإذا بنساء الصحابة يخرجن كأنهن الغربان، لا يرى من الواحدة منهن قيد أنملة؛ حتى أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى إحدى أمهات المؤمنين فقال: قد عرفناكِ يا سودة. يقول: قد عرفناك، أي: ما دمنا عرفناك؛ فإذًا لست متحجبة -مع أنه لم يرَ منها شيئاً- ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقره على ذلك؛ وإنما أخبر أنه إذا استترت المرأة فإنه يجوز لها أن تخرج لحاجتها -كما كانت أم المؤمنين خارجة لقضاء حاجتها- فنجد أنه ما من أمر ينزل من أوامر الله إلا ويلتزم به فورًا، وهذا هو الإيمان حقيقة.

ذلة المخالفين للشرع

ذلة المخالفين للشرع ولقد منَّ الله تبارك وتعالى على ذلك الجيل من أولئك الصحابة، ففتح لهم الأرض وسخَّر لهم خزائن كسرى وقيصر، حتى أنفقوها في سبيل الله تبارك وتعالى، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل} وأنفقت، لأن من حقق العبودية لله جعل الله تبارك وتعالى عباده الآخرين عبيدًا له، فجاءوا بأبناء الملوك مصفدين بالحديد، وهم لهم حضارات ولهم وسائل ولهم ولهم من التطور والتقدم ما لهم، ولكن! إذا عصينا الله عز وجل؛ فإننا نهون عليه تعالى، حتى يسلط علينا أولئك، فنكون عبيدًا لهم عافنا الله وإياكم. ولهذا لما جيء إلى أحد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعض الأسرى -وكانوا من قبرص أو من بعض بلاد الروم - فرآهم عظاماً ضخام الجثة ومن الروم والعرب كانوا يهابونهم، فلما رآهم بكى. قيل: لِمَ تبك؟! أتبكي وقد أعز الله الإسلام وجاء بهؤلاء القوم عبيدًا مقرنين بالسلاسل؟! قال: إني لا أبكي أن الله تعالى أعز الإسلام، ولكني أبكي أنني رأيت قومًا عصوا الله عز وجل فهانوا عليه، فجيء بهم هكذا بعد العزة والمنعة، وإنني أخشى أن نعصي الله عز وجل فنكون عليه أهون من الجعلان! نعوذ بالله! وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة فيما بعد، هانت على الله عز وجل، فسلَّط عليها التتار والصليبيين، وسلَّط عليها المستعمرين من كل حدب وصوب، حتى ترجع إلى دينها. فالذل مرتبط بالمعصية، والعزة مقترنة ومرتبطة بالطاعة، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن يعزه الله تعالى بطاعته، ولا يذله بمعصيته، إنه سميع مجيب.

قاعدة في التغير

قاعدة في التغير إن القاعدة التي يجب أن نضعها في الاعتبار، مهما تغيرت الأمصار والأعصار، أن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]. فالإنسان مهما تغيَّر الزمن، فله هذه العين، وله هذا السمع، والتفكير. انظروا! هل تتغير هذه مهما تغيرت الأزمان؟ لا تتغير أبدًا، فهذه أعضاء ومنافع جعلها الله تبارك وتعالى لك، وهذه الأعضاء -السمع والبصر وأيضًا الحواس الخارجية- بالنسبة للقلب هي مثل الموارد التي تصب جميعًا في حوض واحد. أرأيتم إذا كان حوض أو بركة يصب فيها هذا المجرى النظيف؛ فكيف تكون نظافة هذه البركة؟! فكذلك تكون نظافة القلب؛ لكن إذا نظر الإنسان إلى الحرام أيًا كان هذا النظر -في صورة حقيقية أو مصورة أو قراءة أو أيًا كان هذا الحرام- وكذلك إذا سمع الحرام بأي نوع من أنواع السماع من الأغاني أو الملاهي أو النميمة أو قول الزور أو غيره، أو نطق بذلك، أو بأية حاسة من الحواس الأخرى -مهما تغيرت وسائل الإعلام والإحساس- فإن ذلك يكون مثل أن يكون أحد هذه المجاري التي تصب في القلب هي من الماء النجس أو القذارة! أين تجتمع هذه القذارات؟ تجتمع في هذا القلب. أفيكون هذا القلب حينئذٍ أهلاً لطاعة الله؟! أيكون ذلك القلب مرتبطًا بالله؟! أيكون ذلك القلب خاشعًا لله، وهذه المنافذ تصب فيه؟! لا والله! فهذه مع الدوام ومع الاستمرار، لا تبقي في القلب أي جزء وأي قدر من النظافة، فإذا طمس وطبع عليه، لا تنفعه موعظة، ولا ينتصح بنصيحة. فإذًا: إذا راقب الإنسان هذه الأعضاء، وحفظ الرأس وما وعوى، والبطن وما حوى، وعَلِمَ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سائله عن هذه الأعضاء عضوًا عضواً، وسائله عما عمل، وسوف يستنطق الله تبارك وتعالى عليه جوارحه، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:19 - 23]، نعوذ بالله من الخسارة! فهذه الخسارة الكبرى. فهل تغير الأزمان وتغير وسائل اللهو أو الفساد أو وسائل الحياة أيًا كانت، أي: أن جلدك تغير؟ أو أن يدك تغيرت؟ لا! لم يتغير جلدك ولا عينك ولا سمعك ولا بصرك، من حيث إنها وظائف جعلها الله تبارك وتعالى أعضاء لوظائف أساسية تستخدمها. فإن استخدمتها في الطاعة مع أية وسيلة من هذه الوسائل، كانت شاهدة لك يوم القيامة، ولم تشهد عليك، وإن استخدمتها في المعصية أيًا كانت الوسيلة الذي استخدمتها، سواء نظرت في منظر بدائي أو نظرت في منظر مما يسمى بالمناظر المتقدمة، ولا تقدم في الشر، وإنما الانحطاط والسفور أيًا كان. فالعضو عضو، والشهادة يوم القيامة قائمة، وسوف تنطق هذه الأعضاء، وسوف تشهد، فمن كان ظنه بربه أنه لا يطّلع عليه، ولا يعلم خافيته -عياذًا بالله- فهذه نتيجته الخسارة الكبرى، ستشهد عليه هذه الأعضاء بما ينطقها الله تبارك وتعالى به. ومن كان ظنه بربه أنه مُطّلع عليه، وأنه رقيب وحفيظ، فعليه أن يتوب إلى الله وأن يستغفر الله تبارك وتعالى، وأن يراجع نفسه، ابتداءً من إصلاح قلبه وإيمانه وتوحيده وإخلاصه ويقينه، ثم المحافظة على أوامر الله تبارك وتعالى، وأعظمها هذه الصلوات الخمس أداءً وجماعةً في المساجد، ثم المحافظة على هذه الأعضاء التي سوف يُسأل عنها يوم القيامة، فلا يجول فكره إلا في حلال أو فيما أمر الله، ولا يمد عينه إلا إلى ما أحل الله تبارك وتعالى، ولا يبطش بيده أو برجله إلا إلى ما أحل الله تبارك وتعالى، ولا يقارب سمعه إلا ما أحل الله تبارك وتعالى؛ فحينئذٍ تكون له الصفحات البيضاء، وتكون له يوم القيامة النجاة، ويكون له الفوز. ونسأل الله تبارك وتعالى أن يُعمَّر أوقاتنا جميعًا بطاعته وما يرضيه، وجزاكم الله خيراً والحمد لله رب العالمين.

صفات عباد الرحمن

صفات عباد الرحمن إن من أعظم أنواع التذكير هو: التذكير بالآيات الكونية والقرآنية، وقد ذكر الله منها الكثير في كتابه كما في سورة الفرقان التي ضمت هذين النوعين، ومن الموضوعات التي تضمنتها هذه السورة بيان حال عباد الرحمن وذكر صفاتهم، وقد تناول الشيخ هذه الصفات في ثنايا هذه المادة مبيناً خلال ذلك أسباب الكفر والشرك، وداعياً العباد إلى الاعتبار بآيات الله.

في رحاب سورة الفرقان

في رحاب سورة الفرقان الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، اللهم لك الحمد بالإسلام، اللهم لك الحمد بالإيمان، اللهم لك الحمد بالقرآن، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به من أخوة الإيمان ومحبة التقوى، ولك الحمد على ما جمعت به وله هذه الوجوه الخيرة الطيبة، ولك الحمد أولاً وآخراً، ولك الحمد حتى ترضى ولك الحمد بعد الرضا، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك، وصفوتك وخيرتك من خلقك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى آله وأصحابه أجمعين، الذين فرضوا وسنوا سنة الأخوَّة في الله، والتآخي في ذات الله، والمحبة والتزاور في جلال الله تبارك وتعالى، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليهم، واجعلنا ممن يقتفي أثرهم، وينتهج نهجهم، ويسير على خطاهم، إنك على كل شيء قدير. أما بعد: شيوخنا العلماء، وآبائي شيوخ القبائل الكرام، وإخواني الكرام أجمعين -الصغير منهم والكبير في هذه القبيلة الطيبة بني كنانة، وفي هذه المنطقة عامة- إن اللسان ليعجز عن التعبير، وإن البيان ليتلعثم ويتردد عندما يكون الموقف مثل هذا الموقف، ماذا نقول لهؤلاء الآباء والإخوة الكرام، الذين أنزلونا منزلةً لا نستحقها، ولكن هكذا أرادوا وهكذا دفعتهم محبتهم وليس في إمكاننا إلا أن نقول: اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون واجعلنا خيراً مما يظنون. نعم. إنّ اللقاء في الله، والمحبة فيه، والاجتماع لذكره هو خير ما يسعى له العبد المؤمن، فاغتفرنا -من أجل ذلك وفي سبيله- كل ما يقال وكل ما لا نرضى، ولو أُقررنا أو أُخذ رأينا فإنا لا نقره. وإنما نريد من جميع ومن الإخوان أكرمهم الله وجزاهم الله خيراً ثمرة اللقاء وخلاصته؛ وهي الدعوة بظهر الغيب لكل من يدعو إلى الله عز وجل؛ ونريد من الإخوة الكرام وفيهم الأولياء والصالحون والمتقون بإذن الله أن ينصروا دين الله تبارك وتعالى، فهو أعظم من الأشخاص وأجل منهم -وإن كان من سنة الله ألا يقوم الدين إلا بأفراد وأشخاص-. ونريد من آبائنا وإخواننا وهم سلالة تلك النخبة الطاهرة النقية من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلماء الأمة وخيارها، والتابعين لهم بإحسان، والمجددين في كل القرون، أن يجعلوا -بإذن الله- هذه العواطف الجياشة، وهذا الشعور الفياض؛ قوة دافعة لرفع كلمة الله، ولإعلاء دين الله، ولمؤازرة من يدعو إلى الله، ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل قرية وفي كل قبيلة وفي كل مكان من أرجاء المعمورة، وإنهم لأهل لذلك بإذن الله. إنّ الجميع يشكرونكم -وأنا لا أعبر عن مشاعري وحدي- ويرون في وجوهكم وملامحكم مشاعر الصدق والأخوة والمحبة الخالصة، والجميع يريدون -بإذن الله تبارك وتعالى- أن نكون يداً واحدة من أجل إعلاء كلمة الله، فلا نريد دنياً ولا جاهاً ولا مالاً ولا فخراً ولا خيلاءً ولا مباهاةً. وإنما نريد جميعاً وجه الله تبارك وتعالى، ونريد الدار الآخرة وما أعد الله تبارك وتعالى لعبادة المتقين وأوليائه الصالحين: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] فشكر الله لكم أولاً، وشكر لكم آخراً، وجزاكم عنا كل خير، ونخص بالذكر والشكر أخانا الكريم ابن هذه القبيلة الشيخ عبد العزيز حفظه الله وجزاه عنا كل خير، فقد كان له الفضل، وقد كنت أقول لأهل هذه القبيلة عامة: إن ما قام به جزاه الله خيراً يكفي وينوب لا عن قبيلة بني كنانة خاصة بل عن زهران كافة؛ ولكن كرمكم أصر وألح إلا أن يكون له لقاء ويكون لكم لقاء، فجزاكم الله وإياه خير الجزاء. ثم أيها الإخوة الكرام -كما تفضل الإخوة- إنما غرض الاجتماع واللقيا هو التواصي بذكر الله: التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وإن الإنسان عندما يأتي إلى أمثالكم يتحير في أي موضوع يتحدث فيه، وأي وصية يريد أن يوصي بها، وأي مقال يتكلم به، ولكن كل مرة أجد نفسي لا بد أن أتكلم من وحي الوحي، من وحي كتاب الله تبارك وتعالى، فكلما تأمل الإنسان هذا الكتاب العظيم، والذكر المبين، والصراط المستقيم، الذي لا يمل منه القُرَّاء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الترداد، فإنه لن يرضى غيره بديلاً. وعندما قرأ الإمام -حفظه الله وجزاه خيراً- هذه الآيات البينات من أواخر سورة الفرقان، ذهب كل موضوع واستجمع الذهن كله إلا أن يكون الحديث عن هذه الآيات البينات، بل عن شيءٍ ونزر يسير مما توحي إليه هذه الآيات العظيمات من كتاب الله تبارك وتعالى. فهذا الكتاب هو الذي يجب أن يكون في أيدينا وفي قلوبنا، ملء أسماعنا وأبصارنا، نعظ به أنفسنا، وندعو الناس به وإليه؛ كما قال الله تبارك وتعالى لعبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيد} [ق:45] وجاء في الآيات الأخرى في سورة إبراهيم قول الله تعالى لموسى عليه السلام: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5]. ومن أعظم أنواع التذكير: التذكير بالقرآن وبالآيات المشاهدة المحسوسة من أيام الله ومن وقائع الله تبارك وتعالى في الذين من قبلنا، وفي مصارع الأمم ومهالكها. فمن لم يعتبر ويتعظ بالقرآن ولا بأيام الله في الذين خلوا من قبلنا كقوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم قروناً بعد ذلك كثيرة؛ فبماذا يتعظ وبماذا يعتبر؟

معنى تبارك وتعالى

معنى تبارك وتعالى والله تبارك وتعالى في هذه الآيات البينات يقول: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [الفرقان:61] سبحان الله وتبارك! هذه الكلمة ككثير من ألفاظ القرآن، خير ما تفسرها به هي نفسها، فلو قلت: ما معنى تبارك؟ فإنك لن تجد أفضل من أن تقول: تبارك الله، فهي كلمة واضحة والقلب يستشربها ويستشعرها من غير أن يفسرها، وفي قوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] فتبارك الله، أي: تعالى وتقدس، وهي بذاتها -كما قلت- كافية.

الرد على الكفار في إنكارهم للرحمن

الرد على الكفار في إنكارهم للرحمن إنّ الله تبارك وتعالى -في أواخر هذه الآيات العظيمة- يريد أن يرد على الكفار الذين أمروا بأن يعبدوا الله، وأنه تبارك وتعالى من أعظم وأجل أسمائه اسم الرحمن، فقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] أي: اسم الله أو الرحمن، وهما أعظم أسماء الله عز وجل؛ لكن ماذا قال المشركون: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60] وقال بعضهم: "لا نعرف رحماناً إلا رحمان اليمامة" مكراً واستهزاءً وسخرية؛ فذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات العظيمة دلائل كونه الرحمن تبارك وتعالى.

مظاهر الرحمة

مظاهر الرحمة والدلائل على أنه الرحمن وعلى أنه المعبود الحق تأتي على نوعين:

النوع الأول: الدلائل والآيات الكونية

النوع الأول: الدلائل والآيات الكونية وهي آيات عظيمة باهرة عجيبة! قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:75 - 76] فنجد آيات عجيبة في هذا الكون الممدود أمامنا! ولذلك عندما تتأمل في أي شيء يرتد إليك البصر خاسئاً وهو حسير فانظر إلى الآفاق أمامك! وانظر إلى الجبال! وانظر إلى السحاب والسماء! ماذا ترى من آيات الله تبارك وتعالى! ترى آيات كونية عظيمة، فالكواكب والنجوم والمنازل التي هي البروج، عجز العلماء في كل زمان ومكان -حتى في عصر المكبرات والمقربات والمراصد الضخمة- عن أن يعرفوا أبعاد ونهايات هذا الكون وهذه الكواكب والشموس؛ وهذه المجرات العظيمة، فيقولون: إنها لا نهاية لها، ونحن نعلم أن لها نهاية، غير أن كل ما لا يستطيعون إدراكه يقولون عنه: لا نهاية له، من شدة أبعاده. فنقول: كل ذلك في حدود السماء الدنيا؛ فما بالك بالسماوات السبع؟! فما بالك بالكرسي؟! فما بالك بالعرش وهو أعظم المخلوقات؟! وفوق العرش رب العالمين تبارك وتعالى فسبحان الله! ما أعظم الله! وما أعظم الدلائل البينة على قدرته وكماله وعلوه وقهره تبارك وتعالى! فهذه البروج هي دلائل عجيبة. ثم ذكر الله تبارك وتعالى آيتين صغيرتين نراهما نحن كبيرتين، وهما في الحقيقة صغيرتان بالنسبة إلى الكون العظيم، وإلى خلق الله، وملك الله، وهما: الشمس والقمر، فهما آيتان عظيمتان، ولولا أن العقول البشرية إذا تكرر عليها شيء، فإنها تنساه حتى لا تكاد تذكره؛ لكان أعظم شيءٍ في هذه الدنيا هو الشمس؛ ولولا أنها تتكرر كل يوم؛ لكان الناس كل يوم يجلسون في بيوتهم ينتظرونها متى تظهر ويتعجبون منها! فقد أصبح الكثير منا لا ينظر إليها ولا يدري متى أشرقت أو متى غربت، ولا شك أن هذا من الغفلة! لكن لو تأمل الإنسان في هذه الشمس لرأى عجباً! ما هذا السراج الوهاج؟! ما هذه الأشعة؟ ومن أين يأتي هذا الضوء من مسافات هائلة بهذه الدقة، وبهذه المواعيد؛ لتستقيم حياتنا ومعاشنا، فتنضج الثمار ويكبر الصغار، وتكون الحياة، وتكون عملية التبخر، وعملية إنشاء السحاب الثقال، والأمطار والزهور والورود. عمليات كثيرة جداً، منها ما يتكلم عنه علماء الأحياء والطبيعة، ومنها ما لا يتكلمون عنه، ومنها ما يراها العامي، ومنها ما يدركها الفلاح، ومنها ما يدركها العالم الكبير، وتزداد الأيام والليالي توسعاً في هذا العلم عن هذه الآية العظيمة من آيات الله، ولا تنتهي أبداً فهذه الشمس وهي: فهي السراج. أما القمر فكما قال تعالى: {وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:61] أي: إن للقمر نوراً، فالله تعالى قد جعل الشمس ضياءً وسراجاً، وجعل القمر نوراً، فهو ليس سراجاً أي: مشتعلاً؛ وإنما هو نور يعكس -بقدرة الله تبارك وتعالى- ضوء الشمس. وأنت لا تدخل مكتباً من مكاتب الدنيا لموظف أو عامل إلا وأمامه تقويم من أجل المواعيد، ومعرفة الأيام؛ لأن الله تعالى يعرف حاجتنا إلى أن نعرف عدد السنين والحساب كما قال سبحانه: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5] فقد جعل لنا هذه العلامة -القمر- تقويماً عجيباً جداً اختص به المسلمين، ولكن مع الأسف -وهذا من جملة أمور كثيرة تركناها من الأصالة وهي من الدين ومن الخير والفضيلة، ثم أخذنا نتشبه بالكفار- تركنا تقويمنا وأخذنا نحسب بأشهر الكفار. فنقول: هذه آية عظيمة، فالإنسان إن كان عامياً أو كان فلاحاً، إن كان في البادية أو كان في أي مكان، فإنه يستطيع أ، يعرف أن هذا نصف الشهر أو آخره؛ وكذلك جعل الله تبارك وتعالى الحج، وجعل العبادات كالصيام والصلاة مرتبطة -أيضاً- بالشمس، وبهذا الذي هو تقويم في كبد السماء، واضح جلي عجيب، فهو يراه كل الناس فيعرفون نعمة الله تبارك وتعالى عليهم، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه فقال: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] فالله سبحانه وتعالى فصّل لنا تلك الآيات، وامتن علينا بها، فالشهر كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هكذا أو هكذا} أي: إما ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً "بحسب النظر والرؤية للقمر لا بشيء آخر غير ذلك، فهذه من أعظم نعم الله تبارك وتعالى، ولا نطيل فيها ولا في تعدادها لأننا نريد أن ندخل في الأمر الذي نحن نحتاجه وقلوبنا ظمأى إليه.

النوع الثاني: الاستدلال بعباد الرحمن

النوع الثاني: الاستدلال بعباد الرحمن وأما الدليل الآخر غير الدلائل الكونية فهو: الاستدلال على الرحمن بعباد الرحمن، سبحان الله! كيف يكون هذا؟! إن العاقل البصير يستطيع أن يستدل على أي ملكٍ أو مالكٍ لشيءٍ من الأشياء، ومن كان له صحبة أو فئة أو جماعة أو أتباع؛ بأتباعه وصحبته أو بمن ينتمي وينتسب إليه. ولذلك عندما نعلم أن أفضل الخلق هم الصحابة بعد الأنبياء، وعندما نرى سيرة صحابي واحد من الصحابة؛ فإننا نجد أحدهم آية من آيات الله تتحرك على الأرض، ثم كيف بمجموع الصحابة، ومن الذي رباهم؟! فنستدل بذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أفضل الخلق أجمعين، وأفضل المربين، والمعلمين، كما قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: {بأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أفضل منه} أي: لا يمكن أن يكون هناك معلمٌ للخير أفضل أو مثل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكذلك أيها الكفار المكذبون بالرحمن، انظروا إلى عباد الرحمن! وانظروا إلى من ينتسب إلى عبودية الرحمن وانظروا ما هي صفاتهم، لتعلموا أنه الرحمن حقاً!

من صفات عباد الرحمن

من صفات عباد الرحمن وقد تعجبون عندما تبدأ الصفات التي قد تكون أقل شأناً بالنسبة لما بعدها، فأعظم صفات المؤمنين هي: أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، لأنهم موحدون لله، وهذه أعظم صفة من صفات المؤمنين، وكلنا نعلم ذلك، فأصل كل شيء هو الإيمان وإخلاص التوحيد لله تبارك وتعالى، لكن هنالك حكم عظيمة في تقديم الأقل أحياناً ثم التدرج إلى الأعلى. والصفة التي جعلت الكفار يكفرون بالرحمن ويزيدهم نفوراً، وجعلتهم يتمردون على أوامر الله، ويستكبرون عن طاعة الله؛ فلا يقبلون قول الله ولا قول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والعصاة لهم تبع في ذلك- هي: صفة الكبر -والعياذ بالله- فالمتكبر يستكبر على الله، ويستكبر على الإيمان، والحق، والدين، فهو يستكبر بسلطانه، ويستكبر بماله وأولاده وبمقامه عند الناس، ويفتخر بآبائه وأجداده. وكل أنواع الكبر كان أول من سنها هو إبليس الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين، وذلك عندما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. وكذلك كفار قريش عندما قالوا: كيف ينزل القرآن على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ولماذا لم ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ وهما: الوليد بن المغيرة -أو الحكم بن هشام - وعروة بن مسعود من الطائف، لوجود معايير الكبر عندهم دائماً؛ ولذلك تجد القلوب العادية أو التي لم تتفقه في دين الله دائماً تهتم بالكبير؛ وفي الحقيقة أنه: كم من كبير عند الناس وهو صغير عند الله تبارك وتعالى. ولهذا عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه، عندما وقف وخطب وتذكر ما كان عليه الصحابة من قبل وما عانوا وما لاقوا، ثم تذكر ما أعطاهم الله تبارك وتعالى؛ قال: [[وما منا اليوم إلا من هو أمير على مصر من الأمصار، قال: وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي كبيراً وعند الله صغيراً]]، أي: لا ينفعه ذلك وهو الصحابي رضي الله تعالى عنه. فهذه الصفة -الكبر والعياذ بالله- أكبر حائل وأكبر مانع عن الحق.

التواضع

التواضع لذلك كانت أول صفة من صفات عباد الرحمن هي: التواضع، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] فقوله: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] فالإنسان قد يقابلك ولا يكلمك؛ -لأنه ليس شرطاً أنك كلما قابلته أن تكلمه أو يكلمك- ومع ذلك فمن كيفية سيره ومن مشيته؛ تستطيع أن تحكم عليه، لأنك تعرف صفات عباد الرحمن من أول ما تراه، ومن سيره ومشيته كما أنك قد ترى من مشية بعض الناس أنه مستكبر، فهو ليس من عباد الرحمن -عياذاً بالله- وليس من أهل الطاعة ولا من أهل الإيمان، ولا من أهل الخير والصلاح، سواءًَ خاطبته أو رأيته فقط؛ فإنك ترى أنه متكبر، ولهذا جاء هذا الوصف الظاهر الذي يراه كل أحد في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63].

الإعراض عن الجاهلين

الإعراض عن الجاهلين وأما الصفة الأخرى فهي: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] الله أكبر! الآن -مع الأسف- بعض الناس يخاطبه الأخيار ويخاطبه الأفاضل ويخاطبه دعاة الخير والحق والهدى، ولا يقول: سلاماً، مع أن عباد الرحمن إذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً؛ أما إذا خاطبهم الفضلاء والأخيار؛ فهنالك حسن البشاشة والاستقبال والأخوة والمحبة؛ لكن الجاهلون: هم جاهلون في تصرفاتهم، وفي ألفاظهم وتعاملاتهم، وجاهلون بربهم عز وجل وهو أعظم الجهل، وجاهلون في معاييرهم وفي موازينهم وفي قيمهم التي يقدرون بها الأشخاص أو يقدرون بها المواقف، فقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] يعني: كان جوابهم جواب المسالم، الذي يدفع السيئة ويدرؤها السيئة بالحسنة، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون:96] وهكذا يعلمنا الله تبارك وتعالى وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فلو توقفت عند كل جاهل لتخاطبه أو لترد عليه، لِتُبين له أنه مخطئ في كلامه؛ لما عملت عملاً في حياتك، أو لربما تقطعت بك الأيام والليالي ولم تنجز عملاً واحداً؟! لأن هذا يخاطبك بلون وهذا بلون آخر، وهذا يستهزئ ويسخر وذاك يغتاب وينم وهذا ينظر نظرات زائغة، وهذا وكل ذلك داخل في الجهل؛ فلا تبال بهم وأعرض عنهم، فأعرض عن الجاهلٍ مطلقاً؛ لأنك تنظر بنور الله، وتنظر إلى ما عند الله وتريد ما أعد الله؛ وهؤلاء الجاهلون بالله هم أعداء بطبيعتهم لدين الله، ولما أنزل الله تبارك وتعالى؛ فلا تبالِ بهم ولا تعبأ بشأنهم؛ وإنما عليك أن تقول لهم: سلاما -والقول يأتي في لغة العرب بمعنى: العمل- أي: أن تعمل عملاً أو تصرفاً هو سلام مع هؤلاء، فقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. وقد يكون باللفظ وقد يكون بالعمل، فقوله تعالى: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أي: نحن لا نريدهم حتى لا ندخل معهم في مشاكل ولا ندخل معهم في معارك، حتى لو وقفوا أمامك في الطريق حجر عثرة، فلا يردوك عن أن تتجاوز وأن تعمل وتهدي وتدعو؛ بل غض بصرك وامش وتجاوز عنهم، والله تعالى سيعينك عليهم، وتذكر قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وآيات الله كثيرة والدلائل والعبر كثيرة من صفات هؤلاء ومن غيرها.

قيام الليل

قيام الليل ثم يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] والليل له معنىً خاص، فمن حكمة الله، أنه: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]، فالليل يعني: الهدوء والسكون والرهبة التي كان يشعر بها الناس، ولا سيما قبل هذه الكهرباء والأضواء؛ ولو ذهبت إلى ساحل البحر أو ذهبت إلى رأس جبل من الجبال وحدك وابتعدت عن الأضواء؛ فإنك تشعر بشعورٍ لا تجده أبداً وأنت هاهنا في الليل، سبحان الله! فماذا يفعل المؤمنون في الليل؟ إن الليل مطية المؤمنين إلى الدار الآخرة، ومطية المتقين إلى الجنة؛ لأنهم في النهار مثل الناس -في الغالب- يكدحون ويعملون ولكن هذا الليل له أمر خاص وعلاقات خاصة؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قد اختصهم به، فقال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] فلماذا لا تعلم؟! لقد بين الله تبارك وتعالى لنا ما أعده في الجنات من الحور والنعيم والخير، وهذا واضح، لكن هناك أناس يعبدون الله خفية وهم مستترون، بينهم وبين الله استغفار، قال الله عنهم: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] أي: قياماً وسجوداً وركوعاً، فهؤلاء بقدر ما تكون العلاقة خاصة مع الله في الليل وحيث لا يراهم أحد، بقدر ما يكون الجزاء أيضاً. وانظروا إلى واقعنا نحن اليوم فإنه إذا مر أحد منا بمكان أعجبه -بجبل، أو غار، أو شجرة مثمرة لها ظل- يقول: لو أننا نأكل هاهنا أو نجتمع هاهنا الله المستعان! فهذه حياتنا. وأما أسلافنا فقد كان الرجل منهم إذا مر بمكان أعجبه، قال: ما أحلى هذه الشجرة وما أحلى هذا الغار ليتني أدخل وأصلي فيه ركعتين، لماذا؟ لأن قلوبهم متعلقة بعبادة الله، فهمهم وراحتهم ولذتهم وطمأنينة حياتهم هي في تقوى الله وطاعته وعبادته؛ وهذه الطمأنينة والراحة تتم بتمامها في الليل، فإذا نام الناس وسكن الكون وهدأ كل شيء؛ قاموا يناجون الله تبارك وتعالى ويسألونه ويستغفرونه ويدعونه؛ وبذلك يظهرون بتلك المنزلة العظيمة؛ فهم يجدون لذة لا يجدها أهل اللذة جميعاً مهما اجتمعوا عليها، وهذه هي جنتهم، وكما قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: ' إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ' نعم -والله- جنة عظيمة! قال فيها بعضهم: ' لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف' ' نعيم لا يعلمه الكثير، وأهل الدنيا مساكين! غاية ما عند أحدهم أن يلعب ورقة، أو أن يسكر -والعياذ بالله- فيطير عقله، أو يتفرج فيما يسمى العبث والسخافة والفسق والفجور أو الغناء والطرب، فهذه هي الليلة المفضلة عندهم؛ فسبحان الله أي: شيء وأي نعيم وأي راحة في تلك الأعمال؟! والله إنها نكدٌ وظلمة في الوجه، وإنها حسرة في القلب، وإنها تكدر العلم وتمحق البركة في الرزق أيضاً، وهكذا مما في المعاصي من أضرار وأخطار، وأما المؤمن فإن الليل مطيته، والعبادة لذته وراحته.

نماذج من سلف الأمة

نماذج من سلف الأمة فمن الكرامات التي تؤثر عن ثابت البناني رحمه الله أنه سأل الله تبارك وتعالى، فقال: [[اللهم إن كنت أعطيت أحداً أن يصلي في قبره، فأسألك يا رب أن تعطيني الصلاة في قبري]] سبحان الله! الواحد منا يريد الرجوع إلى أهله كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99]. وأما إذا كان من أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة- فإنه يقول: ربِّ أقم الساعة حتى أرى أهلي في الجنة؛ لأنه يفتح له فيرى مقعده من النار، ويقال: هذا مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة ويرى أهله في الجنة فيقول: يارب! أقم الساعة حتى يرجع إلى أهله ويراهم، لكن هذا يتمنى أن يصلي حتى في القبر سبحان الله! يخاف لو مات أن تنقطع لذة الصلاة، وأن تنقطع ثمرة العبادة حتى وهو في نعيم الجنة، كأنه يقول: أنا أريد -ما بين الفترتين- في البرزخ أن أصلي، فلما توفي رضي الله تعالى عنه -وهذه من الكرامات الثابتة، وهي كثيرة والحمد لله، ولا نحتاج إلى الخرافات- ذهب أصحابه ليدفنوه، قال أحدهم: فسقطت عمامتي في القبر -أراد الله أن تتحق الكرامة، فسقطت- فرفع قليلاً وأدخل يده ودنا لأخذها، وإذا بالقبر مد البصر من النور، وإذا به ثابت البناني قائم يصلي! سبحان الله! نعم، أولئك عرفوا لذة العبادة وقيمتها. توفي أحدهم رضي الله تعالى عنه وإذا بابنة -جارية- لجاره تقول: يا أبتاه، أين الخشبة التي كان ينصبها جيراننا فوق سطحهم؟ فقال: يا بنية، أي خشبة؟! قالت: خشبة كنت أراها كل ليلة فوق السطح، وإذ بها ليست خشبة بل كان صاحب البيت يقف فيقرأ المائتين والمئات من الآيات كل ليلة، والطفلة تراه فتظن أنه خشبة! فأين الخشبة وأين ذهبت الخشبة؟ الله أكبر! وأحدهم يبكي ويصلي من الليل، فتقول أمه: يا بني! لعلك قتلت نفساً فإن الله غفور رحيم، وإذا قتلت نفساً لعل الله يغفر لك - كانت تظن أنه لا يبكي ويتعبد إلا إذا ارتكب قتل نفس- فيقول: نعم يا أماه! قتلت نفسي بالذنوب والمعاصي، فهذه هي النفس المقتولة. لقد كان الليل هو خلوتهم وراحتهم وسعادتهم، ومهما تحملوا من هموم النهار؛ ففي الليل تأتي المناجاة واللذة والطمأنينة، ويقوم الواحد في اليوم الثاني نشيطاً في أعز راحة ونعمة؛ لأنه غسل كل الهموم والأدران والتعب، بتلك الصلاة والاستغفار والذكر لله تبارك وتعالى في جنح الليل. وأما الإنسان الذي يكدح للدنيا فهو كما جاء في الحديث: {حمار بالنهار، جيفة بالليل} أي: أنه ينام وعنده عشرة هموم ويقوم في الصباح فيجدها صارت عشرين, وينشغل بكذا وكذا؛ ثم تأتيه الأمراض من هنا ومن هنا؛ فلا يستطيع مقاومتها؛ لأنه مسكين لا يتحمل، فالمخ لا يتحمل، والمعدة لا تتحمل والأعصاب لا تتحمل، وهذه المشاكل كلها من: الدكان، والتجارة، والأولاد، والزوجة، والوظيفة، والراتب، والتقاعد، والترقية، والترفيع ومشاكل كل يوم، لا يغفل عنها أبداً. وأما المؤمن: فلو بلغه أن الدنيا كلها قد اجتمعت عليه فهي لا شيء بالنسبة له، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فحسبنا الله ونعم الوكيل هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وهي كلمة واحدة من ذكر الله، يدعو بها الإنسان في جوف الليل، فتذهب كل تلك الهموم والأحزان؛ بل ربما انقضت كأعظم صاروخ في الدنيا على أعداء الله عز وجل فدمرتهم أجمعين. ولهذا أقول: يا شباب الصحوة يا شباب الدعوة، نريد أن يكون لهذه الصحوة المباركة الطيبة أولياء عباداً أتقياء تتزلزل الجبال إذا رفعوا أيديهم بالدعاء إلى الله عز وجل، والحمد لله فالالتزام والتمسك والخير كثير في المظهر والملبس والمحافظة على صلاة الجماعة، لكننا نريده أعمق وأعمق وأعمق نريد قلوباً مخبتة منيبة نريد الرجل الذي إذا رفع يديه لا يردها الله تبارك وتعالى إلا وقد حقق له ما يريد، وإن الله تعالى حيي كريم كما جاء في الحديث: {إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً}. فلا أحد يرفع يديه إلى الله ويردها صفراً؛ لكننا نريد شيئاً أخص من ذلك، نريد الذي يدعو على جبار فيقصمه الله عز وجل، نريد من يدعو على دولة من دول الكفر؛ فيدمرها رب العالمين، نريد من يدعو على ظالم من الظلمة؛ فينتقم الله منه ويجعله عبرة وآية للعالمين، وهكذا.

ضرورة التضرع لله

ضرورة التضرع لله ونريد مثل محمد بن واسع وهو من موالي زهران، أي أنه من هذه القبيلة الخيرة الطيبة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {مولى القوم منهم}. إن قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله، كان يعد الجيوش لحرب أكبر جبهة كانت في تاريخ العالم الإسلامي وفي تاريخ الفتوحات، وهي الجبهة الشرقية حيث الهند والصين والترك، وهي أعتى الشعوب في القتال؛ فكان يريد أن يقاتل وأن يجاهد هؤلاء، فأعد العدة المادية كاملة وبقيت العدة الأخرى، لأنه لا ينسى أحدٌ من قادة المسلمين وصية عمر بن الخطاب لـ سعد بن أبي وقاص: [[واعلم أن المسلمين إنما ينصرهم الله تبارك وتعالى بطاعتهم لله وبمعصية عدوهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية؛ كان لهم الفضل علينا في القوة]] أي: فنحن عدتنا الطاعة، وكفى بها عدة، ففي تلك الليلة أعد كل شيء وبيت للهجوم ثم قال: اذهبوا فالتمسوا هل في المسجد أحد -هكذا نريد مثل هؤلاء تقي خفي لا يدري عنه أحد، ولكنه يأتي بدعوة هي خير من هذه الجيوش كلها، أو رديفة ومساندة لهذه الجيوش كلها- قالوا: ما وجدنا فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه -أي: يدعو بإصبع واحدة- قال: إصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف فارس. وذلك لأنه إذا قال: يارب، استُجيب له بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، ويفزعون إليه تبارك وتعالى، فهم جنده، والدين دينه والدعوة دعوته، والجند جنده والعباد عبيده، والأعداء أعداؤه. إذاً: لا بد أن يفزعوا إليه ولا بد أن ينادوه وأن يتضرعوا إليه. وهنا ننبه إلى أدب عظيم من آداب الدعاء، وكلكم تعرفون الضرع، فكيف التضرع؟ أرأيتم العجل الصغير من البقر أو من الإبل أو من أي شيء، كيف يرضع! وكيف يفعل إذا لم يرضع! أرأيتم تلك الحالة؟ وكيف يرتفع وينزل ويحاول ويحاول ويمتص ويحرص وهكذا، فالضراعة مأخوذة من ذلك؛ فالواحد لا يرفع يده اللهم اغفر لي، ويمر منها كبعض الناس، بدون تضرع، بل اجعله دعاء ضراعة وتضرع والتمس الخير من عند الله لعله أن ينزل عليك، وبنفس الحرص والرغبة والشدة القلبية التي يفعلها هذا الصغير من الحيوان وهو يأخذ من الضرع، واطلب ذلك سواءً أكان مطراً أم غيثاً، أم رحمة أم نصراً أم رزقاً أم توفيقاً أم أي شيء. تضرع إلى الله فبالضراعة يدفع الله تبارك وتعالى العذاب؛ ولهذا يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] أي: لو أن الناس استكانوا لربهم -والاستكانة هي الطمأنينة والخضوع الكامل الذي يناسب الهون، الذين يمشون على الأرض هوناً أي: مستكينين- وتضرعوا إلى الله عز وجل؛ لكشف الله تعالى عنهم العذاب كائناً ما كان. وليس الحال كحالنا اليوم: إذا نزل العذاب جرينا وراء الأسباب، وانتقلنا من سبب إلى سبب إلى سبب، حتى نضيع في أودية لا نهاية لها، والطريق سهل والاتصال بالله تبارك وتعالى ميسور؛ ونتضرع إليه فيكون كل ما نريد بإذن الله تبارك وتعالى من خيره وفضله. {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] أي: وهاتان الحالتان في الصلاة؛ أما السجود فأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد؛ وأما القيام فأفضل الصلاة طول القنوت والقيام، وهو الذي يجعل الإنسان مثلما رأت تلك البنت أو الجارية ذلك الرجل كأنه خشبة. فبالسجود وبالقيام وبالدعاء وبتدبر الآيات والتفكر فيها في القيام ترى العجب، وبالبكاء في السجود ترى العجب الآخر، سبحان الله العظيم! ولهذا جاء عن بعض السلف في تدبر الآيات وفي قراءة آية واحدة من كتاب الله مواقف عجيبة جداً وكيف تفعل الآية في القلوب؛ فكيف بك إذا قرأ المئات من الآيات، حتى كان بعضهم يريد أن يصلي بعض الليل أو ثلثه، ولا يشعر إلا وقد طلع عليه الفجر، فإلى الفجر وهو ما يزال واقف لا يشعر بالوقت؛ لأنه يستغرق بعمق في هذه الآيات وفي معانيها. وكما قرأ بعضهم قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] فكيف حيل بينهم وبين ما يشتهون. فيشتهي الإنسان في هذه الدنيا، المال والراحة والزوجة والبيت وهو في هذا التعب كله ويعمل فيه، فتأتي لحظة ثم يحال بينهم وبين ما يشتهون، ولو فكر الواحد كيف يحال بينهم في لحظة واحدة يسلب هذا كله الملك، والمال، والمنصب، والسلطان، والزوجة، والبيت وكل شيء فإذا حيل بينك وبين ما تشتهي وبدأت تفكر: ماذا قدمت وماذا أمامك؟ فهذه هي العبرة، لو فكر الإنسان وتأمل، كيف أنه يحال بينه وبين ما يشتهي وبين ما تعب. فسنوات من عمرك وأنت تزين هذه العمارة، ومالك كله قضيته وأنت تتفنن في هذه الحديقة، وفي اختيار هذا المنزل، ثم يقال لك: ارجع إلى ما أترفت فيه، لماذا تركض؟ ولماذا تذهب؟ فحيل بينهم وبين ما يشتهون، أي: بنزول الموت وبنزول العذاب ينتهي كل شيء؛ ثم يحاسب عليها ويتمنى أنه سلم منها -على الأقل- حتى يخفف عليه الحساب؛ لكنه يحاسب عليها، ويتمتع بها غيره؛ وهذا من ضيق الدنيا وخستها وحقارتها إذا قورنت بالآخرة.

حقيقة الدنيا عند السلف

حقيقة الدنيا عند السلف وهذا الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، تأمل في قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:40 - 42]. إن هذه الآية كأنها استجمعت واستغرقت ذهنه الليلة كلها، فيفكر فقط! كيف إن يوم الفصل ميقات الناس أجمعين، الأولين والآخرين -من آدم عليه السلام، إلى آخر مخلوق يخلقه الله عز وجل- فيأتون جميعاً حفاةً عراةً غرلاً بهماً كيوم ولدتهم أمهاتهم، وتدنو منهم الشمس مقدار ميل، فذلك موعدهم وميقاتهم أجمعين، ثم يكون الحساب والفصل، سبحان الله! الواحد منا إذا رأى أباه أو جده وقد صار كبيراً طاعناً في السن، وتأمل هذا الكبير المنحني الظهر مرت به أيام مثل الحلم، كان طفلاً صغيراً وكان يرى جده وهو كبير طاعن في السن مثله، وذلك الجد كذلك، سبحان الله! وكأنك ترى مجموعة هائلة لا نهاية لها كلهم شِيبة إلى مالا نهاية؛ لكن أنت شباب والحمد لله ولكنها لحظات كالحلم، فتمر أيام معدودة، وإذا بك نفس الشيء، وإلى نفس الحالة. ولهذا يوم الفصل يجتمع هؤلاء جميعاً، الذي كان يقول: هؤلاء أحفادي، والذي كان يقول: هؤلاء أجدادي، وكم من قرون خلقها الله، عاد وثمود والذين من بعدهم -لا يعلمهم إلا الله- قال تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان:38] فكلهم يجمعهم الله عز وجل كما ذكر سبحانه: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]. وهناك: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} [الدخان:41] ولا ينفع الإنسان هناك إلا العمل الصالح، قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] أي: لا ينفع مال ولا سلطان، ولا منصب ولا جاه، فكل شيء يذهب ولا يبقى، إلا ما قدمت وما عملت، فتجده أمامك، قال سبحانه: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].

حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع العبادة

حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع العبادة وأما زرارة بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه فكان يقرأ قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10] فسقط رضي الله تعالى عنه في المحراب فوجدوه قد مات رحمه الله من هذه الآية، وكذلك ما حصل لـ عمر رضي الله عنه حين سقط وهو يقرأ من سورة الطور. فالكل لهم في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيم الأسوة وعظيم القدوة، فقد كان صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأز كأزيز المرجل، أي: كالقدر الذي يغلي؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أقوى الناس قلباً، وانظروا كيف جمع الله له هاتين الخصلتين! أقوى الناس قلباً وأثبتهم جناناً، وفي نفس الوقت أكثرهم اعتباراً وتأثراً فهو متوازن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالاعتبار عظيم جداً؛ لكنه لا يغلب قوة قلبه صلوات الله وسلامه عليه؛ فهو ثابت واقف، فيأز صدره كأزيز المرجل -الذي يغلي- من الخشية والخشوع والتدبر والتفكر؛ وكذلك كان خيار أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله. فإذا ضعف القلب -وأحياناً يضعف- يسقط مثل ما فعل زرارة وغيره، فيسقط ولا يستطيع أن يتحمل هذه العبرة، أو هذه الآيات. وأما إذا ضعف اليقين أو ضعفت العبرة فماذا يحصل؟ لا يأز الصدر ولا يتحرك الجنان، فذلك مثل حالنا نحن الآن، نقرأ الآيات ونسمع السور ونسمع العبر، فلا نتأثر، لأن الوارد ضعيف، ولم يرد على القلب شيء قوي، بل ورد عليه شيء ضعيف، وهو قاس -نسأل الله العافية- أو مريض أو فيه تحجر فلا يتأثر؛ فلذلك كان كمال العبادة في هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو له كمال القوة والثبات مع كمال الاتعاظ والاعتبار صلوات الله وسلامه عليه. والآيات عظيمة وعبرها كثيرة ونريد من أبي عبد الرحمن - يحيى اليحيى - حفظه الله -وقد زارنا هذه الليلة- أن يشارك ولا نسامحه ولا نعفيه، وإن كان بعض من حضر لا يعرفه حفظه الله، وأنا أكره حقيقة الحديث على الإنسان بحضوره سواء فيّ أو في غيري، لكن نعرفكم بهذا الشيخ، ونسأل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحفظه وأن يبارك في عمره، فقد تخرج على يديه من حفاظ الكتاب والسنة الجمع الكبير -ولله الحمد- وهو معروف حفظه الله في القصيم وما حولها، وإنها حقيقة لسعادة وشرف لنا نحن أبناء هذه المنطقة أن نراه وأن نسعد به، ولا بد أن نستمع إليه ولعلنا إن شاء الله نكمل هذه العبر والدلائل في لقاء آخر بإذن الله، وأمامنا كم هائل من الأسئلة فلا نطيل، ولكن نسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من عباد الرحمن. اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، اللهم اجعلنا من أوليائك الصالحين، اللهم اجعلنا من المخبتين، اللهم اجعلنا من المنيبين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من المخلصين، إنك سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.

كلمة للشيخ يحي اليحيى

كلمة للشيخ يحي اليحيى بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فلم آتكم متحدثاً ولا مذكراً، وإنما أتيتكم زائراً ملبياً لدعوتكم، مشاركاً في هذه السنَّة التي أدين الله أنها سنة حسنة، وما أن سمعت بأن هناك اجتماعاً مضمونه اللقاء بعلم من أعلام الإسلام، حتى وجدت قلبي ونفسي تميل إلى الجلوس كل الميل، فمضيت قُدُماً إلى هذه البلاد وإلى هذه الأراضي المباركة، لعلي أن أكون معيناً على البر والتقوى، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وإن هذا الاجتماع قطعاً قطعاً قطعاً تعاون على البر والتقوى. أيها الفضلاء النبلاء: إن كلماتي التي سأقولها، ولدت في تلك الدقائق السالفة، ولدت لما رأيت هذه الوجوه النيرة الطيبة، التي أبت كل الإباء إلا أن تحضر هذا الاجتماع، وهذا المكان لتشارك أهل الخير في خيرهم، ولقد تشنفت آذاننا وآذانكم وأطربت أرواحنا وأرواحكم، في هذا الاجتماع، ومثل هذا الكلام هو تجديد للإيمان، فلقد تجدد إيماننا، إي والذي نفسي بيده، ففي مثل هذه المجالس يتجدد الإيمان، وأنا على يقين أن الكثير الكثير سيئوب إلى بيته وقد ازداد يقينه وإيمانه وإحسانه بالله تعالى. ولما رأيت هذا الاجتماع وهذا الجمع الطيب، تذكرت قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ حكيم بن حزام، كما روى ذلك البخاري ومسلم من طريق عروة، قال: {أخبرني حكيم بن حزام أنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، أرأيت أموراً كنت في الجاهلية أتحنث بها، من صدقة أو عتاقة -أي وعتاقة- أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسلمت على ما أسلفت من خير}. وأنا أقول يا معاشر زهران: لقد أسلمتم على ما أسلفتم من خير، ولقد قدَّمت هذه القبيلة، لا أقول عشرات من رجال الحديث بل ولا أقول مئات، بل بالآلاف، فقد قدمت هذا القبيلة رجالاً لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولست بصدد بيان الرجال الذين ضحوا بمهجهم وأرواحهم وأنفسهم حتى قدموا لهذه الأمة هذا المعين الصافي من ميراث نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولقد كان من رجال هذه القبيلة شيوخاً للبخاري ومسلم رحمهم الله تعالى. إنكم يا معاشر زهران، لا زلتم تتفيئون ظلال تلك الدعوة النبوية الخالدة المستمرة، التي لفظ بها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أُتي إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل: {يا رسول الله! ادعُ على دوس، لأنهم أَبَو، فقال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم اهدِ دوساً، وأتِ بها} خاف أبو هريرة، وخاف الطفيل، أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، لكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا ربه لهذه القبيلة، فلكم نصيب من ذاك الرءوف، الذي سماه الله رءوفاً رحيماً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. فقال: {اللهم اهدِ دوساً وأت بها} فهدى الله دوساً، وأتى بها، ولا زالت دوساً تهتدي سنة بعد سنة، وقرناً بعد قرن، وها أنا أرى جمعاً كبيراً من هذه القبيلة العريقة، في شعاب الزمن، منظر لفت نظري إي والله، ما هو هذا المنظر؟ إنه التمسك بالسنة رجالاً وصغاراً خاصةً وعامةً، إنني أرى الجلّ ممن أعفى لحيته، وأحفى شاربه، وقصر ثوبه، لا تكاد، إنه غريب بينكم ذاك الذي يحلق لحيته، ويطيل ثوبه، فيا لله ما أعظمها من خصلة! إنه يحق لكم أن تعتزوا، ويحق لكم أن تفرحوا وأن تستبشروا وأنتم تحيون سنة قد أميتت. وأنتم تعيشون هذا الشعور، في زمان يغربل الناس فيه غربلة: لقد أسلمتم على ما أسلفتم فيه من خير، إنكم اليوم تسجلون سنة حسنة، فالله الله، في المزيد في الهداية والسداد، هذا هو الذي أريد أن أقوله في بدئ الأمر. فأقول أيها الفضلاء، أيها الكرام، أيها الشجعان، وهذا شيء وأمر معروف، ولا خلاف فيه، أقول: هكذا ينبغي الاحتفاء بالعلماء، والاحتفاء برجالات الإسلام، الذين وضعوا أرواحهم على راحتهم، هكذا ينبغي، إن أمة تحتفي بعلمائها، أمة مرحومة، وأمة خيرة مباركة. وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت ولا زالت ترفع من قيمة العلماء، وترفع من قيمة الدعاة، وتضحي بالغالي والنفيس من أجل الذود عنهم، وعن أعراضهم، وتضحي بكلما أوتيت انشروا صفحات التاريخ، اقرءوا الصفحات التي سجلت بالأمس، كيف كان المسلمون يقفون مع علمائهم؟ وبنظرة سريعة إلى عالم الأمس، تجد فعلاً أن الأمة أمة مرحومة مباركة خيرة. أيها الإخوة: إنني أشعر أني مأمور أمر وجوب لكي أتكلم مثل هذا الكلام، كيف وقد أمرني فضيلة الشيخ سفر بارك الله فيه وفي علمه، إني أراه بالنسبة لي واجب، لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. فمن هم أولو الأمر؟ ذهب جمهور المفسرين إلى أن أولي الأمر هم الأمراء والعلماء، الأمراء الذين يطيعون الله، ويطيعون الرسول، والعلماء الذي يخشون الله، وهم ربانيون بما يعلِّمون الناس. أيها الإخوة: كما أننا نحتفي بالعلماء، فينبغي أن نسعى جاهدين من أجل أن نخرج علماء، ودعاة، وأنتم والحمد لله خرجتم، وهاأنتم تدفعون ضريبة الإسلام، وهاأنتم تزكون إسلامكم، وهذا هو ابن من أبنائكم، وولد من أولادكم، أصبح بُعبعاً في كل أرض ينزل فيها، وكلماته دوّت وسمعها القريب والبعيد، وما بينكم وبينه إلا بضع كيلو مترات، فالجدير أيضاً أن تواصلوا الجهود، والحمد لله، نسمع أن هناك كواكباً من طلبة العلم، هم في هذا الطريق، قد اجتهدوا وجدوا، ولكن نريد الزيادة، فهذه أرض خصبة لا نقنع بواحد أو باثنين أو بثلاثة أو بأربعة أو بخمسة، بل نريد عشرات، بل مئات، فعلى الأولياء أن يجندوا أولادهم للذود عن هذا الدين العظيم، وأن يحيوا ما كان عليه أسلافهم، فعليهم أن يشجعوا أولادهم على طلب العلم الشرعي، بدءاً بحفظ القرآن الكريم، وتثنيةً بحفظ سنة النبي الكريم، وهكذا، وهذا هو المظنون وهو المنتظر في قرية أو إقليم أو في أرض، أو مدينة لها مالها في دين الإسلام. أيها الأحباب: إني أقول وأنا على يقين إنكم قد سئمتم من كلامي، وإني متطفل في كلمتي هذه، إنكم الآن تنظرون إلى فضيلة الشيخ سفر، وقد اشرأبت أعناقكم إليه للاستماع إلى مزيد من أجوبته النافعة، وأنا معكم، ولا ألومكم، فأترك المجال لكي أستفيد وتستفيدون أنتم من حديثه العطر، أسأل الله تعالى أن يجمعنا في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، أسأل الله ألا يجعل هذه الأقدام التي سارت إلى هذا المكان، تسير خطوة واحدة إلى النار. أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوالكم، وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم إلى الخير وإلى الصراط المستقيم، وأن يحيينا على الإسلام، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يميتنا على الإسلام، وأن يدخلنا الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ولا أنسى أن أقول لمن تسبب في هذا الجمع جزاك الله خيراً، وأصلح الله نياتك وذرياتك، اللهم وفقه على الخير، اللهم أصلح له أولاده، اللهم سدد خطاه، اللهم بارك له في ماله، اللهم بارك له في أولاده، اللهم بارك له في حياته، اللهم اغفر له بعد مماته، اللهم اجعله من الأولياء الصالحين، ومن الأولياء المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعقيب للشيخ سفر

تعقيب للشيخ سفر بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خير خلق الله. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: شكر الله لأخينا الشيخ الحبيب: يحي بن عبد العزيز اليحيى، وأثابه على ما تفضل به، وعلى ما حض به هؤلاء الآباء الكرام وهؤلاء الشباب الذين نسأل الله تعالى أن يجعل فيهم الخلف الطيب والنشء الصالح، إني أحب أن أعقب تعقيباً بسيطاً قليلاً فقط، على كلامه أثابه الله، لتعلموا مغزاه. إن الشيخ حفظه الله، قد أقام حفلاً عظيماً، وأقول بحق، إنني لم أشهد قبله ولم أشهد بعده مثله، حفل أقيم في مدينة بريدة وكان الاحتفال بحفظة الصحيحين - البخاري ومسلم - وكان المحفظ هو الشيخ حفظه الله، ولا أقصد بذلك أن أثني عليه في حضوره، وهو -ولله الحمد- يستحق ذلك وأكثر، لكن أريد أن أبين لكم أن شهادته لهذه القبيلة -لقبيلة زهران - شهادة العالم المطلع، وعندما يخبركم عن كثرة الحفاظ، والشيوخ والعلماء منها فهو العليم وهو الخبير بأحوال هؤلاء الرواة، وهو يحدثكم بهذا الحديث ويريد منكم -كما حظكم- أن تكونوا أبناء سائرين على هذا الطريق، وأن تُخرج هذه القبيلة -بإذن الله والقبائل الأخرى- الحفاظ لدين الله تبارك وتعالى، الذين يحفظونه بسيوف الجهاد، ويحفظونه أيضاً علماً ومسائل في صدورهم وقلوبهم. وأنا لو قلت هذا الكلام، أو قاله غيري لربما كانت الشهادة مجروحة، لأننا من أبناء المنطقة، أو كانت في غير محلها، لأن التخصص مختلف، أما أن يصدر هذا الكلام منه حفظه الله، فهو يتطلع إلى أن يكون في الخلف وفي هذا الجيل من يعيد سيرة أولئك الآباء الكرام الفضلاء وما ذلك على الله بعزيز، فبارك الله فيكم علموا أبناءكم وحفظوهم كتاب الله، وحفظوهم سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واهتموا بهم واعتنوا بهم، واعلموا أنه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا}، وكما تفضل بالحديث الذي ذكره الشيخ: {أسلمت على ما أسلفت من خير} فنسأل الله تعالى أن يبارك في هذا الجيل الجديد، وأن يجعل فيهم من يعيد سيرة أولئك الأباء الفاتحين، والعلماء العاملين إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

حديث: أنهلك وفينا الصالحون

حديث: أنهلك وفينا الصالحون Q عندما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث} وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فهل الذي ينجي الأمة هو أن يكونوا من المصلحين الصالحين؟ وما هو الدور الذي يجب أن يقوم به المسلم تجاه نفسه ليكون من الصالحين، وتجاه الأمة ليكون من المصلحين؟ A هذا سؤال عظيم، وما ذكره الأخ السائل هو حق، فما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {نعم إذا كثر الخبث} وكان ذلك لما سألته أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، {أيهلكنا الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث}. فالمانع والحائل من نزول العذاب هو الإصلاح لا مجرد الصلاح، فيجب أن يكون الإنسان صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره، واعلموا أنه إن لم يكن مصلحاً، فإنه لا يكون صالحاً؛ لأن حقيقة الصلاح وتمامه إنما تكون بالإصلاح؛ ولذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو قدوة المصلحين وإمامهم صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا كان أصحابه من بعده يدعون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ولقد اختل مفهوم الصلاح والفساد، في هذا الزمان عند الناس مفهوم الصلاح والفساد، وهذا وحده يحتاج إلى لقاء خاص؛ لأن كثيراً من الناس لا يمنعه من قبول الصلاح إلا الالتباس في هل هذا صلاح أم فساد؟ ولهذا بعض الناس إذا وعظته أو أعطيته أي شيء ترى أنه خير له، وتقسم له أن هذا من صلاحه إلا أنه لا يدري أهذا صلاح أم فساد؟! فالأمور تلتبس على الناس، فمن أين نأخذ المعيار والميزان الذي نعرف ونعلم به الصلاح من الفساد، ونعرف المصلح من المفسد؟ من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله وأما لو أخذناه من معيار ثانٍ فماذا نجد؟ ماذا قال فرعون عن موسى عليه السلام؟ ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فكيف يصبح فرعون هو الناصح الأمين المشفق الخير، وموسى داعية الفساد؟! ولو أخذنا معايير الصلاح والفساد من الأبواق الإعلامية، أو من أفواه المنافقين والمفسدين ومن المرجفين أو من الصحافة الغربية ومن الإذاعات العالمية؛ فسنجدها نوعاً آخر تماماً والله المستعان! فالمتطرف عندهم والإرهابي هو المصلح الصالح، والمعتدل والمثقف هو من يحبون من أهل الفساد، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.

شرح آيات سورة المائدة

شرح آيات سورة المائدة بدأ الشيخ حفظه الله باستعراض كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله في مسألة: الحكم بغير ما أنزل الله، وبين في شرحه سبب نزول الآيات في سورة المائدة، وذكر أربعة أقوال للعلماء، ثم بين القول الراجح في معنى هذه الآيات. ثم شرح كلام العلامة محمود شاكر في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله في عصره، موضحاً ذلك ببعض الأمثلة على ذلك. ثم تناول تفسير آيات سورة المائدة المتعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله، وبيّن تفسير ابن كثير للآيات، وذكر القراءات الواردة في قوله تعالى: ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) [المائدة:45]، موضحاً أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا قُرر في ديننا، ورد على قول أبي حنيفة بقتل المسلم بالكافر، كما تناول خلال هذه المادة تحريف اليهود والنصارى لكتبهم حتى توافق أهواءهم، وكذلك القوانين الوضعية التي وضعها البشر منذ القدم، والتي كانت لا تخدم إلا طبقة الحكام، وأورد مثالاً على ذلك القوانين التي وضعها جنكيز خان، مبيناً انحرافها، ومقارناً هذه القوانين بالقوانين الوضعية المعاصرة.

فضائل سورة المائدة وذكر بعض أحكامها

فضائل سورة المائدة وذكر بعض أحكامها نبدأ في هذا الدرس -إن شاء الله- في كتاب قيم عظيم في بابه، وهو كتاب عمدة التفسير، وهو اختصار لـ تفسير ابن كثير، اختصره وحققه وعلق عليه الشيخ أحمد محمد شاكر، وسوف يكون موضوعنا في تفسير آيات من سورة المائدة. وأول شئ نقدم له بين يدي هذه الآيات هو الكلام عن سورة المائدة وعن فضلها. وقد ذكر ابن كثير رحمه الله: أن الإمام أحمد روى عن أسماء بنت يزيد قالت: {إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة}. وروى -أيضاً- الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: {أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها}. يقول الشيخ أحمد شاكر: إن حديث أسماء بنت يزيد إسناده صحيح، وقال في الحديث الثاني: وإسناده صحيح.

سورة المائدة آخر سورة نزلت كاملة

سورة المائدة آخر سورة نزلت كاملة قال: 'وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: [[آخر سورة أُنزلت: سورة المائدة والفتح]]، وقد روى الحاكم نحو رواية الترمذي '. ثم ذكر أن الإمام أحمد والترمذي وغيرهما رووا عن عبد الله بن عمرو وعن عائشة رضي الله تعالى عنهما أن آخر ما نزل من القرآن هي سورة المائدة، ولا يهمنا الدخول في تفاصيل ما هو آخر ما نزل من القرآن، بل الذي يهمنا أنها لكونها آخر ما نزل، أن آياتها محكمة غير منسوخة، فهذا هو المقصود. فيمكن أن نقول: إن المائدة آخر ما نزل من السور كاملة كما جاء النص، وأن بعض الآيات نزلت بعدها، وأما البقرة التي فيها آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] فإنه قد ثبت أن سورة البقرة أول ما نزل في المدينة، فيكون أول ما نزل في المدينة هو أول سورة البقرة، وآخر ما نزل من القرآن مطلقاً هو هذه الآيات من أواخر سورة البقرة. ولكن آخر ما نزل بشكل سورة كاملة هو سورة المائدة، وقرينة ذلك ذكر الفتح، ونحن نجزم أن سورة الفتح نزلت في صلح الحديبية، فقطعاً نقول: إنه قد نزل بعدها آيات وبلا شك، لكن المقصود في السور التي نزلت كاملة. وأما ما ورد عن ابن عباس أن سورة النصر آخر ما نزل، فالمقصود من كلام عائشة أنها في الأحكام، وأيضاً المقصود السور الطوال. فإن جبير بن نفير قال: [[حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه]]. إذاً: هي سورة محكمة، لم ينسخها بعدها سورة، وهذه السورة من مزاياها ومما يدل على ما ورد فيها من تشريع: افتتاحها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فهذه قاعدة عظيمة جداً، وما أجهل الناس بالقرآن! ولا نعني الناس الذين لا يقرءون القرآن، ولا الذين لا يقيمون حروفه ولا حدوده، وإنما نعني نحن الذين نقرؤه ليلاً ونهاراً في رمضان وفي غير رمضان، ومع ذلك نجهله لأسباب يطول شرحها. منها: -وهو الذي يهمنا نحن طلبة العلم كثيراً- جهلنا بلغة العرب، وجهلنا بأساليب البيان، فحتى لو حاولنا أن نتدبر أو نتذوق القرآن، فإننا لا نجد له ذلك المذاق الذي يجده من يعرف أساليب العرب، ويعرف بيانهم وبلاغتهم. فهذه الآيات من أول سورة المائدة وغيرها كلها عجيبة جداً لمن تأملها، والقرآن كله يأتي بالأحكام -كما في سورة البقرة والنساء والطلاق- التي تتعلق بالأسرة والمعاملات والعقود وبأمور كثيرة، ومع ذلك تجد أن هذه الأحكام تُعرض في أسلوب بياني سلس سهل، يستمع القلب إليه فينسل إلى داخل أعماق الفؤاد، وكأن الكلام في الرقاق والمواعظ والقصص وليس في الأحكام. فمن عادة الأحكام أن يكون فيها الجفاف الذي يخاطب العقل أو الفهم المجرد ولكن لا يباشر شغاف القلوب إلا هذا القرآن العظيم، وهذا الذكر الحكيم.

سورة المائدة أكثر ذكرا لآيات الأحكام

سورة المائدة أكثر ذكراً لآيات الأحكام ولو تتبعنا عناوين الأحكام فقط في هذه السورة لوجدناها كثيرة، منها: الصيد، ونكاح الكتابيات، وطعامهم، واتخاذ الكفار أولياء، وحد السرقة، وحد الحرابة، والقصاص، والعقود، والعهود -قال ابن عباس ومجاهد: [[العقود: بمعنى العهود]] فكل عهد يجب الوفاء به، ويدخل في ذلك عهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل مؤمن هو معاهد لله عز وجل بالإيمان والتصديق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتباع أمره، وكذلك بقية العقود- وأيضاً من الأحكام: البيوع، والشركة، والإجارة، والنكاح، والبيعة، والوكالة، وهذه من أنواع العقود، وهي داخلة في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ويدخل تحتها كل أنواع العقود مع الله -وهي أعظم ما يجب الوفاء به- ومع الخلق. وأيضاً من الأحكام: كفارة اليمين، وحكم الخمر، وحد الخمر، والطهارة، والتيمم، وغيرها من الأحكام العظيمة التي وردت في هذه السورة العظيمة. قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة:1] وهذه أيضاً قاعدة عظيمة جداً في التحليل والتحريم. {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة:1] وهذه الآية عجيبة من الناحية اللغوية، ففيها استثناء في غاية الجمال والأسلوب، بحيث أن الاستثناء لا يمكن أن يأتي به لسان أو يقوله شاعر أو أديب إلا ويخطئ، ويكون في أسلوبه ركاكة، ولا نعلم أن أحداً من العرب جاء باستثناء من استثناء إلا وكان الأسلوب ركيكاً، وكذلك كان الأسلوب في قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} فيه استثناء آخر، فنستثني ما حرم فيبقى ما أحل، وما أحل نستثني منه حالة الصيد، وهذا كما ذكر في أول السورة: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] وفي آخرها ذكر كفارة من فعل ذلك، فهذه سورة كلها أحكام، وفيها من مثل هذه العبر والدلالة.

وقفة مع آية من سورة المائدة، وأخذ الأحكام منها

وقفة مع آية من سورة المائدة، وأخذ الأحكام منها والآن ننتقل إلى الآيات التي فيها موضوع حديثنا، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:41] فهنا أول ما يفتتح بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي: إن القضية قضية الكفر، والكفر إذا جاء في القرآن فهو دائماً المعهود المذكور، أي: الكفر الأكبر، والكفر في القرآن هو: ضد الإيمان كله، فهو الكفر الأكبر، فقوله: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} لا يعني في المعصية، أو في المخالفة، أو في اتباع الهوى، بل يعني الكفر المعهود بعينه، والذي هو الخروج عن أمر الله والتكذيب بما أنزل الله، وعدم الاستسلام لحكم الله ولدينه. قال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} فهؤلاء كفار كفراً أكبر أيضاً، فهذا أمر. وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} وهذا أمر آخر، فهؤلاء الذين هادوا -وهم اليهود- كفار كفراً أكبر لا شك فيه، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [بيَّن أنهم طائفتان: المنافقون واليهود، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: 'نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم -المنافقون واليهود-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41] '. فـ ابن كثير يقول: 'المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل '. ونلاحظ أن الحافظ يربط بين هذه المقدمة وبين الآيات التي بعدها، فلم يقل: الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، ولم يقل: يكذبون بالقدر، لأن المقصود هنا هو مسألة الحكم والتحاكم، فمهَّد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقدَّم للحديث عن التحاكم والحكم بغير ما أنزل الله، فناسب أن الحافظ ابن كثير رحمه الله يُراعي ذلك، ويظهر هذه المناسبة، ويبين أن هؤلاء المسارعين هم الذين هذه صفتهم: يُسارعون في الكفر، كما قال الله في سورة التوبة: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فقد يكون الإنسان كافراً بالله، وكافراً بآياته، وهذا كفر، وقد يكون هناك مسارعة في الكفر، أو زيادة في الكفر، وهو أن يُبدل أحكام الله، أو يعترض على أحكام الله، فيطعن في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو ينكر سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يستهزئ بآيات الله، فهذه مسارعة في الكفر، مع أنه في الأصل: اليهود كفار، والمنافقون الذين يظهرون الإيمان وقلوبهم خاوية منه كفار أيضاً في الحقيقة، ومع ذلك فإنهم يُسارعون في الكفر، ومستمرون فيه، والآيات بعضها يوضح بعضاً ويشهد لبعض. قال: ' {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41] أي: مستجيبون له، منفعلون عنه'. فهذه صفتهم أنهم سمَّاعون للكذب. إذاً: يُحذِّر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا سماعين للكذب، وهذا ما فعله السلف الصالح وطبقوه، فهذا أيوب [[أتى إليه مبتدع يريد أن يكلمه، يقول: كلمة، يقول: ولا نصف كلمة]]. فالمؤمن لا يستمع إلى الكذب ولا القذف ولا الكلام الذي لا خير فيه؛ لأنه لا يأمن أن يصدقه أو يقع في قلبه شيء منه، والمؤمن دائماً يُعرض عن الكذب واللغو: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55] ويعرض عن الباطل، كل هذا حتى يبقى القلب نقياً سليماً، أما المنافقون واليهود، وضعاف الإيمان، ومن كان في قلبه نفاق فهذا حالهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}، وكما قال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}. ثم يقول: ' {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي: يستجيبون لأقوام آخرين، لا يأتون مجلسك يا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام ويُنهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك'. أي: إنهم إما يسمعون ممن لم يحضر عندك، أو هم ينقلونه إلى من لم يحضر عندك، والمقصود أن بضاعتهم الكذب، فيروجون الكذب والأضاليل والإفك والتهم في المؤمنين دائماً، فهذا كلامهم: محمد فعل كذا، محمد يقول كذا، محمد يريد أن يفعل كذا، وهو لا أساس له من الصحة، وأبو بكر فعل كذا، وعمر فعل كذا، وهذا حالهم، ويجدون من يستمع إليهم، ولا أعظم إفكاً وفريةً من حادث الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ومع ذلك انتشرت وسرت وتناقلها الناس، ولو أن الناس إذا سمعوا باطلاً أوقفوه، ولم ينشروه، ولم يسمعوا له، لكان المؤمنون في راحة، ولكانت قلوبهم في أمن وسلامة، ولكان صفهم موحداً من هذه الشكوك التي تبذر فيما بينهم. يقول: ' {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41] أي: يتأولونه على غير تأويله، ويُبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون'. فهنا بيَّن الله سبحانه حال هؤلاء السمَّاعين، ومن يستمع إليهم أيضاً. وهو أن عملهم هو نوع من الافتراء المحض، وهذا أمر آخر موجود، وقد ذكره الله تعالى في آية أخرى، فهم يقولون على الله تعالى وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يقل، أو على المؤمنين ما لم يقولوا، وهذا معروف قديماً وحديثاً. وهناك نوع آخر وهو خبيث وسيئ جداً وربما كان تصديقه أكثر عند ضعاف الإيمان وهو: ألاَّ يفتري على المؤمنين فرية، لكنه يُحرف الكلم عن مواضعه، فالقول حق، لكنهم ينقلونه إلى الناس على أنه باطل، فإذا أمر بالمعروف، أوّله هؤلاء السماعون، فقالوا: هؤلاء قد أمروا بمنكر. وإذا دُعي إلى سنة، قال هؤلاء السماعون وأتباعهم: إنهم يدعون إلى البدعة وهكذا، فهذا حالهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}. ثم يقول تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] أي: إن اليهود من كفرهم يقولون لبعضهم: اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن قال ما هو في صالحكم فخذوه، وإن قال بغير ذلك فلا تأخذوه، وهذا حال المنافقين -أيضاً- ومن تبعهم من ضعاف الإيمان. أما المؤمن فإنه إذا بلغه عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء فإن حاله أن ينقاد له، ويقول: سمعنا وأطعنا، فكل ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع له ويطيع، وإن خالف ما هو فيه. أما حال من رسخ في البدع والضلالات واستمر عليها طوال الدهر -إذا عُرض عليه قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: إنا وجدنا آباءنا فلا فرق إذاً بين هؤلاء وبين هؤلاء، نسأل الله العفو والعافية.

الأقوال في سبب نزول هذه الآيات

الأقوال في سبب نزول هذه الآيات ثم يأتي ابن كثير رحمه الله بالآيات فيقول: 'قيل: نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه'. وهذه هي التي سيوردها رحمه الله تعالى فيما بعد، ويقول: سبب آخر في نزول هذه الآية، فهذا السبب قد ورد، ومع ذلك قال الحافظ رحمه الله: 'والصحيح: أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله'. وهذه العبارة مهمة جداً، ويجب أن نتأمل معناها؛ لأنها هي مناط الحكم في هذه المسألة، فالحكم مبني على هذا المصطلح نفسه، وعلى هذه العبارة، وهذا الفهم. قال: 'وكانوا قد بدِّلوا كتاب الله الذي بأيديهم'. فمناط الحكم هو التبديل: تبديل دين الله، وتبديل كتابه، وتبديل شرعه. قال: 'الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه'. فهذا أمر هام متعلق بمناط الحكم، وهو التبديل. ثم قال: 'واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين'. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنزل في التوراة الرجم، وقد قال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:43] فلما كثر الزنا فيهم وشاع وانتشر بينهم، اصطلحوا فيما بينهم أنهم لا يقيمونه إلا على الضعيف، ويتركون إقامته على الشريف. ولم يقف الانحدار عند هذا الحد، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79] فلم يقم فيهم من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويردهم إلى الأصل، بل جاء فيهم من يقول: إن هذا لا يجوز، كيف نرجم الضعيف ونترك الشريف؟! فاتفقوا على حل آخر، ورجعوا إليه باسم الإصلاح، فقالوا: ليس من العدل أن نقيمه على الضعفاء فقط، ولكن العدل أننا نترك حتى الضعفاء، ولا نقيم عليهم حد الرجم، حتى نعدل بينهم وبين الأشراف، فقال بعضهم: هل نحلل الزنا؟! قالوا: لا، حتى لا نخالف كتاب الله! وهذا هو فقه اليهود والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، وهو فقه أعوج، فقالوا: علينا أن نعدله بأن نتفق على شيء وسط، يناسب العصر والناس والمجتمع من جهة. ومن جهة ثانية أن فيه موافقة لحكم الله، لأننا لو أمسكنا الدين بقوة لأصبحنا متطرفين وأصوليين، وإن تركناه بالكلية فإنه لا يصلح، فقالوا: نبتغي بين ذلك سبيلاً، ونقول: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، فهذا مثل ما قاله المنافقون، وكل من انحرف عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: إذاً الحل نحممهم -والتحميم: التسويد بالفحم- ونحملهم على حمارين، ونطوف بهما في الأسواق، ونقلبهم، فنجعل ظهر كل واحد إلى الثاني، فنشهر بهما. قال: 'فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك'. فهم يتحايلون على الله، مع أنهم لم يؤمنوا بهذا النبي، ولم يتبعوه في كل ما يقول. قال: 'وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذاك'. أي قولوا: لدينا أحكام نحتكم إليها، ولا نريدك ولا نريد حكمك، فهكذا كانوا يقولون!! ثم قال: 'وقد وردت الأحاديث بذلك، فروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: {إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا -بعدما قالوا ذلك الكلام- فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم: ماذا ورد في التوراة عندكم في شأنهم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون}. فأولاً: مخالفة حكم الله، ثم الكذب على الله، ودائماً كل من اتبع هواه وخالف أمر الله، واتبع شهوته، وآثر الدنيا على الآخرة، فلا بد أن يُؤدي به ذلك إلى أن يقول على الله بغير علم، حتى لو كان يعرف الآيات مثل ما يحفظ الناس سورة الفاتحة، فيحفظ الآيات ويعرف الحكم لكنه متبع لهواه، مؤثر لدنياه، فلا بد أن يقول على الله بغير علم. وهذه من عقوبات الذنوب -نعوذ بالله- حيث أنه يبدأ بذنب، فيبدأ بأكل الربا وهو خائف من الذنب، وبعد فترة يقول: من قال لكم إنه حرام، والله قد أحله؟ فيكذب على الله ويفتري عليه، ويقول على الله بغير علم، وهكذا دائماً، نعوذ بالله. فالآن انتقلت اليهود من حالة مخالفة حكم الله إلى حالة القول على الله بغير علم. قالوا: الذي عندنا في التوراة أنهم يجلدون ويفضحون، فأكذبهم الله عز وجل: {قال عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه}. وهذا هو الشاهد من بني إسرائيل، الذي شهد عليهم، والذي فضحهم وبين كذبهم، وهو عالم بني إسرائيل، وعلماؤهم الذين عرفوا الحق كثير لكنه رئيسهم ومقدمهم رضي الله تعالى عنه. قال: {كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم}. وهذا فيه دلالة على أن المطلع على أحوال أعداء الله أعرف ممن لم يطلع عليهم، فقالوا: {صدق يا محمد! فيها آية الرجم} أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ له: {قال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] فجاءوا، فقالوا لرجل ممن يرضون أعور: -وهو ابن صوريا - اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، فقال: ارفع يدك، فرفع فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا}. فالسبب والمناط الآخر لخروجهم من الدين، هو قوله: {ولكنا نتكاتمه بيننا}. ولذلك قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] إلى آخر ما جاء من وعيد من كتم وسكت عن الحق. قال: {فأمر بهما فرجما}. وهذه رواية أخرى من روايات مسلم وهي صحيحة.

سبب تغيير اليهود لحد الزنا

سبب تغيير اليهود لحد الزنا قال: 'وفي إحدى الروايات أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد} '. نعوذ بالله!! مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنشدهم بالله الذي أنزل التوراة على موسى! قال: {وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت، ألظ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النشدة -شدد به لأنه سكت- فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فما أول ما ارتخصتم أمر الله}. أي: كيف بدأ عندكم هذا، حيث تترخصون أمر الله وتتركوه وتعرضوا عنه، قال: {زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس -من العامة- فأراد رجمه -فأراد الملك من بني إسرائيل أن يرجمه- فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا، حتى تجيء بصاحبك فترجمه}. فصارت مشكلة، إما أن يرجم قريب الملك ويرجم معه العامي من الناس، وإما ألاَّ يرجم هذا ولا هذا. فقال: {فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم}. فقالوا: أحسن شيء ألا نرجم هذا ولا هذا، وهذه الرواية يهمنا منها موضوع التاريخ، كيف ارتخصوا، وكيف اصطلحوا. وفي رواية أخرى ذكرها من رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب وهي في الصحيحين، قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم، فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمة على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه -وهذا من مناقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] إلى آخر الآيات}. إذاً هم بدلوا كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم، وتكاتموه فيما بينهم، واصطلحوا على هذه العقوبة، واجتمعوا على التحميم، وهذا هو مناط التكفير، وهو الاصطلاح والاجتماع والاتفاق على حكم غير حكم الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما من فعله خطأً وجهلاً ولا يعترف به، ويقول: أنا لم أحكم إلا بما حكم الله! ولا يجوز أن نحكم إلا بما أنزل الله! وأنا أستغفر الله! فهذا لم يدخل في هذا، وهذا لم يصطلح ولم يتكاتم مع غيره. إذاً: نريد من هذه العبارات الدقيقة المهمة أن نفهم حتى نعرف مناط الحكم، ولماذا كان الحاكم بغير ما أنزل الله، المتبع لشرع غير شرع الله، والمتبع لقوانين وضعية عاملاً بها يكون كافراً خارجاً من الملة.

القول الأول في سبب النزول

القول الأول في سبب النزول ونرجع إلى استعراض كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله يقول: 'وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: {مُرَّ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟} '. ونجد هنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسب هذه الرواية: {مُرَّ عليه بيهودي محمماً} أقيم عليه هذا الحد من قبل أحبار اليهود وعلمائهم، وليس فيها أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والروايات دائماً تختلف، ولهذا ننبه أن عمل الفقيه غير عمل المُحدِّث، فالمحدث يجمع الروايات ثم يبين الصحيح من الضعيف، ثم يتفقه، وقد يكون فقيهاً ولكن عمل الفقيه وإن كان المُحدِّث هو نفسه أو غيره، بعد ذلك يُقارن ويُوازن بين الروايات، فقد يأخذ بألفاظ في رواية ويترك ألفاظاً، وربما يرد بعض الروايات وإن كانت ثابتة وصحيحة، فيرجح بعض هذه الروايات على بعض، وهذا علم عظيم دقيق جليل يتعلق بتعارض الأدلة، وليس كل أحد يتقن ذلك. فالذين يتخبطون في مسائل من الدين يريدون أن ينكروا سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءً على أنها تُخالف ظاهر القرآن الكريم. والمهم هنا أنه من خلال ما سبق من الروايات نعلم أن الأرجح والأظهر والمطابق لنص القرآن الكريم هو أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الروايات الأخرى غير حديث البراء رضي الله عنه. ثم قال في الحديث: {فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه، فقال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر إلى قوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة:41] أي: يقولون ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال في اليهود، إلى قوله: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] قال في اليهود، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] قال: في الكفار كلها} انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة. فهو يقرر أن الآيات في الكفار كلها، فجعل الآية الأولى في اليهود، والثانية في اليهود، والثالثة أيضاً، فقال: في الكفار كلها وهذا تفسير البراء بن عازب رضي الله عنه. والكفر هنا المراد به الكفر الأكبر، فالحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر. وقد يقول قائل: هذا في اليهود، فإنهم إذا حكموا بغير ما أنزل الله من التوراة كفروا، وكذلك النصارى لأن في آخرها: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] فمن لم يحكم بالتوراة أو بالإنجيل من أهل الكتاب يكون كافراً، وهذا الذي يدل عليه الحديث. وهذا الحكم لا يلزم منه أنه يتناول المسلم الحاكم بغير ما أنزل الله. ونجيب على هؤلاء بقول حذيفة: [[نعم أبناء عم لكم اليهود -كان الأمر كذلك- فما كان من حلوة فهي لكم وما كان من مرة فهي لهم]]. فلا نجعل القرآن عضين، فنقول: إن من حكم بغير ما أنزل الله تعالى في التوراة فهو كافر؛ لأنه من اليهود، وأما إن كان حكم بغير ما أنزل الله في القرآن فهو مسلم لأنه من المسلمين، فهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان المغير الذي بدَّل التوراة أو اصطلح على غير ما فيها أو تكاتم على ما فيها وغيَّره يكون بهذا العمل كافراً بالتوراة، فمن فعل ذلك من أهل القرآن فإنه كافر بالقرآن بل هو أشد؛ لأن القرآن ناسخ ومهيمن على ما قبله، فمن كفر بالقرآن فهو أشد كفراً ممن كفر بالتوراة مع أنها موقوتة مخصوصة بزمن معين وبأقوام معينين. أما القرآن الكريم فهو كلام الله الذي أنزله للعالمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالصحابي فسَّر الآية وجعلها كلها نوعاً واحداً، ولم يقل: إن الكافرين نوع، والظالمين نوع، والفاسقين نوع، ومن فعل كذا فهو كافر، ومن فعل كذا فهو ظالم، ومن فعل كذا فهو فاسق، بل الوصف واحد. وهذا صحيح من جهة اللغة، فإنه إذا اتحد المسند إليه فإن المسند يجب أن يكون واحداً، فقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:45] واحد في كل الآيات الثلاث فقوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. فالصحيح لغة أن هذه الأوصاف الثلاثة تكون أوصافاً متعددة لموصوف واحد؛ لأنه لم يتغير المسند إليه. فالمبتدأ واحد، والأخبار تعددت عنه، وهذا كقولك: فلان شاعر وفلان كاتب، وفلان خطيب، والمقصود هنا أنه ورد التصريح أنها في الكفار والنوع هنا واحد.

سبب حكم النبي صلى الله عليه وسلم بموافقة التوراة

سبب حكم النبي صلى الله عليه وسلم بموافقة التوراة ثم يقول: 'وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله، قال: {زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بـ المدينة أن سلوا محمداً عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال: أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم، فجاءوا برجل أعور يقال له: ابن صوريا وآخر، فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتما أعلم من قِبَلكما، فقالا: قد لحانا قومنا كذلك -أي: قومنا يعدوننا أفضل من فيهم- فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟ قالا: بلى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المنَّ والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟}. وانظر ما أعظم هذه المناشدة، فلو أن هناك قلوباً وفيها حياة، لكنها قلوب ميتة مغلفة: {فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والقُبل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يُبدئ ويُعيد كما يُدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو ذاك، فأمر به فرجم، فنزلت: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]}. وهذا الحديث على أن في سنده كلام، لكن الحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر هذه الأحاديث ليصل إلى نتيجة معينة، وهي أن هذه أحاديث دالة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، على اختلاف في ثبوت بعضها وضعفٍ في بعض رواياتها. يقول: 'فهذه أحاديث دالة متفقة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون بإتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك'. فقد أمر الله عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الأمر لِحكَم، ومنها: أن يفضحهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبين لهم ما صنعوه بكتابهم وما بدلوا وحرفوا فيه، فإنهم كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] فهم يكتمون الحق، فيظهرون بعضه، ويخفون بعضه، ويؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض. يقول: 'وسؤاله إياهم عن ذلك ليقرّرهم على ما بأيديهم'. وفي هذا -أيضاً- دلالة على صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآية بينة عظيمة على أنه رسول من عند الله، وأن الذي أوحى إلى موسى هو الذي أوحى إليه صلوات الله وسلامه عليهم؛، لأنه طلب منهم ذلك، وأراهم حكم الله، وأنه -أيضاً- جاء به، فهذا دليل على أنه نبي صادق يُوحى إليه من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً. يقول: 'وليقررهم على ما بأيديهم، مما تواطئوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان عن هوىً منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به'. فهم لم يأتوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل الإذعان والانقياد والإيمان والتصديق وإنما جاءوا إليه هوىً وشهوة. قال: 'ولهذا قالوا: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} [المائدة:41] أي: الجلد والتحميم: {فَخُذُوهُ} [المائدة:41] أي: اقبلوه: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] أي: من قبوله واتباعه'. فالآية تدل على أن هؤلاء القوم ما كانوا يريدون حكم الله على الحقيقة، وليس غرضهم هو اتباع دين الله والعمل بما أنزل الله، وإنما قالوا: إن حكم بما يوافق الهوى عملنا به، وقلنا: هذا نبي من أنبياء الله وجعلناه حجة بيننا وبينكم، وإن حكم بخلاف ذلك فنحن قد كذَّبناه فيما هو أعظم فاحذروا لا تأخذوه، بل اعملوا بما اتفقتم عليه، وما كنتم تعملونه من قبل. فمفهوم لسان حالهم أو مقالهم ربما يقول: ليس ترككم لكلام محمد بأشد وأعظم من ترككم لكلام التوراة التي تنتسبون إليها، فمن كفر بالكتاب الذي بين يديه فلا غرابة أن يكفر بما وراء ذلك. يقول: {{قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]}}. فهذه قلوب مفتونة غير مطهرة، وأعظم فتنة تكون في الإيمان، فتصدر منه مثل هذه الحالات من التكذيب، والالتواء، والاحتيال، والافتراء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والجرأة على كتابه، وأخذ ما يوافق هواه، وترك ما يخالف هواه وشهوته، فهذه ألوان من آثار الفتنة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41] فلوا أراد الله ذلك لانقادوا وأذعنوا وآمنوا واتبعوا ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

من علامات الحكام بغير ما أنزل الله

من علامات الحكام بغير ما أنزل الله قال: ' {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:42] أي: الباطل: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] '. وهذه العلامة إذا وجدت في أي أمة أو فرد فاعلم أنه لا يمكن أن يحكم بما أنزل الله، ولابد أن يُخالف حكم الله، فمن يسمع الكذب ويأكل السحت لا يمكن أن يكون عادلاً أو نزيهاً أبداً، ولهذا حرمت الرشوة. ويجب على القاضي ألاَّ يحكم إلا بعد سماع المدعي ثم السماع من المدعى عليه، ثم يقارن، ثم يُرجح، حتى يحكم مجرداً عن أي ميل نفسي لمجرد القرابة أو الهوى أو الشهوة أو ما أشبه ذلك. أما إذا كان سمَّاعاً للكذب ولكل ما يلقى إليه، ثم فوق ذلك يأكل الرشوة فلا يُنتظر منه عدل. وهذا الداء الخبيث ليس خاصاًَ باليهود، بل هو في كل قاضٍ لا يلتزم بأمر الله. والرشوة أنواع كثيرة، ويحتالون لها بحيل عظيمة غير صورتها المعروفة البديهية، كالهدية من أجل الحكم، أو إعطائها قبل القضية والمشكلة، وغير ذلك مما يفعله كثير من الناس، وهي أعم من كونها تكون للقاضي فقط، فهي تدخل لمن يملك أن يحكم أو يقرر، أو له ولاية على شيء. قال: ' {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] أي: الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي: ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه، وأنَّى يستجيب له، ثم قال لنبيه: {فَإِنْ جَاءُوكَ} [المائدة:42] أي: يتحاكمون إليك: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} [المائدة:42] أي: فلا عليك ألا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يُوافق أهواءهم، قال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:43]. ' يقول: 'ثم قال تعالى مُنكراً عليهم في آرائهم الفاسدة، ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم'. أي: أنهم يعتقدون أن التوراة كتابهم، وأنهم مأمورون باتباعها، فيشير الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى أنهم كفروا بالقرآن الكريم، وبرسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معتقدين أن ما أنزل عليهم كافٍ، فهذه عقيدتهم ويرون ذلك لازماً لهم، ومع ذلك فإنهم عدلوا عنه إلى ما يعتقدون في نفس الأمر، وفي قرارة أنفسهم بطلانه وعدم لزومه، وهذا لا يفعله مؤمن. قال: 'فقال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43] فلو كان مرادهم طلب حكم الله لاكتفوا بتحكيم كتابهم الذي يؤمنون به ويدينون به' ونأتي إلى شاهد آخر، وهو قوله تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43] فأول ما افتتح الآيات بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] فذكر الكفر المعرف بالألف واللام، ثم قال بعد ذلك: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فلا شك أنهم كفار؛ لأنه نفى الإيمان عن قلوبهم، وهذا غاية ما يكون من الكفر، فهذه صيغة أخرى، ثم ذكر بعض صفاتهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] وأنهم يتحايلون على حكم الله، ثم قال: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43] فاتضح أنهم كفار. قال: 'ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44] أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدلونها ولا يحرفونها: {والربانيون والأحبار} [المائدة:44] أي: وكذلك الربانيون وهم: العلماء والعباد، والأحبار وهم: العلماء'. وكأن الرباني له ميزة علم وعبادة كما قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] فالرباني يجمع بين العلم وبين العبادة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران:146] وهم الذين جمعوا العلم والعمل، والأحبار هم العلماء، ويحكمون به وإن كان فيهم خلل أو نقص في العمل، ولو لم يعملوا لكنهم علماء كـ ابن صوريا وأمثاله علماء في التوراة ولو حكموا بما أنزل الله لكان ذلك موافقاً للحق وموافقاً لما طلب منهم، وإن كانوا في أنفسهم غير ملتزمين أو غير عابدين.

تحريف التوراة والإنجيل

تحريف التوراة والإنجيل قال: ' {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه} [المائدة:44] أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] أي: لا تخافوا منهم وخافوا مني: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] فيه قولان سيأتي بيانهما'. وقوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه} [المائدة:44] استنبط منها بعض العلماء: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَل حفظ التوراة والإنجيل إليهم، أما القرآن فإنه قد وَكَل حفظه إليه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فالقرآن محفوظ بحفظ الله، ولهذا لا يمكن أن يُبدل أو يُغير، أما التوراة والإنجيل وغيرهما فقد استحفظ عليها أهلها فضيعوها، ووقع فيها التحريف. ويشهد لهذا القصة التي رواها البيهقي وغيره: أن رجلاً كان زنديقاً لا يتدين بدين، فأراد أن يختبر أهل الملل، فذهب إلى بغداد حيث توجد الأديان والملل وكتب نسخاً من التوراة وألقاها إلى اليهود، قال: فما مضى زمن إلا ورأيتها بين يدي علمائهم يقرءون فيها حتى أصبح الواحد يقرؤها ويعطي أهله وأقاربه وقد غيَّر فيها وبدَّل كما يشاء، قال: ثم قلت: نغير القرآن! فكتب نسخاً من القرآن، فغيَّر فيها وبدل، قال: فلما ذهبت إلى الوراقين، فكلما نظروه ردوه، وقالوا: هذا فيه أخطاء، وهم لا يعلمون نيته الخبيثة فلا يبيعونه، قال: فلم يقبل مني أحد، فجاء وأعلن إسلامه، فلما سُئل عن سبب إسلامه ذكر القصة، وقال: علمت أن هذا الكتاب محفوظ، وأنه لا يمكن أن يُبدله أحد، ولو كان من عند غير الله لأمكن أن يبدل أو يغير كما يشاء الناس. وفي الوقت الحاضر أرادت إسرائيل أن تُغير في آخر طبعة من طبعات الإنجيل التي توزع في كل فندق وكنيسة وبيت، وفي كل مكان بأكثر من ألف نسخة، وقد طبع في إسرائيل الأناجيل الأربعة وغُيِّر فيها خمسمائة كلمة مما له علاقة باليهود، وأنهم تآمروا على المسيح، وأنهم أرادوا قتله إلى آخره، مما فيه تشنيع على اليهود فغيروه وطبعوه وانتشر، وجاءت المنظمات - التنصيرية التي تُسمي نفسها التبشيرية - وأخذت تجمع من هذه الكتب وتعيد الطبع وتوزع وتنشر في العالم دون أن يقرءوا أو يحققوا أو يدققوا.

القول الثاني في سبب النزول

القول الثاني في سبب النزول يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات. وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] و {فأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] قال: قال ابن عباس: {أنزلها الله في الطائفتين من اليهود -أي: قبيلتين من اليهود- وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق} '. فحصل الشطط، فالنفرين من الضعيفة يعادل نفراً من القوية، سبحان الله! وهذا الذي أنكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنكرته الفطرة السليمة حتى فطرة اليهود في الجاهلية. ولو نظرنا إلى المعمول به الآن في العالم المعاصر، في ظل ما يُسمى بحقوق الإنسان لوجدنا العجب، فلو حصل حادث طائرة وتحطمت فإنهم ينظرون إلى وظائف الركاب، فإن كان دبلوماسياً فديته قد تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي، وإن كان مهندساً -مثلاً- مائة ألف دولار، وإن كان فنياً خمسون ألف دولار، وإن كان عاملاً عشرة آلاف دولار وهكذا. فهذا ما يسمونه: العالم المتحضر، ويدعون فيه إلى المساواة في الإنسانية، فالذي كرَّم بني آدم حقاً وساوى بينهم هو كتاب الله ودين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالناس في ظله سواسية، وإن كان الكافر ديته غير دية المسلم، إلا أن الكفار كلهم ديتهم واحدة، والمسلمين كلهم ديتهم واحدة. قال: ' {فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض} '. أي: ما دمنا نحن متساوين في كل شيء، فلماذا الدية تختلف؟! والذي جعل القبيلة الذليلة ترفع رأسها، وتطلب المساواة، هو قدوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزول الدين الحق، وبعثة مُعلِّم الإنسانية الخير صلوات الله وسلامه عليه، الذي علَّمهم العدل حتى على نفسه، وعلى بني دينه وقومه، وأقرب الناس إليه صلوات الله وسلامه عليه، بل دعا الله إلى تثبيته، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] فلأجل هذا قالوا: {إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفرقاً منكم -أي: خوفاً منكم- فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم}. أي: فقد أنقذنا الله، وجاءنا محرر الإنسانية، فلا يوجد ذليل وعزيز ومقهور ومتكبر. قال: ' {فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهم، ثم ذكرت العزيزة} '. هذا في أول الأمر ما اتفقوا عليه، وقالوا: لو أنه أتانا بالوفاء بالعقود، فقالوا: نقول له هذا شيء اتفقنا عليه فلا بد أن يحكم لنا، ثم رجعوا إلى أنفسهم، فقالت: ' {والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم} '. فلا يمكن أن يقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا التفاوت لأنه نبي الرحمة ونبي العدل، يقول: {ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم}. أما في هذا الزمن فقسَّم اليهود أنفسهم إلى نصفين: صهاينة وغير صهاينة، ثم قُسِّم الصهاينة إلى نصفين: حمائم وصقور، وهل اليهود فيهم حمائم؟! لم نسمع ذلك في القرآن الكريم ولا في السنة ولا في التاريخ، وهناك أناس متطرفون وأناس معتدلون، فهذا لا يمكن ولو قدم بعض التنازلات، فهو لا يقولها لأنه حمامة أبداً، وإنما يقولها لأن هذا الثعلب يرى أن هذا أوثق لمصلحة إسرائيل، والآخرين الذين نسميهم الصقور هم نوع آخر من الثعالب يقولون: ليست مصلحة إسرائيل في هذا وهكذا، فلا يمكن أن ندع ما في كتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتاريخنا كله، ونأخذ بما تقوله أبواقهم المأجورة في بعض الصحف التي تصدر بعد التطبيع. فهنا يقولون: كيف الحيلة؟ قالوا: {فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه قبل أن تحكموه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -فقالوا لهم: أنتم تجالسون محمداً فاخبروا لنا رأيه- فلما جاءَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمرهم كله، وما أرادوا -فأطلعه على ما عندهم- فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] الآية إلى قوله تعالى: ((الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:47] قال: ففيهم والله أنزل، وإياهم عن الله عز وجل}. وهناك رواية أخرى، قال: {إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك: أن قتلى بني النضير كان لهم شرف، تُؤدى الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يُؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحق، فجعل الدية في ذلك سواء} وذكر أيضاً رواية ابن جرير وغيره. فتكون الآيات هذه دالة على أن الحكم في: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] ليس الرجم، وإنما هو الدية، ويمكن أن يكون السياق دالاً عليه. ثم ذكر روايةً عن ابن عباس، وأنه روي أيضاً عن ابن عباس نفسه رضي الله عنهما أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، قال: 'كما تقدمت الأحاديث في ذلك'.

الراجح في سبب نزول وأقوال العلماء في تنزيلها

الراجح في سبب نزول وأقوال العلماء في تنزيلها وجمع النصوص والعمل بها جميعاً أفضل، وإن كانت روايات قضية الزنا أصح، لكن يمكن أن يجتمع السببان. ومما يؤيد ذلك: سياق الآيات: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، فهذه فيها قرينة تؤكد أنه كان هناك من الحيف والجور في ترك حكم الله، وأنهم لم يلتزموا بحكم الله فيها من أن النفس بالنفس. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: 'ولهذا قال بعد ذلك: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] '. والشاهد هنا: هل هو على أحد السببين أو على كليهما؟ الصحيح أنها كما قال البراء بن عازب -كما تقدم-: {في الكفار كلها}، وقال حذيفة بن اليمان -وهو الحديث الذي ذكرنا أن الحاكم رواه وهو صحيح-: [[نعم أبناء عم لكم اليهود]]، وقال ابن عباس والحسن البصري وغيرهم: [[نزلت في أهل الكتاب]]، وزاد الحسن البصري [[وهي علينا واجبة]] فـ الحسن رحمه الله تنبه لما تنبه إليه حذيفة أو نبه إليه حتى لا يقول أحد: نزلت في أهل الكتاب فيكون هذا حكماً خاصاً بهم، لذا قال الحسن: 'نزلت في أهل الكتاب وهي علينا واجبة'. أي: أنها حكم واحد فينا وفيهم. قال: 'وروى ابن جرير عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت، قال: فقالا: وفي الحكم قال: ذاك الكفر'. فإذا أعطى رشوة من أجل الوظيفة، أو يمضي له معاملة فهو سحت، لكن إذا كان أعطاه ليحكم له بخلاف ما أنزل الله، قال ابن مسعود: 'ذاك الكفر -نعوذ بالله- ثم تلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] '. وهنا نقول نفس الكلام الذي ذكرناه من قبل، وهو أن الحكم هنا فيمن ارتشى وهو مقيم لدين الله، ويحكم بما أنزل الله، وملتزم بشرع الله، لكن ارتشى في قضية معينة، وخرج عن حكم الله وخالفه، فالحكم فيه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (الكفر) والمقصود به الكفر الأصغر، فهذه معصية سميت كفراً كما أوضحنا من قبل. قال: 'وقال السدي: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً'. فالقضية ليست قضية نسيان أو جهل، فإنه إذا خالف حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع أنه ملتزم بحكم الله، وبشرع الله في محكمة شرعية، ويطبق حكم الله من حيث الأصل؛ لكنه عمد إلى حكم من أحكام الله فتركه: 'أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين'. كما قال ابن مسعود، فيكون قد عصى معصية تُسمى كفراً إلا إذا كان مقصود السدي أنه يترك حكم الله أو أن يجحده فيكون من الأنواع الستة التي ذكرها الشيخ، فيكون كفراً أكبر. قال: 'قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال: [[من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به فهو ظالم فاسق]] '. فمن أقر به ولكنه خالفه وعصى، وتركه مع إقراره به والتزامه وانقياده وخضوعه فهذا ظالم فاسق. فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنه فصَّل، بأن للحكم بما أنزل الله حالتان: حالة كفر أكبر، وحالة كفر أصغر، وعلى هذا فتكون الآية الأولى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] في الجاحد، ويكون الظالمون والفاسقون في المقر العاصي، وهذا الذي قلنا: إنه خلاف اللغة، وخلاف ظاهر الآية، فهذا القول مرجوح، إلا أن المهم في كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ذكر النوعين من أنواع الكفر. قال: 'واختار ابن جرير أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب'. أي: إن ابن جرير رحمه الله يقول: الكفر كفر أكبر -والمقصود به كفر أهل الكتاب أو كفر الجاحد فهو كافر كفراً أكبر- سواء كان من أهل الكتاب وكفرهم أكبر لا شك في ذلك أو كان من هذه الأمة، ولكن خرج عن الملة وإن انتسب إليها، فـ ابن جرير رحمه الله لا يرى كلام ابن عباس رضي الله عنه المروي عنه من طريق علي بن أبي طلحة بأن الآية الأولى في الكفر الأكبر والآيتان الأخيرتان في المعصية، فهو يقول: إنهما في الكفر أو فيمن خرج عن الملة وإن انتسب إلى الإسلام. قال: 'وروى ابن جرير عن الشعبي [[{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال: هذا في المسلمين -فمن الأقوال التي نقلها ابن جرير غير الأقوال المتقدمة، قول الشعبي ومعناه: إن المسلمين إذا خالفوا القرآن الكريم كفروا-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:44] قال: هذا في اليهود -فاليهود إذا خالفوا التوراة فهم ظالمون- ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:44] قال: هذا في النصارى]] '. فـ الشعبي يقول: إن الوصف الأول: للمسلمين، والثاني: لليهود، والثالث: للنصارى، ففرّق بين الأوصاف، وهذا مرجوح كما قد ذكرنا لكن ما يهمنا هو: أن الشعبي جعل الآية في حق المسلمين، فمن عدل عن حكم القرآن إلى حكم غيره أو من حكم غير كتاب الله فهو عند الشعبي كافر كفراً واحداً. قال: 'وروى عبد الرزاق عن طاوس عن أبيه قال: [[سُئِلَ ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] قال: هي به كفر -أي: هذا العمل به كفر-. قال: ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال عطاء -وهو تلميذه وعنه نقل-: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق]] رواه ابن جرير، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] قال: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]] ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه'. فـ ابن عباس رضي الله عنه له رواية تُفصَّل أن الآية فيها كفر أكبر وفيها كفر أصغر، وروايات أخرى تقول: إن المقصود الكفر الأصغر، لكن نلاحظ أن هذه الرواية الأخيرة التي يقول فيها الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]]. إذاً: ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يتكلم عن حالة واقعة معاصرة، ومسألة مختلف فيها، وهي موجودة يتناقش فيها الناس، فذهب البعض فيها إلى كذا، وذهب البعض فيها إلى كذا، وكذلك كلمة البراء: {في الكفار كلها} فالظاهر أن القولين متعارضان. لكن القضية أن كلاً منها يريد أن يعالج مسألة موجودة، شاعت وانتشرت في مسألة الكفر وعدم الكفر في زمن الصحابة؛ وهي: قول الخوارج الذين يُكفِّرون المسلمين بسبب المعاصي والذنوب، قالوا: إن من أدلتنا أن المسلم إذا عصى وارتكب كبيرة يكفر بمجرد ذلك، قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُون} [المائدة:44] قالوا: فهؤلاء بني أمية حكموا بغير ما أنزل الله، وأمثالهم كالإمام علي رضي الله عنه، فإنه عندهم خالف كتاب الله، وحكّم الرجال في دين الله، ورضي بالحكمين فهو كافر، وعثمان عندهم كافر -أيضاً- لأنه خالف سيرة الشيخين الراشدين، ودليلهم الآية، وأنهم ما حكموا بما أنزل الله بل خالفوا أحكام الله وقصروا في بعض أحكام الله، فهم كفار، فيقول ابن عباس: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]] والبراء يقول: في الكفار كلها} أي: أنها ليست في العصاة المخالفين وإنما هي في الكفار، فرغم اختلافهما إلا أن النتيجة عند الصحابة كلهم أنهم متفقون على أمر وأصل عظيم من أصول هذه العقيدة -عقيدة أهل السنة والجماعة - وهي أن المسلم لا يكفر بمجرد الذنب أو المعصية كما تقدم معناه. يقول الشيخ أحمد شاكر بعد أن عزاه إلى الحاكم "2/ 313": ' ولفظه: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، وإنه ليس كفراً ينقل عن الملة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] كفر دون كفر، ووافقه الذهبي على تصحيحه '. يقول الشيخ أحمد شاكر: - 'وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره- أي: عطاء وطاوس وهم تلامذته، قال: مما يلعب به ال

تعقيبات الشيخين أحمد ومحمود شاكر على الآثار الواردة في الحاكمية

تعقيبات الشيخين أحمد ومحمود شاكر على الآثار الواردة في الحاكمية وهنا نرجع إلى كلام أحمد شاكر رحمه الله، وما نقله عن أخيه محمود شاكر رحمه الله. يقول: 'وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره'. يقصد ما ورد فيها كفر دون كفر. 'مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجراء على الدين، ويجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام، وهناك أثر عن أبي مجلز في جدال الإباضية الخوارج إياه فيما كان يصنع بعض الأمراء من الجور، فيحكمون في بعض قضائهم بما يخالف الشريعة عمداً إلى الهوى، أو جهلاً بالحكم. والخوارج من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر، فهم يجادلون يريدون من أبي مجلز أن يوافقهم على ما يرون من كفر هؤلاء الأمراء'. أي: يريدون أن يوافقهم في أن أمراء بني أمية كفار، قال: 'ليكون ذلك عذراً لهم فيما يرون من الخروج عليهم بالسيف'. وهذا هو مذهب الخوارج أنهم يرون الخروج بالسيف لتغيير المنكر وإن كان منكراً في نظرهم فقط، وهذا الذي سبق إيضاحه، عندما شرحنا موضوع الأصول الخمسة، وذكرنا معنى هذا الأصل -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- عند المعتزلة والخوارج ومعنى هذا الأصل هو الخروج على الأئمة بالسيف، قال: 'وهذان الأثران رواهما الطبري، برقم: (12025) و (12026) وكتب عليهما أخي السيد محمود محمد شاكر تعليقاً نفيساً جداً، قوياً صريحاً، فرأيت أن أثبت هنا نص أولى روايتي الطبري، ثم تعليق أخي على الروايتين '.

مناظرة أبي مجلز للخوارج

مناظرة أبي مجلز للخوارج فروى الطبري برقم: "12025" عن عمران بن جدير قال: [[أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] أحق هو؟ قال: نعم، قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] أحق هو؟ قال: نعم، قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] أحق هو؟ قال: نعم، فقالوا: يا أبا مجلز أفيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟]]. فإن قال: نعم، قالوا: إن مخالفتهم واضحة، وإنكارها مكابرة، وكفى بـ الحجاج ذنباً من بني أمية وأمثاله، وإن قال لهم: لا يحكمون بما أنزل الله؟ قالوا: إذاً كفار. وهذه مشكلة يعاني منها كثير من الناس، وإن لم ينسبوا أنفسهم إلى الخوارج، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحاسب الناس باللافتات التي نسميها الآن في عصرنا الحاضر، فلو أنني قلت: أنا من أهل السنة، وأنا من أهل الأثر، وأهل الاتباع، ومن السلف، فإن الله لا يحاسبني بمجرد هذه الدعوى، ولا يحاسب غيري أنه يُنسب إلى الخوارج الإباضية وهو قد ظُلم في هذه النسبة، وهو فعلاً على السنة، وإنما ظلم في هذه النسبة، أو انتسب وهو لا يدري، كما أن بعض العلماء يقول: أنا أشعري ويقصد: أنا أثبت الصفات، فلا يحاسبه الله على منهج الأشاعرة في نفي الصفات. فالمقصود أن الحساب عند الله ليس بالانتماءات واللآفتات وإنما بالحقائق، فـ الخوارج الخروج صفة من صفاتهم، وصفات الخوارج يمكن أن توجد في أي مكان وفي أي زمان، وتحت أي لا فتة أو اسم أو شعار، يمكن أن توجد صفة أو شعبة من شعب الخروج، وهذه لأجلها -والله أعلم- جعل العلماء كتب الخوارج والمرتدين والبغاة والمحاربين كتباً من كتب الفقه. ولو أن الخوارج هم -فقط- الفرقة التاريخية التي خرجت وانقضت لكانت تدرس في كتب التاريخ، أو كتب الملل والنحل فقط، لكن في كتب الفقه أحكام الخوارج لأنها صفة يمكن أن توجد في الناس في أي زمان وفي أي مكان، فصفاتهم التي بيَّنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان}. وهذه قاعدة: بأنه مهما كان الشخص يدَّعي الإخلاص، ويدَّعي العلم، واتباع السنة، ويدعي إنكار المنكر والعبادة، فـ الخوارج يقول عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم} فهذا الكلام يُخاطب النبي صلى عليه وسلم به الصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك فهذه سيرة وعلامة من أعظم علاماتهم، أن عدواتهم منصرفة إلى أهل الإسلام، ولم يعرف ولم يشهد أن الخوارج جاهدوا الروم، ولا جاهدوا الفرس، ولا قاتلوا أعداء الإسلام، فهذا هو تاريخهم. وهذه من دلائل نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فهم يقاتلون المسلمين، ويُكفِّرون علماء الإسلام) ويطعنون في دين علماء الإسلام، ويحاربون أهل السنة ويزعمون أنهم ليسوا أهل السنة إنما هم مرجئة وإنما هم مداهنون، فيأتون لهم بألقاب يلمزونهم وينبزونهم بها. والشاهد: أن من طريقتهم في الاستدلال أنهم يظنون أن المسألة بهذا الإلزام سهلة، فيقولون: إما أن يقول: إنهم يحكمون بما أنزل الله، فنقول: إذاً هذا مثلهم؛ لأنه لا يكفر الكافرين ويشهد لهم بالإيمان فهو كافر، وإما أن يقول: لا، فنقول: فإذاً هم كفار فلماذا تجادل عنهم؟ هكذا ظنوا المسألة إما كذا وإما كذا. وهذه أيضاً إحدى صفات الخوارج؛ لأن الأمر قد يحتمل أكثر من وجهة نظر، وقد يكون فيه سعة أو له جواب ثالث وهكذا، فعدم تفصيل المجملات والمبهمات والعمومات مما ضل الناس بسببها، حتى قيل: إن أكثر ضلال الناس واختلافهم هو بسبب المجملات، وعدم تحرير موضع النزاع. قال أبو مجلز الفقيه العالم: [[هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً]]. قال: الحكم بما أنزل الله بالنسبة للأمراء هؤلاء -بني أمية ومن معهم- هو دينهم الذي يدينون به، ولم يأتوا بقانون آخر، ولم يأتوا بالتوراة ولا الإنجيل ولا قانون الروم أو الفرس، فدينهم الحكم بما أنزل الله، وبه يقولون وإليه يدعون -أي: إلى الكتاب والسنة- فإن هم تركوا شيئاً منه أو قصروا في شيء عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً، وهم مقرون بمخالفتهم فيما خالفوا فيه، وهذا المعيار معيار سليم ودقيق جداً، فلو أنهم جاءوا بشريعة أخرى أو بقانون آخر لكان الحكم مختلفاً. قال: [[فقالوا: لا والله ولكنك تَفْرَق! -أي: تخاف- قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم ترون هذا ولا تحرَّجون -أي: أنتم أولى بهذا التفكير، وأنتم لا تتحرجون فيه- ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك أو نحواً من ذلك]]. فكلام أبي مجلز هنا مثل الذي جاء في حديث البراء من كلامه أو مرفوعاً: {أنها في الكفار} أما أن يكون الحكم بما أنزل الله هو دينه، وبه يقول، وإليه يدعو، وإذا خالفه فإنه يتحرج ويشعر أنه قد خالف أمر الله، فهذا ليس ممن حكم بغير ما أنزل الله. قال: 'ثم روى الطبري الأثر (12026) نحو معناه، وإسناداه صحيحان'.

تعلق بعض المنتسبين للعلم بخبر أبي مجلز

تعلق بعض المنتسبين للعلم بخبر أبي مجلز قال: 'فكتب أخي السيد محمود محمد شاكر بمناسبة هذين الأثرين ما نصه: اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد: فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا نكفر الراضي بها، والعامل عليها'. يشير الشيخ محمود إلى ما وقع فيه كثير ممن ينتسبون إلى العلم، وهذه مأساة وقعت، وخاصة في مصر ابتدأها الاستعمار وأعوانه من أيام دولة محمد علي باشا بما يسمونه (قانون القناصل) ثم توسع القانون فأنشئت محاكم أهلية، ومحاكم أجنبية، ومحاكم ملية، وتوسع في الأمر لما جاء الإنجليز وجاء كرومر وجاء الشيخ محمد عبده، فأخذ يمهد لتنظيف القانون الفرنسي، وجاء تلميذه مصطفى المراغي فزاد الطين بلة -نسأل الله العفو والعافية- والمراغي هو الذي قال للجنة وضع القوانين: ضعوا أي تشريع أو قانون ترونه مناسباً للمصلحة وللعصر واكتبوه وأنا أُخرِّجه لكم من أي مذهب من المذاهب الفقيهة، فهكذا أصبحت الجرأة على الله إلى هذا الحد يخرجه إما على قول ضعيف، أو على قول راجح لكنه على مذهب خطأ، أو حتى على قول من أقوال العلماء الشاذة، أو قول من أقوال من لا يعتد بخلافهم كـ الإمامية الإثنى عشرية، ولذلك من الأشياء الطريفة التي ذكرها الشيخ محمد أبو زهرة أنهم كانوا لا يعترفون بالمذهب الحنبلي، ولو رجعنا إلى كتاب الجبرتي في تاريخ مصر وهو أشهر كتاب في تاريخ مصر، وكان صاحبه حنبلياً، وكان يثني في كتابه على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلى رسائل الأئمة، ويذكر قصص الخرافيين والمشركين، فالكتاب فيه فوائد من هذا الجانب، فالمذهب الحنبلي كان موجوداً لكن من كراهيتهم له لا يذكرونه، ويقولون: إنه كما قال الطبري وأمثاله: أحمد بن حنبل ليس فقيهاً، وإنما هو محدث، وكذلك ابن رشد في بداية المجتهد وغيره يذكر الفقهاء الثلاثة ولا يذكرون إلا مذهب أهل الحديث عامة إن ذكروه، فيجعلون الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والبخاري ومسلم وأمثالهم، إما من أتباع أحد المذاهب الثلاثة، وإما من أهل الحديث في الجملة ولا يذكرون المذهب الحنبلي. والشاهد من ذلك أنه جاء في موضوع الزواج، وهم يريدون فرض القانون الفرنسي الذي لا يبيح للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة، وهذا هدف عظيم للاستعمار، فهو يسعى إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وأمر آخر: هو تقليل نسل المؤمنين، وخاصة في إفريقيا كما يقولون. فـ النصرانية المحرفة أخذوها وأرادوا أن يفرضوا القانون الخبيث في بلاد المسلمين، فوجدوا أن المذهب الحنبلي يجيز للزوجة أن تشترط ألاَّ يتزوج الزوج عليها، فأخذوا به وجعلوها في قانون الأحوال الشخصية، قالوا: ورجعنا أيضاً إلى المذهب الحنبلي وأخذنا منه اشتراط ألاَّ يتزوج عليها، وهذا دليل على أن المذهب الحنبلي فيه مرونة، وأنه يناسب العصر ويصلح أن يستفاد منه. فالمقصود أن هؤلاء الناس خبثاء، ويتكلم الشيخ محمود شاكر عن هؤلاء، حيث أنه كان يرى واقعاً مؤلماً، فأي أمر يُعرض فيه أمر لتطبيق الشريعة، فيقولون: هل تريدون أن تكون الشريعة مصدراً رئيسياً، فيقول الدعاة والمشايخ وأمثالهم: لا. بل نريد أن تكون المصدر الرئيسي، وقامت على ذلك المشاكل طوال الدهر، هل هو مصدر رئيسي أو المصدر الرئيسي، فلجنة تضع المسودة، ولجنة تلغي المسودة وهكذا أربعين سنة أو أكثر، والأمر لم يتغير فيه شيء، ولم يطبق من أحكام الله أي شيء، وكأن القضية قضية الألف واللام، نكتب "أل" أو لا نكتب "أل"، والقضية قطعاً ليست كذلك، وإنما هذه قلوب لا تريد أن تذعن لله ولا تؤمن بالله حق الإيمان، ولا تريد أن تستسلم لحكم الله كما ذكر الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، كما ذكر الله عز وجل، ولذلك يجعلون القضية -قضية اللجنة- أن المسودة لم تكمل، وعندما أكملت المسودة بعد سنين، قالوا: يعرض على المجلس، فإذا عرض على المجلس قالوا: نجعل الشريعة مصدراً رئيسياً وليست المصدر الرئيسي، سبحان الله!! ولو فرضنا أنها المصدر الرئيسي، فمعنى ذلك: أن هناك مصادر ثانوية -فمثلاً-، لو قلنا: إن كل شيء لله، وكل شيء نعبد الله فيه ونطيع الله فيه إلا ثلاثة أو أربعة أمور نعصي الله فيها، ونأخذ غير شرع الله، ونستمدها من التوراة أو من الإنجيل أو من الياسق، فحكمنا فيها حكم من أخذ البعض وترك البعض، فسيكون قد ترك الكل، لكنهم أشغلوا الأمة بهذه الأمور، فإذا جاء من يطالب بإقامة حكم الله ودين الله، قالوا: هذا متطرف، وهذا عميل، وهذا متخلف، ورجعي، وضد التطور، وضد التحرر، ويحتجون عليه بعلماء السوء، فالشيخ شاكر كان يكتب هذا وهو يعانيه ويعيشه.

حقيقة واقع السؤال والإجابة

حقيقة واقع السؤال والإجابة يقول: 'والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول'. فهو يعرفنا بالنوعين السائل الخوارج، والمسئول الذي هو أبو مجلز، قال: 'فـ أبو مجلز لاحق بن حميد الشيباني السدوسي تابعي ثقة كان يحب علياً رضي الله عنه، وكان قوم أبي مجلز وهم بنو شيبان من شيعة علي يوم الجمل وصفين، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه طائفة من بني شيبان وبني سدوس ابن شيبان بن ذهل، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، وهم نفرٌ من الإباضية. والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية '. وأبو مجلز رحمه الله التابعي الثقة يلتقي في نسبه مع إمام عظيم، هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، من نسل قبيلة شيبان بن ذهل التي ينتسب إليها الإمام أحمد، وهم من ربيعة، وهناك عوامل جاهلية جعلت الخوارج يكثرون في ربيعة. والمأمون له كلمة في هذا، وقد تكون حقاً، يقول: 'أما ربيعة فلم تزل ساخطة على الله منذ أن جعل النبوة في مضر، وما خرج منها اثنان إلا كان أحدهما شارياً'. أي: من الشراة وهم الخوارج، كان يُقال لهم: الخوارج والشراة والقراء، فـ المأمون عباسي فيتكلم عمن خرجوا على خلافة بني العباس وانضموا إلى غيره، وبالذات هؤلاء الشراة، لأن الخوارج يقولون: الإمامة حق لكل مسلم، قرشياً أو غير قرشي، فيقولون: لماذا يشترط أن يكون قرشياً؟ فيعللها المأمون بقوله: إن ربيعة -التي خرج منها كثير من الخوارج - ساخطة على الله لأنه اختار نبيه من مضر، ولأن الخلافة لا تكون إلا في قريش بالذات. وبعد ذلك تأتي مسألة الخلاف بين أهل البيت، فالعباسيون يرون أن العم أولى، والعلويون يرون أن ذرية فاطمة أولى إلخ. لكن المقصود: هو أن العباسيين والأمويين -أي: المنتسبين إلى علي رضي الله تعالى عنه- متفقون جميعاً على أصل، وهو أن الخلافة في قريش، لكن الخوارج -ومنهم هؤلاء الذين ينتسبون إلى ربيعة- يقولون: لا، بل الخلافة في أي مسلم كفء، فـ المأمون يُعلل قولهم هذا. والمقصود أن هؤلاء الإباضية، جاءوا يسألون أبا مجلز رحمه الله. قال: 'الإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، وهم يقولون: بما قالت سائر الخوارج، في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه، إذ حكّم الحكمين' والخوارج، كثير منهم من بني تميم، وبنو تميم من مضر. والنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءته صدقات بني تميم، قال: {هذه صدقات قومنا} فهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً من ربيعة أو مع ذلك كثير من الخوارج من بني تميم. ولهذا نقول: إن القضية ليست قضية عنصرية وعصبية، وصحيح أن العنصرية في الجاهلية كان لها دور، لكن ليس كل الخوارج ينطلقون من منطلق العصبية، وإلا لما خرج معهم بعض من قال بقولهم، وهم من مُضر، فكان الأولى أن يتعصبوا لقريش، لكن الضلال لا يعرف العنصرية، نسأل الله العفو العافية. فإنه إذا أضل الله أبدأ، فقد خرج من بعض أحفاد جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه، من أدَّعى النبوة وأفسد في الدين، وهذا في عمر بني أمية، المسألة فالضلال يوجد في كل فخذ وفي كل قبيلة، وفي كل شعب. قال: 'فهم يقولون- الإباضية - مقالة سائر الخوارج، في التحكيم وفي تكفير علي رضي الله تعالى عنه، إذ حكّم الحكمين، وأن علياً لم يحكم بما أنزل الله في أمر التحكيم'. وهذه المسألة من المسائل التي ناظروا فيها عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، وكان مما جادلهم به، أن الله سبحانه وتعالى شرع لنا التحكيم في سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] فكيف بصلح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين. إذاً: ليس التحكيم كفراً كما تزعم الخوارج. قال: 'ثم إن عبد الله بن إباض، قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم، ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقاً لا ندري معه في أمر هذين الخبرين، من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، إذ أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان، فإنه دار كفر عندهم'. وهذا مما بقيت في عقائد الإباضية إلى اليوم. الخوارج ثلاث طبقات -ثلاث درجات في الغلو- أشدهم غلواً الأزارقة ثم النجدات، ثم الإباضية. فـ الإباضية أخفهم، وليس معنى هذا أنهم على السنة والهدى، لكنهم لا يكفرون كل من خالفهم كما فعل أولئك، لأنهم يقولون: الكفر ينطلق على السلطان وجنده فقط، وأما الرعية فليست كافرة. ثم قالوا: إن جميع ما افترضه الله سبحانه على خلقه إيمان، وهذا الكلام مما يشنع به المرجئة وأمثالهم على أهل السنة، فيقولون: إنكم على مذهب الخوارج. فنحن نعتقد -أيضاً- أن كل شعب الإيمان إيمان، فالصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والصوم إيمان حتى إماطة الأذى عن الطريق إيمان. وفي هذا القول الخوارج يوافقون فيه أهل السنة، لكن قالوا: من ترك شيئاً من الواجبات كفر، وأهل السنة قالوا: من ترك شيئاً من شعب الإيمان عصى أو نقص إيمانه، إلا من ترك أعلى الشعب، التي هي شهادة أن لا إله إلا الله ولوازمها، أو ترك أحد الأركان عامداً إلخ، مما يكفر به الإنسان، فهنا الفرق. فنحن نقول: إن قولهم بأن كل شعبة من شعب الإيمان -أو كل ما أمر الله به- هي إيمان، هذا القول حق، لكن رتبت عليه الخوارج أن من لم يفعله ولم يأت بهذا الواجب فهو كافر، وهذا عند النجدات، وعند الأزارقة، أما الإباضية فقالوا: نحن نخفف قليلاً، فنقول: هو كافر، لكن كفر النعمة، وليس كفراً ينقل عن الملة، فقالوا: فهو كفر نعمة لا كفر الشرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها، فهذه هي عقيدة الإباضية، وهم موجودون اليوم في عُمان والجزائر وفي غيرها. وفي كتبهم أن من قال: إن الله تعالى يرى في الآخرة، فهو عندهم كافر خالد مخلد في النار، وصاحب الكبيرة عندهم -أيضاً- كافر خالد مخلد في النار، فهذا دينهم إلى اليوم. فيقول الشيخ محمود: 'ومن البيّن أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان -معسكر الخلافة- ولأنهم ربما عصوا وارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول: فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً'. يقول: إنهم تقع منهم معاصي لكن يعلمون أنها معاصي. 'وقال لهم في الخبر الثاني: إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنها ذنب'. أي: ويعتقدون، وليس المقصود هو مجرد المعرفة بل المعرفة، فشخص يفعل ذنب، ويقول: أنا أعرف أنه ذنب، فهذا لا يكفي إلا إذا اعتقد أنه ذنب، وأنه حرام فلا يكفر، إما لو استحله، واعتقد أنه حلال، مع معرفته أنه حرام، فإنه يكون كافراً. إذاً: قد يجتمع الاستحلال مع المعرفة، فيقول: أعرف أنه حرام، لكن يستحله، فليس المقصود بالعلم مجرد المعرفة، لكن المقصود بالعلم هو الاعتقاد، أي: يعتقدون أنه حرام، فكيف نكفرهم؟!

توضيح كون التبديل إعراض عن شرع الله

توضيح كون التبديل إعراض عن شرع الله قال: 'وإذاً فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا'. بل سؤالهم في موضوع آخر ليس عما يحتج به مبتدعة زماننا: 'من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة الله، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم'. فهو يقول: القضية قضية مختلفة تماماً عما يقوله هؤلاء المبتدعة، ونلاحظ في عبارة الشيخ رحمه الله عدة أشياء: أول شيء: أنه القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون -قانون عام- مخالف لشريعة أهل الإسلام، يحتكم إليه. ثانياً: قال عبارة أخرى: ' ولا في إصدار قانون ملزم '. أي: إن خلفاء بني أمية أو بني العباس، أو غيرهم من المذنبين، أخطأوا فلم يقيموا بعض الأحكام وقصروا فيها إما لهوى أو لشهوة، لكن الحكم الشرعي موجود، ولم يأتوا بقانون ملزم مخالف للشريعة، وعلى ذلك فيوجد فرق كبير جداً بين الحالة الأولى وهذه الحالة. فهنا عندنا حالة تشريع إلزامي، تلزم به الأمة، ويطبق عليها، ويحاكم ويحاسب من خالفه، ويعاقب من أعترض عليه. أما الحالة الثانية فهو: ذنب وقع من إنسان، وإذا سئل قد ينكر، أو يعتذر بأن بعض العلماء أفتاه بذلك، أو أنه حكم على مذهب كذا، فهو ليس معتقداً وملزماً به للناس، بل هو في نفسه لا يرى أنه حلال لنفسه فضلاً عن أن يلزم به الناس. قال: 'فهذا الفعل -أي: إصدار قانون ملزم للناس بغير كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة -على اختلافهم- في تكفير القائل به، والداعي إليه'. أي: الفرق القديمة لم تكن تتكلم عن هذه القضية، بل كانوا يتكلمون عمن يخالف في قضايا أفراد -قضايا معينة- أما إلزام الناس بدين غير دين الإسلام، فلم يخالف في هذا أحد، حتى يأتي مبتدعة زماننا الآن ويقولون: إنه لا يزال مسلماً.

توضيح لواقع هذه القوانين

توضيح لواقع هذه القوانين يقول: 'والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعطيل لكل ما في شريعة الله'. وقول الشيخ محمود: بلا استثناء صحيح من جهة، فإن عندهم قانون الأحوال الشخصية وفق الشريعة، وبعض الدول زيد قليلاً في باب المعاملات، فنقول: لا يعتبر شيء من ذلك أنه إقامة لحكم الله، حتى قانون الأحوال الشخصية لا يعتبر أنه إقامة لحكم الله، لأن القوم الذين يطبقون قانون الأحوال الشخصية، لا يطبقونه على أنه منزل من عند الله، ولا يقولون: نحن ملزمون به ولو خالفناه لأثمنا، ولوقعنا في الإثم والحرج، وأنه لا تصلح حياة المخلوقين والعباد إلا بهذا الشرع الذي أنزله الله، فهم لا يعتقدون ذلك، إنما هذا جانب من جوانب الحياة، وضعوا له تشريعات كما وضعوا للاقتصاد وللسياسة وللاجتماع، وللأحوال الجزائية، فوضعوا محاكم تجارية، وعمالية، وإدارية، وكل شيء وضعوا لها قوانين، فبقي هذا الجانب، فقالوا: هذا الجانب نأخذه من الشريعة، نقتبس -مثل ما ذكرنا- من الإمامية، والزيدية، والإباضية، والحنابلة والشافعية، فنركب شيئاً على شيء حتى نكمل جانباً من جوانب الحياة. لكن هذا الجانب لم يجعلوه كلياً بعيداً عن الدين؛ لأنه من الصعب على الناس أن تقول لهم: اذهبوا افعلوا عقد الزواج في البلدية، وهذا قد حصل، وقد فعله المجرم الخبيث كمال أتاتورك، وقال: الدين يلغى نهائياً، ولا يفعل عقد زواج عند مأذون أو شيخ، بل في البلدية، فهناك موظف مدني يكتب العقد، مثل أي عقد آخر، فألغى المسألة تماماً، لكن في هذه المسألة وجدوا أن في تركيا نفسها لم يقبل الناس ذلك. لأن هذه أشياء شخصية للغاية لو أخرجناها من عند الناس، فإن الناس لا يقبلون بهذا، فهم جاءوا بالشريعة الإسلامية حتى يكملوا القانون الوضعي، فهم يريدون أن يجعلوا القانون أبواباً متكاملة، وبقي لهم باباً اسمه: الأحوال الشخصية، قالوا: نكمله من الشريعة، فأخذو ما يعجبهم من الشريعة، وخلطوه بغيره وكمَّلوا الباقي، فهذا شيء. والشيء الآخر: أنه إنما يأخذ شرعيته عندهم من إصدار الدولة له واعتباره قانوناً. فمثلاً: شخص درس أحكام الطلاق، وخرج من دراسته بنتائج ونشر الكتاب، فمن يقرؤه من المسلمين يجد الدليل واضحاً فيه على مسألة من مسائل الطلاق، فالواجب عليه أن يتبعه ويعمل به رأساً، فإذا قرأ قاضي من القضاة هذا البحث، ورأى أن هذا الحكم أحسن من الحكم الذي كان يحكم به على المذهب، فإنه يطبق الحكم مباشرة، وهذا هو الواجب وهو الحق؛ لأن وظيفة العلماء هي الكشف عن حكم الله، وتبيين أن هذا هو حكم الله، أما الإلزام به فإنه من الله، فيلتزمه الناس؛ لأنه من عند الله. فالعالم يكشف عن أدلة حكم الله ويبينه، ثم ينتهي دوره، وبعد ذلك يجب على الأمة أن تعمل به -القاضي والحاكم والأمير والصغير والكبير- لكن في القانون الوضعي لو افترضنا أن شخصاً وضع مسودة للأحوال الشخصية، وضبط كل شيء فيها، ورتب فيها الأحكام الشرعية، مادة كذا ومادة كذا، وهذا حتى لا يقولون: أنتم عندكم أحكام وأبواب الفقه غير مرتبطة هكذا يظنون. فهذا شخص قال: أنا أضع لكم الأحكام الشرعية على الطريقة القانونية، مادة وراء مادة، ثم نشره بين الناس، فإذا جاء شخص يعمل في المحكمة القانونية، وعمل به، وقال: إني عملت بمشروع الأحوال الشخصية المقدم من فلان، فإنهم يضحكون عليه، ويقولون: إنه مجنون، لأن هذا المشروع لم يعتمده وزير العدل ولم يقره رئيس الجمهورية، لأن الإلزام عندهم ليس من كونك أبنت عن الحق، وأتيت بأدلة أرجح، بل الإلزام عندهم من السلطة، ولهذا فهم يفرقون بين القانون وبين المبادئ الأخلاقية، فالقانون عندهم لا بد أن يكون من السلطة، وأن يكون ملزماً به، وإلا أصبح توجيهات أخلاقية. ولهذا لا تجد في القانون شيئاً اسمه مستحب، حتى في نظام المرور ونضرب لذلك -مثالاً- في القانون لا شيء اسمه مستحب للسائق، فإذا وقف فإما أن يعاقب أو ليس عليه شيء، وهذه من الفروق الكبيرة جداً بين شرع الله وبين أنظمة البشر، حتى ولو كانت من تنظيم الأمور الجائز، فنظام المرور، فلا نقول فيه شيئاً، إذا لم يخالف الشرع، فأنت تنظم أمور الناس به، لكن في الإسلام أنت عندك أمور: مثلاً: لو تركت الأفضلية في المرور للكافر فإنك تأثم، ولو كان الذي يمر أمامك عاجز أو ضعيف أو أكبر منك أو فأعطيته فرصة للمرور، فهنا قول: هذا مستحب، وربما قد يجب فأنت في كل أحوالك تتعبد الله سبحانه وتعالى، وتشعر أنك إما مرتكب لمحرم، أو تارك لواجب، أو أنك مسدد ومقارب، وهذا الشعور حسن. أما عندهم، فإما أن يستحق العقوبة فهذا قانون، أو ليس عليه عقوبة فهذا يسمى توجيهات أخلاقية، ولا تُذكر في القانون، ولا يتعرضون لها، وممكن عندهم أن يكتب عنها صحفي في الجريدة، ولهذا عندهم الصحافة وهم أصحاب الجلالة الرابعة، فهي تُكمل الجوانب التي لم يأتِ بها القانون، فتقول للناس: لماذا تفعلوا كذا، ولو كنا نفعل كذا، ومن سمات المواطن الصالح أنه يفعل كذا، ويترجَّون الناس، ولا يوجد عندهم شيء اسمه: مستحب، أو مندوب إليه وتأجر عليه، بل القضية عندهم هي أن هذا مواطن أحسن خلقاً من الآخر، وهذا أفضل مواطنة من الآخر، فهذه هي القضية عندهم. فمن هنا كان الفرق كبيراً جداً بين ما شرعه الله وما فيه الرحمة، والعدل للعالمين أجمعين، والخير واليسر والبركة وبين تشريعات هؤلاء. فالآن عندما يقول الشيخ: "بلا استثناء"، فإن كلامه صحيح من جهتين، لأن هذا التشريع الذي هو من الذين لم يقم لأنه من عند الله، ولم يستمد الإلزام -أيضاً- من كونه من عند الله، وإنما لأن السلطة ألزمت به وانتقت واختارت بعض الأشياء من الشريعة، وممكن تغيرها في أي لحظة وتلغيها إذا أرادت، وتضع غيرها.

وجه احتجاج الزنادقة على تفضيل أحكام القانون الوضعي

وجه احتجاج الزنادقة على تفضيل أحكام القانون الوضعي يقول: 'بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة، إنما أنزلت لزمان غير زماننا'. وقد كتب مصطفى أمين: إن أحكام الشريعة، أو ما يدعو إليه المتطرفون، إنما نزلت في أيام الجمل، والحمار وكذا، أما في عصر الصاروخ والطائرة فلا بد من أخذ القوانين الوضعية، ومن شاء أن يذهب إلى القوانين القديمة فعلى الأقل عليه أن يقيمها في نفسه، ويأخذها ولا يدعو الأمة إليها، ولو كان راكباً حماراً، فهو يقول: إذا أخذت الطيارة والصاروخ والكيمياء والعلوم فإنك تأخذ معها القانون الوضعي، وإما إن كنت تريد أحكام الله فتأخذ معها ركوب الجمل أو ركوب الحمار، فهذا ربطوه هكذا. فيقول: 'إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب نقضت'. فهم يقولون: الأسباب والعلل التي نزلت من أجلها الشريعة -كما يقول هؤلاء المبطلون المرتدون- انتهت، وهذا مثلما يقولون في التاريخ أحياناً: بعث الله محمداً -وأحياناً لا يقولوا: الرسول، بل يقولون: أرسل الله محمداً، وهكذا صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون الصلاة عليه- لأن العرب كانوا يعبدون الأوثان، ويقدسون الأصنام، ويئدون البنات، فبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، للقضاء عليها، والذي لا يعرف قصدهم يقول: هذا كلام حسن، ولكنهم يقصدون بهذا الكلام أنه الآن لا أحد يعبد الحجارة، ولا أحد يئد البنت. إذاً: هذه القضية انتهت. والآن عندهم مشاكل أخرى، فعندهم مشكلة في الإسكان، ومشكلة التضخم، والنسل -زيادة أعداد الناس- ومشاكل التنمية، أما مسألة عبادة الحجارة، ووأد البنات، فهذه كانت قديماً وانتهت، فهذا هو الكفر الذي يزينونه للناس، لأنهم مهرة وفنانون في ذلك. فالفنانون الذين يشيعون الفاحشة -الأفلام وغيرها- وهم جزء من الفنانين في فن النفاق الأكبر الذي يريدون به أن الأمة تُمسخ وتنسى ذاكرتها ودينها وعقيدتها وأخلاقها، فتصبح ممسوخة، بحيث يصبح الشخص أفرنجياً لكن ليس أفرنجياً من الفرنجة الغربيين، بل أفرنجي ممسوخ تماماً، فلا تعرف ولا ترى منه أي ملمح، فلا هو أفرنجي حقيقي، ولا هو ذلك المسلم الذي يعرفه الناس. قالوا: 'فسقطت الأحكام كلها بانقضائها -لانقضاء العلل والأسباب- فأين هذا مما بيناه، في حديث أبي مجلز والنفر من الإباضية، من بني عمرو بن سدوس؟ ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام، أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة مُلزمة للقضاء بها هذه واحدة'. وهذا مهم جداً وقوي؛ لأنه على مدار التاريخ الإسلامي لم يوجد أحد تجاوز هذا وسن حكماً وجعله شريعة ملزمة، فأما الياسق فهو موروث، لكن حاكم مسلم يشرع شرعاً ويفرضه، فهو يقول: إن هذا لم يحصل.

أحوال الحاكم المسلم الذي حكم بغير ما أنزل الله

أحوال الحاكم المسلم الذي حكم بغير ما أنزل الله قال: 'والأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها، بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكن حكم بها هوىً، ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة'. أما بالنسبة للمغفرة فإن تاب وإلا فهو تحت المشيئة: 'وإما أن يكون حكم بها متأولاً حكماً خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار ببعض الكتاب وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم'. فهذا الحاكم قد يقول: أصنع منفعة للمسلمين، فخالف في قضية معينة، وهو ملتزم بشرع الله، ويدين به، ويعلم أنه الشرع ولا غيره، فإما أنه جاهل، والجاهل له أحكام، وإما أن يكون صاحب هوى ومعصية، فهذه من الكبائر. وإما أن يكون حكم بغير ما أنزل الله متأولاً، ففهم الدليل فهماً غير صحيح، أو تأول على قول من أقوال العلماء. والمهم أنه يحكم في محكمة لا تحكم إلا بما أنزل الله، وفي ظل سلطان لا يحكم ولا يأمر الناس إلا بما أنزل الله، لكن خالف في مسألة، فليس كل القضاة معصومين، بل القضاة يخطئون وهم في محاكم شرعية، ويحكمون بالشرع، فهذا الخطأ لا يخرج عن ثلاث حالات: أولاً: إما جاهل: اعترف عنده شخص أنه شرب الخمر، وأقرّ بذلك، فقال: ليس عليك شيء، لماذا؟ قال: قد يكون معذوراً، أو مكرهاً، أو جاهلاً، وقد يكون رجع عن الإقرار، كما يفعل بعض الناس، فهذا يكون حكمه حكم الجاهل الذي لم يمحص الشروط والأدلة. أو حاكم ترك حد السرقة فلم يقمه على أحد، جهلاً منه بالنصاب أو نسي أو لم يعرف. والجهل صوره كثيرة، وبعض الناس قد يستغرب: كيف يجهل الحاكم هذا؟! وكيف يخفى عليه هذا؟! وفي الحقيقة عندما تقرأ عن بعض الصحابة، فإنك تجد أموراً خفيت عليهم، فتتعجب منها، وتقول: كيف يجهلونها، فمثلاً: عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، كان لا يرى القراءة في الصلاة السرية، وهذا في صحيح البخاري، فتقول: هل يُعقل أن ابن عباس، وهو حبر الأمة، لا يدري أن القراءة واجبة في الصلاة السرية، وغيرها أشياء كثيرة، قد يستغرب الإنسان منها، وأيضاً قد يخفى عليه بعض الأحكام، وقد لا تبلغ هذا الحاكم. والمقصود أن -خفاء الحكم بمعنى أعم- باب الجهل، وهذا يقع من القضاة حتى في عصر النبوة، وفي عصر الخلافة الراشدة. ثانياً: أن يحكم هوىً ومعصية. مثلاً: يكون هذا السكران ولد عمه أو قريبه، أو يعمل في مكان قد يخدمه منه، فيقول: لو أقمنا عليه الحد سوف تكون فضيحة، وأهله يقولون له: لم نجد من منفعة إلا أنك تطبق الحد على ابن عمنا، وهذه سوف تفشل القبيلة كلها، ولا بد تحكم أنه بريء، وهذه الحوادث تقع، بل وكثيراً ما تقع هذه، فيبرئه، ويقول: ليس عليه شيء. والثالث: المتأول. أي: هو عنده دليل لكنه فهمه على غير وجهه، فهو ليس كالجاهل؛ لأنه يخالف الجاهل من جهة أن الأول خفي عليه الحكم، أما هذا فعنده دليل لكنه فهمه على غير وجهه، مثلما تأول الصحابة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة:93]. فرجل مؤمن تقي، ماذا عليه إذا شرب الخمر؟ إذا ليس عليه جناح، مع أن هذه الآية لا تصلح دليلاً، لكنه تأولها كما يتأول بعض الناس؛ وقد ذكرنا بعض التأويلات أنها قد تكون باطلة أو صريحة، فبعض الناس -مثلاً- يريد أن يرد عليك، فيقول لك: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. إذاً: نساوى في الحدود بين الإماء وبين الحرائر -مثلاً- في الجلد؟ فيقول لك: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فهذا تأول، والحقيقة: أن الدليل غير ذلك. ويُتصور -أيضاً- أن التأول وارد في أحكام كثيرة، ولولا الجهل والخطأ والتأول؛ لم تكن أحكام الفقه مملوءة بالترجيح، وبيان الخطأ، والشذوذ؛ وهذا حاصل لأنها موجودة. أما المعصية فهي ملء الأرض؛ والناس يخالفون أمر الله في أشياء كثيرة. إذاً: هذه الأحوال الثلاثة. قال: 'وأما أن يكون في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكمٌ حكم بقاء في أمر جاحداً لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثراً لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام؛ فذلك لم يكن قط'. فهذا لم يقع ولم يحصل، والخوارج لم يسألوا عنه، وأبو مجلز لم يُجب عنه، وهذه الصورة غير واردة، فصورة أن شخصاً يحكم بحكم أو بقضاء غير كتاب الله، جاحداً لما أنزل الله، مؤثراً لأحكام أهل الكفر، ثم يقول: أنت يا أبا مجلز أو غيرك ليس لكم علاقة في الموضوع، وهذا القانون الذي حكمتُ به أخذناه من الفقه الروماني، لأنه من فقه هذه الأمة المتحضرة الراقية، فهذه الصورة لا يشك أحد في كفر هذا الحاكم أبداًَ لا في زمن أبي مجلز أو غيره. ولو قال شخص: هذا من أحكام الدول المتقدمة، ونحن أخذناه من الدول المتطورة. قالوا عنه الناس: جزاه الله خيراً، هذا يريد يطور البلد، ويريد أن يتقدم البلد، فالفرق ليس في عمله هو، بل الفرق في نظرة الناس إليه، لأنهم جهلوا دينهم. قال: 'فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه'. أي: لا ينصرف إلى هذه الحالة -حالة الجحود- أبداً، فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما مثل قول ابن عباس وطاوس ومجاهد: كفر دون كفر، من احتج بها في غير بابها، وقال: كفر دون كفر، مثل من يأتي بالقانون الوضعي ويقيمه ويطبقه، ويقول: هذا كفر دون كفر، قال: 'فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة السلطان'. وهذا أحد الأسباب، وهو نصرة السلطان على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، وفرضه على عباده، مثل من يقول: إن الحكومة إنما أرادت المصلحة، والله تعالى إنما أنزل الدين لغرض المصلحة، فالمصلحة تتحقق بهذا القانون، وهذا القانون مأخوذ كثير منه من الفقه المالكي؛ لأن الفقه المالكي كان في الأندلس، ولما قُضي على المسلمين في الأندلس دخل الفقه المالكي إلى فرنسا، ثم جاء نابليون وأخذ من الفقه الفرنسي، وكثير منه مالكي، وهكذا حتى يتوصل إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله سائغ. يقول الشيخ شاكر: 'فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله' أي: أن الذي قصده نصرة السلطان أو قصده الاحتيال على شرع الله: 'وحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله، أن يستتاب؛ فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين' انتهى كلامه. يقول: إن هذا النوع وهذا الصنف من الناس يجب أن يستتاب وأن تقام عليه الحجة، وإن لم يتب وأصر على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، فحكم من يصر على جحد حكم الله، وإحلال غيره محله، معروف أو معلوم عند أهل هذا الدين، وهو أنه قد خرج من الملة نسأل الله العفو والعافية.

تفسير ابن كثير لآيات الحكم من سورة المائدة

تفسير ابن كثير لآيات الحكم من سورة المائدة ونواصل تفسير الآيات الكريمات من سورة المائدة المتعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله، والغرض هنا ليس تفسير الآيات، واستنباط الأحكام الفقهية منها، ولكن الغرض هو معرفة درجة الحكم بغير ما أنزل الله، وأنواعه. والمقصود هنا هو موضوع الحكم من جهة تعلقه بالعقيدة، فقول الله تبارك وتعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وهذه هي الآية (45/ص: 158) من عمدة التفسير. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله كما اختصره الشيخ أحمد شاكر: 'وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية! '. وهذا الكلام يتعلق بسبب النزول الثاني كما سبق، وسبب النزول الأول هو الزانيين، ولذلك عطف فقال: 'كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار! ولهذا قال هناك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً, وقال هاهنا: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضاً'. وهذا الكلام كلام نفيس من الحافظ ابن كثير رحمه الله، فهو يجعل الآيات جميعاً في نسق واحد، وأنها نزلت في أناس معينين، لا كما ذكر بعض العلماء أن بعضها في المسلمين وبعضها في النصارى وبعضها في اليهود، أو كلها في الكفر الأصغر بدون تفصيل. فهو يجعلها جميعاً في الكفر الأكبر، كما في حديث البراء: {في الكفار كلها} فالكفر كله أكبر بغض النظر عن فاعله. فيقول: إن تنزيل الآية الأولى قال فيها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] لأن الموضوع موضوع قصة رجم الزانيين، أي: سبب النزول الأول الذي ذكره الحافظ ابن كثير وذكر رواياته, وأما الثاني، وهذه الآية التي فيها أحكام القصاص، والمساواة بين الأنفس وفي الأعضاء فإن تبديلها كان: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] فالموصوف واحد، لكنه وصف تارةً بأنه كافر، نظراً لأنهم عدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم. وقد ذكرنا أن العلماء رحمهم الله جعلوا المناط المكفر هو: اصطلحوا أو بدلوا أو تكاتموا أو إلخ. وبهذا نجد فقه السلف الصالح في عباراتهم، فواضح أن العدول عن حكم الله إلى ما اصطلح عليه الناس كفر، وهنا لا تنافي مع ذلك الكفر؛ لكن بالنظر إلى كون الحق فيه حقاً للناس، فالأول حق لله؛ لأن الزانيين متراضيان، ودليل ذلك كما جاء في الصحيحين: {فرأيت الرجل يجنأ عليها ليقيها} أي: الحجارة. فالزنا هنا بتراض، فالحق فيه لله، لكن في قصة بني قريظة وبني النضير في الديات، حيث جاءت الذليلة تشتكي العزيزة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وقالوا: ما علمنا أبناء دين واحد، ونسب واحد، يكون دية أحدهما نصف دية الآخر، فلما كان الحق متعلق بالمخلوقين، ناسب أن يكون الوصف بالظلم، هكذا يرى الحافظ ابن كثير وهي مناسبة لطيفة.

القراءات في قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها)

القراءات في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) ثم ذكر بعد ذلك الثلاث القراءات في الآية، وهي لا تؤثر في المعنى كثيراً. القراءة الأولى: قراءة الكسائي: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] بالنصب، ومعلوم أن اسم إنّ وأخواتها منصوب، ثم يستأنف: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]. القراءة الثانية: قراءة أبي عمرو وابن كثير وابن عامر بنصب: "والعينَ" وما بعدها إلى الجروح، فالمعطوف كله يعطف عليها فتكون منصوبة، لكن (الجروحُ) يستأنف فيها بالرفع، ولها مناسبة من حيث المعنى, وهي: أن الأعضاء السابقة فيها تماثل: نفس ونفس، عين وعين، أنف وأنف، إلخ. لكن الجروح عموماً شيء آخر، فأي ضربة في الرجْل أو الرأس ونحو ذلك فيها قصاص، فتختلف من حيث اللفظ، فكأن الاستئناف استأنف هنا بالرفع. وقد يقول قائل على هذا الاستئناف: إن الله لم يكتب عليهم في التوراة أمر الجروح، فتفهم على أنها عبارة جديدة مستأنفة، أي: هذا هو الحكم مطلقاً، ولا يلزم منه أنه هو المكتوب نصاً في التوراة. القراءة الثالثة: وهي المشهورة التي نقرأ بها، وهي: قراءة عاصم لنصبها جميعاً. ثم ذكر بعد ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45].

هل شرع من قبلنا شرع لنا

هل شرع من قبلنا شرع لنا وهنا يأتي سؤال وهو: هل الحكم الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التوراة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة:45] وهو في شرع من قبلنا يلزمنا؟ أو هو مجرد إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن شرع من قبلنا؟ يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: 'وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حُكي مقرَّراً ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور'. أي: ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل التقرير. والأمر الآخر: (ولم ينسخ) فوجهة نظر هؤلاء العلماء أنه لما ذكر الله تبارك وتعالى حديث بني إسرائيل وقصصهم وخبرهم والحكم عليهم, أو ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ذكره إلا لنتّعظ ونعتبر ونعمل نحن -أيضاً- بذلك، فلو كان منسوخاً لجاءنا ناسخ متصل أو منفصل، لكن ما لم يأتِ ناسخ، فإنه إنما ذكره الله أو ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكون -أيضاً- ملزماً لنا، فالأصل أن دين الأنبياء واحد، وكذلك الشرائع ما لم يأت دليل بخلاف ذلك، ولا سيما وقد ذُكر في كتابنا لا لمجرد أننا وجدناه في كتبهم، فالجمهور على أن هذا يُعد شرعاً لنا، فهو ملزم لنا أيضاً. وذكر عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: [[هي عليهم وعلى الناس عامة]] أي كتبها الله على بني إسرائيل، وهي -أيضاً- على الناس عامة، وذكر من نقل الإجماع على ذلك. ثم قال: 'وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يُقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة'. فهذه نفس وهذه نفس، وإن كان الجنس مختلفاً. قال: 'وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره: {أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب في كتاب عمرو بن حزم: {أن الرجل يقتل بالمرأة} وفي الحديث الآخر: {المسلمون تتكافؤ دماؤهم} وهذا قول جمهور العلماء '.

قول أبي حنيفة بقتل المسلم بالكافر

قول أبي حنيفة بقتل المسلم بالكافر قال: 'وكذا احتج أبو حنيفة بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر، وعلى قتل الحر بالعبد، فقال: الآية عامة، فإذا قتل مسلم ذمياً أو معاهداً فإن النفس بالنفس، فيقتل المسلم بالكافر، وإسلامه هذا ينفعه عند الله، أما في الدنيا فإنه يقتل هذا بهذا، وقد خالفه الجمهور فيهما -وقتل الحر بالعبد أخف- ففي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يقتل مسلم بكافر}. والقول الصحيح الذي لا يجوز أن يصار إلى غيره هو: أنه لا يقتل مسلم بكافر، هذا مما كتبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الصحيفة التي نقلها علي رضي الله عنه عندما سئُل: [[هل خصكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم؟ -لأن الرافضة يزعمون أنه أعطاهم علم الغيب أو الجفر وهي دعوة قديمة- فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا ما في كتاب الله، أو فهماً يعطاه رجل أو ما في هذه الصحيفة، فأخرجها من قراب سيفه فكان من جملة ما فيها: وأن لا يقتل مسلم بكافر]] وهذا في الصحيحين في روايات عدة وغيرهما، والأمة على ذلك. وإنما شبهة الإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن على مذهبه هي قولهم: إن الزيادة على القرآن نسخ، وهذه الشبهة في علم الأصول، فإن عندهم قاعدة أصولية: وهي أن السنة لا تنسخ القرآن، وعلى ذلك، فالنفس بالنفس هذا في كتاب الله، أما ما في السنة فلا يعتبرونه كما فعلوا في مسألة التغريب سنة للزاني، فإنهم قالوا: إن الجلد قد ذكر في كتاب الله وفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن التغريب جاءت به السنة زيادة على ما في القرآن، والزيادة نسخ، والسنة لا تنسخ القرآن؛ فلا نعمل بها، وهي قاعدة خاطئة.

أهواء المدرسة العصرية

أهواء المدرسة العصرية وهذا قد فرح به أدعياء المدرسة العصرية، وهذه مدرسة كما قال فيها العلماء: 'من تتبع رخص العلماء تزندق'. وذلك لأنه سيأخذ من هنا ومن هنا فتصبح النتيجة لا شيء -نسأل الله العفو والعافية- فلما وجد بعض دعاة الاتجاه العصري والإسلام الحديث المرن الذي يحترم الأمريكان، قالوا: هذا هو الإسلام، فلا بد أن نجعل المسلم والكافر سواء -النفس بالنفس- وقالوا: لسنا مبتدعة لمجرد أننا نعظم الغرب أو الأمريكان بمأخذنا هذا فهو مذهب قديم للإمام أبي حنيفة، وهو أحد الأئمة الأربعة، وهذا قول معتبر، وهو أوفق مع العدالة الإنسانية، ويتفق مع حقوق الإنسان، وحتى لا يتهمنا الغرب أننا ضد حقوق الإنسان؛ فنجعل الإنسان المسلم فوق الكافر. وهم لا يأخذون بكل ما قاله الإمام أبو حنيفة لكن بهذه المسألة فقط, وهم لا يأخذون بها لأن الدليل هو الذي رجحها، لأنهم لو أخذوا بها ترجيحاً للدليل فتكون المسألة من باب الاجتهاد الخاطئ، لكنهم يرجحونها بمقتضى العصر. قال الشيخ الغزالي -هدانا الله وإياه- بمعنى كلامه في جريدة المسلمون: لو أن فلاحاً مسلماً أو راعي غنم قتل خبيراً أمريكياً، كيف تكون النسبة؟ ونحن نقول: لو أن عبداً مسلماً قتل رئيس أكبر دولة كافرة في العالم فإننا لا نقتل المسلم بالكافر، فهذا دين الله عز وجل والذي لا يجوز أن يُحكم بغيره، ولا يصار إلا إليه, وكونه يقتله ظلماً لا يعني ذلك الدعوة إلى الظلم، أو أننا نقر الظلم أو إزهاق النفس بغير حق, لكن المقصود هو أن شرع الله ودين الله في هذه الحالة ليس هو القصاص، وإنما الدية، وديّة الكتابي -أيضاً- غير دية المسلم، وهم يريدون أن يجعلوا الدية واحدة والقصاص واحد، فالمسألة ليست أن {المسلمين تتكافأ دماؤهم} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هم يريدون أن يقولوا: إن الناس جميعاً تتكافأ دماؤهم، ويقولون: إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن ْذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فالمسألة الكلية المطلقة جاء بها القرآن قبل حقوق الإنسان، فنكون قد سبقنا الغرب إلى ذلك. نقول: لا, الآية صريحة في المقصود، لأن قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] المراد بها التفاخر، فالله تعالى نهى عن مجرد التفاخر بالأنساب الذي هو من شأن أهل الجاهلية، وجعل التفاخر هو بالتقوى، والشعوب والقبائل معللة: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فنعرف أن هذا من قريش -مثلاً- وهذا من هذيل، وهذا من حرب وهذا من جهينة، فهو للتعارف، أما أن يستنبط أن الناس سواسية مسلمهم وكافرهم فهو استدلال بعيد. ثم بعد أن ذكر الكلام في العبد، وأن السلف لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ثم ذكر حديثاً يستشهد به على ما قاله من نقل الإجماع على ذلك، أي: على أن شرع من قبلنا شرع لنا، بالحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم رضي الله تعالى عنهم أجمعين من حديث أنس بن مالك: {أن الربيِّع عمة أنس كسرت ثنية جارية، فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا، فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: القصاص} فحكم أول الأمر بالقصاص، وهذا الحكم هو المذكور في الآية، فشرعُ من قبلنا شرع لنا؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بذلك، وليس مجرد أنه ذكر مقرراً, وفي نهاية القصة أن أخاها أنس رضي الله تعالىعنه قال: {يا رسول الله! تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أنس، كتاب الله القصاص, فقال: لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية فلانة} فأقسم أنها لا تكسر، وليس المقصود الاعتراض على حكم الله، لكن يقول: ذلك لن يقع، مهما بذلنا ومهما حاولنا إن شاء الله لن تكسر، قال: {فرضي القوم، فعفوا وتركوا القصاص؛ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} , وهذه كرامة عظيمة. ثم ذكر حديثاً آخر فيه إشكال كما قال رحمه الله: 'عن عمران بن حصين: {أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: يا رسول الله، إنّا أناس فقراء، فلم يجعل عليه شيئاً} , وكذا رواه النسائي وإسناده قوي, وهو حديث مشكل!! اللهم إلا أن يقال: إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه'. فالإشكال هو: كيف أسقط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القود عن الغلام، وأسقط الدية بالفقر؟ وفي الحقيقة ليس هناك إشكال؛ لأن الذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنهم فعلاً عفو عنه فلم يطلبوا القصاص أصلاً، وإنما كانوا يريدون الأرش أو الدية، فطلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الجاني الفقير، فقالوا: ليس لدينا شيء فأسقطه؛ لأنهم كانوا قد تنازلوا عن القصاص، فأمر القصاص قد قضي، وبقي الأرش فلا يوجد عندهم شيء فاستعفاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعفوا، وإلا لو أصروا على الأرش؛ فإن الدية تلزم ولو ديناً وتظل في ذمته، أو يتحملها عنه شخص آخر أو غير ذلك، لكن كونه يسقط عنه ذلك؛ فهذا دليل على أنهم قد قبلوا وعفوا، أو كما قال: لعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعفاهم أو تحمل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك, وهو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا ولي كل مؤمن}. ثم ذكر بعد ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ} [المائدة:45] الأحاديث التي وردت في فضل العفو عما وقع له من جروح، من حديث أبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم فبعضها أسانيده صحيحة، وبعضها رجح الشيخ أنه موقوف، فهذه تدل على ما نصت عليه الآية أن الإنسان إذا ظُلم فَضُرب أو اعتدي عليه فكان به ما يستدعي القصاص من الجراحات أو أي عضو من الأعضاء فتصدق به فهو كفارة له، وهذا من فضل الله تعالى ومن جملة ما أعد الله تعالى للعافين عن الناس، قال: {إلا كان كفارة له}. ومن حرص الشارع الحكيم على أن الأصل بين المسلمين هو العفو، وتقرير هذا الأصل، فالعفو محبب ومندوب إليه، وأجره عظيم، وفضله كبير في هذا الموضوع، وفي غيره: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] وهؤلاء من أثنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، وهم من أهل الجنة.

تحريف التوراة والإنجيل وهيمنة القرآن

تحريف التوراة والإنجيل وهيمنة القرآن ثم قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:46 - 47]. فيقول الشيخ: 'فقوله تعالى: (وَقَفَّيْنَا) أي: أتبعنا، (عَلَى آثَارِهِمْ) أي: أنبياء بني إسرائيل: (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي: مؤمناً بها حاكماً بما فيها'. لأن عيسى عليه السلام هو كما قال عنه تبارك وتعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران:49]. وبنو إسرائيل كتابهم وشريعتهم هي التوراة، وما يزالون إلى اليوم، ولذلك التحريف الكبير الذي أحدثه بولس في دين النصارى هو أنه نقلها من دعوة محلية إلى دين عالمي، وهذا أحد أنواع التحريف، فبقي الشرع عند النصارى إلى اليوم في جميع أنحاء العالم على كثرتهم هو الكتاب المقدس -كما يسمونه- ويشتمل على أسفار التوراة ثم الأناجيل والرسائل، وهم يختصرونها في اسمين: العهد القديم والعهد الجديد، والعهد القديم يعنون به التوراة وما يتبعها من رسائل وأسفار وبينهم خلاف بحسب الطوائف في عددها، ثم الأناجيل الأربعة وما تبعها يسمونها العهد الجديد، ومن العهدين -القديم والجديد- يتكون الكتاب الذي يسمونه: الكتاب المقدس. فالمفروض أن تكون التوراة كما أنزلها الله تعالى لليهود، فاليهود الآن يؤمنون بالتوراة فقط، ولا يلتفتون إلى العهد الجديد، والمفروض -أيضاً- أن تكون الأناجيل خاصةً ببني إسرائيل حتى ولو حرفت، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سابق علمه أنه سينزل الكتاب المهيمن، ويبعث الرسول العام للناس كافة صلوات الله وسلامه عليه، لكن المقصود حتى مع التحريف فكان المفروض أن يكون المؤمنون الآن بالأناجيل الأربعة هم النصارى فقط، ويكون اليهود مؤمنين بالتوراة؛ لأنها كتابهم ولا ينازعون في ذلك، ويؤمنون بالأناجيل؛ لأنها أنزلت على رسول بعثه الله إليهم: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران:49] وهو عيسى عليه السلام، فهو منهم، وبعث إليهم, فالخلل والتحريف الذي حدث هو أن بولس كان داعية من قبل أن يعتنق النصرانية كما ذكروا في تاريخه، فأصبحت التوراة شريعة عامة، لأن النصارى إلى الآن يجعلونها شريعة عامة للناس، فالنصارى من أي بلد كانوا يتحاكمون كلهم إلى التوراة التي هي في الأصل لبني إسرائيل فقط، مع أن الأناجيل -أيضاً-لم تكن إلا لهم، وفي نفس الأناجيل التصريح بأن عيسى عليه السلام إنما بُعث إلى بني إسرائيل وحدهم. وهذا واضح في قصة المرأة الفينيقية أو السورية، وهي امرأة جاءت إلى عيسى عليه السلام كما في أناجيلهم، وتقول: إن بها روح شريرة، يا روح الله! يا نبي الله! عالجني واهدني معك، فقال: من أين أنت؟ قالت: أنا فينيقية أو قالت: أنا سورية! وهذا من الخلاف الموجود بين الأناجيل. فقال: ' إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة فبكت وحزنت وتألمت، وقالت: إذا كنت للأصحاء فمن للخطاة؟ فقال: يا امرأة! أرى أنك مملوءة إيماناً، فأدخلها واختصها بذلك'. وفي الأناجيل الموجودة الآن أنه بعث للبشر جميعاً. وقد استنبط شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله استنباطات عظيمة في كتابه الجواب الصحيح على أنه بشر، قال: ' لست أنا الموعود الذي بشرت به الأنبياء من قبل لكنه سيأتي من بعدي'. وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما بيّن الله تبارك وتعالى: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف:6] فالشريعة عندهم هي شريعة التوراة، فكان عيسىعليه السلام يحكم بها. قال: {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} [المائدة:46] أي: هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة:46] أي: متبعاً لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف:63]- كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] ولهذا كان المشهور من قول العلماء: أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة، وهذا هو القول الصحيح، فقد نسخ بعض أحكام التوراة مما كان عقوبة على بني إسرائيل في الذبائح والطهارة وفي الأحكام الأخرى، وليس هذا مقام التفصيل فيها. لكن الحافظ ابن كثير رحمه الله كعادة العلماء لا يفوتهم أن ينبهوا إلى أمر مهم، ففي قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:47] يقول: 'أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر باتباعه، وتصديقه إذا وجد -فهذا مما فيه ومما يجب عليهم أن يقيموه- كما قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] '. فهذا رد على ما سنذكر -إن شاء الله- مما يفتريه المنصرون المجرمون الآن، ويقولون: إن مثل هذه الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [المائدة:68] تعني: أن محمداً -لا يقولون الله، لأنهم لا يعترفون بأن القرآن منزل من عند الله- يأمر أتباعه ويذكر لهم أن اليهود والنصارى على حق، وأنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل فهم على شيء. وقد تنبه العلماء إلى هذا، وهو واضح كالشمس بأنه يجب عليهم أن يؤمنوا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو العهد الذي أخذه الله على جميع الرسل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران:81]-كل النبيين- {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ وَلَتَنْصُرُنَّه} [آل عمران:81] وأخذ الإقرار على ذلك: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. فهذا عهد أخذه الله سبحانه على كل الرسل، فقد أخذ الله ميثاق النبيين أنه إذا جاء وبعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤمنوا به، مع أنه في علم الله أنه لا يبعث في زمن نبي من الأنبياء لكن هذا العهد فيه تكريم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان لفضله وفضل دينه، وفضل أمته وفضل القرآن على سائر الكتب أو الشرائع، وأن هذا الدين سيورثه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأرض وسوف يظهره على الدين كله. ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا} [المائدة:48]. يقول ابن كثير رحمه الله: 'لما ذكر الله تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه، ومدحها وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع -هذا القيد يعني في وقتها- وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته، واتباع ما فيه'. فإذا كان ما سبق هو كما تقرر والتوراة أنزلت ليحكم أهلها بها، والإنجيل أُنزل ليحكم أهله به، والذي لا يحكم بما أنزل الله أياً كان كتابه فهو كافر ظالم فاسق، وبعد هذه الأوصاف أثنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على التوراة وأوجب العمل بها، وعلى الإنجيل وأوجب العمل به وهذا إلى أن ينسخ. ثم قال: 'فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ} [المائدة:48] أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب} [المائدة:48] أي: الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله'. وقد وصفهم الله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54] وجاء ذلك أيضاً في الحديث الصحيح: {رجل آمن بنبيه ثم آمن بي} فهذا يؤتى أجره مرتين؛ لأنه آمن بالرسول الأول، فلما بلغ أو أدرك زمن الرسول الخاتم والكتاب المهيمن آمن به أيضاً، فأخذ أجر الإيمان الأول وأخذ أجر الإيمان الآخر. وهكذا حال المؤمنين الذين آمنوا حقاً بالتوراة الحق من غير تحريف ولا تبديل، وآمنوا بالإنجيل الحق -هذا شأنهم وهذه صفتهم- أنهم آمنوا فعلاً بالقرآن، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُو

هل التخيير في الحكم بين الكفار منسوخ

هل التخيير في الحكم بين الكفار منسوخ وهنا مسألة وهي: هل في الآيات نسخ أو فيها تخيير؟ ومتى يجب أن نحكم بين غير المسلمين، ومتى نكون مخيرين؟ قال: 'فروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس قال: [[كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخيراً، إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم]] '. وآية التخيير هي قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] لكن نجده يقول في آية أخرى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48] فهل آية الأمر بأن نحكم بينهم ناسخة والتخيير منسوخ؟ نقول: لا، لا بد أن نحكم بينهم -العرب والعجم والذميين والحربيين والمستأمنين كلهم نحكم بينهم- بما أنزل الله، ولا تخيير لنا بأن نحكم أو نعرض، فهذا قول. وبعض العلماء قال: لا يوجد نسخ، وقد ذكر الشيخ هنا بعض التفاصيل، ولكن يهمنا هنا كلام الأئمة. فمثلاً كلام الشافعي رحمه الله في الجزية من كتاب الأم: 'ولا خيار له إذا تحاكموا إليه -أي: لا خيار للإمام المسلم- لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] '. فـ الشافعي يرد قول من قال: أن التخيير منسوخ. وقال: 'وهذا من أصلح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] أي: تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة'. ومعنى هذا القول: أن أهل الذمة لا نردهم إلى أحكامهم؛ لأن آية التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِر} [التوبة:29] إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة:29] متأخرة، وآية المائدة في التخيير كانت قبل ذلك، وعندما نفرض عليهم الجزية؛ فإننا نأخذها عن يدٍ وهم صاغرون، فإذا كان من يعطي الجزية بطواعية ورضا يأتي إلينا يدفعها وهو صاغر. واختلف في معنى صاغر: هل يلبس الذمي ثوباً معيناً ويقف في ذل وتكون يده هي السفلى ويد الآخذ هي العليا أو أن المقصود أن يضرب عليهم الصغار؟ ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة بعض من خالف في هل ضرب الجزية من باب العوض والأجرة لسكنى دار الإسلام أو هو من باب الذل والصغار؟ والصحيح أنه من باب الذل والصغار، وكذلك ضرب الأحكام عليهم. وفي العصر الحديث أتوا بدعوة جديدة، قالوا: هذا مقابل -كما يسمونه في القوانين الوضعية- بدل عسكري، فقالوا: المسلمون يدفعون الزكاة ويجاهدون، والنصارى واليهود لا يدفعون الزكاة ولا يجاهدون مع المسلمين فيدفع الذمي الجزية بدلاً، وإن كان بعض الكلام له نوع من التوجيه لكن في الحقيقة هي من باب الإذلال والصغار. إذاً: لسنا مخيرين، فيجب علينا أن نذلهم، وأن نرغمهم على أن يدفعوا الجزية، وأن نجري عليهم أحكام الإسلام إذلالاً وإصغاراً لهم، وإلا كيف إذا زنا المسلم أقمنا عليه الحد، وإذا زنا الكتابي فنحن مخيرون؟! هذا لا يمكن، ونقل البيهقي عن الشافعي رحمه الله قوله: 'ليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذين يجري عليهم الحكم إذا جاءه في حد الله، وعليه أن يقيمه، واحتج بقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] قال: فكان الصغار -والله أعلم- أن يجري عليهم حكم الإسلام ' قال الشيخ: 'وقد رد أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن قول من ذهب إلى النسخ، فقال: وهذه دعوى عريضة، فإن شروط النسخ أربعة، منها: معرفة التأريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين، فامتنع أن يُدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر على حاله'. ولهذا قال الشيخ: 'وهذا كلام ملقىً على عواهنه غير محرر' والإشكال هو أننا قررنا أن سورة المائدة نزلت كاملة محكمة، فإن كانت نزلت دفعة واحدة، فكيف نقول: هذه الآية متأخرة وهذه الآية متقدمة، وإن كانت موجودة في الترتيب في المصحف؛ لأن عندنا بعض الأحكام تكون الآية المتقدمة فيها هي الآية الناسخة، وتكون الآية المتأخرة هي المنسوخة على الأقل على قول، وهنا في سورة المائدة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] لكن قوله تبارك وتعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]. إذاً: المتوقع أنا نقول: إن الناسخ هي الآية (49) وقد نسخت الآية (42) لكن القضية إذا قلنا: إن السورة نزلت دفعة واحدة فليس فيها نسخ، وهذا أحد الأوجه التي ترجح أنه لا نسخ. وقال الشيخ أحمد شاكر: 'وأما الطبري فإنه أبى القول بالنسخ -قال: لا نسخ بين الآيتين- مستنداً إلى القاعدة الأصولية الصحيحة، وهي: أنه لا يصار إلى القول بالنسخ إلا إذا تعارضت الآيتان تعارضاً تاماً بحيث لا يمكن الجمع بينهما'. هذا هو الصحيح، وإذا لم يمكن الجمع فنحمل كل آية على محمل، ولذلك قال بعض العلماء: لا نسخ في القرآن مطلقاً، وكل ما قيل: إنه نسخ خرّجه على أنه إما تخصيص للعام أو تقييد للمطلق أو بيان للمجمل إلخ. فهذا أحد الأقوال لكن الصحيح: أن النسخ قائم لكن ليس كما يتصوره البعض بكثرة كاثرة؛ لأنه يوجد سر في معنى كلمة نسخ، ولو عرفنا هذا السر انتهى الإشكال. فالنسخ عند السلف من الصحابة والتابعين يطلق على أمور كثيرة، فليس خاصاً عندهم برفع الحكم كليةً، بل إذا رفع جزءاً من الحكم أو عموم الحكم عدُّوا ذلك نسخاً، وإذا بين ما كان مجملاً أو قيد ما كان مطلقاً عدّوا ذلك نسخاً، وهو فعلاً رفع للحكم؛ لكنه رفع جزئي. أما المتأخرون عندما ضبطوا وأصلوا، قالوا: كلمة النسخ لا تطلق إلا على ما كان رفعاً كلياً للحكم وإحلال حكم آخر محله، وهذا لا بأس به ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا نعترض على المصطلح، لكن نقول: إذا فُهم مصطلح النسخ وفهم في كلام غيرهم تبين أنه لا معارضة -إن شاء الله- ولا إشكال في هذا. فإذاً ما نفاه الحافظ الطبري رحمه الله حيث يقول: لا نسخ، أي: بالمفهوم المتأخر، لكن الحافظ على فضله وإمامته في التفسير والعربية، إلا أنه جمع بينهما فتأول الآية تأول المتأخرة، بما يجعلها توافق الأولى، بأن قال: أنت مخير احكم أو أعرض فإذا اخترت أن تحكم فاحكم بينهم بما أنزل الله، فحمل الآية الأخيرة على الأولى، وهذا فيه فائدة تدلك على أن كل إمام له ملحظ، فيقول الطبري: إنه حتى وهم أهل الكتاب مع تحريفهم وظلمهم وجورهم ومع إفكهم وافترائهم إذا اخترت -والخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأي قاضٍ مسلم بعده- أن تحكم بينهم فاحكم بينهم بما أنزل الله. فيقول الشيخ أحمد شاكر -وكلامه وجيه هنا-: 'ومن المفهوم بداهةً: أن هذا الجمع يكاد يجعل الأمر بالحكم بينهم في الآيتين تكراراً، فقط لما مضى في الآية [43]-آية التخيير- لأن نصها: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42] '. فإذا قلنا: إنه قال بعد ذلك: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] ولاشك أن الحكم بما أنزل الله هو الحكم بالقسط، إذاً تكون الآية وليس هناك فائدة، ولا جديد في هذا الكلام، فهي مجرد مؤكدة. لكن يقول الشيخ أحمد شاكر: 'الوجه الصحيح في فهم هذه الآيات والجمع بينها، وفي فهم حديث ابن عباس رضي الله عنه بالنسخ: أن آية التخيير إنما هي في القوم الذين جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكمونه بينهم في شأن الزانيين وفي شأن الديات، وهم قوم من يهود، لم يكونوا ذميين ولا معاهدين، أعني: لم يكونوا في سلطان الدولة الإسلامية ولا خاضعين لأحكامها، بل قدموا إلى الحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية، يجعلونه حكماً بينهم في بعض شأنهم، وكانوا مستطيعين أن يحكموا بأنفسهم في شأنهم، بحكم دينهم أو بأهوائهم، كعادتهم في سائر ما يعرض لديهم من الأقضية، فإذا جاؤا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكمونه في بعض ما عرض لهم، أعلمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن له الخيار أن يحكم بينهم فيما حكّموه فيه أو أن يعرض عنهم'. فعندنا أهل الكتاب نوعان: نوع خاضع للدولة الإسلامية، فهو ذمي يعيش في أرض الإسلام، كمن يعيش في بلاد الشام أو مصر أو الأندلس من النصارى واليهود. والآخر لا يخضع لأحكام الإسلام، وإنما جاء يتحاكم إلينا، وهو يعيش -مثلاً- في فرنسا أو أمريكا أو أي مكان نحوهما، فجاءوا يترافعون إلينا، وطلبوا أن نحكم بينهم، لكن قد يشكل عليه موضوع الزانيين اللذين كانا في المدينة. لكن قد يُقال: إن هذا كان قبل أن يشمل حكم الإسلام جميعهم. أو نقول: إن هذا الحكم هو المقرر الآن بغض النظر عما جرى في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعمل بالآيتين جميعاً دون أن يلزم من ذلك معرفة المتقدم والمتأخر أو النسخ من غيره فنقول: إن أهل الكتاب إن ترافعوا إلينا فنحن مخيرون في الحكم بينهم، أما إذا كانوا ذميين خاضعين لحكم الدولة الإسلامية، فهذا نحكم فيه بحكم الله وجوباً. أما أهل الكتاب الذين لا يخضعون لحكم الدولة الإسلامية فنحن مخيرون أن نحكم بينهم بما أنزل الله، أو أن نقول: لا شأن لنا فيكم ولا إثم علينا لأن شرعكم عندكم، ونطالبكم بأن تؤمنوا وأن تسلموا ثم نحكم بينكم، ويخرج على هذا اح

تتمة تفسير ابن كثير لآيات الحكم في سورة المائدة

تتمة تفسير ابن كثير لآيات الحكم في سورة المائدة فقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48] يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: 'أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله'. وهذا تأكيد من الحافظ ابن كثير في أن مناط النهي وهو الكفر هو ما اصطلح عليه اليهود، فهي ليست مجرد أهواء، وإن كان الهوى منهيٌ عنه، لكن هذا هوى صحبه أنهم اصطلحوا وتعارفوا عليه واتفقوا وأحلوه محل حكم الله. وقد وصفهم بأنهم جهلة وأنهم أشقياء، لا لأنهم لا يعلمون التوراة، ولا يفقهون أحكامها، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد وصفهم بأنهم أحبار، والحبر هو: العالم من علماء أهل الكتاب، فهؤلاء إذاً علماء، لكنه وضعهم لأنهم جهلة من جهة أخرى ستأتي في قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] أي: أن من خالف شرع الله فهو جاهل مهما كان عالماً لا سيما مثل هذه الحالة؛ لأنه خالفه عن عمد وقصد، ويكفيه جهالة أنه لم يوقر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو كان عالماً بالله ومعظماً وموقراً له ومعظماً لحرماته ولكتابه ما خالف شرع الله وأحل محله هوىً أو شهوةً أو شرعاً آخر.

الوجه الأول في تفسير قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)

الوجه الأول في تفسير قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) ثم ذكر الروايتين اللتين وقفنا عندهما قبل هذا، وهي قوله تعالى: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] قال: 'عن ابن عباس: {شِرْعَةً} قال: سبيلاً أو منهاجاً، قال: سنة، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وغيرهم وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد عكسه، قال: {شِرْعَةً ومنهاجاً} أي: سنةً وسبيلاً'. ورجَّح الحافظ ابن كثير الأول فقال: 'والأول أنسب، فإن الشرعة -وهي الشريعة أيضاً- هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال: شرع فلان في كذا، أي: ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يُشرع فيها إلى الماء'. أي: الشريعة في لغة العرب: هي ما يشرع فيه إلى الماء المورد الذي يشرب منه، فنقلت إلى ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الخير يرده الناس وهو هذا الدين. قال: 'وأما المنهاج فهو: الطريق الواضح السهل'. يقال: هذا منهاج، أي: طريق وخط سهل رحب وواضح. فيقول: 'والسنن -في اللغة-: الطرائق'. فناسب إذاً أن يكون المنهاج هو السنة فـ"شرعة ومنهاجاً" سبيلاً وسنة. يقول: 'فتفسير قوله: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم'. وهذه مسألة على كل حال الأمر فيها هين. قال: 'إن هذا إخبار في هذه الآية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار مابعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد'. والتنوين في قوله: (لِكُلٍّ) يسمى تنوين العوض عن كلمة محذوفة، أي: لكل أمة جعلنا شرعةً ومنهاجاً، فهو يقول: فهذا إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن الأمم قبلنا، وعن هذه الأمة، أن الله تعالى جعل لكل أمة من الأمم شرعةً ومنهاجاً، أي: سبيلاً وسنة في الفروع، لأن الأصل واحد. فهو يقول: 'المختلفة في الأحكام -أي: في الفروع- المتفقة في التوحيد'. أي: بالنسبة لتوحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والإيمان بأسمائه وصفاته والإيمان بالقدر والإيمان بالأنبياء والكتب واليوم الآخر وكل أمور العقيدة متفق عليها بين الرسل الكرام، وبين الأمم جميعاً. يقول: 'كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد} كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]-هذه هي دعوة جميع الرسل- وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] '. وكذلك ما قصه الله تبارك وتعالى عن الرسل جميعاً، عندما يذكر الله عز وجل ما دعا إليه الرسل، وبما أجيبوا، كما في سورة الأعراف وهود والشعراء والأنبياء والمؤمنون وغيرها، حيث نجد أن كل رسول أول ما يفتتح الدعوة يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ولهذا يجب على كل من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبدأ بما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وإن كانت مظاهر الانحراف قد تختلف، حيث أن بعض الأمم انحرفت في التوحيد، ونتج عن ذلك عبادة الصالحين، كما حدث ذلك في قوم نوح، وبعضهم ادعى الربوبية كما ادعى فرعون الربوبية. فالخلاصة: أن مظاهر الإشراك بالله تختلف لكنها في جوهرها قضية واحدة، فهؤلاء قوم شعيب أشركوا ولكن المظهر الواضح لطغيانهم هو نقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وقطع السبيل، مع أن هذا تفرع عن الشرك، وكذلك قوم لوط ارتكبوا هذه الفاحشة الموبقة وهكذا. فنجد أن كل أمة من الأمم قد يكون مظهر الانحراف فيها يختلف في بعض نواحي المعاملات أو الاقتصاد أو النواحي المالية أو الأخلاقية، وبعض الأمم يكون الإنحراف فيها في نواحي التنسك والتعبد، فكل أمة تختلف، لكن الجوهر واحد في دعوتها، وهو أنها لم توحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولهذا نقول: الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجب أن تكون إلى توحيد الله أولاً، ثم تركز على الجانب الذي وقع فيه الانحراف والخلل، وإن كنا نقول هذا بكل أسف، فنحن في هذا العصر قد اجتمعت علينا كل الانحرافات، فعبادة الموتى والقبور لا يكاد يخلو منها بلد في العالم الإسلامي، فلو وجهت له الجهود وحده لا ستنفذها ولا ستهلكها جميعاً. وجانب الشرك الجديد -أيضاً- وهو شرك القوانين الوضعية واتباعها وتقديسها وتقديمها على كتاب الله عمَّ الأرض وانتشر في الأرض. وجانب الولاء والبراء من موالاة الكافرين واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، وهكذا. فالواجب الآن كبير؛ لكن بحسب الدول والبيئات والمناطق والمدن، وذلك أن الإنسان يعتبر التوحيد عنده هو الأساس، ولكن يركز على مظاهر الانحراف الموجود في بيئته التي يعيش فيها، كما كان الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم يفعلون. فالتوحيد هو كل شيء، لكن مع التوحيد تعالج الظاهرة الموجودة، أي إلى جانب قوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] يذكرهم بما يفعلون، ولذلك فتنة عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] حيث أن عاداً استكبروا في الأرض، وقالوا: من أشد منا قوة، فهنا أنت تخاطب وتعالج جانباً معيناً موجوداً في هذه الأمة، لكن أمة أخرى كقوم لوط كان ذنبهم ومصيبتهم هي فعل الفاحشة، فخاطبهم باستقباحها: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف:80 - 81] ولهذا قال: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] فخصهم بهذا، وأن هذه جريمة ما سُبقتم إليها، وهو بلا شك دعاهم إلى التوحيد، فكل الرسل هدفهم الأساس هو التوحيد؛ لكن مع الدعوة إلى التوحيد يجب أن نعالج أنواع الانحراف، فالتركيز يكون على جانب الانحراف عند الناس، فإذا كان الأمر أنها انحرفت في جميع الجوانب فلتعالج كلها، والله المستعان. قال: 'وأما الشرائع -أي: الأوامر والنواهي- فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في الشريعة حراماً ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس'. مثل قوله تعالى: {وعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر} [الأنعام:146] إلخ، فكان حراماً في شريعة اليهود ثم نسخ. قال: ' وبالعكس وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة: قال قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] يقول: سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه '. فاليهود لما بعث الله فيهم عيسى عليه السلام، قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] فبعضهم قالوا: آمنا بالله وصدقنا رسول الله واتبعناه، فما أحل استحللناه، وقال بعضهم: لا، هذا خلاف ما في التوراة فكفروا به، فالنسخ من الامتحان والابتلاء، فلما بعث الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء بهذه الشريعة حدث من اليهود والنصارى مثل هذا الكفر، وأنكروا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموراً في الشرائع كما أنكروا عليه أموراً في الأصول كالتوحيد والإيمان بالله واليوم باليوم الآخر. ومن الأحكام التي أمرنا أن نخالف فيها أهل الكتاب، وهي في الفروع وليس في الأصول هو: مخالفة المجوس في اللحية، فالأصل في اليهود والنصارى أنهم لا يحلقون اللحى، كما في صور كل المفكرين والكتاب والزعماء والقادة الغربيين إلى القرن التاسع عشر، وإنما شاع هذا وانتشر في الجيوش، فقالوا: العسكري لا بد أن يحلق لحيته، فجاءت إلى المسلمين، وكان المسلمون لا يعرفون هذا إلا من تشبه بالمجوس أو بأشباههم. وكذلك مثل القبلة، فهي من أعظم ما خالفنا فيه اليهود، ونسخ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شريعة أهل الكتاب وجاء بها، والآيات التي تحدثت عن تحويل القبلة موجودة في سورة البقرة، وكذلك الصبغ، والصلاة بالنعال، والسحور بالنسبة للصيام، وصيام يوم عاشوراء مع تاسوعاء، ومعاشرة الحائض، وكذلك يوم الجمعة -هدانا الله لها وضلوا فيها، وإن كانت هذه قد تكون عقوبة لهم- والأذان، وأحلت لنا الغنائم. إذاً: أمور كثيرة خالفناهم فيها، فهي إما أن تكون منسوخة، أو أنها كانت في شرائعهم فتدخل في النسخ؛ لأنها تغيير عما كانوا عليه من الحظر إلى الإباحة، أو أنها تغيير في النوعية، أو أن يكون مما شرع الله لنا من التوسعة تكرماً وتفضلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} وكان من قبلنا لا يصلون إلا في البيع والكنائس، فتفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هذه الأمة، فجعل لنا الأرض مسجداً وطهوراً: {فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال قتادة رحمه الله: [[ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره هو: التوحيد -لاتفاقهم عليه

الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)

الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) ثم ذكر الحافظ ابن كثير وجهاً آخر في الآية، وهو أن قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] أي: أن المقصود هذه الأمة، وأن الله جعل لكل واحد من هذه الأمة سبيلاً إلى المقصد الصحيح، وهذا الكلام مرجوح، وكما قال الحافظ رحمه الله: لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة:48] فلو كان المقصود هذه الأمة لما أتى بهذه الآية، وإن كان هذا المعنى صحيح، فإن الله تعالى جعل لكل إنسان سبيلاً في المقاصد الصحيحة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] , وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] والسبيل في الحقيقة واحد، لكن الذين جاهدوا في الله وعدهم بأن يهديهم سبله. والمقصود: بالسبل الطرائق الموصلة إلى الخير، وطريق الخير في أصله واحد إلا أن له فروع تؤدي إليه بحسب ما أعطى الله. فهذا سهل له المال يأخذه عن حله وينفقه في حقه، ينفق منه آناء الليل وآناء النهار، وهذا آتاه الله الحكمة فهو ينطق بها ويعلمها للناس. وهذا آتاه الله الجهاد فهو آخذ بعنان فرسه في سبيل الله إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة. وهذا أعطاه الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يصدع بكلمة الحق وينكر على الناس، ومهما أوذي صبر واحتسب. وهذا أعطاه الله العلم فهو يحفظ ويدون ويتتبع المسائل. وهذا آتاه الله الصدقة بالماء ليس له شيء إلا بئر فهو يعطي الناس يشربون من الماء مجاناً بلا مقابل، وبعضهم يشتغل بالذكر وليس له مال كما قال فقراء الصحابة رضي الله عنهم: {ذهب أهل الدثور بالأجور} فدلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العوض، وهو ذكر الله من التسبيح والتحميد والتهليل. فطرق الخير كثيرة وطاقات الناس واتجاهاتهم تختلف، ولا يعني ذلك أنه يهمل الجوانب الأخرى لكن يستفيد مما هو فيه، ولذلك لايستغني أحد عن أحد، فلو جاء عالم من العلماء الذين تحتاج الأمة إلى علمهم، وقال: إنه سيذهب إلى الجهاد نقول له: لا تذهب، فمن أين لنا بالعالم إذا قتلت؟ بينما نجد مثلك في القوة من يذهب فيجاهد وتكون نكايته في العدو أشد منك وأنت نحتاجك في العلم، وهكذا ومن الناس من يصلح في القضاء ولا يصلح في الإفتاء، ومن الناس من يصلح في الإفتاء ولا يصلح في القضاء، ومن الناس من يصلح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولايصلح في غيره. فالمقصود مع أن كل المسلمين يقيمون دين الله، ويجتهدون في ذلك، لكن الله تعالى جعل طرائق مختلفة توصل إلى الخير، وكان هذا حال الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فكانوا جيشاً واحداً خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل معركة، لكن هذا معروف بعبادته، وهذا بصدقته، وهذا بحرصه، حتى أن بعضهم قد يحرص على شيء مما تزدريه أعين الناس، كالرجل الذي دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولحيته تقطر، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يقدم عليكم رجل من أهل الجنة} لأن ميزته عظيمة جداً، يغفل عنها كثير من الناس، وقد لاتعد في كتب المناقب والفضائل لأنها خفية، لكن هذا الرجل لا ينام ليلة وفي قلبه على مسلم شيء. فسبحان الله! من يقدر على هذا، إن الإنسان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليبلغ درجة الصائم القائم بحسن الخلق} فإذا تعامل مع الناس يعفو ويصفح، وإن بلغه كلام فكأنه لم يسمعه، وإن أساءوا إليه استغفر الله لهم. قال: 'ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء -كما في الآية- لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [المائدة:48] '. أي: ليختبر ويمتحن كل أمة بما أوحى إليها إلى آخر ما ذكر.

وجوب الحكم بما أنزل الله

وجوب الحكم بما أنزل الله قال: ' {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] '. هذا الذي قلنا: إن فيها تأكيد لما تقدم من الأمر بالحكم بما أنزل الله، والنهي عن الحكم بما يخالف شرع الله ودينه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] أي: احذر هؤلاء اليهود؛ فإنهم كما قال الحافظ رحمه الله تعالى: 'كذبة كفرة خونة' فهؤلاء اليهود فيهم هذه الثلاث الصفات 'كذبة كفرة خونة'. بينهم ومع الآخرين في جميع الأزمان وفي كل مكان، هذا هو الحق في وصفهم. قال: ' {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: عما تحكم به بينهم من الحق. وخالفوا شرع الله، وهنا -أيضاً- لفتة تربوية عظيمة جداً: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] '. أي: فإن تولوا وأعرضوا وتركوا حكم الله وما تدعوهم إليه: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] فنأخذ من هذه الآية من الفقه التربوي وفقه التزكية، فبعض الناس يقول: أين العقوبة على المعاصي؟ فأمة من الأمم تعصي الله عز وجل فيزداد رزقها أو فرد يعصي الله فيزداد ماله ويفتح الله عليه فيه. أقول: مع أن هذا داخل تحت الإمهال والاستدراج ومع أنه سيؤخذ يوماً ما أخذ عزيز مقتدر، لكن هناك حكمة أخرى عظيمة، وسر عظيم، يغفل عنه أكثر هؤلاء، وهو: أن الإنسان قد يعاقب على المعصية بمعصية شر منها، وعلى الشرك بشرك مثله أو أكبر منه -والعياذ بالله- ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله، وأن يذعن، وأن ينقاد لأمر الله، قال الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] فإذا جاءك الحق فأقبل عليه؛ لأنه يخشى على الإنسان إذا أعرض عنه أن يقلب، فمهما أتاه الحق يكون قد غلف فؤاده وطبع عليه -نعوذ بالله من ذلك- فلا ينفعه ولا يدخل إلى فؤاده تذكير ولا موعظة -نسأل الله العفو والعافية- فمن إصابتهم ببعض ذنوبهم أنهم يعاقبون بأن يعرضوا عن الإيمان -نعوذ بالله- فلا يقل أحد: فلان أكل الربا، ولم تنزل عليه صاعقة من السماء، ولا خسف به وبداره الأرض. إذاً: فالوعيد في القرآن للماضين، وكأن الكلام لا يعنينا والخطاب لا يهمنا، ولا أُنزل إلينا، ولذلك يأكلون الربا، ويقولون: ليس علينا حرج، وينسون أن آكل الربا قد يعاقب بأن يستحل الربا؛ فإذا استحله كفر على جميع المذاهب، إذ لا خلاف أن من استحل الربا كفر، حتى وإن جاء من يفتي من القائلين على الله بغير علم، ويقول: الفوائد فيها وفيها، فوالله إنهم ليعلمون أن الربا حرام، ولو جاءتهم ألف فتوى، وكتب الفقه كلها مجمعة على أن من استحل محرماً كالربا أو الزنا أو شرب الخمر فقد كفر، وفي أي كتاب من كتب الفقه الإسلامية -في باب المرتد- تجد فيه أنهم يقولون: من استحل شيئاً مما حرم الله معلوم من الدين بالضرورة مثل كذا وكذا فقد كفر. إذاً: عقوبتك للربا صارت استحلالاً نعوذ بالله. وقد يكون زانياً يذكر بالله، لكنه يستمر في الزنا -نعوذ بالله- عند ذلك يستمرئ هذه المعصية، فيعاقب بمثل ذلك، إما بأن يستحل الزنا، وإما بأن يكفر بالدين كله، ثم يقول: القضية قضية حرية، وحب وعلاقات عاطفية، ويحتج بالغرب، فكان أول الأمر يأتي الفاحشة ولو ذكرته بالله يخشى، ولا يصرح بها، وفي النهاية يكتب في الجريدة عنها، ويتبجح بها نعوذ بالله من ذلك. وهذا مما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يأتي أحدهم الفاحشة أو يأتي الذنب فيستره الله عليه، فيقوم وينشرها على الملأ، فيكتب عن الحب، والعلاقات الغرامية، والصداقة ويذكر لك قصته، كيف قابل امرأة وصار صديقها -نعوذ بالله- لأن القلوب قد غلفت وطمست فعوقبوا، وهكذا في كل ذنب من الذنوب لا يأمن الإنسان أن يعاقب بأشد منه. وبعض الناس -نعوذ بالله- ذنبه الغيبة والنميمة فهو بدأ يغتاب رجلاً ثم الثاني، ويقال له: اتق الله ولاتغتاب، اتق الله في أعراض المسلمين، ولكنه لا يبالي، فهو في أول أمره كان يغتاب الفساق، أو يذكر بعض الناس الذين فيهم أخطاء فيعاقب بعد ذلك بأن يغتاب الأبرياء والأولياء وهو لايدري، لأنه توغل في الغيبة، ولم يدر إلى أي حال قد وصل إليه! وإذا به يصل إلى أن يغتاب أولياء الله الصالحين، فتكون النتيجة كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} فيصبح يحارب الله وهو يظنه مجرد كلام وحديث عابر، فليحذر كل عاقل من هذه الذنوب والمعاصي ومن أضرارها وآثارها نسأل الله العفو والعافية.

النهي عن اتباع الأهواء

النهي عن اتباع الأهواء ثم قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] فاختتم الآية بهذا. يقول ابن كثير رحمه الله: 'أي: أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق ناكبون عنه، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ' الآية. فليست العبرة بالأكثرية، وهنا حكمة عظيمة لا سيما في زمننا هذا فأكثر الناس فاسقون، وأكثر الناس يريدون حكم الجاهلية، ولذلك هل نعرض دين الله وشريعة الله للتصويت، ونأخذ رأي الشعب؟ وهل نحكمهم بالقرآن أم بالقانون الفرنسي؟! ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] أي: أن أكثرهم يريدون الشهوات، ويريدون انتهاك الحرمات، كمثل الذين وصفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفينة، لا يريدون أن يصعد أحدهم إلى من فوقهم ويستقي الماء، بل يريدون أن يخرقوا ويشربوا مما يليهم، وهذا حال الكثير من الناس. فليست القضية قضية ديمقراطية، إنما هي قضية اتباع ما أمر الله به مهما قل العدد، ويجب أن ندعو الناس إلى ما أنزل الله وألاَّ نتبع أهواءهم وألاَّ نرد الأمر إلى آرائهم؛ لأن آراء الناس عجيبة جداً، فترى الناس سواسيه في الطريق وفي العمل وفي الشارع، وتقول: الحمد لله لأن الناس متفقون، لكنك لو قمت باختبارهم لرأيت العجب العجاب، فرجل له رأي في الربا، وآخر له رأي في تعدد الزوجات، وآخر له رأي في نظام معين، ولا يوجد أحد منهم يحتقر رأيه، بل كل إنسان منهم مستعد أن يقول: هؤلاء العلماء الكبار ليس عندهم علم، ثم يبرر موقفه، ويقول: انظر كيف أفتوا في هذه، وكذلك أجهل الناس في السياسة والاقتصاد. وهذه مشكلة أصحاب الهوى، فإذا وكلنا دين الله إلى هذه الأهواء ماذا نلقى؟ فرجل لم يعجبه الدين كله، وآخر يقول: الدين حسن لكن عندي عشر مسائل أو خمس لم تعجبني، وهكذا يريدون أن يكون الدين على شهواتهم، ثم المسألة المتفق عليها بعضهم عنده فيها نظر، فيقول: الخمر لا بأس أن تقول إنه حرام، لكن نبيحه في الفنادق والقنصليات والسفارات، ويقول: أنا أعلم أنه حرام، ولكن نحن في القرن العشرين فلا بد أن نعطي هؤلاء الناس مزية، وهكذا الزنا فهو يقول: الزنا حرام، ولكن هؤلاء لو أتو بمصائبهم معهم نتركهم، وهكذا. فالذي يتفق معك في المبدأ يختلف معك في التفاصيل، فكيف بالذي لا يوافقك حتى في أصل المبدأ، ماذا تكون النتيجة؟ إنها أهواء كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن يجتمع الناس على رأي، وإنما الذي يجب أن يخضع له كل الناس هو ما أنزله الله وما أمر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48] فمهما كانت هذه الأهواء فلا نتبعها وإن كثرت؛ لأنك إذا سلمت بالمبدأ وهو أن أهواء الناس ورغباتهم هي المعيار لن يبقى لك من الدين شيء، بل أنت يامن تريد أن تمالئ الناس ستأتي فترة من الزمن يقولون فيك: إنك لا تصلح، وكنت تظن أنهم يحبونك. فيجب أن يُعلم أن القضية ليست قضية أهواء، إنما هي قضية اتباع ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه لو رُد الأمر إلى أهواء الناس لما صلحوا ولما اتفقوا، فهم يريدون أن يجعلوا العالم متوافقاً مع رغباتهم، والرغبات تختلف، وبهذا لن يكون عندنا عالم، وهكذا الحاكم والمدرس وأشكال الأسواق إلخ.

الفرق بين الشورى والديمقراطية

الفرق بين الشورى والديمقراطية فلا يمكن أن تستقيم الأمور على أهواء الناس أبداً، ولذلك لو نظرت إلى حقيقة ما يسمى بـ الديمقراطية، هل هي فعلاً حكم الشعب للشعب؟! أي: أن الشعب يحكم نفسه فعلاً، وهل حكم الشعب نفسه بنفسه في التاريخ كله؟! ولذلك تجد أن أهل القرى في المجتمعات اليونانية الصغيرة، وفي حكومات الكوميوند، أو جزء من ذلك في إيطاليا كانوا يجتمعون ثلاثين أو أربعين يتشاورون ويحكمون أنفسهم، هذا في كتب علم السياسة، وما يسمونه بالفقه السياسي إلخ يقولون فيها: لم يوجد حكم ديمقراطي حقيقي مباشر إلا في القرى الإغريقية القديمة، أما ماعدا ذلك فلا. قلت: فالفردية التي عدد أفرادها ثلاثين شخصاً، أي: الكبار منهم من يحق له الانتخاب، هل فعلاً حكموا أنفسهم بأنفسهم، أم أنه لابد من شيخ في القرية، إذا تحرك التف حوله عشرون نفراً، وخفضوا رءوسهم وسكتوا. حتى القرية الصغيرة الحاكم فيها ثلاثة أو أربعة وجهاء من الناس، ولا يستطيع أحد من الناس أن يرفض، وذلك لأنهم يخافون من البطش، إذاً فهي إما قوة جسدية أو قوة مالية أو قوة منصب، حتى الحكم المباشر الذي يضربون له مثال بالثلاثين والخمسين لا يوجد أبداً، ففي النهاية الذي يحكم هو صاحب الهوى، حيث يشغل قوته في هواه كما يشاء، فكيف إذا ما صارت الأمة بالملايين، وقالوا: لابد من ممثلين ينتخبهم الشعب، ويرضاهم ودخلت المتاهات. كما ترون في أمريكا أن الناس حزبين فقط: ديمقراطي وجمهوري، لاخيار غيرهما، حتى وصل بهم الأمر في بعض الولايات إلى أنه لابد أن تتوارث الحزبية، أي: أن الأب ديمقراطي والابن ديمقراطي والحفيد ديمقراطي إلى يوم القيامة، ولهذا تجدون أناساً كثيرون لايصوتون ثم يذهبون إلى دول أخرى، ويقولون: إن القضية ليست قضية حزبين وهكذا الضلال. ففي إيطاليا قبل فترة من الزمن لما تغيرت الحكومة الأخيرة، ذكروا أنه ما يقارب من خمسين حكومة تشكلت منذ الحرب العالمية الثانية -أي: تقريباً خمسين سنة- فأحياناً كل ستة أشهر في إيطاليا وفي غيرها تتشكل حكومة جديدة ووزراء جدد، فالوزير الذي يعلم أنه لن يحكم إلا ستة أشهر، ماذا تريد أن يعمل بالأموال؟ لكن لو كان أمامه عشرون سنة فسيجمع قليلاً قليلاً، فالناس هناك في لعب وضلال وتخبط، أهذه هي القدوة التي يريدون أن نترك كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجلها؟! والشورى التي أنزلها الله وأمر بها، وعمل بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: 'لا أعرف أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'. وقد وردت في حديث لكن في سنده انقطاع؛ لكنه من حيث الحقيقة فهذا ثابت كما قرره شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، فلم يكن أحد من الولاة أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الخلفاء الراشدين من بعده: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فهم يتشاورون في الأمر العظيم، فإذا جاءهم عن الله أو عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص، قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]. ومن القصص العجيبة في هذا: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما ذهب إلى بلاد الشام فجاءه الأجناد والأمراء، والحديث في صحيح مسلم مفصلاً، وله أصل في البخاري وغيره، وفيها أنه جلس فقال له الأمراء: إن الوباء -وهو الطاعون- قد نزل في بلاد الشام فما الرأي؟ وعمر رضي الله عنه ليس كأي أحد، إنما هو محدث ملهم ألقى الله الحق على قلبه ولسانه، ومع ذلك لم يستبد برأيه، بل قال: عليّ بالمهاجرين، فاجتمعوا واختلفوا، فقال: عليّ بمشيخة الأنصار، فاختلفوا كلٌّ له رأي، من يقول: نقدم، ومن يقول: نرحل، فتردد في الأمر، وفي الأخير عزم على أن يرحل، وقال: الغداة الرحيل، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائباً لبعض أموره، ولم يكن حاضراً للشورى، فقال: عندي في هذا علم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا نزل الوباء وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا لم تكونوا فيها فلا تدخلوها -أو فلا تقدموا إليها} فقال عمر: الحمد لله، ولو كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موجوداً فأخبر بهذا الحديث أول ماجاءه الخبر، لما احتاج أن يشاور أحداً أبداً. وفي هذا الحديث فائدتان عظيمتان: الأولى: أهمية الشورى، وألاَّ يستبد الحاكم برأيه. والأخرى: أنه إذا جاء نص صريح فلا تشاور، أما مسائل الاجتهاد وموارد الاختلاف فالأمر فيها آخر، فالقضية ليست قضية ديمقراطية: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49].

تفسير قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون)

تفسير قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فأكثر الناس هذا حالهم. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: 'قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ينكر تعالى على من خرج -أي: الاستفهام هنا للإنكار- عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ماسواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله'. وهذا كلام نفيس يكتب بماء الذهب، فلا يعدل الإنسان أو يخرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، في كل زمان وعصر، ولا يعدل إلى ماسواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، أي: سواء كانت فلسفات أو قوانين أو أعرافاً أياً كانت ' التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله '. أي: إن القضية ليست قضية اجتهاد من العلماء في النصوص. قال: 'كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات '. فـ ابن كثير رحمه الله تعالى حكيم في كلامه، حيث قدم بمثال متفق عليه، ثم انتقل إلى المثال الواقع في عصره، فأول ما مثّل قال: 'كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم'. فالعرب في الجاهلية في عكاظ -السوق الجاهلي القديم- ومجنة وذي المجاز عندهم حكماء غالباً إما كهان وبعضهم قد يكون مما آتاه الله بلاغة وبياناً ويسمونه: الحاكم، يأتي الناس ويتحاكمون إليه، ويحكم كما يشاء فيما يشاء بلا دليل ولابرهان من الله ولا أحد من رسله، فيفرق بين المتماثلين ويماثل بين المتفرقين، والكاهن يدَّعي أن العلم جاءه من رائيه، فينطق ويقول: أخبرني هذا، أي: شيطانه، والشيطانين يوحون إلى أوليائهم، فيحكم بينهم، وكانوا يتحاكمون إلى الأزلام، ويستقسمون بها، ويقولون: اضرب القدح، فإذا كان كذا عليك كذا، وإذا انقلب كذا عليك كذا، بلا بينة ولاسماع. وهذا مثال آخر: امرؤ القيس لما قتل أبوه كان عربيداً سكيراً، أي: متحرراً متطوراً، وكان يظن أنه يعيش حياة عصرية -كما يقولون- فلما قتل أبوه رجع، وقال: اليوم خمر وغداً أمر، ماذا أفعل بقتلة أبي؟ فقالوا: تذهب إلى ذي الخلصة الذي في بلاد دوس تستشيره في أن تقتل قتلة أبيك أم لا؟ وذهب امرؤ القيس إلى ذي الخلصة كما ذكر الكلبي في كتابه الأصنام -وذكره غيره- واستقسم بالأزلام عند ذي الخلصة وفي كل مرة يكون نصيبه لا تفعل، والعرب دائماً عندهم الثأر، فقال: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا يوماً وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا ورمى الأزلام، ورحل إلى قيصر يستنجد به، يريد أن يستعين به على كندة. فالشاهد قوله: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا!! أي: الذي قُتل أبيه. يوماً وكان شيخك المقبورا!! أي: كان أبوك الذي مات. لم تنه عن قتل العداة زورا. فهو يقول: تنهاني عن قتلهم؛ لأنه ليس أبوك هو المقتول، وذي الخلصة صخرة، لا درت ولا أفتت ولا أحلت ولا حرمت، ولكنها الضلالات والجهالات، كما قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون} [المائدة:50] فالناس هم من يبغون، وهذا المثال الواضح لا يخالف فيه أحد.

التتار يحكمون بغير ما أنزل الله

التتار يحكمون بغير ما أنزل الله وابن كثير رحمه الله تعالى ذكر شيئاً آخر، فقال: 'وكما يحكم به التتار -ولم تكن جاءتهم المصائب التي جاءتنا ولم يأتِ نابليون ولا القوانين الوضعية- من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها'. وفيه جزء من الشريعة الإسلامية فهي تعتبر مصدراً رئيسياً، ونستطيع أن نقول: لأنه من اليهودية والنصرانية، والنصرانية أحكامها قليلة أصلاً. ومن أمثلة هذا المادة الأولى من القانون المدني المصري، الفقرة الثانية، تقول في معنى الكلام: يكون الحكم بما ورد في هذا القانون، فإن لم يوجد أي نص من القانون المدني على الحكم فيعمل بمقتضى العرف، فإن لم يوجد فيعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية فإن لم يوجد فبأحكام القانون الطبيعي ومبادئ العدالة. وجاء الشارح -أيضاً- فزاد الطين بلة، فقال: إن قانوننا المدني أعطى الشريعة منزلة سامية عظيمة؛ لأنه جعلها في المرتبة الثالثة. ويقولون: هذه فيها محاباة لأنه قدمها على مبادئ العدالة -نعوذ بالله- أما الياسق فهو مأخوذ من الإسلام واليهودية والنصرانية مباشرة، وسأذكر بعض الأحكام من الياسق، وهي مأخوذة فعلاً من الإسلام مباشرة، فالشريعة الإسلامية مصدر رئيسي في الياسق. قال: 'وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'. فقدموا الياسق على الكتاب والسنة مع أن الشريعة هي مصدر من المصادر. قال: 'من فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله -أي: هذا حكم الله فيه- فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] أي: يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] '. وابن كثير رحمه الله تعالى يتكلم عن واقع الأمة كما ذكر هو في تاريخه رحمه الله. فاضطربت الأمة في شأن التتار، واختلف العلماء هل نقاتل أم لا؟ ثم قالوا: إن قاتلناهم نقاتلهم على أنهم بغاة أم على أنهم خوارج، وكيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وفيهم من يصلي، وفي جيوشهم جموع من الناس تصلي، ويقولون: نحن مسلمون؟ فقالوا: كيف نقاتلهم؟ كما التبس الأمر -تقريباً- على الصحابة رضي الله عنهم سوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قالوا: كيف نقاتلهم وهو يشهدون أن لا إله إلا الله؟ وقال بعضهم: أنؤجلهم سنةً -نعفو عنهم هذا العام من الزكاة- حتى نتألف قلوبهم؟ فاشتبه الأمر عليهم ثم أفتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى بأن هؤلاء خارجون عن الشريعة، ويجب قتالهم، وليس قتالهم من جنس قتال الخوارج ولا البغاة، وإنما من جنس الخارجين عن الشريعة والمرتدين، كـ مسيلمة وأمثاله، كمن جحد الزكاة، فهؤلاء جحدوا حكم الله، فهم كمن جحد الزكاة، فحالهم كحال المرتدين، ثم اجتمعت الأمة على هذه الفتوى وجاهدوا، وكان من يقودهم في المقدمة هو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله. فهذا الحافظ ابن كثير وهو من خيرة وصفوة هؤلاء التلاميذ النجباء الذين أخرجتهم تلك المدرسة السلفية العظيمة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، حيث كانوا كلهم هو وابن القيم والحافظ المزي رحمه الله والذهبي وغيرهم من خير رجال الأمة الذين كانوا في ذلك العصر، فجددوا الدين، وكان لهم هذا الموقف الموحد من التتار، ومن الرافضة ومن الباطنية ومن كل أعداء الدين، وأعداء العقيدة، وإن تمسحوا بها وادعوها. فهذا الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا يؤكد على فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بشأن التتار، وأنهم كفار، وأنه يجب قتالهم حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله: 'من فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير'. فلا يقول: أنا عندي القانون الجزائي في العقوبات، والعقوبات كلها من الشريعة الإسلامية، ولكن القانون المدني من القانون الوضعي، ولا يجوز الحكم به لا في قليل ولا كثير، ويكون الدين كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} [البقرة:85]. قال: ' {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها'. فيقصد ابن كثير رحمه الله هنا ذكر بعض الميزات التي أوجبت علينا أن نتحاكم إلى شرع الله وهي: أولاً: العدل. ثانياً: الحكمة، قال: 'وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها '. لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حين شرع لنا هذا الدين وأحل ما أحل وحرم ماحرم، أرحم وأرأف بنا من الوالدة بولدها، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المعروف: {لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مائة رحمة أنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة فيها يتراحم الناس وادخر تسعاً وتسعين رحمة عنده} فالذي يشرع وهو بهذه الرحمة لن يشّرع لهم إلا ما فيه خيرهم ومصلحتهم. قال: 'فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء'. أي: أن من كانت فيه هذه الصفات فهو الذي يشرع، وهذا يذكرنا بكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، ورسالة لطيفة صغيرة ولكنها قيمة، كتبها الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل، وهو من الدعاة الذين نسأل الله أن يبارك في علمهم وفي جهدهم في الرياض، عنوانها: إن ربك حكيم عليم، وله غيرها، مثل: قل إنما أعظكم بواحدة، وذكر كيف أن مقتضى أسماء الله وصفاته تحتم انفراد الله بالحاكمية، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، والعادل في كل شيء، ولا يوجد أحد يتصف بهذه الثلاث الصفات غير الله عز وجل حتى يجوز له أن يشرع. وعلّق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على كلمة الياسق، فقال: ' الياسق، هكذا رسمت هذه الكلمة في المخطوطتين -اللتين أطلع عليهما رحمه الله- والمطبوعة، وهي كلمة أعجمية، ولذلك اختلفت المراجع في رسمها وأصلها '. وأنبه على أن الموجود في مجموع الفتاوى لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أن المعلق قال: كلمة لم أتبين لفظها، أي: لم يعرفها، والكلمة هذه تكتب أحياناً الياسق، وتكتب أحياناً السياسة، وأحياناً: الياسة، وأحيانا: السياسا، وأحياناً: اليسغ. أي: أن الكلمة الأعجمية يتصرف فيها العرب، فحيث ما وجدت هذه الألفاظ فالمقصود واحد، وهو كتاب جنكيز خان. ويقول الشيخ أحمد شاكر نقلاً عن الحافظ ابن كثير في التاريخ (13/ 117): 'وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف لشرائع الله وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، واتبعوه في ذلك، ثم سماها بعد ذلك الياسا '. والحافظ ابن كثير فيما نقله عن الوزير علاء الدين الجويني، سماها الياسا، قال: 'وأما كتابه الياسا، فإنه يكتب في مجلدين بخطٍ غليظ، ويحمل على بعير عندهم'. أي: هذا دستور يعظمونه. وقال الزبيدي في شرح القاموس "7/ 98": 'يساق -هذه كتابة أخرى على وزن كلمة- كسحاب، وربما قيل: يسق بحذف الألف، والأصل فيه: يساغ بالغين المعجمة، وربما خفف فحذف -قد تكون يسا- وربما قلب قافاً'. ويقصد بذلك إما أن يُقال: يساغ أو يحذف الغين ويقول ياس أو يسه: 'وهي كلمة تركية '. ويقول بعضهم: إنها مغولية، وبعضهم يقول: إنها تتارية، وبعضهم يقول: أنها تركية والكلام واحد، لأنهم يقال لهم جميعاً تركاً أو أتراكاً: 'يعبر بها عن وضع قانون المعاملة، كذلك ذكرها غير واحد، وقد حررها المقريزي في الخطط "3/ 357 - 358" قال تحت عنوان: ذكر أحكام السياسة'. وهو قانون المعاملة أو الدستور أو القانون أو الشريعة التي وضعها جنكيز خان وأخذها من اليهودية والنصرانية والشريعة الإسلامية، وركبها وجعلها شرعاً متبعاً يتحاكم إليه قومه، وقد سبق الكلام عن تاريخ وضع القوانين، وذكرنا أن هذا يعد من أقدم القوانين بالنسبة لكونه قانوناً مكتوباً، أما القوانين العرفية غير المكتوبة فهي قديمة؛ لكن هذا من أشهر ما يسمى بقوانين القرون الوسطى.

التتار والحكم بغير ما أنزل الله

التتار والحكم بغير ما أنزل الله لو عدنا إلى كلام الزبيدي نجد أنه دقيق في عباراته فيقول: 'يعبر بها عن وضع قانون المعاملة، كذلك ذكره غير واحد'. فالقانون الذي وضعه جنكيز خان المقصود به قانون المعاملة، والمعاملات العسكرية جزءاً منها -الجند والقادة- وهذا من أعظم ما اهتم به جنكيز خان، وهو أن يرتب حقوق الجنود فيما بينهم، فهو قانون للمعاملة. أما ما يتعلق بالدين أو التدين، أو الأحوال الشخصية كما يسمونه فقد ترك، وكان في دولة التتر النصارى والمسلمون والمشركون بجميع أنواعهم، وإنما الذي نظمه وشرعه جنكيز خان هو قانون المعاملة، وهو صورة لما تريده القوانين المعاصرة اليوم. فالمقصود عندهم هو تنظيم قوانين المعاملات بالدرجة الأولى -التي يسمونها المدينة عموماً- وقضايا العمل والعمال والشركات والبنوك والأمور الاقتصادية، ثم الجانب الجنائي والجزائي -كما يسمونه- وبعض الدول لا تمانع من الاستفادة في بعض هذا الجانب من أحكام الشريعة الإسلامية، لكن بقية الأحكام التي هي قوانين في المعاملة -كما ذكر الزبيدي في شرح القاموس -فلابد أن تخضع للقانون الذي وضعوه.

نشأة القوانين الوضعية

نشأة القوانين الوضعية والمقصود أن القوانين في الياسق -كما سنستعرض بعضها إن شاء الله من كلام الحافظ ابن كثير - كانت في هذا الجانب، مع أنه أيضاً فيها أحكام جزائية أو جنائية. يقول الشيخ: أحمد شاكر: 'وقد حررها المقريزي في الخطط "3/ 357 - 358" قال: تحت عنوان: ذكر أحكام السياسة -والمقريزي هو من أوفى من شرح وفصل موضوع الياسق وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر هنا الكلام المهم منه- ويقال: ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، وقد ذكر كما ذكر صاحب خزانة الأدب قال: فكيف نسوس الناس والناس دوننا إذا نحن فيهم سوقة نتنصب فـ المقريزي يريد أن يرجع إلى الأصل اللغوي، لأنه حصل لبس كبير عند كثير من المؤرخين في أصل الكلمة، وهذا البيت ينسب إلى هند بنت النعمان بن المنذر، والمعنى: بينما كنا نسوس الناس أي: نقودهم ونرعاهم ونوجههم، -فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، ثم رسمت بأنها القانون لموضوع رعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال- ولا شك بأنها مفاسد وليست مصالح لكن من وجهة نظر أهلها، يقول المقريزي - والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها'. فهذه مقدمة عن السياسة وهي كلمة موجودة ومستخدمة بمعنى الوسائل والأساليب أو الأنظمة التي يتخذها الحكام والولاة لضبط الأمور. والسبب في احتياج الناس إليها هو تقصير القضاة والفقهاء، حيث ضيّق بعضهم مفهوم الحدود، فقصروا الحدود في الحدود المعروفة كشرب الخمر، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد البغي وما عدا ذلك ليست حدوداً، وكان الأمراء ورؤساء الشُرط، والمكلفون بضبط الأمن في الولايات يعتبرونها من باب التعازير فلم تكن تندرح ضمن الأحكام، ولم يكن يتناولها القضاة وبعض الفقهاء المتأخرين، وإنما تركت على أساس أنها تعازير ترجع لولي الأمر، ولما صار ولاة أمر المسلمين من العجم، وكذلك الجنود، وكانوا لا يفقهون اللغة العربية أو شيئاً من الأحكام الشرعية، كان بدهياً أن يجتهدوا من عند أنفسهم، ويضعوا النظم والوسائل لضبط الأمن والأحكام التي مهدت لقبول الياسق أو الياسة. ومن الأمثلة على ذلك، ما ذكره ابن القيم في الطرق الحكمية، فجعل أن بعض الفقهاء منهم من لم يفهم حقائق الشريعة، فجعل البينة هي الشاهدين فقط، فإذا انتهك عرض إنسان أو سلب ماله في البر وأتى إلى القاضي أمره بإحضار شاهدين، ومن أين له ذلك وهو في البر، وبناءً على ذلك ضاع الحق، فأصبح الولاة لا يحيلون هذه الأمور إلى القضاة، فإذا لم يكن هناك شهود عذبوا الخصم بأي شكلٍ ما، ويأتون بشيخ قبيلته أو عشيرته ويعذبونه حتى يتبين أنه هو أو غيره، فيستخدمون وسائل كثيرة لاستخلاص الحقيقة، ويقول: لولا ذلك لما ضبط الأمر، لأنه لا أحد يجني جناية ويأخذ معه شاهدين، فبذلك تضيع الحقوق. أما ابن القيم رحمه الله فيقول: البينة ما أبان الحق، وكشف عنه أياً كان، حتى لو كان بالقرائن، كقرائن معينة تصل إلى حدِّ البينة، لكن لما ضاق الأمر من الناحية الفقهية، ومن ناحية القضاء ولابد للناس أن تضبط أمورهم، وكان الذين يضبطون الأمور جهلة بالشرع وبمقاصده، وشروط الاجتهاد ليست متوفرة فيهم، فضلاً على أن نقول: إنهم جهلة بالفقه، فلا فقه ولا اجتهاد. ولكن لا بد أن يضبطوا الأمر، فضبطوه بهذه الوسائل التي أخذوها من تربيتهم العسكرية، وخاصة الترك السلاجقة ثم مَن بعدهم، لأنهم قوم متربون تربية قبلية عسكرية. والقبائل إلى اليوم لها سلوم وسوالف وأحكام ونظم تطبقها، فأخذوا هذه الأنظمة ووضعوها مع الشرع، فقالوا: هذه شريعة وهذه سياسة، فإذا أحيل إلى القاضي وحكم عليه بحد من الحدود ولو بالتعزير، قالوا: هذه شريعة. أما إذا كان الوالي أو مدير الشرطة أو ما أشبه ذلك، قالوا: هذا قتل سياسة، أو ضرب سياسة، أو صلب سياسية، أو يعلقون أخذ أموالهم من باب السياسة، فالأمة استمرأت هذا الوضع. ولهذا لما جاء الحكام العادلون مثل نور الدين محمود رحمه الله، وأمر بإلغاء كل سياسة تخالف الشرع، ولا يحكم في صغير أو كبير إلا بأمر القضاة، وجعل مجلساً من القضاة والفقهاء والعلماء، فكان يستشيرهم في كل ما ينزل وهم يفتونه، انتظمت الأمور فكتب إليه بعض الناس، قالوا: إن أهل الفساد والدعارة وقطاع الطريق قد أفسدوا وفعلوا وفعلوا ولا يضبط الناس إلا نوع من السياسة، فكتب إليهم نور الدين رحمه الله. إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد شرع للخلق ما ينفعهم وما يصلحهم وهو أعلم بمصالحهم، وقد أكمل الدين فكل شيء يخالف شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو باطل، ولم يرجع عما أمر به، وذلك يعدُّ في مناقبه، فكان إذا جاء الحاكم العادل الذي يحكِّم الشرع لم يحتج الناس إلى هذه السياسة، وإن جاء حاكم جاهل أو ظالم أو جائر أخذ يستبد كما يشاء، وإذا أراد أن يحيل أمراً أحاله إلى القضاة، وقال: هذه شريعة وهذه سياسة. وهكذا كان الحال قبل ظهور التتار وقدومهم، وقبل ظهور كتاب أو قانون الياسق، ثم تلا ذلك مرحلة قدوم التتار، فعندما جاء التتار حصل التشابه اللفظي بين السياسة التي هي مصطلح قديم وبين الياسق، أو اليسق، فخلط الناس بينهما، والياسق الذي جاء به جنكيز خان وقومه الذين وضعوه هدفه نفس مصطلح أو مدلول السياسة الذي كان مستخدماً في السابق. ولهذا أنكر العلماء هذا التقسيم، مثل شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وابن القيم في المدارج، وفي أكثر من موضع، قالوا: إن هذه القسمة في تقسيم الدين إلى سياسة وشريعة، وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة، كما قالت الصوفية: هذا محرم شريعةً جائزٌ حقيقة، وأولئك يقولون: هذا لا يجوز في الشرع، لكن يجوز أن يفعل سياسة، وكذلك تقسيم المتكلمين الدين إلى عقليات تثبت بالعقل، وسمعيات تثبت بالسمع، وغيرها من التقاسيم الباطلة. لأن السياسة الحقيقية هي قسم من الشريعة، وليست قسيماً لها، والحقيقة هي الشريعة، والشريعة هي الحقيقة، فكل شيء خالف الشريعة فهو باطل، وإن سمي حقيقة أو سياسة. وكذلك كل ما سمي أو قيل: إنه معقول ولكنه يخالف المنقول فهو باطل، فإن الدين الذي أنزله الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه الخير كله، وفيه الكمال كله، وتنتظم به مصالح العباد كلها في الدنيا والآخرة، ولا نحتاج إلى الزيادة عليه أبداً. إذاً فهذا التقسيم باطل، لكن كانت القسمة عرفية واصطلاحية في كتب علم الكلام، وفي واقع الناس بالنسبة للسياسة، حتى جاء التتار وجاءوا بهذا الكتاب، ومما فعلته الباطنية كما ذكر العلماء في ذمهم أنهم لا يعدون الشريعة إلا سياسة مدنية، وهؤلاء كفار خارجون عن الدين بلا ريب، فيقولون: إن الشرع ما هو إلا سياسة مدنية وضعها عقلاء مفكرون عباقرة -الأنبياء- ينظمون مصالح العباد ولا نرى الشرع إلا سياسة مدنية.

نشأة دولة التتار

نشأة دولة التتار ونرجع إلى كلام المقريزي حيث يقول: 'وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا -أي ما يستخدمه أهل زمانه وهو الياسق أو الياسة ليس هو المقصود به السياسة بمعناها اللغوي- وإنما هي كلمة مغولية -المغول هم التتار- أصلها ياسة، فحرفها أهل مصر وزادوا في أولها سيناً، فقالوا: سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية! وما الأمر فيها إلا ما قلت'. وهذا هو رأيه، أي: هو كان يتكلم عن مصر، وكانت مصر قاعدة العالم الإسلامي في زمن المماليك. ثم قال: 'واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بـ مصر والشام: وذلك أن جنكيز خان القائم بدولة التتر في بلاد المشرق، لما غلب الملك أورنك خان وصارت له دولة، قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه: ياسة، ومن الناس من يسميه: يسق، والأصل اسمه: ياسة، ولما تم وضعه، كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ -فهذا خبيث، فمن اهتمامه بها أتى بصفائح، من الفولاذ ونقش فيها هذا القانون، وحفرها في الحديد- وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده، حتى قطع الله دابرهم -فـ المقريزي يتكلم عن أمة قد قضت وانتهت- وكان جنكيز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، فصار الياسة حكماً بتاً في أعقابه، لا يخرجون عن شيء من حكمه'. وأصبح قانوناً ملتزماً به لا يخرجون عن كلامه، وجنكيز خان بنفسه لم يأتِ للعالم الإسلامي، ولكنه مات ثم الذي اجتاح بغداد أولاده وأحفاده، لأن الحرب استمرت أولاً مع دولة خوارزم شاه -الدولة الخوارزمية في المشرق- وقاومهم السلطان جلال الدين في أكثر من خمسين معركة، وفي النهاية غلبوه، واجتاحوا بلاد المشرق، وهذا أيضاً بسبب ظلم المسلمين، لأن جلال الدين كان من السلاطين الظلمة، فكان يغزوا بلاد الفرس وينهب أموالهم، وإذ قيل له: لماذا تنهب المسلمين؟ قال: حتى أستعين بها على قتال التتار، فكان ظالماً. وهكذا فإن الظالم يعاقب، والأمة المسلمة تعاقب على ظلمها بتسليط أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها، فالذي اجتاح بغداد هو حفيده هولاكو الذي وصل إلى بغداد، ثم بعد ذلك وصلت طلائعهم إلى بلاد الشام، وكانت معركة عين جالوت مع قسم من أقسامهم، وبعد عين جالوت انحسر شأن التتار، الذين جاءوا على شركهم، وخرجوا من بلادهم وهم على دينهم الأصلي، إلا أن هولاكو كانت زوجته النصرانية، ويقال: إنه تنصر، لكن التتار كأمة بقيت على دينها القديم: الوثنية، ثم غزاهم الإسلام ودخل قلوبهم شيئاً فشيئاً لما استقروا في بلاد الإسلام وأظهروا الإسلام، حتى كان سلطانهم قازان في أيام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -وأول ما أتى التتار كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله ما يزال حدثاً طفلاً، ثم لما أصبح شيخ الأمة كان الملك في أيامه قازان - قد أظهر الإسلام، ويقول: إنهم مسلمون، كما في الفتوى المشهورة، فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار، ولكن أي إسلام؟ فإن الذي يدخل الإسلام في أي زمان ومكان يدخل في الإسلام بحسب ما عليه أهل ذلك الزمان.

انحراف التتار في فهم الإسلام

انحراف التتار في فهم الإسلام ولذلك نجد أن الذين دخلوا في الإسلام أيام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كان إسلامهم صافياً على الحقيقة، لأن الذين أدخلوهم فيه هم الصحابة، فجاء التابعون فكان كذلك أو أقل، وجاء من بعدهم فكان أقل، وفي أيام التتار كان يدخل الناس في الدين وفي التصوف والرفض والخرافات، وكان منهم خذابنذه الذي ترفض وكان شيعياً، أي: أصبحوا يتدينوا بدين المسلمين الموجود، ولا يعرفون حقيقة الإسلام، كما نجد هذا اليوم، حيث قد يأتي أمريكي يسلم ويدخل في دين الرافضة، أويكون زيدياً أويكون صوفياً أو أي شيء من جنس الموجود المعروض لديه. فالتتار هكذا تدينوا ولكن لم يأخذوا الإسلام على حقيقته الخالصة الصافية النقية، فلذلك بقي عندهم تعظيم لـ جنكيز خان، وأيضاً أخذوا يعظمون الإسلام ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصارت قاعدتهم كما كان ملكهم يقول: رجلان عظيمان محمد وجنكيز خان فكانت المساواة عنده، وهو يرى أنه بهذا قد أنصف الإسلام وأنصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان في زماننا هذا وصرح أحد زعماء أوروبا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل نابليون لقال الناس: هذا منصف، وهذا رجل فاضل. وقدكانوا يقسمون الناس إلى أقسام معينة، فيسمون المتمسك بالدين: مسلماني، والذي يساير كل شيء يسموه: عسكري وقلندري، وأسماء كثيرة بعضها بلغتهم، وبعضها بلغة العوام. والمقصود أنهم كانوا ينظرون إلى الناس والدين نظرة غير صحيحة، فغاية ما عندهم من تعظيم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رجل عظيم مثل جنكيز خان وهكذا، ولذلك أفتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في حقهم، وأصل الفتوى هو الياسق، وهو أنهم لا يتحاكمون فيما بينهم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن يتحاكمون إلى الياسق، وذكر -أيضاً- الأشياء الأخرى التي أشرنا إليها بالنسبة لهم.

الأحكام التشريعية في الياسق

الأحكام التشريعية في الياسق والشيخ ذكر بعض الأحكام في الياسق، ونتعرض إلى بعضها، كما في تاريخ ابن كثير رحمه الله، الجزء (13/ 117) يقول: 'وممن توفي فيها من الأعيان جنكيز خان سنة (624هـ)، وهو الذي وضع لهم السياسا -بالألف الممدودة- التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب، والظاهر أنه مجهول النسب'. وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في فتواه عن التتار لما قالوا: إن جنكيز خان أعظم من الأنبياء، قالوا: هذا أمه حملت به من شعاع الشمس، فقال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: هذا إن ثبت فإنه يدل على أنه ابن زنا؛ لأنها لم يكن لها زوج، فكيف حملت؟ قالوا: من شعاع الشمس؟ والشمس لا تحبل امرأة! إذاً هذه زانية عاهرة حملت به وليس لها زوج فجاءت به، وإلى اليوم يعتقد اليابانيون وبعض الكوريين أن الامبراطور من نسل الشمس، والإله عندهم الشمس، والامبراطور من ذريتها، فلهذا يعتقدون أن في الامبراطور جزءاً من الألوهية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قال: 'وقد رأيت مجلداً جمعه الوزير بـ بغداد علاء الدين الجويني في ترجمته، فذكر فيه سيرته'. ثم قال: 'وكان وفاته في سنة (624هـ) فجعلوه في تابوت من حديد، وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك' قالوا: هذا لا يدفن في الأرض فربطوه وعلقوه، وهذه من خرافاتهم، ففي الهند يحرقونه، وعند اليابانيين والكوريين والتتار يدفنون معه كل أدواته حتى النظارات والكاميرا والقلم، ولما مات هيروهيتو دفنوا معه (250) قطعة كما يقولون، ولكن كانوا يضعونها في تابوتٍ محكم قوي، من أجل أنه إذا قام يمكنه أن يستخدم أدواته التي كان يستخدمها في الدنيا، وهذا جنكيز خان كان شكلاً آخر. قال: 'وأما كتابه الياسا فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلاً، ثم ينزل، ثم يصعد، ثم ينزل مراراً حتى يعيي ويقع مغشياً عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقى على لسانه حينئذٍ'. أي: إن الرجل كان به مس من الجن نسأل الله العافية. قال: 'ثم ذكر علاء الدين الجويني نُتفاً من الياسا -من أحكام الكتاب- من ذلك: أنه من زنا قتل، محصناً كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل'. فكان نظاماً جاهلياً لا شك فيه، ولكن بالنسبة للأنظمة الأمريكية والإنجليزية يعتبر نظاماً راقياً، لأنه يعتبر الزنا واللواطة جريمة عقوبتها القتل، ولا فرق بين المحصن وغير المحصن، فقد كانوا يعتبرون الزنا واللواطة جريمةً، بخلاف الأنظمة الأمريكية، ففي أمريكا تقدم عشرين مليوناً إلى الرئيس ريجن يطلبون إباحة اللواط علانية، وأن يصبح لهم تمثيل خاص بهم في الكونجرس، فقاموا بمظاهرات كبيرة في نيورليانز وفي لوس أنجلوس وغيرها، وحطموا المباني، وقالوا: أين الحرية والديمقراطية التي يدعيها ريجن وتدعيها أمريكا، وهي تهدر حقوق عشرين مليوناً من شعبها، نسأل من الله العفو والعافية؟ فـ جنكيز خان أرقى من الأمريكان في هذا الشأن. ثم يقول: ' ومن تعمد الكذب قتل أيضاً '. فهي عقوبة جاهلية وقاسية رادعة، لكنها بالنسبة للقوانين الأوروبية المعاصرة تعتبر راقية، وتجد أن الغرب الآن يسيطرون على قوانين الإعلام كله في العالم، وخاصة الإعلام السياسي؛ لأن إعلام غير الغرب هو صدىً للغرب، وقائم على الكذب والتلفيق والاختلاط. فالشاهد أن جنكيز خان يريد أن يضبط هذه القبائل الهمجية، فجعل من تعمد الكذب قتل و: 'من سحر قتل'. وهذا موافق للشرع، وهذا -أيضاً- يترقَّى به هذا القانون الجاهلي الوضعي على قوانين الغرب؛ لأن السحر في الغرب لا عقوبة عليه، وكانت الكنيسة أيام سلطتها قبل الثورة الفرنسية في أوروبا يطاردون السحرة، ويحكمون عليهم بالقتل، وكان أكثر من يمتهن السحر هن النساء، فكل من قبض عليها تقتل، وفي القصص لـ شكسبير وغيره في الأدب الأوروبي الكثير من الكلام عن الساحرات وكيف يفعلن، لأنه كان جزءاً من حياة الغربيين، فهو جزءاً من حياة أي مجتمع لا يدين بالتوحيد ولابالعقيدة الصحيحة، بعقيدة السلف الصالح فلابد أن تجد فيه السحر، فكلما ضعفت العقيدةكلما اشتد السحر والكهانه والدجل والخرافة والعرافة إلى آخر هذه الأسماء. فكانت العقوبة في أوروبا هي الإعدام حتى ظهرت القوانين الحديثة وألغت القوانين الدينية واعتبروا السحر مجرد هواية، ولذلك أكبر مقر للسحرة في العالم الآن رسمياً هو في وسط نيويورك، وفي مبنى ضخم جداً قريب من مبنى الأمم المتحدة، ويوجد فيه مركز كبير جداً للسحرة الذين يجتمعون من جميع أنحاء العالم ومن أمريكا خاصة ويتكهنون بأخبار الغيب والمستقبل ويتنبئون، ولهم كتب ونشرات ومجلدات واشتراكات؛ ثم تأتي لندن وباريس وتنشر هذا في كثير من الجرائد والمجلات، ثم تجد أن أي زعيم من زعماء الغرب الذين يدعون العلمية والموضوعية لا بد أن يتأثر بالساحرات، وكل رئيس لـ أمريكا - تقريباً - يوجد عنده كاهنة، وكاهنة ريجن كتبت مذكراتها، وكتبت زوجته مذكراتها، ونشرت في جريدة المدينة عندنا وقرأناها، فكيف ينشر هذا عند المسلمين دون ما إنكار؟! فهؤلاء الهمج الجاهليون والوثنيون والمغول كانوا في حكمهم في هذا الجانب أفضل من حكم هذه الشرائع الجاهلية الحديثة، وهو موافق للشرع ومأخوذ من الشرع: 'ومن تجسس قتل'. وهذه -أيضاً- فيها عدالة وإنصاف، ولا شك أن التجسس جريمة في أي عرف، أما بالنسبة لتلك القبائل الهمجية فكان عندهم هذا الحكم، وإن كان مخالفاً لشرعنا إلا أن فيه شيء من حفظ الحق على الأقل. أما الآن فالإنسان الغربي يعيش تحت سيطرة أجهزة التصنت، فالتجسس الذي يراه هذا الغربي المتحضر حقاً عادياً على الأقل من الناحية العرفية والواقعية، كان الوثنيون الجاهليون يعتبرونه جريمة ويعاقبون عليه بهذه العقوبة القاسية والمخالفة للشرع، ففي الشرع أنه إذا كان مسلماً وأخبر وأطلع الكفار على أحوال المسلمين فإنه يقتل، لكن التجسس بين الناس بعضهم على بعض فليست هذه عقوبته. ثم قال: 'ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل '. يقول القانونيون المعاصرون قاتلهم الله: إن قوانين القرون الوسطى كانت ظالمة، ومجحفة وقاسية في حقوق الإنسان، لكن القوانين الحديثة ميزتها أنها تعطي المتهم الراحة والرفاهية. فدين الله تعالى هو دين الحق والوسطية، فالجاهلية إما أن تحكم بالقتل حتى على من بال بالماء، وإما أن تجعل من يمشي عارياً كما في أمريكا لا حرج عليه، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] أما حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو الحق والعدل والوسط في كل شيء. فهذا كان بالنسبة للماء. ' ومن أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل'. لأنهم أمة حرب كل عملهم حرب فليس إلا العقوبات. 'ومن وجد هارباً فلم يرده قتل، ومن أطعم أسيراً أو رمى إلى أحدٍ شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده -وإلا يقتل- ومن أطعم أحداً شيئاً فليأكل منه أولاً، ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً -حتى يطمئن بأنه ليس فيه سُمّ- ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل، ومن ذبح حيواناً ذُبح مثله -إذا ذبحه ويقصد الذبح العادي- وقال بل يشق جوفه، ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً يقول جنكيز خان: الذي يذبح الحيوان بطريقة الذبح المعروفة يذبح كما يذبح الحيوان، لأن شريعته تقول: لا بد أن يذبح الجوف ويستخرج القلب، وبعد ذلك يموت الحيوان، فهكذا أملى له هواه وسولت له نفسه الخبيثة'.

حكم القوانين الوضعية والتحاكم إليها

حكم القوانين الوضعية والتحاكم إليها قال: 'وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام'. وقضية التشريع من أصلها هي حق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الأحكام فيها الموافق وفيها المخالف. قال ابن كثير: 'فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر'. مثل شريعة التوراة والإنجيل حتى لو فرضنا أننا وجدنا نسخة من التوراة لم تحرف أو تبدل ولم يغير فيها كلمة، وجاء إنسان وقال: هذا كتاب أنزله الله نتحاكم إليه، ووضعه قانوناً، فعند ذلك نقول: هذا كافر بلا ريب وليس بمؤمن بالقرآن، فيقول: هذا في الشرائع المنسوخة: 'فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟! فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين -فالذي يُقدم شرعاً آخر وهو شرع وضعي أكفر من الذي يُقدم شرعاً منسوخاً، فهو كافر بإجماع المسلمين- قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] '. قال: 'ومن آدابهم -هذه ليست في الياسق لكنها آداب كان التتار يتعاملون بها الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه ومن شاء من حاشيته ما شاء منهن -قاتلهم الله وقبحهم- ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان، ولا يتخطى موقد النار ولا طبق الطعام، ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء بكل ما ذكر شيئاً من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت '. إلى آخر ما ذكر، وذكر بعد ذلك شيئاً من أخباره، وكيف كان يقيم دينه وشريعته الياسق.

القوانين الوضعية في القرن العشرين

القوانين الوضعية في القرن العشرين وبعد أن ذكر الشيخ أحمد شاكر الجملة الأخيرة من كلام ابن كثير، رحمه الله قال: 'أقول: أفيجوز -مع هذا- في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيرونه ويبدلونه كما يشاءون، لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها'. فهو يقيس وضعنا الحالي على حالة جنكيز خان والياسق، وكيف ابتُلي المسلمون بهذا -نسأل الله السلامة والعافية- وكيف دخل أثر هذه القوانين إلى الناس.

فساد القوانين الوضعية

فساد القوانين الوضعية ولعلنا نستعرض بعض الأمثلة، ثم نكمل بقية كلام الشيخ أحمد شاكر، فلقد نشر في جريدة المسلمون العدد (328)، بقلم الشيخ محمد الغزالي، يقول: للقوانين الوضعية أثر عميق في إفساد الأمم التي نكبت بها، لا سيما إذا كانت هذه القوانين قد جاءت مع استعمار حاقد على الإسلام مكذب لنبيهم، ومضاد لتعاليمه وقيمه إنه في الحالة هذه يريد زلزلة العقيدة والشريعة معاً، وتدريب الأفراد والجماعات على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنشاء تقاليد جديدة تألف الخمر، والخنا والربا ووسائل الآثام التي يستهين بارتكابها أو يستحله. والقصة التي أحكيها الآن كنت أحسب العلم ببواعثها حكراً على جمهور القضاة والمحامين، حتى فوجئت بأنها معروفة لدى العمال والفلاحين، فأدركت أن الفساد في مجتمعنا قد رسب في القاع بعد ما لوث السطح، وأذكر القصة التي بعث بها إلي الأستاذ فلان. قال: منقول عن جريدة الأخبار، القصة تقول: تلقى العميد السيد البدوي -مدير مباحث الدقهلية - بلاغاً من أهالي كوم النور قرية مركز بيت غمر، أنه تم ضبط فاطمة علي حسن عمرها عشرين سنة، وهي تحاول سرقة جاموسة، وهرب شريكها في الحقول، وكانا يريدان أن يسرقا جاموسة، وأمام العقيدين محمد شعيشع ومحمد أنور اعترفت المتهمة فاطمة علي حسن: أولاً: بأنها كانت تقضي بين الحقول وقتاً سعيداً مع صديقها في الزريبة، ولم تكن تحاول السرقة، وتطلب من رجال المباحث التستر عليها حتى لا يعلم زوجها، ويطلقها حفاظاً على الأسرة والأولاد، فقالوا لها: لماذا هربت؟ قالت: كان معي رجل -حتى اعترفت بالفاحشة والعياذ بالله- فهربت حتى لا تُعرف جريمتها فالقضية قضية زنا، وترجو التستر عليها؛ لأنه لو اطلع الزوج فيمكن أنه يقيم دعوى فينهدم البيت. يقول: ولكن تحريات الرائدين رشدي فودة، وجابر الدين وهما رائدين جيدين، قالوا: لا، فالزنا ليس هو القضية، لأن القضية أهم، فقاما بالتحريات حتى أثبتا أن شريكها في السرقة هو زوجها محمد عبد العاطي وعمره اثنان وعشرين سنة، ومهنته فلاح، وهي تريد التستر عليه بهذه القصة الغريبة، وتم ضبط الزوج الذي اعترف بالسرقة، فقرر عبد العزيز حبيب وكيل النيابة حبسهما على ذمة التحقيق أربعة أيام. ثم يقول: هل لاحظت شابة تصف نفسها بالزنا مع صديق، وتقول: هذا مجرد زنا وليس هناك جريمة، وتطلب من المباحث التستر عليها خشية أن تنكشف محاولتها بالسرقة بالاشتراك مع زوجها الذي ادعت أنه صديقها، وهذه الشابة تجهل القراءة والكتابة كما هو الغالب في المناطق الريفية. يقول الشيخ: ولكنها تعرف بالتأكيد أن الزنا في مصر لا عقوبة عليه إذا تم برضى الطرفين، وبشرط أن يكونا بالغين فهي في العشرين من عمرها، وهو في الثانية والعشرين من عمره، وهي تعلم أن هذا أهون بكثير من السرقة التي يعاقب عليها بالحبس أو السجن، وهي تعترف لضباط المباحث وقد نضب الحياء من وجهها بأنها كانت بالزريبة بقصد الزنا مع صديقها المزعوم، وتطلب بكل وقاحة من المباحث أن تتستر عليها. يقول الشيخ: وفي الماضي كانت الفلاحة تُفضِّل الموت على أن يقال لها: زانية! فما الذي حدث في مصرنا العزيزة منذ قيام الثورة العلمانية المباركة، حتى انقلب كل شيء رأساً على عقب في هذا البلد المسكين. يقول الشيخ الغزالي: وقد عجبت مما عجب منه الأستاذ محمد عبد الرحيم -الذي أرسل له- فعجبت من علم فلاحة في إحدى القرى القصية أن القانون الوضعي يبيح الزنا، وإن كان يرفض الإكراه عليه. يقول: وتعرف هي أن الزوج إذا سكت عن جريمة زوجته التي زنت فإن القانون الديوث لا يتدخل حماية للأسرة، فيترك المرأة تتبع صاحبها الوغد يعيشا في بيتهما الموبوء، وبقية الافتراضات القانونية معروفة، فإن الشخص الزاني إذا قتل الزوج الغضبان الثائر سقطت دعوى الزنا بوفاته، ثم اعتبر القاتل مدافعاً عن نفسه، ويضيع دم القتيل الشريف عياذاً بالله. يقول: ولست أدري إلى متى يظل المسلمون بعيدين عن دينهم وشرعهم وشرفهم في ظل قانون وضعي، فرضه الاحتلال الأجنبي الكفور، واستبقاه الغزو الثقافي الذي خدر الناس، وأمات في دمائهم دون أدنى مقاومة.

محابة الشريعة الإسلامية

محابة الشريعة الإسلامية ونشر أيضاً في جريدة الأخبار المصرية المستشار القانوني سعد العيسوي، يقول: إن صح ما قرأت فهو خطأ في تطبيق القانون. وهذا الرجل سمع ما قضت به إحدى المحاكم بجلد متهم ثمانين جلدة جزاء سكره وسيره في الطريق العام مخموراً. يقول: إن صح ما قرأت في الصحف عن أسباب هذا الحكم؛ فأقول إجابة على سؤالك: إن هذا الحكم من تلك المحكمة وهي جنائية، قد أصابه الخطأ والعوار من نواحي عديدة. والقضية أوضحها لكم بإيجاز: قاضي مسلم أحس في نفسه بأن بلدنا مسلم، ولا بد أن نكون مسلمين، وهو بإحدى المحاكم الابتدائية -أظنها في جنوب القاهرة كما في الجريدة- فقال: لماذا لا يطبق الإسلام في بلادنا، وعندنا مادة في الدستور، تقول: إن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع؟! فالمادة الدستورية هذه عندهم تقضي على اللوائح التفصيلية، وهذا معروف عندهم، فالدستور أعلى مرتبة ثم القانون ثم اللوائح، فقال: الدستور يجعل الشريعة مصدراً من المصادر، فلماذا أنا لا أحكم على هذا السكران بالجلد بحسب الشريعة، وأسند الحكم إلى المادة الثانية من الدستور؟! فإذا سألوني قلت: أنا ما أتيت بشيء خارج عن الدستور، وأنا حكمت بمقتضى الدستور، والدستور يجعل الشريعة هي المصدر، وأنا حكمت بحكم الشرع، فيجعلهم في حرج، ويرى هل فعلاً سيلتزمون بحكم الله؟! فأقدم على هذا العمل، فحكم بجلد الشخص ثمانين جلدة. فحدثت ضجة كبيرة في البلد، وكتب هذا المستشار يقول: هذا الحكم خطأ، وباطل من عدة وجوه: أولاً: أن من كتبه وقضى به ونطق به حنث في يمينه القضائي، وهو يمين يتعين على كل من يتولى وظيفة القضاء أن يقسمه، سواءً كان في أول سلم العمل القضائي كمعاون نيابة، أو في أعلى مناصب القضاء وهو رئيس محكمة النقض، وهذه اليمين نص عليها في المادة (71) من قانون السلطة القضائية، ونصه: 'أقسم بالله العظيم، أن أحكم بين الناس بالعدل، وأن أحترم القوانين، وحكم العدل، واحترام القوانين يتضمن أن أقضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملآئمة في حدود القانون المطبق'. قال: فهذا الرجل حنث في اليمين، فهو حلف أنه يطبق القانون ثم ذهب يطبق الشريعة فهو حانث في يمينه. ثانياً: أن من قضى بهذا الحكم، وصح أنه فعل ذلك، فقد خالف نصاً في الدستور، وهو نص المادة (66) أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا يقال في ذلك: إنه حد السكر شرعاً، وأن الشريعة الإسلامية هي الأولى بالتطبيق، فيقول: لا يقال ذلك؛ لأن الشرع يطبق قوانين مكتوبة ومقررة، وليس للقاضي أن يعمل غيرها من لدنه مهما اختلفت مع معتقده الديني أو السياسي -نعوذ بالله من الكفر- إلى آخر ما قال. ثم يقول: وأفصح المشرِّع عن ذلك صراحة في المادة الأولى من التقنين المدني، بأن القاضي يطبق القانون، فإن لم يجد في نصوصه ما ينطبق على الواقعة طبق العرف، وإن لم يجد طبق أحكام الشريعة الإسلامية، وإن لم يجد طبق القانون الطبيعي وقواعد العدالة، فحينئذٍ قال: هذا لا يجوز، ولا يقبل من القاضي جنائياً أن يُحرّم فعلاً لا ينص القانون على اعتباره جريمة، فلا يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص عليها القانون إلى آخره. ثالثاً: إن هذا القائل بهذا الحكم، أخطأ عدة أخطاء في مجال القضاء والحكم، منها: أنه جعل من أسباب الحكم مجالاً للتعبير عن المعتقدات الدينية والسياسية، ولو فتحنا هذا الباب فسيأتي كل إنسان يطبق شيئاً ويقول: هذا موافق للشريعة، مما ينتج عنه ضياع الدولة -نعوذ بالله من الخذلان- ثم يقول: ولو كان القانون يسمح بذلك المسلك لأدى الأمر إلى فوضى، فهذا يحكم بالجلد طبقاً لمعتقده، وذاك يحكم بغيره طبقاً لمعتقده، وهو يرى أن الحكم لا بد أن يكون بالقانون. رابعاً: من أسباب ومبررات بطلان هذا الحكم: أن هذا الحكم يدل على أن كاتبه أو قائله لا يعرف شيئاً عن علم العقاب -فهو يقول: هذا قاضٍ جاهل لا يعرف شيئاً عن علم العقاب- قال: فهذه الجريمة من الجائر الحكم فيها بهذا، لأنه يمكن الحكم فيها بالحبس ستة أشهر. وهذا القاضي لم يحكم من عند نفسه، بل هذا الحكم في شريعة رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالتهمة موجهة إلى الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- ثم بعد ذلك فصلوا هذا القاضي من العمل. فقدم دعوى وتظلم، وقال: أيها الناس! أنا حكمت بمقتضى الدستور، ولم أخالف الدستور، فقالوا: لا هذه مخالفة، ورفض التظلم، وتمت العقوبة التي عوقب بها. فالشاهد بعد ذلك، أنه عرض الموضوع وصار قصة طويلة، وانتهى الأمر بأن القاضي أدين لأنه حكم بحكم من أحكام الشريعة الإسلامية، ونشر بالصحف هذا الهجوم الشديد بأن هذا العمل غير قانوني ويؤدي إلى فوضى.

خطر القوانين الوضعية

خطر القوانين الوضعية وبعد هذه القصة نرجع إلى كلام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. يقول: 'إن المسلمين لم يُبلَوا بهذا قط فيما نعلم من تاريخهم -أي: بتحكيم القوانين الوضعية- إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلامُ التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيء الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه'. فكان خاصاً بالحكام التتار ولم يندمج في الأمة، أما الآن مثل قصة هذه الفلاحة فاطمة علي حسن فقد اندمج القانون الوضعي كقانون نابليون بالأمة، حتى عرفته الفلاحة في أقصى الريف الجاهلة بأنه لا عقوبة عليها. يقول الشيخ أحمد رحمه الله: إن قانون التتار لم يندمج بالأمة: 'ولم يتعلموه ويعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره'. أما الآن فقد جعلوا له أقساماً: أقسام القانون، وأقسام العلوم الاقتصادية، وأقسام الأنظمة وأقسام كثيرة أخرى، وهي في الحقيقة قانون وضعي، وتدرس كل شرائعه. يقول: 'أفرأيتم هذا الوصف القوى من الحافظ ابن كثير -في القرن الثامن- لذلك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر؟ -ونحن دخلنا الخامس عشر، فالله المستعان- إلا في فرق واحد -بين قوانين جنكيز خان وبين قوانين اليوم-: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعاً، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً وظلاماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية -الآن- تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذاك الياسق الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناسٌ ينتسبون للإسلام، ثم يتعلمها أبناء المسلمين، ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً'. فالواحد منهم إذا أصبح ولده مستشاراً فهذا منصب عالٍ ورفيع، أما إذا كان -مثلاً- عضواً في محكمة النقض فهذا أعلى، أو رئيس محكمة النقض، أو رئيس المحكمة العليا بالبلد فهذا يعادل رئيس الجمهورية، ويعادل رئيس مجلس النواب في المرتبة، فهذه منزلة عظيمة جداً عندهم لجميع المجتمعات التي تحكم بالقوانين الوضعية. يقول: 'هذه القوانين التي يصطنعها ناس ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا: الياسق العصري!! ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم رجعياً، وجامداً! إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى: ياسقهم الجديد، بالهوينا واللين تارةً، وبالمكر والخديعة تارةً -مثل قانون الأحوال الشخصية وتعدد الزوجات، وحتى ما كان في صلب الأحوال الفردية أيضاً، أدخلوا فيه هذه القوانين الوضعية- وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرحون -ولا يستحيون- بأنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!! أفيجوز إذاً -مع هذا- لأحدٍ من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد؟! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، عالماً كان الأب أو جاهلاً؟! '. لا يجوز أبداً، ومع الأسف الشديد أن المحامي والقاضي الوضعي من أثرى طبقات المجتمع، وهذه الطبقة من أهم الطبقات، ومن أشدها ثراءً في جميع دول العالم.

القوانين الوضعية كفر بواح

القوانين الوضعية كفر بواح يقول: 'أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا: الياسق العصري، وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟! ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً محكماً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول؛ بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة!! '. والقضاء باطل، وأحكامه باطلة، ولا يجوز لمسلم أن يتولى القضاء في هذه الأنظمة الطاغوتية. يقول: 'إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحدٍ ممن ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه، ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين' رحم الله الشيخ أحمد هكذا ظن بالعلماء، لكن سمعنا عن المفتي الجريئ الشجاع الذي أحل فوائد الربا، وأحل كل شيء حرام نسأل الله العفو والعافية. قال: ' سيقول عني عبيد هذا: الياسق العصري وناصروه، أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاءوا فما عبئت يوماً بما يقال عني ولكن قلت ما يجب أن أقول '. فقد بيّن رحمه الله ما يجب عليه أنه يبرأ منه، وبين لأمته حقيقة الأحكام والقوانين، فقد ذكر بأنها كفر بواح، واضح وضوح الشمس، لا مداراة فيه ولا مداهنة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمَّى ما عدا حكمه جاهلياً أياً كان، فأحكام الياسق جاهلية، وأحكام قريش جاهلية، وأحكام القانون الفرنسي جاهلية، والقانون الأمريكي جاهلية. فالحكم حكمان: إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية، وليختر الإنسان ما يشاء، ولتختر الأمة، فإن اختارت حكم الله كانت أمة مؤمنة مسلمة موحدة مطيعة شاهدة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمة التي تحتكم إلى غير شرع الله، وإن ظنت أنها تقول: إن الله موجود، وإن الدين حق، وأنها تصوم وتحج وتصلي إلى غير ذلك، فهي أمة تحتكم إلى شرائع الجاهلية، وتستحق أن تسمى أمة جاهلية، مهما كانت بها من الحضارة، أو من الرقي، أو من التقدم المادي كما يزعمون، فالقسمة ثنائية ولا ثالث لها. إما أن يستقي الناس أحكامهم من حكم الله ومن دين الله، وإن كانوا يُخطئون، فالكل قد يُخطئ، فالقاضي المسلم قد يحكم وقد يفهم خطأً لكنه مستمد من دين الله، وأما أن يستمد من غير حكم الله فهو جاهلي. وهذه الكلمة كلمة شرعية، فكلمة الجاهلية مصطلح شرعي متداول معروف في الكتاب والسنة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لـ أبي ذر رضي الله تعالى عنه لما عيّر رجلاً بأمه، قال له: يا ابن السوداء! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنك امرؤاً فيك جاهلية} فهذا هو المعيار، فمن كانت عنده أحكام الجاهلية، قلنا: إنه رجل جاهلي نسأل الله العفو والعافية.

النهي عن موالاة اليهود والنصارى

النهي عن موالاة اليهود والنصارى وبعد آيات الحكم والتشريع مباشرة تأتي آيات الولاية، والسورة مترابطة محكمة، فبعد الإنكار على القوانين الوضعية، يأتي النهي عن الولاية والموالاة للكافرين، فيقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52] فيحذِّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من ولاية اليهود والنصارى لأنهم أعداء، ويبين الله تبارك وتعالى حقيقة هذه العداوة، فيقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فهم متعاونون في القديم والحديث وفي كل زمان ومكان. مثلاً أثيوبيا فيها أربعون مليون مسلم لم يتألم أحد لما يجري لهم، وفيها أربعة عشر ألف يهودي يتدخل الرئيس بوش لإيقاف الثوار عن دخول أديس أبابا، حتى تتم عملية موسى، وهي عملية نقل اليهود من أديس أبابا إلى إسرائيل، والعالم الحر الذين يحملون راية الديمقراطية والحرية، ومشعل الحرية في نيويورك الذي يفتخرون به لا يهمه أربعين مليوناً يسحقون من أيام هيلاسيلاسي، ثم أيام الحكم الشيوعي البائد، ثم -الآن- الجبهات الاشتراكية النصرانية الخبيثة، فكلها تسحق الأكثرية المسلمة، وتدمرها وتقتلها جوعاً، فلننظر ماذا قدموا لليهود وماذا قدموا للمسلمين؟ أولاً: أيام الإغاثة اهتموا بإغاثة الأجزاء الصليبية -فقط- من الحبشة، فالطائرات تنزل المعونات الغذائية في المناطق النصرانية، والقرى المسلمة تموت من الجوع، فلما جاءت واحتاجت إسرائيل للفلاشا وعملية موسى أيام الهالك النميري، والذي خطط لها وأشرف عليها بوش حين كان رئيس الاستخبارات، وهو الذي خطط لعملية موسى فرحَّلوا الدفعة الأولى ثم رحَّلوا الدفعة الثانية، فتدخل رئيس أكبر دولة في العالم، حاملة لواء الحرية، وشرطي العالم الكبير تدخل لتأخير الثوار حتى لا يدخلوا العاصمة من أجل أن يرحل (14) ألف يهودي، والطائرات تأتي من إسرائيل وتنقلهم جميعاً، وبعد ذلك لا يبالون عن الذي مات أو عاش، والجبهة المسلحة التي تقتحم البلد جبهة نصرانية، والضحايا سيكونون من المسلمين، ولا إشكال في ذلك، فبعضهم أولياء بعض، فهل نصدق دعاوى حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والنظام الدولي الجديد ونحوه، أو نصدق الله؛ ثم نصدق الواقع الذي ينطق كل لحظة؟ ولا يمكن أن يخالف ما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] فلا زجر ولا عقوبة أكثر من هذا.

خطر تولي اليهود والنصارى

خطر تولي اليهود والنصارى ثم يبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السبب الذي من أجله يتولى بعض المسلمين الكافرين: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] فهذا عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن معه، قالوا: (يا محمد ثلاثمائة دارع وحاسر تقتلهم في غداة واحدة وهم حلفائي، إني امرؤ أخشى الدوائر) فهذه حدثت في التاريخ، ولكن هل هي الحادثة والقصة الوحيدة التي تقال أم في كل زمان ومكان؟! فمن كان في قلبه مرض فسيسارع إلى قوانينهم وتبرجهم وحضارتهم وأنظمتهم وتوليهم وإلى أن يكون معهم، وهذا في كل زمان ومكان، فليحذر المسلمون أشد الحذر من هذا. ولتتأمل الأمة ماذا قال الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر هذه الآية، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه} [المائدة:54] أي: من يتبع قوانينهم وتشريعاتهم ومن يتولهم ويرتد عن دينه فسيصبح كالكفار، ثم سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فهذا دين الله، وليحفظن الله هذا الدين حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار وليرتد من يرتد، وليتولِ الكفار من يتولهم، وليفعل من شاء كما يشاء، فالله غني عن كل الناس، وله جنود يصطفيهم ويختارهم، ولا يبالي بمن عداهم أبداً. فإذا ارتدت أمة أو جيل أو ولاية، وتابعوا الكفار والمشركين، فعند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البديل، فـ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [المائدة:54] أول صفاتهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فلا يحبون الكفار ولا يوالونهم ويحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] فهم أذلة على المؤمن مهما كان حاله، فهو يحبه سواء كان أسود أم أبيض، غني أم فقير، في أقصى الهند أم في أقصى الفلبين، و: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] ولو كان من كان من الكفار، فنحن أعزاء، وليس كحال المسلمين اليوم، فالمسلم يُهان ويُذل، والكافر يعظم ويجل حتى في الشارع والطريق -إلا من رحم الله- فأكثر المسلمين اليوم إذا رأوا أنك مسلم، وإذا رأوا أن الرجل أتى من الهند مثلاً أو من الصين وهو مسلم فلا قيمة له، وإذا قال: رجل غربي أو أوروبي أمريكي فتجد أن جميع الناس يحترمونه ويقدرونه -سبحان الله- فهل هذا يكون في قوم صفتهم يحبهم ويحبونه؟! فمحبة الله لا تنال بالدعاوي، محبة الله غالية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فاتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً جهاداً ودعوةً، علماً وعملاً، تورث ذلك: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:54] فهم يرفعون راية الجهاد: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] وهذا الذي يصلح فيه ما قاله الشاعر: أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم إذا كنت تعمل لله فليلمك الناس في الله، ويقال: هذا إنسان يُطبق السنة، أو ملتزم، أو يعادي الخواجات، أو يكرههم، أو متشدد ومتطرف وأصولي، وكل كلمة لا تهمك، فليلمك اللوم مادام غرضك ومرادك وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا تبال بهم لأنه لو كانوا يبالون بلومة اللآئم، ولو كانوا تأخذهم في الله لومة لائم، لم يكونوا محبين لله، فمن يحب الله لا يبال بالخلق أبداً. وكلٌ واحد منَّا ينظر في نفسه، فأنت إذا أحببت أحداً من زملائك أو من أصدقائك أو زوجتك أو أي إنسان فإنك لا تسمع ما يقال فيه، ولو قيل: اتركه، ولا خير فيه، فوالله إنك لا تبالي لأنك أحببته، فكيف بمن أحب رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن كان من أوليائه. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يجعل هذه المحبة مجرد أمركما يظن كثير من الناس، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما يحبهم يجعل لهم قيمة ومنزلة ويكرمهم ثم يدخلهم الجنة، ويرون وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن العبد إذا أحب ربه وأحبه ربه صار من أولياء الله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}. فليتق الله هؤلاء الصحفيون والدجالون وأصحاب المجالس، وكل من يعادي من يدعو إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والحمد لله رب العالمين.

من أعمال القلوب: (اليقين)

من أعمال القلوب: (اليقين) بدأ الشيخ حفظه الله هذه المادة بالحديث عن ضرورة الاهتمام بأعمال القلوب، مبيناً أن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب، موضحاً خلال ذلك أقسام القلوب مع التمثيل عليها، ثم تحدث عن الأسباب التي أدت إلى ضلال الأمة فيما يتعلق بأعمال القلوب، وموقف أهل البدع منها.

علاقة العلم بأعمال القلوب

علاقة العلم بأعمال القلوب الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: نسأل من الله الكريم رب العرش العظيم أن يمنَّ علينا بحلاوة الإيمان وبرد اليقين، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يحسن عاقبتنا في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب. فبعد أن تكلمنا عن أهمية عمل القلب، نتكلم في موضوع آخر متعلق بأعمال القلوب وهو موضوع عظيم جداً لمن فقهه الله تبارك وتعالى في الدين، وهو غاية المتقين وغاية العباد، التي سَمر لها المجتهدون، وتنافس فيها المتنافسون، والتي بها يتفاوت الخلق أجمعون، ألا وهو: اليقين. وقد يُسأل لِمَ بدأتم باليقين قبل غيره من أعمال القلب؟ فنقول: إن أعمال القلب وهي بالأهمية والمثابة التي تحدثنا عنها في الدرس السابق من سلسلة أعمال القلوب وبينا فضلها وقدرها وعظيم شأنها، وأهميتها، وهي في حقيقتها تبدأ جميعاً بعمل واحد ألا وهو العلم. فالعمل الذي تبدأ به أعمال القلوب جميعاً هو العلم. ولذلك الإمام البخاري رحمه الله جعل ترجمة في صحيحه: ' باب العلم قبل القول والعمل وقول الله - تبارك وتعالى -: {فَاْعلَمْ أَنَّهُ لاْ إِلَه إِلاْ الله وَاْسّتَغْفِرْ لِذَنْبِك} [محمد:19] ' فأول ما يطرق قلب المؤمن من معرفة الرب تبارك وتعالى والإيمان به هو العلم، وهو أن يعلم أنه لا إله إلا الله، وهذه هي شهادة الحق التي فسر بها بعض السلف قول الله تبارك وتعالى {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وهي: الصدق الذي فسر به بعض السلف أيضاً قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] وهي أيضاً الكلمة الباقية التي يفسر بها قول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]. العلم بأنه لا إله إلا الله، والعلم بأن الله تبارك وتعالى حق، وأن النار حق، وأن الجنة حق، وأن البعث بعد الموت حق، وأن الرسل حق، وكل ما أخبر الله تبارك وتعالى به أو أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمر الغيب حق. لكن هذا العلم أو هذه المعرفة بالله تبارك وتعالى، تخرج الإنسان إذا اعتقدها اعتقاداً جازماً عن الشك وعن الريب، كما قال الله تبارك وتعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] فهذه تخرج الإنسان عن حد الريب والشك والظن ليصبح مؤمناً بالله تبارك وتعالى.

علاقة العلم باليقين

علاقة العلم باليقين إن العمل القلبي الذي هو زيادة واستمرار ونماء لهذا العلم ولهذه المعرفة هو اليقين، فإذاً نستطيع أن نستنتج نتيجة وهي: أنه ليس كل عالم موقن. فالذين يعلمون أنه لا إله إلا الله ولا ريب عندهم في ذلك، بل لديهم القدر الذي يخرجهم من حد الشكوك والريب، هم كثير، لكن المؤمنين منهم بصفات اليقين التي نريد أن نتحدث عنها، والتي هي المقصود والغرض في هذا الموضوع هم قليل، فالموقنون قليل، ويقابل ذلك في الأعمال الظاهرة أن المسلمين كثير. ونعني بالمسلمين الملتزمين بأداء ما افترضه الله تبارك وتعالى من الأركان الظاهرة، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام، فهم يشهدون بأن لا إله إلا الله، ويصلون، ويصومون، ويحجون ويزكون، إلى آخر ذلك، ولكنهم لم يرتقوا إلى درجة الإيمان، كما قال الله تبارك وتعالى عن الأعراب {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. وأعلى من ذلك درجة الإحسان، فنحن هنا نتكلم عن اليقين، باعتباره الإحسان في باب العلميات وفي باب الاعتقادات، كما أن الإحسان الذي فسره حديث جبريل عليه السلام في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وهذا في العمليات، وإن كان لا انفكاك ولا انفصال بين العلميات وبين العمليات، لكن اليقين يطلق على ما هو من خصائص عمل القلب بالدرجة الأولى، وتكون أعمال الجوارح ثمرة له، وتكون مما يصدقه ويزيده وهو يزيدها، كما سنبين ونوضح إن شاء الله تبارك وتعالى. فإذاً العلم هو أساس اليقين، وأما ضده ونقيضه فهو الشك والريب، ولهذا يقول المشركون في إيمانهم بالساعة: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] أي: ليسوا على يقين وإنما هم في ظن، وهذا الظن خالطه الشك بمعنى الريب. لأن الظن يأتي بمعنى العلم كما في قوله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] وما أشبه ذلك، لكن المقصود هنا: ما كان فيه شك، فهؤلاء هم أصحاب الشك في الآخرة: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] أو في شك من الله تبارك وتعالى الذي قال: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم:10]، تعالى عن ذلك عز وجل في أي أمر من أمور الغيب، فهذا الشك وهذا الظن ينزل أصحابه عن درجة اليقين بل عن درجة العلم.

منزلة اليقين وتجليها في الخليل إبراهيم عليه السلام

منزلة اليقين وتجليها في الخليل إبراهيم عليه السلام واليقين بهذه المثابة وبهذا الفهم منزلة يحبها الله تبارك وتعالى، ويريد من عباده أن يصلوها، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] فإبراهيم عليه السلام كان مؤمناً بدليل أنه قال في الآيات قبلها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]، فهذه الآية في الدرجة التي قبل اليقين، فهو مؤمن، وقد حكم على أبيه وعلى قومه بالضلال؛ لكونهم يعبدون غير الله تبارك وتعالى، لكن الله أراد أن يزيده إيماناً بهذا، وأن يجعله من الموقنين. وهي درجة عليا ومرتبه عظمى، فجعل الله سبحانه وسيلة ذلك أن يريه ملكوت السماوات والأرض، فبعد أن أيقن واستيقن به ورآه وتأمله، جزم جزماً قاطعاً أن قومه على ضلالة وتبرأ منهم، ورفع الله تبارك وتعالى حجته عليهم، ودحض شبهاتهم، وأيقن أن الأمن والاهتداء لا يكون إلا للمؤمنين، ولا حظَّ فيهما لأحد من المشركين. وهذا يشابه أيضاً قول الخليل عليه السلام عندما طلب من الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] فهي أيضاً زيادة ودرجة في اليقين والاطمئنان، وهذه هي حقيقة اليقين، وإذا تأملنا أثر ذلك نجد أن اليقين الذي حصل له عليه السلام أثمر لديه يقيناً في امتثال أمر الله تبارك وتعالى، يقيناً لا يكاد يوجد عند أحد، إلا من وفقه الله تبارك وتعالى لمثل ذلك من رسله وأوليائه المصطفين الأخيار. فما هو هذا اليقين الذي كان عند الخليل؟ وما الأمر الذي أُمر به الخليل وهو بهذه الحالة -قليل من الناس من يستجيب لهذا الأمر إذا أمر به-؟ أمر بذبح ابنه، بل ولم يأمره جبريل بقوله: إن الله يبلغك أن تذبح ابنك، ولكن جاء أمره: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] مجرد رؤيا، فلم يقل لعلها من الشيطان أو كذا، أو أنام الليلة فإن تكررت فعلت، ولكن اليقين جعله يمتثل، وجعل ابنه كذلك يمتثل {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] فقد حصل اليقين عند الأب، وكذلك حصل اليقين عند الابن، فجعله الله تبارك وتعالى من الموقنين. وهذه هي الدرجة التي يريدها الله تبارك وتعالى ويحب أن يكون أنبياؤه وأولياؤه عليها.

علاقة اليقين بالإيمان

علاقة اليقين بالإيمان إن اليقين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما علقه البخاري: [[الصبر شطر الإيمان، واليقين الإيمان كله]]، وهذا الكلام هو من درر الكلام وغرره، وما أكثر من يتكلم به من السلف الصالح وقد يغفل عنها الكثير والكثير من الذين لا يطالعون سيرهم ولا يتابعون أقوالهم رضي الله عنهم، فإن هذه العبارة الوجيزة تحمل معانٍ عظيمة جداً، فقد جعل عبد الله رضي الله عنه الصبر شطر الإيمان، ولكنه جعل اليقين الإيمان كله، فلِمَ ذلك؟ الصبر هو حالة تصاحب العابد في عبادته، فهو يرجع إلى قول الله تبارك وتعالى في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فالصبر يرجع إلى أي الأمرين؟ يرجع إلى الاستعانة، فاصبر واستعن بالله {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] وقال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ} [الأعراف:128] إلى آخر ذلك، فيستعين العابد، ويستصحب هذا العمل -وهو عمل قلبي عظيم- في طريقة سلوكه للصراط المستقيم، فيعبد الله تبارك وتعالى بالصبر، ففي كل أمر يصبر على طاعة الله، ويصبر عن معصية الله، ويصبر على أقدار الله، لكن اليقين الإيمان كله؛ لأن العبادة لا بد أن تكون عن يقين، وما الصبر إلا ثمرة من ثمرات اليقين، فاليقين يشمل الإيمان كله، ويشمل الدين كله. ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند: {أحب الأعمال إلى الله عز وجل، إيمان لا ريب فيه أو لا شك فيه} فهذا هو أحب عمل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال بعد ذلك {وجهاد لا غلول فيه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة}. فأحب الأعمال إلى الله هو الإيمان الذي لا ريب فيه ولا شك فيه، وهو الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، فلذلك كان حقاً أن اليقين هو الإيمان، وهو الدين كله، ويشهد لذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما وعد من شهد أن لا إله إلا الله بالجنة وأن يحرمه على النار، جعل ذلك مقترناً باليقين كما هو مقترن بالإخلاص، كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في قصة غزوة تبوك عندما اشتد الأمر على الصحابة رضي الله عنهم، فأرادوا أن يذبحوا جمالهم ليأكلوا منها، فقال عمر رضي الله عنه {يا رسول الله: لو جمعت الطعام الذي عند المسلمين ثم دعوت الله تبارك وتعالى فيبارك الله تعالى فيه، ففعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمشورته، فبارك الله لهم في طعامهم وتزودوا جميعاً}، ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد مستيقناً بهما غير شاك إلا دخل الجنة}، فهذا معنى ذلك. ففي مثل هذه الحالة -حالة اليقين- من رأى آية من آيات الله، كما رأى الصحابة الكرام أمام أعينهم، فمن أيقن بذلك فقد شهد أن لا إله إلا الله حقاً، فلا بد أنه في هذه الحالة قد كَمُل إيمانه، فأصبح حقاً أن اليقين هو الإيمان كله. وكذلك في قصة وفاة معاذ رضي الله عنه وهي أيضاً قصة صحيحة رواها الإمام أحمد رضي الله عنه بسند ثلاثي صحيح، عن جابر رضي الله عنه، يقول جابر رضي الله عنه: {أنا ممن حضر معاذاً رضي الله عنه عند موته، قال: ارفعوا عني سجف القبة -طرف القبة ليخاطب الناس- ارفعوا عني أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما منعني أن أحدثكم به إلا أن تتكلوا، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من شهد أن لا إله إلا الله موقناً بها من قلبه دخل الجنة}، وقال في رواية: {حرم على النار من شهد أن لا إله إلا الله موقناً بها من قلبه} فهكذا يبلغ اليقين في أصحابه، وهذا هو اليقين الذي يمحو كل شبهة ويمحو كل شهوة، فيصبح الإنسان ذا قلب أجرد أزهر يتلألأ نوراً بما نوره الله تبارك وتعالى.

الصبر واليقين من صفات الهداة المهديين

الصبر واليقين من صفات الهداة المهديين وهنا وقفة عظيمة في اقتران الصبر باليقين كما في كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، المأخوذ من القرآن من قول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فهذه هي صفات الهادين المهديين، الذين يخرج الله تبارك وتعالى بهم العباد من الظلمات إلى النور ويقيم بهم الحجة. فأئمة الهدى هذا شأنهم وهذه صفتهم، ولن تجد داعية من دعاة الحق، وإمام من أئمة الهدى، إلا أعطاه الله من هاتين الصفتين ما يشاء عز وجل: الصبر واليقين، لولا الصبر لما تحمل، ولما قاوم الابتلاء والفتن، التي لا بد أن يتعرض لها كل من دعا إلى الله تبارك وتعالى، ولولا اليقين أيضاً لما استمر ولما تابع، ولما كانت سيرته الاستقامة على هذا الدين والثبات، مهما كانت العوائق ومهما كانت العقبات فهاتان الصفتان من جمعهما أوتي الإمامة في الدين. ولهذا يقول سفيان رحمه الله: [[أخذوا برأس الأمر فجعلهم رءوساء على الناس أئمة لهم]]. ورأس الأمر وأفضله أو أعلاه -أي في أعمال القلب- هو اليقين ومعه الصبر، فلما أخذوا من أعمال القلب ومن الطاعات برأسها، جعلهم الله تبارك وتعالى رءوساء على الناس أئمة يدعون إلى الهدى. فلا بد من اقتران هذين لكل من دعا إلى الله، ولكل من جاهد في سبيل الله تبارك وتعالى ولكل من أراد أن يتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعبد الله كما أراد وكما رضي وكما شرع لنا أن نعبده.

منزلة اليقين

منزلة اليقين اليقين يكون في حالين هما: 1 - أن يكون اليقين في خبر الله. 2 - أن يكون اليقين في أمر الله. والمراد بخبر الله: ما كان من العلميات، أي: ما كان من الأمور العلمية الاعتقادية التي حسب المؤمن أن يؤمن بها، وأن يصدق وأن يوقن، وليست أمراً عملياً مطلوباً منه. واليقين في أمر الله: هو العمل المطلوب من العبد، فيوقن العبد بأمر الله تبارك وتعالى فيستقيم على أمر الله، ويقوم بأداء هذا العمل الذي افترضه الله تبارك وتعالى عليه.

الأمثلة على اليقين في خبر الله عز وجل

الأمثلة على اليقين في خبر الله عز وجل هناك أمثلة عديدة على اليقين في خبر الله، مثل: خبر البعث، فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه يحيي الموتى ويبعث من في القبور، فالواجب علينا أن نوقن بذلك، ولذلك يقول عز وجل: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] فهو حق لا شك فيه، فنوقن بالبعث من بعد الموت. وهناك مثال آخر ألا وهو الموت: فالموت كلٌ يؤمن به، المؤمن والكافر، ولهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت]]، فالموت كلٌ يوقن به، حتى الكافر؛ لكن أعجب ما في حياة الناس كما قال رضي الله عنه: أن أكثر الناس لا ترى لهذا اليقين أثراً في حياتهم، ولهذا يقول: [[ما رأيت يقيناً لا شك فيه]]. فما تجد إنساناً في هذه الدنيا يشك في موته، لكن يقينه هذا أشبه بشك لا يقين فيه، فإذا نظرت إلى أعمالهم فهم يعملون ويجمعون ويجتهدون كالذي لن يموت أبداً، ولا نجد ليقينه هذا أثراً في حياته. وقبل ذلك نؤمن بأن الله حق، وأن الجنة والنار حق، فنؤمن بها قبل أن نراها، وأن يوم القيامة آت، وسنبعث ونحاسب، فكل هذه نؤمن بها وهي أمثلة لما أخبرنا به ربنا عز وجل. وهناك أمثلة أخرى أيضاً - مثلاً - عذاب القبر ونعيمه، نوقن به يقيناً ولا نشك في ذلك، لأن الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا به، ولذلك نحن نؤمن به، وقد جاءت الأدلة به في القرآن.

أقسام أخبار الغيب

أقسام أخبار الغيب وأيضاً نؤمن بالصراط، والملائكة، ورؤية وجه الله والميزان، وجميع أركان الإيمان، فهذه الأخبار على ثلاثة أنواع هي: أولاً: أخبار هي غيب محض: وهذه التي مدح الله تبارك وتعالى المؤمنين بها، في أول القرآن بعد الفاتحة في سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2 - 3] وهذا يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والصراط والميزان، وغير ذلك. وهذا من الغيب المحض الذي يكون بعد أن يلقى العبد ربه، فهو مادام في هذه الدنيا فهذا من الغيب الذي لا يراه. ثانياً: أخبار هي غيب نسبي والمقصود بها: ما أخبر به الله أو أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما سيكون في هذه الدنيا، ومما هو واقع ويكون في هذه الدنيا، وهذا يدخل فيه أمور كثيرة منها: أن توقن بظهور الإسلام على جميع الأديان، ومن أعظمها: أشراط الساعة التي نؤمن ونوقن بها حق اليقين، ولا نشك في ذلك ولا نتردد، ومن أشراط الساعة: خروج المسيح الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج يأجوج ومأجوج، والدابة، وبنزول عيسى عليه السلام، وبالدخان، وخروج النار من قعر عدن، وهي آخرها كما في حديث حذيفة في صحيح مسلم، فهذه الأشراط الكبرى العشرة مع الخسوفات الثلاثة: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب. فهذه عشرة. والعلامات الأخرى غير هذه كثيرة منها: خروج ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من الفتن، وخروج المهدي ويكون مع عيسى عليه السلام، ويصلي خلفه، والحرب مع اليهود، ونوقن أن هذه الأمة ستقاتلهم حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، ونؤمن بتطاول رعاة الشاء في البنيان وتفاخرهم فيه، وهذا مما شوهد الآن وغير ذلك. فإذاً: علينا أن نؤمن بكل ما أخبر به الله أو أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيماناً لا يتزعزع ولا يتزحزح أبداً وبذلك نصل إلى درجة أو مرتبة اليقين فنكون موقنين بذلك. ثالثاً: نؤمن بما هو من أمر الغيب: لكن يمكن أن يكون غيباً عند البعض وليس غيباً عند البعض الآخر، ومن أمثلتها حديث الذبابة، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليلقه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء} فهذا بالنسبة لنا نحن الذين ليسوا من أهل الدراسة أو الاطلاع الكيميائي والبحث التجريبي وغير ذلك، فنحن عن طريق الغيب نؤمن بذلك. ولكن لو أن أحداً حلل ورأى ودقق حتى عرف الداء وعرف الدواء، فهذا أصبح بحقه من عالم الشهادة لا من عالم الغيب، لكن نحن نؤمن بذلك وبما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء جربوا أو لم يجربوا. والإيمان بالغيب أفضل، لأنا إذا جربنا ورأينا لم يعد ذلك إيماناً بالغيب، وإن كان إيماننا وتصديقنا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزيد، وأكثر الناس لا يزيد إيمانه إلا إذا رأى. لكن المؤمن ينبغي له أن يوقن وأن يصدق بذلك دون أن يحتاج إلى تجريب وامتحان، لأنه أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي أخبر الله تعالى أنه لا ينطق عن الهوى. إذاً: يكون لدينا اعتقاد مطلق بأن كل ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو حق من عند الله تبارك وتعالى لا نشك في ذلك ولا نتردد أبداً، ولكن الشرط الوحيد الذي نطالب به هو أن يصح وأن يثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ذلك، وهذا يدخل في عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فكل ما آتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نأخذه كما في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] فهو إنما ينذرنا بالوحي من عند الله عز وجل، وليس بشيء من عند نفسه، فنؤمن بهذا كله، وهذا لا يحتاج إلى إطالة ولا إلى شرح ولا إلى تفصيل.

أهمية اليقين في أمر الله عز وجل

أهمية اليقين في أمر الله عز وجل ننتقل إلى القسم الآخر، وهو مهم لأننا نحتاجه كثيراً نحن المسلمين في هذه الأمة، وهو اليقين في أمر الله! فإذا أمر الله تبارك وتعالى بأمر أن نوقن به مثلما نوقن أيضاً في خبر الله، وهذا يكون في الأمور العملية، فكما أنه في الحالة الأولى لا شك في خبره، فكذلك لا بد من اليقين فيما أمر به من الأعمال -مثل- توحيد الله وعبادة الله، فنوحد الله ونعبده، بالصلاة، والزكاة، والصيام، وكل أنواع العبادات. وأن يكون العبد من اليقين بحيث إذا علم أن الله تعالى حرم ذلك، فلا بد وقف ممتثلاً ومذعناً قائلاً في نفسه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر:13]. فهكذا لا يمكن أن يقدم العبد على محارم الله ولا أن ينتهكها، وكل ما أمر الله تبارك وتعالى به من أمر فإنه يقدم عليه ويفعله موقنا أن الله أمر به وشرعه، وموقنا أن الله تبارك وتعالى يجازي من فعله بالجزاء الذي وعد به، فيكون موقناً بالوعد وموقناً بالوعيد، ممتثلاً للأعمال التي يترتب عليها الوعد والوعيد، فما كان مأموراً به فعله وما كان منهياً عنه تركه، وهذه حقيقة التقوى. فإذاً: الموقنون في هذه الدرجة هم طائفة خالصة من المتقين، عندما أيقنوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حرم ما حرم، فحرم الزنا، وحرم الربا، وحرم الخمر، وحرم السرقة، وحرم الرشوة، وحرم الغيبة، وحرم النميمة، وحرم الإساءة إلى الجار، وحرم عقوق الوالدين، وحرم الإضرار بالناس، وحرم الظلم، وحرم البغي، وحرم العدوان، فكل ما حرمه الله تبارك وتعالى فاجتنبوه وانزجروا عنه، ولم يأتوه أبداً. وأيقنوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر بالصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، والصدقة والعدل، والإحسان، وبر الوالدين، وفعل الخيرات عموماً فكل ما أمر به الله تبارك وتعالى أيقنوا أن الله أمر به، وأن الله يجازي من فعله بخير الجزاء، فلذلك امتثلوه وعملوه.

أمثلة ضربها الصحابة في تحقيق هذه المنزلة

أمثلة ضربها الصحابة في تحقيق هذه المنزلة ولو تأملنا أفضل جيل وأعظم جيل وأروع أمة ضربت المثل الأعلى في اليقين، وهم الجيل الذي رباه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لرأيتم العجب العجاب في الحالين، في حال اليقين بأمر الله، وفي حال اليقين بخبر الله عز وجل. فلنأخذ بعض الأمثلة على يقين الصحابة رضي الله عنهم: فمثلاً: يقين عامر بن عبد القيس رضي الله عنه في القول المأثور عنه: [[لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً]] وكذلك ما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: [[لو رأيت الجنة والنار ما ازددت يقيناً، لأني رأيتهما بعيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي قال فيه ربه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]]]، فهو يقول: أنا لا أضمن أن يزيغ بصري أو أن يطغى، فهنا درجة عظيمة من اليقين من جهة، وتعظيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعرفة قدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة أخرى، فكأنه يقول: لو أني اطلعت فرأيت الجنة والنار، لربما زاغ بصري أو طغى فلا أوقن بها أو لا أراهما على حقيقتهما، لكني لما رأيتهما بعيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما أخبرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهما كما في ليلة الإسراء وغيرها، فهذا عندي أوثق من رؤيتي أنا بعيني، فهذا لا شك أنه يقين من جهة، وأيضاً معرفة بقدر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة أخرى. وكذلك هناك مثال آخر: أبو بكر رضي الله عنه حين أتاه كفار قريش وقالوا له: إن صاحبك قد كان يزعم ويزعم أما الآن فقد جاء بأمر عجيب، وما نظنك إلا تكذبه، قال: ما هو؟ قالوا: يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء وعاد في ليلة، فمعنى كلامهم: حتى في مثل هذا الخبر يمكن أن تصدق صاحبك بما يقول؟ فقال: [[إن كان قاله فقد صدق]]، فشرط يقينه بصحة الخبر، فلما تبين له أنه قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيقن بذلك حقاً، لأن لديه يقين لا يمكن أن يشك أبداً في صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كان من الموقنين رضي الله عنه. وغير ذلك كـ عبد الله بن رواحة القائل: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها علي إن لاقيتها ضرابها أنس بن النضر رضي الله عنه -وقد كان أعرجاً- ذهب إلى معركة أحد فقال له بعضهم: يا أنس إن الله قد عذرك: {وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح:17]، فقال: {والله لأطأن بعرجتي هذه الجنة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: لقد رأيته في الجنة وما به عرج}، فيقينه في الجنة وهو في المعركة وقت المعمعة؛ حيث تخفق القلوب وترجف، ويبدأ الإنسان يفكر من أين أهرب؟ وأين الملجأ؟ وأين المفر؟ هم يقدمون موقنين: أننا أقرب ما نكون إلى الجنة. والآخر عمير بن الحمام القائل: {بخٍ بخٍ ليس بيني وبين أن أدخل الجنة إلا هذه التميرات}، هذا يقين الصحابة -رضي الله عنهم- فـ أنس يقول: {والله إني لأجد ريح الجنة من دون أحد} فهم يرون كأن عالم الغيب أصبح أمامهم عالم شهادة، ولنا في هذه وقفة.

تكريم الله للإنسان على غيره

تكريم الله للإنسان على غيره عندما يكون عالم الغيب أمام عينيك كيف تصبح حياتك، فالفرق بين الإنسان وبين البهائم، وبين العالم والجاهل، وبين الغافل والذاكر، هو هذا اليقين. والناس كثير منهم كالأنعام بل هم أضل، وقد جاء في حديث صححه الشيخ الألباني: {ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وكل شيء يذكر الله عز وجل}، كما في القرآن: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] {إلا المردة من الشياطين والأغبياء من بني آدم} مهما كان علمهم وفقههم فهم أغبياء كالأنعام. فهؤلاء الغافلون الأغبياء الذين وافقوا المردة في أنهم لا يذكرون الله، فمثلاً: إذا رأى موتاً أو حياةً أو فرحاً، أو ضحكاً، أو حزناً، أو ألماً، أو فقراً، وإن رأى ما رأى فهو لا يتأثر أبداً، كالدابة تمر وتنظر إلى دابة أخرى تذبح ثم تذهب وترعى ولا تبالي بشيء! فهذا حال الكفار الذين لا يوقنون: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].

المؤمن يرى بعين الإيمان والبصيرة

المؤمن يرى بعين الإيمان والبصيرة أما المؤمن فإنه يرى هذه المظاهر والمناظر بعين غير تلك العين، فله نظرات أبعد وأعمق من ذلك بكثير، فلو لم يكن في حال المؤمن إلا أن يقف وينظر إلى الناس وهم ذاهبون في الصباح -مثلاً- فيرى ويتعجب كيف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي أعطى هذا وأعطى هذا، كيف جعل الآيات له تبارك وتعالى في اختلاف ألسنتهم وألوانهم، فاختلاف الألسنة والألوان عجيب جداً. ومن عجائب الله سبحانه اختلاف سعيهم أيضاً: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] فهذا عاصي وهذا بار، وهذا فاجر، وهذا مدبر، وهذا معرض، وهذا الآن اهتدى، وهذا متعمق في الإيمان، وهذا متعمق في الغواية، وهذا وهذا فهو يرى الأشياء ولكن بعين غير تلك العين. فالفرق بينهما كالفرق بين من يرى أخشاباً أمامه وبين آخر تعمق فأخذ منظاراً مكبراً فإذا هذه الأخشاب عبارة عن مخلوقات عجيبة جداً، والآخر لا يراها أبداً فيظنها حجارةً أو أخشاباً أو أشياء لا قيمة لها. فالمؤمن يرى ما يجري من أحداث بعين اليقين وبعين البصيرة، فيتأمل في ملكوت السماوات والأرض. وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فأي شيء في نفسك أو في الكون وقعت عينك عليه ففيه آيات عجيبة، وعظيمة، ففرق بين الغافل والذاكر، فهذا حي، وقلبه حي، وارتباطه بالله دائم ويقينه وفكره، كذلك ولذلك فهو مترفع عما يفكر فيه الأقلون. ولذلك مما يترتب على هذا: أن العبد المؤمن يصبر على كل ما أصابه، لأن من يقينه أنه يصبر على كل ما يصيبه، ويعلم أن الخير والشر مقدر عليه، وكل ذلك من الله تبارك وتعالى فلا يجزع ولا يقنط. ولذلك يوجد الفرق الكبير بين الناس إذا وقعت مصيبة أو كارثة، على هذا الذاكر أو ذاك الغافل، وما أكثر ما يعرض للإنسان في هذه الحياة الدنيا من ذلك.

الأمثلة على اليقين في أمر الله عز وجل

الأمثلة على اليقين في أمر الله عز وجل هناك أمثلة من اليقين في امتثال الأمر -مثل- بلال وعمار وغيرهم لما عذبوا -رضي الله عنهم- فتوضع الصخرة في حر مكة في الرمضاء على بلال وعلى صدره وهو يقول: [[أحدٌ أحد]] يوحد الله تبارك وتعالى، فهذا من يقينه رضي الله عنه، وهناك أمثلة أخرى عجيبة من هذا، عندما يقتل الرجل منهم أخاه، أو أباه، أو قريبة، في ذات الله، فما فعل ذلك إلا لأنه موقن في أن هذا عدو لله، وموقن بأن الله سبحانه أمره بأن يبرأ من الكافرين، وموقن بأنه لا ولاية ولا صلة بين المسلمين وبين الكافرين، وموقن أن من قاتل وقتل في سبيل الله فإن جزائه الجنة، فهذا أيضاً نتيجة اليقين. وكذلك حين قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهتزت القلوب وارتجفت، حتى عمر رضي الله عنه قال: [[ما مات؛ بل رفعه الله إليه]] فاضطرب أمره رضي الله عنه، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: [[يا عمر، أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام، وتلا عليه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]]] فأيقن عمر. ولما ارتدت العرب قاطبة وكان الموقف كما علمنا من عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة، نجد اليقين عند أبي بكر يقيناً عجيباً جداً، حتى إنك تتعجب كيف أنفذ جيش أسامة إلى أقاصي الروم وقد ارتد أكثر العرب من حوله, وجيش أحد عشر لواءً يبعثها، كلاً منها يبعثه إلى ناحية من النواحي، ليعيدوا الناس إلى هذا الدين، فهذا يقين بأن الله سبحانه سينصر هذا الدين، وأن ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، وأنه مهما كانت الهزة ومهما كانت الصدمة، فإن النصر والغلبة بإذن الله ستكون لهذا الدين. ونستطيع أن نقول: إن حياة الصحابة -رضي الله عنهم- كانت كلها يقيناً مثلاً: لما حرم الله تبارك وتعالى الخمر، وسنضرب المثل بها لأنها ليست كالسرقة، وليست كالزنا، فالأمر يتعلق بالإدمان، ومن يعرف ومن يسأل ويرى المدمنين -نسأل الله العفو والعافية- يجد أن أصعب، وأشق شيء على النفس أن تتخلص من عادة الإدمان، ولهذا لو قلت لإنسان مدخن: نقطع عنك الرز واللحم لما تأثر، ولو قلت له نقطع عنك التدخين فلن يقبل لأنه ليس لديه يقين، وهذا ليس إدمان تدخين، بل إدمان خمر، فلما أنزل الله تبارك وتعالى تحريم الخمر ماذا فعل الصحابة رضي الله عنهم؟ أراقوها، ولما قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قالوا: [[انتهينا ربنا، انتهينا ربنا]] فأراقوها -بلا تفتيش ولا رقابة ولا شرطة ولا هيئات- هم بأنفسهم، فحين أنزل الله تحريمها. أيقنوا بذلك فقالوا: [[انتهينا ربنا]] فأراقوها حتى جرت السكك في المدينة بها. فإذا انتفى اليقين تكون الحالة كما جرى في أمريكا، فقد حدثت قصة عجيبة استمرت في العشرينات وأوائل الثلاثينات من هذا القرن، وذلك عندما قررت أمريكا، أو قرر عقلاؤها إصدار أمر بتحريم الخمر؛ لأنها ضارة، ولا شك أنها تفسد الرجل الحليم كما قال أهل الجاهلية. فقالوا: لا بد من تحريمها، وجندوا النشرات والإعلانات والدعايات بجميع أنواعها، ورصدوا لها الملايين، والجنود والمفتشين، وكل ما تتصوره أمريكا، فحين تعزم أمريكا على شيء وتقرره، يكون حالها كما قال تعالى {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] فإذا قررت شيئاً فإنها تتحرك وتتابع وتحقق وتعقب وكل ما يتخيله الإنسان من نظام ودقة، فما الذي حدث؟ اضطروا وأرغموا هم بأنفسهم أن يتراجعوا عن هذا القرار بعد ثلاثة عشر أو اثني عشر سنة، وألغوا هذا القرار، لأنه لم يستجب الشعب لهم، بل زادت المصانع وتحولت إلى مصانع سرية، وشربت أنواع رديئة، وكله رديء، لأنه لا يخضع لمواصفات معينة، فقالوا: انتشرت الأمراض، والقتل، والدمار، والخسائر، فما كان منا إلا أن سمحنا بعودتها، فعادت كما كانت، وللشعب أن يشربها كالماء -والعياذ بالله- فأمة لا يقين لها حالها {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] فمن لا يقين له هكذا حياته.

اليقين هو الإيمان القلبي وليس الاقتناع العقلي

اليقين هو الإيمان القلبي وليس الاقتناع العقلي الصحابة رضي الله عنهم كان هذا أمرهم، ولذلك ليس اليقين هو الاقتناع العقلي؛ لأن أمريكا عندها الاقتناع العقلي ولم يكفها ذلك، ولكن اليقين هو الإيمان القلبي. فكم من طبيب يشرب الدخان، فإن أتيت إليه وأخبرته عن كل أضرار الدخان لا يتوب، فإذا سمع موعظة بليغة مؤثرة، أقلع عنه وتاب والحمد لله، فما ذلك إلا لأنه خاطب اليقين القلبي، أما الخطاب العقلي المجرد والكلام عن الأضرار والتأثير، فقد يترك أثراً وقد لا يترك، وقد يترك ثم يعود، فلا نسبة بين الأثرين أبداً. وهناك قصة عظيمة وعجيبة وهي قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه لما شرب السمُّ فكونه رضي الله عنه يقتحم المعركة ويقاتل موقناً بما وعد الله وبنصر الله، وأنه إن مات فهو شهيد، فهذا أمر ليس غريباً على الصحابة، لكن أن يشرب السمُّ ليفحمهم فذاك شيء آخر، وذلك لما قالوا: إن كان نبيك ودينه على الحق فاشرب هذا السمُّ، فلو قال: لا، فأين اليقين، فشربه، فحفظه الله من ذلك. وهذا يدخلنا إلى مدخل عظيم جداً وهو: أن اليقين كرامة عظيمة من الله -تبارك وتعالى- وأصحاب الكرامات الحقيقيون هم الموقنون، وقد تكون كرامة معنوية خفية، كأن يستجاب دعاؤه ولا يحدِّث الناس بذلك، أو كأن يعطيه الله عز وجل الفراسة، فإذا توقع أمراً كان كما يقول، فاليقين يثمر أنواعاً من الكرامات لأصحابه. ونختم بهذه الآية وهي قول الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر أحكامه وأوامره التي قد يشك فيها كثير من الناس كما يُرى في هذا العصر: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. فيجب أن نحيي في الأمة الإسلامية معنى اليقين بخبر الله، وهذا والحمد لله لا شك فيه، ومعمول به عند كثير من الدعاة والوعاظ، فهم يعلمون الأمة اليقين بخبر الله، وما جاء من أمور الغيب، لكن يجب أن نحيي الجانب الآخر أيضاً وهو اليقين بأمر الله، وأن ما شرعه الله هو الحق وهو الخير، فلما حرم علينا الزنا، أو الربا، أو الخمر، أو أمر بالحجاب، أو جعل ميراث الأنثى كذا وميراث الذكر كذا، أو شرع أي شيء فله بذلك الحكمة البالغة، ويجب أن نكون من الموقنين، وإن خرجنا عن ذلك أو شككنا فإنا نكون قد تركنا أمر الله ورضينا بحكم الجاهلية، فهما نوعان، وقسيمان، وضدان: حكم الله، وحكم الجاهلية. فليكن يقيننا بالله تبارك وتعالى، وفي وعده وفي أمره، وفي خبره، كما رضي لنا ربنا عز وجل وكما علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما فعل الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من الموقنين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الوساوس التي ترد على الإنسان

حكم الوساوس التي ترد على الإنسان Q الوساوس التي ترد على الإنسان سواء كان في الصلاة أو في غيرها، أو كانت في الأمور العقدية أو غير ذلك، هل لها علاقة باليقين، وهل ورود مثل هذه الوساوس تؤثر في يقين الإنسان؟ A بالنسبة للوساوس فإن المؤمن يخاف منها جداً، وقد خاف منها الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- على إيمانهم، وجاءوا يشكون ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما ثبت في الصحيح، قالوا: يا رسول الله {إن أحدنا ليجد في نفسه ما إن يكون حممة -أي فحمة محترقة- ولا يتحدث به} لأنهم يستعظمون أن يتحدثوا به، فيتمنى الواحد أن يكن فحمة محترقة، ولا يتحدث به من هوله، ولا يريد أن يقوله، وساوس، وخطرات، وإلقاءات، ولمات من الشيطان، لا يريدون أن يذكروها لبشاعتها ولقبحها، ولأنها تنافي إيمانهم ويقينهم. ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو المزكي والمربي الحكيم، طمأنهم وقال: {أوقد وجدتموه؟} وكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا يقول: إنني أنتظر أن تجدوه، فعندما يقول لك أحد: حصل لي كذا وكذا، فتقول له: أوجدته، معناه أنك تعلم وتتوقع أنه سوف يقع له ذلك، وزيادة في التطمين قال لهم: {فذاك صريح الإيمان، أو ذاك محض الإيمان}، وفي رواية قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة}، وهي لن تؤثر بإذن الله على المؤمن مادام أنها لم تصل إلى أن تكون اعتقاداً أو شكاً، أو وسوسة يستفظعها، ويستقبحها، ويردها، ويرفضها، ويشكو منها، مهما طالت. وهذه تقع لكثير من الشباب في أول هدايتهم، وربما عرضت لغيرهم، فهي عرض من الشيطان، لا تلقي لها بالاً، لأن كراهيتك وبغضك لها، وكونك تخاف منها ولا تقدر أن تحدث بها أحداً دليل على الإيمان في قلبك، فعدو الله يخوض معك آخر معركة، فإن ظفر بك وأضعفك فقد هلكت -حفظنا الله وإياكم من الهلاك- وإن نجوت وقاومت وأعرضت عنه فهو مثل الذي يرى إنساناً ذاهباً في طريق فيأتي من يمينه ومن خلفه، فإذا عزم وتوكل على الله ومضى في طريقة، تركه ولا يضره شيئاً، وهي من كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]. فاطمئنوا وربوا إخوانكم على ما ربى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بأن يطمئنوا، وأن يتعاهدوا إيمانهم، وأن يجددوه ويقوه ولا يلقوا لتلك الخواطر بالاً.

وسائل تقوية الإيمان في القلب

وسائل تقوية الإيمان في القلب Q كيف أنمي اليقين في قلبي بعد العلم؟ A كلما تحدثنا عن أسباب تقوية الإيمان، فإنها تؤدي إلى اليقين بإذن الله، لأن أعمال القلب واحدة، فكل ما يؤدي بك إلى الإخلاص، أو إلى اليقين فإنه يؤدي بك إلى الصبر، والخشية، والخشوع، والإنابة، والرغبة، والرهبة، فكلها متداخلة. فكل ما من شأنه أن يقوي إيمانك من قراءة القرآن، وزيارة القبور، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفيما بث الله في الأرض من دابة، وفي أحوال الناس واختلاف ألسنتهم وألوانهم، وإنزال الغيث، وتصريف الأمر وتدبيره، كل ما من شأنه أن يقوي إيمانك من الآيات والعبر فهو بإذن الله يقوي يقينك.

حكم ادعاء اليقين الكامل، والفرق بين التوكل والتواكل

حكم ادعاء اليقين الكامل، والفرق بين التوكل والتواكل Q أعرف بعض الإخوة يقولون: إن لديهم يقيناً تاماً، ولهذا فهم لا يعتمدون على الأخذ بالأسباب في أمور حياتهم، فمثلاً لا يدخل ابنه في المدرسة قائلاً: إنني على يقين أن ابني لن يأخذ إلا ما كتب له، أرجو التوضيح؟ A هذا ليس يقيناً ولا توكلاً وإنما هو تَوَاكل. أولاً: لا يجوز لإنسان أن يدعي اليقين -وخاصة عبارة اليقين الكامل- فهذا أمر صعب، فلا يجوز لأحد أن يدعي اليقين الكامل. وأما إن مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بشيء من اليقين فليحمد الله عليه، ولا بأس أن يحدث به، وإن كان ترك ذلك أولى، لكن المقصود أن يقول: إن لدي اليقين الكامل، فهذا مثل أن يقول أنا مؤمن كامل الإيمان، وقد أنكرها السلف على من قالها إنكاراً شديداً. ثم إن ترك الأخذ بالأسباب ليس من الشرع في شيء، فلا يقول: أنا على يقين أنه لن يأخذ إلا ما كتب له، فلا شك في ذلك، ولكن اجتهد أنت في أن تسعى له بالخير بالقبول في التوظيف للعمل، فهذا الابن الذي أنت تقول له هذه العبارات كيف أتى؟ لماذا لم تقل: أعيش من غير زوجة وأنا على يقين إن كان الله سيرزقني أولاداً أنه سيرزقني، لأنك تعلم أن الله تعالى جعل من سنته أنه لا يكون الابن إلا من زواج، فكذلك السعي والرزق جعله الله تبارك وتعالى مقترناً ببذل الأسباب، ثم بعد ذلك هو عز وجل يعطي ويهب لمن يشاء، ويمنع ويحرم من يشاء.

عدم اجتماع اليقين والمعصية

عدم اجتماع اليقين والمعصية Q هل يمكن أن يكون الإنسان المسلم موقناً ويقع في نفس الوقت في المعصية، أم أنها لا تجتمع معاً، أي: اليقين والمعصية لله، أفتونا مأجورين؟ A اليقين والمعصية لا يجتمعان، لكن المعصية تقع، ويمكن أن تقع من كل أحد، وتعليل هذا: أن اليقين في هذه الحالة يضعف، ويستولي الشيطان على العبد، كما يفعل شياطين الإنس، فقد يكون الرجل قوياً شديداً -مثلاً- لكن حين ينام، أو يغفل، يختطفه شيطان من شياطين الإنس ويذهب به بعيداً عن موطنه. وكذلك المؤمن قد يضعف ويفتر يقينه، فيختطفه الشيطان فيوقعه في معصية من المعاصي، كالفواحش -مثلاً- فينطبق عليه أنه إذا زنا العبد ارتفع إيمانه فكان عليه كالظلة، فإن تاب ورجع وإلا أقلع عنه، نسأل الله العفو والعافية. فعندها يكون اليقين الذين ذكرنا بأوصافه وأحواله حينئذٍ غائباً. أما اليقين بمعنى العلم فقط، الذي هو الحد الذي يخرج صاحبه من دائرة الشك والريب إلى دائرة الإيمان، فهذا يظل معه، لأن هذا من قول القلب وإقراره، والكلام إنما هو عن اليقين الذي هو عمل القلب.

حكم الشك في نصر الله لدينه ولأمة الإسلام

حكم الشك في نصر الله لدينه ولأمة الإسلام Q هناك أناس لا يحققون معنى اليقين من الثقة بنصر الإسلام، وأن الغلبة والعزة له، ويقول: إن الغلبة والعزة ستكون للكفار، فما هو توجيهكم لهؤلاء؟ A هؤلاء في الحقيقة يظنون في الله ظن السوء، وظن الجاهلية، وهو: أن الله سبحانه لن ينصر دينه، بل إن الكافرين سوف ينتصرون على المؤمنين، وهذا مرض قديم في الأمة، مرض به المنافقون وابتلوا به في أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآن في هذا الزمان وفي كل زمان يوجد الكثير ممن ابتلي به. فيظن أن الله تبارك وتعالى لن يحقق لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وعده به: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122]. فقد وعده أن هذا الدين يبلغ ما بلغ الليل والنهار، بأن تفتح القسطنطينية، ورومية -التي هي روما - وقد أعطاه الكنزين الأحمر والأسود، وزوى له الأرض ورأى ما يبلغ ملك أمته منها، وغير ذلك مما بشر وطمأن به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأيقن به أصحابه الكرام، فإنه قد حدثهم وأخبرهم، وهم في حال الضنك وفي حال الشدة، وهم يحفرون الخندق وقد أحاط بهم الأحزاب من كل ناحية وزلزلوا زلزالاً شديداً، أخبرهم أنهم سيفتحون ملك كسرى وقيصر: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل}، فأيقنوا بذلك وآمنوا وتحقق ذلك بحمد الله وتوفيقه. فهذا لا يجوز لأحد أن يعتقده من المسلمين، وأما الذين ضعف إيمانهم بالهزيمة الفكرية والنفسية وظنوا بالله هذا الظن , ووافقوا أهل الجاهلية وأهل النفاق في ذلك، فهؤلاء مرضى، فيجب أن يعالجوا بكل ما من شأنه أن يرفع يقينهم وإيمانهم وثقتهم، ولو كانت هذه الثقة الضعيفة أو فقد الثقة في الله وفي وعد الله قبل عشر سنوات -مثلاً- لربما يقال وأين الإسلام؟! أما في هذه الأيام والحمد لله فهناك مبشرات كثيرة، رغم العقبات ورغم الظلمات، ورغم ما يكيده الأعداء. فإن المبشرات كثيرة وواضحة جلية، وإلا فما معنى هذه الصحوة وهذه اليقظة وهذه التوبة وهذه الأوبة في الشباب، والكهول، والنساء، والرجال، وفي الشرق والغرب؟ والكل يريدون منهج السلف الصالح، والكل يريدون العلم النافع، والكل حريصون على ما يقربهم من الله، والكل يرفض المذاهب والنظريات والشبهات: هذا دليل -والحمد لله- واضح وجلي على أن الأمة تعيش صحوة عظيمة نسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك فيها وأن يسددها وأن يرزقها الإخلاص واليقين.

أخبار المسلمين المجاهدين

أخبار المسلمين المجاهدين Q ما آخر أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك، وكذلك في أفغانستان؟ A بالنسبة لإخواننا في البوسنة والهرسك، الوضع الدولي متواطؤ ومتآمر. ويتخذ بعض القرارات كما يسمونها لحفظ ماء الوجه أو للتغطية، وإلا فالموقف الدولي متواطؤ تماماً، والقوى الكبرى نصرانية حاقدة أو قوى مشركة لا تؤمن بالله تبارك وتعالى، ولا يهمها شأن المسلمين ولا أمرهم، فحدث هذا التواطؤ الغريب والعجيب، دولة تعترف بها الأمم المتحدة أنها دولة مستقلة وفي قلب أوروبا، وتباد وتسحق وتدمر ويشرد الملايين، ومعسكرات للتعذيب التي لم يشابهها كما ذكروا هم إلا معسكرات النازية، وحرب عنصرية، إلى غير ذلك من المشاكل في ظل النظام الدولي الجديد- كما يزعمون - وهم يترددون ويقولون سنتخذ القوة، لماذا؟! قالوا: من أجل إيصال المعونات وليس من أجل ردع المعتدي، سبحان الله! أين هذه القوى والموقف والشرعية الدولية، والحق والعدل والنظام الدولي، وإثبات أن أحداً لا يمكن أن يعتدي، وما قالوه وما جعجعوا به في أزمة الخليج ليؤلبوا العالم معهم، أين ذلك؟! ذهب كله أدراج الرياح، واتضح أنه كله هراء وكذب، وأنهم يعملون حيث ما تكون مصلحتهم وليس أكثر من ذلك. والحمد لله البشائر في هذا الجهاد أن المسلمين شكلوا جبهة -ونسأل الله أن يبارك فيها- جهادية مستقلة لا تمثل حكومة البوسنة ولا غير ذلك، وإنما من خريجي الجامعات الذين درسوا هنا في المملكة -والحمد لله- على عقيدة صحيحة سليمة، شكلوا معسكرات جهادية وبدءوا يجاهدون في سبيل الله، ويشترطون فيمن يكون معهم أن يكون من أهل الصلاة والالتزام، ويتجنب المعاصي، وحريصون على تربيتهم وعلى تعليمهم من خلال المعسكرات وفي أثناء التدريب وغير ذلك والحمد لله. وبدأ هؤلاء يخوضون معارك مع الصرب، ويقولون: إنهم يفرون منهم فرار الغنم من الذئب -سبحان الله العظيم- ويقولون: رأينا فيهم جبناً عجيباً جداً، ولكن المشكلة نقص السلاح. ولقد حدثني أحد الإخوة يقول: كل عشرة من الشباب على مسدس واحد، فتصوروا كيف يكون ذلك مع قلة عددهم، وهم ليسوا كثيراً، أسأل الله أن يبارك في عددهم فلو أعطوا هؤلاء السلاح وأعطوا المال فسيكون في ذلك خير كثير بإذن الله تبارك وتعالى، وهم يطلبون منكم ذلك، والحمد لله عن طريقنا يسافر تقريباً كل أسبوع مجموعة من الإخوة الثقات، ومن الإخوة الذين يحضرون الدرس وتحمسوا لهذا الموضوع للدعوة إلى الله هنالك، فهم يذهبون ويسلمون مبالغ نقدية يداً بيد، ويقومون بالدعوة إلى الله بحسب إجازاتهم. ومنهم من قرر أن يبقى هناك يدعوهم إلى الله عز وجل ما شاء الله أن يبقى، نسأل الله أن يوفق الجميع، فالباب مفتوح للتبرع لهم. أما بالنسبة لأفغانستان فالوضع في الحقيقة قاتم ومؤلم، وليس لدي تصور واضح بالضبط عما يجري إلا الأخبار العامة ولا أتابعها كثيراً، بل قد لا أتابعها ولا أعتمد عليها، والأخبار الخاصة قد وصلتني من بعض الأطراف فقط رسائل بالفاكس تقول: إن الجهاد لا يزال مستمراً وأن ما تحقق إنما هو مرحلة من مراحل الجهاد، ولكن الجهاد لا يزال مستمراً مع المليشيات، ومع الشيعة ومع الباطنية والإسماعيلية، ومع الفرقة، وهي أشد أنواع المشاكل التي يعاني منها المجاهدون هناك. الفرقة التي أوقعها الشيطان فيما بينهم، فادعوا الله وتضرعوا إليه أن يجمع كلمتهم جميعاً على الحق وعلى الكتاب والسنة، وأن يكلل نصرهم على الشيوعيين. بانتصارهم على أنفسهم، فتصفو وتزكو وتتطهر لله عز وجل وتتخلص من أدران الشرك والرياء والنفاق والخرافة والبدعة، ليكونوا حقاً مجاهدين، ولينصرهم الله -تبارك وتعالى- فيستمر هذا الجهاد، وتستمر هذه الراية، والمؤامرات الدولية كبيرة جداً عليهم. وأمريكا لأنها لم تستطع أن يكون لها يد مؤثرة في لعبة الدولة، وأن تجعل من أفغانستان دولة علمانية عليها مسحة دينية، وغلبت على ذلك فهي تريد الآن أن تخرب ما حصل من الاجتماع. ومن أخطر ما يسمع عن الإعلام الغربي، أنه يحاول تصنيف القادة إلى معتدلين ومتطرفين، ويضرب هؤلاء بهؤلاء حتى في لحظات الوفاق فيما بينهم، فالإعلام الغربي لا يكف عن وصف هذا بالتطرف والتشدد، وهذا بالاعتدال إلى آخر ذلك؛ لكي يضرب فيما بينهم ولكي تفقد الأمة الثقة فيهم، فما علينا إلا الدعاء لهم، ونسأل الله أن يجمع صفوفنا على الحق إنه سميع مجيب.

أنواع اليقين

أنواع اليقين Q ما هي أنواع اليقين، وهل الظن هو اليقين، وما علاماته على الفرد، وهل نستطيع الحكم باليقين على من نحسبه كذلك، وجزاكم الله خيراً؟ A يمكن أن يقسم اليقين إلى أنواع: من جهة وجوده وحقيقته في القلب، فيكون الحد الأدنى هو: العلم، والدرجة العليا هي: حقيقة وغاية اليقين. ومن جهة موضوعه فإما أن يكون متعلقاً بالاعتقاد وبالعلميات، فيكون يقيناً في خبر الله، أو متعلقاً بالعمليات وبالأوامر والنواهي فيكون يقيناً في أمر الله. والظن ليس من اليقين ولا يجتمعان، ولهذا يقول المشركون: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]، فقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} [الجاثية:32] تأكيد، وهو من البلاغة القرآنية، فالمقصود: إن كنا نظن إلا ظناً، فما داموا يظنون فهو ظن، لكنه تأكيد أنهم لم يكونوا على إيمان، ولم يكونوا على يقين في وعد الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، كما قال الله عز وجل: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]. وهل نستطيع الحكم باليقين على من نحسبه كذلك؟ هذا جزء من الشهادة، كمن تشهد له بالإيمان أو باليقين، فإن علمت ذلك ورأيت أماراته وعلاماته، فلا بأس أن تقول أحسبه من المتقين أو من الموقنين، أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، ولا سيما عندما تقرأ في سير الأولين وقد يجعل الله تبارك وتعالى أيضاً في المتأخرين من المؤمنين، لكن من ناحية الإطلاق يمكن أن يطلق أن هذا من الموقنين، ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى. والظن قد يأتي بمعنى العلم واليقين ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:46] وقوله تعالى في الآية الأخرى: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] فرأوها بأعينهم، فظنوا هنا بمعنى: علموا وتيقنوا. فهذا معنى لغوي، فمن حيث اللغة يأتي في مقام فعل، وهذا واسع في لغة العرب، لكن اليقين الذي هو عمل القلب سبق ذكره، فالظن الذي يقابله هو الشك والكفر.

معنى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين

معنى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين Q الأخ يسأل عن علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين؟ A علم اليقين بالنسبة لما أخبر الله تعالى به من الجنة والنار -مثلاً- فعلم اليقين هو: ما نقرأ في كتاب الله أن الجنة والنار هكذا أوصافها، فهذا العلم هو علم يقين. وأما حق اليقين: إذا رأيت ذلك الذي أخبرت به وعلمته، أي: رأيت الجنة ورأيت النار ورأيت ما وعد الله أمامك، فهذا حق اليقين، فتحول علم اليقين إلى حق اليقين. وأما عين اليقين فإذا دخلتها وتنعمت فيها، جعلنا الله من أهل الجنة فهذا عين اليقين.

نصيحة للذين يستعملون البث المباشر

نصيحة للذين يستعملون البث المباشر السؤال: ما نصيحتك للذين يستعملون البث المباشر وقد قام كثير منهم بشرائه؟ الجواب: حين يتصور الواحد منا الدمار الهائل الذي ينتجه هذا البث، لا شك أنه يأرق ويحزن ويألم لشدة ما يتصور، ولما يرى من ضعف وتقصير في إبلاغ هذا الخطر والتحذير منه. أتعلم يا أخي أن أوروبا طلبت من أمريكا تأخير البث المباشر ثلاث سنوات لتتهيأ له، وقامت وضجت الصحافة الفرنسية والمجتمع الفرنسي خوفاً من البث المباشر الأمريكي!! حضارة واحدة، وإباحية واحدة، وإلحاد واحد، ويجمعهم كل شيء تقريباً، لكن يقولون: اللغة مختلفة، وبعض العادات مختلفة، فتغزونا الثقافة الأمريكية هذا خطر عظيم! وأنذروا به وخافوا منه سبحان الله! أما نحن فنفتح صدورنا لاستقبال كل غزو، بل العجيب أن أول غزو وأول بث مباشر نحن صنعناه بأيدينا، فالشركة من أبنائنا ويتكلمون بلغتنا، ولكنهم جعلوها في لندن يبثوها علينا، ويقولون: نحن أفلامنا لا تتعرض للرقابة، فكأنهم يقولون: لا تنظر إلى التلفزيون الذي يراقب ويقطع؛ بل انظر إلينا فأفلامنا لا تتعرض للرقابة، والعياذ بالله. فنحن نغزو أنفسنا بأنفسنا ونتهيأ لذلك، وستكون النتيجة هائلة ومخيفة جداً، فلو أجريت إحصائيات هذه السنة، عن نسبة الأمن، والجرائم والاختطاف، والاغتصاب، والشكوك عند الشباب، والإلحاد، والتنصير، وما يتعلق بذلك، ثم بعد ثلاث سنوات من البث المباشر، لو تجرى إحصائية أخرى؛ لرأيت الفرق الهائل جداً، فكيف بعد عشر سنين، كيف بعد ثلاثين سنة. وهم يطمعون أن يأتي الجيل الآخر -على الأقل الذين هم الآن في الرابعة والثالثة تقريباً- ويصبح جيلاً ملحداً غربياً ممسوخاً، ليس فيه من العربية إلا أنه أسمر اللون، وربما يغيرون ألوانهم وشعورهم إن استطاعوا حتى يصبح جيلاً أمريكياً ممسوخاً تماماً، لا ينتمي إلى دينه ولا إلى هذه البلاد بأي نوع من أنواع الانتماء، فهذا الذي يريدونه في النهاية. ويريدون أن يصبح اليهود الذين هم حفنة قليلة هم المسيطرون على هذه المنطقة، وأن تتربع على عرش المنطقة وتنهب خيراتها، وتستعبد شعوبها، ودائماً وأبداً القاعدة جارية في هذا، وهي: أن تستعبد الشعوب وتستذل بالشهوات، فما الذي يسر لـ هتلر اجتياح أوروبا كلها وفرنسا ويدخل باريس، ما ذاك إلا لأنهم أمة شهوات وإباحية وانحلال، لا يمكن أن تقاوم أو تفكر في مقاومة أي عدو، فيقضى على كل معاني الجهاد ومعاني الغيرة ومعاني العزة, وربما تتحول -والعياذ بالله- طائفة منها وترتد وتلحد وتخرج من الإسلام، وربما أن البعض لا يكتفي بأن يخرج من دينه، بل قد يدخل في أديانهم عندما يرى ما يعرض عليه. فتصور معي البث المباشر إذا انتشر، والآن قد التقط على قنوات عديدة منها القنوات التنصيرية، هذه القنوات التي تغطي الكوكب الأرضي كله، وتبث برامج بعدة لغات، وأنا رأيت بعيني برنامجاً من برامجهم الوعظية يوم الأحد فرأيت شيئاً عجباً. فليست مواعظهم كمواعظنا، فنحن والحمد لله نعظ بالقرآن ونعظ بالحق، لكن هم لديهم من الإغراءات والأسباب شيء عجيب جداً. فيأتي المتحدث ويتكلم عن قديس -كما يسمونه- ويأتي بصورته أمامك، وكيف كان يتعبد وكيف كان زهده، ويأتيك بأفلام عن هذا القديس، مع وجود أشرطة عن حياته مجانية، حيث يقال لك: اكتب لنا العنوان فقط ونحن نرسله لك، وفي أثناء الكلام، أنت تسمع الواعظ، وفي نفس الوقت تشارك المحطة في شيء معين، فيكتبون الأشرطة والأفلام، ثم يذكر لك حالات الذين شفوا لما توسلوا بهذا القديس. ثم يأتيك قديس -ممن يسمونهم قديسين- من الأحياء منهم، ويبدأ يتوسل به ويقرأ بعض الأشياء، ويأتي برجل كسيح، أو رجل أعمى، ويظهر ويقول أنا قد شفيت وهكذا، أشياء عجيبة جداً، إذا رآها الإنسان قد يشك في دينه والعياذ بالله، لولا أنه يعلم أن هذا باطل، وأنه كذب، وأنه من المخاريق، وأن فيه من عبث الشيطان الشيء الكثير، لكن المهم أن عندهم إخراج. مائة مليون دولار رصدت من أجل إنتاج أفلام دينية مأخوذة من سفر التكوين في هوليود، فالواحد منا لو تبرع بعشرة آلاف ريال لنشر شريط، يظن أنه عمل شيئاً كبيراً، ولا شك أنه عند الله كبير، لكن بالنسبة لعمل هؤلاء لا شيء. هذه جهود ضخمة جبارة هائلة، يراد بها اقتلاع هذا الدين من الوجود، فحقيقتنا حين نستقبل هذا الغزو، كمن يقول: اقتلوني واذبحوني واضربوني، وأكثر من ذلك ضراوة، هو مثل من يكون أغبى من ذلك فيطلب من أعدائه أن يطعموه، بكل جراثيم الإيدز، وأن ينقلوا إليه أي مرض، فهذا وأمثاله ينقلون هذه الأمراض الفكرية والأمراض الأخلاقية إلى أهلهم وإلى ذويهم. فما علينا جميعاً إلا أن نحيي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الواجب الذي يكون الحمل الأكبر فيه على العلماء ثم على طلاب العلم، وعلى الخطباء وعلى الأئمة، أن يحذروا الناس من ذلك قبل أن تقع الكارثة وقد بدأت مع الأسف. فما علينا إلا توسيع الدعوة حتى تكون عامة، وأن نركز على الشباب؛ لأنهم أمل هذه الأمة وأن نشغل أوقاتهم عن طريق وسائل عدة منها: المراكز، وحلقات التحفيظ، وانتقاء المدرسين الصالحين، والمناهج الطيبة، ونشر الوسائل الإعلامية الطيبة، فهذه وغيرها لا تنقص هذه الأمة فلدينا والحمد لله وسائل طيبة.

حال من أيقن بالشهادة وهو تارك لركن من أركان الإسلام

حال من أيقن بالشهادة وهو تارك لركن من أركان الإسلام السؤال: فضيلة الشيخ لقد قلت في حديثك أن {من شهد أن لا إله إلا الله موقناً حرم على النار} وهو حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يعاقب إذن إذا كان تاركاً أحد أركان الإسلام وواحداً من الواجبات الأخرى؟ الجواب: إذا ترك الصلاة وإن كان قد قال لا إله إلا الله مثلاً فهو كافر، ولا يشمله ذلك، فالمقصود من وصل إلى حالة اليقين، واليقين كما ذكرنا يثمر لصاحبه الاستقامة، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالذين يحرمون على النار هم الطائفة الذين عصمهم الله تبارك وتعالى لما أعطاهم من اليقين، فلم يرتكبوا ما يوجب دخولهم النار، فاستحقوا بذلك الجنة، وإذا فعلوا ما يوجب أو ما يستحقون به النار، فإما أن تشملهم رحمة الله وشفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأيضاً هؤلاء طائفة لا يدخلون النار وإن كانوا في الأصل من أهلها، وإما أن يدخلوا النار فمن دخل النار علمنا أنه لم يكن من أهل اليقين، ولا من أهل الإخلاص، الذين وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يدخلهم النار.

الإنكار يزيد الإيمان واليقين

الإنكار يزيد الإيمان واليقين السؤال: إنا نحبكم في الله ونسأل الله أن يجمعنا وإياكم في الفردوس الأعلى، ونرجو من فضيلتكم توضيح لنا هذا الأمر وهو: أنه يوجد في أحيائنا بعض المنكرات فنخشى أن ننكر هذه المنكرات فيضعف علينا الإيمان من كثرتها، فتقع هذه المنكرات، ونخشى أن لا ننكرها فنأثم؟ الجواب: لا أظن أن الذي ينكر المنكرات يضعف إيمانه، إلا إن كان قصد الأخ -مثلاً- لو كان شاباً في قوة الشهوة والشباب، والمنكر الذي ينكره -مثلاً- هو أن يذهب إلى بيوت للفساد، أو بعض المتعرين أو المتبرجات، وينصحهم ويكلمهم، فهذه الحالات عارضة. أما الأصل فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزيد الإيمان ويزيد اليقين، وبركاته وثمراته عجيبة، ورب رجل وُعظ أو نُهي عن منكر بكلمة فهداه الله تبارك وتعالى وأنت تشعر أو لا تشعر، فهذه نعمة عظيمة، ولكن إن كان في إنكار المنكر مفسدة فعليك اجتنابه. ويقول شَيْخ الإِسْلامِ: إذا ترتب على إنكار المنكر مفسدة عظيمة فإنك لا تنكر هذا المنكر. كما لو رأيت امرأة متبرجة ولا تأمن على نفسك الفتنة إن كلمتها، فلا تكلمها أنت، ولكن يمكن أن يكلمها من كان شيخاً كبيراً مسناً، ويأمن على نفسه من الوقوع في الفتنة وأشباه ذلك.

مشكلة تواجه الشباب

مشكلة تواجه الشباب Q مشكلة تواجه الشباب، وهي: أن الواحد منا عندما يكون بين إخوانه يشعر بزيادة الإيمان، وعندما يكون وحده أو في بيته، ويصبح لوحده يضعف عنده الإيمان، وقد يرجع إلى المعاصي ومنها العادة السرية وغير ذلك، فما هو الحل لعلاج مثل هذه المشكلة؟ A كما ذكرنا سابقاً أن هذا شأن جبلي طبيعي في النفوس أنها لا تثبت على حالة واحدة من الإيمان ومن اليقين، بل يكون الإنسان مع إخوانه أقوى منه على انفراده كما في حديث حنظلة، لما قال: نافق حنظلة، عندما {مر بـ أبي بكر وهو يبكي فقال مالك يا حنظلة قال: نافق حنظلة قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيراً قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا فلما رآه رسول الله قال: مالك يا حنظلة، قال: نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيراً}، فهذه نفس الحالة هذه، والحل في مثل هذا أن يستديم الإنسان رقابة الله تبارك وتعالى عليه: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب وأن يعلم أن الله سبحانه مطلع على كل أحواله وهو معه أين ما كان، وأن يحاول أن يحافظ على هذا الإيمان بقدر الإمكان، وأن يحافظ على حلق الذكر، وأن يلتقي بالإخوان دائماً لأنه كلما يلتقي بهم يزداد إيمانه، ولا شك أنه كلما كان معهم فهو أبعد عن المعصية، وهذا من فوائد صحبة الأخيار.

حكم تعلم علم النفس وعدم اليقين به

حكم تعلم علم النفس وعدم اليقين به Q ما حكم تعلم علم النفس وعدم اليقين بكل ما فيه، وما هو رأيك في علم النفس؟ A هو باسمه وبشكله الحالي الموجود المنقول عن الغرب يؤدي ولا شك إلى الانحراف والضلال؛ لأن الذين كتبوه ودونوه لا يؤمنون بالله، أو لا يؤمنون بالغيب، أو لا يؤمنون بالروح التي هي حقيقة هذا الإنسان، وإنما تكلموا عن النفس على أنها أشبه ما يكون بأي نشاط من الأنشطة العضوية، فهؤلاء قوم لا يؤمنون بما وراء هذه المادة، وما وراء هذه الأعضاء، ولذلك نظرياتهم كنظرية بافلوف ونظرية، فرويد طبق في التحليل النفسي على الأمراض، مثلاً: بافلوف طبق على الكلاب، وغيره طبق على الفئران، فهم يعتبرون الإنسان حيواناً ويعتبرونه مادة، هذا خلاصة ما يمكن أن نوجز به حال هذا العلم الغربي. أما من الناحية الإسلامية فكل كلام تكلم به السلف في أحوال القلب والإيمان والنفس وتزكيتها، فهو من علم النفس الإسلامي، إن سمي أو لم يسم، فكتاب الجواب الكافي، وكتاب مدارج السالكين، وكتاب إغاثة اللهفان، وغيرها من الكتب، هذه في علم النفس الإسلامي، وقد كتب علماؤنا في هذه الأبواب ما لا يمكن أن يتخيله علماء الغرب فضلاً عن أن يكتبوه؛ لأن أولئك لم يستضيئوا بنور الوحي، ومدارسنا الآن تحتاج إلى أن يكتب لها علم نفس إسلامي، مأخوذ من مشكاة الوحي ومنهج السلف الصالح.

العلاقة بين الإحسان واليقين

العلاقة بين الإحسان واليقين Q هل اليقين أحد مراتب الدين، وهل هو أعلى من الإحسان، وما رأيكم في الذين يقولون: إنهم يقتنون أجهزة البث المباشر لمتابعة الأخبار؟ A أما بالنسبة لمتابعة الأخبار فباختصار، إذا تابعنا ماذا نستفيد، وحتى لو تابعنا حتى لو رأينا ما هي الثمرة؟ أما من ناحية اليقين، فهو من أعمال القلب، وعلاقته بالإحسان كما ذكرنا، فالمحسن موقن والموقن محسن، لكن هذا أحد أعمال القلب التي هي أعمال باطنة , والإحسان يشمل الأعمال الباطنة والظاهرة، أما الأعمال الظاهرة الصالحة فهي من لوازم اليقين، وثمراته. فنحن في مجتمع -الحمد لله- فيه خير وفيه فضائل وفيه قبول، كيف لو كنا في مثل ما فيه إخواننا في الجزائر -مثلاً- كيف كانت حالهم مع فرنسا من الاضطهاد ومسخ اللغة العربية، وإلغاء المناهج الدينية، وأحكام كلها قوانين وضعية، وانحلال وانحطاط واختلاط في المدارس، وكانت الحكومة التي خلّفها الاستعمار مثله، فهذا ما ربوا عليه الناس، كفر صراح بواح لا مكان فيه للإسلام، إلا في المساجد، فلو استيأس الدعاة إلى الله، ما حققوا شيئاً، ولكنهم قاموا وتحركوا وخطبوا وتكلموا ووعظوا وإذا بهذه الأمة سبحان الله يعتقل الصف الأول وجميع أئمة المساجد، فيأتي مكانهم الخطباء ويعتقل الخطباء، فيأتي خطباء، بل هم أكثر السجناء، فيهم أكثر من ستين ألفاً، ومع ذلك المساجد فيها الخطباء والدعاة والحمد لله. سبحان الله! كيف تفجر هذا الإيمان وهذه القوة الحمد لله قام من قام، ودعا من دعا، وصبر وصمد وتحمل الأذى، فكانت خلفه أمة والحمد لله، فنحن نحتاج إلى هؤلاء الرجال المؤمنين الأقوياء، الذين لا يخشون في الله لومة لائم، والذين يدعون إلى الله سبحانه على هدى وعلى بصيرة، ويضحون بالغالي والنفيس في سبيل إقامة هذا الدين، فلِمَ لا تكن من هؤلاء وإن لم: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح اختر لنفسك طريقاً من الآن، فلتكن مجاهداً، أو فلتكن داعية، أو فلتكن عالماً، أو فلتكن آمراً بالمعروف، وما يمكن أن يكون من سبل الخير، من الآن ابدأ وستجد -بإذن الله- أن بإمكانك أن تحقق الكثير، وأن تنتج الكثير وأن الله سبحانه سيبارك في جهودك وينصرك بإذن الله، وإذا كنت أنت والآخر، وتعاون الجميع وجدت الأمة التي ينصرها الله، كما أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم}، وفي رواية قال: {يقاتلون في سبيل الله حتى يأتي أمر الله}، وهو قيام الساعة والريح التي تخرج بين يدي الساعة.

من أعمال القلوب: (المحبة)

من أعمال القلوب: (المحبة) في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله عن عمل من أعمال القلوب ألا وهو المحبة، وبيِّن معنى المحبة وعلاقتها بالإيمان والعبادة، وأن العبادة لا تتحقق إلا بأمرين هما: كمال المحبة مع كمال الخضوع، ثم بين منزلة المحبة عند المؤمن والمنافق، وما ينتج عنها من ثمار.

علاقة المحبة بالإيمان والعبادة

علاقة المحبة بالإيمان والعبادة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وحبيبه وخليله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد: حديثنا في هذا الموضوع هو عن عمل من أعمال القلب، بل هو من أعظمها شأناً وأهمية، وهذا العمل هو: المحبة، والمحبة عمل عظيم، فهي -كما سنبين إن شاء الله تعالى- مما يجب على كل مؤمن أن يعتني بها، وأن يعرف حقيقتها، وأن يحققها لرب العالمين تبارك وتعالى كما شرع لنا وعلمنا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمحبة لها علاقة عظيمة ووثيقة بالإيمان وبالعبادة. فأما علاقتها بالإيمان، فإن أصل الموضوع هو الحديث عن أعمال القلب، وعمل القلب جزء من الإيمان، الذي هو عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل، فالقول قولان والعمل عملان. وإذا أردنا أن نحدد كما حدده شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- في رسالته القيمة النافعة التحفة العراقية في الأعمال القلبية، فإننا نقول: إن هذا الدين الذي هو قول وعمل لكل قسم من قسميه أصل عظيم هو الأساس الذي يقوم عليه. فأما الأقوال فأصلها وأساسها هو الصدق: العمل القلبي الذي ترجع إليه كل الأقوال، ويدخل في كل الأقوال. وأما المحبة فهي العمل القلبي الذي ترجع إليه كل الأعمال، ويدخل في كل الأعمال والطاعات. إذاً: عرفنا بهذا أهمية هذين العملين، وهما: الصدق والمحبة، اللذان هما من أعمال القلب، وعرفنا أيضاً علاقتهما بالإيمان، فالصدق: أصل كل الأقوال، والمحبة: أصل كل الأعمال. وأما العبادة كما عرفها شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- في كتاب العبودية فقال: 'هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة'. فالعبادة هي الدين كله، فكل ما أمر الله تبارك وتعالى به، فعملنا وامتثالنا به فإنه عبادة، وكل ما حذرنا الله تبارك وتعالى ونهانا عنه، فالتزامنا بتركه، ووقوعنا عند حدوده فإنه عبادة، فالعبادة تشمل هذه الأعمال جميعاً. والعبادة هي الغرض وهي الحكمة التي خلق لها الثقلان، وهي التي طلبها الله تبارك وتعالى وأرادها من خلقه أجمعين، وهي التي بعث بها أنبيائه ورسله أجمعين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وكما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].

المحبة هي غاية العبادة

المحبة هي غاية العبادة فإذا علمنا أن الحكمة من خلق الثقلين هي العبادة؛ فلنعلم أن العبادة هي تأليه الله تبارك وتعالى، وإذا رجعنا للاشتقاق اللغوي لهذه الكلمة فإن المحبة: هي تأليه الله، ولذلك نحن نقول (لا إله إلا الله) مقرين وشاهدين على أننا لا نعبد إلا الله. ولذلك فإن حقيقة لا إله إلا الله -كما جاءت في بعض الآيات وبعض الأحاديث- هي: أن لا يعبد إلا الله كما في آية الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فهذه الكلمة هي بمعنى الآية الأخرى التي قال الله تعالى فيها: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فالمعنى واحد. ولذلك فإن الرسل الذين قال كل واحد منهم لقومه: (لا إله إلا الله) ودعاهم إليها، هم الذين قالوا لأقوامهم {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:26] و {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] كما ورد ذلك في قصص الأنبياء، كنوح وهود وشعيب وصالح وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فإذا كانت حقيقة العبادة هي التأله، فإن المحبة هي غاية التأله، أو بمعنى آخر: إن المحبة في اللغة إذا اشتدت وغلا فيها صاحبها، أو عظمت عند صاحبها وارتقت فإنها تصبح ولهاً، ويصبح المحب الذي يحب محبة عظيمة بشغف وشوق شديد ولهاناً، ويقال له: (ولِه، وَوَاله، وولهان) من هنا فإن الوله هو: شدة المحبة، والتأله لله تبارك وتعالى هو: شدة محبة الله، ومحبة ما جاء من عند الله تبارك وتعالى. فإذا قيل في اللغة: فلان يتأله؛ فإن معنى ذلك أنه يتحبب إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الله تبارك وتعالى محبةً عظيمةً.

تحقق العبادة يكون بأمرين مهمين

تحقق العبادة يكون بأمرين مهمين المحبة الشرعية لها علاقة بالعبادة من جهة أخرى، وذلك أن التعبد والتأله لا بد أن يجتمع فيه أمران هما: كمال المحبة مع كمال الذل والخضوع، فالعابد الذي يعبد الله تبارك وتعالى لا بد أن يجمع بين هذين الأمرين. وإذا تجردت المحبة عن الخضوع والذل أصبحت العبادة دعوى لا قيمة لها، وهذا ما أخطأ فيه الصوفية وأمثالهم ممن ادعوا محبة الله ولكنهم لم يأتمروا بأمر الله، ولم يخضعوا لسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحكّموها في أقوالهم، وأعمالهم، وعباداتهم. وإذا أصبحت العبادة ذلاًَ وتجردت عن المحبة، أصبح العابد يعبد معبوده وهو لا يحبه، فعندها تتحول المحبة إلى بغضٍ وكراهيةٍ، ويصبح العابد هذا مكْرَهاًَ، ففي هذه الحالتين لا يقبل الله تبارك وتعالى هذه العبادة. فلا بد إذن من اجتماع الأمرين في العبادة: المحبة من جهة، والخضوع والذل من جهة أخرى. وبهذا نكون قد علمنا ارتباط المحبة بحقيقة الإيمان وارتباطها كذلك بالعبادة وبالتأله لله عز وجل، فإن هذا يقودنا إلى أن المحبة هي أصل كل الأعمال، وهي ركن لا بد منه في كل عبادة. فمعنى ذلك أن المحبة تدخل في كل عمل من أعمالك التي تعملها، فإن ذكرت الله تبارك وتعالى، أو صليت، أو صمت، أو قرأت القرآن، أو حججت، أو اعتمرت، أو تصدقت، أو أي عمل عملته فلا بد أن يكون ركن المحبة، وعنصر المحبة متوفراً فيه، وهذا هو الفرق بين المؤمن والمنافق.

المحبة بين المؤمن والمنافق

المحبة بين المؤمن والمنافق الفرق بين المؤمن والمنافق هو: أن المنافق حاله كما أخبر الله تبارك وتعالى عنه بقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] فلم ينفعهم ذلك؛ لأنهم آمنوا كرهاً لكي تنجوا رقابهم من السيف، كما أنهم إذا خرجوا مع المؤمنين إلى الجهاد يخرجون وهم كارهون له، بل هم كارهون لنصر الله، ولا يريدون أن ينصر الله هذا الدين، وأيضاً {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] لأنهم يكرهون الصلاة، وهذا التثاقل منهم عن العبادة نتج لما في قلوبهم من الكراهية وعدم المحبة، وإلا فإن الذي تحبه مهما كنت متعباً، أو مجهداً، أو مرهقاً، فإنك تبادر إليه وتقوم وتنطلق وتسعى، وتنسى كل ما كنت تشعر به من تعب، فهكذا فطر الله القلوب والنفوس. أما المنافقون فلو نام أحدهم الليل كله، وكان في غاية الراحة البدنية، ثم دعي إلى الصلاة، فإنه لا يؤديها إلا وهو كسلان -والعياذ بالله- ويجدها ثقيلة على قلبه، وإذا دخل المسجد فهو كالطير المحبوس في القفص، لأنه لا يحب المسجد ولا الصلاة ولا ذكر الله تبارك وتعالى. أما المؤمن فهو بعكس ذلك، فالمؤمن يحب الله تبارك وتعالى ويحب طاعته، ويحب أن يقرأ القرآن ويجد في قراءته من الحلاوة واللذة والمتعة ما ينسيه أعظم الهموم، ويجلي أحزانه، ويشرح صدره، ويثلج خاطره، وكما أن حبه للصلاة تدفع عنه همه، وغمه، وألمه، ولذلك تجد قلبه معلقاً بالمساجد، كما جاء في حديث من يظلهم الله تبارك وتعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: {ورجل قلبه معلق بالمساجد} وذلك من محبة المؤمنين لطاعة الله، فإذا ذهب هذا المؤمن أو سافر إلى أي مكان، فإن أول شيء، وأهم شيء يسأل عنه، هو: سؤاله عن مكان المسجد والعالم والمكتبة؛ لكي يستفيد منها علماً يقربه من الله تبارك وتعالى، فهذا قلبه معلق بالمساجد، ومحبته تابعة لطاعة الله، ولعبودية الله، ولرضى الله تعالى، فحيث ما كانت فإنه يتبعها ويتجه إليها. أما أولئك المنافقون فإن صدورهم تنشرح باللهو واللعب ولأماكنها، ولو أن أحدهم ظل الليل كله يغني ويطرب، ويهتز، ويرقص لما تعب ولا تألم، فإذا قيل له: الصلاة الصلاة ولو كانت ركعتين ثقلت عليه وكأنه يحمل على ظهره أشد ما تكون الأثقال والأحمال، نسأل الله العفو والعافية، فهذا حالهم في الصلاة. وأما حالهم في النفقة فإنهم كما قال الله تعالى عنهم: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] فيدفع الواحد منهم ويستلذ أن يدفع في الشر والفجور، وفي مقاومة الخير الشيء الكثير؛ ولذلك لما بنوا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجد الضرار، فقد كلفهم ذلك البناء نفقة وجهداً، لأنه لا بد في أي عمل من الأعمال من نفقة وتكاليف، ولكنهم استحبوا هذا العمل، ووجدوا أنه لا حرج فيه ولا غضاضة. فحالهم كحال كثير من الناس اليوم -والعياذ بالله- ينفق ما ينفق على نوادي اللهو، واللعب والكرة، وعن كل ما هو مبعد عن طاعة الله تبارك وتعالى، لكن إذا قيل له أن يفعل عملاً خيرياً كأن يطبع كتاباً، أو ينفق لطباعة كتاب يعلم بعض المسلمين دينهم، أو أن يتصدق على الفقراء في أنحاء العالم الإسلامي -وما أكثر الفقراء اليوم- أو أن يشارك في إتمام بناء مسجد وبمبلغ أقل مما يدفع في الشر، فإنه لا ينفق إلا إذا كان للدين قوةً، أو كان للذي كلمه هيبة لديه، فإنه ينفق وهو كاره -والعياذ بالله- فهو لا يحب الطاعة ولا يريدها. فلهذا فإن الله تعالى لا يقبل منهم نفقاتهم أو صدقاتهم؛ لأن أساس القبول هو: المحبة، فمن كان راغباً فيما عند الله تبارك وتعالى محباً له، فمهما قل عمله، ومهما قلت نفقته، فإنها كثيرة عند الله عز وجل؛ لأن المطلوب من العبد أن يتعبد الله بما يستطيع، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. وفي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعض الصحابة يأتي بعذق من الرطب للتصدق به، وربما يكون العذق حشفاً أو قريباً من الحشف؛ لكنه لا يملك إلا ذلك، فإن الله تبارك وتعالى يأجره عليه كمثل الذي يملك ذهباً وتصدق به، فهذا تصدق بما يملك وذاك تصدق بما يملك. أما المنافقون فإنهم -كما ذكرهم الله- ينفقون وهم كارهون، ومع ذلك يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ويلمزون الذين لا يجدون إلا وسعهم، فيقولون: هذا الذي لم يأت إلا بهذا العذق الرديء، لو لم يأت به لكان خيراً. كما يقول كثير من الناس اليوم: إن كانت الدعوة هكذا فإننا لا نريدها، وإن كانت الموعظة بهذه الطريقة فلا تتعب نفسك، وإن كان المركز بهذا الشكل؛ فلا تتعبوا أنفسكم، مع أنك قدمت ما في وسعك، لكن غرضهم ليس أنهم يريدون الأفضل، ولكن الغرض هو: الطعن، واللمز، والهمز الذي هو من أعظم صفات المنافقين لأنهم يكرهون الطاعة، ويكرهون من يعمل لطاعة الله تبارك وتعالى.

المحبة بين المؤمن والمشرك والكافر

المحبة بين المؤمن والمشرك والكافر إن محبة الله كما أنه يفترق فيها المؤمن عن المنافق -كما ذكرنا- فكذلك يفترق فيها المؤمن والمشرك والكافر، والله تبارك وتعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]. الكل يقول: إنه محب لله، لكن المشركين خلطوا محبة الله بمحبة آلهتهم، ولذلك فالمؤمنون أشدُّ حباً لله من محبة الكافرين لله ولآلهتهم، فإن كانوا -كما يدَّعون- يحبون الله، فإنهم لا يعيبونه إذ ليس في إمكان أي متأله أن يقول: إنني لا أحب الله، فكل متأله يزعم أنه يحب الله وإن كان مشركاً، فالمشركون الأولون يقولون: نحن نحب الله، والمشركون المعاصرون في هذا الزمن يدّعون ذلك أيضاً. لكن هناك فرق بين المحبة الإيمانية، وبين تلك المحبة التي شابها وخالطها الشرك فأبطل عمل صاحبها. ثم إنه من خلال المحبة، والتعظيم، والإجلال، والطاعة، والتشريع وقع الناس في الشرك، كما ذكر ووضح ذلك ابن القيم رحمه الله في المدارج، فالذين أشركوا بالله تبارك وتعالى قديماً لم يشركوا به في ربوبيته، ولم يجعلوا خالقاً آخر غير الله خلق كخلقه أو خلق معه، أو يجعلون رازقاً يرزقهم من دونه أو معه، أو مدبراً يدبر الأمر كما قال تعالى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] فهم يقرون لله بهذا، وإنما كان شركهم وعدلهم وتسويتهم في المحبة بين الله وخلقه، والإجلال، والتعظيم، والطاعة، والتشريع لغيره، كما يدل على ذلك القرآن في قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فلما اتبعوا غيره وأطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فهم بذلك جعلوهم أرباباً من دون الله.

الشرك في المحبة

الشرك في المحبة من خلال ما سبق يتبين لنا أن الشرك في المحبة شرك عظيم، وأصل عبادة كل معبود هي محبته، فالذين عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، والذين أحبوا المعبودات والمألوهات من دون الله تبارك وتعالى إنما غلوا في محبتهم تلك فعبدوهم. فهذه المحبة إن كانت للصالحين فهي غلو، وإن كانت للأحجار وما أشبهها فتعتبر صرفاً لما لا يجوز أن تصرف له تلك المحبة، وصرفٌ لعبادة الواجب فيها أن تكون خالصة لله تبارك وتعالى، ومن صرفها لغير الله عز وجل فقد وقع في الشرك، ووقع في العدل، ووقعت التسوية، وسيندمون على ذلك يوم القيامة ويقولون: {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] وهو العدل الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يساوون به غيره في هذا الأمر. والعبادات منها ما هو حق خالص لله ومنها ما هو حق للمخلوقين، فأما ما هو حق خالص لله تبارك وتعالى فهي نوع لا يشترك فيها أحد مع الله، ويحرم أن يشرك بالله فيها كما قال عز وجل في -الحديث القدسي-: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملاً أشرك معي فيه غيري؛ فهو للذي أشرك} وفي الرواية الأخرى: {تركته وشركه} هذا ما كان حقاً لله من العبادات. وأما ما هو حق للمخلوقين من العبادات فمنها بر الوالدين، والإحسان للجار، والفقراء وما أشبه ذلك، من حقوق المسلم فهذه تدخلها المحبة، وهي من حق المسلم على المسلم، وكما يجب عليك أن تحب المؤمنين فيجب عليك أن تبغض الكافرين. فإذاً: نجد أن المحبة تدخل في كل أنواع العبادات، وسنركز على النوع الخالص والخاص بالله تبارك وتعالى، فهذا النوع كلما كمل العبد فيه كان ذلك أرقى، وكلما اجتهد في تحقيقه كان أكمل وأعظم درجة، ولذلك فإن من أعظم الناس محبة لله تبارك وتعالى هو الذي كمل في المحبة حتى بلغ الدرجة العليا من العبودية لله عز وجل.

أكمل الناس في المحبة

أكمل الناس في المحبة وأكمل الناس محبة لله عز وجل هم الأنبياء وأفضل الأنبياء في ذلك الخليلان: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، ولذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً} أي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتخذ من أمته خليلاً، مع شدة محبته لـ أبي بكر ولـ عائشة رضي الله تعالى عنها، من أجل أن تكون خلته لله وحده، فهو خليل الرحمن، كما أن إبراهيم خليله صلوات الله وسلامه عليهما، ولذلك كانت أعمال الخليلين، وحياة الخليلين شاهدة على كمال الخُلّة التي حققاها. فهذا إبراهيم عليه السلام عندما ابتلاه الله بأن يترك ابنه وزوجته في صحراء مكة القاحلة، بواد غير ذي زرع، وأمر أن يذهب ويرجع إلى بلاد الشام ولا يترك معهما شيئاً وأن يوكلها إلى الله، وأيقن بذلك، وذهب وتركهما. ثم لما ابتلي بأكثر من ذلك؛ بأن يذبح ابنه إسماعيل حقق ذلك، فأضجعه وتله للجبين، ولولا أن الله تبارك وتعالى فداه بالذبح العظيم لذبح ابنه، لأن قلبه قد تجرد عن كل محبة تخالف محبة الله تبارك وتعالى، وأصبح خليلاً للرحمن، والخليل لا يمكن أن يخالف أمر خليله أبداً، بل يأتمر بأمره ويطيعه في كل شيء وفي كل أمر.

الاتباع هو من كمال المحبة

الاتباع هو من كمال المحبة ولهذا ربط الله تبارك وتعالى بين المحبة والاتباع كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] فحقيقة المحبة، أن يتبع العبد ما أنزل الله، وأن يتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يتبع ما شرع الله وما أمر به ولا يخرج عن شيء من ذلك أبداًَ، فإن تمسك بهذا ترقى به في مدارج العبودية، وهو الذي يتحقق به كمال العبودية وبالتالي كمال المحبة. ولذلك لما كان أعظم وأشق أنواع العبادات هو الجهاد اقترن بالمحبة؛ لأنك إن كنت تحبه فلا بد أن تجاهد في سبيله، وتضحي بالغالي والنفيس من أجله، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24]. فهنا قارن الله بين المحبتين، فإما أن تكون هذه أحب أو تلك وهذا حال أكثر الناس مع الأسف الشديد محبة الأبناء والأزواج والعشيرة والأموال والمساكن والدنيا والأراضي والشركات والمؤسسات، وكل ما هو من زينة الحياة الدنيا. فإن كانت هذه أحب إليك من الله ورسوله وجهاد في سبيله، والجهاد: خصه الله من بين سائر العبادات لأنه أشق العبادات، وهو الغاية قال: {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24] فإن حدتم عنها {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وهذا وعيد من الله تبارك وتعالى، فإما أن يسلط الله عز وجل الذل على المؤمنين، كما جاء في الحديث {إذا تبايعتم بالعينة، واشتغلتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} وإما أن ينزل علينا عقوباته السماوية، وإما أن يعاقب من فعل ذلك بتسليط بعض خلقه عليه، فهو يعاقب كما يشاء وكيف يشاء.

من صفات عباد الله أنه يحبهم ويحبونه

من صفات عباد الله أنه يحبهم ويحبونه قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فهذا الصفة العظيمة أول ما ذكر {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فجمع بين المحبة وبين الجهاد في سبيل الله، ولذلك جعل الله هذه المحبة متبادلة {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فهذا دليل على أنه اصطفاهم واختارهم من بين خلقه، وإلا فهو تعالى يخلق ما يشاء، فكل هذا الكون بيده، والكل في ملكه وفي سلطانه عز وجل، وكل ما ترى أعيننا من خلائق فهي مسبحة بحمده كما أخبر به الله بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، ومع ذلك فقد اختار هؤلاء ليحبهم وليحبوه عز وجل. فهو الودود، والمؤمنون يودونه، هو يُحِب ويُحَب -وهو القول الذي لا يجوز الذهاب إلى سواه- وهذا قول أهل السنة والجماعة بخلاف من أنكر ذلك من غلاظ القلوب والأكباد من الجهمية وأمثالهم من المؤولين كـ الأشعرية الذين ينكرون أن الله يحب أو يحب. يحبهم ويحبونه هذا أول الأمر، علاقة مع الله تبارك وتعالى، أما في العلاقة مع الخلق فتتصف أخلاقهم بالذل للمؤمنين والعزة على الكافرين، فهذه هي العلاقة الصحيحة التي هي صفة من يختاره الله جل وعلا، إذا ارتد الناس عن دينه فإنه يختار ويصطفي هؤلاء. أما المحب للكافرين والكاره للمؤمنين فهذا لا يمكن أن يصطفيه أو يختاره الله، بل هو من الهالكين، وممن يشمله الوعيد الذي في الآية السابقة من سورة التوبة. ثم يأتي من صفات أحباء الله أنهم يجاهدون في سبيله، لأنه من كمل محبته لله، وكمل ولاؤه للمؤمنين لا بد أن يجرد سيفه لمقاتلة أعداء الله عز وجل الذين يبغضون الله ويبغضهم الله تبارك وتعالى، والذين يبغضون المؤمنين ويبغضهم المؤمنون، ولا يخافون في الله لومة لائم، لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقولون كلمة الحق، ولو خافوا في الله لومة لائم ما قالوا الحق، وهذه سمة واضحة في كل من خاف الخلق في الله؛ أنه لا يقول كلمة الحق أبداً، لأن أهواء الناس تخالف ذلك الحق. فإن تكلم في الأخطاء والانحرافات والضلالات التي يقع فيها الحكام والسلاطين لم يرض عنه الحكام، وإن تكلم فيما يقع فيه التجار من المحرمات والمعاملات المحرمة وما أشبه ذلك، فهذا لن يرضى عنه التجار، وإن تكلم في ما يقع فيه طلاب العلم غضبوا عليه، وإن تكلم في أي طائفة من الناس ممن خالفوا أمر الله ودينه، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر فإن ذلك لا يعجبهم. ولذلك فالمؤمن من صفاته أنه لا يخاف في الله لومة لائم، فمن كانت هذه صفته فهو من المختارين، وهو البديل لمن يرتد عن دين الله تبارك وتعالى، ولا يقوم بحمل أمانة هذا الدين التي هي أعظم الأمانات وأثقلها إلا من كانت هذه صفته. ولذلك نعود إلى الأصل وهو اقتران الجهاد بالمحبة: فالمؤمن لا يبالي بمن يلومه ولا نقول: إن حقيقة الملام هي ما يسعى إليه المؤمنون، ولكن كل من عمل بتقوى الله وأحب الله وأحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأطاع الله واتقاه، وأحب المؤمنين وأبغض الكافرين فلا بد أن يتعرض لهذا اللوم. أما الذين سموا أنفسهم الملامتية من الصوفية وأشباههم ويقولون: نتعرض للوم لكي نهين أنفسنا، ولكي نرغمها، ويتظاهرون بالمعاصي أمام العامة حتى يهينوهم ويذلوهم، ويقولون: ندفع بذلك الرياء وأمثال ذلك من الأباطيل، فهذا انحراف عن منهج التربية والتزكية الذي شرعه لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر من الله، وهذا هو الملام المذموم، فهم مذمومون في أعمالهم وإن لحقهم اللوم فهو في محله. أما المؤمنون فإنهم بإخلاصهم في دين الله واجتهادهم في طاعة الله، لا بد أن يلاموا، لأنه لم يقم أحد بشيء من هذا الدين وعمل من أجله وجاهد عليه إلا تعرض للوم. والرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم قيل عنهم: هذا ساحر، وهذا شاعر، وهذا كاهن، وهذا كذاب، وقالوا عن القرآن: أساطير الأولين اكتتبها وأعانه عليه قوم آخرون، أشياء عظيمة قيلت فيهم، فلا بد أن يقع اللوم، فما على المؤمن إلا أن يستقيم على أمر الله؛ فإن وقع عليه من اللوم -وهو لا يطلبه- فليحمد الله الذي أعانه ووفقه للصبر والثبات لكي يكون ممن اختارهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

حقيقة المحبة وأثر تحقيقها

حقيقة المحبة وأثر تحقيقها المحبة لله يتفرع عنها محبة عظمى، وهي محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث المتفق عليه: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل قلبي عظيم، وقربة عظمى، فهي قرة عيون المؤمنين، فأما من رآه منهم فوالله ما يعدلون برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً في هذه الدنيا، وإن كانوا ممن لم يروه -كما هو حالنا- فوالله لا يرون أن شيئاً في هذه الدنيا يساوي أن يكونوا قد رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما أوتوا من متاعها، وإن أعظم ما يرجوه عند الله في الجنة أن يروا ربهم عز وجل، وأن يروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويكونوا رفقاءه في الجنة، فهذا غاية ما يسعى إليه كل مؤمن. ومن لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاهتداء بهديه والاقتداء بسنته، ومحبة ما أحب، وأعظم ما أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أحب الله، وأحب الجهاد، وأحب الأمر بالمعروف، وأحب النهي عن المنكر، وأحب الصلاة، وأحب المؤمنين، وأبغض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفر، والشرك، والنفاق، والكافرين، والمشركين، والمنافقين، والفجار، والكذابين، والظالمين، وهكذا. فإذا أحب الإنسان ما أحبه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبغض ما أبغضه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان الإنسان سائراً على درب المحبة وطريقها، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].

حقيقة المحبة لله

حقيقة المحبة لله جعل الله تعالى حقيقة محبته في اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم رتب على ذلك {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران:31] فرتب على اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحبهم الله، فإذاً: ليس الغرض أن يدعي أحد محبة الله، كما قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله هذه الآية، فهذه آية المحنة أو آية الامتحان، لأنها امتحان لهم في حقيقة المحبة. فليس الغرض فقط أن يدعي قوم أنهم يحبون الله، بل الغاية أن الله يحبهم، فلو أن أحداً ظن أنه يحب الله، ولكن الله لا يحبه فلن ينفعه ذلك أبداً! فانظر إلى عباد النصارى الذين حجروا على أنفسهم في الأديرة والصوامع، وحرموا ما أحل الله اعتقاداً وظناً منهم أنهم يفعلون ذلك قربة إلى الله، وأن الله يحبهم؛ ولكن لم ينفعهم ذلك، لأن الله لا يحبهم، فلذلك لم ينفعهم أي عمل، فالغرض من هذه العبادات حصول الثمرة وهو أن يحبهم الله، وليس أن يدّعوا هم محبة الله، فلهذا قال {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران:31] فإذا أحبك الله فهذه هي النعمة، وهذا هو الرضوان، وهذه هي البشرى، فأبشر بالجنة وأبشر بالخير، وبمحبة الناس لك في هذه الحياة الدنيا، فإن الله تبارك وتعالى كما ثبت في الحديث: {إذا أحب عبداً نادى جبريل -عليه السلام-: إني أحب فلان فأحبه، فيحبه جيريل عليه السلام، وينادي في أهل السماء: إن الله تبارك وتعالى يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض؛ فيحبه أهل الأرض} فهذا الفضل من الله لمن يحبه الله عز وجل. فنحن محتاجون إلى محبة الله لنا، أما دعوانا أننا نحب الله، فيمكن لكل كافر وزنديق وملحد وأي إنسان من بر أو فاجر أن يدعيها، لكن ما حقيقة ذلك وما دلالته؟!

المحبة لله ورسوله تكون في الاتباع

المحبة لله ورسوله تكون في الاتباع لا بد أن يعلم الإنسان أن المحبة في الحقيقة هي في الاتباع، ولا نقول: إن الاتباع يتجرد عن المحبة بمعناها القلبي، لأن المحبة القلبية هي من الاتباع، فما محبة الله ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا في الاتباع العام، والالتزام بسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثر لازمٌ وظاهرٌ لهذه المحبة التي هي عمل قلبي، فإن كانت المحبة صادقة فإن هذا يظهر في سلوك جوارح وأعمال المحب. وذلك بأن يحب العبد كل ما أحبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبغض كل ما أبغضه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتأسى به في كل عمل، وفي كل ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتقديم محبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غيره يثمر للعبد ثمرةً عظيمة ونعمة كبرى، لا تعادلها كنوز الدنيا جميعاً ولا ملذاتها، ألا وهي حلاوة الإيمان، جاء في الحديث {ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان} فالإيمان شيء وحلاوته شيء آخر، فكونك تجد حلاوة الإيمان وتعلم نعيمها، فإنه يهون أمامك كل شيء، وتشعر بأن هذه هي جنة الدنيا، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة' فبقدر تنعمك بحلاوة الإيمان في قلبك يكون تنعمك بالجنة بإذن الله. أما الذين أغلقت قلوبهم وحجبت، وطمست بالكفر والشهوات والشبهات في الدنيا عن ذكر الله ومحبته فهؤلاء هم أهل النار والعياذ بالله، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلاوة الإيمان: {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} فلا يقدم عليهما في المحبة أي شيء، وإن حدث تعارض بين مقتضى محبة الله مع مقتضى محبة الأهل أو النفس أو الزوجة أو غير ذلك من الأحباب والأخلاء والأصدقاء، فإنه يجب أن يقدم مقتضى محبة الله تبارك وتعالى على ذلك، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله} وهذا فرع عن الأول، لأن الناس لا بد لهم من علاقات فيما بينهم، على أن تكون هذه العلاقات بين الخلق مبنية على المحبة في الله، وهذا ما دلت عليه الآية {يحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. فكل الآيات والأحاديث في مدلولاتها وتطبيقاتها في منهج أهل السنة والجماعة تترابط دائماً وتدل على معنى وحقيقة واحدة. فمن ذاق طعم الإيمان، وذاق حلاوته، وأحب الله ورسوله، وقدم محبتهما على كل شيء، وأحب المرء أخاه ولم يحبه إلا لله خالصاً لوجهه الكريم، فإنه لا بد أن تثمر عنده: {وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار} فهذه هي الحالة الثالثة، وكما قد جرى لأصحاب الأخدود، وعذب أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما يفتن المؤمنون في كل زمان ومكان، ولا يرجعون عن دينهم أبداً، لأنهم ذاقوا حلاوة الإيمان. ولهذا يجعل الله تبارك وتعالى من الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: {رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه} لأن محبتهما تجردت عن أن تكون لهوى أو لشهوة أو لغرض مما يجتمع عليه الناس، وهذه هي المحبة التي تدوم عند الله تبارك وتعالى. أما ما عداها: فكل نسب، وكل علاقة، وكل صلة، وكل محبة يوم القيامة ليست لله عز وجل فهي مقطوعة، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاًَ على مودتهم في الحياة الدنيا {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فالمتقون أحباء في الدنيا وأحباء في الآخرة. ولهذا كما في حديث أنس في الصحيح أنه قال: لم يكن عند الصحابة أرجى من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {المرء مع من أحب} قالوا: هذا أرجى ما سمعنا، فنحن نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحب أبي بكر وعمر، ونرجوا أن نكون معهم. فمعنى كلامهم: إن لم نلحق بهم بأعمالنا فإننا نرجو أن نلحق بهم بمحبتنا لهم.

أثر محبة الله وأثر تحقيق المحبة

أثر محبة الله وأثر تحقيق المحبة أثر محبة الله وأثر تحقيق المحبة أنها: تثمر لصاحبها علواً ورفعةً في الدرجة، لم يكن ليصل إليها لولا هذه المحبة، إن قصر بك عمل الجوارح من أن تجاهد كجهادهم، أو أن تأمر بالمعروف كأمرهم، أو تتعبد كعبادتهم، فيجب أن تحبهم بقلبك، وأن تسأل الله تبارك وتعالى مرافقتهم، وأن تبغض من أبغضهم، وتعادي من عاداهم، وبذلك تصل -بإذن الله تبارك وتعالى- من الخير الكبير، وأن تصل إلى قربهم أو أن تدنو منهم، وهذا شرف عظيم، وفخر كبير، وغاية لو شمر لها العابدون والساعون الدهر كله لكانت مستحقة لذلك. فحقيقة المحبة إذاًَ هي ما قدمنا من حيث علاقتها بالإيمان، والعبادة حيث إن المحب على الحقيقة لا يقدم أمراً ولا نهياً، على أمر ونهي من يحبه وهو الله تبارك وتعالى، مما يثمر ذلك لديه الاستقامة في السر والعلانية، وفي كل شأن من شئون الحياة، واتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جُعل اتباعه امتحاناً لحقيقة المحبة وامتثالها. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن يحبهم الله ويحبونه، وممن يقيم هذه الأعمال وهذه الحقائق القلبية الإيمانية في نفسه وأهله ومجتمعه، ويدعو إلى ذلك، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

المحبة عند أهل الكلام وأهل التصوف

المحبة عند أهل الكلام وأهل التصوف Q اقتصرتم في ذكر أعمال القلوب عند أهل السنة والجماعة فهل من إشارة إلى هذه الأعمال عند بعض الفرق وإزالة شبههم التي قد غيرت أفكار كثير من الناس؟ A المحبة عند الصوفية أو الزنادقة -وهكذا سماهم السلف لأن كل من ادعى المحبة من غير تعبد واتباع للسنة فهو يسمى ويعدُّ زنديقاً- لها معنى آخر، فهناك منهجين مخالفين لـ أهل السنة والجماعة هما: أهل الكلام وأهل التصوف وكلاهما غلط وضل في حقيقة المحبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأما أهل الكلام فهم ينكرون أن الله تعالى يُحِب أو يُحَب، وهذا ضلال عظيم -والعياذ بالله- فهم غلاظ القلوب والأكباد، فكيف نتخيل أن يعبدوا الله وهم يعتقدون أنه لا يُحِب ولا يُحَب، وهم لا يحبون الله، وهذا من ضلالهم. أما ضلال الصوفية وهو الأشهر والأظهر، أنهم لم ينكروا المحبة بل صرفوها وصرفوا الأمة معهم عن حقيقتها، فأصبحت المحبة عندهم بالنسبة لله تبارك وتعالى هي أناشيد، فتراهم يأتون بشعر قيس مجنون ليلى. أو أي شعر في الديار أو في الأوطان أو في الغربة أو في غيرها، وينشدون ويغنون ويقولون: نحن نعني بذلك محبوبنا وهو الله، وليلى ليست هي المقصودة وإنما المقصود هنا هو ذات الله، تعالى الله وتبارك عن ذلك علواً كبيراً. فأصبحت جلساتهم وحضراتهم كلها من ذلك الغناء، ومن هذه الأناشيد, ومن هذا اللهو, واستحلوا تبعاً لذلك الرقص، والدف، وأنواع المزامير، فأصبحت جلساتهم هي جلسة غناء لا أكثر ولا أقل، إلا أنه غناء -كما يزعمون- للدين، وذاك غناء أهل الطرب للطرب، لكن الباعث والمحرك واحد وهو حظ النفس، نسأل الله العفو والعافية. وضلوا عن محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فزعموا أن من محبته أن تتحدث عنه عن مولده، وكيف كان، والعجائب في ذلك ضعيفها أو موضوعها أو صحيحها، ثم لا يذكر جهاده، ودعوته، وما دعا إليه، وإنما كله يتعلق بشخصه وببدنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فبعد أن يتحدثوا عن مولده ويعدون ذلك حباً، بل يسمونه أحياناً عشقاً -والعياذ بالله- ويتكلمون في ذلك ما ثبت عنه أيضاً وما لم يثبت، عن لونه، وشعره، وعينيه، صلوات الله وسلامه عليه، ويقتصرون على هذا الجانب ويخلطون الصحيح بالضعيف والموضوع. فهذه محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم، أما المؤمنون أهل السنة والجماعة فمحبتهم كما ألمحنا آنفاً.

نبذة عن رابعة العدوية

نبذة عن رابعة العدوية Q فضيلة الشيخ: عندما تذكر المحبة عند الصوفية تذكر رابعة العدوية نريد نبذة موجزة عنها وما موقفنا منها؟ A عندما تذكر رابعة التي يسميها البعض شهيدة الحب الإلهي، أو شهيدة العشق الإلهي، وكان هذا في القديم حيث كتب وقيل فيها ما قيل، ثم حديثاً عُمِلت الأفلام باسم رابعة العدوية والعياذ بالله. فالذي أراه في رابعة العدوية أن نقول فيها ما قاله أئمة الجرح والتعديل، حيث إن أبا داود -رحمه الله وهو تلميذ الإمام أحمد في الحديث وفي الجرح والتعديل- يقول عنها: 'ورابعة رابعتهم على الزندقة' أي: أن رابعة العدوية كانت، من ضلال العباد، الذين ضلوا في عبادتهم وخرجوا عن سنة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي كانت تزعم أن أمرها وشأنها كله محبة، فأسقطت الخوف والرجاء بالكلية، وعلقت نفسها بالمحبة، وامتنعت عما شرع الله تبارك وتعالى للنساء من الزواج وغيره، وتبتلت وترهبنت ترهب النصارى، وليس بالتبتل الذي شرعه الله تبارك وتعالى لعباده، فهي كما قال رحمه الله، فما ثبت وما صح وما يصح عندنا هو ما يقوله علماء الجرح والتعديل. أما ما يفتريه الصوفية وأمثالهم فهذا لا شأن لنا به، وإن كان فيما يذكرون عنها طوام، ومكفرات، وأنها عندما تقول: ' إنني لا أحب الجنة ولا أخاف النار وإنما أحب الله فقط ' وتقول: ' إن من أحب الله من أجل الجنة أو النار أو من اجتهد في العبادة لأجل الجنة والنار فهو أجير ' كما ينسب إليها، هذه الأبيات الشعرية التي تقول فيها: أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاك فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك إلى غير ذلك مما ينسب إليها، وهذا فيه انحراف وفيه ضلال ومنه ماهو كفر، كما ينسبون إليها أنها سمعت قارئاً يقرأ ويقول: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21 - 22] فقالت: ' يمنوننا باللحم وبالطير كأننا أطفال، وإنما الغرض المحبة'. انظر كيف تعترض حتى على ما جاء في القرآن، أما مسألة نعيم الجنة، فما يهم، والمهم هو المحبة، فهذه محبة عباد الهندوس وأمثالهم الذين يرون أن غاية العبودية هي الاتحاد في برهما، أو الفناء في برهما الذي هو الرب المعبود عندهم تعالى الله عما يصفون.

نوع التعامل مع الكفار

نوع التعامل مع الكفار Q من محبة الله البغض فيه والحب فيه، وبغض الكفار من محبة الله، فكيف يكون تعاملنا معهم إذا كانوا معنا في العمل، ونحتك بهم يومياً، وكيف يكون التسليم عليهم إذا رأيتهم؟ A هذه دائماً نُسأل عنها ولا بد أن نبدأ الأمور من جذورها. الأمر الأول: أنه لا يجوز أن يُدخَلَ الكفار إلى جزيرة العرب أو أن يقيموا فيها لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} فلا يجوز للحكومة، أو للشركات، أو للمؤسسات أن تتعاقد معهم، أو أن تعطيهم إقامة في جزيرة العرب وإذا كان لا بد اضطراراً فلأفراد معدودين وفي وقت محدد ولحالة طارئة، أما أن يستقدم الكافر، بل والعياذ بالله أن يشترط في بعض العقود كما في الهند والفلبين وغيرها أن تكون نسبة كذا من المسلمين ونسبة كذا من غير المسلمين، فهذا شرط باطل، والعمل بهذا الشرط مخالفة صريحة لما نهى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومخالفة لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخراجهم من جزيرة العرب وأن لا يجتمع فيها دينان، وهذا من ما لم ينسخ قط، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله وحذر وأوصى به في مرض موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنفذ ذلك خلفاؤه الراشدون، وما علمنا في تاريخ المسلمين، ولا في تاريخ الخلفاء الراشدين، ولا الأمويين، ولا العباسيين، ولا من بعدهم أن كفاراًَ استوطنوا جزيرة العرب وأقاموا فيها إلا مع قدوم الاستعمار الغربي الخبيث، وأول ما ابتدءوا في مناطق معينة في الخليج، وكان الذي يأتي منهم إلى جدة يكون في غاية الخوف، ثم لما فتح الله علينا بهذه النعمة، وامتحننا وابتلانا بهذه الثروة جئنا بهم واستسهلنا ذلك، وأصبح كأنه أمر لا حرج فيه -نسأل الله العفو والعافية- فهذه من الذنوب والكبائر التي قد توجب غضب الله، ونزول عقابه علينا، والناس يستهينون بهذا الذنب، فترى الخادمة، والعامل، والمحاسب، والمدير كفار، وفي كثير من الإدارات يولى الكفار على المسلمين، وهذا مناقض لما جاء في الآية السابقة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] فيجب أن تكون الذلة للكافرين من المؤمنين والعزة للمؤمنين، أما أن تكون الأمور بعكس ذلك، وأن يتسلط الكافر على المسلم، فهذا مما لا يرضي الله تبارك وتعالى أبداً. أما وقد ابتلينا بهم فما علينا إلا أن نتعامل معهم في ما من شأنه -إن شاء الله- أن يفتح قلوبهم للحق، فإن رأينا أن ذلك يجدي وينفع، فالمعاملة الحسنة مطلوبة من الإنسان، والعدل مطلوب منه حتى مع هؤلاء الذين هم كفار، والذين لا يجوز أن يؤتى بهم إلى هنا. لكن المعاملة الحسنة والاجتهاد في إتقان العمل، وغير ذلك من الأمور، التي يمكن أن يفتح الله بها قلوب بعضهم ليهتدوا فهذا أمر حسن. أما ما شرعه الله من ترك البدء بالسلام عليهم، واضطرارهم إلى أضيق الطريق، وترك أكلهم أو ذبائحهم خاصة إن لم يكونوا من أهل الكتاب، أو كانوا أهل كتاب لكن لم يذبحوها وغيرها من الأمور العملية، فهذه وإن كانت مشروعة في الأصل في أهل الذمة، -وأهل الذمة موضعهم بلاد الشام ومصر وأمثالهما إلا أن هذه الأحكام تسري هنا ما دام أنهم قد جاءوا إلى هنا، وإن كان الذين هنا ليسوا بأهل ذمة ولا ينطبق عليهم ذلك العقد.

الصبر ناتج عن المحبة وتال لها

الصبر ناتج عن المحبة وتالٍ لها Q فضيلة الشيخ، ذكرتم أن الذي يقوم إلى الصلاة ويحس بثقل في نفسه أنه ليس بمؤمن، ويكون فيه صفة من صفات المنافقين، ونعلم أن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة فهذا الذي يقوم إلى الصلاة ويجدها ثقيلة ألا يكون من الصبر على طاعة الله، ثم إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] فهذا القتال طاعة لله وعبادة، ومع ذلك هو كارهاً على نفوس المؤمنين، فكيف تكون المحبة شرطاً في العبادة؟ A هذا الأخ اختلط في ذهنه مقدمة العمل ونتيجته، فقد جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما رواه الإمام أحمد في المسند فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أسلم قال: أجدني كارهاً. قال: أسلم ولو كنت كارها} حتى لو كنت كاره فأرغم نفسك على الحق وقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإذا فعل ذلك فيجب أن يحب الإيمان، وأن يحب الصلاة، فالإنسان إذا كان متعباً مجهداً وهو يحبها، فإنه يقوم وهو راضٍ منشرح الصدر، ويصبر على هذا القيام الذي يقومه وهو متعب، فلا تعارض بين هذا وهذا، لأن الباعث والمقدمة للعمل هي المحبة، والصبر ينتج عن محبتك لهذا العمل وأن تصبر عليه وإن كان مؤلماً لأنك تحبه وتريده بقلبك، فالقتال كره، لكن حبك لهذا العمل يجعلك تصبر عليه، وحبك نابع من أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعه فتكون بذلك قد امتثلت أمر الله. فليس المقصود أن نجتث ما هو خلقيٌ جبلِّيٌ في نفوسنا من كراهية القيام، أو النهوض مع التعب، أو من كراهية الجهاد، أو من كراهية الإنفاق، فمثلاً ليس المقصود ألا ننفق ونحن نحب المال، فنحن نحب المال حباً جماً -كما ذكر الله ذلك- عن الجميع -لكن المؤمن يصبر على الطاعة بدافع محبة الله تبارك وتعالى، فينفق ويجاهد عن رغبة وليس عن كسل.

حكم حضور دورات تطويرية يتضمنها محرمات

حكم حضور دورات تطويرية يتضمنها محرمات Q فضيلة الشيخ: نحن نعمل في مطار جدة وأحياناً تعطى لنا دورات لتطوير مهارات في العمل، ويتخلل هذه الدورات أفلام فيديو أو غيره وبداخل هذا الفيلم موسيقى وصور نساء، فهل يجوز لنا أن نحضر هذه الدورات التي بداخلها من ما لا يحبه الله ورسوله علماً بأن هذه الدورات مهمة في الترقيات؟ A الأمر في مثل هذه الأمور دائر بين المصلحة والمفسدة، والقاعدة فيه ما الراجح: هل المصلحة أم المفسدة؟ فإن كانت المصلحة أرجح بأن نستفيد من علوم هؤلاء الكفار، لكي تترقى لتحل محل واحد منهم، ثم تعلم أنك بعد ذلك تصبح مدرباً وتعلم المسلمين وأن تبعد هذا المنكر وما أشبه ذلك، فيجوز لك أن تحضر وتغض النظر عن الصورة المحرمة، وأيضاًَ تقفل سمعك عن المسموع المحرم من موسيقى أو كلام لا يليق. وأما إن كانت المفسدة فيها أرجح وأعظم، فهذا مما يجب على الإنسان أن يتركه، وأن يحتسب ذلك عند الله تبارك وتعالى.

معايشة الروافض

معايشة الروافض Q فضيلة الشيخ: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، نحن طلبة في الكلية التقنية بـ جدة ونسكن في السكن الداخلي، ويسكن معنا رافضة وإمامية وهم يصلون معنا في مسجد الكلية، فهل صلاتهم معنا في هذا المسجد جائزة، وهل هم كفار، وجزاكم الله خيراً؟ A إذا أظهروا شعائر الدين وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا فهذا حسن، ونحن نكلهم إلى الله تبارك وتعالى في بواطنهم، وإن لم يظهروا عقائدهم وعملوا هذا العمل، فهذا أمر مطلوب، وهذا الذي نريده منهم. هذا غاية ما نريده نحن في الدنيا، أما قلوبهم وبواطنهم فهي عند الله، فعلينا بعد ذلك أن نُذكّر وننصح على سبيل العموم في ما يتعلق بالتحذير من الشرك، وفي التحذير من الطعن والنيل من الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - وأمثال ذلك مما نعلم أنه من عقائدهم، فلعل الله أن يصلح قلوبهم، وإلا نكون قد أقمنا الحجة عليهم.

حكم من يدعي التجديد في الدين

حكم من يدعي التجديد في الدين Q فضيلة الشيخ: هناك من يدعي تجديد الدين، ويريد بذلك تغيير معالم الدين الإسلامي، وله كتابات مثل تجديد الفكر الإسلامي وتجديد الفقه الإسلامي وهكذا يريد طمس معالم الدين، كأمثال الدكتور الترابي فإن ثبت هذا فهل نسميه زنديقاً أم لا؟ A في الأصل أن من انحرف وضل في هذا الباب، ويحسب أنه يمكن أن يأتي بتجديد الدين، وتجديد أصوله، لا تجديد العمل به وإحيائه، ولكن من يعتقد ويظن تحديد أصول الدين وحقائقه مما لم يشرعه لنا الله على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا شك أنه زنديق، ولا شك أن الزنادقة بهذا المعنى كثير قديماً وحديثاً. أما إطلاقه على فلان بعينه فهذا يحتاج إلى تحرٍ وتثبت، ولا بأس أن يطلق على أفكاره أنها أفكار ضالة مضلة، أو أفكار زنديقية أو ما أشبه ذلك، لكن إطلاقه على فلان باسمه وعينه يحتاج إلى تثبت، ولا سيما إذا كان ممن ضعفت صلته وعلمه بهذه الشريعة من جهة، وضعف من يقيم الحجة عليه من جهة أخرى. ومن أكثر ما يسبب الضلال عند هؤلاء العصرانيين -كما يسمون- ويدفعهم إلى الضلال، أنهم لا يجدون من أهل السنة والجماعة من يقيم الحجة الكافية عليهم، فعلمهم محدود وضحل، بل إن علمهم غربي محض، وليس لهم إلا اطلاعات عابرة على الشريعة وكون هذا المذهب منتشر في أوروبا وأمريكا فإنهم لا يجدون إلا شباباً يحبون السنة ولكن لا يفقهون من الأصول ومن قوة الحجة والإقناع والمناظرة ما يقيمون به الحجة عليهم، فيقولون: إن هؤلاء جزئيون أو شكليون أو ظاهريون، أو ما أشبه ذلك من التهم التي يلصقونها بـ أهل السنة والجماعة المتبعين لمنهج السلف الصالح، ويزيدهم ذلك اقتناعاً بشبهاتهم وبضلالهم، نسأل الله العفو والعافية. والواجب على علماء الأمة وعلى دعاتها محاربة هذا الفكر الهدام والتصدي له، والكتابة عنه فهو خطير ومهم جداً، سواءً سمي تجديداً أو عصرنةً. وللأستاذ جمال سلطان كتابات مفيدة في هذا، وهي موجودة ومتوفرة لمن أراد أن يطلع عليها، وليحرص كل منا على الاطلاع عليها.

التنقل في المحبة وعدم الاستقرار

التنقل في المحبة وعدم الاستقرار Q فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله: فأنا شاب في أحد المراكز وأحب الملتزمين كثيراً، ولا أود فراقهم، ولكني غبت عن المركز يوماً واحداً وهو أمس، ولعبت مع شباب ليسوا ملتزمين وليسوا فاسقين فأحببتهم كثيراً، وأصبحت أتضايق من المركز ومن طلاب الأسرة، وأصبحت أفكر في ترك المركز لأذهب إلى من أحببتهم، ودخلوا قلبي حباً في الله، وأصبحت محتاراً جداً، فما الحل؟ أفيدونا أفادكم الله وجزاكم الله خيراً؟ A من كان حاله كحالك فيخشى عليه الاضطراب؛ فكيف يكونوا ليسوا ملتزمين وتحبهم في الله، وفي يوم واحد تحبهم محبة تفوق أو تساوي محبة المركز بما فيه من خير وشباب صالحين وغير ذلك. فأخشى أن تكون ممن هو سريع في التنقل، وأرجو أن يكون حالك كما قال الشاعر: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول فالحبيب الأول هو المركز، والمشاركون فيه، فلا تكثر التنقل -بارك الله فيك- في المحبة، وهذا يدل على أمر أقوله دائماً وأكرره وهو: أن الشاب بحاجة إلى من يربيه، وإلى من يوجهه، وإلى من يقومه، فإنه لا يعلم المصلحة في أي شيء، فبمجرد الاندفاع والرغبة والمحبة تجعله متنقلاً في المحبة، فربما يكون في حلقة تحفيظ قرآن، ويجد شاباً يلعب الكرة فيترك التحفيظ ويذهب للعب معه وربما يكون في مكان نافع خير، فيتركه ويذهب إلى مكان آخر وإن لم يكن ضاراً فهو أقل نفعاً؛ فعليه قبل أن يترك ذلك أن يستشير من يوثق بعلمه، وفهمه، وحسن تربيته، وتزكيته، ثم يعمل بمشورته.

من ابتلي بحب النظر إلى النساء

من ابتلي بحب النظر إلى النساء Q الرجاء الإجابة على ما وقعت فيه، ونصحي بما يبعدني وينجيني من هذه المعصية -عافاكم الله والمسلمين جميعاً- فقد ابتليت بحب النظر إلى النساء، فأصبح هذا مرض في نفسي -ولكني أحب الله ورسوله- مما أتعبني كثيراً؛ فكيف الخلاص، وأرجو الدعاء لي وجزاكم الله خيراً؟ A نسأل الله أن يهدينا وإياك، ويثبتنا على الحق ويعصمنا من الضلال. ما دمت أنك تحب الله ورسوله فأبشر بخير، واجعل هذه المحبة وسيلة لك إلى ألا تحب إلا الله، وتترك المحبة لما حرمه الله، فكيف تحب ما حرمه الله وقد حرمه! ومن بين هذه المحرمات النظر إلى النساء الأجنبيات وقد أمر الله المؤمنين بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] فلا بد من غض النظر وحفظ الفرج كما أمر الله تبارك وتعالى. فإن فعلت ذلك فإنك تكون محباً لله ومحباً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما هذا إلا ذنب من الذنوب التي تطرأ على العبد، فعليك بعلاجه بما تعالج به سائر الذنوب، بالتوبة والإقلاع عنه، والاستغفار، والعزم على أن لا ترجع إليه أبداً، والاستعانة بالله تبارك وتعالى، ثم بمجالس الخير وحِلَقِ الذِكْرِ، وترك المثيرات والمغريات، وأن تعلم أنك مهما نظرت فإنما هي سهاماً توجه إلى قلبك، فهذا شأن النظر. واعلم أن هذه النظرات ما هي إلا من تزيين الشيطان، حيث إنه يزين لك المرأة التي إن كانت النظرة حراماً، ويجعل قلبك معلقاً، ولكنك لو تزوجتها بالحلال لكانت أقل بكثير في عينك عما كنت تراها عليه وهي حرام. وهذه حالة لا يسع المقام للتفصيل فيها، لكن المقصود أن تزيين الشيطان وأزه وإغرائه، هو الذي يدفع الشباب لهذا، ولو أن العبد اعتصم بالله تبارك وتعالى فإن هذا الاعتصام سيكون له عوضاًَ عن ذلك، وسيجد في قلبه حلاوة الإيمان كما ورد ذلك في الحديث، وأنصحك بقراءة كتاب الجواب الكافي. وكتاب ذم الهوى لـ ابن الجوزي، فلعل فيهما ما يردك إن شاء الله.

حكم من ينفر الشباب من المراكز الصيفية

حكم من ينفر الشباب من المراكز الصيفية Q فضيلة الشيخ: ما هو رأيكم في المراكز الصيفية فإن هناك من ينفر الشباب من هذه المراكز، وفي المقابل هناك من يحث الشباب ويرغبهم فيها، فما رأيكم في ذلك؟ A كل مركز يختلف عن الآخر، ففي المراكز من المحاسن كما أن في بعضها قبائح، فهي كالمدارس، وكأي أمر من الأمور الأخرى، فهناك المراكز التي يكون فيها الخير والعلم النافع والسنة والحق. وهذا -والحمد لله- هو الذي لاحظناه وشاهدناه عندما زرنا المركز، ولا أزكي أحداً على الله، وقد يكون في بعض المراكز انحراف أو أخطاء أو معاصي أو ما أشبه ذلك؛ فهذا قد يكون في بعض هذه المراكز، لكن لأنا لم نعلم ولم نر كل المراكز فأقول: إن من العدل ألا يذم أحدنا شيئاً أو يمدح مطلقاً بمجرد الاسم، فمجرد الاسم لا يعطي معنى لأن اسمه مركز، لكن هل هو مركز سنة وحق وطاعة وفائدة، أو مركز بدعة وضلالة وضياع؟ فبهذا يكون التفريق. فما عليك إلا أن تختار الحق والخير والطاعة، وما يفيدك في دينك ودنياك، وإن لحظت على غيرك أو رأيت أو علمت عنه أمراً فلإنكار المنكر وسائله الكثيرة المعروفة، فأنكر بنفسك أو عن طريق من يؤثر عليهم أو ما أشبه ذلك، أما أن تذم مطلقاً فهذا من الظلم ومن الإجحاف.

انتشار الشحناء بين الدعاة إلى الله

انتشار الشحناء بين الدعاة إلى الله Q فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هناك بعض طلبة العلم، ومن الذين لهم القيادة بين الشباب، ولكن المشكلة أن هؤلاء الشباب -أي طلبة العلم- بينهم من البغضاء والشحناء ما يشيب له الرأس، فهل من كلمة توجيهية لنا جميعاً، وجزاكم الله خيراً؟ A هذه هي الحالقة كما أخبر عنها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين} وهذا هو التحريش الذي رضي به الشيطان، بعد أن يئس أن يعبد في جزيرة العرب وهذه البغضاء تولد قسوة في القلب، وجفوة في التعامل، وربما أورثت صاحبها الخروج عن النهج القويم، بأن يظلم، وأن يفتري، وأن يبغي على من خالفه أو من يرى أنه عدو له. وهذا من التفرق الذي نهينا عنه، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينفِ أن يقع بين المؤمنين اختلاف أو اقتتال فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] الاقتتال قد يقع، والاختلاف لا بد أن يقع لكن يُحل ذلك بالتفاهم، يحل بالصلح، يحل بالتناصح، وبترك الغيبة، أما البغي والظلم والعدوان لمجرد المخالفة، فهي مؤلمة وسيئة وشر بين الأمة، فكيف بها بين الشباب وبين طلاب العلم! فأقول لنفسي ولإخواني: إنك لن تعامل من عصى الله تبارك وتعالى فيك بخير من أن تطيع الله تعالى فيه، فإن ذمك بما ليس فيك فاصبر، واصفح واعف، وقل فيه ما تعلم أنه خير، ولا تقابل الإساءة بالإساءة، ولا تقابل الذم بالذم، فإن كان ولا بد فلا تزد ولا تبغ. وهذه من صفات المؤمنين، ولا سيما الدعاة منهم، فإن الدعاة أرقى من أن ينزلوا إلى مستوى المهاترات، وإلى أن يردوا على كل من رد عليهم، أو يتكلموا فيمن تكلم فيهم، فإن فعلوا ذلك لم يعودوا دعاة، بل شُغِلوا عن الدعوة بهذه الأمور. فهذه أمور لا شك أنها عظيمة، وأنه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] والذين جعلوا لنفوسهم من الزكاء ومن الرفعة، وكانوا كما وقف عمر رضي الله تعالى عنه لما قال له ذلك الأعرابي: 'إنك لا تعدل بين الرعية، ولا تقسم بالسوية، فهمَّ به فقال له الشاب التقي الحر بن قيس -رضي الله تعالى عنه-: يا أمير المؤمنين: إن الله تبارك وتعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فوقف عمر رضي الله تعالى عنه' فهكذا يكون الصفح والعفو والإحسان حتى إلى من أساء إليك، خاصةً إذا كان يعلم شيئاً مما أنزل الله ويعلم شيئاً من حدود الله، فاعلم أنه سيؤدي به هذا الأمر إلى أن يندم ويتأسف، ويحبك عندما يرى أنه يرد عليك ولا ترد عليه، ويهاجمك ولا تهاجمه، ويتكلم فيك ولا تتكلم فيه، فلا بد أن يرجع إن كان في قلبه إخلاص لله تبارك وتعالى. وأما من لم يكن كذلك فاعلم أنه لا بد في كل زمان من حثالة تقف في وجوه الدعاة، وتبث الفرقة بين الشباب، من أهل الخير، فهذه الحثالة لا دواء ولا حيلة معها أبداً، كما قال الشاعر: لي حيلة في من ينمّ وليس لي في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة فالنمام قد تقفل أذنيك عنه وتتركه، لكن الكذاب الذي يختلق أي شيء، فلا حيلة فيه إلا أن تصبر وتحتسب ذلك عند الله، فإذا علمنا أنه لا بد أن يظل هناك فئة شأنها القطع والتشهير والتضليل والتبديع لأهل الحق ولأهل الهدى ومهاجمتهم بالباطل، فلا بد أن نحتمل وأن نغض الطرف عنه، وكأنه لم يكن، فأرجو أن يكون في الشباب الصالحين من الأخلاق الرفيعة السامية العالية ما يجعلهم يترفعون عن البغضاء وعن الشحناء فيما بينهم، أو سماع من يثير هذه الشحناء والبغضاء في ما بين شباب الدعوة والخير والهدى.

ثمرة المحبة في واقع عبادة المسلم

ثمرة المحبة في واقع عبادة المسلم Q فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله، ما هي ثمرة المحبة في واقع عبادة المسلم، وفي واقع أحوال المسلمين وأوضاعهم المعاصرة؟ ونسأل عن أوضاع المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان وفي تونس وفي اليمن؟ A ثمرة ذلك كما ألمحنا في المحبة هي الترابط الذي قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} وأما ما يتعلق بأخبار إخواننا وأحوالهم، فقد تكلمنا عن البوسنة وعن أفغانستان ولا جديد عندي عما قلته إن كان فيه ما يشفي أو يغني. وفي تونس واليمن، فحال إخواننا في تونس سيئة للغاية، فالدعاة إلى الله قد زج بهم بالآلاف إلى السجون، وهم يعانون أشد المعاناة من حكومة علمانية لا تقيم دين الله ولا حدوده، ولا تتحاكم إلى شريعته، ولا تخشى ولا تخاف الله فيما تعمل، فقد ارتكبت من أبشع وأفظع أنواع التعذيب، ما اقشعرت منه جلود الذين زاروا ورأوا تلك المعتقلات حتى من الكفار أنفسهم، من المحايدين، ومن منظمات حقوق الإنسان، وذكرت ما لا يطيق المؤمن أن يذكره، أو أن يسمعه من حال إخواننا المؤمنين المعذبين هنالك، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفك أسرهم، وأن يفرج كربهم، وأن يجعل الدائرة على أعدائهم إنه سميع مجيب. وكذلك المحاكمات الظالمة التي لا ينتج عنها إلا ظلماً. وأما الوضع في اليمن فهو مضطرب قلق، حيث إنهم يعلقون الخروج من الأزمة بإجراء الانتخابات -كما يعتقدون- لكن لا ندري هل تجري هذه الانتخابات أم لا، وإن جرت فماذا تكون نتيجتها!! فحقيقةً أن مستقبل اليمن مظلم، ولكن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينيره بحكومة إسلامية عادلة تحكم بما أنزل الله وتقيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الشعب المسلم الأبيّ، الذي لا يرضى -بإذن الله- سوى الإسلام ديناً مهما أغشي على عينيه، ومهما صنع هؤلاء المجرمين، من قوميين وبعثيين وناصريين واشتراكيين وأمثالهم من الكفرة والمرتدين والمجرمين.

نصيحة لأهل اليمن

نصيحة لأهل اليمن Q نحبك في الله، ونحن من أهل اليمن فأرجو نصيحة لنا في نهضة هذه الصحوة في هذا الوقت وجزاكم الله خيراً؟ A جزاكم الله خيراً، فأنا أحبكم في الله، ثم أريد أن أنبه أنه على المسلم ألا يعتبر ولا يعترف بهذه الفواصل التي أنشأها الاستعمار، أو أنشأناها نحن بتأييد من الاستعمار، فهذا يمني وهذا مصري وهذا سعودي وهذا وهذا، فنحن كلنا أمة واحدة في الإيمان، وفي التقوى، وفي الاتباع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعندما نقول: أهل اليمن أو أهل مصر أو أهل الشام فإنما أقصد به البقعة الجغرافية كما كان السلف الصالح يقولون: أهل اليمن فيعنون بذلك من كان يسكن جهة اليمن. أما الحدود الذي وضعها هؤلاء فنحن لا نعترف بها، وجنسية الإنسان عندنا هي عقيدته، فنصنف الناس بحسب عقائدهم لا بحسب بلادهم ومواطنهم {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. هذه حقيقة أحب أن أوضحها، ثم بعد ذلك يجب علينا جميعاً أن نحب أهل اليمن؛ لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحبهم وأثنى عليهم، ووصفهم برقة القلب ونسبهم إلى الحكمة، وهذا لا شك فيه وهو مشاهد وملموس ومن هنا فهذا الشعب جدير بالعناية، وخاصة مِمَن هم من أهل تلك البلاد وجاءوا إلى هذه البلاد؛ أن يهتموا بطلب العلم الشرعي النافع الصحيح، وأن ينشروه في أماكن تجمعهم وفي مساكنهم هنا، وأن ينشروه إذا رجعوا إلى أهليهم، وأن يبعثوا إليهم بالكتاب، وبالشريط، وبالموعظة، وبالداعية ليكون التواصل بإذن الله، بين أهل السنة والجماعة هنا وهناك.

نصيحة لشباب مركز الصديق

نصيحة لشباب مركز الصديق Q يقول: فضيلة الشيخ: شباب مركز الصديق يطلبون منكم توجيه كلمة لهم، وجزاكم الله خيراً؟ A الذي أريد أن أقوله وأوجه به إخواني، ونفسي أولاً هو: أن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهذه وصية الله إلى الأولين وإلى الآخرين -ولا حرج في أن نكررها- كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]. ثم أوصيكم بأن تقدروا أمانة الدعوة وحمل هذا الدين، وأن تجتهدوا في تحقيق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بإخلاص لله واتباع لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج السلف الصالح والبعد عن البدع وعن مضلات الفتن، والأهواء، وأن تتحابوا فيما بينكم، وأن تتآخوا، وأن تتعاونوا، وأن تتشاوروا، وأن لا يجعل الشيطان هذا الشباب الزاكي الطيب الغض، في هذه الأمواج من شباب الشهوات والشبهات، أن لا يجعلهم أحزاباً وفرقاً {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] وكل منهم يطعن في هذا، أو يغتابه، أو يتكلم فيه، أو يوقع بينهم ما يريد أن يبث من الفتن، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. ثم أوصي القائمين على هذه المراكز وأمثالها، بالصبر والتحمل والأناة، ومتابعة هؤلاء الشباب ما أمكن في بيوتهم بعد ذهابهم؛ من أجل أن تكون تربيتهم أشمل وأعمق وأزكى لهذه القلوب الغضة الطرية بإذن الله. وأوصي الشباب المسلم أن يطيع المربين والموجهين في طاعة الله تبارك وتعالى، وأن يكونوا من الانضباط ومن النظام بحيث يمتثلون ما يوجهونهم به، وأن يعوِّدوا أنفسهم على ذلك، ففي هذا خير لهم وحصول للنفع والفائدة من التربية أكثر وأكثر. هذا، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يمنَّ علينا جميعاً بالهدى والاستقامة، وأن يؤتي نفوسنا وقلوبنا تقواها فإنه خير من زكاها، وهو وليها ومولاها، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

من أعمال القلوب: (الإخلاص)

من أعمال القلوب: (الإخلاص) تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن أعمال القلوب وأهميتها، وخص الإخلاص منها بالتفصيل، موضحاً علاقته بأعمال القلوب، حيث أنه يعد أحد شرطي قبول الأعمال، فبانعدامه يقع المرء في الشرك، كما أن الإخلاص من أخطر المداخل التي يفسد بها الشيطان أعمال العباد.

أعمال القلوب وأهميتها

أعمال القلوب وأهميتها الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، الذين حققوا التوحيد والإخلاص والمحبة واليقين قولاً وعملاً، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، الشهادة التي بعث الله تبارك وتعالى بها رسله، ودعا إليها خلقه أجمعين، وجعلها رأس الدين كله. أما بعد: فحديثنا في هذا الدرس عن عمل من أعمال القلوب، وأصل تسمية المحاضرة هو أنها عن أعمال القلوب؛ لكننا لو تأملناها لوجدنا أنها هي نفس ما يسميه بعض العلماء شروط لا إله إلا الله. فهي من جهة: شروطٌ لـ"لا إله إلا الله"، ومن جهة أخرى هي: أعمال قلبية عظمى، يبنى عليها كل عمل من أعمال القلب أو الجوارح، ولا تعارض بين هذا وذاك، فالكل شيء واحد. وهذه الأعمال -كما تقدم- تتداخل وتتشابك؛ إذ أن أعمال القلب كلها أمر باطن، والأعمال الباطنة يصعب التفريق بينها كالتفريق بين الأعمال الظاهرة، فأنت في الأعمال الظاهرة يمكن أن تفرق بوضوح بين الحج وبين الصوم -مثلاً- وبين أداء الزكاة وبين أداء الصلاة. أما في الأعمال القلبية فإن اليقين، والإخلاص، والمحبة، والتوكل، والرضا، والصدق، وما أشبه ذلك يقترن بعضها ببعض وتتداخل، فلا فصل بينها بنفس النسبة , وإن كانت إذا تأملت آثارها، وعرفت حقائقها تجد أن هذه الفروق واقعة، لكنها متداخلة، وحديثنا عن موضوع الإخلاص هو مما يشهد لذلك. إن الإخلاص يقترن بأعمال قلبية أخرى، ولا يكون إخلاصاً إلا بها، وأجلى وأظهر الأعمال القلبية التي لا بد أن يقترن بها الإخلاص هو الصدق، فإن الإخلاص لا يمكن أن يكون مع الكذب، لا لغةً ولا عرفاً ولا شرعاً، بل الإخلاص هو قرين الصدق، والجامع الذي يجمع بينهما كلمة شرعية هي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الشريف: {الدين النصيحة -قالها ثلاثاً- قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم}. فلو تأملت معنى النصيحة لوجدتها تجمع بين معنيي الصدق والإخلاص، حتى في اللغة وفي عرف الناس، فإن الشيء الناصح هو الخالص الذي لا تشوبه شائبة، وهذا يكون فيه الصدق أيضاً. ثم إن كل من تُقِدِم له كلمة أو موعظة أو شيئاً ينفعه وتقول: إنك ناصح له، لو تأملت ذلك لوجدت أنك تريد أن تثبت أنك صادق في محبته وفيما قلت له، فلو كذبت عليه لما كانت نصيحة، والأمر الآخر أنك مخلص، فلو غششته فيما قلت -له أيضاً- لما كانت نصيحة، فلذلك هذه الأعمال تقترن -كما ذكرنا- لكن هذين العملين: الصدق والإخلاص هما من أكثر الأعمال تقارباً وتداخلاً، ولهذا نجد أن الأحاديث التي ذكرت فيها شروط لا إله إلا الله قد ذكرت العملين معاً في بعض رواياتها، وقد نذكرها أو نوردها إن شاء الله تعالى.

شرطا قبول الأعمال

شرطا قبول الأعمال هذا من جهة علاقة هذا العمل القلبي بغيره من أعمال القلب، وأما عن أهميته وضرورته للمؤمن، فلا شك أن من تأمل كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علم علم اليقين أن الإخلاص لا بد منه، وذلك أول ما يشترط في أمر العقيدة والإيمان، ثم إنه لا بد أن يدخل في كل عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان يريد بها وجه الله، ويريد بها الثواب والأجر من عند الله. حتى لو أنك عملت عملاً من المباحات المجردة وليس من الطاعات المفروضة المشروعة وجوباً أو استحباباً، أو أي عمل من الأعمال التي يفعلها الناس بطبيعتهم كالأكل أو الشرب أو إتيان المرء أهله أو ما أشبه ذلك، كل من فعل ذلك ويريد الأجر من الله، ويريد أن يحتسبه عند الله، فلا بد أن يحقق فيه الإخلاص لله تبارك وتعالى؛ لأن شرطي قبول أي عمل من الأعمال هما المتابعة والإخلاص.

الشرط الأول: المتابعة

الشرط الأول: المتابعة أولاً: الشرط الأول: المتابعة والموافقة لما شرع الله تبارك وتعالى، فالبدع مردودة على أهلها، فمهما اجتهدوا وتعبدوا وأخلصوا في نظرهم، فالبدع مردودة، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل بدعة ضلالة} وقال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، وقال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود لا يقبل. وإن ظن أنه فعله لوجه الله تبارك وتعالى، كما فعل الثلاثة النفر الذين عزموا على أنفسهم، فقال الأول: أقوم الليل ولا أنام، وقال الثاني: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم، وما أشبه ذلك، فكل عملٍ يعمله العبد ويظن أنه مخلص ويتعبد به، لن يكون فيه أكثر عبادةً من الخوارج، ولن يكون أكثر عبادةً من رهبان اليهود والنصارى والهندوس ممن تَرَهَب منهم. ولذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن ذكر الخوارج وعبادتهم قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم -ثم قال:- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} والرمية: هي ما يرمى من الصيد كظبيٍ أو نحوه، فيدخل السهم فيخترقه ويخرج، فلا يكاد يرى راميه فيه شيئاً من أثر، ومعنى ذلك أنهم يأتون الدين، ويخرجون منه بلا شيء، أو بما لا يكاد يُرى. ليس لأنهم لم يتوفر لديهم شرط الإخلاص؛ ولكن لأنه لم يتوفر لديهم شرط الموافقة والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الذي ذكر الله تبارك وتعالى في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو الموافق لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشرط الثاني: الإخلاص

الشرط الثاني: الإخلاص ثانياً: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] أي: فليجعله خالصاً لوجه الله الكريم، وهذا هو شرط الإخلاص، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قول الله تبارك وتعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7]، قال: 'أصوبه وأخلصه' والصواب هو الموافقة، والإخلاص: هو الشرط الثاني كما تقدم. فإذا كان الإخلاص بهذه المثابة فإن أهميته لا تخفى، ولا سيما في أصل الدين، فهو أعظم اشتراطاً منه في الفروع؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول -كما في الحديث القدسي-: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك}، وفي روايةٍ: {تركته وشركه} ومعنى ذلك: أن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وأما غير ذلك فهو غنيٌ عنه تبارك وتعالى. فإذا لم يقبل الله تعالى من العبد طاعةً من الطاعات إلا أن لديه أصل التوحيد والدين، فإنه يخسر تلك الطاعة ويظل معه الإيمان والتوحيد، أما إذا كان الإخلاص مفقوداً وكان الشرك في أصل الإيمان والدين، فهذا قد خسر الدنيا والآخرة. ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3]، هذا الذي يقبله الله تبارك وتعالى من عباده، ولا يقبل منهم غير ذلك.

حقيقة الإخلاص

حقيقة الإخلاص قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:11 - 12]، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15]. هذه الآيات الكريمات من سورة الزمر، وأيضاً ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها ما يدل على ذلك: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:64 - 66]، وهذه السورة اشتملت على معانٍ عظيمة في الإيمان من أبرزها -لمن قرأها وأظهرها-: أنها كررت اشتراط الإخلاص في غير ما آية، وأوضحته وأجلته. وكذلك نجد بعض السور القرآنية العظمى التي تتحدث عن التوحيد تشترط ذلك، وإن لم تنص عليه نصاً، كما في سورة الأنعام، فإن أكثر معانيها وموضوعاتها تتعلق بتوحيد الله وتجريد العبادة له، ونفي الشرك عنه. وهذه هي حقيقة الإخلاص وإن لم يرد في السورة بالنص نفسه، ولهذا تسمى سورة "الصمد"، أو سورة "قل هو الله أحد" سورة الإخلاص؛ لأنها في إخلاص العبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من جهة توحيد المعرفة، إخلاص التوحيد من جهة المعرفة والإثبات، فهي تثبت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] تثبت وحدانية الله تبارك وتعالى، وتنفي عنه ما يزعمه المبطلون، الذين يدَّعون أن لله تبارك وتعالى ولداً، أو أن له كفؤاً أو شبيهاً أو نظيراً، تعالى الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين. وكذلك تسمى سورة الكافرون سورة الإخلاص؛ لأنها تضمنت حقيقة الإخلاص من جهة الولاء والبراء والهجر، هجر كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3]، وفي آخرها: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. فهذه براءة أو مفاصلة ومقاطعةٌ كاملة بين العبادتين وبين المنهجين، ومن هنا كان الذي أخذه وعده الله تبارك وتعالى وسجَّلَه على أهل الكتاب وعلى المنافقين أنهم كانوا غير مجردين للصدق، وغير مجردين للإخلاص لله تبارك وتعالى، بل إن ذلك -ولا سيما الإخلاص- يشمل أيضاً المشركين، وذلك أن الجامع بين الجميع هو دعوى أنهم يعبدون الله وأنهم يتقربون إليه.

المشركون أبعد الناس عن الإخلاص

المشركون أبعد الناس عن الإخلاص فالمشركون -مثلاً- وهم أبعد الناس عن الإخلاص يدَّعون أنهم يعبدون الله، وأنهم يُعظِّمون حرمات الله، ويُعظِّمون بيت الله، وأنهم أتباع نبي الله إبراهيم عليه السلام، ثم إنهم يقرون لله تبارك وتعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر، وغير ذلك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، أو: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38]. إذاً: هم يثبتون هذا، بل إنهم حتى في دعائهم يخلصون لله تبارك وتعالى، ولكن وقت الشدة فقط، فإذا كان وقت الرخاء ونجّاهم الله تبارك وتعالى إلى البر -وكان من أشق الأمور عليهم أن يركبوا البحر، ولذلك يأتي هذا المثال كثيراً في القرآن فلما نجاهم إلى البر- أشركوا بالله ما لم ينزل عليهم سلطاناً. إذاً: المشركون أيضاً يكذبهم الله تبارك وتعالى، ويبطل عبادتهم في دعواهم، لماذا؟ لأنهم لم يحققو الإخلاص، وإن كانوا يزعمون أو يظنون أنهم على شيء من الدين، ولذلك كما جاء في أول الزمر: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. فهم يظنون أنهم بهذا يعبدون الله، ويتقربون بهم إلى الله، فيظنون أن عبادتهم هذه لله، وأنهم لم يشركوا بالله، فكأنما ينفون ما يدَّعي أو يزعم عليهم من أنهم لا يعبدون الله، أو أنهم يشركون بالله تبارك وتعالى، فأبطل الله تبارك وتعالى عبادتهم، وأنها لا تنفعهم؛ لأن الدين الذي يقبله الله هو الدين الخالص الذي لا شرك فيه، ولا شائبة معه. أمَّا أن يتخذ من دونه أولياء -وإن كان قصد القائل أنها تقرب إلى الله- فإنه لا يقبل منه ذلك، وهذا الزعم أنهم أولياء، أو كما ذكر في الآية الأخرى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فقد أبطل الله تبارك وتعالى ذلك كله بأن جعل الشفاعة له جميعاً، وجعل الشرطين اللذين لا بد منهما لمن يشفع لتحقيق الشفاعة يوم القيامة هما: أن يأذن الله تبارك وتعالى للشافع، وأن يرضى عن المشفوع له. وهؤلاء المشركون لا يرضى الله تبارك وتعالى عنهم، ولا يرضى أن يشفع فيهم أحد؛ لأنه لا يرضى لعباده الكفر تبارك وتعالى، هذا في حق المشركين وهو واضح.

إخلاص أهل الكتاب

إخلاص أهل الكتاب وأمَّا أهل الكتاب فإنهم يزعمون أنهم هم أهل الإيمان، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ويزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى. إذاً: هم يرون أنهم أصحاب الصراط المستقيم، وأنهم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، ولو سألت إلى هذه اللحظة أي يهودي أو نصراني: من الذي يعبد الله تعالى حق العبادة خالصة له في هذه الحياة الدنيا؟ لقال اليهودي: إنهم اليهود، وقال النصراني: إنهم النصارى، وهذا باطل. وقد أبطله الله تبارك وتعالى في مواضع من كتابه، كما في سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1 - 4]. وبين ذلك قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، هذا دين القيمة وهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. فهؤلاء أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، ولكنهم أبوا إلا أن يشركوا بالله تبارك وتعالى بأنواعٍ وألوانٍ من الشرك، منها: دعواهم أن له ولداً -تبارك وتعالى وتقدس عن ذلك- وهذا الزعم قد أبطله الله تعالى في أكثر من موضع كما في الأنعام والكهف ومريم وغيرها من الآيات العظيمة في استنكار ذلك، وكما في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1]. وهذه الدعوى واضح بطلانها وإفكهم فيها، ثم إنهم يشركون بالله ولا يجردون الإخلاص لله تبارك وتعالى في ما يتعلق بالتحليل -في التشريع- والتحريم، في توحيد الطاعة والاتباع، وهذا أيضاً ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم وأن يعبدوا إلهاً واحداً، فعبدوا من دونه آلهةً أخرى، وأشركوا به تبارك وتعالى في التحليل والتحريم الأولياء -كما يزعمون- أو الأحبار أو الرهبان. والأحبار هم: علماء أهل الكتاب. والرهبان هم: عبادهم. والضلال لا يخرج عن هذين، فكل ضلال وقعت فيه الملل فهو بسبب أحد هذين الأمرين، بأن يشرك الناس أحد من اتصف بهاتين الصفتين. وهذا واقع في هذه الأمة، إما أن يشركوا بالله تبارك وتعالى، أو لا يجردون الإخلاص -وإن كان دون الشرك- لا يجردون هذا المبدأ، وهذا العمل القلبي العظيم لله تبارك وتعالى في طاعة واتباع أهل العلم، الذين يجمعون المسائل العلمية الكثيرة، ولكنهم غير مؤمنين حق الإيمان، فليسوا هم العلماء الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، أي: هم الذين يخشون الله ويتقونه، أو كان العلماء كذلك، ولكن أخطأوا فجاء الأتباع فأشركوا بجعلهم آلهة، وألَّهوهم بتقديم ما أخطأوا فيه على ما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء هم العلماء. وأما العبَّاد: فإن كثيراً من الناس يفتنون بالعبَّاد في أي ملة كانت، فيقدمون أعمالهم وآرائهم وما يعبدون أو يتقربون به على ما في كتاب الله، وعلى ما في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يقدح في إخلاصهم ويجعلهم بذلك مشركين. ومن هنا فإن الله تبارك وتعالى اشترط ذلك، وذكر أنه طلب من أهل الكتاب الإخلاص لله تبارك وتعالى، وهو الذي جاء في آية آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]. فهذا -أيضاً- هو تجريد العمل والإخلاص الكامل لله تبارك وتعالى، أما أن تتخذ -مفهوم الآية- أن يعبد بعضكم بعضاً، أو يعبد بعضنا بعضاً الملوك أو الأحبار أو الرهبان أو ما أشبه ذلك، فإننا بذلك لا نكون مؤمنين ولا موحدين، بل نشترط ونطلب ذلك منهم، فهذا بالنسبة لأهل الكتاب.

إخلاص المنافقين

إخلاص المنافقين أما بالنسبة للمنافقين فإن الأمر في حقهم أوضح وأجلى، فالمنافقون من أخص أعمالهم وصفاتهم الكذب، كاذبون في دعوى الإيمان، كاذبون في الشهادة بالرسالة -كما في أول سورة المنافقون- كاذبون في عبادتهم، وهم في الحقيقة كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142]. فهذا الرياء والكذب في دعواهم أنهم مؤمنون وليسوا كذلك، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى من صفاتهم في أول البقرة: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9]، وغير ذلك. هم بهذه الصفات قد جانبوا وضادوا معنى الإخلاص الذي طلبه الله تبارك وتعالى واشترطه من عباده، وكذلك معنى الصدق. ولذلك نجد أن الآيات التي تتحدث عن المنافقين، وعن أعمالهم يأتي فيها هذان الأمران العظيمان، مثلاً: سورة التوبة، الفاضحة المشقشقة المخزية التي فضحت المنافقين، وأخزتهم وأظهرت بواطنهم وكشفتها، هذه السورة العظيمة يقول الله تبارك وتعالى بعد أن فضحهم، وبيَّن أعمالهم ومنهم، ومنهم، ومنهم، ويقولون، وفعلوا، وفعلوا مما ذكر الله تبارك وتعالى، قال في آخرها موجهاً الخطاب للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]؛ لأن ما تقدم في حق المنافقين يشمله أنهم كاذبون فلم يكونوا من الصادقين. وأما إخلاص الدين لله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل ذكر ذلك في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145 - 146]. فقد جعلهم الله تبارك وتعالى في الدرك الأسفل من النار، فهم أشد الناس كفراً وإظهاراً لمعاندة ما جاء من عند الله، وتكذيباً لرسل الله، فلا ينفعهم أبداً دعوى الإيمان وزعمه إلا بأن يحققوا هذه الشروط، وهي التوبة والإصلاح، والاعتصام بالله تبارك وتعالى. والشرط الرابع هو: إخلاص الدين لله عز وجل، وهذا دليلٌ على أن من أعظم ما يشوب أعمالهم هو ترك الإخلاص، وهو الشرك -وإن كان النفاق درجات وإن كانت الأعمال درجات- والناس درجات في هذا، لكن مثل هؤلاء الموصوفين بأنهم في الدرك الأسفل من النار، هؤلاء هم أهل النفاق الأكبر، فشركهم أو تركهم الإخلاص؛ لأنهم لم يخلصوا لله تبارك وتعالى في أصل الإيمان وفي أصل الدين. أما ما عدا ذلك، وهو من يشرك بالله تبارك وتعالى ولا يخلص له في عملٍ من الأعمال، فإن ذلك العمل يحبط ويبطل؛ لأنه كما تقدم في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً -وهذا مطلق، سواء كان في أصل الدين عملاً كبيراً عظيماً، أو أياً كان- أشرك معي فيه غيري تركته وشركه}. وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يحذر من الشرك دقيقه وجليله، وأن يحذر من الرياء؛ لأنه ضد الإخلاص، ولأن الرياء هو نوع من أنواع الشرك الأصغر، نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من الشرك ما علمنا منه وما لم نعلم.

ثمرات الإخلاص

ثمرات الإخلاص إن الإخلاص ثمراته عظيمة جداً، ولو تأملنا الكتاب والسنة، وعمل أولياء الله من الصديقين والمقربين والصالحين الذين أثنى الله تبارك وتعالى عليهم، أو شهدت لهم الأمة بالخير لوجدنا أن صفة الإخلاص هي من أوضح وأجلى ما يتصفون به، وأنها الفارق بين ما فيه روح وما لا روح فيه. أرأيتم الفرق بين إنسانٍ سويٍ حيٍ ينطق ويتحرك أمامك، وبين تمثال من الخشب -كالذي يصنعه أولئك المبطلون- أو من الفخَّار أو من أي شيء، الفرق العظيم بين هذا وبين هذا هو ذلك الفرق بين من يعمل العمل خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى، ومن يعمل أي عملٍ من الأعمال كائناً ما كان بلا إخلاص، فهو يعمل بلا روح، فروح العمل هو الإخلاص فيه. ويتفاوت الناس في الطاعات بمقدار تفاوتهم في الإخلاص، كما أنهم أيضاً يتفاوتون في التوبة من المعاصي بمقدار تحقيقهم لحقيقة الإخلاص والصدق في التوبة.

ثمرات الإخلاص في الطاعة

ثمرات الإخلاص في الطاعة فأما التفاوت في الطاعة فهذا معلوم للجميع، فإن الناس يؤدون الصلوات كما نرى ونشاهد، يصلون هذا بجوار هذا في صف واحد، وقد يكونا خلف الإمام مثلاً، ولكن بين أجر هذا وأجر هذا مثل ما بين السماء والأرض، وهذا بما في قلب هذا من الإخلاص لله تبارك وتعالى في هذه العبادة، وأما الآخر فقد لا يقبل منه شيء إذا كان منافقاً أو مرائياً في صلاته؛ فإنه لا يقبل له منها شيء، فانظروا الفرق بين هذين، وإن كان العملان الظاهران سواء، ولكن الفرق إنما كان بتحقيق الإخلاص.

ثمرات الإخلاص في الإنفاق

ثمرات الإخلاص في الإنفاق إن المرء أو العبد المؤمن قد ينفق نفقةً يسيرةً لو رآها المنافقون للمزوه، وقالوا: ما هذا؟ ألم يجد إلا هذا؟! ولكنها عند الله تبارك وتعالى عظيمة جداً؛ لأنها خالصة لوجه الله عز وجل، لأن هذا المؤمن التقي أنفق مما يحب، والله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]. ولم يتيمم الخبيث فينفق منه، كما قال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} [البقرة:267]، فهو أنفق مما يحب، وأنفق وهو محتاج، وأنفق وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، فلما اجتمعت فيه هذه الأمور -وهي دليل على الإخلاص لله تعالى في نفقته- كانت هذه النفقة -وإن صغرت في أعين الخلق- عند الخالق تبارك وتعالى لها وزن وقدر عظيم جداً، والله عز وجل يُعظِّم أجرها، ويربي هذه الصدقة لصاحبها، وربما وجدها يوم القيامة مثل الجبال وهو لا يعلم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى وجوده وكرمه لمن صدق الله في توجهه له عز وجل.

ثمرات الإخلاص في الجهاد

ثمرات الإخلاص في الجهاد وهكذا في بقية الأعمال، في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فلو أن أحداً لم يخرج للجهاد ولكنه كان صادقاً مخلصاً يريد ذلك ثم لم يخرج، فهذا له أجر عظيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بنيته وإخلاصه لله عز وجل، فكما ذكر الله تبارك وتعالى أيضاً في الهجرة: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] أي: بنيته وإخلاصه وإن لم يتحقق له العمل، وكما في الجهاد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة الذين تخلفوا معذورين، ممن عذرهم الله تبارك وتعالى في يوم تبوك عن جيش العسرة فإنهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما قطعتم وادياً ولا أنفقتم نفقة إلا وهم معكم حبسهم العذر} معنى ذلك: أن لهم من الأجر بإذن الله الشيء الكثير بنيتهم وبإخلاصهم: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92]. فهم عندما أخلصوا وصدقوا لله تبارك وتعالى، وأخذوا يبكون حزناً؛ لأنهم لا يجدون من النفقة ما يحملهم، ولم يجد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يحملهم عليه، كان لهم هذا الأجر، ورفع الله تبارك وتعالى الحرج عنهم، وجعلهم بدرجة من خرج ومن حمل السيف ومن ركب بذلك الحر الشديد، وتحمل تلك المشاقة العظيمة، وبعد الشقة، ونازل القوم ثم كان ما كان من أجر له عند الله عز وجل، وأمثال ذلك كثير.

ثمرات الإخلاص في التوبة

ثمرات الإخلاص في التوبة وأما بالنسبة للتوبة -ويدخل في ذلك أيضاً التوسل بالأعمال الصالحة- فإن الإخلاص هو من أعظم ما يحقق ذلك بإذن الله تبارك وتعالى. والأمثلة على هذا كثيرة جداً، ومن أشهرها وأعظمها حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ذهب وأراد أن يتوب، فسأل عن عالمٍ يعلمه التوبة، فدل على راهب لا فقه لديه، فقال له: لا أجد لك توبة فأكمل به المائة. فهذا الرجل لديه شدة وعنف وقوة غضبية عارمة، فأغضبه ذلك بأن قال: لا أجد لك توبة. والله تبارك وتعالى يفتح باب التوبة لمن يشاء من عباده، فكيف تغلقها أنت؟! فأكمل به المائة، إذ لا فرق بين أن يكون العبد قتل واحداً أو قتل ألفاً أو ألف ألف إذا لم يكن له توبة، فلا فرق بين هذا وهذا، فأكمل به المائة. ثم ذهب فدُلَّ على عالمٍ ممن فقهه الله تعالى في الدين، فسأله؛ فقال: ومن يمنعك من هذا؟ ثم دله -وهكذا المربون الحكماء يعلمون ما للبيئة من أثر- لما رأى إخلاصه وصدقه في التوبة، أراد أن يتحقق له ذلك كاملاً، فقال: اخرج من هذه القرية، ودله على قريةٍ فيها قوم يعبدون الله تبارك وتعالى، بيئة صالحة يستطيع أن يتوب فيها، ولا يعود إلى ما كان فيه من الذنوب، فأدركه الموت في الطريق. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأما ملائكة العذاب فتقول: الرجل قتل مائة نفس وإلى الآن لم يعمل شيئاً، إلا مجرد أنه توجه إلى القرية، لكنه لم يتعبد، ولم يتصدق أو يصم أو يُكَفِّر أو يعمل شيئاً. وأما ملائكة الرحمة فإنها تقول: إنه قد تاب، فحجتها أنه قد تاب، وأنه قد انسلخ من ذلك الماضي، وأنه قد أقبل على الله تبارك وتعالى تائباً صادقاً مخلصاً. فحكم الله تبارك وتعالى وهو أحكم الحاكمين وقضى وفصل بأن الذين يستقبلونه والذين يتلقونه هم ملائكة الرحمة، وهذا من فضل الله وجوده عز وجل، وما أعظم فضله؛ لأنه هو الغفور الودود، الرحمن، الرحيم، التواب الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقبل ذلك منه. فكان هذا الإخلاص الذي في قلبه كافياً، عن أي عمل يمكن أن يفترضه، أو يشترطه عابد أو واعظ أو مربٍ أو ناصح، كما حدث لملائكة الرحمة، أو كما حدث لملائكة العذاب؛ لأن التائب لا بد أن يشترط له تغيير في حياته، فلا بد من أعمال تثبت ذلك، والله تبارك وتعالى طلب ذلك، واشترط ذلك كما بينا مثلاً في آية: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:146] أي: لا بد من أعمال معينة حتى نعلم أنه قد تاب، لكن الله تبارك وتعالى بعمله هذا القلبي وبإخلاصه وبصدقه عفا عنه ورحمه، وعد ذلك كأنه قد عمل كل ما يشترط من عملٍ للتوبة. إذاً: هذا يدل على فضل الإخلاص والصدق مع الله تبارك وتعالى. والمثال الثاني الذي يمكن أن نجعله ثانياً -والأمثلة كثيرة جداً- هو: مثال المرأة البغي التي كانت من بني إسرائيل -والحديث أيضاً صحيح - فمرت فرأت كلباً يلهث ويأكل الثرى من العطش، وهو لا يستطيع أن يشرب، وليس لدى الحيوان الأعجم حيلة، ولكن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر}، فلما رأت حاله رَثَتْ له، فجاءت إلى بئر وأخذت موقها، أي: جوربها أو خفها، فملأته بالماء، ثم صعدت به، فسقته فشكر الله لها، فغفر لها. عمل عادي جداً لو رأيناه، وكثير من الناس لو رأوا مثل هذا الكلب لا يرحمونه، وإن رحموه فربما لا يعدون هذا العمل شيئاً، بل ربما أن هذه المرأة قد لقيت الله تبارك وتعالى وهي لا تعلم أن لها عنده عملاً عظيماً شكره الله لها وغفر لها من أجله، وربما لو قيل لها: احتسبي عند الله عملاً من الأعمال -كما في حق الثلاثة أصحاب الغار الذين سنذكر قصتهم إن شاء الله- لمَّا ذكرت هذا العمل؛ لأنها قد لا تراه شيئاً، ولكن حقيقة الإخلاص الذي في هذا العمل، بفضل الله تبارك وتعالى شكر الله لها ذلك فغفر لها؛ ولو تأملنا القصة نجد أنها أبعد شيء عن الرياء، لأسباب: أولاً: أن الكلب لا يحدث الناس بما صنعت له، ولو كان من بني آدم لقيل: إنها سقته لكي يخبر الناس، ويقول: فلان أعطاني، لكن هذا حيوان أعجم، فهذا دليل على أنها ما فعلت ذلك وهي تريد شهرة ولا ذكراً ولا رياءً. ثانياً: أنه إنما كان في خلاءٍ وهي عابرة ولم يرها أحد، ولم يذكر أن أحداً رآها لكي يذكرها. ثالثاً: أن دليل إخلاصها هو هذا التواضع له وهو حيوان، ولا شك أن النزول إلى البئر يعرض الإنسان للخطر، إذ قد يقع فيها فلا يخرجه أحد. رابعاً: أنها وضعت موقها في فمها عندما أرادت أن تصعد من البئر، وذلك حين لم تستطع أن تحمل الماء في يد وتصعد باليد الأخرى -وهذا مجرب لمن يصعد في جدار أو نحو ذلك- فجعلت موقها الذي محله الأساس هو القدم -موضع الاتساخ- في الفم، وهذ لا يفعله أحد إلا في أشد ما يكون من حالات التواضع والإخلاص، فلما صعدت سقت له ومضت، ولم تطلب منه أجراً ولا ثناءً، فهذا من فضل الله تبارك وتعالى عليها، لما أخلصت لله تعالى في ذلك، وكان حالها بخلاف المرأة الأخرى من بني قومها، التي حدَّث عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الكسوف، وهي التي دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، أي: من هوامها. فالإخلاص يرفع الله تبارك وتعالى به العبد درجات، ويغفر بسببه الذنوب، والإهمال والتقصير والتفريط الذي قد لا يتفطن إليه، قد يكون سبباً في دخول النار -نسأل الله العفو والعافية- فهذه نجت بسقي كلب، أما تلك فهلكت بحبس هرة، فليتنبه العبد وليعلم أن الطريق مهلكة، وأنه لا بد من الاستقامة على الصراط المستقيم الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، وليحذر ذنوبه، وليتفقد أحواله وتقصيره في حق الله تبارك وتعالى. المثال الثالث: وهو مثال واضح للجميع في أثر الإخلاص وما يحمد من عاقبته؛ وهو مثال الثلاثة الذين هطل عليهم المطر، فألجأهم إلى غارٍ، فأرسل الله تبارك وتعالى عليهم صخرة فسدَّت فم الغار، فلم يجدوا ملجأً من الله إلا إليه، أين يذهبون؟ ومن ينادون ويخاطبون؟ ولم يجمعهم في الغار شيء إلا اللجوء والهرب من المطر. فرأوا أنهم في حالة لا ينجيهم منها إلا أن يتضرعوا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يتوسلوا إليه بأرجى عملٍ صالحٍ عملوه، فتوسلوا إليه بالإخلاص، لا بكثرة العمل، ولا بكبره -مثلاً- إنما بالإخلاص لله تبارك وتعالى فيه. فإن صاحب الوالدين قال بعد أن ذكر ماذا يفعل بوالديه: {اللهم إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم فافرج عنا ما نحن فيه، فرفعت} كشفت الصخرة قليلاً، إلا أنهم لا يستطيعون الخروج. وقال الذي حجزه الله تبارك وتعالى ومنعه من الزنا بعد أن كاد أن يقع فيه وحصل له ما يطلب، حيثما تكون الشهوة أشد، والتمكن من قضائها أشد ما يكون، حجز الله تبارك وتعالى وهذا الشاب، ورزقه الإخلاص، فترك ذلك خالصاً لوجه الله الكريم، لما قالت له: اتق الله، تذكَّر الله فاتقاه فقام، فقال: {اللهم إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم أو ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فرفعت قليلاً}. وجاء الثالث صاحب الأجير، الذين كثيراً ما تهدر حقوقهم في هذا الزمان وفي كل زمان، وكثير من الناس لا يبالي بهم ولا بظلمهم، ولا يحتسب الإحسان إليهم عند الله، وإذا كان في كل ذات كبد رطبة أجر ولو كانت كلباً؛ فإن الأجر في حق هؤلاء العمال أو المستأجرين أعظم، ولا يجوز لأحد أن يظلمهم. هذا الرجل، قلَّ أن يوجد مثله في هذا الزمان، فإن الأجير لما جاءه يطلب أجرته قال: {أترى ما في هذا الوادي من الإبل والغنم والبقر؟ هذا مالك، فقال: أتهزأ بي} أتسخر مني؟ لأن دينه لا يبلغ هذا، ولكن الرجل تطوعاً منه نماه منه، فأعطاه إياه؛ فلما تضرع إلى الله تبارك وتعالى بأنه إن كان فعل ذلك ابتغاء وجهه، أي: أخلص فيه لله عز وجل أن يفرج عنهم فاستجاب الله له، وفرج ما بهم من كرب، وخرجوا يمشون.

ثمرة الإخلاص في العلم والوقت

ثمرة الإخلاص في العلم والوقت ما أعظم ثمرات الإخلاص، وما أحوج المسلمين، وما أحوج المتقين، وما أحوج العباد الذين يريدون الله والدار الآخرة، ويعلمون حقارة وتفاهة هذه الحياة الدنيا، أن يخلصوا أعمالهم لله عز وجل، فيرون الثمرات ويرون البركات، ويرون أموراً لا يمكن أن يصدقها أحد في حدود المنظور المادي، والواقع العادي عند الناس. ومن ذلك أن العلماء الذين كتبوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وطلبوا العلم بإخلاص؛ جعل الله تبارك وتعالى لهم من البركة في أوقاتهم وأعمارهم وعلومهم، ونفع بهم كثيراً. ومن ذلك -مثلاً- صحيح البخاري، فكم من الكتب كتبت وألفت؟! لكن هذا الكتاب لما أخلص صاحبه لله، وكان لا يكتب الحديث إلا بعد أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويستخير الله، وكان فيه من العبادة والزهد في الدنيا، ما هو معلوم من سيرة الإمام البخاري رحمه الله. لما كان كذلك بارك الله له في وقته، وبارك له في علمه، وجعل هذا الكتاب بهذه الدرجة والمنزلة، فهو أصح كتابٍ بعد كتاب الله، وتلقاه المسلمون قديماً وحديثاً إلى يوم القيامة بالقبول، وهذه كرامة عظيمة، وإلا فكم، وكم أُلِّف من كتب، لكن ليس لها ما لهذا الكتاب. كذلك حياة الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه، وما أعطاه الله تبارك وتعالى من القبول، فإنه شيء مدهش، حيث كان الإمام أحمد رحمه الله إذا أشار بيده لرجل أن ينعم، أو إذا ذكر فلان وقال: نعم، فقط: نعم، أثنى عليه بأنه نعم، أو نِعْم الرجل، أو ما أشبه ذلك، رفعه الله عند الأمة قاطبة، فيرتفع هذا الرجل، وتنقل هذه التزكية من بغداد إلى خراسان إلى مصر إلى الأندلس وإلى كل مكان، وتسجل وتكتب، أن أحمد قال فيه: نعم الرجل أو أثنى عليه أو ذكره بخير، فتكون تزكية له وقبولاً لروايته وعلمه، وتصحيحاً لعقيدته. وإن قال في أحدٍ: لا، أو نحو ذلك، سقط مهما كان علمه ومهما كانت قيمته، وينتشر هذا الجرح في الآفاق حتى لا يكاد أن تجده عند أحد إلا وقبله حتى وإن زكاه غيره لا بد أن يقول: ولكن أحمد قال فيه كذا. والخليفة المتوكل من شدة حرصه على أن يزكى لدى الأمة كعادة الحكام في كل زمانٍ ومكان، طلب من الإمام أحمد أن يأتي إليه؛ لأن الناس يعلمون أن الإمام أحمد لا يأكل إلا من طعامٍ حلال، فيريد أن يأتي إليه ويطعم من طعامه، فيتحدث الناس بذلك، فيتزكى المتوكل عند الأمة بأن الإمام أحمد أكل من طعامه فقط، ولو لم يثن عليه ولا بكلمة. فأبى الإمام أحمد، ثم لمَّا ألحَّ عليه الخليفة، وهو المتوكل الذي أحيا الله به السنة وقمع به البدعة، وله فضل على أهل السنة والجماعة، وهو إمام المسلمين، فلم ير بداً من أن يطيعه، فذهب إليه ولكنه واصل الصيام. حتى يقول ابنه عبد الله وابنه صالح: أشفقنا وخشينا على الإمام من الموت، واصل الأيام والليالي، وكان لا يشرب إلا الماء؛ لأن الماء ليس لأحد فيه فضل، والمتوكل يظن أنه يطعم من طعامه، لأنه لم يقابله ولم يجالسه على مائدة، فلِمَ كانت لهم هذه المنزلة؟! إنما هي بإخلاصهم لله تبارك وتعالى. ثم من ناحية البركة في الوقت: انظر مؤلفات شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ومؤلفات الذهبي، ومؤلفات ابن كثير، ومؤلفات النووي ترى عجباً، عندما ترى هذه المؤلفات مع ما تعرضوا له -ولا سيما مثل ابن تيمية رحمه الله- من النفي والسجن والأذى والمحاكمات وحرق الكتب، وحبس ما يكتب به، والاشتغال مع ذلك بالعبادة، بل حتى بالجهاد، شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله جاهد الباطنيين، وجاهد التتار، جهاد وعلم، تحصيل للعلم وتنقيب في الكتب، وعبادة، ثم يؤلف هذه الكتب، كيف كان ذلك؟! نحن الآن كما ترون نسأله عز وجل البركة في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يرزقنا الإخلاص الذي به تحل البركة، الطالب يظل خمس سنوات في الدكتوراة ثم يخرج كتاباً إذا قرأته وجدت أنه نُقول فحسب، لو جدَّ فيها لجمعها في أشهر، ولو كان من السلف لجمعها في أيام وأسابيع؛ فإنها مجرد نقول فحسب، ولم يفن هذا العمر؟ إن هذا بقدر ما لدينا من إخلاص، فكيف هذه؟ حتى قال بعضهم: لو قسمت عمره على كتبه لوجدت أنه كان يكتب في كل يومٍ كراسة من عشرين لوحة، فهل يمكن لأحد أن يكتب هذه، ومتى يحققها؟ ومتى يحررها؟ وإذا طلبنا من أخ مقالاً في صفحة واحدة فإنه سيكتبها الليلة ويراجعها في اليوم الذي بعده، وينقحها بعد ذلك، وقد يمضي الأسبوع ولم يأت بها، سبحان الله!! كيف يكتب هؤلاء، إذا كتب عشرين لوحة محررة منقحة بأقوال معزوة إلى أصحابها، وأمانة في النقل، ودقة في الاستنباط، لا يمكن أن يكون هذا إلا ببركة من الله تبارك وتعالى في عملهم، وذلك بسب إخلاصهم لله عز وجل. ولذلك أوتوا الهمة العليا، فعندما قال الإمام الطبري رحمه الله لتلاميذه: سأُملي عليكم التفسير في ثلاثمائة مجلد، قالوا: هذا كثير -ثلاثمائة كثير لا يستطيعونها- فقال: الله أكبر!! ضعفت الهمم، فجعله في ثلاثين بدلاً من الثلاثمائة، فهذه الثلاثون جزءاً، كانت على قدر الهمم، فسعة تفسير الطبري، وما فيه من الأقوال والأسانيد، وأقوال له في اللغة رواية ودراية معاً، فهذا كتبه رحمه الله لضعيفي الهمم، ونحن الآن نقول: الطبري يحتاج أن نختصره، وبالفعل يختصر؛ لأن ما عليه الهمة الآن هي عُشر ما كانت عليه في أيام تلاميذ الطبري وهكذا، فلماذا تضعف الهمة؟ تضعف الهمة بقلة الإخلاص، ومع الإخلاص تكون أعلى، ويكون اليقين أكثر، وإذا اجتمع للإنسان الإخلاص واليقين والمحبة وسائر ما ذكرنا، وما سنذكر من أعمال القلب، فإنه يكون في غاية الهمة. والصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما تحقق لهم ذلك لم يفكروا على الإطلاق في قوى الدنيا كلها مهما كانت، بل ترسل الجيوش شرقاً وغرباً، براً وبحراً ولا يبالون، ولا ينظرون إلى العدو -نعم يعدون العدة تماماً- ويستطلعون أموره كأدق ما يكون من الدراسات الاستراتيجية أو الاستخبارات العسكرية، لكن يعلمون أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله، فلم تقم أمامهم أية قوة، إنما هم انتصروا بإيمانهم وبتقواهم وبإخلاصهم وبصدقهم مع الله تبارك وتعالى. ثم بقيت مسألة نختم بها وهي: أن الإخلاص يورث العبد بأن يكون من المخلصين؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإذا أخلص العبد وصدق مع الله تبارك وتعالى، فإنه يجعله الله تبارك وتعالى من المخلصين، والمخلَصون هم صفوة وخيرة من خلق الله تبارك وتعالى، وهم الذين يعرفون الله، ومن أهم صفاتهم -وهي كثيرة- أنهم يعرفون الله تبارك وتعالى، كما في سورة الصفات، بعد أن ذكر الله عز وجل حال المشركين وأمثالهم الذين نسبوا إلى الله تعالى الولد، وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، قال عقب تلك الآيات: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159]، {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40]. فكل ما يصفه به الواصفون فهو منزه عنه، إلا ما يصفه به من يعرفونه ويقدرونه حق قدره، ويصفونه بصفات الكمال والثناء والمحامد المرضية. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المخلَصين المخلِصين، وأن يتقبل منا أعمالنا جميعاً، وأن لا يجعل فيها شيئاً لأحدٍ غيره إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

أثر الإخلاص في أصول الدين

أثر الإخلاص في أصول الدين Q يقول: ذكرتم يا فضيلة الشيخ أن الإخلاص من شروط لا إله إلا الله, فهل إذا انعدم هذا الشرط أو اختل يخرج الإنسان من الملة؟ A نعم أحسنت, هذا ذكرني بمسألة اشتراط الإخلاص في الشهادة وما جاء في ذلك, ولا سيما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري والإمام أحمد وغيرهما, لما سأله أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من شهد ألا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه} , وقال في رواية أخرى: {يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه}. ولذلك قلنا الصدق والإخلاص مقترنان, فالذي يشهد ألا إله إلا الله وهو صادق مخلص فإنه يكون أسعد الناس بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثمَّ فهو جدير حري ألا يدخل النار كما جاء في رواية أخرى: {فإن الله قد حرم النار على من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله} أي: خالصاً ذلك لله, وقد جاءت كلمة الإخلاص في إحدى رواية المسند. إذاً الإخلاص مراتب, كاليقين والمحبة وغيرها, فأصل الدين لابد فيه من الإخلاص, وأصل الإقرار والشهادة بألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لابد فيها من ذلك، وإلا كان قائلها مشركاً أو منافقاً كما بينا فيما مضى, وهذا معلوم أنه خارج من الملة طبعاً, فإن قالها وشهدها بحق ولكنه فرط في عمل من أعمالها وتوابعها ولوازمها؛ أي من الطاعات التي جعلها الله تبارك وتعالى فروعاً وتحقيقاً للشهادة فلم يخلص فيه لله عز وجل فإنه يكون من أهل الكبائر وهو داخل في الوعيد, وأهل الكبائر معلوم حكمهم, إذ هم أصحاب الوعيد الذي إن شاء الله تعالى غفر لصاحبه, وإن شاء عذبه, وأسباب المغفرة وأسباب النجاة من النار كثيرة, وهي موانع من أن يكون المرء من أصحاب الوعيد, وقد تقدم شرحها فيما سبق, ومن أعظمها شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى. فإذاً إذا فقد الإخلاص في أصل الدين وأصل الشهادة فصاحبه مشرك خارج من الملة, وأما إذا فقده في شعبه من شعب الإيمان أو عمل من أعماله, فهذا العمل حابط وقد خسر هذا العمل لكنه لا يخسر دينه كله, فرب رجل لا يخلص لله تبارك وتعالى في نفقة, مثلاً: أعطى ألف ريال رياءً, لكنه في صلاته مخلص, فهو ينال أجر الصلاة أيضاً مع أجر التوحيد وهو صادق فيه, ولكنه لا يأخذ أجر هذا المال الذي تصدق به, ولكنه على أية حال هو على خطأ عظيم؛ لأنه أبطل صدقته بالمنِّ والأذى, وهذا من أهل الوعيد.

أثر الرياء على صحة العمل مع توفر المجاهدة

أثر الرياء على صحة العمل مع توفر المجاهدة Q هل إذا طرأ على العمل رياء يبطل العمل, ولو كان هنالك مجاهدة؟ A إذا طرأ الرياء على العمل فلا يخلو إما أن يجاهد صاحبه ذلك الرياء كما ذكر الأخ فهذا لا يبطل عمله بإذن الله, بل هذا يؤجر على تلك المجاهدة وربما يكون ذلك خيراً له, أي ربما يكون هذا النزغ من الشيطان سبباً في مجاهدة يؤجر عليها العبد أجراً أكبر وأكثر مما لو أنه عمل العمل ولم يأته الشيطان ولم يحدثه في ذلك. وإما أن يستسلم للشيطان وأن يوافقه فيرائي بذلك العمل, فهذا لا يخلو إن كان العمل واحداً متصلاً كالصلاة الواحدة مثلاً, فمتى دخلها الرياء ولو في آخرها فإنها تبطل والعياذ بالله, فتحبط جميعاً, هذا الظاهر؛ لأن الأعمال بالخواتيم, وهذه عبادة واحدة لا تزال متصلة فإذا طرأ الرياء في آخرها وسلّم وهو على ذلك فهذه خاتمة سوء تجعل العمل كله حابطاً. لكن لا يعني ذلك أن تحبط كل صلاة قد صلاها من قبل خالصة لوجهه الكريم, وهي صلاة بعيدة منفصلة عنها؛ لأن الإيمان يزيد وينقص, كما هو مذهب أهل السنة والجماعة , فربما كان في الفجر مثلاً يصلي بإخلاص لا رياء فيه فيؤجر, ثم في الظهر شابته شائبة الرياء فلم يؤجر, ثم في العصر يرجع إليه إخلاصه فيؤجر, وهذا هو الحق الموافق للفطرة ولحال الناس وواقع الناس جميعاً, لا كما يزعم الخوارج أو غيرهم أنه يبطل ويحبط عمله كله وصلواته كلها. وكذلك النفقة فربما أنفق اليوم -أو الآن- ألف ريال بلا رياء, ثم بعد دقائق أو بعد أيام أو ساعات أنفق أخرى وراءى فيها والعياذ بالله فهذه تبطل وتحبط, وتلك التي أخلص فيها لا تحبط, وهذا هو القول الصحيح في هذا الأمر والله تعالى أعلم.

الامتناع عن أداء الطاعات خشية الوقوع في الرياء

الامتناع عن أداء الطاعات خشية الوقوع في الرياء Q بعض الناس إذ أراد أن يعمل عملاً أتاه الشيطان فشككه في عمله, وأنه رياء فلا يعمل هذا العمل, فما رأيكم يا فضيلة الشيخ! في هذا الشك؟ والحقيقة وردت كثير من الأسئلة تتناول هذه المشكلة فمن الصالحين من يقول: أشك في إمامتي, والآخر يقول: أشك في قراءتي للقرآن, وآخر يقول: أشك في قيامي لليل, والرابع يقول: أشك في شهادتي الجامعية, والخامس يقول: أشك في مجال دعوتي إلى الله عز وجل!! A نعم, لعل هذا يدخل فيما أثر عن بعض السلف قيل أنه سفيان أو الفضيل أو عن كليهما: [[العمل من أجل الناس رياء, وترك العمل لأجل الناس كفر]] والعياذ بالله, يعني هذا من الزجر؛ لأن الإنسان لابد أن يدرك أنه عبد, وأن الله تبارك وتعالى افترض عليه أمراً أو عملاً حتى ولو كان مشروعاً ومستحباً, أي ليس مفروضاً عليه لكنه مما شرعه الله له, فما شرعه الله له فليؤده لله تبارك وتعالى, خالصاً من شوائب الشرك والرياء والنفاق. فإن عمل هذا العمل من أجل الناس فقد راءى, أما لو ترك الطاعة من أجل الناس حتى لا يقول الناس: إن فلاناً فعل. سواء كان ذلك على سبيل النقد, مثلاً واحد لا يصلي حتى لا يضحك عليه الناس أو يستهزئوا به أو يأتيه الشيطان من هذا المدخل فيقول: لو صليت لكنت مرائياً فيترك الطاعة فهذا يصبح أيضاً قد دخل في باب آخر من أبواب المعصية وهو أنه ترك العمل لأجل الناس, فكلاهما ذنب, أن يعمل لهم أو يترك العمل لأجلهم. والمطلوب من كل واحد منا أن يجتنب الأمرين, فلا يعمل لأجل الناس, ولا يترك العمل أيضاً لأجلهم, فكل ما فوق التراب تراب. فعليك أخي الكريم أن ترى ما شرعه الله وافترضه عليك وتتحقق المصلحة الشرعية فيه وتقدم على فعله؛ لأن ما كان في عمله مفسدة راجحة أو ارتكاب منكر أو محظور فهذا أمر لا يدخل في هذا الحكم, لكن المقصود ما شرعه الله تبارك وتعالى وما تقتضي المصلحة فعله ولا مفسدة في فعله فإنك تفعله ولا تبالي بالناس, ولا بما قالوا! بل أنا أقول للإخوة الكرام: إن من أعظم مداخل الشيطان وحيله وتلبيسه على من أراد أن يجتهد في طاعة الله أن يأتيه بمثل هذا, لأن من شمر عن ساعديه واجتهد على الطاعة لا يستطيع الشيطان عدو الله أن يأتي إليه فيثنيه؛ لأنه خبيث, ولا يأتي إلى من عزم على القيام بعمل ليثنيه عن العمل, إنما يثني عن العمل الذي ما زال متردداًَ في الإقدام عليه, فهذا يصرفه عن العمل بسهولة, أما الذي عزم وعقد النية واجتهد فإنه لو أراد أن يثنيه لما سمع له, ولكن يأتيه من باب آخر فيقول: لو عملته لكان لغير الله!! فيأتيه من باب الورع الكاذب, ومتى كان عدو الله ناصحاً لك؟! ومتى كان الشيطان حاثاً على الورع؟! أو على الإخلاص؟! تذكر: أنه ما دام أن الله شرع لك هذا العمل وافترضه عليك وأن مصلحة الدين فيه فلا يمكن لعدو الله وعدوك -الذي قال الله فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]- أن يدلك على خير أو أن يثنيك عن عمل لأنه شر ولأنه ضار بك أبداً, وإنما هذا نوع من حيل الشيطان ومن تلبيسه. وقد عجبت غاية العجب لما بلغني أن أحد الشباب آتاه الله تبارك وتعالى من القراءة ومن العبادة ومن الصلاة ما يغبطه عليه الآخرون, وما يتطلع أكثر الشباب إلى إدراكه ونيله, فكان إذا رآه المصلي الذي لم يؤت مثل هذا الخشوع يتعجب من خشوعه, وفي النهاية زيَّن له الشيطان أن يترك صلاة الجماعة؛ لأن بعض الناس يتأملون في صلاته, وهو لا يملك نفسه إذا قرأ القرآن من أن يبكي, فقال: أفضل شيء أن أصلي الفريضة في البيت, لاحظوا الشيطان والعياذ بالله, هذا لو فعل ذلك لوقع في إثم عظيم وهو ترك صلاة الجماعة, بينما في ظنه أنه يبتعد عن الرياء, لكن لو أنه صلى الفريضة ورأى أن يجعل النافلة في البيت لا حرج في ذلك, بل هذا هو المشروع أو هذا هو الأفضل. فأقول أيها الإخوة الكرام: الشيطان عدو, إن لم يأتك من باب ترك الطاعة فإنه يلبس عليك أن تتركها بدعوى أن تكون مخلصاً, ولا يريد إلا أن تتركها فتستوي أنت والعاصي في ترك ما أمر الله تبارك وتعالى به مما افترضه عليك, فاحذروا منه! ولذلك يجب أن نحرص دائماً على أي ذكر يعين على أن يعتصم العبد بالله من الشيطان الرجيم, وأن يتحصن بأذكار الصباح والمساء وما أشبه ذلك, وعلينا أن نتعلم ونتفقه في الدين؛ لأن الشيطان أكثر ما يخدع العباد الجهال, فالفقه في الدين يعصم صاحبه بإذن الله من هذا, وإن لم يكن متفقاً, أو لم يؤهل لذلك, فليسأل أهل الذكر وأهل العلم هل أترك هذا أو لا أتركه؟! وعليه ألا ينساق وراء ما يلقي الشيطان في نفسه.

علامات إخلاص العمل لله تعالى

علامات إخلاص العمل لله تعالى Q إن كان للإخلاص علامات فما هي؟ وكيف أعرف أني مخلص لله تعالى؟ A سئل بعض السلف عن هذا فقال: أن يستوي سرك وعلانيتك, وأن تستوي خلوتك وجلوسك مع الناس, يعني أن تكون حالك مع الله تبارك وتعالى في خلوتك كحالك عند اجتماعك بالناس واختلاطك بهم, ويجب أن يكون سرك وعلانيتك أو ظاهرك وباطنك سواء. وسهل بن عبد الله الدستري رحمه الله, عندما تحدث عن هذا -وله كلمات عظيمة في هذا الشأن- قال: (أن تكون حركاته وسكناته لله تعالى, لا يخالطه شيء ولا يمازجه شيء) يعني تحقيق كامل لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]. وكما جاء في الحديث: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان} أي: إعطاؤك ومنعك, كما قال العلماء في شرح هذا الحديث أن أول ما تبدأ به, أن تحب الطاعة ثم تعزم على فعلها ثم تفعلها, وآخر شيء هو الإعطاء أو المنع أي: عملياً, فما بينهما كل أنواع الطاعات تندرج تحت هذا الحديث, أي: أن تكون كل أعمالك ما بين هذا وهذا لله, إن أحببت أو أبغضت, وإن منعت أو أعطيت, ستكون الحركات والسكنات كلها لله تبارك وتعالى, يعني أن تجتهد أن تكون كذلك, فهذا تحقيق الإخلاص لمن أراد أن يحققه.

الانشغال عن العبادات يقدح في كمالها كما يقدح في أصلها

الانشغال عن العبادات يقدح في كمالها كما يقدح في أصلها Q إذا حضرت الصلاة وشغلت عنها بمشاهدة مباراة في التلفاز, أفلا أكون أشركت بالله في هذا العمل؟ A ليس شرطاً -حتى لا يفهم الإخوة خطأً- أن الشرك يقتصر على الشرك المخرج من الملة, لكن من قدم شيئاً مما يريده الشيطان, أو يريده الهوى, أو تستلذه النفس وتستطيبه على ما أمر الله تبارك وتعالى به, وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم, فلا شك أن هذا المقدم أحب إليه من ذاك, أليس كذلك؟ لأنه لما كان حب المباراة أكبر وأهم من الصلاة قدم هذه المحبة على تلك. فيا إخوتي الكرام! المحبة واليقين والإخلاص -كما بينا- وغيرها من أعمال القلب قد يعمل العبد ما يقدح في كمالها، وقد يعمل ما يقدح في أصلها, فهنا لا نقول: إن هذا العمل يقدح في أصل الإخلاص فيكون مشركاً خارجاً من الملة. لكن إذا نظرنا إلى أن الشرك منه الخفي ومنه الأصغر, فهذا نوع منه؛ لأنه أحب هذا الأمر وقدمه على ما أحبه الله تبارك وتعالى, ولأن من عبادة الشيطان أن يطاع في المعصية يقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60]. بم تكون عبادة الشيطان؟! بطاعته, وعبادة الهوى: {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] كيف تكون؟ من اتبع هواه وكان أمره فرطاً, هذا هو المقصود, فإذاً تأليه الهوى وتأليه الشيطان وما أشبه ذلك قد يكون على الحقيقة وعلى أصل الدين كأن يعبد غير الله, وقد يكون في أمر من الفروع فيكون ذلك بالتبعية, كمن يقدم شيئاً من المعصية على مرضاة الله تبارك وتعالى, فهذا لا شك أن عمله يخدش إيمانه, ويخدش يقينه وصدقه ومحبته للطاعة وإخلاصه فيها. والواجب على الإنسان أن يتوب وأن يتجرد من ذلك كله, فبقدر وجوب الطاعة يكون ذلك, مثلاً هذا الأخ تشاغل عن العبادة عند سماع الأذان، وهذا أخف من أن يفعل ذلك عند سماع الإقامة؛ لأن الإجابة تكون آكد عند سماع الإقامة. في حالات الجهاد إذا كان فرض عين كما حدث في غزوة تبوك , وهي كما ذكر الله تبارك وتعالى في آيات البراءة أحوال المنافقين فيها, وتخلفهم عنها واشتغالهم عنها أو خوفهم من الخروج, فلما كان الجهاد متعيناً استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة قاطبة, وأمر كل مستطيع بالخروج, بخلاف لو كان الجهاد فرض كفاية وتخلف عنه وقدم محبته فلا يدخل في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] فلا يكون هذا بمثل ذلك الذي يكون الجهاد في حقه فرض عين, فبمقدار وجوب الأمر والطاعة يكون الإثم على من قدم عليها شيئاً من معصية الله تبارك وتعالى, فيكون القدح في كمال يقينه وإخلاصه وصدقه وخشوعه أكثر.

أثر الإخلاص على الجماعة

أثر الإخلاص على الجماعة Q ذكرتم يا شيخ! أثر الإخلاص على الفرد, فما هو أثره على الجماعة؟ A بطبيعة الحال إذا كان للإخلاص أثر على الفرد, فلابد أن يكون كذلك على الجماعة, فإذا كان في الأمة مخلصون فإنهم ينتصرون, وأعظم ما تحققه عملياً هو أن تنتصر على أعدائها, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم} فإذا كان فينا أمة -أي طائفة- عابدة زاهدة تقية مخلصة وتضرعت لله عز وجل ودعت بإخلاص فإننا ننتصر على العدو مهما كثر عَددُه ومهما قويت عُدده. فالإخلاص مهم للفرد وللمجتمع على حدٍ سواء, وقد ينجي الله تبارك وتعالى أمة أو قرية أو حضارة بوجود أناس مخلصين فيها، ولكن يجب أن يكونوا مصلحين عاملين: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] والمصلح لو لم يكن مخلصاً لما كان مصلحاً؛ لأن الذي نيته باطلة لا يكون إلا منافقاً والعياذ بالله, فهو مفسد وليس مصلحاً, وإن زعموا أنهم مصلحون إلا أنهم مفسدون ومنافقون، كما ذكر الله تبارك وتعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:12]. فإذاً إخوتي الكرام: لابد أن يكون في الأمة مخلصون؛ لكي يحفظها الله تبارك وتعالى من السوء, وهؤلاء المخلصون لو قنتوا وتضرعوا إلى الله عز وجل لدفع الله البلاء, والنموذج الظاهر كمثال لذلك حديث الثلاثة, فكذلك لو ابتليت الأمة بأن أطبق عليها العدو وسد عليها منافذ الحياة وضيقها عليها كحال المسلمين اليوم في العالم كله, ويمكن أن نرى أن الصليبيين أطبقوا على إخواننا في البوسنة مثلاً, أو في كشمير , أو في أرتيريا , أو في الفلبين أو غيرها أكثر من دول أخرى, إلا أن الأمة الإسلامية في مجموعها أعداؤها مطبقون عليها, ثرواتها بأيديهم, ورأيها بأيدهم, والقرارات فيما يسمونه مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة بأيديهم, فهم مطبقون عليها, فهي لو أنها صدقت وأخلصت لله تبارك وتعالى, وتجردت منها طائفة ولو لم تعمل إلا أن تتضرع بصدق لكشف الله تبارك وتعالى هذا البلاء, مع أن الدعاء لابد أن يشتمل على أمور أخرى على أية حال, لكن المقصود أن الفرد والأمة سواء في اشتراط الإخلاص, اللهم إلا أن الأمة الإسلامية بمجموعها لن تكون كذلك. فلابد أن يكون منها أمة أو طائفة تحقق هذا المعنى العظيم, وبها ينصر الله تعالى الأمة جمعاء.

الأحداث الجارية في أفغانستان

الأحداث الجارية في أفغانستان Q ما هو تعليقكم يا فضيلة الشيخ! على الأحداث الجارية في أفغانستان؟ A أنا أرى -وقد تضاربت لدينا الأخبار والأنباء- ما أوصيتكم به في الأسبوع الماضي من الدعاء بأن يجمع الله كلمتهم على الحق, ولا أرى أن نكثر أو حتى أن نخوض في هذا الأمر فنختلف ونتجادل نحن هنا, فما دامت الفتنة بين المجاهدين أنفسهم فنقول: تلك دماء كف الله تعالى أيدينا عنها, فنكفَّ ألسنتنا, وهذا لا يمنع وجود طائفة من الأمة تتحرى وتنصت وتنصح هذا وهذا وتبين المخطئ من المصيب, أو المعتدي من المعتدى عليه, وإنما لا يكون حديثاً عاماً لعامة الناس وعامة الأمة. أما ما كان ضد الباطنية وضد الميليشيات أو ما أشبه ذلك فلا شك أنه حق وأن هؤلاء من أعداء الدين, وأن القضاء عليهم واجب, لكن قد يكون الاختلاف في التوقيت أو فيما يسمونه التكتيك أو شيء من هذا, أما الأصل فلا يجوز أن يختلفوا فيه, ففي الحقيقة أنا أرى أن ترك الخوض في هذا خير, وأن الاكتفاء بالدعاء لكل المسلمين أن يجمع الله كلمتهم على الحق المبين من الكتاب وسنة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم.

الجهاد في البوسنة والهرسك وتمالؤ أمم الكفر على المسلمين

الجهاد في البوسنة والهرسك وتمالؤ أمم الكفر على المسلمين Q الحقيقة كثرت الأسئلة حول أخبار الجهاد في البوسنة والهرسك , ويطلب الإخوة آخر الأخبار عن المجاهدين في البوسنة والهرسك؟ A الوقت يضيق عنها وهي كثيرة ومهمة, لكن نحاول أن نوجزها: أولاًَ: وهذا قد قلناه ولكن الشواهد كثرت عليه جداً في اليومين الماضيين من إخوة جاءوا من هنالك, وقد بينوا أن الموقف الدولي والأوروبي ما بقي إلا أن يعلن بالإجماع أنها حرب صليبية سافرة, أقول: بالإجماع؛ لأن البعض قد أعلنها حرباً صليبية, وبعض الجرائد عندنا منها جريدة الرياض وقريب من ذلك حتى في جريدة عكاظ وغيرها أعلنت ذلك, حتى الصحف الأخرى في مصر وغيرها. لماذا الكروات وغيرهم ممن عاداهم الصرب يتم التدخل الدولي سريعاً للفصل بينهم, بينما يطول الأمر بخصوص المسلمين قبل أي تدخل, بل تغلق الحدود في أول الأمر لكي يبيدهم الصرب, ثم بعد عمليات الإبادة تفتح الحدود -حدود دول أوروبا- لكي يستقبلوهم؛ لأنهم رأوا أن تفريغ المنطقة من أهلها يحقق الهدف إذا لم يحققه الاستئصال والإبادة. فهذه حرب صليبية مكشوفة, حيث يؤخذ الأطفال وينقلون إلى دول أوروبا, بينما الآباء يقاتلون في الجبهة فيلحق هؤلاء الأطفال بملاجئ معينة ويأتي المنصرون من ألمانيا وإيطاليا إلى هذه الملاجئ بالذات ويسرقون الأطفال ويقولون: هؤلاء أيتام, فيما آباؤهم في الجبهة, والشواهد على هذا كثيرة جداً ونطق بها كثير من الغربيين, والإعلام الأمريكي في بعض قنواته -كما أخبرنا بعض الإخوة الذين جاءوا من أمريكا قريباً- صور هذه المآسي فأحدث ضجة هائلة, حتى إن المنافس الثاني الخبيث الذي يريد أن يحل محل بوش لما أعلن: إذا توليت أمريكا سوف أرسل قوة لردع الصرب ارتفعت أسهمه في الانتخابات وصار الفرق هائلاً بينه وبين بوش بسبب هذا التصريح, رغم أنه لن يقدم على ذلك, فكلا الرجلين يكذب ليروج لنفسه, لكن المقصود أنه رأى تأثير هذه المناظر في نفوس الأمريكان مما جعله يستغل هذا الأمر ويدخل من هذا الباب، ويعلن هذا الشيء ويهز المجتمع الأمريكي. بعض الإخوان يقولون: رأينا الأمريكان والألم باد على وجوههم عندما رأوا هذه المناظر, بينما الإعلام العربي والإسلامي -عبر التلفاز- ينقل المباريات! ومسابقة كذا! فالمسلمون في غفلة, والصليبيون يتحركون, فهي حرب صليبية سافرة, ولعلنا نتناول هذا الموضوع في محاضرة مستقلة لما فيه من عبر لعل الله أن ييسر ذلك حتى نورد لكم الحقائق أو بعضاً من الحقائق موثقة من الصحافة, كما أوصلها لنا بعض الإخوة, ونبين من خلالها علاقة الصرب باليهود وعلاقتهم بالنصارى, ونبين أن معاملة المسلمين تختلف كليةً عن معاملة غيرهم والله المستعان! ومن جانب آخر والحمد لله فإن المسلمين الذين أرادوا أن ينشئوا حركة أو جبهة جهادية خالصة من أبناء البوسنة والهرسك -طبعاً- هم والحمد لله وضعهم يتحسن, كذلك القبول للحق والخير عند المسلمين في تلك البلاد عموماً قبول جيد, بل قد يكون ممتازاً وعظيماً, فقد أقبلت النساء على الحجاب، وترك الناس ما كانوا عليه من البدع والعادات السيئة، يعني بقدر ما يتوفر الدعاة والمترجمون تحصل -والحمد لله- ثمرات ملموسة وظاهرة، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى.

من أعمال القلوب: (الرضا)

من أعمال القلوب: (الرضا) بدأ الشيخ الدرس ببيان أهمية الرضا، ومدى ارتباطه بكلمة التوحيد، واشتماله على أصول الإيمان الثلاثة: معرفة الله، ومعرفة رسوله، ومعرفة دين الإسلام، ثم تكلم عن سورة الأنعام مبيناً اشتمالها على أنواع التوحيد الثلاثة. وعرض خلال ذلك مراتب الرضا موضحاً أن تحقق هذه المراتب متوقف على تحكيم العبد لشريعة الله في كل شئونه، ومدى تقبله لها، ورضاه بها، وتسليمه لها، ثم تكلم الشيخ عن أهم الاعتراضات التي ترد على ألسنة كثير من الناس الذين لم يحققوا الرضا، مبيناً ما يترتب على ذلك من الأحكام.

الأصول الثلاثة المندرجة تحت الرضا

الأصول الثلاثة المندرجة تحت الرضا إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن هذا الموضوع الأخير من سلسلة مواضيع أعمال القلوب التي بدأناها هو الرضا -نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يختم أعمالنا وأعمارنا برضاه وأن يتقبلنا عنده في الفائزين المتقين، إنه سميع مجيب. الرضا: وإن كان الحديث عنه قليلاً، لكنه عمل قلبي عظيم، وهو الذي يندرج فيه شرطي القبول، والانقياد، وهما من شروط كلمة التوحيد، التي لا بد لتحققها من شروط؛ لأنها لو كانت مجرد كلمة أو مجرد لفظ يقال باللسان، لكان كل من قالها في زمن رسول الله -حتى المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار- من أهل النجاة والفوز عند الله تبارك وتعالى، ولكن لها شروط عظام، وقيود ثقال، منها ما سبق ذكره من المحبة، واليقين، والإخلاص، وما سنتناوله في هذه السلسلة -وهو الرضا الذي يجمع بين الانقياد، والقبول، أو الإذعان والتسليم، بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا كان الرضا بهذه المثابة، كان هو أساس الدين، وقاعدة الإيمان كما قال ابن القيم رحمه الله. الأصول الثلاثة: 1 - معرفة الله. 2 - معرفة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 3 - معرفة دين الإسلام. كلها تندرج تحت الرضا، ولذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه سلم رسولاً} وقال في الحديث الآخر: {من قال حين يسمع النداء -الأذان-: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً غُفرت له ذنوبه} وجاء في رواية أخرى، من قال حين يمسي أو يصبح: {رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، دخل الجنة}. فانظروا إلى قيمة الرضا، فقد اشتمل على الأصول الثلاثة جميعاً، وإذا كان المؤمن لا بد أن يرضى بهذه الأصول الثلاثة التي لا شيء من أمور الدين يخرج عنها -وهذا يدل على أهمية الرضا- فلابد أن يعلم حقيقة الرضا، ودرجات الرضا، وأن يتجنب ما هو ضد الرضا. ضد الرضا هو: الاعتراض، أو الممانعة، أو المنازعة فيما جاء عن الله وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كان أصل الدين وأساسه، وقاعدته، هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، التي هي التوحيد بأنواعه الثلاثة " توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات" فإن الرضا يشمل هذه الأنواع الثلاثة، ويشتمل على الفروع والأحكام أيضاً. ولذلك نجد أن الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهو من خير من كتب في موضوع الرضا، في كتابه النفيس القيم مدارج السالكين اشتق واستخرج هذه الثلاثة الأقسام للرضا، التي هي أقسام التوحيد من هذه الآية: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] وسورة الأنعام هي سورة التوحيد العظمى، فهذه السورة من أولها إلى آخرها توحيد، حتى ما ذكر فيها من تشريع، فهو مرتبط أساساً بقضية التوحيد، وإفراد الله تبارك وتعالى. ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164]. وهذا في آخرها، وهو دليل على توحيد الربوبية، لأنه قال {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام:164] وهو النوع الأول من أنواع التوحيد، فلا بد للعبد أن يرضى بربوبية الله تبارك وتعالى معتقداً أن الله تبارك وتعالى هو الخالق، والرازق، والمحي، والمميت، والذي يدبر الأمر، ويصرِّف هذا الكون، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولا يملك أحداً غير الله تبارك وتعالى التصرف في مثقال ذرة في هذا الكون، إلا بإذن الله وقدره وتدبير منه تبارك وتعالى، فهذا هو الرضا بالله تعالى رباً. وأما توحيد الألوهية: وهو الرضا بالله تبارك وتعالى إلهاً ومعبوداً، وولياً، فقد جاء في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، والولي: المقصود به الإله المعبود المحبوب، لأن أصل العبادة- كما بينا في موضوع المحبة - هي المحبة وهي التأله والوله وتعلق القلب، ومن تعلق قلبه بشيءٍ فقد عبده، والذي يستحق أن تتعلق به القلوب، وأن تعظمه، وأن تؤلهه، هو الله تبارك وتعالى. والولاية المقصود بها هنا العبادة، والتأله والتقرب إلى الله تبارك وتعالى، والتي من لوازمها، الموالاة في الله، والمعاداة في الله، وهي أن يحب الإنسان المرء لا يحبه إلا لله، وأن يبغض المرء لا يبغضه إلا لله، فيكون قلبه ولاءً وعداءً وحباً وكرهاًَ في الله، ومن أجل الله تبارك وتعالى فهذا من لوازم الولاية.

مراتب الرضا بحكم الله وشرعه

مراتب الرضا بحكم الله وشرعه ثم ذكر ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114] قال: وهذا هو النوع الثالث من أنواع الرضا. وهو أن يرضى بالله وحده لا شريك له حكماً، فيتحاكم ويحاكم إليه، في كل شأن من شئونه، فتراه يحتكم إلى ما أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه، وإلى ما جاء به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا كانت درجات الرضا ومقاماته. وتقسيم مراتب الرضا، هو بحسب تحكيم العبد لما أنزل الله، ولما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصول الدين وفي فروعه، وفي معاملاته مع الناس وفي كل شأن من شئون حياته، سواء أكانت أُمةً، أم دولةً، أم أفراداً، فلا بد أن يكون التحاكم والرجوع هو إلى الله تبارك وتعالى وإلى ما أنزل، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. ثم إن ضد الرضا هو: المنافاة، والمعارضة، والاعتراض، والمدافعة، والمنازعة، والممانعة، فلو تأملنا في هذه الآية الكريمة لوجدنا أنها تبين مراتب الرضا، ودرجاته التي بها ينتفي كل منازعة، ومعارضة، فهي تبدأ أولاً بالتحكيم، وتنتهي بالتسليم.

المرتبة الأولى من مراتب الرضا: التحكيم

المرتبة الأولى من مراتب الرضا: التحكيم أما التحكيم فلا بد منه لصحة إيمان العبد، فلا يكون المسلم مؤمناً، ولا مسلماً إلا بأن يحكِّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأصل التحكيم: الإقرار بأن ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحاكم على كل ما سواه، كما جاء في الحديث: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} قال العلماء: التقدير 'ليس حاكماً وقاضياً عليه أمرنا فهو رد' فأمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي يقضي ويحكم على الأهواء، والرغبات، والشهوات والقوانين، والعادات، والأعراف، والأوضاع، وكل ما يخطر ببالك مما يعارض ما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يمكن أن يعارضه، فيجب أن يكون الحاكم عليه هو ماجاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يقدم على ذلك شيء مهما كان. فهذا التحكيم من وقع ومن وقر في قلبه وأقر به فقد حقق درجة الإسلام، وحقق المرتبة الأولى من مراتب الرضا، وهي الرضا بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، لكن لا يزال في الدرجة الأولى، وحاله كحال الأعراب الذين قال الله تعالى فيهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات:14]، فمن كان هذا حاله فهو بحاجة إلى درجةٍ أعلى حتى يكون من أهل الإيمان، ولذلك بعد قوله: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65].

المرتبة الثانية من مراتب الرضا: انتفاء الحرج

المرتبة الثانية من مراتب الرضا: انتفاء الحرج والحرج هو: التردد، والريبة، والشك فيكون في النفس منازعة، وممانعة -وإن كانت خفية- واعتراض -وإن كان غير معمول به- فهو قد تحاكم إلى شرع الله لكن يجب عليه أن ينفي الحرج الذي يقع في القلب، فكثير من القلوب عند ما تسمع حكم رسول الله يقع فيها كثير من الأسئلة والشكوك. فيقول: كيف أعمل بهذا؟! أيصح هذا؟! وإن كان هذا الحديث قد قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن هل فعلاً ينطبق على الواقع؟! هل فعلاً أن هذا علاج حقيقي لمرض من الأمراض الاجتماعية أو النفسية؟! فهذه الشكوك، والريب، والخواطر، التي ترد على القلوب لا بد أن تزول لكي ينال المرء درجة الإيمان، التي هي المرتبة الثانية من مراتب الدين. ومن مراتب الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65]. فمهما كان الأمر، ومهما خالف العادات والتقاليد، ومهما رأيت الخلق أطبقوا على مخالفته، فعليك أن تعلم أن الحق، والخير والهدى، والصواب، فيما قضى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيما جاء به من أمور الدين أصولاً، أو فروعاً، في المعاملات، أو في الأحكام، أو في أي شيء مما جاء به، وكذلك أن يؤمن أن الأخبار كلها حق، وصدق، ولا يكون في نفس المؤمن أدنى حرج من أن هذا الخبر يحتمل أن يكون كذلك أو لا يحتمل! فهذا هو حال أصحاب الدرجة الثانية من المؤمنين.

المرتبة الثالثة من مراتب الرضا: التسليم

المرتبة الثالثة من مراتب الرضا: التسليم التسليم هو أفضل المراتب وأعلاها، التي يتنافس فيها المقربون، والصديقون، وأولياء الله تبارك وتعالى، وهي التي قال الله تعالى عنها: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، فهذه الدرجة هي درجة التسليم الكامل، والانقياد المطلق، بحيث لا توجد أدنى منازعة، ولا معارضة، بل بالعكس فهنا يكون الاندفاع، والرغبة، والتصديق المطلق، والمحبة لكل ما جاء به محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر عنه، كما يجب عليه أن يسمع قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل شيء ثم يصدق بذلك تصديقاً لا يداخله أدنى ريبة ولا شك، ولا يمكن أن يخطر بباله أدنى اعتراض، مهما قلَّ، فهذا هو مقام الإحسان.

الرضا بأحكام الله والصبر عليها

الرضا بأحكام الله والصبر عليها من خلال ما سبق يمكن إجمال مراتب الدين كالتالي: الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان وهو أعلاها مرتبة وأعظمها. ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: 'إن الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح' فأفضل وأعلى وأشد أعمال الجوارح هو الجهاد، الذي يخرج فيه الإنسان بماله ونفسه في سبيل الله من أجل أن يقاتل أعداء الله تعالى، متعرضاً للموت، ولفقد الروح التي هي أغلى ما عند كل مخلوق، فهذا في عمل الجوارح. وأما أعمال القلوب فهي درجات، فالعمل الذي يقابل الإحسان هو الرضا، لذلك يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه وهو من تعلمون حكمته، وعظيم منزلته في الدين، وبين أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [[ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم، والرضا بالقدر]]. فكل ما حَكم الله تبارك وتعالى به أو شَرعه فلا بد أن تصبر عليه وأن تتعبد الله به، وأن تصبر وتصابر وتصطبر لكي تعبد الله كما أمر الله وشرع الله، فهذا هو الصبر للحكم، وأما الرضا بالقدر فهو نوع من أنواع الرضا -كما سنبين إن شاء الله في أنواع الاعتراض- حيث إن أكثر اعتراض العامة يكون على أقدار الله، فعامة الخلق أكثر ما يعترضون على أفعال الله، وأحكامه، وأقداره -والعياذ بالله - فالمثال جاء بالقدر؛ وإلا فالرضا بالدين، وبالشرع، وبالأمر أعظم من ذلك، وكلها لا بد منها، وهي مطلوبة، فجعل الرضا ذروة سنام الإيمان، وبذلك يتبين لنا أهمية هذا العمل القلبي العظيم، ونعلم أن الله تبارك وتعالى عندما خاطبنا، بين لنا إكمال الدين والإيمان، خاطبنا فيه أو ذكره لنا باسم الرضا كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فإن هذا يستلزم في المقابل أن نرضى بما كتب وأنزل وشرع سبحانه وتعالى، وبما قضى به الله تبارك وتعالى إما في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا يؤدي بنا ويدلنا إلى أهمية معرفة أنواع الاعتراضات التي يعترض بها من لم يحقق الرضا.

اعتراضات الذين لا يتحققون بالرضا

اعتراضات الذين لا يتحققون بالرضا جاء من الناس من يعترض على ما أنزله الله، أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنواع الاعتراض على ما جاء من عند الله، والتي تقدح في الرضا، وهي في هذا العمل القلبي العظيم كثيرة متفاوتة منها:

الاعتراض على توحيد الله وأسمائه وصفاته

الاعتراض على توحيد الله وأسمائه وصفاته أعظم أنواع الاعتراض: الاعتراض على الله تعالى في دينه، وفيما أنزل من الدين، ووصى به جميع الأنبياء والمرسلين، وبعث به هؤلاء أجمعين، وفرضه على خلقه كافة من توحيده عز وجل ومعرفته بأسمائه وصفاته، ولذلك ظهر في هذه الأمة -مع الأسف الشديد- من يعترض على ما أنزل الله تعالى في أصل الدين، فظهر فيها من يعترضون على أسماء الله وصفاته، وهو الذي له صفات الكمال، ونعوت الجمال، وله الأسماء الحسنى عز وجل وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وما من صفات كمال إلا وهي له، فأي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالله تبارك وتعالى له فيها الكمال المطلق. ثم جاء المعترضون على هذا فنفوا صفات الله عز وجل واعترضوا عليها، وأوَّلوا كلامه، وردوا ما جاء عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يمس أصل الدين وأصل الإيمان، فبعضهم أنكر أسماء الله وصفاته كلها، كـ الجهمية، والمتفلسفة، والباطنية وأمثالهم ممن انحرفوا عن الصراط المستقيم، فهؤلاء لا خير فيهم مطلقاً، ولهذا أخرجهم كثير من العلماء عن فرق الأمة وطوائفها مطلقاً- نعوذ بالله من الضلالة - لأنهم لا يؤمنون حقيقة ًبالله عز وجل لأننا لا نعرف الله عز وجل إلا بأسمائه، وصفاته، فإذا كنا لا نعرف من نعبد، فكيف نعبده تبارك وتعالى؟! فلنفرض أن أحداً كان من أعبد خلق الله؛ لكنه لا يعرف الله، ولا يعرف أن ربه تبارك وتعالى وأن معبوده عز وجل استوى على العرش -كما أخبر في سبعة مواضع من كتابه- فعندما يسجد ويتعبد ويقول: سبحان ربي الأعلى، وهو لا يعرف علو الله فهو متناقض مع نفسه، فكيف يعتقد شيئاً ويقول بخلافه، فلا يمكن أن يُعبد الله عز وجل إلا إذا عرف الله تبارك وتعالى على الحقيقة. ويليهم: المعتزلة الذين أنكروا جميع الصفات، وأثبتوا الأسماء، وجعلوها مترادفات للدلالة على الذات، فالعزيز والحكيم والجبار والمتكبر وكل الأسماء معناها واحد، فهي مجرد أسماء تدل على الذات، ولا يشتق منها صفات، فهم يقولون -مثلاً-: إن الله تعالى اسمه الحكيم، ولكن لا نشتق منه الحكمة، أو العزيز فلا نؤمن بأن له تعالى صفة العزة وهكذا، فنفوا ذلك جميعاً، وجعلوها كالأعلام المترادفة في الدلالة على الذات. ثم الأشعرية وهم: الذين خففوا وهذبوا شيئاً من غُلو هؤلاء، ولكنهم لم يثبتوا لله ما أثبته لنفسه تبارك وتعالى أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من غير تعطيل، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تأويل. فخلاصة القول: أننا نحن الذين رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبكل ما يخبرنا به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نؤمن بما ذكر وبما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن كل ذلك حق، ولا نفرق بين شيء منه، فنؤمن بعلوه، ونؤمن بنزوله عز وجل في الثلث الأخير من الليل، ونؤمن بأنه تبارك وتعالى يأتي ويجيء يوم القيامة لفصل الحساب، ونؤمن بأنه يكلم ويخاطب من شاء، متى شاء وكيفما شاء، إلى آخر هذه الأسماء والصفات لله تبارك وتعالى، فأولئك الذين سبق ذكرهم هم النوع الأول من الذين اعترضوا في أصل الدين.

الاعتراض على أمر الله الشرعي

الاعتراض على أمر الله الشرعي هناك نوع آخر لم يعترضوا على ذلك، وإنما جاء اعتراضهم من باب آخر، ولا سيما في زماننا هذا، وهم الذين اعترضوا على الشرع، وعلى ما قضى الله تبارك وتعالى به قضاءً شرعياً، وعلى أحكام الله التي جعلها لعباده من الحل، والحرمة، والوجوب، والتحريم، والندب، وغير ذلك، مما يشمل أحوال الناس، ومعاملاتهم وشئونهم في هذه الحياة الدنيا. فجاء هؤلاء القوم واعترضوا على هذه الأحكام وعلى هذه الشريعة بالقوانين الوضعية، وربما اعترضوا عليه بالآراء والعادات الجاهلية -كحال أهل البوادي وأمثالها- فحكموا الطواغيت أو ما أشبه ذلك، فكل هذا اعتراض على شرع الله، وحكمه الشرعي الديني، وهذا خطير جداً، وهو يدخل أيضاً في الاعتراض أو يلحق بالاعتراض على أصل معرفة الله، ويلحق به ويليه بالدرجة من جهة أنه كفر بالله تبارك وتعالى. كمن يعترض على ما شرع الله عز وجل في حد الزنا -وهو الرجم للزاني إن كان محصناً، أو الجلد إن كان غير ذلك، بشروطه المعروفة -فيلغي ذلك، وينسخه، ويجعل مكان الجلد التحميم، كما فعل اليهود، أو يلغي الجلد أيضاً، ويجعل مكان ذلك كله الحبس أو الغرامة، كما في القوانين الوضعية التي تحكم أكثر العالم الإسلامي اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويعترضون على حكم الله تبارك وتعالى الذي قال فيه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275]، فيجعلون الربا حلالاً، ويستحلونه ويضعون له الأحكام الطويلة، ويشرعون كيفية إباحته، فيحددون نسبته وآجالاً معينة لها، ويجعلون له ألواناً وأشكالاً من الأخذ والعطاء، والدفع، والاحتيال، بل والاستحلال لدين الله تبارك وتعالى وتقوم على هذه التشريعات الوضعية المنافية لكتاب الله وسنة رسوله صروح وأعمدة للاقتصاد الوطني أو العالمي كما هو ملاحظ الآن. فهذا -أيضاً- اعتراض على الله تبارك وتعالى فيما شرع من أحكام، ولا يشك عاقل أن الربا من أخطر ما يرتكب من الذنوب، كما بين ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {الربا سبعون باباً أيسرها كأن ينكح الرجل أمه}، وفي الحديث الآخر: {درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية}، والعياذ بالله، والله تبارك وتعالى قد تأذن عليهم بالحرب: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: 'إن الربا من آخر ما نزل، وقد توعد الله تبارك وتعالى بالحرب ثقيفاً وغيرها من القبائل لما أرادت أن لا تحرم الربا، فكانت العقوبة أن يحاربها رسول الله' فالمقصود أن من أحله، وشرَّع تحليله، فهو معترض على الله تعالى في ذلك. وأسوأ منه الذي يجاهر ويقول: الذي شرعه الله لا يصلح أن يكون للحياة الحديثة، أو للاقتصاد الحديث، أو إننا في هذه الأيام لا بد أن نأخذ بالتشريعات المنافية، والمخالفة لما جاء في القرآن، فهذا -والعياذ بالله- معترض على الله تبارك وتعالى اعتراضاً واضحاً بيناً جلياً، فلا حظَّ له في الإيمان وليس داخلاً في الذين ذكرنا درجاتهم، لأنه كما ذكر الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]. فهذا لم يحكِّم أصلاً، فضلاً عن نفي الحرج، أو التسليم، ولذلك فهو غير مؤمن -نسأل الله العفو والعافية- ويقاس على ذلك أشياء كثيرة، كحد السرقة مثلاً، وحد الردة وغير ذلك.

الاعتراض على إخبار الله عما في الكون

الاعتراض على إخبار الله عما في الكون هناك نوع آخر من أنواع الاعتراض، وهو أيضاً يقدح في الإيمان وفي أصل الدين والإيمان، وهو مناف للرضا أيما منافاة! وهو الاعتراض على أخباره، أو أوامره بما وضعه البشر من أهواء، أو أفكار، أو نظريات قديمة، أو حديثه. مثلاً: أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه خلقنا نحن جميعاً من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، والنفس الواحدة هي آدم، وخلق منها زوجها هي حواء، ثم جعل السلالة البشرية بعد ذلك تتناسل من هذين، فكل من تراه على وجه الأرض، أو من عاش فوقها من البشر، فهم من بني آدم، وأبوهم آدم، وبين الله كيفية الخلق ومم هو في أكثر من آية، فهذا أمر قطعي، يقرؤه كل مؤمن ويجده واضحاً في كتاب الله. ثم يأتي قائل -كما هو مشهور الآن في العالم، ويدرس ويلقن أبناءنا وبناتنا- فيقول: 'لا. هؤلاء البشر الذين تراهم، على اختلاف أعراقهم، وأجناسهم، وألوانهم، هم منحدرون من سلالة حيوانية' وهذه هي نظرية التطور، وهي تقول: إن الأصل القديم حيوان تطور، فأصبح قرداً، وهناك حلقة مفقودة بين القرد وبين الإنسان ثم جاء الإنسان، فعلى هذا فلا يكون هناك آدم، ولا نفس واحدة، ولا خلق الله تبارك وتعالى العالم كما أخبرنا، وكما جاء في القرآن، وإنما يريدون منا أن نؤمن وأن نعتقد ما يعتقدون، ونحن نقول: إن والإيمان بها كفر يخرج صاحبه من الملة، ومن أقرَّها أو قررها أو درسها فقد اعترض على ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهناك مثال آخر: فنحن نعلم أن الله عز وجل خلق كل إنسان منا في هذا الوجود على الفطرة القويمة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل مولود يولد على الفطرة} فنؤمن أن كل مولود يولد على الفطرة، التي هي {على الملة}، كما بينتها الرواية الأخرى، فكل مولود يولد في الهند، أو في اليابان، أو في إفريقيا، أو في مكة، أو في غيرها يولد على ملة الإسلام، وعلى الدين القويم، ولكن الفطرة تتغير بالتربية كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}. فجاءت النظريات التربوية والنفسية الحديثة -كما يسمونها- تنافي ذلك كله وتقول: إن الإنسان يولد كل بحسب رأيه. فمثلاً: نظرية فرويد اليهودي الخبيث، تجعل الإنسان كائناً جنسياً، أو أنه ما ولد ليتدين وإنما كل حركة من حركاته فهي بدافع الرغبة، والشهوة الجنسية، وهذا كلام بمنتهى القذارة، ولكنه ليس بغريب من يهودي خبيث يريد أن يهدم أخلاق البشر جميعاً، والأغرب منه أن يأتي أبناء المسلمين، فيقررون هذا الكلام في مناهجهم التعليمية التي يتلقاها الأبناء، دون أن يذكر أن هذا كفر، وضلال. وتأتي النظريات الأخرى، كالنظريات التربوية الاستراتيجية، والنظريات الرأسمالية، ونظريات كثيرة، كل نظرية تفسر رغبات الإنسان، وميوله، منذ ولادته بما ترى، فمثلاً النظرية السلوكية في أمريكا وحدها تنقسم إلى أكثر من عشرين مدرسة نفسية، كل منها لها نظرية عن هذا المخلوق العجيب، ثم تأتي هذه النظريات وتقرر باسم علم النفس، وباسم علم الاجتماع، وما أشبه ذلك من العلوم ولا ينظر في هذه العلوم إلى ما جاء عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما في النظريات الكونية فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا عن هذا الكون بما يكفينا لمعرفته سبحانه، لا لنعرف تفصيلات هذا الكون، ولنعلم أن له رباً، خالقاً، حكيماً، مدبراً تبارك وتعالى، فإذا جاءوا وأخبرونا بخلاف ذلك، كأن يقولوا: إن السماء فضاء لا نهاية له، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا أنها سبعاً طباقاً، والنبي في ليلة الإسراء والمعراج يستأذن هو وجبريل في الأولى، ثم في الثانية، والثالثة إلى السابعة، وأخبرنا من لقي في الأولى، ومن لقي في الثانية، وفي الثالثة إلى السابعة، فكلامهم هذا هراء! ونحن نؤمن بما ذكر الله تبارك وتعالى ونرد ما يخالفه. فهؤلاء الذين يأتون بنظريات مخالفة لما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى، هم من المعترضين على ما جاء عن الله، ومن عند الله. أيضاً من يأتي بالنظريات عن صفات الإنسان البشرية، فيعارضون بها ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن صفات هذا المخلوق، من أن المرأة دون الرجل في الخلقة، ومن ثَمَّ هي دون الرجل في الواجبات، وفي حمل الأمانة، أو بمعنى آخر: أن الله تبارك وتعالى خلق الذكر والأنثى، وجعل لكل منهما عبادة تتناسب مع ما خلقه وفطره عليها، وتتناسب مع تكوينه الذي كونه الله تبارك وتعالى عليه، وبالتالي جاء هؤلاء وأرادوا أن يجعلوهما في العمل، والواجب، والحقوق والميراث متساويين، وهذا مما يدخل في الاعتراض على الأحكام، فقالوا: ليكن الميراث واحداً، لاكما ذكر الله تبارك وتعالى حيث فرض للذكر مثل حظ الأنثيين، ويريدون أن يجعلوهما واحداً في كل شيء، فللمرأة حق في الانتخابات، وفي الوصول إلى الوزارة، أو أن تكون رئيسة للدولة، أو أن تفعل كل ما يفعله الرجل من الأعمال، وكذلك لها مثل ما له من الحقوق، ومنها هذا الحق في الميراث، فهؤلاء من الذين يعترضون اعتراضاً جلياً واضحاً على ما شرع الله، فكانوا ممن لم يرض بدين الله تبارك وتعالى.

الاعتراض بالأقيسة الفاسدة والأهواء

الاعتراض بالأقيسة الفاسدة والأهواء هناك نوع من الناس -وهذا واقع في هذه الأمة مع الأسف الشديد كثير جداً ولا حوله ولا قوة إلا بالله- يعترضون بنوع آخر في الاستدلال، ومعرفة الأحكام، وتراهم يعترضون على ما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتراهم يبلغهم الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيردونه، أو يتأولونه بكلام فلان من أئمة المذاهب أو بقياس كما يسمى، أو بالنظر، أو بالعقل، إلى آخره، فيردون الحديث، ويعترضون على ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ما شرع من الدين بالقياس، أو بالرأي، أو بالهوى، أو ما يسمونه بالقواعد المنطقية، أو القواعد الكلية، أو ما أشبه ذلك من المسميات، وهي مخالفة لما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليست مأخوذة عنه، ولا متلقاة عن هديه. فهؤلاء القوم قد ابتليت بهم هذه الأمة حتى قال قائلهم: 'أي حديث يخالف مذهبنا فهو إما ضعيف أو منسوخ' سبحان الله! جعل المذهب هو الحكم! فأي حديث يخالف المذهب فهو إما ضعيف، أو موضوع، فلا يؤخذ به، ولا يعتد به، أو منسوخ، وأن العمل يجب أن يكون على المذهب، فتعصب هؤلاء المقلدون كلٌ لمذهبه الذي ينتسب إليه، ومزقوا هذه الأمة، وفرقوها حتى وقع القتال، وأريقت الدماء، وكم من دماء أريقت من أجل حكم فرعي، فلو اتفق الجميع على قبول الحق والإذعان إلى ما شرع الله، لكانوا جميعاً على أمر واحد كما أمر الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وإن اختلفوا في فهمه؛ فكل منهم يعذر الآخر باجتهاده، ولكن الهوى والتعصب جعلهم يتقاتلون، فكم وقع من قتال في خراسان، وما وراء النهر بين الشافعية والحنفية، وكم وقع في اليمن بين من ينتمي إلى الفقه الهادوي -أي: الزيدي- وبين الشافعية، فهذا دليل على التعصب المقيت، الذي لو تأمل هؤلاء قليلاً لوجدوا أن أئمة المذاهب ينكرون هذا، ولا يقرونه، وكل منهم كان مجتهداً يريد الحق، كما بين شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في كتابه الجليل " رفع الملام عن الأئمة الأعلام ".

الاعتراض بالكشوفات والرؤى والأحلام

الاعتراض بالكشوفات والرؤى والأحلام يوجد نوع آخر من الاعتراض على الدين، والعبادة والشرع الذي شرعه الله، بالخيالات وبالكشوفات، وبالمنامات، وبالرؤى، وبالأحلام، وما أشبه ذلك، وهذا حال الصوفية كما هو حال المتعصبة من الفقهاء، تقول لهم: إن الله تعالى حرم هذا، أو قال فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيقول: الشيخ الفلاني نام ورأى الخضر عليه السلام في المنام وقال هذا حلال، سبحان الله! ومن قال لك بأن الأحلام والمنامات يعمل بها في معارضة ما جاء من الوحي في كتاب الله؟! ومن قال لك: إن هذا الذي في المنام هو الخضر، لماذا لا يكون الشيطان؟! وهل يحق للخضر أو كائناً من كان، أن يشرِّع غير ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أن يحدث في الدين ما ليس منه؟! بل تصل ببعضهم الجرأة -عياذاً بالله- إلى القول بأنه يرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة، فبعضهم يقول: مناماً ثم يتدرج ويقول: يقظةً، ويقول: هذا حلال وهذا حرام، يعلِّمه أمراً غير ما نعلمه نحن في الكتاب والسنة، وهذا اتهام عظيم شنيع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه ادخر شيئاً من الدين، أو أنه لم يعلِّمه للعالمين، واختص به هؤلاء الضالين المضلين في آخر الزمان. ولا ريب أن هذا شيطان إن جاءه، وإلا فهم كاذبون بما يدعون، وإنما يريدون أن يعترضوا على ما ثبت من الدين بهذه الأباطيل، وهذا إفك وافتراء، سواء أكانت أحلاماً، أم منامات، أم خيالات، أم كشوفات، كما يسمونها. بل إن أشد من ذلك كله الذين يعتقدون من أئمة الصوفية أن الله تعالى يخاطبهم بنفسه، ويتكلم معهم، ويناديهم فحقيقة هؤلاء أنهم مدعون للنبوة! لأن من كلمه الله تعالى بلا واسطة، فقد أصبح نبياً بلا ريب، فهؤلاء يدعون النبوة، وحقيقة أمرهم أنهم يريدون القول بأنهم أنبياء، ولا يؤمنون بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والعياذ بالله- فلذلك كم تقرأ في كتبهم أن الشيخ الفلاني كان يعمل من الأعمال التي لا تجوز ولا تحل، وذلك بسب أن المنادي ناداه فقال: يا عبدي فلان هذا حلال، فاستحله وفعله! فهذا شيطان اتخذه عبداً له، وناداه وأمره بأمر يخالف الشرع، ليخرجه من الدين بالكلية، ويتوهم هذا المخدوع الضال -وربما كان مفترياً ومضلاً- أن المخاطب له هو الله تبارك وتعالى! وهذا من الدجل المنتشر في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وإن كان ولله الحمد قليلاً في هذه البلاد الطيبة -إن شاء الله- وقد بدأ نور الخير، والسنة، واتباع منهج السلف الصالح، ولله الحمد ينتشر في كل مكان، ولكن هذا مرض موجود في الكتب، وفي واقع الحياة، وهو من أسوأ أنواع الاعتراض على ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مناف للرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً.

الاعتراض على ما شرع الله بالأعراف والعادات والأهواء الجاهلية

الاعتراض على ما شرع الله بالأعراف والعادات والأهواء الجاهلية وهذه عادة مذمومة ذكرها الله عن الذين كذبوا الأنبياء، وردوا دين الله عز وجل وقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]. فهذا النوع منتشر في الأمة -إلا من رحم الله- وقليل من الناس مَنْ لديه الاستعداد أن يترك عادات القبيلة اتباعاً لما أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الكثير منهم فتقول له: هذا حرام وهذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينزجر ولا يتراجع عن حكمه وهواه. فمثلاً في الطرب والموسيقى وما أشبه ذلك، يقول: العادة عندنا كذا، والجماعة كذا، والقبيلة كذا، والناس كذا! فيعترض على الدين، وعلى الشرع، بالعادات، والأعراف، والأهواء، والأوضاع الجاهلية، والأمثلة على هذا كثيرة فلا نطيل فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الاعتراض على حكمة الله وقدره

الاعتراض على حكمة الله وقدره من أنواع الاعتراض الاعتراض على حكمة الله، وعلى قدر الله، وعلى أفعال الله تبارك وتعالى. وهذا قديم ومنتشر بين الناس - إلا من وفقه الله للرضا ولحقيقة الرضا- وأكثر المعترضين كفارٌ وهم الذين اعترضوا على أصل الدين، وأصل القدر، وأصل الاختيار، وقدوتهم في ذلك إبليس اللعين، الذي اعترض على أمر الله تبارك وتعالى له بالسجود لآدم، فجعل ما أمره الله به مخالفاً ومنافياً للحكمة، لأنه يرى أن النار أفضل من الطين: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فيرى أن عنصر النار أفضل، فمعنى قوله: إن من الحكمة أن يسجد الطين للنار وليس العكس! وكثير من الناس يقعون في هذا وفيما هو أشد منه وهم يعلمون أو لا يعلمون، وبهذا طرده الله من رحمته، وجعل عليه لعنته إلى يوم الدين، وأصبح رأس الكفر في الدنيا، والمشركون تعلموا منه هذا النوع، فاعترضوا على أن يكون الرسول بشر: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47]، وفي الآية الأخرى {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس:15]. فهم يريدون أن يكون الرسول المرسل إليهم ملكاً، أما إذا كان رجلاً فلا، والله تعالى له الحكمة العظيمة في ذلك {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]، حتى تكون القدوة، وتكون الأسوة، فيكون هذا بشر، وهذا بشر، فلو كان ملكاً في الحقيقة لجعلناه بشراً في الصورة، حتى يكون من جنسهم، ويخاطبهم، ليقتدوا به وهو من جنسهم، أما لو جاءهم ملك لقالوا: أنت ملك، تصلي لأنك ملك أما نحن فبشر لا نستطيع، وإن تترك الشهوات فلأنك ملك، أما نحن فبشر فلا نترك الشهوات والمحرمات وهكذا. فيعترضون على حكمته وقدره، ولهذا يقول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]، فيبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه ليس لهم أن يختاروا أن يكون الرسول بشراً، أو ملكاً، أو أن تكون الرسالة في رجل دون الآخر كما حكي عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. فاعترضوا على عدم جعل الله تبارك وتعالى هذه النبوة وهذا الوحي وهذا الذكر ينزل على عروة بن مسعود، أو الوليد بن المغيرة، على رجل من القريتين - مكة والطائف - أما أن ينزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس عنده أموال، أو وجاهة في قريش، أو عنده عبيد وجواري، ولا كذا، فاعترضوا على حكمته؛ ولهذا يقول الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]، فالمعيشة الدنيوية هذه يقسمها الله تبارك وتعالى بين خلقه {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20]، أما النبوة، وأما الرحمة فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يحق لكم أن تعترضوا على اختيار الله تعالى، وتقولوا لو أنه اختار فلاناً، ولو أنه نبَّأ فلاناً لآمنا به، أما وقد نبَّأ فلاناً فلا! كما اعترضوا على الأتباع: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، كما قال قوم نوح، وقريش قالوا للنبي: 'اطرد هؤلاء الضعفاء لنجالسك نحن عظماء القوم، ونسمع منك، أما أن نجلس معهم، ونتأذى بروائحهم، فنحن لا يليق بنا ذلك' وهذا من اعتراضهم على أتباعه وأتباع دينه، لذا نهاه ربه عن ذلك فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]، فهؤلاء الذين يرجون وجه الله، هم خير عند الله تبارك وتعالى وهم أفضل من أولئك، ولكن الله تعالى جعل بعضهم لبعض فتنة وهو أعلم بالشاكرين، فجعل إيمان الضعفاء فتنة؛ لكي لا يؤمن الكبراء وهذا من حكمة الله عز وجل. كما اعترضوا حتى على القرآن، فقالوا: لو أنه نزل جملة واحدة، فهم لا يريدونه أن ينزل بحسب الأحداث، ومنجماً بحسب الوقائع، بل يريدونه أن ينزل جملة واحدة، فرد الله تبارك وتعالى على هذا الاعتراض، وبين أن الحكمة من ذلك التثبيت، ولكي لا يأتوا بمثلٍ إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً، وهناك أنواع كثيرة من أنواع الاعتراض التي اعترض بها الجاهلون والمشركون. وأيضاً قد اعترض المنافقون، الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، فهم يعترضون دائماً على أوامر الله، فأصحاب الشهوات في كل مكان، وفي كل زمان، لا بد أن يعترضوا على دين الله، ولا يرضيهم ذلك، فلذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط}. فهذه عبوديته: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، وهذا ما فعله المنافقون، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]. فترى المنافق وأصحاب الشهوات إذا تحققت شهواتهم ورغباتهم، قالوا: أحسنت وهذا حكم طيب، وأنت حقاً رسول الله، وإن كان قاضياً فحكم له قالوا: هذا القاضي يقضي بالحق: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49]، فإن حكم لخصمه وكان هو المبطل، وحكم القاضي بالحق قال: هذا مخطئ، أو مرتشٍ، أو كذاب، فأهم شيء عندهم أن يكون تبع لأهوائهم، وليس تبعاً للحق، فإذا كان لهم الحق وعلموا أن الحكم سيكون لهم، جاءوا وقالوا: لا نريد أن يحكم بيننا إلا رسول الله، أما في وقتنا الحالي فيقولون: نريد صاحب دين، وإيمان، وتقى حتى يحكم بيننا؛ لأنه يثق بأن البينات التي عنده ستجعل الحكم له؛ لكنه لو كان في الحالة الأولى يقول: لا نريد فلاناً، كما قال المجرمون من قبل: نذهب إلى كاهن جهينة أو إلى كعب بن الأشرف: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]، فقالوا: لا نذهب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل نذهب إلى كعب لأنه يأخذ الرشوة. كما أن كثيراً منهم يعترضون على قدر الله، إن أعطاهم الله ووسع عليهم وأنعم عليهم، فيقولون: أكرمنا الله وأعطانا الله، وربكم لا يعطي إلا من يحب، وجعلوا ذلك دليلاً وعلامة على أن الله يحبهم، وأن أعمالهم صالحة وطيبة، ونسبوا ما يأتيهم من مال إلى عبادتهم، وإخلاصهم، وصدقاتهم، ونفقاتهم، وما علموا أنه استدراج! وأما إذا قدَّر عليهم أرزاقهم، وضيق عليهم، أو منعهم وإن كان بعد عطاءٍ، أو إذا أمرضهم وإن كان بعد شفاء وعافية قالوا: {رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] قالوا: كيف تعذبني؟! ماذا فعلت؟! وماذا صنعت؟ أو لماذا فعلت كذا ولم تفعل كذا؟! فيعترضون. وأكثر ما يعترض الخلق قديماً وحديثاً على أقدار الله عز وجل، ويظن أنه غير أهل لأن يبتليه الله بمصيبة، أو بفقد مال، أو بفقد حبيب، لأنه يرى أنه من أهل الصلاح والدين، ولو كان هذا في الفجار، أو في غيره من الذين يفعلون ما يفعلون لكان هذا أحق بهم وأجدر! ولا يعلمون أن الله تبارك وتعالى يبتلي بالخير والشر، وأن الله عز وجل يمتحن من ينعم عليه ليرى أيشكر أم يكفر ويمتحن من يأتيه بما لا يرضى به ليرى الله أيصبر أم يجزع ويقنط، ومن هنا لا بد من الرضا بأقدار الله تبارك وتعالى كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه.

الاعتراض علىحكمة الرسول

الاعتراض علىحكمة الرسول من ذلك أيضاً: الاعتراض على حكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم يكن فيه اعتراض على حكمة الله كما فعل الخارجي -أصل الخوارج الذي خرجوا من ضئضئه- عندما حكم رسول الله وقسم الغنائم فقال: {إعدل يا محمد!} نعوذ بالله من ذلك، فاعترض هذا الخارجي على الحكمة النبوية، ورأى أن هواه وأن رأيه وأن عقله أصوب في هذا الشأن، وأنه يجب أن تكون القسمة بالمساواة أو أن يعطى الناس بحسب إيمانهم، فالمؤمنون العظماء يأخذون الألوف، ومن دونهم يأخذون المئات، والأقل إيماناً يأخذون الأقل من الإبل والأنعام، ولكن من حكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهي بوحي من الله- أن يعطي الأعراب، وأن يعطي المؤلفة قلوبهم، وأن يعطي حديثي العهد بالإسلام، وأما أولئك فكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يكلهم إلى إيمانهم} هؤلاء مؤمنون، ورغبتهم إلى ما عند الله، ورغبتهم في الجنة، منذ أن بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم العقبة فقالوا: {فما لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل} وهؤلاء المهاجرون أعظم من ذلك، هؤلاء لا يريدون الدنيا ومتاعها، ولا يبالون أُعطوا أم لم يُعطوا، أما أولئك فإذا أُعطوا آمنوا فآمنت بعدهم قبائل وأمم، وإن لم يُعطوا كفروا فتكفر بكفرهم قبائل وأمم. فالحكمة واضحة جلية، ومع ذلك اعترضوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا، ويجب أن نعلم أن الاعتراض كما يقول ابن القيم رحمه الله: ' هذه الاعتراضات وأمثالها سارية في جميع الخلق، قل من ينجو من نوع من أنواع الاعتراض على الله، أو على دين الله، أو على شرعه، أو على أخباره، أو على أحكامه' قلَّ من ينجو من ذلك، ومن نجى من ذلك وحقق درجة التسليم المطلق، بلا معارضة، ولا ممانعة، فعليه أن يحمد الله على هذا، ويجعله امتحاناً واختباراً لإيمانه، فالأمثلة التي ذكرناها إنما هي إشارات، وإلا فداء الاعتراض داء عظيم، وقليل من خلق الله هم حقاً من ذاقوا طعم الإيمان، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً}. جعلني الله والمسلمين من الراضين، ومن هؤلاء المصطفين الأخيار، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

إرضاء الناس من أجل دعوتهم إلى الله

إرضاء الناس من أجل دعوتهم إلى الله Q يقول حديث من طلب رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، ومن طلب رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه أو كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإننا في تعاملنا مع الناس ودعوتهم، قد نضطر أحياناً إلى إرضائهم، حتى نكسب قلوبهم، فهل هذا داخل تحت الحديث؟ A ما دام غرضك من استرضائهم أن يؤمنوا بالله، وأن ينالوا رضى الله، فلا ينطبق عليك هذا الحديث -إن شاء الله- لأنك تريد أن تكسبهم لله لا لنفسك، ففي الحقيقة من كان هذا حاله فهو لا يبتغي رضى الناس بسخط الله، وإنما غايته هي رضى الله، لكي يؤمن هؤلاء، فيرضى الله عنهم بإيمانهم، ويرضى عنه بدعوته هؤلاء، ومما يرضاه الله لنا أن نستميل قلوبهم، وأن نخاطبهم بالحكمة واللين؛ لكي نكسب قلوبهم، ويؤمنوا بالله، فهذا مما ما يرضاه الله وهو مما شرعه.

حكم الدول والشعوب التي تحكم وتتحاكم إلى القوانين الوضعية

حكم الدول والشعوب التي تحكم وتتحاكم إلى القوانين الوضعية Q ما حكم الدول التي تحكم بالقوانين الوضعية، والشعوب التي ترضى بهذه القوانين، وما هو الحل الأمثل لتجنب ذلك؟ A قد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكم من أراد التحاكم إلى غير شريعته فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] فجعله الله زعماً، وأشار إليه على طريق التعجب، وجعله زعماً لا حقيقة له: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] فاختاروا حكم الطاغوت على حكم الله. فمن اختار ذلك فهو كافر، سواء أكان حكومةً أم شعباً، وإن قال بلسانه: إننا نريد الدين، أو نريد الإسلام، أو إن حكم الإسلام أفضل، فما دام اختار غير ذلك من القوانين الوضعية وأراده وحكم به فهو كافر، فرداً كان أو حكومةً، أما من يحكم بالقوانين الوضعية وهو مكره فهذا حالة استثنائية ونحن نتكلم على القضايا العامة الأصلية. فنتأكد أولاً هل الإكراه متحقق فعلاً، أم هو كما قال الإمام أحمد عندما قيل له: إنهم يكرهوننا، وذكروه بحديث بلال فقال: 'إن بلالاً وعماراً وأمثالهم ضربوا، وأنتم قيل سنضربكم فقلتم القرآن مخلوق' أي: أنتم ما ضربتم، بل قيل: سنضربكم، فهنا لم يتحقق الإكراه، ففرق بين هذا وهذا، وليس كل من قال: أنا مكره فقد تحقق فيه الإكراه، أو يقول: هذه وظيفتي، ماذا أفعل؟! فنقول: ليس هذا عذراً، وما هو بإكراه، بل لا بد أن تجتهد، وأن تبحث عن بديل، وأن يرى عليك أثر الإكراه، أما أن تعيش عمرك كله في هذه الوظائف، وتقول: مكره فلا، وهذا غير صحيح، وعليه فإنه يجب أن تدرس كل حالة فإذا تبين أنه مكره، وتنطبق عليه حقيقة الإكراه، فهذه حالة عارضة مستثناة، ولا تؤثر على الأصل.

شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لابد من شروطها حتى تتحقق

شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لابد من شروطها حتى تتحقق Q فضيلة الشيخ في قولك: إن شهادة أن لا إله إلا الله محتاجة إلى شروط حتى تقبل من قائلها، فكيف نجمع بينها وبين حديث الغلام اليهودي الذين قالها عند احتضاره بعد أن وافقه أبوه على النطق بها؟ A هذا السائل يسأل ويستدل بحديث الغلام اليهودي، الذي قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قل لا إله إلا الله، فنظر إلى أبيه فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال: لا إله إلا الله} كما يقول: إن هذا لم يأت بالشروط، وأنت قلت لابد أن تتحقق الشروط، وهذا قال لا إله إلا الله ونجى من النار فقط، فنقول أولاً: نعود للقاعدة نفسها فعندما نتحدث عن القاعدة العامة، أن المسلمين يقولون: لا إله إلا الله وهم أحياء، ويمشون، ويعملون، فهؤلاء نقول لهم: حققوا معناها وشروطها ومقتضاها، أما في حالة الاحتضار فهي حالة مستثناة. ثم نقول: يا أخي الكريم: كيف عرفت أن الغلام لم يقلها بيقين، وإخلاص، ومحبة ورضا؟! فإن قلت: قالها كذلك، قلنا هذه هي الشروط، وهذا الذي نقوله، وإن قلت لم يقل كذلك، قلنا: من أين لك ذلك؟! ولا يجوز هذا لأنك لم تطلع على قلبه، فالأصل أنه ما نظر إلى أبيه إلا خائفاً، ولذلك لم ينتظر بعد قول أبيه: أطع أبا القاسم، حتى انشرح لها صدره فقالها بانشراح صدر كما هو ظاهر الحال، واستجاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أنه ما قالها إلا بهذه الشروط.

مسألة عدم الرضا بحكم القاضي

مسألة عدم الرضا بحكم القاضي Q عندما يحتكم شخص إلى قاض في المحكمة، ثم يحكم القاضي عليه، فيشعر أنه مظلوم، فهل هذا الشعور يعتبر من عدم الرضا بحكم الله؟ A فرق بين أنك تشعر أن القاضي ظلمك، ولم يحكم فيك بحكم الله، الذي هو العدل والحق ولو حكم فيك بحكم الله لقبلت ورضيت، فتعترض في هذه الحالة على عمل القاضي، الذي هو بشر، فقد يخطئ فعلاً، وقد يرتشي، وقد يظلم والعياذ بالله، وهذا قد يقع، فرق بين هذا وبين أن يكون الاعتراض على الحكم ذاته، كما لو حكم لامرأة أن لها نصف ميراث الرجل، فتقول: كيف ذلك، لابد أن آخذ مثل أخي بالمساواة، فهذا اعتراض على الحكم، وعلى الشرع ذاته، وليس على فعل القاضي، فهذا لا بد أن يُتنبه له. ثم الأولى والأفضل في حق المؤمن أن يصبر، وأن يرضا بحكم القاضي، ما لم يكن يعلم علم اليقين أنه ظالم له، وأن يحتسب ذلك، فربما كان يتوهم أنه محق؛ ولكن في الحقيقة أن الحق لخصمه، الذي حكم له ذلك القاضي.

تحاكم القبائل عند رؤسائها، وعدم الرجوع إلى المحاكم الشرعية

تحاكم القبائل عند رؤسائها، وعدم الرجوع إلى المحاكم الشرعية Q إذا حدثت مشكلة بين القبائل ذهبوا إلى الآخرين، ثم وضعوا المعاديل واحتكموا لديهم، ويحكمون بالذبح وباليمين، فما حكم ذلك؟ وما هو البديل؟ وما دور الشباب والدعاة؟ A حقيقة هذه مشكلة كثيراً ما تقع، وكثيراً ما تأتي الأسئلة عنها، وأحوال القبائل والمناطق تختلف فبعضهم يغالي في هذا، وعندهم أحكام طويلة عريضة جداً، وبعضهم لا يتجاوز أن يجتمعوا مثلاً، أو أن يصلحوا، ولذلك أقول هذه الأمور يحتاج فيها إلى تأصيل قضايا معينة. فالأصل الأول: أن نذيع ونشيع بين الناس العلم الشرعي، حتى يعرفوا حكم الله، وحتى يعرفوا معنى الرضا بالله، ومعنى الرضا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحتى يعرفوا أحكام الله، وحدود الله، فلا يتجاوزوها، ولا يتعدوها، وأن نبين لهم كفر التحاكم إلى القوانين الوضعية، والأعراف الجاهلية، وأنها من الشرائع الوضعية. أما الأصل الثاني: فهو التوعية والدعوة، وهو حل لكل المشكلات في العالم وفي الأمة. وأما الأصل الثالث: أن تقوم المحاكم الشرعية أو وزارة العدل بواجبها. أولاً: بنشر المحاكم الشرعية، فبعض الناس لا يريد أن يتكبد المسافة إلى أقرب محكمة شرعية، حيث إنها تبعد عنه مائتي كيلومتر وأحياناً ثلاثمائة كيلومتر، فلا يذهب إليها وقد تقول الوزارة: أين طلابكم في الجامعات الذين يرفضون القضاء؟! فيجب عليكم معشر الشباب، من كان منكم أهلاً للقضاء ألا يمتنع عن ذلك، وإن كان طلب القضاء في الأصل ليس مستحسناً بلا ريب، ولكن لا تترك الدنيا بلا قضاة، أو يؤتى بالقوانين الوضعية، فيجب عليكم كما يجب على الوزارة تأمين وتوفير المحاكم الشرعية. ثانياً: يجب على المحاكم الشرعية أن تفصل في القضايا، وأن تسرع في ذلك، لأن الناس يرون أنه إذا تخاصم اثنان فأولاً: تذهب القضية إلى الشرطة، والشرطة أكثر الناس لا يثق فيها، ثم تحال إلى الإمارة، ثم المراكز، والمراكز تحيل إلى الإمارة الفرعية، ثم إلى المنطقة، ثم تذهب إلى الداخلية فتستمر شهوراً، فيقع في أثناء ذلك بين الناس من الخصومة والقطيعة، وقد يقع القتل، وقد يقع غير ذلك، وهذا يسجن ظالماً أو محقاً، وهذا طليق ظالماً أو محقاً، فأمور كثيرة لا تتدارك، فيجب أن توضع إجراءات قضائية مرنة، بحيث إن المحاكم الشرعية رأساً تتولى القضية، وتحكم فيها ولو صلحاً، أو أن تعين هي من يقوم بالصلح من أهل الدين والخير، بحيث لا يكون هناك مخالفة للشرع، فهذه بعض الحلول العامة، أما الواقع فهو أكبر من ذلك، ولكن لا حيلة فيه والله المستعان.

كيفية الرضا بالمعصية وهي من قدر الله

كيفية الرضا بالمعصية وهي من قدر الله Q إذا فعل الإنسان المعصية وهي من قدر الله، فكيف يكون الرضا بها، وكذلك الطاعة؟ A هذه قضية مهمة، ولا نطيل فيها؛ لأن موضوع القضاء والقدر يحتاج إلى شرح وإفاضة، فنقول: إذا فعلت - أنت العبد الذي خلقك الله لتعبده وتتقيه - ذنباً من الذنوب، فكيف ترضا؟! أليس مطلوباً منك الرضا؟ لا ترضا عن نفسك أنها فعلت الذنب، فعليك أن تتوب وتبادر بالتوبة والندم والاستغفار، ومع التوبة والندم والاستغفار، والعزم على ألا تعود، ترضى أن الله تعالى كتب لك ذلك، فهي من جهة الله أمر نرضى به، لكن من جهة الشيطان، ومن جهة نفسي أنا لا أرضى به ولا أقبله. مثلاً: أبو الدرداء رضي الله عنه الذي ذكرنا كلامه آنفاً، وقد أسلم متأخراً، أليس الكفر أعظم الذنوب؟ فهو يرى أن التأخر في إسلامه قد فوت عليه شيئاً كثيراً؛ لكن ماذا كان حاله رضي الله عنه؟ كان كحال كثير من الصحابة حيث رضي بما أختاره الله له، فقال: إن الله تعالى ما اختار لي أن أسلم إلا عندما أسلمت: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، فقبل بذلك، ورضي بقدر الله، أنه لم يجعله من السابقين الأولين، هذا من الرضا؛ لكن من جهة نفسه، فعليه أن يلوم نفسه، فأي إنسان منا عليه أن يلوم نفسه، لماذا لم أتعجل؟! ولماذا لم أبادر؟! فهذا حق، وهذه حقيقة النفس اللوامة، وهي نفس المؤمن تلومه أنه فعل كذا من المعصية، ولم يفعل كذا من الطاعة. فهو من جهة أنه قدر الله نرضا به، ومن جهة أنه فعل العبد لا نرضا به، كما لو جاء أحد وقطع الإشارة، وصدم بسيارتك وكلَّفك، فترضى من جهة أنه قدر الله، ولكن من جهة الذي صدمك واعتدى وأخطأ عليك، فلك الحق أن تخاصمه، وأن تحاسبه، فالمسألة فيها جهتان كل منهما تنفك عن الأخرى، وكل عمل وكل فعل له جهتان.

بغض الكفار دليل على الإيمان

بغض الكفار دليل على الإيمان Q هل بغض أهل الكفر والنصارى في أمور الدنيا والدين دليل أكيد على محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أي: إذا كان يبغض الكفار ويعاديهم، هل هذا دليل على أنه يحب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ A نعم. هو أحد الأدلة إن شاء الله، لأنه لا يجتمع في قلب العبد أن يحب أحداً ويحب أعداءه، فإذا أحب الله فلن يحب أعداء الله، فإذا أبغض أعداء الله، أي يكون حبه لله، وبغضه لله، فإنه يكون من أهل الإيمان، ويذوق طعم الإيمان بإذن الله.

حكم الإعراض عن تعلم أمور الدين

حكم الإعراض عن تعلم أمور الدين Q ما حكم الذين يعرضون عن تعلم أمور دينهم عن طريق المحاضرات، والندوات، والمواعظ، ويكرهونها مع أنهم يصلون مع المسلمين، لكن إذا دعوا إليها لا يقبلون ذلك؟ A نقول: إنهم لا يرضونها ويعترضون عليها؛ ولذلك لا يحبونها فلا يقبلونها فهناك تفصيل لذلك. نقول: الاعتراض أو الإعراض عن دين الله تعالى من أصله، لا يعلمه، ولا يتعلمه ولا يتفقه فيه فهذا أحد أنواع الكفر، لأن صاحبه لن يعرف ربه، ولا دينه، ولا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإذا أتيح لإنسان بمقدار ما قدر الله تعالى له أن يتعلم دينه أو أن يتفقه فيه، فلا يجوز له أن يعرض عن ذلك، وإلا كان -فعلاً- غير راضٍ عن هذا، معترضاً عليه بنوع من الاعتراض، جلياً كان أو خفياً، فالواجب على الإنسان أن يفرح برياض الجنة، وإذا مر بها أن يرتع فيها، وأن يحمد الله تبارك وتعالى على وجودها، وأن يشكره على ذلك، وأن يجتهد ما استطاع وكل بحسبه، لا نكلف العاملين أن يحضروا الحلقات العلمية؛ إذا لم يكن عن إعراض ونفور، وإنما لا يفقهها أو فوق طاقته ومستواه، فهذا معذور، ولكن عليه أن يحبها، وأن يحرص عليها، وأن يدعو إليها، وينبه إخوانه عليها.

حكم اتخاذ مناهج دعوية مخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم

حكم اتخاذ مناهج دعوية مخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم Q هل يكون اتخاذ مناهج دعوية غير منهاج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاعتراض على حكمه أم لا؟ A لا شك في ذلك، ولذلك يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فمن قَدَّم على منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح في الدعوة أي منهج آخر فقد اعترض عليه، وهو نوع من أنواع الاعتراض سواء أكان هذا المنهج ينتمي إلى طائفة، أم إلى جماعة، أم إلى حزب، أم إلى إمام كائناً من كان، فإذا خالف ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا نوع من التقليد المذموم، والتعصب المذهبي المذموم، الذي يجعل صاحبه يغلو في إمامه، فيقدم كلام إمامه أو مذهبه على ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحكام، وحلال وحرام. ومثله من يغلو في شيخ، أو مؤسس لجماعة، أو حزب إسلامي، أو أي معنى من هذه المعاني، فيغلوا فيه، ويقدم كلامه، وكتبه، وآراءه، وطريقته، ومنهجه، على طريقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى منهج السلف الصالح، فلا ريب أن هذا نوع من أنواع الاعتراض، وأن فاعله لم يحقق الرضا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه لم ينتف الحرج من قلبه، أو ربما لم يسلم تسليماً كاملاً، كالذين لا يبدءوا دعوتهم بالتوحيد، لا شك أن هذا مخالف لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن أعظم ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو التوحيد ولا ريب في ذلك، وهو أول ما دعا إليه، فلما بعث معاذاً وغيره، كان يقول لهم: {فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله، أو شهادة أن لا إله إلا الله}، فهذا مثال ولا بد أن يعلمه الجميع. مثلاً: من يظن أن في الإمكان أن يجمع الناس مجرد جمع على أن ينتخبوه ليحكم، فإذا وصل إلى الحكم، فقد نال الهدف فيقيم الإسلام والدين، فهذا مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة؛ لأن منهجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو التزكية، والتربية، والاصطفاء، والاختيار لقوم يحملون هذا الدين عن حق، وعن يقين، ويجاهدون في سبيل الله حتى يقوم هذا الدين، فكذلك من يريد أن يقيم دين الله تبارك وتعالى من غير صبر ولا مصابرة، وإنما كل من عارضه قاتله، فهذا مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء في الدعوة؛ لأن أنبياء الله ورسل الله يقولون: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم:12]، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون}. فإذا جاءت دعوة، أو طائفة، أو حزب، أياً كان واستحلوا أن يقاتلوا من خالفهم، ولم يمروا بمرحلة الصبر والابتلاء، والتزكية، فإنهم قد خالفوا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، فهؤلاء هم نوع من أنواع المقلدين. والتقليد لا يكون فقط في الأحكام الشرعية؛ بل يكون كذلك في المناهج الدعوية، والواجب هو تجريد المتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن لا يقدم بين يدي الله ورسوله، وأما ما يجب منا نحو هؤلاء أو نحو غيرهم فهذا له موضوع آخر، وليس هذا المقام مقام التفصيل فيه.

حكم الاعتراض على حكمة الله

حكم الاعتراض على حكمة الله Q إذا أصابت إنسان مصيبة ثم اعترض على حكمة الله، وأخذ يسب من سبب له هذه المصيبة، هل يعتبر معترضاً على حكم الله، أو يعتبر كافراً، وما سبيل التوبة سواء أكفر أم لم يكفر؟ A إذا كان فعلاً اعترض على فعل الله، أو على قدر الله، فالواجب عليه أن يبادر إلى التوبة، كفر أولم يكفر، وهذه الحالة الأحوال فيها تختلف، لكن إذا تاب من ذلك فإن كان كفراً فقد تاب وعاد بالإيمان، وإن كانت كبيرة فقد تاب وعاد إلى الطاعة، المهم أن يتوب من ذلك، وأن يثوب إلى رشده، وأن يستغفر الله تعالى، وأن لا يعترض على الأمر من جهة أنه قدر الله، أما إذا اعترض من جهة أنه فعل العبد كما بينا؛ فهذا شأن المخلوقين جميعاً، إلا من كان من أصحاب النفوس العالية جداً، الذين يقابلون الإساءة بالإحسان، فهذا من الإحسان، وهو مطلوب ومشروع وليس واجباً، لأن العدل حقٌ، أما الإحسان فهو تكرم وتفضل، فالأليق والأولى بالدعاة وبطلبة العلم هو العفو والصفح والإحسان ومقابلة الإساءة بالإحسان، فهذا الذي يليق بالدعاة، لكن في حق عامة الخلق لا يمنع من حقه {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] لكن من عفى وأصلح فهذه درجة أخرى، نرجو أن نكون جميعاً من أولئك.

الواجب تجاه إخواننا المجاهدين في أنحاء العالم

الواجب تجاه إخواننا المجاهدين في أنحاء العالم Q ما هو واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك وغيرها؟ A واجبنا تجاه إخواننا المسلمين، في البوسنة والهرسك وغيرها، ما نستطيع ونحن نستطيع أمرين لا عذر لنا فيها: الأول منهما: الدعاء، والدعاء شأنه عظيم وجليل، ودائماً أذكر به إخواني ونفسي، فلا نحقر الدعاء لهم في القنوت، وغيره وأن ندعو على الكافرين أيضاً مطلقاً، وندعو للمؤمنين مطلقاً، وإن خصصنا بعض الكافرين، أو دول الكفر التي لا شك أنها تحارب هذا الدين فلا بأس، ونرجو أن يتقبل الله وأن يستجيب لهذه الدعوات. وأمر آخر إضافة إلى الدعاء، ألا وهو المال ونحن -والحمد لله- باستطاعتنا أن ندفع بقدر ما نستطيع، والقليل يجعله الله تبارك وتعالى كثيراً، ويبارك فيه، ولو جمع من كل أحد من المسلمين، وإن قل لكان كثيراً في النهاية، ولنفع الله به إخواننا هنالك، والحمد لله لا يكاد يمر أسبوع، إلا ويسافر من نعرفه معرفةً شخصية ونثق به ونعطيه المبلغ يداً بيد، فهذا فلا عذر لأحد أن يقول: لا ندري أين توضع هذه المبالغ، أو تصل أو لا تصل! فإنهم يأخذونها ويسلمونها يداً بيد إلى إخوانكم المجاهدين أو المنكوبين، كما في الصومال وغيرها، والحمد لله فهذا من فضل الله علينا وعلى الناس.

حكم شراء المبيعات التي فيها علامة الصليب والنجمة السداسية

حكم شراء المبيعات التي فيها علامة الصليب والنجمة السداسية Q كثير من المبيعات التي نشتريها الآن كالسيارات والملابس يكون عليها رموز كالصلبان، والنجمة السداسية فما الحل؟ A على كل حال الصلبان انتشرت هذه الأيام، والنجمة السداسية اليهودية انتشرت، بحيث أصبح الإنسان مهما تحرز لربما رآها في نفسه، أو في أولاده، أو في بيته، بل ربما أحياناً في المساجد، وهذا دليل على الغزو الخبيث المبطن، الذي يريد أن يجتاز هذه الأمة، وأن يمسخها ويحولها إلى تابع ذليل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وما في السيارات وما في الملابس ما هو إلا أمثلة من هذا، والله المستعان. والحمد لله رب العالمين.

القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى

القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى تحدث الشيخ حفظه الله عن الموقف الإسلامي من مشروع السلام العربي اليهودي في مدريد، وبين مستند الحق لاستخلاف الله لعباده المؤمنين في الأرض بنزول المسيح بن مريم، ثم بين مستند الوعد المفترى عند اليهود وسبب سعي النصارى لتحقيق هذا الوعد المفترى، موضحاً العلاقة بين اليهود والنصارى البروتستانت والتي أنكبت على السعي في تحقيق نبوءاتهم المشتركة، ثم ختم حديثه ببيان رفض المسلمين والنصارى لمشروع السلام؛ لأن كلا الفريقين يؤمن بوعد الله على وفق عقيدته، وفي نهاية المطاف ذكر نتائج مشروع السلام، وذكر بعض المقترحات لمواجهة الكيان الصهيوني بشقيه اليهودي والنصراني.

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:51 - 57] الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، واصطفى هذه الأمة بميراث النبوة والكتاب، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وميز طريقها عن طريق المغضوب عليهم والضالين، وجعلها قائمة بالقسط منصورة بالرعب، حاكمة بالعدل، شاهدة على العالمين بالحق. وصلى الله وسلم على خيرته من خلقه، وصفيه من عباده، الذي دعا ببعثته إبراهيم، وبشر برسالته عيسى -عليهما السلام- وأخذ الله العهد والميثاق على كل نبي بعثه أنه إن أدركه عهده ليؤمنن به ولينصرنه, وظل أنبياء الله وأولياؤه وعباده الصالحون ينتظرون بعثته، ويتلمسون مخرجه، ويحسبون لموعده؛ حتى بزغ نور الفجر المبين، وظهر دين خاتم المرسلين، فأيقنوا أنه الحق، فخروا للأذقان يبكون ويقولون: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء:108]

الحكمة من وجود الصراع مع اليهود

الحكمة من وجود الصراع مع اليهود واقتضت حكمة الحكيم العليم أن يكون أهل الكتاب -ولا سيما اليهود - من ساكني المهجر ومجاوري الدعوة، وأن يكونوا أول كافر به مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم , وأن يؤلبوا عليه الأميين مع أنهم كانوا يستفتحون عليهم بخروجه , وأن يكونوا أعظم الساعين لإطفاء نوره مع أنه مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وأشد المعاندين لوعده مع أنه مجدد لملة إبراهيم. وأنزل الله الكتاب المبين، والذكر الحكيم، مفصلاً لما جبل عليه اليهود من عتوٍّ وجحود وكفر وعناد وخسة ولؤم ودناءة ونكوص، وما استوجبوا من مقت وغضب وذلة ومسكنة وفرقة وصغار، فلا تجد في كتاب الله أمة طال الحديث عنها، وتنوع قصصها مرة بعد مرة كهذه الأمة؛ فضح الله خبايا نفوسها، وخبيث طباعها، وعداوتها للعالمين أجمعين، وحقدها على أهل الخير والحق في كل زمان ومكان حتى الملائكة المطهرين! فباؤوا بغضب على غضب، ولعنوا على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم -عليهما الصلاة والسلام-. ولكن اليهود هم أشبه شيء من البشر بالشيطان الرجيم، فكما أنه مستحق للعنة، وموعود بشر عاقبة؛ فإنه مسلط على طائفة من الخلق، وممهَّد له الاستحواذ عليهم، وممكن له التزيين لهم.

أهمية عرض الدرس

أهمية عرض الدرس وفي هذه الصفحات عرض واقعي، وبحث استقرائي، ودليل إحصائي عن هذه الطائفة المنتسبة للمسيح الذين هم صهاينة أكثر من الصهاينة، ويهود أشد من اليهود، ومع ذلك فهم قادة النظام الدولي الجديد -ولو ظاهراً- وسادة العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة كما يسمونها. فهم يلبسون جلود النصارى على قلوب اليهود، ويجهدون لإطفاء نور الله وإخلاف وعد الله ورفع ما خفض الله وخفض ما رفع الله، وإعزاز من أذل الله، وإذلال من أعز الله، وينصرون التلمود على القرآن، ويعاونون قتلة الأنبياء على ورثة الرسالات، وباختصار يسعون لإقامة مملكة المسيح الدجال، ووأد مملكة المسيح بن مريم عليه السلام. وسار في ركابهم من المنتسبين إلى الإسلام زعامات عميلة، وقيادات ذليلة انسلخت من دينها، وكفرت بوعد ربها، وكذبت خبر رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستحوذ عليها حب الدنيا وحطامها، فتجدهم أحرص الناس على كرسي ولو تحت أقدام اليهود. هذه الزعامات ربطت مصيرها بعجلة الكفر، وخانت أمتها في أعز ما تملك، وحضرت مؤتمر مدريد وما أدراك ما مدريد؟! لقد اختار أهل الكتاب أن يسجلوا تاريخ نصر اليهود واستعادتهم لمملكة التلمود؛ حيث استعاد النصارى فردوسهم المفقود، وفي البقعة التي انطلقوا منها لاكتشاف العالم الجديد، الذي تزعَّم المؤتمر المنكود. ولئن كان هذا المؤتمر المتآمر هو سبب المحاضرة المباشر، ومع ذلك فإنني لم أخض في تفصيلات الأحداث وتحليلات الوقائع فيه أو فيما تلاه؛ بل لم أجهد نفسي للبحث في ذلك لسبب واحد: هو أن الإسلام قد غاب -بل غُيِّبَ- عن المؤتمر، وإنما حضره اليهود والنصارى وأولياؤهم الذين لو فتحوا القدس بل لو فتحوا روما لما كانوا إلا مرتدين ملحدين، فكيف وهم يتكففون السلام ويقبلون الأقدام، ويدفعون الجزيات الجسام، وما مدريد إلا زيادة في الكفر وإيغال في الردة. وإنما القصد الأول لمن وفقه الله لحمل ميراث النبوة، وتجديد الدين أن يعيد الناس إلى حقائق الإيمان وأصول الدين مستمدة من منبعها الصافي ومعينها الزلال، ثم يأتي الحديث عن مكر الأعداء، ومؤامرة الدخلاء تبعاً لا قصداً، ووسيلة لا غاية. وقد وفق الله تعالى هذه الصحوة الممتدة المباركة لبدء الطريق من أوله، والبناء من أساسه، والإقبال على تصحيح العقيدة، وتقويم المسار، وربط كل قضية مهما صغرت بأصل الدين والإيمان وحقيقة العبودية، فبان لها سبيل الولاء والبراء، وظهر لها كيد المنافقين وأهل الكتاب في الأصل والجملة، وأصبح لزاماً على من تصدر لتذكيرها بأيام الله، وتبصيرها بدين الله أن يبينوا لها من المعالم ما هو أكثر تفصيلاً وأبين قيلاً؛ وذلك بالتوعية العامة للقاعدة العريضة من الأمة مع مخاطبة الفئة المثقفة بما يلائمها من عميق الفكر ودقيق البحث. فالتوعية العامة التي تتخذ شكل العرض الواضح والحقائق المبسطة، والربط الجلي بين مقتضيات العقيدة وأحداث الواقع، من أجلِّ الواجبات على من بصره الله بذلك من قادة الصحوة، فهي فوق كونها مقتضى الإيفاء بميثاق الكتاب من أعظم الحقوق لهذه الصحوة عليهم، لتتجلى معالم اليقين، ولتستبين سبيل المجرمين، وهذه الإبانة هي أساس لعقيدة الولاء والبراء، وهذه العقيدة أساس لمخاطبة الغرب الكافر باللغة التي يفهمها، ولا يفهم سواها -اللغة التي يرهبها الغرب- مع أننا لا زلنا في أبجديتها. إن الحديث عن الحقوق المشروعة، والقرارات الدولية التي استنزفت وتستنزف من الإعلام العربي ما يملأ البحار لم يجد أذناً - ولا عُشرَ أذن - كتلك التي أحدثها انفجار مشاة البحرية في بيروت، والهجوم على ثكناتهم في مقديشو، بهذه اللغة وحدها يسحب الكفر أذيال الهزيمة، وتنحني هامات الخواجات العتية أمام مجموعات طائفية، وعصابات قبلية، وليست جيوشاً دولية، وإن استرداد بضعة قرى ومدن في البوسنة قلب المؤشر الصليبي، وأرغمه على إعادة حساباته، وإن أي خطاب للكفر لا يستخدم هذه اللغة هو لغو من القول وزور من العمل. والغرب الذي يجرد الجمهوريات الإسلامية من سلاحها النووي ويكدسه بيد روسيا الأرثوذكسية، بل يرغي ويزبد إذا اشترت دولة عربية سلاحَا من الصين أو الأرجنتين، إنه لا يرضى بأقل من أن نصبح خدماً بين يديه (كتلك الصورة التي نشرتها الصحف الأمريكية للمسلمين وهم يمسحون حذاء رئيس حكومة اليهود).

مشروع عملية السلام

مشروع عملية السلام وإن ما يُسمى مشروع السلام لم يأت تبعاً لتغير الظروف الدولية، وانحسار مرحلة الحرب الباردة، ووفقاً لمقتضيات الوفاق الدولي - كما يصور ذلك الإعلام الغربي وذيله الإعلام العربي- فهذه التغيرات نفسها أعراض للمتغير الأساسي وهو الخطة الصهيونية للسيطرة على العالم كافة والمنطقة الإسلامية خاصة. إن هذه الخطة -ببساطة- قد عدلت عن فكرة إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وبعبارة أصح قد عدَّلت هذه الفكرة لأسباب ذاتية ضرورية أهمها أن دولة اليهود وجدت نفسها بعد 40 سنة من قيامها عبارة عن مركب من المتناقضات وكائن غريب في محيط من العداوات. فعلى المستوى الأمني لم تنجح في السيطرة على ما ابتلعته من أرض فلسطين، فكيف تسعى لمزيد من الأراضي؟ وإن لبنان التي هي أضعف الجيران، وأبعدهم عن العدوان ظلت مصدر قلق وإزعاج لا نهاية له حتى بعد اجتياحها المعروف. والمشكلة السكانية تشكل أعمق المشكلات وأبعدها تأثيراً، فكثير من اليهود لم تخدعهم الوعود المعسولة والإغراءات البراقة للهجرة إلى أرض تعج بالمساوئ الاجتماعية من اختلال الأمن إلى الطبقية المقيتة إلى التناحر الحزبي الخ. إن هذه الأفاعي عندما تجتمع -على اختلاف ألوانها وأشكالها - لابد أن يذوق بعضها سم بعض إضافة إلى الحجارة التي تهشم رءوسها باستمرار من أيدي أشبال الإسلام، فكيف إذا وصل الأمر إلى الرصاص؟. ولقد رعبت دولة اليهود من ارتفاع مؤشر الهجرة المضادة، وقلة استجابة السكان لدواعي تكثير النسل، وأظهرت الإحصائيات الرسمية أنه مقابل كل شهيد من أبناء فلسطين المسلمة يولد عشرات وعشرات. ومن تجربة إسرائيل التي لا تقبل النقاش أنها أعجز ما تكون عن استئصال المقاومة بنفسها، فعملاؤها هم الذين تولوا سحق الفلسطينيين في لبنان والأردن وسورية والكويت وغيرها، فلماذا لا تضع يدها في أيديهم ضمن خطة أخرى تتنازل فيها عن أوسع حدود الأرض التوراتية إلى أضيقها، ولا غرابة في هذا على عقيدة اليهود التي تؤمن بالبداء، وبأن الأحبار يصححون أخطاء الرب تعالى الله عما يصفون. ثم إن إسرائيل لكي تقنع الإنسان الغربي المفتون بدعوى الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تستطيع أن تظل ثكنة عسكرية وسجناً كبيراً إلى الأبد. كما أن المقاطعة العربية مهما بدت شكلية توفر حاجزاً نفسيا لشعوب المنطقة، فلابد من افتعال حركة تكتيكية يتراجع فيها اليهود، ويسلمون بما يسمى: الحكم الذاتي المحدود لكي يتم الهدف الأكبر استراتيجياً , والتخلي عن التوسع الجغرافي مقابل التغلغل السياسي والاقتصادي والثقافي وهو ما عبر عنه أكثر من مفكر ومسئول بمصطلح: (الولايات المتحدة الشرق أوسطية)!! وهكذا سيؤدي فتح الحدود الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وإعلان فتح القنوات السياسية إلى أن يصبح يهود إسرائيل في الشرق الأوسط كيهود نيويورك في أمريكا، وتصبح ثروات المسلمين ركازاً لهم، وجامعاتهم ومؤسساتهم الثقافية أوكاراً لفكرهم، وحواضرهم التجارية مراكز لبنوكهم وتجارتهم وأسواقاً لبضائعهم، ويصبح عامة الشعوب العربية عمالاً كادحين لخدمة البارون اليهودي الربوي!! هذا هو هدف السلام المزعوم مهما غلَّفوه أو قنعوه، والتخطيط الصهيوني لم يتغير ارتجالاً ولا هو نتيجة دراسات فكرية وميدانية بحتة - كما يظهر -، بل إن أسبابه وجذوره تمتد إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى خبيئة النفسية اليهودية وحقيقة الجبلة اليهودية، وواقع التاريخ اليهودي القديم والحديث. فقيام كيان يهودي متميز مستقل كسائر الكيانات السياسية أو العقدية في العالم أمر يتنافى مع تلك النفسية والجبلة والتاريخ , والخطأ الأكبر الذي وقع فيه مسطرو أحلام العودة منذ الأسر البابلي إلى الاضطهاد الأوروبي، وخطط له أمثال هرتسل وفيشمان ووايزمان هو أنهم غفلوا أو تغافلوا عن هذه الحقيقة، فلما قام الكيان المنشود خرجت الحقيقة كالشمس من تحت الركام!! وليس بخافٍ على اليهود ولا على المطلعين على الحركة الصهيونية الحديثة أن جماعات وزعامات يهودية دينية وفكرية ترفض قيام دولة يهودية متميزة، بل تعكس النبوءات التوراتية على أهلها، وتقول: إن قيام هذه الدولة هو نذير الهلاك والفناء لليهود، ولها على ذلك أدلة وشواهد من الأسفار والمزامير ومن واقع التاريخ. لقد جسد قيام دولة إسرائيل المأزق الكبير الذي وقع فيه اليهود حين اصطدمت الأحلام التلمودية العنصرية التي لا حدود لها بواقع النفسية اليهودية العليلة التي لم تكن يوماً من الأيام رأساً في قضية ولو كانت قضيتها الذاتية، فكيف تكون رأساً في قضية العالم كله، ولذلك فإنها تعلل نفسها بخروج المسيح الموعود الذي يحمل عنها هذه التبعة. فاليهود لم يكونوا في حقبة من أحقاب تاريخهم رأساً في قضية وإن كانت قضيتهم، ولو كانوا كذلك مرة واحدة لكانت في هذا العصر وهو ما لم يكن!! فهم كالشجرة الطفيلية لا تنمو إلا على ساق غيرها، أو الدودة المعوية التي لا تأكل إلا قوت غيرها، فمن حادثة بني قينقاع حيث كان المنافقون هم الناطقين الرسميين والمدافعين الظاهرين إلى مؤامرة الأحزاب، حيث كان الجند جند قريش وحلفائها لا جند قريظة وأخواتها؛ إلى الإدارة الأمريكية حيث لا يزال اليهود - وهم يسيطرون على الجزء الأكبر من الاقتصاد والإعلام والتأثير السياسي الخ - يستخدمون أمثال: نيكسون، وكارتر، وريجان، وبوش وهم جميعاً نصارى!! وقد عاشوا في أحشاء أوروبا وتسلقوا شجرة الحقد الصليبي فكان لهم حبل من الناس. وعندما أصبح لهم لأول مرة منذ قرابة ألفي سنة دولة وحكومة ظهرت السنة الربانية قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:4ا] فهذه الدولة تعج بالمتناقضات والصراعات، وتتكفف العالم كله وتعصر اليهود وغيرهم في كل مكان عصراً لإدرار التبرعات، ولا تستغني في أي محفل دولي عن المندوب الأمريكي ونظرائه، وإن كانت في الظاهر تمثل مع أمريكا دور الثعلب مع النمر!!. إنهم دائمَا يحركون الدمى من وراء الستار، ولو ظهروا على المسرح لانكشفت سوءاتهم وبطل سحرهم. إنهم يحرصون على تبني أي رئيس أمريكي والإحاطة به ولكنهم لا يستطيعون أو لا يفكرون في أن يجعلوه رئيساً يهودياً وحكومته حكومة يهودية صريحة!! وأمر آخر يقض مضاجع يهود دولة إسرائيل هو أنه ليس في وسع الشراهة اليهودية العمياء أن تظل حبيسة الأرض التي قالت عنها التوراة: أنها تفيض لبناً وعسلاً مع أن المنطقة الكبرى حولها تفيض نفطا وذهباً، ثم تظل رهينة الفكرة الداعية لقيام دولة ما بين الفرات والنيل وفق النموذج النازي العسكري الذي عجزوا عجزاً واضحاً عن السيطرة على ما تم لهم منه. بل إن ما تحقق من هذا الحلم كافٍ للعدول إلى الفكرة الأخرى التي أقام عليها روتشيلد وذريته مملكة لا نظير لها في التاريخ (مملكة الربا والإعلام والجاسوسية) وهي مملكة تتفق تماماً مع الجبلة الطفيلية، وليكن ما احتلوا من الأرض في حروبهم المتعددة أو جزء منه منطلقاً لهذه المملكة وتربة لهذه الشجرة الطفيلية التي سوف تترعرع وتخترق بثقافتها وفكرها ومناهجها سائر المنطقة التي يسيل لُعاب العالم كله لثرواتها! فإلى متى يظل وصولهم إلى هذه الثروات الهائلة، والكنوز السائلة ملتوياً يمر بقناة الأمريكان والأوروبيين!! وهم الجيران الأدنون؟! إن اليهود أكثر دهاءً وشراهةً من أن يظلوا موغلين في خطأ جسيم كهذا - خطأ التوسع الجغرافي غير المضمون حتى لو كان هذا هو ما تخيله أحبار التلمود منذ سحيق العهود، وسواء خرج المسيح أولم يخرج!! صحيح أن التلمود الذي هو مستند الحركة الصهيونية يقول: ' يجب على كل يهودي أن يسعى لأن تظل السلطة على الأرض لليهود دون سواهم، وقبل أن يحكم اليهود نهائياً باقي الأمم يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم، وسيأتي المسيح الحقيقي، ويحقق النصر القريب، وحينئذٍ تصبح الأمة اليهودية غاية في الثراء، لأنها تكون قد ملكت أموال العالم جميعاً، ويتحقق أمل الأمة اليهودية بمجيء إسرائيل، وتكون هي الأمة المتسلطة على باقي الأمم عند مجيء المسيح '. ولكن هذا الكلام الذي يقطر حقداً نتيجة ظروف الأسر البابلي لا يمكن أن ينفذ الجانب الحربي منه في أرض الواقع، أما الجانب الآخر وهو الممكن فلا وسيلة لتنفيذه إلا افتعال السلام!! وهو ما كان.

تنبيه على تأليف الرسالة

تنبيه على تأليف الرسالة بقي أن يقال: إن هذه المحاضرة ألقيت قبل حكم الديمقراطيين (كلينتون) ومن المعلوم أن اليمين المتطرف الأصوليين الإنجيليين حليف حميم للجمهوريين فهل من متغير جديد نتيجة هذا؟ و A إن الأفعى اليهودية لا تبالي أركبت الحمار أو الفيل فلكل منهما ميزات في الركوب والحمل، ولكن فوز الحزب الديمقراطي حزب الأقليات التي أهمها اليهود، وحزب الانحطاط الأخلاقي الذي يعد كلينتون أحد وجوهه - هو نجاح مباشر للمخطط الصهيوني، وإذا نجح كلينتون في مشروعات قوانينه الانحلالية كنجاحه في خدمة السياسة الإسرائيلية فإن هذا نذير بأن القوم يهيئون فعلاً استقبال المسيح الدجال!! وقد جاء كلينتون للرئاسة لكي يؤكد أنه مهما تقلصت اهتمامات أمريكا الخارجية كما يشاع فإن ما يتعلق باليهود يظل رأس كل اهتمام داخلياً كان أو خارجياً. وجاء كلينتون ليؤكد أن كاهنه يزعم أنه تنبأ له بحكم أمريكا، وأوصاه بدولة اليهود فببركتها يفوز، وببركتها ينجح في حكمه. جاء كلينتون ليتبنى بصراحة ووضوح علاج أهم تحديات الاستراتيجية اليهودية - التي أشرنا إليها - حيث قال في خطابه أمام القيادات اليهودية في نوفمبر (1992م): 'إنني أعتقد أنه يتوجب علينا الوقوف إلى جانب إسرائيل في محاولاتها التاريخية لجمع مئات الألوف من المهاجرين لمجتمعها ودولتها -وفي الجانب الآخر قال - وهو يضع العربة أمام الحصان! -: ما من شك أن مفاوضات السلام ستأخذ وقتاً، ولكن هناك خطوة كان على العرب اتخاذها منذ زمن بعيد: إنهاء مقاطعتهم اللاشرعية لإسرائيل، فالمقاطعة هي حرب اقتصادية، والحرب يجب أن تنتهي الآن ' وعندما زاره رابين لأول مرة لاحظ المراقبون والمحللون بدهشة المرونة البالغة، بل الاستجابة المطلقة لمطالب رابين حتى أن زمن الزيارة اختصر إلى النصف وتم كل شيء على أساس الثقة الشخصية كما عبر رابين! وعندما أخذ الناس يتساءلون من سيكون مهندس السلام بعد بيكر؟ ومن سيكون وزير خارجية لإدارة كلينتون كان على رأس المرشحين وارن كريستوفر الذي وصف بأنه من الأصوليين، وكان هو الوزير والمهندس وقام بدوره على أتم الوجوه عند اليهود!

الخلاصة

الخلاصة وأخيراً: أثمرت تلك الحبائل اتفاقية السلام مع الزعامة الفلسطينية المزعومة، وتم إعلان ما يسمى إعلان المبادئ واتفاق الحكم الذاتي المحدود في غزة وأريحا وكأني باليهود يثأرون لأجدادهم حيث نفاهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من خيبر إلى أريحا وهذا من إلهاماته وتحديثه -رضي الله عنه- وهو الحدث الذي لا نزال نعيش وقائعه الدرامية ولا نطيل على القارئ الكريم بالحديث عنها، ولكن ننبه إلى أن يقارن بين نتائجها وبين ما سطرناه هنا فلنتابع معاً. ولا ننسى في النهاية أن نقول: إن كل ما حدث ويحدث هو بقدر الله الذي لا يُرد، وله فيه الحكمة البالغة مهما ادلهمت الخطوب وأحلكت الأحوال، فلن يتغير يقيننا لحظة واحدة أن النصر للإسلام، وأن كيد يهود ومن وراء يهود هابط خاسر -بإذن الله- وأن قدر الله لا شر فيه محضاً، وأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وأنه ما من محنة أصابت دعوة الإسلام إلا وهي متضمنة لمنحة إلهية كبرى. ولو لم يكن فيما حدث من نصرة للحق، واستبانة لسبيل المجرمين إلا سقوط أقنعة الزيف والنفاق التي ظلت عقوداً تضلل الأمة وتمتص قواها كالثور في الحلبة باسم قضية فلسطين لكفى! لقد تكشفت الحقائق وأصبح بعض القادة يتنافسون في الادعاء بأنهم الأسبق إلى تبني مشروعات السلام والتبشير بها! ولو كان وايزمان حياً لحكم بينهم! ولكن الأيام ستكشف كل شيء والله مخرج ما كانوا يكتمون. وفي هذا إشارة لولادة أمة الحق المؤمنة بالوعد الحق والمجاهدة في سبيل الحق حتى تقاتل اليهود ومن ورائهم الدجال، كما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن وأنتم شرقيّ النهر وهم غربيه}.

الوعد الحق والوعد المفترى

الوعد الحق والوعد المفترى الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، إمام المجاهدين وقائد الغر المحجلين، وبعد: فإن القضية التي سنتطرق إليها ليست بعيدة عن واقعنا اليومي، فنحن في كل يوم وساعة وفي كل وسيلة إعلام أو مجلس نسمع أو نتحدث عن هذا الحدث الكبير الذي يسمونه: مشروع السلام بين العرب واليهود، ولا شك أن ما يحدث في مدريد هذه الأيام لهوَ حدث كبير جدَّاً بكل المعايير الدينية والنفسية والتاريخية، ولا أدل على ذلك من اهتمام وسائل الإعلام الغربية به تفسيراً وتحليلاً، حتى أن الغرب تناسى مشاكله الداخلية وقضاياه الكبرى، واشتغل قادته ومفكروه وصحافيوه وأفراد شعبه كله بهذه القضية، وملاحقة هذا الحدث لحظة بلحظة!! إن السر في هذا ليس مجرد أن نزاعاً إقليمياً يراد الصلح بين طرفيه؛ لأن ما تم في مدريد يفوق ذلك بمراحل كثيرة، إنه معلم تاريخي كبير يراد به إحداث انعطاف هائل في صراع مزمن بين عقيدتين وحضارتين وتاريخين متناقضين! وها هي ذي الجذور: إن مدريد في الحقيقة هي محطة لقطار طويل انطلق منذ خمسة آلاف سنة، وسيستمر إلى أن تقوم الساعة، ومدريد ومن بعدها واشنطن وموسكو الخ محطات عابرة على هذا الطريق الطويل، وهو طريق الوعد الذي وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام، ووعد به صالح ذريته من بعده وتلتقي عند هذا الوعد كل الأديان الثلاثة المعروفة في العالم فالمسلمون عندهم في هذا الوعد دعوى ثابتة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما سنبين- واليهود والنصارى عندهم فهمهم لهذا الوعد الذي افتروه على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ومن ثم فإن الصراع في أصوله ليس بين قوتين أو بين عنصرين، وإنما هو صراع بين وعدين، بين الوعد الحق والوعد المفترى، وبالتالي فهو صراع بين عقيدتين: عقيدة التوحيد التي جاء بها نبي الله إبراهيم وجددها سيد المرسلين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيجددها آخر الزمان سيدنا عيسىابن مريم عليه السلام، وبين دعوة الشرك والخرافة والدجل التي أسسها الرهبان والأحبار فيما كتبوه من عند أنفسهم، وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله، ابتداءً بحاخامات اليهود ومروراً بـ بولس شاوول، ثم البابوات الضالين المضلين وانتهاء بـ هرتزل ومن كان معه، ثم ينتهي الأمر إلى النهاية المؤكدة في آخر الزمان بظهور مسيحهم الدجال. وعندما يلتقي المسيحان: المسيح ابن مريم عليه السلام، والمسيح الدجال ويذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء لولا أن المسيح يقتله. عندها تنتهي هذه المعركة الطويلة بين هذين الوعدين أي: بين الأمتين اللتين تؤمنان بهما، أمة الإسلام من جهة واليهود والنصارى من جهة أخرى. هذه هي القضية، ولذلك فإن ما يجري في مدريد ليس للصلح والسلام، وإنما هو تأييد وإيمان بالوعد المفترى، وتكذيب وكفر بالوعد الحق، وهذا هو جوهر القضية وأساسها، ولا يشغلنا بعد ذلك الحديث في تفصيلات الوقائع والأحداث. ومن المعلوم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد اختار بلاد الشام فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:1 - 3]. وأسكن فيها إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وهنالك بدأ هذا الوعد الذي يرجع إلى خمسة آلاف سنة تقريباً، ومن هناك بدأت القضية والمعركة؛ أي: منذ إبراهيم - عليه السلام - الذي اختاره الله وجعله إماماً للناس، ومن ثم أمره أن يأتي إلى هذه الأرض المباركة الطيبة، وأن يجدد بناء البيت العتيق، عند هذه النقطة بدأ الخلاف والمعركة بين أتباع هذه الأديان الثلاثة -التي أشرنا إليها-.

مستند الوعد المفترى

مستند الوعد المفترى وإليكم نص التوراة التي يستند إليها اليهود في هذا الوعد المفترى، وأما الوعد الحق الذي وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به أولياءه فمعروف لدى الجميع وسنعرض له في الأخير، ولكنا نريد البدء بالمستند الأساسي لليهود في دعواهم، الذي يبني الغرب موقفه من القضية عليه. في سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة تبدأ القصة العجيبة في عهد نوح عليه السلام، وهي المفتاح لفهم ما سيجري من وعد لإبراهيم عليه السلام. تقول التوراة المحرفة: 'وابتدأ نوح يكون فلاحاً، وغرس كرماً، وشرب من الخمر، وسكر، وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لأخويه، وقال: مبارك الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبداً لهم يفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم اهـ. ' هذا النص هو مفتاح الدراسة في عدد هائل من المدارس الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد هذه المدارس لا يقل عن عشرين ألف مدرسة، يتلقى الدراسة بها الملايين من التلاميذ -كما سنبين إن شاء الله-، يفتتحون دراساتهم بهذا الكلام وتتفتح مداركهم عليه. ثم بعد ذلك تأتي أوصاف في عدة إصحاحات من هذا السفر تصف أرض كنعان، فتقول التوراة المحرفة في الإصحاح العاشر: 'كانت تخوم الكنعاني من صيدون (صيدا اليوم) حينما تجيء نحو الجرار إلى غزة، وحينما تجيء نحو السدوم وعمورة إلى لاشع ثم يقول: قال الرب لإبرام اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض، واجتاز إبراهيم في الأرض إلى مكان شكيمى إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض ' وقال في الإصحاح السابع عشر: 'أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً؛ لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً '. ومن الغريب أنه في السفر نفسه يحدد أن الختان هو علامة من يرثون الأرض، وهذا يذكرنا بالحديث في صحيح البخاري -حديث هرقل - الذي قال فيه: 'إنني رأيت في المنام أن ملك الختان قد ظهر' والنصارى لا يختتنون، قيل له: لا يختتن إلا اليهود، فإن شئت تأمر فتقضي على كل من في مملكتك من اليهود، ولما جاءوا له بـ أبي سفيان أيقن بالتأويل الصحيح للرؤيا بعدما سأله الأسئلة العجيبة في دلائل النبوة، وشهد قيصر هرقل بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الموعود بذلك، ولكنهم يحرفون كل هذه النبوءات والمبشرات. . وفي الإصحاح الخامس عشر تحدد التوراة المحرفة الأرض التي هي ملك وحق أبدي، فتقول: 'لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ' ثم بعد ذلك يقول في الإصحاح (27): 'يستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين' هذا ليعقوب، وبعد ذلك يذكرون أن يعقوب نام بين بئر سبع وحران في أرض فلسطين فرأى الله فقال له: 'أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق، الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك، ويكون نسلك كتراب الأرض، وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوباً، ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض'. وأقل الأمم في الدنيا الآن اليهود، ومع هذا أكثر اليهود في العالم الآن ليسوا من بني يعقوب، وإنما من يهود العرب والأوروبيين وغيرهم، فإذن كم يبقى من اليهود الذين من ذرية يعقوب عليه السلام؟! فالواقع يشهد أن هذه الوعود ليست لبني إسرائيل وأنهم يكذبون ويفترون على الله حين يجعلونها فيهم، وإنما هي في بني إسماعيل.

سبب سعي النصارى لتحقيق الوعد المفترى

سبب سعي النصارى لتحقيق الوعد المفترى وهنا لابد من سؤال، إذا كان هذا هو الموضوع، وهو إيمان اليهود بهذه الوعود التي قالوا إنها وردت في كتابهم المحرف، فلليهود أن يؤمنوا بذلك باعتبارهم يهوداً، ولكن ما علاقة النصارى بذلك؟ ولماذا نجد النصارى اليوم يقفون مع اليهود صفاً واحداً، ويسعون جاهدين لتحقيق الوعد المفترى؟ أستطيع أن أجيب بيسر فأقول: لقد استغل اليهود الكتاب الذي يؤمن به اليهود والنصارى معاً، وهو القسم الأول من الكتاب المقدس الذي يتكون من قسمين يسمون كلا منهما عهداً، فالأول هو العهد القديم وهو التوراة، والآخر هو العهد الجديد وهو الأناجيل والرسائل. والتوراة تشتمل على هذه النصوص، فأي نصراني يبدأ بقراءة كتابه المقدس فهو يقرأها أول ما يقرأ، فلا غرابة أَن يعتقد مضمونها كاليهود. ولكن في الإمكان أن يقال: أليس النصارى في تاريخهم كله يقرأون التوراة ويعلمون بهذا الوعد ومع ذلك يضطهدون اليهود أشد الاضطهاد إلى مطلع العصر الحديث؟ فما الذي جعلهم ينقلبون هذا الانقلاب الهائل ويصبحون أكبر الساعين لتحقيق الوعد اليهودي؟ وأقول: ليس الأمر كذلك فحسب، بل إن من المذهل والمحيِّر أن يكون الحامل لراية التبشير لهذا الوعد الرافع عقيرة إعلامه المتطور بضرورة ذلك هم النصارى، لا سيما الأصوليون منهم ولا سيما في أمريكا، ولهذا فاسمحوا لي أن آتي على هذه القضية الغريبة والخطيرة من جذورها.

الملل والمسيح المنتظر

الملل والمسيح المنتظر تتفق الأديان الثلاثة على أن المعركة الكبرى والأخيرة التي ينتصر فيها دينها، ويتحقق لها وعدها، ويدمر فيها عدوها، لن تكون قيادتها من النوع المألوف لدى الناس، بل سيكون حامل لوائها منتظرا موعوداً به، مؤيداً من عند الله، يسمى (المسيح). يقول ابن القيم - رحمه الله -: 'والأمم الثلاث تنتظر منتظراً يخرج في آخر الزمان؛ فإنهم وعدوا به في كل ملة' ويقول ابن جوريون أول رئيس حكومة يهودية: 'تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي ذاته، وهذا المصدر هو الوعد الإلهي، والأمل بالعودة، ويرجع الوعد إلى قصة اليهودي الأول {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران:67] الذي أبلغته السماء أن: (سأعطيك ولذريتك من بعدك جميع أراضي بني كنعان ملكاً خالداً لك) هذا الوعد بوراثة الأراضي رأى فيه الشعب اليهودي جزءاً من ميثاق دائم، تعاهدوا مع إلههم على تنفيذه وتحقيقه، والإيمان بظهور المسيح لإعادة المملكة أصبح مصدراً أساسياً في الدين اليهودي يردده الفرد في صلواته اليومية؛ إذ يقول بخشوع وابتهال: أؤمن إيماناً مطلقاً بقدوم المسيح، وسأبقى -حتى لو تأخر- أنتظره كل يوم. أما المصدر الثاني فقد كان مصدر تجديد وعمل، وهو ثمرة الفكر السياسي العملي الناشئ عن ظروف الزمان والمكان، والمنبعث من التطورات والثورات التي شهدتها شعوب أوروبا في القرن التاسع عشر وما خلفته هذه الأحداث الكبيرة من آثار عميقة في الحياة اليهودية ' وعلى هذا الأساس فإن معركة المستقبل ستكون بين مسيحين، أحدهما المسيح الدجال الذي يؤمن به اليهود ويسمونه ملك السلام والذي يهيئون لخروجه، ولكنهم لا يسمونه الدجال. والآخر هو المسيح بن مريم عليه السلام الذي يؤمن بنزوله وعودته المسلمون والنصارى. ويتفق اليهود والنصارى على أن المسيح المنتظر سيكون من بني إسرائيل، وسينزل بين بنى إسرائيل وسيكونون جنده وأعوانه، وستكون قاعدة ملكه هي القدس أورشليم، كما تتفق الطائفتان على أن تاريخ نزوله سيوافق رقماً ألفياً (نسبة إلى الألف) ومستندهم في ذلك بعض التأويلات، لما جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي، ومنامات الرهبان، وتكهنات الكهان، أمثال أنوسترا دامس الذي حولت السينما الأمريكية توقعاته المستقبلية إلى فيلم لاقى رواجاً كبيراً في العقد الماضي، ثم برز الحديث عنها أيام حرب الخليج بين الغرب والعراق. والآن مع اقتراب نهاية الألف سنة الثانية من ميلاد المسيح - عليه السلام - واعتقاد قرب نزوله كما يؤمن الأصوليون الإنجيليون، يلتقي الحلمان القديمان اللذان يتكون منهما الوعد المفترى: حلم النصارى بعودة المسيح ونزوله إلى الأرض ليقتل اليهود والمسلمين، وكل من لا يدين بدينهم في معركة هرمجدون (الآتي تفصيل الحديث عنها)، وحلم اليهود بخروج الملك من نسل داوود، الذي يقتل النصارى والمسلمين، ويخضع الناس أجمعين لدولة إسرائيل، وهو المسيح الدجال، ومن هاهنا اتفق اليهود والنصارى على فكرة أن قيام دولة إسرائيل وتجمع بنى إسرائيل في فلسطين هو تمهيد لنزول المسيح، كما يفسره كل منهما!! وبنظرة منطقية عابرة، يظهر جلياً أن هذا الإلتقاء الظاهري يحمل تناقضاً كبيراً - يجعل من المفترض عقلياً أن يكون قيام دولة إسرائيل واقتراب نهاية الألف الثانية - مسوغاً لحرب لا هوادة فيها بين الطائفتين (اليهود والنصارى) تبعاً للتناقض الكبير، والحرب المتوقعة بين المسيحين (الدجال وابن مريم) وأن يكون النصارى في هذه المرحلة أكثر تقرباً إلى المسلمين، وتعاوناً معهم تبعاً لاتفاق الطائفتين في الإيمان بمسيح الهدى- عليه السلام - وعداوتهما لمسيح اليهود، ولكن ها هنا مربط الفرس وبيت القصيد. ها هنا يظهر المكر اليهودي الخبيث، ويتجلى معه الحقد النصراني الدفين على المسلمين، أما المكر اليهودي فيتجلى في تلك الحيلة الغريبة التي ابتدعها حاخامات صهيون، وأقرهم عليها بلا تردد قادة الإنجيليين الألفيين (ولا غرابة فبعضهم يهودي مندس) وهي تأجيل الخوض في التفصيل، والاهتمام بالمبدأ الذي هو نزول المسيح، وذلك بالتعاون سوياً والتخطيط اشتراكاً لتهيئة نزوله، فإذا نزل فسنرى هل يؤمن به اليهود، أو يكون هو الذي يؤمن به - الآن - اليهود؟ فلتظل هذه المسالة معلقة تماماً؛ لأن الخوض فيها ليس من مصلحة الطائفتين معاً!! وليعملا سواء للقضاء على العدو المشترك (المسلمين)!! واتفق زعماء الملتين على نسج قناع يستر وجه المؤامرة عن أعين المغفلين من النصارى، والمستغفلين من المسلمين! وأما الحقد الصليبي فيتجلى في انسياق العالم الغربي النصراني وراء اليهود، حتى في هذه القضية الكبرى التي يقتضي الدين والعقل والمصلحة أن يتفهموا موقف المسلمين منها على الأقل!! -ونخص بالذكر الكاثوليك أتباع البابا الذين لا يؤمنون بحرفية التوراة-، ولكنه الحسد والبغي الذي يكنه أهل الكتاب للمسلمين كما أخبر الله في كتابه المبين. وإن يكن شيء أعجب من انسياق النصارى وراء اليهود فهو انسياق المسلمين وراء الطائفتين، كما هو حال المشاركين في مدريد، والموافقين على مشروع السلام المزعوم، بل المنساقين وراءهم منذ وعود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.

الأحداث الكبرى في تاريخ المنطقة

الأحداث الكبرى في تاريخ المنطقة وإذا كانت فكرة عودة المسيح الألفية قد راودت الأذهان عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ حيث بُدئ عملياً في تحقيق الوعد المفترى، وإنشاء دولة إسرائيل، فإنه لابد لنا أن نستعرض الأحداث الكبرى في تاريخ المنطقة منذ ذلك الحين إلى اليوم لنرى بوضوح كيف تمت مؤامرة أهل الكتاب، وكيف صدَّقهم وشايعهم من كفروا بالوعد الحق أو تناسوه، وأنهم لا يعتبرون من تكرار النتيجة الخاسرة والغدر الواضح في كل مرة. وسنرى أن كل حدث يُقرِّب من النتيجة يكون له قِناعه الذي يبعد أنظار المغفلين والمستغفلين عنها! والمدهش حقاً أن العرب يكونون أكثر تعلقاً بالمتآمرين وتحالفاً معهم، في الوقت الذي يكون أولئك فيه أكثر إصرارا على الغدر بهم وسلبهم. 1 - الحدث الأول: هو الحرب العالمية الأولى التي كان من آثارها بل من أغراضها تقسيم الدولة العثمانية والقضاء على الخلافة، وإعلان حق اليهود في تأسيس دولتهم - رغم أنف عبد الحميد الذي رفض عروضهم المغرية - وتأسيس دولة عظمى على العقيدة اليهودية الشيوعية! حينها دخل الجنرال اللنبي القدس، ووضع الراية على جبل الزيتون قائلاً: الآن انتهت الحروب الصليبية، وأصدر الإنجيلي المتعصب -كما سنبين- بلفور وعده المشئوم، فماذا كان قناع المؤامرة؟ وماذا كان موقف العرب؟ لقد افتعلوا قناع الانتداب، ليحكموا باسمه التركة العثمانية الممزعة، وكان مهندس ذلك هو (ابن راعي الكنيسة) كما سمى نفسه، وهو المتعصب الإنجيلي ولسن رئيس أمريكا حينئذٍ (وسيأتي له حديث). أما موقف العرب فقد تحالفوا مع أعدائهم على أنفسهم، ودخلوا تحت راية المحتلين لبلادهم، فكانوا جزءاً من جيش اللنبي وقطيعاً وراء لورانس!! 2 - والحدث الثاني: هو الحرب العالمية الثانية، التي كان من أغراضها ونتائجها القضاء على النازية منافسة الصهيونية، وإعلاء شأن الحكومة اليهودية الخفية الشيوعية وإعلان ميلاد دولة إسرائيل. وكان موقف العرب هو الانضمام إلى الحلفاء الذين كانوا يحتلون بلادهم، وفتح بلادهم لقواعدهم، وحشد الحلفاء كثيراً من أبناء مستعمراتهم المسلمين، وتمهيداً لخوض معركة العلمين ضد الألمان جلب الحلفاء بعض الشيوخ من الهند وغيرها يفتون المسلمين بأن قتال الألمان جهاد في سبيل الله! وكان القناع هذه المرة: ميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان وحق الشعوب جميعاً في تقرير مصيرها والاستقلال عن مستعمراتها!! وهلل العرب لهذه الشعارات البراقة وفرحوا بما سمي بالاستقلال، وآمنوا طائعين بشرعية الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، فماذا كانت النتيجة؟ لقد قامت دولة إسرائيل وقام ما هو أسوأ منها: الحكومات العلمانية العميلة التي جعلت الشعوب تترحم على أيام الإنجليز والفرنسيين، وأوصلت الأمة إلى أدنى مستوى من الانحطاط في تاريخها كله. 3 - والحدث الثالث: هو الوفاق اليهودي النصراني المسمى (الوفاق الدولي) حيث تقرر انتهاء دور العقيدة الشيوعية ليعود فرعا الشجرة عصا غليظة، وأداة واحدة لتهشيم رأس العدو المشترك: المسلمين، ويفتح الباب لهجرة أكبر تجمع يهودي في العالم بعد أمريكا اليهود الروس، والشرقيون، وتسيطر بيوت المال اليهودية في نيويورك وأخواتها على ثروات العرب، ويصبح يهود إسرائيل طبقة أرستقراطية في محيط عربي كله عمال لمشروعاتها، ويصبح جيش الدفاع الإسرائيلي هو بوليس المنطقة كلها، وتيسيراً لذلك لابد من إجهاض أية محاولة عربية للحصول على السلاح النووي أو بديله المحدود الكيميائي، وتمزيق الأمة تمزيقاً لا رجعة فيه. وتحقيقاً لذلك صنع سيناريو حرب الخليج، وعاد العرب من جديد جيوشاً للحلفاء وطعماً للألغام بين يديهم، واقتتلوا في معركة كلا طرفيها منهم خاسر على أي حال وبكل اعتبار، ودمروا بأموالهم وبأيديهم وأيدي أعدائهم ما أنفقوا عليه وبنوه في سنين طويلة!! وفشلت كل الأنظمة الأمنية المقترحة إلا نظام الحماية الغربية، وكان الغلاف والغطاء هذه المرة هو: النظام الدولي الجديد والشرعية الدولية. والعجب أو الأعجب هو أن هذا الغلاف أظهر من سابقيه في الصلة بالمؤامرة الكتابية والعلاقة بتحقيق الوعد المفترى، ولعل السر في ذلك أن الأمة الإسلامية أصبحت من الذل والخذلان -كما أصبحوا هم من الثقة والإصرار- بحيث لا يخافون أن تطلع على مؤامراتهم أو تفضح مكيدتهم.

العلاقة بين النظام الدولي الجديد وحكومة المسيح الدجال

العلاقة بين النظام الدولي الجديد وحكومة المسيح الدجال هاهنا Q ماذا سيكون مصير الإنسانية إذا نزل المسيح المنتظر؟ يتفق الجميع على أنه بنزوله وبعد القضاء على أعدائه ستكون للإنسانية حكومة واحدة فقط وهذه هي القضية الجوهرية الأولى، أما الثانية فهي: أن السلام سيشمل العالم كله؛ إذ في ظل هيمنة هذه الحكومة الوحيدة لن يكون هناك قتال بين دولة وأخرى، أو شعب وآخر، بل لن يحتاج العالم إلى الجيوش والأسلحة!! هذا ما تبشر به نبوءات الأديان، فلم لا يكون هذا مدخلاً للانتهازيين. من دهاقنة السياسة النصارى وعباقرة المرابين من أحفاد روتشيلد؟ أليست هذه هي الفرصة السانحة -كما عبر نيكسون - لإسقاط فكرة الحكومة الواحدة المهيمنة على أمريكا وفكرة السلام الشامل، وفرض الشرعية الدولية لتدمير القوى العربية التي يخشى أن يرثها الأصوليون ولو بعد حين؟ ومن ثم يعقدون مؤتمر السلام المنشود!! ومن هنا دخلت الانتهازية الأمريكية مع أوسع الأبواب؛ وذلك أن بوش حين يزج بأموال أمريكا ورجالها لتحقيق المصلحة المشتركة بينه وبين اليهود لابد أن يرفع شعار تفرد أمريكا بحكم العالم وسيادتها له، وهذا الصرح القومي الذي يتربع على قمته هو متسلق الطفيليين -اليهود- ومن مصلحتهم أن يطول ويشمخ؛ وهكذا التقى الطموح الشخصي أو الحزبي بالحلم اليهودي القديم، وربما كان كل منهما يسخر من الآخر، بل يُسخِّر الآخر لغرضه على قاعدة {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] وكما حققه شَيْخ الإِسْلامِ في رسالة العبودية، وكل منهما من جهة يسخر التيار الأصولي المحافظ نظراً لقوته الجماهيرية. وانطلاقاً من هذه الحقائق سنعرض جهود الساعين لتحقيق الوعد المفترى عرضاً وصفياً إحصائياً، ونستعرض من خلاله الأهداف، ونقترح الحلول دون أن نعرج على الدوافع التآمرية التي قد ينازع فيها من ينازع.

الألفيون وهرمجدون

الألفيون وهرمجدون الألفيون ومعركة هرمجدون صفحة من رؤيا يوحنا اللاهوتي كما في العهد الجديد. -كما أشرنا- يعتقد النصارى أن المسيح سيرجع بعد ألف سنة ثم يحكم العالم ألف سنة، وعلى هذه العقيدة اجتمعت آمالهم واتجهت أنظارهم سنة (1000) ميلادية ولكن المسيح لم يظهر فهدأت المسألة وتلاشت في الواقع لكنها بقيت في الأحلام، ولما شارف هذا القرن على البزوغ -أي: قرب سنة (1900م) - بدأت الدعوات تظهر من جديد، واعتقدوا أن المسيح إن لم يظهر في أول القرن العشرين فسيظهر في آخره أي عام (2000) وبما أن ظهوره سيكون في موطنه الأصلي فلا بد للإعداد والتهئية لمقدمه بتجميع بني إسرائيل في أرض فلسطين التي ستكون عليها المعركة الكبرى الفاصلة معركة هرمجدون أو سهل مجيدون وهو سهل صغير في فلسطين، يقولون: إن المعركة ستنشب فيه بجيوش يصل تعدادها إلى (400) مليون جندي -كما قال بعضهم-. تقول غريس هالسيل في خاتمة كتابها: ' اقتناعاً منهم بأن هرمجدون نووية لا مفر منها بموجب خطة إلهية؛ فإن العديد من الإنجيليين المؤمنين بالتدبيرية ألزموا أنفسهم سلوك طريق مع إسرائيل يؤدى بصورة مباشرة -باعترافهم أنفسهم- إلى محرقة أشد وحشية وأوسع انتشاراً من أي مجزرة يمكن أن يتصورها عقل أدولف هتلر الإجرامي'. هذه العقيدة الألفية يؤمن بها فئات مختلفة في أمريكا غير الأصوليين الإنجيليين ابتداءً من رؤساء الجمهورية وانتهاء بكثير من العامة. وقد ظهرت كتب عن هذه النبوءات، ولاقت رواجاً هائلاً أهمها كتابان: الأول: كتاب: دراما نهاية الزمن ومؤلفه: أوترال روبرتس. والثاني: كتاب: نهاية الكرة الأرضية العظيمة ومؤلفه: لندسي. وكلاهما يصور بشكل درامي مثير نهاية العالم القريبة وانهيار حضاراته ودمار جيوشه بقيام معركة هرمجدون؛ حتى أن أحدهم يقول: لا داعي للتفكير في ديون أمريكا الخارجية أو ارتفاع الضرائب أو مستقبل الأجيال القادمة، فالمسألة بضع سنوات ويتغير كل شيء في العالم جذرياً. وقد ارتفع مستوى الإيمان بهذه العقيدة وكثر الحديث عنها أثناء أزمة الخليج، واعتقد بعضهم أن حرب الخليج هي هرمجدون، وتأوَّلُوا كثيراً من وقائعها على ما جاء في رؤيا يوحنا وأمثاله: (الطائرة في وَسَطِ السماء هلمّ اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك ولحوم قوّاد ولحوم أقوياء ولحوم خيل والجالسين عليها ولحوم الكل حراً وعبداً صغيراً وكبيراً. ورأيت الوحش وملوك الأرض وأجنادهم مجتمعين ليصنعوا حرباً مع الجالس على الفرس ومع جنده، فقبض على الوحش والنبي الكذاب معه الصانع قدامه الآيات التي بها أضل الذين قبلوا سمة الوحش والذين سجدوا لصورته، وطُرِحَ الاثنان حيين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت، والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه وجميع الطيور شبعت من لحومهم. الإصْحَاحُ العِشْرُونَ. ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده. فقبض على التِّنِّينِ الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان وقيَّدَهُ ألف سَنَةٍ، وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد حتى تتم الأَلْفُ السَّنَةِ وبعد ذلك لا بد أن يحل زَمَاناً يَسِيراً، ورأيت عروشا فجلسوا عليها وأعطو حكما، ورأيت نفوس الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السمة على جباههم وعلى أيديهم فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة، وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السَّنَةِ - هذه هي القيامة الأولى - مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى؛ هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم؛ بل سيكونون كهنة لِلَّهِ والمسيحِ وسيملكون معه ألف سنة. ثم متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جُوجَ وَمَاجُوجَ ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثلُ رمل البحر.

مصدر الإنجيليين في عقيدة الرفع في سحاب رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي

مصدر الإنجيليين في عقيدة الرفع في سحاب رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي لهذهِ كُلِّهَا قُلْنَا لكم قبلاً وَشَهِدْنَا؛ لِأنَّ اللهَ لم يَدعنَا للنجاسة بل إذاً من يُرذِلُ لا يُرذِلُ إنسانا؛ بل اللهَ الذي أعطانا أيضا روحه القدوس. وأما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها؛ لأنكم أنفسكم متعلمون من الله أن يحب بعضكم بعضاً؛ فإنكم تفعلون ذلك أيضاً لجميع الإخوة الذين في مَكِدُونِيَّةَ كُلِّها، وإنما أطلب إليكم أن تزدادوا أكثر، وأن تحرصوا على أن تكونوا هادئين وتمارسوا أموركم الخاصة، وتشتغلوا بأيديكم أنتم كما أوصيناكم؛ لكي تسلكوا بلياقة عند الذين هم من خارج ولا تكون لكم حاجة إلى أحد. ثم لا أريد أن تجهلوا من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم؛ لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضا معه؛ فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين؛ لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكةٍ وبُوقِ الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا؛ ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السُّحُبِ لملاقاة الرب في الهواء؛ وهكذا نكون كل حين مع الرب؛ لذلك عزوا بعضكم بعضا بهذا الكلام الإَصْحَاحُ الخَامِس. وأما الأزمنة والأوقات فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها. لأنكم أنتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلص في الليل هكذا يجيء؛ لأنه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة كَالمُخَاضِ لِلْحُبْلَى فلا يَنْجُونَ، وأما أنتم فلستم في ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كَلِصٍّ. جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة، فلا ننم إذاً كالباقين بل لنسهر ونصح. لأن الذين ينامون فباليل ينامون والذين يسكرون فبالليل يسكرون. وأما نحن) أ. هـ. ويعتقد هؤلاء أن نهاية المعركة ستكون انتصاراً حاسماً للنصارى وتدميراً كاملاً للوثنيين - أي: المسلمين- وذلك بأن يرتفع النصارى فوق السحاب مع المسيح، وأما المسلمون فيغرقون في بحيرة النار المتقدة بالكبريت على حد قول الرؤيا، أي: أن هؤلاء المنتسبين للمسيح زوراً الذين اتخذوه إلهاً من دون الله سينجون جميعاً حتى عرايا شيكاغو وباريس ومقامري لاس فيجاس وشواذ سان فرانسيسكو ومدمني ميامي، وأما المؤمنون الموحدون القانتون فسيهلكون ولو كانوا عند الكعبة لأنهم كنعانيون، وقد فسروا النار الكبريتية بأنها قنابل نووية يلقونها على المسلمين!! بهذا يؤمن الأصوليون الإنجيليون، بل يؤمن سبعة من رؤساء أمريكا قبل بوش ويؤمن بها بوش ولو مجاملة، وينقل كتاب: البعد الديني عن الرئيس كارتر أنه قال: ' لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين، وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة؛ لأنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، لقد شكل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون ونحن نتقاسم تراث التوراة". وهؤلاء السبعة يعتقدون أن الصراع بين العرب واليهود هو صراع بين داوود وجالوت الذي يسمونه جوليان، وجالوت العصر هم العرب، وداوود هو دولة إسرائيل. وقد صرح الرئيس ريجن أكثر من إحدى عشرة مرة أن نهاية العالم باتت وشيكة، وأنه يؤمن بمعركة هرمجدون، وقال في حديث مع المدير التنفيذي للوبي الإسرائيلى إيباك: حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بـ هرمجدون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك واقعاً، ولا أدرِي إذا كنت قد لاحظت مؤخراً أياً من هذه النبوءات، لكن صدقني أنها قطعاً تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه. وقال ريجان " إنني دائماً أتطلع إلى الصهيونية كطموح جوهري لليهود، وبإقامة دولة إسرائيل تمكن اليهود من إعادة حكم أنفسهم بأنفسهم في وطنهم التاريخي ليحققوا بذلك حلماً عمره ألفا عام'. ويقول مايك إيفانز - أحد زعماء الأصولية الإنجيلية -وسيأتي الحديث عنه: في يناير (1985م) دعا الرئيس ريجن: جيمي بيكر وجيمي سواجارت وجيري فولويل وهم من زعماء الأصوليين -وسيأتي الحديث عن الأخيرين- ودعاني -أيضاً- مع مجموعة صغيرة أخرى للقائهم بصورة شخصية لن أنسى ما قاله لنا، أعرب الرئيس عن إيمانه بأن أمريكا على عتبة يقظة روحية وقال: ' إنني مؤمن بذلك من كل قلبي، إن الله يرعى أناساً مثلي ومثلكم في صلاة وحب ابتهالين لإعداد العالم لصورة ملك الملوك وسيد الأسياد " يقصد: المسيح. فإذا كان هذا هو رأي ريجن فكيف بـ جورج بوش الذي كان نائبه وساعده الأيمن والذي قدم لليهود ما لم يقدمه قبله لا ريجان ولا غيره، والذي أظهر أثناء أزمة الخليج من التعاطف مع الأصوليين ما لم يسبقه إليه أحد؟! كما أن بوش له علاقات صداقة حميمة مع زعماء الأصوليين الإنجيليين وخاصة جيري فولويل الذي يقول عنه بوش: أعتقد بكل أمانة أننا برجال من أمثال جيري فولويل؛ فإن شيئاً فظيعاً كالإبادة الجماعية لليهود لن يحدث ثانية -وسيأتي الحديث عن هذا الأصولي لاحقاً- وتذكر غريس هالسيل أن فولويك أقام حفل غداء في (25 يناير) (1986م) على شرف بوش وقال في الحفل: بوش سيكون أفضل رئيس في عام (1988م). ومهما قيل عن ماضي بوش الإجرامي فإنه يصف نفسه في كتابه: التطلع إلى الأمام بأنه متدين، وأن جده كان قسيساً، وأنه هو وأسرته يقرءون الكتاب المقدس كل يوم، ويتحدث كيف واجهته مشكلة تعميد ابنته حينما كان سفيراً في الصين، وصورته وهو يرتدى القبعة السوداء ويلثم حائط المبكى على طريقة اليهود التي يعرفها الجميع. وإذا كان هذا موقف رؤساء أمريكا من الأصولية النصرانية فإن لهم من الإسلام وأهله موقفاً آخر.

الصراع بين اليهود والأصوليين الإسلاميين

الصراع بين اليهود والأصوليين الإسلاميين ولنأخذ هذا الموقف من كلام الرئيس نيكسون أكثر رؤساء أمريكا فكراً وتنظيراً؛ وذلك في كتابه: 1999 نصر بلا حرب، وهو العنوان الذي يشعر بالفكرة الألفية وسيطرة الحكومة الواحدة على العالم. يقول نيكسون: ' إن صراع العرب ضد اليهود يتطور إلى نزاع بين الأصوليين الإسلاميين من جانب وإسرائيل والدول العربية المعتدلة من جانب آخر '. ص 284. ويقول: ' في العالم الإسلامي من المغرب إلى أندونيسيا ورثت الأصولية الإسلامية مكان الشيوعية باعتبارها الأداة الأساسية للتغيير العنيف 'ص 307. ويختم كتابه بعبارات لا يتفوه بها إلا أعتى الأصوليين الإنجيليين فيقول: ' عندما كانت أمريكا ضعيفة وفقيرة منذ مائتي سنة مضت كانت عقيدتنا هي المبقية علينا، وعلينا ونحن ندخل قرننا الثالث ونستقبل الألف سنة المقبلة أن نعيد اكتشاف عقيدتنا ونبث فيها الحيوية '. وقد نشرت له مجلة الشئون الخارجية تعليقاً على اللقاء الأول الشهير بين ريجن وجورباتشوف قال فيه: ' يجب على روسيا وأمريكا أن تعقدا تعاوناً حاسماً لضرب الأصولية الإسلامية '؟!

الساعون لتحقيق الوعد المفترى

الساعون لتحقيق الوعد المفترى كيف نشأت الحركة الصهيونية التي تطالب بأرض فلسطين وتعدها أرضاً يهودية؟! ومن أين جاء الشعور للعالم بأن الوعد الذي وعد الله - تبارك وتعالى - لإبراهيم صلى الله عليه وسلم هو لليهود وليس للمسلمين؟ الذي نسمع عنه وما قرأناه في منهج التاريخ الدراسي أن الذي بدأ هذه الدعوة هو هرتزل واليهود، والحقيقة غير ذلك. إذ أن أول من بدأ الدعوة لتجميع اليهود ولتطبيق نبوءات التوراة هم النصارى قبل اليهود، وقبل الحركة الصهيونية بأكثر من أربعة قرون، وإن لم نع هذه الحقيقة جيداً فإننا لن نستطيع معرفة مواقف الغرب عامة وأمريكا بخاصة من الصراع الذي نعيشه الآن، فلنلمّ بعجالة تاريخية لنرى ذلك. كيف كان اليهود في أوروبا؟ اليهود ملعونون في الإنجيل، وقد لعنهم الله تعالى من قبل حيث قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]. ولكن كونهم ملعونين وإخوان القردة والخنازير، وعباد العجل ومصاصي الدماء، ليست هذه وحدها هي سبب عداوة النصارى لهم؛ بل المسألة عند النصارى أكبر من ذلك بزعمهم، فجريمتهم ليست الكفر بالله وقتل الأنبياء، ولكنها قتل الرب المسيح!!! - تعالى الله رب العالمين - وصدق حيث يقول: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء:157].

الطاعون الأسود

الطاعون الأسود وهكذا ظلت العداوة التي لا تنطفئ بين الطائفتين، واستمرت الكنيسة البابوية التي مقرها روما في لعن وعداوة اليهود بشكل عجيب وهائل ومن طرائف هذا العداء أن وباءً خطيرا انتشر في الغرب يسميه الغربيون: الطاعون الأسود قضى على الملايين من الأوروبيين حتى أقفرت كثير من المدن والقرى , فأعلن البابا في منشور رسمي عمم في كافة أنحاء أوروبا أن هذا الطاعون سببه اليهود! فكان أي خبث في الدنيا أو شر ينسب إلى اليهود، وقامت حملات عارمة تزعمها البابا لتنظيف المجتمعات الأوروبية من اليهود، وفي القرن الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر استمرت حملات التنظيف؛ فنظفت بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكثير من دول أوروبا من اليهود؛ لأنهم يرونهم أخطر خلق الله وأكثرهم شرّاً -وهم كذلك- ويا لها من نظافة لو استمرت!. ومن جحيم أوروبا لجأ اليهود إلى كنف الأندلس وآواهم المسلمون، وبعدما احتل النصارى مدريد الإسلامية وشنوا حربهم الإبادية الشاملة على المسلمين في الأندلس شمل ذلك اليهود معهم؛ فلجئوا إلى الولايات التركية وخاصة اليونان. وفي تلك الحقبة التاريخية الحاسمة قدر الله أن يقع حدثان كبيران أحدهما: جغرافي، والآخر: ديني، ومن امتزاج آثارهما تولدت أكبر قوة معادية للإسلام ولوعد الله الحق، وساعية لتحقيق الوعد المفترى، والتمهيد للمسيح الدجال، وهي الولايات المتحدة الأمريكية أما الحدثان فهما: 1 - اكتشاف أمريكا. 2 - ظهور الحركة البروتستانتية.

العلاقة اليهودية البروتستانتية

العلاقة اليهودية البروتستانتية البروتستانت: هي الطائفة التي تحتج على البابا - زعيم الكاثوليك -، وتخرج عليه وتؤمن بأن البشر لا يتوسطون بين الناس وبين الله، وقالوا: إن على كل إنسان أن يقرأ الكتاب المقدس مباشرة ويطبقه مباشرة، وترفض احتكار رجال الكهنوت لتعليم الدين وتفسير الإنجيل، وقد تأثروا في ذلك بالمسلمين إبان الحروب الصليبية؛ إذ رأوا أن المسلمين يتعاملون مع كتاب الله مباشرة، ولا يتوسط أحد بينهم وبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , والذي حدث في أوروبا أنه بعد ظهور هذه العقيدة بدأ الناس يرجعون إلى الأصول التوراتية، وقام مارتن لوثر صاحب حركة البروتستانت بترجمة التوراة إلى اللغة الألمانية، وكذلك الإنجليزية، وقد انتشرت الحركة البروتستانتية أكثر ما انتشرت في ألمانيا وبريطانيا وآمن هؤلاء بحرفية الكتاب المقدس وعصمة التوراة، وأن كل حرف في التوراة هو حق من عند الله وبدأوا يقرأون مثل نصوص الوعد الذي ذكرنا لإبراهيم وليعقوب، فآمنوا به وبضرورة تحقيقه، وأعرضوا عن تفسيرات البابا ورجاله للعلاقة مع اليهود. وابتهج اليهود بهذه الحركة ووجدوا فيها متنفساً لهم وفرصة للانتقام من البابا وأتباعه، وضرب النصارى بعضهم ببعض؛ فسخروا مكرهم ودهاءهم وأموالهم لنشرها، وهكذا بدأت العلاقة بين اليهود والنصارى تتحسن بالتدريج وبدأ هؤلاء النصارى يؤمنون بأن أرض فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود، وأن الواجب الديني يقتضي تحقيق هذا الوعد. وأخذ اليهود في نشر هذه المبادئ بين سائر طوائف النصارى، وشهد القرنان الماضيان من الحروب الطائفية في أوروبا ما لا نظير له في التاريخ، واكتشفت أمريكا في وقت كانت الحرب على البروتستانت من قبل الكاثوليك كبيرة وعنيفة مما اضطر البروتستانت إلى الهجرة إلى العالم الجديد، فأخذوا يتدفقون نحوها وإلى الآن لا يزالون هم أكثر سكان أمريكا. وقد خرجوا من أوروبا بروح التدين التوراتي، فلما دخلوا أمريكا تفاءلوا بأن هذا خروج كخروج بني إسرائيل ودخولهم إلى الأرض المقدسة، وأخذوا يسمون المدن والمناطق في أمريكا بأسماء من التوراة، واعتقدوا أن هذه الأرض البكر بشرى بشرهم الله بها في الدنيا، وتأسس المجتمع الأمريكي على أساس بروتستانتي توراتي -كما سبق في كلام كارتر -. ولعلكم الآن عرفتم الآن بداية الجواب على السؤال السابق وهو لماذا في هذا العصر دونما قبله من العصور يسعى النصارى لتحقيق وعد اليهود ويتحولون من اضطهادهم إلى خدمتهم؟! وعرفتم لماذا كانت أمريكا هي الدولة المهيأة لاحتضان حكومة المسيح الدجال الموعود بها عام (2000م)؟!

ظهور الصهيونية النصرانية

ظهور الصهيونية النصرانية كانت نتيجة الحركة البروتستانتية والتغلغل التوراتي فيها هي ظهور فكرة الصهيونية النصرانية قبل فكرة الصهيونية اليهودية، وتبنيها لفكرة عودة اليهود إلى فلسطين تمهيداً لعودة المسيح التي كان بعضهم يظن أنها ستكون بداية هذا القرن الميلادي كما أشرنا. وأبرز رجال هذه الحركة في أمريكا هو: بلاكستون الذي تحتفل الدولة اليهودية بذكراه، وهو ليس يهودياً؛ بل بروتستانتي ولد عام (1841م)، ودعا إلى الحركة الصهيونية قبل هرتزل بزمن وذلك في كتابه المسمى: عيسى قادم، وقد ترجم إلى أكثر من 48 لغة منها العبرية، وطبع عدة طبعات وبيع منه أكثر من مليون نسخة، وكان أوسع الكتب انتشارا في القرن التاسع عشر في الغرب. ويتلخص فكر بلاكستون فيما أسماه: " الاستعادة الأبدية لأرض كنعان من قبل الشعب اليهودي" واستطاع بلاكستون بعد ذلك أن يصوغ مع طائفة من أعوانه عريضة ويوقعها مع أكثر من 413 شخصية أمريكية من النواب والقضاة والمحامين والنخب، ويرفعوها إلى الرئيس بنيامين هريسون يطالبونه فيها باستخدام نفوذه ومساعيه لتحقيق مطلب الإسرائيليين بالعودة إلى أرض فلسطين، وقد قدمت هذه العريضة عام (1891م). وفي بريطانيا أسس البروتستانت صندوقاً سمي: صندوق اكتشاف فلسطين، أيام حكم فكتوريا، وكان رئيس الصندوق هو رئيس أساقفة كنتربري - وهو أكبر الأساقفة في بريطانيا -، وذلك بغرض اكتشاف أرض الميعاد وحدودها ومعالمها كما وردت في التوراة. ثم ظهر بعد ذلك بلفور -صاحب الوعد المشهور- وتقول مؤلفة حياته -وهي ابنة أخته-: إنه كان يؤمن إيماناً عميقا بالتوراة ويقرأها ويصدق بها حرفياً، وأنه نتيجة لإيمانه بالتوراة أصدر هذا الوعد وكان رئيس وزراء بريطانيا في أيامه هو: لويد جورج الذي يقول عن نفسه: " إنه صهيوني، وإنه يؤمن بما جاء في التوراة من ضرورة عودة اليهود، وأن عودة اليهود مقدمة لعودة المسيح". وهناك شواهد كثيرة على سبق الحركة الصهيونية النصرانية ورسوخها يضيق المجال عن ذكرها، ونكتفي بقول حاييم وايزمان: ' إن من الأسباب الرئيسية لفوز اليهود في الحصول على تصريح بلفور من بريطانيا بإنشاء الوطن القومي اليهودي هو شعور الشعب البريطاني المتأثر بالتوراة بعد ذلك ظهر الرئيس ولسن الذي كان يحكم أمريكا أثناء الحرب العالمية الأولى حينما كان العرب يحاربون إلى جانب الحلفاء، ويقول ولسن هذا عن نفسه: إنه يجب على ابن راعي الكنيسة أن يكون قادراً على المساعدة لإعادة الأرض المقدسة لشعبها اليهودي، وتقول عنه إحدى المؤلفات اليهوديات: إن التزام الرئيس ولسن بـ الصهيونية كان عميقاً جداً، وكان معنياً بالفكر الصهيوني النصراني للدرجة التي لم ير فيها النتائج الأخلاقية والسياسية والدينية للبرنامج الصهيوني، ومن الغرائب المضحكات كما يقول أحد الكتاب: أن ولسن رئيس أكبر دولة مدعي الثقافة كان يظن أن عدد اليهود في العالم مائة مليون في الوقت الذي لم يكن يتعدى عددهم أحد عشر مليوناً!! فانظروا كيف استطاعوا تربيته لترسخ في ذهنه هذه المعتقدات! وفي أيام ولسن ومن بعده ظهر رجل لابد من الإشارة إليه وهو أحد الزعماء المهمين في الولايات المتحدة وهو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي بعد الحرب العالمية الأولى، يقول في خطاب ألقاه في بوسطن عام (1922م): " إنه جدير بالثناء أن يرغب الشعب اليهودي في كل أنحاء العالم أن يكون هناك وطن قومي لأفراد جنسه الراغبين في العودة إلى البلاد التي كانت مهدا لهم، والتي عاشوا وعملوا فيها عدة آلاف من السنوات، وإنني لا أحتمل فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين " هذا هو حديث رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس عام (1922م) - أي: قبل (26 عاماً) على قيام دولة إسرائيل- يؤكد أنه لا يطيق أن تبقى القدس وفلسطين تحت سيطرة المسلمين!! ذلك كله حتى نعلم أنه قبل اشتداد عود اليهود كان النصارى يؤمنون بضرورة وجود إسرائيل في فلسطين.

ظهور الأصولية الإنجيلية

ظهور الأصولية الإنجيلية وكانت إحدى نتائج البروتستانتية المعاصرة أن ظهرت في أمريكا صحوة دينية هائلة -نعم هي صحوة ويسمونها صحوة، ويصفونها بـ الأصولية، وهي كذلك أصولية إنجيلية - ويجب الانتباه للحديث عن هذه الصحوة لندرك مدى الغفلة التي تَلُفُّنَا نحن المسلمين؛ ولا سيما من قبل وسائل إعلامنا التي لا تقدم لنا هذا الوجه الآخر الذي يزداد كل يوم في أمريكا بلاد الإباحية والعلمانية والإلحاد. وهذه الصحوة أو الأصولية التي تتبنى الوعد المفترى، وتؤثر في توجيه السياسة الأمريكية والرأي العام الأمريكي، وتؤيد الدولة اليهودية تأييداً مطلقاً لابد من تفصيل الحديث عنها ومعرفة رجالها وأعمالها. يؤكد الكتاب التعريفي -الذي توزعه المراكز الثقافية الأمريكية ومنها مركز جدة - بعنوان: " أمريكا اليوم " إن الأمريكان ليسوا شعباً غير متدين كما نظن وهذا صحيح، ولكن الدين عندهم فضفاض ومرن، يكفي أن تؤمن بما تقوله الكنيسة وما توجه به من تعاليم، وتكون عضواً فيها بشكل ما، ولا يعني تدينهم السلوك الجاد، وهناك إحصاءات أجريت تقول: إن أكثر الشعوب النصرانية تديناً من حيث النسبة العددية هي إيرلندا في المقام الأول، ثم أمريكا. ويذكر معهد جالوب المتخصص في الإحصاءات أن أكثر من (94%) من سكان الولايات المتحدة الأمريكية يؤمنون بالله -بالطبع على عقيدتهم- وأن (71%) من سكانها يؤمنون بالبعث بعد الموت على العقيدة الإنجيلية. وتقول أيضاً بعض الإحصاءات: أن عدد أعضاء الجسم الكنسي في الولايات المتحدة سنة (1970م) كان (131) مليوناً من الأمريكان وجميعهم ينتمون إلى الكنائس، وارتفع عام (1980م) إلى حوالي (135) مليوناً؛ ولكنه قفز خلال السنتين التاليتين إلى (139) مليوناً وستمائة ألف. أما بكم يتبرع هؤلاء الأمريكان للكنائس؟ يقول الإحصاء: في عام (1982م) - وهو يعتبر قديماً -: أنهم يتبرعون بحوالي ستين ألف مليون دولار، في حين أن النشرات الحكومية مثل: أمريكا اليوم تقدره بنصف هذا الرقم وهو كثير، وقد نشرت المجلة الدولية لأبحاث التنصير سنة (1989م) أن مجموع التبرعات الكنسية لأغراض التنصير هو: (151) ألف مليون دولار -أي: في أمريكا وغيرها- وقد ارتفع الرقم سنة (1990م) إلى كثر من (180) مليار، وقد رصدوا لتنصير الصومال وحدها (196) ملياراً. ثم نأتي للمدارس الدينية والجامعات والشبكات التلفازية في أمريكا. إن الصحوة النصرانية في أمريكا ليست كالصحوة الإسلامية هنا حيث لا يوجد للصحوة الإسلامية مجلة أو صحيفة أو إذاعة فضلاً عن أية قناة تلفازية عبر الأقمار الصناعية!! أما الكنائس فتمتلك وتدير عدة مئات من المدارس والجامعات والمعاهد في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي عامي (81 - 1982م) بلغ عدد معاهد التعليم العالي (1948) معهداً، فكم تكون الآن؟! أما المدارس فقد كان عددها عام (1954م) لا يزيد عن (123) مدرسة، ثم قفز عددها عام (1980م) إلى ما يزيد على (18) ألف مدرسة. وليس جديداً أن يقال: إن الجامعات الشهيرة في أمريكا إنما أسست على أساس ديني بروتستانتي ومنها: هارفارد وييل وجورج تاون وديتون وبيلور ودنفر وبوسطن الخ. وإجمالا تستطيع أن تقول: إن للأصولية النصرانية في أمريكا أكثر من (20) ألف مدرسة ومعهد وكلية، والملايين من الطلاب والدارسين للتوراة؛ وكلهم يؤمنون بهذه العقائد التوراتية التي تحدثنا عنها. ومن الأدلة التي يستدل بها الباحثون على تدين أمريكا وعودتها إلى المحافظة أنها اختارت آخر رئيسين قبل بوش من المتدينين المحافظين وهما كارتر وريجن؛ فـ كارتر كان ملتزماً التزاماً صارماً بالكنيسة الإنجيلية، ولا يزال كارتر إلى هذا اليوم مبشراً، ويتنقل من أفغانستان إلى الحبشة والسودان وغير تلك البلدان مدافعَا عن التنصير ومبشراً بـ النصرانية، وهذا معروف عند كل من تتبع أخباره؛ فهو رجل منصر وقسيس، والرئيس الذي جاء بعده ريجن، قلنا: إن أحد الإعلانات الانتخابية ذكرت أنه أكد أكثر من إحدى عشرة مرة أنه يؤمن بنبوءات التوراة، ومنها معركة هرمجدون. ودليل آخر عن انتشار الصحوة الدينية في أمريكا يقول: إن إحصاءات صناعة الكتب الأمريكية سجلت أكبر ظاهرة في شراء الكتب الدينية؛ ففي عام (1984م) كان بيع أكثر من ثلث السوق كتباً دينية، وتقدر أثمان هذه الكتب بحوالي مليار دولار دفع ثمنها حوالي (37) مليون مشترٍ.

الإعلام الديني

الإعلام الديني بل تأتي الدلائل أغرب من هذا كله وهي أثر الدين في الإعلام الأمريكي، فمحطات الإذاعة والتلفاز مشغولة بالحديث عن التوراة ورجالها، ويقولون: إن صور نجوم البرامج الدينية المسموعة والمرئية من أمثال جيري غراهام وجيري فولويل احتلت صفحات أبرز المجلات الأسبوعية، وأصبحت تسيطر على عقول الأمريكان؛ حتى إن هؤلاء النجوم - نجوم الأصولية ومنهم سويجارت صاحب برنامج الحملة الصليبية الذي انهزم في مناظرة مع الشيخ أحمد ديدات - أصبحوا ينافسون نجوم السينما والفن والرياضة في اجتذاب اهتمام الجماهير وتتبع أخبارهم وأحاديثهم باستمرار، وقدرت بعض الإحصاءات نسبة الأمريكيين المستمعين والمتابعين لبرامج الأصولية الدينية في عام (1980م) بحوالي (47%) من السكان، ويقولون: إنهم يفتتحون محطة إذاعية كل أسبوع ومحطة تلفاز كل شهر؛ ذلك إحصاء منذ أكثر من عشر سنوات فكم وصل العدد الآن؟! وهناك رابطة مشهورة على مستوى أمريكا اسمها: الرابطة الوطنية للمذيعين الدينيين - أي: المذيعين العاملين في الإذاعات الدينية في جميع أنحاء أمريكا - وقد أنشئت هذه الرابطة عام (1944م) يوم كان عدد المحطات الإذاعية (49) محطة، أما في عام (1980م) فقد أصبحت (800) محطة، وارتفعت عام (1982م) لتبلغ (1000) محطة تنتج وتدير برامج دينية. ومما يجدر ذكره أن هذه الرابطة أخذت منذ عام (1980م) بعد هذا التوسع الهائل في تنظيم مؤتمر سنوي لأعضائها، وفي هذا المؤتمر تقام صالة إفطار لمصلحة إسرائيل، وتسيطر الحركة الأصولية النصرانية الغربية على جميع شبكات الكنيسة المرئية والمسموعة، ويتلقى نجمان من نجومها وهما جيري فولويل، وبات روبيرتسون يتلقيان أموالاً أكثر مما يتلقاه الحزبان الرئيسان في أمريكا الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. كل هذه حقائق من الصحافة الأمريكية، وقد اعتبرت الحركة الأصولية الأمريكية من الظواهر السياسية في القرن العشرين، وانكب علماء الاجتماع والنفس على دراسة هذه الظاهرة، وهناك قضية لابد من النظر إليها إذ يجب أن نربط بين ظهور الإيدز والهيربز وانتشار الصحوة الدينية في أمريكا؛ فالناس قد شعروا بأهمية الدين للحياة، وقد كانت هناك كنائس أقليات نصرانية ترفض الزنا وتحاربه وتحافظ على أبنائها وبناتها منه , ولما انتشرت هذه الأمراض الخبيثة ازداد عدد هذه الكنائس وانتشرت، وازداد عدد تابعيها، وكذلك إدمان المخدرات والضياع والفراغ؛ كل هذه العوامل أدت إلى تنامي الأصولية النصرانية، وقد تنامت هذه الأصولية ليصبح عددها الآن ما يقارب ثمانين مليونًا؛ ولذلك تعتبر من أهم الحركات في القرن العشرين، ويتوقع لها أحد المحللين أن تستمر خمسمائة عام على الأقل -هكذا يقدرون- التلفاز الديني في أمريكا أمره عجب؛ إذ تنتشر البرامج التلفازية في أمريكا بشكل يصعب معه حصرها على وجه الدقة , ولكن رابطة الإذاعيين الدينيين تقول: إن لديها ألف محطة تلفازية وإذاعية مشتركة في نشاطها، كما تقدر أن عدد المستمعين إلى المحطات الإذاعية المشتركة فيها يصل إلى (115) مليون نسمة أسبوعيًا، وحوالي (14) مليون شخص من أعضائها يشاهدون الكنائس المرئيهّ. وتقول بعض الدراسات: إن أهم عشر كنائس مرئية في الولايات المتحدة يشاهدها (40%) من مشاهدي التلفاز الأميركي. وبالطبع هنا تجد الفرق بين يسر الإسلام وعسر غيره؛ فنحن جعلت لنا الأرض مسجدًا وطهورًا - كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن النصارى لا يستطيعون الصلاة إلا في الكنيسة، فتفتقت أذهان موجهيهم عن فكرة هي أنهم قالوا: نحن نأتيكم بالكنيسة المرئية يوم الأحد؛ ففي أي لحظة افتح التلفاز وستجد الكنيسة أمامك، فأصبحت الأسر الأمريكية تجلس وتفتح التلفاز فيجدون الكنيسة أمامهم، ويسمونها: الكنيسة المرئية. ويقدر معهد جالوب المتخصص في الإحصاء أنه في عام (1982م) كان الذين يشاهدون برنامج الكنيسة المرئية شهرياً (52) مليون أمريكي، وفي عام (1983م) حين ظهر الإيدز ارتفع العدد إلى (60) مليون شخص. وفي الدراسة الاستطلاعية - التي أعدتها منظمة إذاعات الدول الإسلامية بـ جدة عن إذاعات التنصير -أن في أمريكا وحدها (38) محطة تلفزيونية، و (66) شبكة كابل، و (1400) محطة راديو، ومن بينها أربع خدمات تلفزيونية تتجاوز ميزانية البرامج لكل منها (50) مليون دولار سنويًا، ولك أن تقارن هذا بواقع الإعلام الإسلامي!! وقد استفاد هذا الجهد الإعلامي من الأقمار الصناعية، ويقدر أن نصف هذه المحطات تستخدم الأقمار الصناعية، هذا كان في عام (1985م)، أما الآن فإنه من المحتمل أن تكون كل المحطات تستخدم الأقمار الصناعية، وهذا يدل على أنها تبث عبر العالم. والجدول المرفق يوضح أهم هذه البرامج ومقدميها ومستمعيها. وفي مجال السينما تذكر الدراسة نفسها أنه تم تخصيص ما يزيد على (100) مليون دولار لإنتاج سينمائي تعده في هوليود للتلفزيون مؤسسة إنتاجية اختارت له اسم GENESIS ويشمل إنتاج (15) فيلمًا أعدت مادتها في سفر التكوين و (18) فيلمًا من إنجيل لوقا. جدول رقم (4 - 1) قائمة بأسماء أهم عشرة برامج في الكنائس المرئية تبعاً لأكثرها شعبية، واجتذابًا للمشاهدين في الولايات المتحدة الأمريكية. المشاهدون شهرياً: 16. 300. 000 المشاهدون أسبوعياً: 4. 420. 000 البث: يومي. صاحب البرنامج: Pat Robertson بات روبرتسون اسم البرنامج: The 700 Club السبعمائة ناد المشاهدون شهرياً: 9. 254. 100 المشاهدون أسبوعياً: 3. 640. 000 البث: أسبوعي. صاحب البرنامج: Jimmy Swaggert جيمي سواجيرت اسم البرنامج: Weekly Crusade الحملة الصليبية الأسبوعية المشاهدون شهرياً: 7. 641. 000 المشاهدون أسبوعياً: 2. 720. 000 البث: أسبوعي. صاحب البرنامج: Robert Shuller روبرت شلر اسم البرنامج: Hour of Power ساعة من القوة المشاهدون شهرياً: 5. 773. 200 المشاهدون أسبوعياً: 2. 462. 100 البث: يومي. صاحب البرنامج: Jim Bakker جيم باكي اسم البرنامج: Praise The (PTL) مجّدوا الرب المشاهدون شهرياً: 57. 732. 00 المشاهدون أسبوعياً: 3. 037. 600 البث: أسبوعي. صاحب البرنامج: Oral Roberts أورال روبرتس اسم البرنامج: Expect a Miracle توقّع معجزة المشاهدون شهرياً: 5. 603. 400 المشاهدون أسبوعياً: 1. 870. 000 البث: يومي. صاحب البرنامج: Jerry Fal Well جيري فولويل اسم البرنامج: Old - Time Gospel Hour ساعة من إنجيل زمان المشاهدون شهرياً: 4. 924. 200 المشاهدون أسبوعياً: 1. 782. 900 البث: أسبوعي. صاحب البرنامج: Kenneth Copland كينيث كوبلاند اسم البرنامج: برنامج واستعراض كينيث كوبلاند المشاهدون شهرياً: 4. 584. 600 المشاهدون أسبوعياً: 1. 867. 800 البث: يومي. صاحب البرنامج: Jimmy Swaggert جيمي سواجيرت اسم البرنامج: A Study In The Word دراسة في الكلمة. المشاهدون شهرياً: 4. 075. 200 المشاهدون أسبوعياً: 1. 443. 300 البث: أسبوعي. صاحب البرنامج: Paul V. Gorder بول فان غوردر اسم البرنامج: Day of Discovery يوم الاكتشاف. المشاهدون شهرياً: 3. 735. 660 المشاهدون أسبوعياً: 1. 613. 100 البث: أسبوعي. صاحب البرنامج: Rex humbard ركس هامبرد اسم البرنامج: برنامج واستعراض وفيما يمكن أن نعده نموذجًا لما تبثه هذه البرامج يقول جيمي سواجارت: أشعر أن الولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة بحبل ولادة سري مع إسرائيل، وتعود هذه الروابط في اعتقادي إلى ما قبل ظهور الولايات المتحدة الأمريكية بزمن طويل؛ كما ترجع الفكرة اليهودية النصرانية إلى إسرائيل ووعد الرب له، وهو وعد أعتقد أنه يشمل الولايات المتحدة الأمريكية - أيضاً -؛ لأن الله ما زال يقول: إني أبارك الذين يباركون إسرائيل وألعن من يلعنونها، ومن فضل الله على الولايات المتحدة الأمريكية أنها ما زالت قوية إلى اليوم، وأنا واثق أن هذا يعود إلى كونها تقف وراء إسرائيل وأدعو الله أن تظل دومًا سندًا لإسرائيل. أي: أن بركة أمريكا تأتيها من وقوفها إلى جانب إسرائيل ومعنى ذلك أن قوة أمريكا من قوة إسرائيل.

نجوم أصولية

نجوم أصولية وإذا تجاوزنا ذلك إلى قيادات التيار الأصولي الأمريكي، فمن هم؟ وماذا يعملون؟ وعليكم أن تجروا مقابلة بين أصوليتهم المدعومة والمسنودة، وبين ما يواجه من يدعو إلى الله في بلداننا العربية ويوصم بأ الأصولية ويحارب من الجميع.

جيري فولويل

جيري فولويل أشهر هذه القيادات وأعظمها أثراً هو المدعو جيري فولويل، وله منظمة يسمونها منظمة الأغلبية الأخلاقية أو الأغلبية المعنوية، ومن كلماته: " إن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل ليس من أجل مصلحة إسرائيل ولكن من أجل مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ". هذا رجل غريب جداً فقد قاد دعوة في الولايات المتحدة تقول: إن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تكون أمة نصرانية، وبعد أن اجتذب الناس وظهرت شعبيته، فإذا به ينقلب ويقلب هذا الشعار ويقول: إن الولايات المتحدة الأمريكية جمهورية نصرانية يهودية، ويقول فولويل: إن الوقوف ضد إسرائيل هو وقوف ضد الله، ويشير في برامجه إلى ما يسميه: وعد الله لإبراهيم منذ أربعة آلاف عام، وقول الرب: سأبارك من يبارك إسرائيل، وألعن من يلعنها -كما في التوراة- ويضيف: وبناءً على هذا فإن على الولايات المتحدة ألا تتردد في تقديم كل الدعم المالي والعسكري إلى إسرائيل. وعندما قامت دولة إسرائيل عام 1948م لم يعتبر ذلك مفتاحاً للنبوءات التوراتية فحسب؛ بل قال: إن هذا علامة على مباركة الله، ووفاءً لشعب الله ويقول فولويل - وهذه عبارة مهمة بالنسبة لمشروع السلام-: إنه لا مجال للنقاش بكون يهوذا والسامره جزءاً من إسرائيل، وكذلك الجولان، وإن القدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، وقد أنشأ جيري فولويل جامعة سماها: " جامعة الحرية" ويقول: إن عدد طلابها سيصل عام (2000م) إلى خمسين ألف طالب، ويتعلم فيها الطلاب علم اللاهوت من وجهة النظر اليهودية، وهذه الجامعة ينتمي طلابها إلى دول كثيرة. وهو يؤكد باستمرار أن إعادة تأسيس إسرائيل عند المسيحيين الأصوليين هو إيفاء بالنبوءات أي: وعود التوراة المحرفة. وهو لا يكتفي بالحدود الجغرافية الحالية لإسرائيل بما فيها الضفة الغربية وغزة والجولان؛ بل يطالب بامتداد أراضيها من الفرات إلى النيل. ويقول في برنامجه: " ساعة من إنجيل زمان" - حينما غزا اليهود لبنان واحتلوا بيروت عام (1982م) - يقول: 'يذكر سفر التكوين من التوراة أن حدود إسرائيل ستمتد من الفرات إلى النيل، وستكون الأرض الموعودة -والأرض الموعودة كما يقول: هي العراق وسورية وتركيا والسعودية ومصر والسودان وجميع لبنان والأردن والكويت ' فـ الأصولية الإنجيلية ترى أن كل هذه الأرض هي أرض كنعان الموعودة. ويهاجم هذا الرجل العرب، ويقول: لا مكان للعرب بيننا، ولا علاقات حسنة معهم؛ لأنهم ينكرون قيم الولايات المتحدة الأمريكية وطريقة معيشتها، ويرفضون الاعتراف بإسرائيل، وهذا اتباع لما جاء في التوراة من أن هناك سبعة شعوب ملعونة أهمها الشعب العربي. بقي أن نقول إن جيري فولويل هذا صديق حميم للرئيس الأمريكي بوش، وقد أعلن بوش أكثر من مرة صداقته له كما سبق.

بات روبرتسن

بات روبرتسن والرجل الثاني بات روبرتسون، وهذا معروف في أنحاء أمريكا كلها بأنه نجم تلفازي ديني، وقد أنشأ هذا الرجل محطة تلفازية تغطي أكثر من ستين دولة أجنبية، وتستخدم الأقمار الصناعية في البث، ويقول الرجل أنه يتلقى أكثر من أربعة ملايين مكالمة عن طريق الخط المجاني رقم (800) وهذه المكالمات تحتوي على الفتاوى والأسئلة والاسترشادات الكنسية، ويجيب عليها هو وزمرته، وقد أعلن عام (1988م) أنه رشح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه ينوي أن ينافس الرئيس بوش في الانتخابات؛ ولكنه انسحب بعد ذلك. إن هذا الرجل يتمتع بنفوذ يمكن أن يصل به إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو من القادة الأصوليين المتطرفين في أمريكا. إن السياسة محرمة على الأصوليين الإسلاميين فقط!! وهناك محطة مشهورة هي: ( C. B. N) هذه المحطة يملكها: بات روبرتسون وجماعته الأصولية الإنجيلية. وهي تذيع باستمرار على مدار (24) ساعة، وتركيزها الأساسي على برامج الوعظ. وكذلك نادي السبعمائة -كما في الجدول- ويملك - أيضاً - جامعة تسمى جامعة: ( C. B. N). وتقول عنه نيويورك تايمز: لا يوجد في عقل بات روبرتسون سوى الأيام الأخيرة من الزمن، والمجيء الثاني للمسيح، ونشوب معركة هرمجدون أي: أنه يتوقع نزول المسيح - عليه السلام - بنهاية هذا الألف الثاني للميلاد، ويعلل ذلك بأن إعادة مولد إسرائيل هي الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية الكون قد بدأ، كما أنه مع مولد إسرائيل فإن النبوءات أخذت تتحقق بسرعة، أي أن كل ما أخبر به الكتاب المقدس سيأتي اعتباراً من وجود دولة إسرائيل. وفي برامجه يؤكد -دائماً- على عداوته للعرب ويسميهم أعداء الله، ويعتقد أنه لا مجال للعدل مع الفلسطينيين طالما أن رغبة الله هي تأسيس إسرائيل وفي تعيين حدودها. فالقضية في نظره ليست رأي بشر؛ بل هي إرادة الله ومنطوق التوراة. ومن غرائب سلوك هذا الرجل أنه حينما احتلت إسرائيل جنوب لبنان أسس محطة تلفازية أسماها: نجمة الأمل، وهذه تبث برامجها من المنطقة التي سيطر عليها المنشق اللبناني والعميل الإسرائيلي الرائد حداد، وبافتتاح هذه المحطة التي تغطي سورية والعراق وتركيا ومصر وشمال الجزيرة العربية يقول بات روبرتسون: 'لا يسد القرآن والتعاليم الإسلامية أعمق حاجات الروح الإنسانية، وها هي أيام عصيبة حيث يستند الإسلام إلى عقيدة منقسمة على نفسها' أي: فهو متوقع سقوطه وانهياره. ويضيف قائلاً: 'ومع وجود مشاعر سلبية عميقة لدى المسلمين فهناك انفتاح جديد عندهم لتقبل رسالة الإنجيل إذا ما قدمت إليهم بواسطة التلفاز' ويقول في إحدى نشراته: أن احتلال إسرائيل للقدس في حرب حزيران (67م) هو أهم حدث تَنبُؤي في حياتنا، وأن زمان غير اليهود قد قارب على النهاية، وأن شبكته الإذاعية ستكون جزءاً حيوياً من حركة الإله نحو دعم إسرائيل. وقد كان هذا الرجل - بات روبرتسون - ضمن الوفد الرسمي الذي رافق بوش في زيارته للسودان عام (1985م) والتي وقع على أثرها اتفاق أمريكي سوداني بترحيل يهود الفلاشا إلى إسرائيل، وهذا يدل على قوة العلاقة التي تربط هذا الرجل بالرئيس بوش. كما بعث بطائرات حملت يهود الفلاشا إلى إسرائيل من أمريكا ومن جنوب لبنان، ومع كل هذا فلا تنس أن الرجل زعيم أصولي إنجيلي وليس يهودياً. وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ - 12/ 11/1412هـ - خبراً عنوانه: داعية ديني يشتري أكبر وكالة أنباء أمريكية، وذكرت قصة شراء شركة روبرتسن المسماة شركة الإعلام الأمريكية لوكالة يونايتد انترناشيونال الشهيرة وقالت: 'وتنتمي شركة الإعلام الأمريكية إلى شبكة الإذاعة المسيحية التي يمتلكها روبرتسن وهي سلسلة من محطات التلفزيون والراديو، وتنتشر في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، وتصل هذه القناة العائلية الخاصة المقصورة على المشتركين إلى 54 مليون أسرة أمريكية'.

جورج أوتس

جورج أوتس أما الرجل الثالث المشهور في إطار الأصولية الإنجيلية فيدعى جورج أوتس، وله منظمة كبيرة تسمى: رعوية المغامرة الكبرى، وهذه المنظمة تؤمن بحرفية التوراة؛ وأنها كتاب من عند الله، وبالتالي فهي تؤمن بأن إسرائيل مقدمة لعودة المسيح - عليه السلام - ثانية، وتلتزم التزاماً كاملاً بدعم اليهود، وتقول في إحدى إعلاناتها: 'نحن ملتزمون بأمن إسرائيل كما نؤمن بأن كل الأرض المقدسة هي ميراث للشعب اليهودي، غير قابل للنقل أو التصرف، وهو الوعد الذي أعطي لإبراهيم وإسحق ويعقوب، ولم يلغ قط وتضيف: كما أن إنشاء إسرائيل الحديثة هو إيفاء لا ينازع للنبوءة التوراتية، ونذير بمقدم المسيح، ونعتقد أن اليهود في أي مكان ما زالوا هم شعب الله المختار، وأنه يبارك من يباركهم ويلعن من يلعنهم'. وهناك شخصية أخرى من شخصيات الأصولية النصرانية وهو: مايك إيفانز، وهو - أيضاً - رجل له علاقة حميمة بالرئيس بوش. هو من أكثر الأصوليين النصارى تطرفاً , ورأيه يتلخص في أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تسعى سعياً حثيثاً من أجل إقامة إسرائيل، ويرى أن مثل هذا العمل لوجه الله وتأييداً لكلمة الله، ويملك برنامجاً اسمه إسرائيل مفتاح أمريكا للبقاء، وهذا البرنامج يبث لمدة ساعة يومياً في أكثر من خمسين محطة، تغطي أكثر من 25 ولاية أمريكية. ويقول إيفانز: إن تخلي إسرائيل عن الضفة الغربية سوف يجر الدمار على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة الأمريكية من بعدها، ولو تخلت إسرائيل عن الضفة الغربية وأعادتها للفلسطينيين فإن هذا يعني تكذيباً بوعد الله في التوراة، وهذا سيؤدي إلى هلاك إسرائيل، وهلاك أمريكا من بعدها إذا رأتها تخالف كتاب الله وتقرها على ذلك، ويناشد إيفانز الشعب الأمريكي التقدم لتأييد أفضل صديق للولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك بتوقيع إعلان البركة الإسرائيلي، لأن الرب أمره -بوضوح- بإنتاج هذا البرنامج الخاص بإسرائيل. أي: أن برنامجه الذي تذيعه خمسون محطة وحي من الله إليه بإنتاجه، وتبشير الناس بعودة شعبه إلى أرضه، وهذا البرنامج يشاهده عشرات الملايين من الأمريكيين والأوروبيين، ومن شعوب أمريكا اللاتينية -أيضاً-، ومما جاء في هذا البرنامج عبارات تقول: 'إن النصارى في هذه الأيام لن يخلدوا إلى النوم مثلما نام العالم عندما قررت النازية الألمانية تحطيم شعب الله المختار قبل خمسة وأربعين عاماً '. وإيفانز - كسائر المتخصصين في ميدان الإعلام الديني - يجيد فن الدعاية ويدرسها، ويتقن فنون الإثارة، ومن إثاراته الغريبة والذكية التي تهدف لجذب الشعور الأمريكي نحو إسرائيل فكرة أورشليم دي سي؛ فالمعروف أن الأمريكيين يسمون عاصمتهم واشنطن دي سي تمييزاً لها عن واشنطن الولاية، فقام هذا الرجل بتسمية عاصمة إسرائيل في نظره أورشليم دي سي أي: القدس دي سي، ويقصد بـ أورشليم عاصمة داود، وقد استطاع تعبئة الشعور الأمريكي بهذه الأفكار. ويقول في بيان القدس دي سي موجهاً الكلام إلى الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي: ' نحن نؤمن بأن القدس تخص الله القدير' وهذا يعتبر توجيهاً وضغطا على الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء إسرائيل على عدم التنازل عن القدس باعتبارها لله، وليس لأحد حق التنازل عنها، ويضيف: 'إن كلمة الله غير قابلة للتفاوض، ونحن نؤمن علاوة على ذلك بأن الكتب المقدسة تعترف بـ القدس عاصمة روحية لإسرائيل، وأن المسيح اليهودي سيعود إليها كذلك'. ويقصد بالمسيح اليهودي المسيح الدجال. ويضيف: 'ومن أجل هذا تعاهدنا على الصلاة من أجل شعب إسرائيل، والوقوف معه في كفاحه من أجل الحرية والسلام -ويضيف: نحن نؤمن بكلمة الله حينما تقول: سوف أبارك من يباركهم وألعن من يلعنهم، نحن نؤمن أن من واجب أمريكا الوقوف بجانب إسرائيل، وكلمة الله تعترف ب القدس، وعلينا واجب الاعتراف بكلمة الله'. وقد وزع إيفانز بيان القدس دي سي على عدد من الأمريكان، ووصل عدد الذين وقعوا عليه إلى مليون أمريكي، وأرسلوا هذه التوقيعات إلى رئيس أمريكا وإلى رئيس وزراء إسرائيل.

السفارة النصرانية الدولية

السفارة النصرانية الدولية وهناك جماعة أخرى أصولية إنجيلية تؤمن بحرفية التوراة والإنجيل، وتعطي اليهود الوعد الذي يفترونه على الله، هذه الجماعة تسمى السفارة المسيحية الدولية، وتعتقد هذا الجماعة أن الله وحده هو الذي أنشأ هذه السفارة ومقرها في القدس، وتنتشر فروعها في جميع أنحاء العالم، ويقول مؤسس هذه الطائفة: 'إننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم؛ وإن القدس هي المدينة الوحيدة التي تحظى باهتمام الله، وإن الله قد أعطى هذه الأرض لإسرائيل إلى الأبد'. وتؤمن هذه المنظمة بأنه إذا لم تبق إسرائيل فإنه لا مكان للمسيح عند مجيئه الثاني. ولا تكتفي هذه المنظمة بدعم إسرائيل؛ بل تدعم سياستها التوسعية، وتعتبر أن الضفة الغربية والقطاع حقوق أعطاها الرب للشعب اليهودي. وهذه المنظمة التي تعتبر من أخطر المنظمات في أمريكا والعالم كله كانت لها سبعة أهداف، والهدف الأخير منها هو تنصير اليهود في أرض فلسطين أي: أن يؤمنوا بعودة المسيح ويتنصروا توطئة لمجيئه، ولكن اليهود استطاعوا إلغاء هذه النقطة فبقيت النقاط الست الأولى في هذا البرنامج؛ ولنقرأ هذه النقاط: أولاً: إبداء الاهتمام البالغ بالشعب اليهودي وبدولة إسرائيل. ثانياً: تذكير وتشجيع المسيحيين للصلاة من أجل القدس وأرض إسرائيل. ثالثاً: تعليم المسيحيين في أنحاء العالم، وتثقيفهم في كل ما يجري بإسرائيل. رابعاً: حث القيادات المسيحية والكنائس والمنظمات الدينية على ممارسة النفوذ المؤثر في بلادها لمصلحة إسرائيل والشعب اليهودي. خامساً: إنشاء أو مساعدة مشروعات في إسرائيل لتحقيق رفاهية اليهود. سادساً: ممارسة نفوذ وفاقي بين العرب واليهود، وحذفوا السابعة!!

مؤتمر بال الثاني

مؤتمر بال الثاني نضرب مثلاً واحداً من أعمال هذه المنظمة الأخطبوطية المنتشرة في جميع أنحاء العالم؛ ففي مدينة بال بـ سويسرا انعقد المؤتمر الصهيوني الأول الذي حضره هرتزل عام 1897م، وأرادت هذه المنظمة عن عمد وإصرار أن تقيم مؤتمراً لها في المدينة نفسها ولكنه للأصولية الإنجيلية الأصولية وليست اليهودية، وقد أقاموه بالفعل في هذه المدينة عام 1985م، وقالوا في إعلان هذا المؤتمر: ' نحن الوفود المجتمعين هنا من دول مختلفة وممثلي كنائس متنوعة بهذه القاعة الصغيرة نفسها التي اجتمع بها منذ ثمانية وثمانين عاماً مضت الدكتور تيودور هرتزل ومعه وفود المؤتمر الصهيوني الأول الذي وضع اللبنة الأولى لإعادة ميلاد دولة إسرائيل جئنا معاً للصلاة ولإرضاء الرب، ولكي نعبر عن ديننا الكبير وشرفنا العظيم بإسرائيل الشعب والأرض والعقيدة، ولكي نعبر عن التضامن معها، وإننا ندرك اليوم بعد المعاناة المريرة التي تعرض لها اليهود، أنهم ما زالوا يواجهون قوى حاقدة ومدمرة مثل تلك التي تعرضوا لها في الماضي، وإننا كمسيحيين ندرك أن الكنيسة - أيضاً - لم تنصف اليهود طوال تاريخ معاناتهم واضطهادهم، إننا نتوحد اليوم في أوروبا بعد مرور أربعين عاماً على اضطهاد اليهود، لكي نعبر عن تأييدنا لإسرائيل، ونتحدث عن الدولة التي تم إعداد ميلادها هنا في بال. إننا نقول ذلك أبداً ولا رجعة للقوى التي يمكن أن تتقدم لاسترجاع أو تكرار اضطهادات جديدة ضد الشعب اليهودي وقالوا -أيضاً-: إننا نهنئ دولة إسرائيل ومواطنيها على الإنجازات العديدة التي تحققت في فترة وجيزة تقل عن أربعة عقود، إننا نحضكم على أن تكونوا أقوياء في الله وعلى أن تستلهموا فطرته في مواجهة ما يعترضكم من عقبات، وإننا نناشدكم بحب أن تحاولوا تحقيق العديد مما تصبون إليه، وعليكم أن تدركوا أن يد الله وحدها هي التي ساعدتكم على استعادة الأرض؛ وجمعتكم من منفاكم طبقاً للنبوءات التي وردت في النصوص المقدسة. وأخيراً فإننا ندعو كافة اليهود في جميع أنحاء المعمورة بالهجرة إلى إسرائيل، كما ندعو كل مسيحي أن يشجع ويدعم أصدقاءه اليهود في كل خطواتهم الحرة التي يستلهمونها من الله'. نرجو أن تتذكر أن هذا المؤتمر كله نصارى، فلا توهمنا هذه النصوص فنظن أن المؤتمر للأصولية الصهيونية، ولننظر ماذا قرر هذا المؤتمر، هل كانت قراراته متعلقة بالنصارى وشئونهم الدينية؟ لنقرأ أهم القرارات: أولاً: عدم تقديم تنازلات من الغرب إلى الإتحاد السوفيتي، طالما أنه لا يسمح بهجرة اليهود منه إلى دولة إسرائيل (وهذا طُبِّقَ تماماً). ثانياً: تشجيع إسرائيل ومواطنيها على المشاركة الكاملة في كل الهيئات والمؤسسات الدولية، والمطالبة بانسحاب جميع الدول الأوروبية والأمريكية من أي اجتماع يعقد ولا تمثل فيه إسرائيل (وهذا القرار وضع لأن العرب يهددون أحياناً بالانسحاب فتضطر الدول لمجاراة العرب لأنهم أكثرية). ثالثاً: على كل الأمم الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها ونخص بالذكر حكومة الفاتيكان، وخصت الفاتيكان؛ لأنها هي عاصمة الكاثوليك، والكاثوليك لا يؤمنون هذا الإيمان العميق للبروتستانت بإسرائيل وهذا يعني أن المسلمين لو تحركوا يستطيعون استخدام عنصرين مهمين استخداماً جيداً، العنصر الأول هم: الكاثوليك، والعنصر الثاني هم اليهود المنشقون غير المؤيدين لإسرائيل؛ ولا سيما في أمريكا حيث يوجد ثلاثة ملايين يهودي غير مؤمنين بدولة إسرائيل، ومنهم كتاب وأدباء ومفكرون يهاجمون دولة إسرائيل، ولكن لا أحد يجيد استخدامهم أو الإفادة منهم. رابعاً: يعلن المؤتمر أن يهوذا والسامرة بحق التوراة والقانون الدولي وبحكم الواقع جزء من إسرائيل. خامساً: نطالب كل الأمم بالاعتراف بـ القدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل وتنقل سفاراتها من تل أبيب إليها. سادساً: مطالبة الدول الصديقة لإسرائيل بالتوقف عن تزويد أية دولة في حالة حرب مع إسرائيل بالأسلحة بما في ذلك مصر التي وقعت معها اتفاقية كامب ديفيد. سابعاً: مطالبة كل الحكومات بنبذ منظمة التحرير الفلسطينية واعتبارها منظمة إرهابية، وتأتي هذه المطالبة تنفيذاً لما ورد في التوراة حول أن الله يبارك من يبارك اليهود، ويلعن من يلعنهم. ثامناً: إدانة كل أشكال معاداة السامية، وهي عداء إسرائيل واليهود. تاسعاً: الدعوة لتذكر كل الفظائع التي ارتكبتها ما تسمى: بالحضارة المسيحية ومن يسمون المسيحيين، ولا سيما المذابح التي قامت في الحرب العالمية الثانية. (أي: أنهم يرون أن كل من وقف في وجه اليهود من النصارى ليسوا نصارى حقيقيين). عاشراً: العمل نحو توطين اللاجئين العرب الذين تركوا إسرائيل عام (1948م) في البلدان التي رحلوا إليها. الحادي عشر: مساعدة إسرائيل اقتصادياً وذلك بإنشاء صندوق دولي برأسمال قدره مائة مليون دولار للاستعمار في تطويرها. (وبالفعل ما انتهى المؤتمر إلا وجمع مائة مليون دولار إضافة إلى المساعدات التي تجمع باستمرار لمساعدة إسرائيل، وضمن ذلك يقومون بتشجيع الاستعمار الخاص في إسرائيل). الثثاني عشر: مطالبة كل المسيحيين وكل الأمم بعدم الخضوع لأنظمة المقاطعة العربية لإسرائيل. (وبالطبع ستتوقف المقاطعة وتنتهي بعد مدريد لأنها أصلاً لم تكن إلا شكلية في أغلب الأحيان). الثالث عشر: دعوة مجلس الكنائس العالمي في جنيف إلى الاعتراف بالصلة التوراتية التي تربط بين الشعب اليهودي وبين أرضه الموعودة، وكذلك بالبعد التوراتي والنبوئي لدولة إسرائيل. (وهذا يدل على أن العقيدة التي قامت عليها دولة إسرائيل عقيدة إيمانية يجب على مجلس الكنائس أن يعترف بها). الرابع عشر: يصلي أعضاء المؤتمر وينظرون بشوق إلى اليوم الذي تصبح فيه القدس مركزاً لاهتمام الإنسانية؛ حينما تصير مملكة الرب حقيقة وواقعاً عن السفارة النصرانية وهذا المؤتمر. وقد أحضرت المؤلفة المؤتمر، وشرحت ما دار فيه عن مشاهدة. ومملكة الرب يفهمها النصارى على أنها مملكة المسيح بن مريم بناء على ما عندهم، أما اليهود فيفهمونها على أنها مملكة المسيح الدجال كما تقدم وهنا لا بد أن أؤكد أن الذين يؤمنون بهذا الوعد التوراتي هم المؤمنون بالمسيح الدجال، وبالتالي فكل من يعتقد أو يوافق على مشروع قيام دولة إسرائيل آمنة مطمئنة فإنه شاء أم أبى علم أو لم يعلم يعمل لإنشاء مملكة المسيح الدجال، ويسعى لتحقيق النبوءة التوراتية التي يدعيها هؤلاء، ويخدم راضياً أم غير راض، علم أم لم يعلم، هذه الأهداف الصهيونية التي يؤمن بها هؤلاء الأصوليون مع أولئك اليهود.

السلام المزعوم

السلام المزعوم هذا هو مفرق الطريق بين الإسلاميين وبين اللاهثين وراء سراب مدريد وغير مدريد. فلا حرج ولا تردد في الإجابة القاطعة الواضحة عن موقف الإسلاميين من مؤتمر السلام لأن الإجابة هي الرفض الحاسم والإنكار الجازم، وليس ذلك عناداً ولا تصلباً ولكنه موقف عقدي محتوم. وإذا كان التوراتيون من اليهود والأصوليون من النصارى لم يترددوا في إعلان رفضهم لفكرة السلام رفضاً مطلقاً منذ ما كان يسمى بمشروع جنيف -وسنذكر كلامهم وفي ذلك- فإن الذين يملكون وعد الله الحق وكلمته الخالدة وخبره الصادق أولى بهذا وأحق.

الرفض المشترك للسلام

الرفض المشترك للسلام قد وردت تساؤلات غربية وعربية عن سر التقاء الأصوليين هنا وهناك على رفض مشروع السلام؟ والجواب -مع الاعتراض على هذه التسمية الماكرة بالنسبة للمسلمين- أن نقطة الالتقاء هي أن كُلاًّ مِنَّا يؤمن بوعد من الله وفق عقيدته فنحن نؤمن بوعد الله الحق وهم يؤمنون بوعد مفترى مكذوب على الله تعالى والوعدان لا يجتمعان أبداً. والفرق أننا بحمد الله نستند في وعدنا إلى كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقائق الواقع، ولعلي هنا أشير إلى بعض بشائر هذا الوعد الحق، ثم أنتقل إلى إتمام الكلام عن هؤلاء. نحن في كل ركعة من صلاتنا نقرأ الفاتحة ونقرأ فيها كلام الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، فالخلاصة أننا نقرأ في كل ركعة ما لازمه ومفهومه أن الوعد الذي يزعمه هؤلاء منسوخ وباطل ومفترى، وإنه إذا كان إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى وعداً فإن هذا الوعد هو وعد الله تعالى لهذه الأمة الموحدة. وهي الأمة التي يباركها الله تعالى كثيراً ويكثر عددها، وتدخل في جميع الشعوب والقبائل كما ذكرت التوراة، وليست إلا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنهم العرب من ذرية إسماعيل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد دخلوا في جميع الشعوب، فتجد العرب بين الهنود، والأفغان، والأوروبيين، والبربر، وفي الحبشة وفي كل مكان، وهذا هو الشعب الذي دخل في جميع الشعوب، وهذا هو الشعب الذي كثره الله وباركه وله أعطيت هذه الأرض كما في التوراة نفسها، وقد روى الإمام أحمد والترمذي وصححه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم}. ويدخل في ذلك كل الآيات والأحاديث المبشرة -وسنذكر بعضها وقد جمع طائفة منها فضيلة الشيخ الألباني في أول السلسلة الصحيحة بظهور الإسلام وتمكينه، أما اليهود فوعد الله تعالى فيهم واضح جلي , قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]. هذا وعد الله لن يخلفه أبداً، والذين يوافقون على ما جاء في مدريد وغيره يقفون ضد ما جاء في هذه الآية، فوعد الله تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب؛ هتلر جزء من هذا الوعد، ومنظمات التحرير جزء منه! الجهاد القائم -الآن- في الأرض المحتلة جزء منه! وسوف تنتهي هذه كلها بتدمير اليهود كما قال الله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112]. إن الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلا في حالات عارضة بحبل من الله وحبل من الناس، وهي حالات استثنائية يعطون فيها، فإذا أعطوا وتمكنوا ترجع سنة الله قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:7 - 8]. فإن عدتم عدنا: أي: في أي مرحلة يعودون سيعود عقاب الله تعالى؛ ولهذا بشر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح فقال: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله}. وهذا والله هو الذي سيقع ويكون؛ لأن الذي أخبر به هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس هذا فقط بل نحن نؤمن بأن المسيح عليه السلام سينزل بإذن الله تعالى كما أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديث متواترة، وإذا نزل المسيح عليه السلام فإنه يقتل اليهود والنصارى، وأول من يقتله المسيح عليه السلام هو ملك اليهود المسيح الدجال، في باب اللد في أرض فلسطين -كما في الحديث الصحيح-. ثم بعد ذلك لا يرضى ولا يقبل عيسى عليه السلام إلا الإسلام أو القتل، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويرفع الجزية}. ولن يبقى أمام النصارى إلا أن يسلموا أو يقتلوا بسيف ويد المسيح عيسى -عليه السلام- ومن معه من المسلمين، وكل الأحاديث الواردة في عيسى عليه السلام تكذب ما يقولونه في مدريد وفي غير مدريد، وكذلك كل الأحاديث الواردة في خروج المهدي آخر الزمان تكذب ذلك لأن المسلمين هم الذين يقاتلون أعداءهم تحت قيادة المهدي، ثم ينزل عيسى عليه السلام فيكمل المعركة كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإمامكم منكم}. فيصلي عيسى عليه السلام خلف المهدي إعلاماً وإيذاناً بأن عيسى عليه السلام ما جاء بشرع جديد؛ وإنما هو تابع لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا يصلي خلف المهدي ويقاتل مع المسلمين.

منطقة فتن وملاحم لا منطقة أمن وسلام

منطقة فتن وملاحم لا منطقة أمن وسلام إن كل الأحاديث الصحيحة الكثيرة والواردة في الفتن والملاحم تشير إلى أن هذه المنطقة - التي يقولون إن النظام الدولي الجديد سيجعلها منطقة أمن وسلام - ستكون منطقة فتن وملاحم ودماء، ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقوم الساعة إلا ويقاتلكم الروم وينزلون في الأعماق} وفي رواية أخرى: {حتى تنزل الروم ب دابق} ومنطقة الشام هذه هي منطقة المعركة، والساحة الكبرى للمعارك الكبرى، وفيها أيضا تكون معارك المسلمين التي هي مقدمة لفتح القسطنطينية، ومقدمة لفتح روما - المدينة التي جزء منها في البر وجزء في البحر- وكل الأحاديث التي وردت في فضائل بلاد الشام، وذكرها شَيْخ الإِسْلامِ وعلق عليها كثيراً، وذكرت أن بلاد الشام تكون آخر الزمان هي معقل المسلمين. وموئل هذه الأمة، وأن المسلمين يقاتلون الروم فيها وهذه الأحاديث كثيرة ويضيق المقام عن ذكرها وهي تكذب هذا الكلام الذي قرأناه وسمعناه، سواء في التوراة المحرفة، أو فيما قاله زعماء أمريكا أو ما قاله الأصوليون الإنجيليون، أو كل ما يقوله أعداء الله تبارك وتعالى. لقد قال بوش في مؤتمر مدريد: ' إن غرض المؤتمر ليس إنهاء الحرب بين الطرفين وإنما إنهاء العداوة' ولكن الله تعالى يكذب هذا القول وهذه الدعوى، فسيظل المسلمون يعادونهم قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة:54]. إذا تركنا الجهاد في هذه المرحلة، وآمنا بأن العداوة قد انتهت فنحن ينطبق علينا الارتداد عما أمر الله تبارك وتعالى به وسوف يأتي الله بقوم آخرين هذه صفاتهم وهذه هي أحوالهم. ونقرأ قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55]، فهذا وعد من الله تعالى للمؤمنين بالاستخلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى -أيضاً- {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، وغير ذلك من البشائر بأن هذا الدين يبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهناك بشائر كثيرة كلها تؤكد الوعد الحق، وتدحض وتدفع الوعد المفترى والباطل قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].

السلام عند دعاة الأصولية الإنجيلية

السلام عند دعاة الأصولية الإنجيلية ومع ذلك: فإن دعاة الأصولية الإنجيلية يقولون كما قال: بات روبرتسون: 'كنت أتمنى أن أستطيع القول أننا سنحصل على السلام ولكني أؤمن بأن معركة هرمجدون مقبلة، إن هرمجدون قادمة وسيصب غمارها في وادي فريدون، إنها قائمة وإنهم يستطيعون أن يوقعوا على اتفاقيات السلام التي يريدون، إن ذلك لن يحقق شيئاً، هناك أيام سوداء قاتمة ويضيف قائلاً: إنني لا أخطط لولوج جهنم قادمة, إن الله سوف يهبط من عليائه، يا إلهي إنني سعيد من أجل ذلك إنه قادم ثانية' هذا هو التشابه معهم في الموقف الرافض لـ مدريد وما بعدها، فنحن نقول مهما وقعوا فالمعركة قائمة، وهم يقولون كذلك، ولنر من هو صاحب الوعد الحق وصاحب الوعد المفترى قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى} [طه:135]. ويقول صنوه جيري فولويل: ' إن النوايا السليمة هي أعمال غبية ويقول: إنه لا يحق لإسرائيل أن تتنازل عن شيء من أرض فلسطين؛ لأنها أرض التوراة التي وعد الله بها شعبه '. ويقول أصولي إنجيلي آخر -هو دوغلاس كريكر - من جملة تحذيره لدولة إسرائيل من اختيار المنهج السلمي: " إن الأصوليين الإنجيليين مثل اليهود والأرثوذوكس مغرمون بالأرض التي وعد الله بها إبراهيم وذريته، وإن إسرائيل تستطيع أن تستعمل الإنجيليين الأصوليين لتعكس من خلال شبكاتهم الإذاعية والتلفازية صور إسرائيل التي يريدها ويتقبلها الأمريكيون؛ وذلك من خلال نشر فكرة أن الله يريد إسرائيل عسكرية ومسلحة، وإنه كلما أصبحت إسرائيل عسكرية أكثر فإن اليمين الديني في الولايات المتحدة يؤيدها أكثر ويصبح متعلقا بها أكثر " يقصد أن اليمين الديني الأمريكي يحب إسرائيل بقدر رفضها للسلام؛ لأنهم يرفضونه بطبيعة الحال. ويقول جيم روبيسون -وهو إنجيلي أصولي ومتمكن جدا في الحكومة الأمريكية حتى أن ريجن دعاه ذات مرة ليفتتح احتفال الحزب الجمهوري بصلاة -: 'لن يكون هناك سلام حتى يعود المسيح'. والمسلمون يوافقون على هذه العبارة من منطلق ومعنى آخر، ويضيف قائلاً: 'إن أي تبشير بالسلام قبل هذه العودة هرطقة أي: زندقة وكفر، ويضيف قائلاً: إن كل من يؤمن بالسلام فهو ضد كلمة الله وضد المسيح'. ولهذا تقول مؤلفة كتاب النبوءة والسياسة: 'إن الأربعين مليون إنجيلي أصولي يؤمنون بقوة أن الله نفسه يريد أن تحصل إسرائيل على أي جزء من الأراضي العربية، وعلى كل الأراضي العربية التي تتمكن من مصادرتها' وكما يقولون: ' إننا نحن المسيحيين نؤخر وصول المسيح من خلال عدم مساعدة اليهود على مصادرة مزيد من الأراضي' ولهذا يفتتح اليهود مزيدا من المستوطنات الجديدة في الضفة والجولان حتى إبان انعقاد المؤتمر، ومن ورائهم الأصوليون الإنجيليون في أمريكا والذين يقولون: ' إن أي أحد يعترض على شيء من ذلك - أي: على استحداث المستوطنات - إنما يؤخر عودة المسيح أو يساهم في هذا التأخير'. وقد وجه أحد الزعماء الأصوليين نداء إلى اليهود يقول فيه: ' إنه لا يجوز أن يبقى اليهود أوفياء إلى هذه المبادئ البراقة (القوانين الدولية) إذ أنه على إسرائيل أن تكسر من وقت لآخر القوانين الدولية، وأن تقرر بنفسها ما هو قانوني وما هو أخلاقي، وذلك على قاعدة واحدة هي ما هو جيد لليهود؟، وما هو في مصلحة اليهود؟، فما هو جيد لليهود أخلاقي وقانوني وشرعي؟ '. وإذا كانت الشرعية الدولية ضد بناء مستوطنات لليهود وضد مصلحة اليهود فلا شرعية ولا دولية، اضربوا بهذا عرض الحائط؛ ولذلك يقول أحد معارضي حكومة شامير، وعضو جمعية حقوق الإنسان وهو إسرائيل شاهاك: 'إن اليمين المسيحي الجديد يبرر أي عمل عسكري أو إجرامي تقوم به إسرائيل، وبالتالي فهو يؤيد هذه الأعمال'.

نتائج مشروع السلام

نتائج مشروع السلام وهنا لا بد أن نأتي على قضية مهمة، وهي تتكون من شقين الشق الأول: النتائج المتوقعة لما يسمى بمشروع السلام الحالي، ومعرفة التخطيط لهذه المنطقة عندما تدفع إلى الإيمان بالوعد المفترى وتكفر بالوعد الحق من الله تبارك وتعالى. والشق الثاني: الحلول والمقترحات. أقول: إن الأهداف كثيرة والنتائج خطيرة، وأرجو ألا تستغرق جزئيات وتفاصيل هذه الأحداث فننسى هذه الأهداف البعيدة وسأذكر لكم مؤشرات جمعت من خلال البيانات التي أصدروها في كتبهم قديماً وحديثاً. أولاً: يريدون القضاء على الجهاد الفلسطيني داخل الأرض المحتلة، وهو الذي يسمى بالانتفاضة، وبعد السلام لا يعود المجاهدون الفلسطينيون مدافعين عن بلادهم المحتلة؛ وإنما يكونون مواطنين يحاربون دولتهم؛ وبالتالي فلا شرعية لأي عمل يعملونه، ومن حق أية دولة أن تقمع رعاياها إذا خرجوا على قانونها كما هو مقرر في القانون الدولي! وهذا هدف كبير لأن أخطر ما تخافه إسرائيل الآن هم هؤلاء المجاهدون -مجاهدي الانتفاضة- فالدول العربية ليست مهددة لإسرائيل وهي تعلم ذلك، ولكن الخوف من هذا الوعي الإسلامي المتنامي داخل الأرض المحتلة وخارجها. ثانياً: يريدون بهذا السلام العام بين العرب واليهود التضييق على الدعوة الإسلامية، وضرب الحركة الإسلامية في كل مكان، فربما يهدفون إلى ضربها ضربات قوية في كل مكان من المغرب حتى إندونيسيا. ثالثاً: تدمير القوة العربية المحيطة بإسرائيل، على الرغم من أنها حالياً لا تشكل خطراً عليهم، وقد دمر العراق وسوف تكون الخطوة الثانية تدمير الجيش السوري، وذلك لأن الجيش السوري يملك بعض القوة والتدرب والممارسة والخبرة، وسيشكل خطراً على اليهود فيما لو خلف الإسلاميون السلطة الحالية، وربما كان تدميره بتسريحه بأيدي الحكومة البعثية الباطنية كما فعل السادات في مصر. رابعاً: إخضاع المنطقة للرهبة اليهودية العسكرية، وفرض الحماية الأمريكية على المنطقة، ومنع تطوير أي جيش من جيوش المنطقة، وإنما يراد بقاء الجيوش للمحافظة على الأمن الداخلي فقط، ومبرراتهم أنه في ظل النظام الدولي الجديد لا يحتاج إلى تطوير الجيوش؟! فيقولون: أتريد أن تستخدمه في العدوان كما فعل صدام؟! وإذا كنت تريد الأمن والحدود فإن النظام الدولي يكفل لك ذلك! ولكن لا مانع من أن تكون هناك قوات للأمن الداخلي ولا تفكر في حالة اعتداء على الجيران، وهذا هو الهدف الذي من أجله خططوا لسيناريو احتلال الكويت وحرب الخليج، وثبتوه وأصلوه حتى أصبح قاعدة راسخة عند شعوب المنطقة. خامساً: تغيير المناهج الإعلامية والتعليمية لمحو كل ما يثير العداء نحو اليهود وهذا خطير جداً، وقد أعلنه شامير في المؤتمر -مؤتمر مدريد - حيث قال: لا بد من تغيير ثقافتكم العدائية نحو اليهود، فعلى مراحل تنتهي كل شعارات العداء لليهود، بل ينتهي حتى كل ما يثير العداء دينيّاً! وقد عمل بهذا في مصر وغيرت المناهج، وحذفت معارك اليهود مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحذفت الإشارات إلى عداواتهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المناهج والتعليم، حتى أن بعض مفسري التلفاز يتجنبون الحديث عن آيات اليهود، ويتجاوزونها وينتقلون إلى ما بعدها. وهذا ما يريدونه في المنطقة عموماً، وكذلك في مناهج التعليم تغيرت كل حيثيات القضية، وإن كانت مع الأسف درست لنا من منظور قومي -العرب واليهود- لا من منظور إسلامي؛ بينما في أمريكا تدرسها عشرون ألف مدرسة على أنها قضية دينية توراتيه!! سادساً: فرض السيطرة المالية الاقتصادية اليهودية على المنطقة كلها، وماذا يساوي اقتصادنا مقابلة باقتصاد الغرب، فقد سيطر اليهود على الاقتصاد الغربي عن طريق الربا والبنوك الربوية، فكيف إذا انطلقت أيديهم في منطقتنا! سوف يتحكمون في سنوات قلائل في كل الدورة الاقتصادية لدول المنطقة جميعها. سابعاً: اجتياح المنطقة بالثقافة اليهودية والنصرانية، ويصحب ذلك حملات تنصيرية، فقد رفع النصارى رءوسهم وبدءوا يقولون: إن أحداث الخليج هيأت لنا الفرصة لإدخال الدين المسيحي في مناطق لم نكن نحلم أن ندخله فيها من قبل، والتبشير علني، والكنائس علنية ومؤيدة علناً في بعض دول المنطقة، فهذه البلاد المقدسة محاطة بالتنصير من كل جانب، كما نتوقع حملات تشويه للإسلام في كل المستويات؛ لأنهم يملكون هذه الآلة الإعلامية الضخمة، وستعينهم الصحافة العربية على هذا الهدف بتشويه صورة الدعاة، وتشويه التاريخ الإسلامي، كل هذا وارد ومتوقع، وإن كان سينفذ بنوع من البطء والتؤدة. ثامناً: نهب ثروات المنطقة النفطية والمائية وتسخيرها لليهود والأمريكان، فقد قالوا لا بد من حربين، حرب النفط، وحرب المياه، وإن كانوا قد فرغوا من حرب النفط؛ فالحرب الأخرى المنتظرة هي حرب المياه. يريدون أن ينتزعوا مياه الفرات ومياه العاصي ومياه الليطاني ومياه نهر الأردن، وحتى النيل يسحبون مياهه عبر قنوات من تحت القناة إلى أرض فلسطين، والمياه الجوفية في شمال الجزيرة العربية، وذلك لبناء المستوطنات، ولذلك يشيرون إلى أن الحرب القادمة ستكون حرب مياه. قد تفتعل معركة بين تركيا وسورية - مثلاً- فتكون قضية يضطر معها الأمريكان للتدخل العسكري، فتحل الحرب وتكون هناك مشكلة الجيش السوري من جهة؛ ومشكلة المياه من جهة أخرى، وتركيا بالطبع عضو في حلف الناتو، والآن- تتوالى الاجتماعات في الغرب لتقوية حلف الناتو وتطويره بانضمام دول شرقية أوروبية له. و Q ضد من هذا التطوير وهذه التقوية؟ إنهم يريدون ضم دول المعسكر الشرقي إلى الغربي لمقاومة العدو المشترك الذي لن يكون بالطبع إلا إيانا. تاسعاً: إفساد المنطقة أخلاقياً، وهكذا طبع اليهود إذا دخلوا في أية بلاد فعن طريق السياحة والآثار يفسدون المنطقة كلها، فدول المنطقة جميعا مهددة بالإفساد عن طريق المخدرات والدعارة والأفلام القذرة، وقد نشرت الصحف كيف أرسلت إسرائيل فتيات من حاملات وباء الإيدز إلى مصر؛ لأنها مركز الثقل والقوة في العالم الإسلامي، وسيعمم هذا على جميع البلدان، وما القنوات الإباحية اليهودية إلا جزء من ذلك!! عاشراً: فتح الباب لغزو الجاسوسية اليهودية لأماكن ما كانت تحلم بها من قبل، وهذا هدف مهم جداً؛ لأن إسرائيل تخطط على مقدار ما تعلم عن المنطقة وتعرف حقائقها، فهي تود أن تعرف كل التفاصيل عن الصحوة الإسلامية، وعن حالة الدفاع والجيوش العربية, وربما لا يخفى عليهم شيء ذو بال ولكن من الضروري الإلمام التام بكل الدقائق. حادي عشر: وهناك هدف يسعى وراءه اليهود هو اكتشاف الآثار اليهودية القديمة، وهناك دعوى تقول أن الأرض التي خرج منها اليهود ليست مصر وإنما هي جنوب جزيرة العرب، وجاء بعضهم بصور من أبها ومناطق حولها وقال: إن أسماء التوراة تطلق على هذه المناطق، ويدللون على آثارهم في هذه الأرض بأن الملك الذي حفر الأخدود كان يهودياً، وبوجود خيبر ومهد ذهب سليمان، وهذا كله تمهيد لقولهم أن هذه الأرض هي أرضنا. هذه بعض الأهداف التي يسعون لتحقيقها وبعض ما يمكن أن يقدم على المنطقة إذا تحققت مخططاتهم ونسأل الله أن يحمينا ويحمي ديننا وبلادنا من شرورهم.

الخاتمة

الخاتمة

مقترحات للمواجهة

مقترحات للمواجهة وفي الأخير نختم هذا الموضوع بعدد من الآراء والمقترحات لمواجهة مشروعات الأعداء، ويحدونا الأمل والثقة في تصدي الدعوة الإسلامية لما يعد أعداؤها لها؛ وأهم هذه الآراء والمقترحات التي أراها ضرورية: 1 - نشر الوعي العقدي في الأمة قاطبة، والعقيدة الصحيحة في كافة المستويات ولا سيما عقيدة الولاء والبراء، وأن نعلن إسلامية المعركة، وأن مؤتمر مدريد لم يمثل فيه الإسلام، ولم نسمع فيه قال الله وقال رسوله، أو أن القدس إسلامية، فالقضية في أساسها إسلامية لا تخص الفلسطينيين وحدهم، ولا العرب وحدهم، ولا المسلمين المعاصرين اليوم فقط؛ بل هي قضية إسلامية تهم كل المسلمين إلى قيام الساعة. 2 - إحياء رسالة المسجد لمقاومة هذا التيار الإعلامي والثقافي الجارف، ونحن لا نملك إلا المسجد، والحمد لله فإن تأثيره كبير، ويجب أن نستزيد منه، فإذا كنا لا نملك أقماراً صناعية لمواجهة الأقمار الصناعية الغازية، فلا بد من الاستفادة القصوى من الوسيلة التي بين أيدينا. 3 - يجب توحيد صفوف أهل السنة والجماعة في جميع أنحاء العالم، وأن يكون ذلك مقدمة لتوحيد صفوف الأمة كلها على نهج السلف الصالح بإذن الله. كما يجب الالتقاء على خطط دعوية وعملية لنشر هذه العقيدة مع تجنب إثارة الخلافات في الأمور الفرعية الاجتهادية، بل تحل عن طريق المودة والأخوة والرحمة؛ وذلك بإحياء أدب الخلاف كما كان بين السلف. 4 - ضرورة إنشاء المصارف الإسلامية لمقاومة الاجتياح الربوي الذي يريد أن يجتاح المنطقة. 5 - التنبه الشديد لخطر التغيير المتدرج للمناهج الدراسية؛ بل يجب أن يزداد فهم الطلاب للآيات والأحاديث عن مكر اليهود بنا، وتطبيقها على الواقع الذي نعيشه. 6 - يجب أن نبعث الأمل في الأمة بالوعد الحق الذي وعده الله تبارك وتعالى، ونقرن ذلك بالأدلة الشرعية والواقعية حتى لا تيأس الأمة، فالأمة الإسلامية هي الأمة التي لا تعرف اليأس أبداً في أي مرحلة من تاريخها، فنحن على ثقة بأن الله ناصرنا. 7 - تنشيط الدعوة في الغرب عامة وفي أمريكا بوجه خاص، ورصد خطط وحركات المتآمرين هناك، ووصيتنا إلى إخواننا المقيمين في الغرب أن يرصدوا هذه الحركات، وعليهم بعد التمسك بدينهم أن يدعوا الغربيين للإسلام، فالفراغ الديني والحريات هناك يتيح فرصاً لنشر الدعوة الإسلامية؛ ولا سيما في أمريكا، وإذا استطاع المهتدون اختراق أجهزة الإعلام والسياسة فيمكن أن يفعلوا الكثير. 8 - الوقوف الحقيقي بكل قوة مع الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة، وإمداده بالدعوة والكتب والمال وكل ما يحتاج إليه في جهاده، والحرص على بقائه في الأرض المحتلة وعلى زيادة عدده؛ وهذا ما يفقد إسرائيل توازنها البشري والسياسي والمعنوي، فالأمريكان والبريطانيون وغيرهم - اليهود منهم والنصارى - يتبرعون بمئات المليارات لإسرائيل، وعدد المسلمين في هذه الدول يصل عشرات الملايين ولا حواجز ولا موانع من دخولهم الأرض المحتلة، فلماذا لا يساعدون إخوانهم المسلمين في فلسطين مع التنسيق بيننا وبينهم. ؟! 9 - المطالبة بسحب كل الأموال والأرصدة من بنوك هؤلاء الأعداء وصرفها على حاجات الأمة الضرورية في أنحاء العالم الإسلامي، فأعداؤنا يعيشون على المليارات مما نضعه من أرصدة عندهم؛ بينما يموت الملايين من المسلمين جوعاً وفقراً وتشريداً، وكذلك المحافظة على ثروة الأمة ورصيد الأجيال المقبلة من أن يستنزفه اليهود والنصارى في غمرة ما يسمى السلام فلا يمضي حين إلا وبلادنا يباب بلقع. 10 - يجب علينا محاربة الترف والإسراف والفراغ الذي تعيشه هذه الأمة، وحشد كل طاقات الأمة لمواجهة هذا العدو الأخطبوطي الحقود، ووفروا من مرتباتكم ونفقاتكم وأوقاتكم؛ لأننا أمام عدو ضخم وشرس، فالمعركة ليست معركة غالب ومغلوب؛ وإنما هي معركة وجود أوغير وجود {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. 11 - يجب على الدعاة جميعاً والخطباء وكل الأمة المطالبة بتطوير الجيوش, وإعدادها دعوياً -وهذا أهم شيء- وتربيتها على الإيمان والجهاد, وأيضاً علمياً بحفز الطاقات المبدعة وتطوير الأسلحة التي يمكن بها أن نقاوم هذا العدو, وأن لا نركن إلى ما يسمى بالنظام الدولي الجديد ولا إلى السلام الذي يريدون أن يفرضوه علينا, زاعمين أننا لن نحتاج معه إلى جيوش لنحمي أنفسنا وأوطاننا. ولقد أثبتت التكنولوجيا اليابانية تفوقها, مما دفع بالأمريكان إلى الاعتراف بأنهم استفادوا من التقدم التكنولوجي لليابان في حرب الخليج , فقد كانوا يضعون المواصفات العامة لما يريدون تصنيعه, فتتسابق الشركات اليابانية لإنتاجه وفق المواصفات المطلوبة. فلو كان عندنا إرادة وصدق مع الله وجهاد لأمكننا استغلال الأموال الطائلة التي لدى الدول العربية -وخاصة الدول الخليجية- للاستفادة من التكنولوجيا اليابانية. كما يمكن لقوة المال أن تحدد مسار الأحداث والسياسات الدولية, حتى إنه بالإمكان أن نؤثر على شخصية الرئيس الأمريكي المنتخب, ومن ثم على السياسة الأمريكية بناء على ذلك. فنحن أموالنا تعطى لمن يفوز في تلك الانتخابات, فلماذا لا تكون هذه الأموال بدلاً من ذلك وسيلة إلى تعيين من يفوز ولو إلى حد ما, فضلاً عن ما يجب علينا بعد ذلك وقبله من الخطوات الأخرى. وبناءً عليه فأيضاً يجب علينا أن نطالب بحفظ ثروات المنطقة واستغلالها وفق خطط سليمة تراعي مستقبل الأجيال القادمة من أبناء المسلمين؛ لأن المعركة القادمة طويلة, ويجب مراعات حاجات الأمة, لا حاجات شركات التطفيف ودول المطففين العالميين الذين يأخذون خيراتنا بأبخس الأثمان، ومن ثم يعيدوها إلينا بأعلى الأثمان, ويخزنون الثروات في مستودعاتهم تأهباً للمعركة القادمة. أستغفر الله العظيم أولاً وآخراً وأقول: هذه نصيحة وهذا تحذير النذير العريان لكم أيها الإخوة الكرام! وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل لهذا الكلام موضعاً وقبولاً, وأن أكون قد وفقت لإعطائكم صورة ولو موجزة عن حقيقة عداء هؤلاء القوم وعن ما يجب أن نفعله نحوهم.

إعلان المبادئ

إعلان المبادئ بعد مدريد وبعد جولات سِرِّية وعلنية تمخض المكر والخيانة عن المسخ الذي سمَّوه: إعلان المبادئ بين يهود وزعامة المنظمة، وفيما يحتاج كل بند سري أو علني إلى سلسلة طويلة من المفاوضات واللِّجان، وفيما نجزم عن يقين أن مصير هذا كله الخَيبة والخَسار، ونجد التسارع الشديد لإلغاء المقاطعة، وإقامة المشروعات المشتركة، وتعديل الإرث الثقافي، وكسر الحاجز النفسي!! وبعبارة جامعة: نسف عقيدة الولاء والبراء!! إنه ليس صلحاً ولكنه تهويد قسْري لأمة الإسلام التي لن تتهود بإذن الله؛ بل ستنقض على نوعي اليهود بلا هوادة مهما طال الزمن! تعبيراً عن هذه المشاعر جاءت هذه الأبيات ورأيت إلحاقها بالموضوع وهي كما يلي: أنْجَب المكرُ سَلِيلَه وشَفَى الغَدرُ غَلِيله وَجَرى المغرورُ لَهثاً تَابعاً كُلَّ مَخِيلة فإذا الجَولاَت آلٌ وإذا الجائِلُ غُوله تِلك إجراءَاتُ بدءٍ في المتَاهَاتِ الطَّوِيلَة ذَاكَ إِعلانُ مبادٍ للمَسارات المهِيلَة فَمتَى نَدخُلُ في صُلب المعانَاةِ الثَّقِيلة وَمتى تُنصب سُوق الرِّقِّ في ظل الخميلة ومَتى يَزْهُو خِطَام الذُل في أنفِ القَبيلة ومَتى تعبث "إستير" بأحلام الفحُولَة ومَتى يفترش الغَرقَد صَحراء البُطُولَة ويُغطي وادي الثّأر ويستاق نخيله ألهاث وسُعار قبل إطفاءِ الفتيلة؟ أجُنُون وجُنوح قبل إجهاضِ الفَسِيلة؟ أصُراخٌ وَعَوِيلٌ قَبل إِخماد القَتيلة؟ وحُييٌ وكُعَيْبٌ لهما مليُون حِيلَة كل بند من شُروط الذل يَبْغي ألف جولة هذه دَوامة الإحباط واليَأس القَتُولة جعَلوا الذُلّ وِسَاماً للتَّحَدي والبُطُولَة جَرَّعُونا الكاس مُرّاً حَطَّموا فِينا الرُجُولة ألبسونا ثَوْبَ عارٍ يَسْحَبُ الخِزي ذُيُولَه نَحن في التَّاريخ نسْيٌ كُلَّمَا أرخى سُدُولَه أعَليْنَا وحدَنَا تَستَأسد البُومُ الذَّلِيلة أعَلينَا وحْدَنَا تَستَكبر الأيْدي الهَزيلَة أعَلَينَا وَحْدَنَا تَقْوَى القَرارَات العَلِيلَة يَا خليج الذُّلِّ دَوماً تَدفَع الجِزيَة دُولة فادفَع المهرَ كَثِيراً يَرفُض الرَّاعي قَلِيلَه واضْمَن الصُّلح رَخَاءً للزَّعَامَاتِ العَمِيلَة وَاسقِها العَارَ فُرَاتاً يشرب الكَافِرُ نِيلَه واجعل الأقصَى مُبَاحاً للعِصَابَات الرَّذِيلة واجعلِ الأعلاجَ تَبنى غُورَه ثُم جَلِيلَه سُلبت عكا ويَافَا وتُقَاضِيهِ خليله يَخجَلُ التَّاريخُ مِن فِعل الزَّعامات الخَتِيلَة ما عَلى جَسَّاسِ ما يُنهش من عرض الجليلة مَا عَلى البَراضِ مَا يُنهب من سَرْحِ القَبيلَة الخَواجَات رَضُوا فلتـ حزن الدُّنيَا الكَليلة وإذا الجَحشُ تَخَلى أركَضَ السَّائِسُ فِيلَه يختلون الآفة العقرى وتُختَال الختِيلة يَشْرَبُون النَّفْطَ حُراً في القَواريرِ الصَّقِيلَة والخَنَارِيُر تُغني فَوقَ هَامَاتِ الخَليلَة والعَدُوّ الصِّرف هُم أهل الفدى أهل البطُولَة الأصولِيُّونَ مَن يدعُونَ الدَّعوى الأصِيلَة وبَنُو صُهيون مُنذُ الآنَ إخوان الفَسِيلَة غَير مغضُوب عَلَيهِم عند أصحابِ الفَضِيلَة! فاحذِفُوا ما قيِلَ قُدْماً في التَفاسِير الطَويلَة! واشطُبُوا ما قيلَ فيهِم (بِئسَما) تِلك المقُولَة! عَدِّل التاريخ واحذِف مِنه حِطين الدَّخِيلَة! عدِّل السِّيرة واحذف ذِكر "كَعب" وقَبِيلَه واجعل الكُفَّار حَصْراً في قُريش أو بَجُيلَة كُلّ هَذا شَرط شَامِير فأوفُوا المرءَ كِيلَه! وبِهَذا عَقْد مدريد فأعطُوا العَهدَ قِيلَة سُورةُ الأحزابِ والحَشْرِ مَعانيها ثَقِيلَة! فاطْلُب التَأوِيلَ شَيْخاً تَلْقَ للإسراء حِيلَة أو تَجاوزَهَا إِلى الكَهفِ وَلا تَخشَ المثِيلَة آه يا شَعبَ المآسِي إنك المقتُولُ غِيلَة كبِّر الله وجاهد كُل خوَّار الفصيلة أنت يُنبوع التَّحدي أنت بُركان البطولَة أنت منصُور بدينٍ عزّ مَن يَقْفُو سَبيلَه وبِهذَا الوَعْد حَقّا أرْسَلَ الله رَسُولَه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

دور نصارى البروتستانت في دعم عقيدة أرض الميعاد

دور نصارى البروتستانت في دعم عقيدة أرض الميعاد Q ما هو دور طائفة البروتستانت النصرانية في دعم عقيدة أرض الميعاد عند اليهود؟ ومن هم الإنجيليون العسكريون؟ وما هي معتقداتهم وأهدافهم؟ A ورد أكثر من سؤال في هذا الموضوع, ونوجز الإجابة عليه لأننا قد تناولنا فيما سبق البروتستانت والإنجيليين , ونعيد القول بأن حركة مارتن لوثر الإصلاحية أعادت النصارى إلى الإيمان الحرفي بالكتاب المقدس, ومن ثم أصبحوا يؤمنون بوعد التوراة ونبوءاته, ولذلك نشأت الحركات الإنجيلية الصهيونية قبل الحركات اليهودية الصهيونية.

قول علماء فلسطين في مؤتمر مدريد والصلح مع اليهود

قول علماء فلسطين في مؤتمر مدريد والصلح مع اليهود Q هذا بيان من علماء فلسطين يقول: (علماء فلسطين يعقدون مؤتمراً في المسجد الأقصى يرفضون فيه مؤتمر مدريد ويحرمون الصلح مع إسرائيل)؟ A الحمد لله هذه فتوى صدرت من علماء فلسطين , ولهذا أبشركم وأقول: إن الأمة الإسلامية سوف تستيقظ إن شاء الله فلابد أن يقاوم الباطل بالحق, ولابد أن يتوحد علماء المسلمين في كل مكان تحت راية الحق.

شراء المصانع الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي

شراء المصانع الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي Q ألا يمكن لرجال الأعمال في العالم الإسلامي أن يقوموا بشراء المصانع السوفييتية العسكرية التي يراد بيعها, وكذلك مصانع السيارات والآلات الأخرى والبحوث المتطورة؟ A لا نستطيع أن نجزم بشيء عن هذا لعدم توفر تفاصيل لدينا بهذا الخصوص، وإنما نحيلها إلى المختصين بذلك.

موقف المسلم من مؤتمر السلام

موقف المسلم من مؤتمر السلام Q ما هو الموقف العقدي الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم إزاء مؤتمر السلام كما يزعمون؟ A الموقف الصحيح هو الرفض لهذا المؤتمر، ورفض السلام بكل شكل من أشكاله, والإيمان بالعقيدة التي ذكرناها -في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- حول نهاية اليهود ومصير ومآل دولتهم.

دور المسلم بين القيام بواجبات التعبد, والعمل على نصرة الأمة

دور المسلم بين القيام بواجبات التعبد, والعمل على نصرة الأمة Q إنه بمراجعة الوقت الذي يحتاجه المسلم المثالي للنهوض بواجباته الدينية والدنيوية اليومية على النحو الأكمل يتضح أن من يجتهد في الوفاء بجميع الفروض والنوافل التعبدية الواردة في الكتاب والسنة لن يكون له من الوقت المتبقي ما يكفي للقيام بمستلزمات عيشه والنهوض بواجباته الأسرية والاجتماعية في هذا العصر المتسارع؛ فهل يعقل أن يكون مثالياً في نشاطه التعبدي, ومقصراً في اهتمامه بنفسه وأسرته ومجتمعه, وليس له دور في بناء القوة الثقافية والاقتصادية والعسكرية لأمته, ولا سعي في دعم التطور والازدهار اللازم لمواجهة ما يحيط بالأمة من تحديات ومخاطر؟ A إن شاء الله لا مشكلة في الجمع بين الأمرين, بل إن الإسهام الذي ذكره الأخ هو جزء من العبادة, وهو خير من النوافل التعبدية، إذ لا يجوز أن تشتغل بالنافلة وتترك الفريضة الواجبة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والاهتمام بأحوال المسلمين بقدر لا يؤثر طبعاً على واجباتك الأخرى، فلابد من التوازن ولابد من الشمول في هذا.

موقف الحزب الحاكم في سوريا من أهل السنة والجماعة

موقف الحزب الحاكم في سوريا من أهل السنة والجماعة Q اعترف الوفد السوري بأن سوريا دولة علمانية تعطي الحرية لجميع الأديان والطوائف إلا الدين الإسلامي المتمثل في أهل السنة والجماعة فلا حرية لهم؟ A يا إخوان! إن حزب البعث أسسه النصارى, والطائفة الحاكمة في سوريا طائفة نصيرية, واليهود أعضاء في حزب البعث والذين كان منهم كوهين , فالطائفة المضطهدة التي دمرت في حماه وفي أدلب وفي جسر الشغور وفي طرابلس هي الطائفة المسلمة السنية فقط.

كتاب إظهار الحق

كتاب إظهار الحق Q ما قولك في كتاب إظهار الحق؟ A كتاب جيد وجامع وشامل في موضوعاته, وأنصح الإخوان بالاطلاع عليه لتبيّن عقيدة النصارى وبطلانها.

دين عيسى عليه السلام عند نزوله لقتل الدجال

دين عيسى عليه السلام عند نزوله لقتل الدجال Q ما هو الدين الذي سيكون عليه عيسى عند نزوله؟ A بينا أنه سيكون الإسلام قطعاً.

المؤتمر الإسلامي المنعقد في الخرطوم

المؤتمر الإسلامي المنعقد في الخرطوم Q ما هي نتائج المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي الذي عقد في الخرطوم؟ A لم يبلغني شيء مؤكد عن ما دار فيه, ولا أتكلم عن ما لا أعلم.

معوقات الجهاد من خارج الأراضي الفلسطينية

معوقات الجهاد من خارج الأراضي الفلسطينية Q لماذا لا توجد جبهة للجهاد ضد اليهود لتحرير البيت المقدس ثالث الحرمين من أي دولة كانت؟ A لا يمكن ذلك في الوقت الحالي, إذ أنه قبل الصلح مع إسرائيل ما كان يسمح بهذا, فكيف الآن؟! ومن أي دولة تريد أن تنطلق لمحاربة اليهود؟! كل الدول العربية المحيطة بـ فلسطين أول ما تحارب الأصوليين المتطرفين -حسب زعمهم- قبل اليهود. فمن أين تنطلق لمحاربتهم؟ هذا هو السؤال. فيجب علينا أن نكون واقعيين, ونبدأ بما قبل الجهاد. فالجهاد يكفينا مؤنته إخواننا الذين في الأرض المحتلة, أما في غيرها فلابد من خطوات إعدادية قبل الجهاد.

علاقة أزمة الخليج وتداعياتها بمؤتمر السلام في فلسطين

علاقة أزمة الخليج وتداعياتها بمؤتمر السلام في فلسطين Q هل أزمة الخليج هي بوابة عبور إلى مؤتمر السلام الذي مهدت له الدول الكبرى؟ A قطعاً100% ولقد صرح بهذا كل الزعماء وكل الصحفيين, وكل التحليلات مجمعة على هذا, فلا خلاف في ذلك.

جهود بعض الطوائف لدعم دولة إسرائيل

جهود بعض الطوائف لدعم دولة إسرائيل Q اليهود الذين استعبدوا البروتستانت والإنجيليين الأمريكان وجعلوهم خدماً لدولة إسرائيل يعملون بكل جهدهم لدعمها وتقويتها, زاعمين أنهم يقربون تحقيق نبوءات التوراة التي ملخصها أن قوة دولة اليهود ستساهم أكثر في تقريب المعركة الفاصلة في سهل هرمجيدون في فلسطين بيسان , حيث يأتي بعدها المسيح ليحكم بعد ذلك ألف عام حسب خرافاتهم, وقد استغل اليهود هذه التوجهات التي يؤمن بها أكثر من 40. 000. 000 (أربعين مليون) نصراني فيما أعرف يسمون التدبيريين منهم: سواجرت وجنبيكر وباتبرسون وأورل روبتس وجيري فلويل وكيني كبلن ورتشارد وكاهان وغيرهم كثير, وكل هؤلاء يملكون محطات إذاعية وتلفزيونية تبث للملايين وتدعو لدولة اليهود ودعمها, أرجو منكم تسليط الضوء على هذا الدين الجديد؟ A أظن أن الأخ كتب هذا السؤال قبل المحاضرة أو في أولها؛ لأن موضوع المحاضرة كان حول هذا الموضوع تقريباً. وحقيقة أنني أعبر عن فرحي بمثل هذه الورقة؛ لأنها دليل على أن هذا الأخ قد قرأ هذا الكلام قبل أن يأتي للمحاضرة, ونرجو أن يكون لدينا الكثير من الشباب ممن يهتم بمثل هذه القضايا.

علاقة الأنظمة العربية مع إسرائيل

علاقة الأنظمة العربية مع إسرائيل Q مادام أن أغلب الأنظمة العربية لها علاقات مباشرة مع إسرائيل أو غير مباشرة -حتى منظمة التحرير - فقد اطلعت على كتب كثيرة تشير إلى أن هذه العلاقات تمتد إلى ما يزيد على العشرين سنة, فأرى أنه يتحتم علينا تربية الأمة على الجهاد, وإزالة أحفاد ابن سلول , ثم بعد ذلك مواجهة إسرائيل, فقد تدخلت إسرائيل حتى في تغيير المناهج وحذف الآيات التي تتحدث عن اليهود, فهل ستمتد هذه التغييرات لتشمل بقية البلاد العربية؟ A هذا متوقع أن يحصل! أما القضاء على المنافقين الله يعين! [[سمع الحسن البصري رجلاً يقول: اللهم اهلك المنافقين, قال: يا ابن أخي! لو أهلكهم لأوحشت بنا الطرقات]] فهذا لا يعني أنه لا يدعو عليهم, ولكن يريد أن ينبه إلى كثرة النفاق وخطره.

علاقة الحكومة المصرية مع دولة إسرائيل

علاقة الحكومة المصرية مع دولة إسرائيل تعقيب: يقول أخ آخر: كان للمعاهدة المصرية الإسرائيلية آثار خطيرة على المنطقة, ونظراً لخطورة ما قام به النظام المصري مع إسرائيل ضد المسلمين, فإنه يعتبر أشد خطراً من حزب البعث , وذلك أنه دلت الوقائع والأحداث أن مصر التزمت بما هو أكبر من الحياد في الصراع العربي الإسرائيلي حيث أضحت طرفاً منحازاً لإسرائيل ضد البلدان العربية، وقد حدث هذا الوضع بالفعل أثناء غزو اليهود للأراضي اللبنانية عندما التزمت مصر بتوريد النفط إلى الجيش الإسرائيلي, حتى يسحق بدباباته العمل الفدائي بجنوب لبنان. A هذا الكلام يعبر عن وجهة نظر عدد من إخواننا في مصر.

الضوابط الشرعية للدخول في صلح مع الأعداء

الضوابط الشرعية للدخول في صلح مع الأعداء Q لماذا كل هذه المبالغات في الحديث عن الصلح مع اليهود ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أغير منا على الدين صالحهم وفاوضهم، ونحن في الوقت الحاضر أضعف من اليهود, وقد رأينا ماذا حدث لمن حاول أن يرفع رأسه كيف دمر اليهود والنصارى بلاده, وجعلوه أضحوكة لكل العالم؟ بالإضافة إلى أن مصر استفادت من هذا الصلح حيث استعادت سينا؟ A القضية ليست قضية صلح؛ ولهذا يا إخوان! لا يلبس أحد عليكم, أزيلوا من أذهانكم أن الموضوع صلح, وماذا جاء في كتاب الصلح وكتاب الجزية وكتاب الموادعة والأحكام الفقهية هذه لا وجود لها؛ لأن القضية ليست قضية صلح. القضية كما قال بوش: ليست القضية إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل, وإنما إنهاء العداوة, أي: أن القضية قضية عقيدة يراد بها تغيير القلوب, فلما حارب صلاح الدين الصليبين صالحهم فترة وحاربهم فترة, وهذا لا أحد يخالف فيه, وليس موضع نقاش، فلو كنا في حالة حرب وجهاد مع اليهود وصالحناهم، فهذا أمر وارد ولا بأس من حصول الصلح. لكن الآن لا حرب ولا جهاد أبداً, وإنما إقرار بسلام دائم وحق أبدي لإسرائيل في الوجود, عرفت يا أخي! ما الفرق؟! فرق مهم جداً! فأرجو أن لا يقع الإخوة في هذا اللبس.

النظر إلى فريضة الجهاد على أنها ليست الحل الأمثل لصراعنا مع اليهود

النظر إلى فريضة الجهاد على أنها ليست الحل الأمثل لصراعنا مع اليهود Q إنني أقدر وجهة نظر رجال الدين -طبعاً نحن ليس عندنا رجال دين- لكن هذا تعبير الأخ السائل, وفي الحقيقة نحن نرحب بأي وجهة نظر ما دامت في نطاق الشورى والبحث, فيقول: إني أقدر وجهة نظر رجال الدين لكني أشك في جدوى الحرب؛ لأنها في نظري لا تحل مشكلة الصراع مع اليهود, ونتائج الحرب المدمرة على المنطقة وما خلفته من المآسي والنكبات وتردي الأوضاع الاقتصادية في العالم الثالث -يا أخي! لا يوجد عالم ثالث لا يوجد إلا عالم غربي وعالم إسلامي فقط- والعالم العربي على الخصوص فإن الصلح والتعايش السلمي هو الأفضل؛ وذلك لحقن الدماء, وأنصح الفلسطينيين على جهة الخصوص بالتخلي عن الكفاح -ليس كفاحاً يا أخي! بل هو جهاد- والسكوت حتى حين؛ لأنهم هم الضحايا بينما قادتهم وزعماؤهم لهم علاقات وطيدة مع إسرائيل, والأبرياء هم الذين يقتلون الأخ في كلامه قدر من الصحة, لكن نحن الآن لا نطالب بإعلان حرب حتى نخاف من آثار الحرب, وإنما نطالب بتعبئة الأمة عقائدياً لمواجهة خطر عقائدي إذا فرض السلام, حتى إن إسرائيل في المنظور القريب لن تحاربنا عسكرياً, وإلا فالترسانة النووية لابد أن تستخدم, لكن الكلام الآن ليس عن بدء الحرب من جهتنا أو من جهتهم وإنما عن ما سيجره علينا هذا السلام, فإذاً الأخ تصور القضية غير ما أردنا. النقطة الثانية: لا نؤيدك على نصح الفلسطينيين بالسّكوت ولو إلى حين؛ لأن القضية هي: هل يوجد أو لا يوجد شعب فلسطيني؟! اليهود لا يقبلون منا إلا ذلك, فالرضوخ والإقرار بهذه الدولة المحتلة يعني نهاية القضية بالكامل, وهذا على كل حال يحتاج إلى تفصيل ليس هذا مقامه.

الغرض من عملية السلام عند اليهود والنصارى

الغرض من عملية السلام عند اليهود والنصارى Q ما رأي الشيخ في كلام الرئيس الأمريكي بوش حين قال: (إننا لن نكتفي بإعلان إنهاء حالة الحرب بل نريد سلاماً كاملاً واعترافاً دبلوماسياً, وعمليات تبادل تجاري وثقافي وحتى سياحي -رأيتم كيف- وإننا نشجب أعمال العنف مهما كان مصدرها) A مصدرها في نظر أعداء الله كما قال نيكسون: الأصولية الدينية.

عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي

عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي Q ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي؟ A نؤمن بأنه يخرج من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وينصره الله سبحانه وتعالى بعد أن يبتلى ومن معه من المؤمنين, وينزل في أيامه عيسى عليه السلام, وتمتلئ الأرض عدلاً بعد ما امتلأت جوراً, وسيصلي بعيسى عليه السلام, وشيخنا الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله له كتاب في موضوع المهدي: الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي وغيره من المؤلفات.

الدعوة في المجتمعات الكافرة عن طريق المناظرات العلنية

الدعوة في المجتمعات الكافرة عن طريق المناظرات العلنية Q لماذا لا تلقى محاضرات ومناظرات في أمريكا توضح فساد عقائد النصارى واليهود؟ A أحب أن أقول للإخوان أنني لا أؤيد فكرة المناظرات العلنية في أمريكا في هذه الظروف, كما فعل الشيخ الداعية أحمد ديدات، وهو مأجور إن شاء الله, لكن العدو الآن يملك هذه الوسائل الضخمة فتأتي أنت لتثيره, ولهذا بدأ النصارى بالالتفاف أكثر حول كنائسهم لما وجدوا مثل هذه المناظرات. فنقول أولاً: يجب علينا اتباع الأسلوب الأمثل لمجادلتهم؛ الله تبارك وتعالى يقول: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)) [العنكبوت:46] فمجادلة أهل الكتاب لابد أن تستند إلى أسلوب علمي شرعي, كما جادلهم شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح مثلاً. والأمر الآخر أننا الآن لسنا في مرحلة مواجهة, وقد لا يسمح لنا بالمناظرات, نحن نحتاج إلى مراحل تمهيدية قبل ذلك وهي مراحل إعداد الأمة عقائدياً, وإعداد الشباب المسلم بالعلم الشرعي, والإدراك الصحيح للأحداث المرتبطة بالواقع؛ ليستطيع أن يقوم بواجبه, أما والمسلمون هناك أكثرهم يعيش على هامش المجتمع الأمريكي, أو كما يعيش الأمريكان أنفسهم فإن مخاطبتهم لن ينتج عنها إلا إثارة عاطفية لا يترتب عليها شيء له قيمة.

كتاب برتوكولات حكماء صهيون

كتاب برتوكولات حكماء صهيون Q ما هي حقيقة كتاب برتوكولات حكماء صهيون؟ ولو كان حقيقة ثابتة عندهم فلماذا لم يوقف نشره من قبلهم؟ A الكتاب سواء كان حقاً أو غير حق فالواقع يؤكده, يعني: حتى لو كان خيالاً تخيله واحد منهم فالواقع يؤكده, وهذا هو ما يهمنا نحن في الموضوع بغض النظر عن حقيقة ثبوته. السائل: لماذا لا يمنعونه؟ الجواب: هم لن يمنعوه؛ لأنهم الآن يريدون أن يوهموا الناس بقوتهم وجبروتهم ودقة تخطيطهم, وإلا يا إخوان! فإن خطط إسرائيل كثيراً ما تفشل! خطة احتلال لبنان فشلت, وتصوروا أن المقاومة التي قاومتهم في لبنان -على تمزقها وضعفها وقلة عقيدتها- قد أعطتهم دروساً ما كانوا يتوقعونها! حتى حرب الخليج لم تكن نتائجها كما توقعوا ولا كما خططوا, فقد كسبوا جوانب لكن خسروا جوانب أخرى, وهكذا فاليهود والنصارى وغيرهم لا يكسبون دائماً كما نظن. ومن هنا فإن نشر مثل هذه المخططات قد يوحي بأنهم يخططون وينجحون, بينما الواقع يثبت أنهم كثيراً ما يخطئون, ولولا ضعفنا ما كانوا أقوياء, ولولا تفرقنا ما كانوا متحدين, فاليهود متلاعنين, متجادلين, متناحرين, في فلسطين وفي أمريكا , وفي كل مكان, لكن نحن الذين جعلناهم يتحدون.

كتاب المسيح الدجال لسعيد أيوب

كتاب المسيح الدجال لسعيد أيوب Q ما رأيك في كتاب المسيح الدجال، وهو من تأليف سعيد أيوب، فهل تنصح بقراءته؟ A أنصح من يستطيع منكم أن يدرك بعض الأخطاء والملاحظات التي عليه أن يقرأه؛ ولكن دون أن يعتمد على كثير من تفصيلاته, وإنما قد يؤخذ منه فكرة النصارى عن عودة المسيح وأنها حقيقة, والتعرف على ما يريدون من عودته, وكيف يتهمون -قاتلهم الله- النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هو المسيح الدجال؟! لعنهم الله لعناً كبيراً. وفي الأخير فقد اقترح بعض الإخوة أن تنشر هذه المحاضرة في كتيب, فنرجو أن يتوفر لنا الوقت لذلك. وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى, ولا تنسونا من دعواتكم يا إخوان! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أثر الإيمان في بناء الأمم

أثر الإيمان في بناء الأمم إن لصدق الإيمان بالله آثاره الواضحات في واقع حياة الأمم، ويتجلى ذلك بوضوح عند تتبع حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الكرام. كما أن الإيمان هو الركيزة الأساسية لتمكين الأمم في الأرض، بغض النظر عما تملكه من قوة وسطوة. فيجب على أمة الإسلام القيام بدورها المنتظر في نشر الإيمان الصحيح ليتحقق بذلك للبشرية سعادة الدنيا والآخرة.

أهمية الإيمان وأثره في واقع الحياة

أهمية الإيمان وأثره في واقع الحياة مقدمة المقدم: الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الله عز وجل خلقنا لأمر نفعله وسنسأل عنه يوم القيامة، وهو أول ما نسأل عنه، وهذا الأمر هو ما افترضه الله عز وجل علينا، وما أخذ عليه العهد منا ونحن في صلب أبينا آدم؛ لأن الله أوجدنا في هذه الأرض لنحقق ما افترضه علينا والقيام بواجبه، وقد أقسم الله في غير ما آية من كتابه أن من أخل به فإنه خاسر، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] وقال الله عز وجل: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1 - 6]. وإن الإيمان أعظم واجب كلف به الإنسان في هذه الحياة، فهو حق الله عز وجل على عباده، من حققه كان له الفوز والفلاح والنجاح وكان له التمكين في الأرض، ومن أخل به كان له الخسران المبين، ولا فرق في ذلك بين الأمم أو بين الأشخاص، فالكل سيَّان في ذلك، سواء نظرنا في هذا الموضوع إلى البشرية كأمم، أم نظرنا إليها كأفراد، فالكل مطالبون بتحقيق الإيمان، فإن حققته الأمة كتب الله لها التمكين في الأرض، وكتب لها النصر والعزة، وإن أخلت به كتب الله عليها الذلة والصغار، ثم محقها وسحقها، ولنا فيما قص الله عز وجل علينا في كتابه من إهلاكٍ للأمم الماضية أكبر واعظ، وأكبر دليل على أن من أخل بالإيمان فإنه يبوء بالخسران في الدنيا قبل الآخرة قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]. وكذلك إذا كان الإخلال في الإيمان على مستوى الأفراد، فإن من أخل بالإيمان فإن له الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وهذا ما سنتناوله لاحقاً في نتيجة الإخلال بالإيمان، ونتيجة إقامة الإيمان -أي ما الذي يترتب على إقامة الإيمان؟ - سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم، وما الذي يحصل للأفراد وللأمم إذا أخلوا بالإيمان؟ يقول الشيخ سفر: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمة للعالمين، الذي علَّمنا الإيمان والتوحيد، وحذرنا من الشرك والضلال والبدع، وربى خير أمة أخرجت للناس فقامت أعظم أمة في تاريخ الإنسانية، أعظمها إيماناً وعدلاً، وأخلاقاً، وأطيبها حياةً في هذه الحياة الدنيا، وأسعدها عند الله تبارك وتعالى في الدار الآخرة. أما بعد: فإن الحديث سيكون عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم، ولماذا تنهار أمم وشعوب؟ ولماذا تبقى غيرها؟ فالأمر يحتاج إلى وقت طويل؛ ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا. وإن مما يدلل على أهمية هذا الأمر أن دعاة الحق والإيمان والسنة، حينما يدعون الناس وأنفسهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى الاقتداء بمنهج السلف الصالح في كل أمورهم العلمية والعملية، فإنهم إنما يدعون الأمة إلى الدواء الذي يشفي بإذن الله تبارك وتعالى من كل داء، ويكفي عن كل علاج؛ إنه الدواء الذي يستأصل جميع الأمراض من قلوب العباد -وأمراض الأمم عامة- ويمنع أسباب الانهيار التي يتعرض لها الفرد أو تتعرض لها الأمة. وإننا حين ندعو الناس فنقول: عودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الأمر لا يعني تعصباً لمذهب معين، ولا يعني قسراً وفرضاً للناس على رأي من الآراء البشرية أبداً، ولكنه دعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ودعوة إلى المنهج القويم الذي يضمن ويكفل للإنسانية أفراداً وشعوباً أفضل الحياة في الدنيا، ويحقق لها النجاة من العذاب في الآخرة.

واقع إيماننا وارتباطه بالمادة

واقع إيماننا وارتباطه بالمادة إن العالم اليوم يخاف من الانهيار ويخشى منه، وما من دولة أو فرد إلا وهو يخشى ذلك ويحسب له كل حساب، حتى أقوى وأغنى دول العالم فإنها تتحدث كثيراً عن مسألة الوجود، وإثبات الوجود، وتضع الخطط البعيدة المدى لتبقى ولتصارع ولتزاحم في خضم معترك الحياة، التي جعلوها -هم- صراعاً كصراع الوحوش في الغابات، ولكن كل من يؤمن بالله واليوم الآخر يدرك أن هذا العالم -إلا ما ندر- لا ينظر إلى مسألة الانهيار، وأسباب سقوط الأمم إلا من زاوية واحدة فقط وهي الزاوية المادية أو الاقتصادية. حتى هذه الأمة المباركة؛ بل حتى الذين يقرءون كتاب الله ويسمعونه آناء الليل والنهار، ويسمعون الأذان خمس مرات في اليوم والليلة -وأكثرهم من هذه الأمة- أصبحوا يصدقون هذا، فيبنون خططهم وأفكارهم وآراءهم على أن الحياة مرتبطة بالاقتصاد وبالمادة، وأن الخوف الذي يجب أن يكون لدى الأفراد أو الأمم هو الخوف من الفقر والخوف من الجانب المادي أن ينهار فينهار الفرد أو تنهار الأمة، ويشغل ذلك حيزاً كبيراً من تفكير الناس، المسلم منهم والكافر. ونحن أمة الإسلام والقرآن يجب علينا أن نعرض كل أمر من الأمور على كتاب ربنا، وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لنعرف قيمة هذا الإيمان وحقيقته، وأنه هو الذي به تصلح دنيانا وأخرانا، وأما المقاييس والمعايير التي يقيس بها الكفار والماديون والشيوعيون والملاحدة؛ فليست بحجة ولا بعبرة عند من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذا نبي الهدى والرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرنا فيقول: {ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} فأي رحيم وأي مشفقٍ وأي ناصحٍ أفضل وأعظم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لا أحد والله يساويه فضلاً؛ ومع ذلك ينصح لهذه الأمة، وهو الذي شفقته ورحمته ورأفته بنا كما قال الله عز وجل {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وهو الذي في يوم القيامة يوم الكرب الأعظم الذي لا كرب أعظم منه، حين يقول: كل نبي: نفسي نفسي، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمتي أمتي}. ففعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من كمال الشفقة، والرحمة، والرأفة؛ ومع ذلك يخبرنا أنه لا يخشى علينا، وهو الذي يخشى علينا من أي ضرر وإن كان قليلاً، ويدلنا على ما ندفع به كل شر وإن كان بعيداً، فقوله: {ما الفقر أخشى عليكم} أي: أنه لا يخشى علينا الفقر مع أنه تعوذ منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذ بالله منه، وهو مما يحاربه هذا الدين، بل إن الأمر في ديننا مختلف ومذهب وعن كل دين محرف.

التكافل الاجتماعي في الإسلام مرتبط بالإيمان

التكافل الاجتماعي في الإسلام مرتبط بالإيمان إن أمر إطعام المسكين عند المسلمين مرتبط بالإيمان بالآخرة، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3] فالأمر عندنا أسمى من أن يكون في الجهات الأخلاقية، وأسمى من أن يكون أوامر قسرية تنهب الأغنياء لتعطي الفقراء، إنما الأمر عندنا مرتبط بالآخرة، ومرتبط بأصل الإيمان قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:42 - 44] وانظروا كيف يحض هذا الدين على المسكين ويربطه بالرحمة؛ فيكون إطعام المسكين مما يحض عليه من الرحمة {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:11 - 14] انظروا كيف تكون الرحمة مرتبطة بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! فإذا صحت العقيدة فإنها ترتبط ارتباطاً مباشراً لا انفكاك معه؛ ومع ذلك كله لا يخاف علينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفقر.

الاهتمام بالمادة دون الإيمان سبب في زوال الأمم

الاهتمام بالمادة دون الإيمان سبب في زوال الأمم يجب على أمة القرآن وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تلغي النظرة إلى أن أسباب الانهيار هو ضعف أو قلة الموارد الاقتصادية أو الجوانب المادية تماماً؛ وبالتالي: علينا البحث عن أسباب زوال الوجود وأسباب الانهيار من خلال هدي رسولنا وسنة ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

عدم الإيمان سبب زوال الأمم السابقة

عدم الإيمان سبب زوال الأمم السابقة لقد بيّن الله لنا في كتابه الكريم أوضح البيان حال الأمم قبلنا، والعجب أنه ما من أمة أهلكها الله تبارك تعالى إلا وهي في حال القوة! ويشهد بذلك كتاب ربنا وكذلك التاريخ وواقع الأمم. قوم نوح دمروا في وقت قوتهم وتمكنهم، وقوم عاد الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] فلم يروا أن أحداً أشد منهم قوة، وقد قال الله تبارك وتعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8] وثمود: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] الذين نحتوا الجبال، وبنوا وشادوا المصانع، فهل أتاهم عذاب الله وهم في حالة ضعف؟! أو في حالة انهيار اقتصادي؟! أبداً فقد أتاهم وهم في أقوى ما يمكن أن يكونوا عليه من القوة والتمكن، وفرعون -أيضاً- متى أهلك؟ ومتى دمر الله هذه الأمة القبطية الفرعونية؟ وهل دمرت وهي في حالة ضعف؟! لا، بل دمرت وانهارت وسقطت وهي في أشد قوتها، عندما تكبر زعيمها، ذلك الرجل الذي بلغت به الوقاحة والجرأة على رب العالمين أن يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وأن يقول: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:38] ففي أشد القوة والتمكن دمره الله، إلى غير ذلك مما لا يخفى علينا، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45] وفسر المعشار بأنه عشر العشر. فالأمم قبلنا قد سادت وشادت وبنت، وبلغت من القوة ما بلغت، مع ذلك أهلكت وعذبت لسبب ليس هو الضعف المادي بأي حال من الأحوال. وكذلك أتى التاريخ شاهداً لذلك، عندما دمَّر الله تبارك وتعالى ملك كسرى وقيصر فهل دمرت مملكة الفرس والروم، لأنها كانت تعاني من ضعف مادي؟! أبداً، فلقد كان الفرس يستعمرون الجزء الشرقي من العالم وينهبون خيراته، وكان الروم يستعمرون الجزء الغربي، ويكفي أن نعلم أن الروم كانوا مستعمرين لـ بلاد الشام ومصر وغرب إفريقيا بكاملها، فكانت مستعمرة رومانية. إذاً: في أوج القوة والعظمة سقطوا وذهبوا، لماذا؟ لأنهم واجهتهم وقابلتهم جيوش التوحيد، التي عقد لواءها خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك البلد الطيب الطاهر، تلك الجيوش القليلة العدد والعدة، لكنها ذهبت وانطلقت ذات اليمين وذات الشمال، فأطاحت بأعظم دولتين في تاريخ القرون الوسطى، فكيف انهارت؟! ولماذا انهارت؟ وهل كان سبب الانهيار هو الضعف المادي أو الاقتصادي أو التفكك السياسي أو أو إلخ؟! ومع الأسف هذا هو الذي نقرأه في التاريخ، أو نسمعه في محاضرات أو ندوات أو ما يكتب في الصحافة، وفي الكتب، حتى أدى ذلك إلى أن غفلت أمة الإسلام عن هذه الحقائق الذهنية، فأصبحت أمة مادية تنظر إلى التاريخ، وإلى أسباب البقاء والفناء، والحياة الطيبة، وإلى أسباب الحياة الشقية نظرة مادية بحتة.

أثر الإيمان في حياة الرسول والصحابة

أثر الإيمان في حياة الرسول والصحابة كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعيش؟! وكيف كان كسرى يعيش؟! وهل هناك مجال للمقارنة؟! رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم، وأفضل الخلق عند الله وأحبهم إليه، ومع ذلك يربط الحجر على بطنه من الجوع، ويمكث الشهر والشهرين ولا يدخل بيته إلا الأسودان (التمر والماء) ولم يشبع من خبز الشعير، ولم يجلس على خوان قط (على مائدة) كما جلس من بعده. ولو قرأنا سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها صورة أصحاب الصفة؛ لوجدنا العجب العجاب!! كيف كان الصحابة الكرام يعيشون؟! وكيف كان أهل الصفة يعيشون؟ كيف كان الناس وكيف كانت حاجتهم في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! بل إن هذا الحديث الذي قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما الفقر أخشى عليكم} قد ذكره؛ لأن الصحابة الكرام بلغهم أن أبا عبيدة قد قدم بمال من هجر، فاجتمعوا -الحاجة جمعتهم، وهذه الحالة الاقتصادية لو قورنت بوضعنا اليوم؛ لقلنا: إنها مجاعة، ومع ذلك فهذه كانت حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه حياة أصحابه. فكيف كانت حياة كسرى؟! وماذا نقول عن حياته نذكر فقط بعض ما قاله المؤرخون عن حياته وبعد أن هزم ودخل سعد بن أبي وقاص المدائن، ودخلوا الإيوان (القصر الأبيض) وهم يذكرون الله شاكرين حامدين يقولون: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:25 - 27] فلما دخلها سعد رضي الله عنه كيف كان حال كسرى؟! يقول بعض المؤرخين: لما دهمه المسلمون ورأى أن المدائن ستسقط، ولا حيلة له ولا مفر، اصطحب معه ما خف من متاعه وشهواته، فما هو هذا الخفيف؟ اصطحب ألفاً من الطباخين والطهاة -فقط- وترك الباقي، وأخذ معه ألفاً من البزاة -الذين يعلمون الجوارح والصقور وغيرها لتصطاد لهم- ومن الجواري نحو ذلك؛ وحملوا من النفائس ألف حمل أو ما أشبه ذلك، هذا فقط وهو هارب أخذ الشيء الكثير والعجيب، ليهرب به من وجه هؤلاء المؤمنين وترك من الكنوز العظيمة التي أورثها الله لأمة الإيمان تطبيقاً لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما الفقر أخشى عليكم} وتطبيقاً لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} انظروا لم يقل: لتستثمرن أموالهما لتنمية أو لتحسين أوضاع المسلمين، لا، وإنما لتنفقن في سبيل الله، ولذلك ورث المسلمين هذه الكنوز، وأنفقت في سبيل الله، فإذا كان هذا حاله وهو هارب، فكيف حاله وهو مقيم؟! فهذا طاغوت الضلال الذي مزق كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه حياته وتلك حياة خليل الله وحبيبه وصفيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الإيمان سبب في الحياة الطيبة

الإيمان سبب في الحياة الطيبة فالعبرة في الحياة الطيبة والحياة السعيدة (في بقاء الأمم) في سعادتها في الدنيا والآخرة، ليست أبداً في ذلك الجانب الذي يزعمون؛ وإنما هي في الإيمان بالله والتمسك بكتابه، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124] أي: أن الذي يتبع هدى الله لا يضل ولا يشقى، فهو على الصراط والطريق المستقيم وعلى الحق؛ وأيضاً لا يشقى بتسليط أعداء الله عليه، ولا بفقر، ولا ببلية لاحقة بعذاب من عند الله يرسله عليه، وأيضاً إن من لم يسر على الصراط المستقيم وأعرض عن ذكر الله فله من المعيشة الضنك بقدر إعراضه عن ذكر الله، وعكس ذلك قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] إذن فإن طيبة الحياة وسعادتها بقدر الإيمان، وشقاوتها ونكدها بقدر الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، فهذه قاعدة مقررة، وليست العبرة بكثرة ذات اليد ولا بالقلة؛ مع أن لها جانباً كبيراً لا يغفل، لكن ليست العبرة والأساس بها، وإنما هو في اتباع هدى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتباع ما أنزل الله عز وجل.

حال بني إسرائيل في ظل فرعون

حال بني إسرائيل في ظل فرعون فكيف كان حال بني إسرائيل -كما ذكره الله في القرآن وكما هو مذكور في التاريخ- في ظل فرعون؟ هذا الطاغوت الذي لم يحدثنا الله تبارك وتعالى عن طاغوت كالحديث عنه، ولكن! ماذا وعدهم الله؟ وكيف كان فرعون يصنع بهم؟ كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم ويفعل بهم الأفاعيل، ولا حيلة لهم على الإطلاق في هذا المجتمع الظالم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبر عن وعده لهؤلاء، فقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] سبحان الله! الله إذا أراد أمراً فلا مرد له، فقد قضى الله وقرر أنه يريد أن يمنُّ على هؤلاء لأنهم كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4] وشيعاً: أي أن المجتمع الفرعوني كان طبقات، وكان أردؤُها طبقة بني إسرائيل. والله تعالى يعد بأنه يريد أن يمنُّ على هؤلاء المستضعفين، ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين؛ وفعلاً تحقق ذلك لمّا أن كان بنو إسرائيل على دين الله، ولما اتبعوا نبيه، رغم ما فيهم من التواءات، وبالرغم مما قاسى موسى عليه السلام وما عانى كما شكى ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء، فقال: {قد عانيت من أمر الأمم من قبلك ما لم تعان} ومع ذلك فقد قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [الأعراف:137] فتحقق وعد الله عز وجل مع أنهم كانوا أمة في الحضيض، وأمة عصاة غلاظ القلوب والأكباد، إلا أنهم ابتعدوا عن التخاذل فترة ما أورثهم الله، ومن أصدق من الله قيلاً، فكيف بهذه الأمة وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فلو قلنا: إن الأرض هي الجنة فلا إشكال -كما هو قول بعض المفسرين- ولكن أيضاً كتب الله عز وجل ذلك وحققه في الدنيا، فأورثت هذه الأمة، ومكنت في هذه الدنيا؛ لأنها كانت على الإيمان بالله تبارك وتعالى.

قيمة الإيمان والمادة وأثرها في واقع الحياة

قيمة الإيمان والمادة وأثرها في واقع الحياة وإن شئتم أن نأخذ نماذج حديثة لنعرف بها قيمة الإيمان الذي أنعم الله به علينا، ففي هذه الأمة وفي النفوس جمعاء عادة يجب أن نعلمها، وهي من أسوء ما يعتري النفس الإنسانية، ألا وهي النسيان، والملل، وعدم التفكر، أو تبلد الإحساس؛ فمثلاً الذي يعيش في النور باستمرار لا يحس بقيمته، لماذا؟ لأن ذلك أصبح عادة في حياتنا؛ فلا نعرف قيمة هذه النعمة، كمثل رجل في البادية في مكان بعيد يعاني من الظلام في الليل، فهو كل يوم يتذكرها. نحن لا نتذكرها، وقس على ذلك النعم العظيمة، فنحن في نعمة الإيمان لكننا لا ندرك قيمتها، والنور يغمرنا ولكن لا ندرك قيمته، ولا نجد أثراً لتلك النعمة في قلوبنا. أما الصحابة الكرام فإنهم لما عرفوا قيمة هذا النور؛ جاهدوا في الله حق جهاده، وتجردوا لله عز وجل، فلم تأخذهم في الله لومة لائم، فقد تركوا المال والأهل والدنيا وخرجوا لله للجهاد، ففتحوا وتعلموا وعلموا، فهذا حال الصحابة الكرام الذين عرفوا قيمة النور وقيمة الإيمان، لكن! متى انتقض الإسلام شيء فشيئاً؟! كما قال عمر رضي الله عنه: [[إنما ينتقض الإسلام إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية]] أي: لا يعرف خطر الشرك والكفر، والبدعة، ولا يعرف قيمة وأهمية الإيمان.

أحوال الأمة اليوم مع الإيمان والمادة

أحوال الأمة اليوم مع الإيمان والمادة والمؤلم أن كثيراً منا ينظر إلى العالم الغربي، وهو العالم الذي يعاني أشد المعاناة من المعيشة الضنكة والحياة النكدة؛ لأنه بعيد عن الإيمان بالله، ينظر إليه نظرة الإعجاب، ويتمنى كثير منا -ربما عن طيب نية- أن تصل مجتمعاتنا إلى ما وصلت إليه تلك المجتمعات من الرقي والتقدم والسعادة، فماذا يريدون، وأي سعادة يريدون في أوروبا وفي أمريكا الإنسان مكفولة له الحرية الشخصية؛ فيقول ما يشاء ويذهب أين شاء. الحياة المادية مكفولة؛ فيعطى السكن المجاني بأقساط زهيدة، ويعطى فرص الحياة كما يشاء، والمريض إذا مرض بمرض مقعد أو ما أشبه ذلك يعطى بطاقة في جيبه يأكل بها في أي مطعم، وتدفع ذلك الحكومة. ومن جهة الترفيه؛ فكل وسائل الترفيه موجودة ومهيأة، فيذكرون أموراً كثيرة جداً، وكيف أنهم يعيشون في العمارات الشاهقة، ولديهم الشركات الضخمة، وكذلك إنتاج الأسلحة في أقوى ما يمكن، وإنتاج الأدوية والزراعة، وكل وسائل الحياة الدنيا متوفرة لديهم، فيتحرقون ويتشوقون أن يكونوا أفراداً لتلك الأمم ويتمنون أن بلادهم وأمتهم تكون مثل تلك الأمم. هذه النظرة الظاهرة السطحية إلى حياة تلك الأمم نظرة الذين لا ينطلقون في نظراتهم ويقيمون معاييرهم وموازينهم بميزان الإسلام، وبما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو أننا غيرنا النظرة، ونظرنا بمنظار حقيقي كيف تعيش هذه الأمم على حسب ما جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فماذا نجد؟ نجد الشقاء كل الشقاء والانهيار المحتوم الذي لا تغني ولا تجزي عنه كل هذه الوسائل، وكل هذا التقدم المادي المرضي، لكنهم يعيشون في شقاء، الأثرياء في شقاء ونكد وخوف، والفقراء كذلك في شقاء ونكد وخوف، فالرجل هناك يعمل ثمان ساعات في دائرة حكومية تضمن له مرتباً كافياً، ومع ذلك لابد أن يبحث عن عمل في إحدى الشركات في المساء أيضاً لكي يضمن كما يقال المستقبل، لأنه يخاف على مصير أولاده، فيخشى أكثر بكثير جداً من الرجل الذي يعيش في الدول الفقيرة كـ الهند وبنجلادش وغيرها من الذي لا يجد إلا قوت يومين أو ثلاثة، وربما لا يفكر في المستقبل إلا قليلاً، فهذا هو الذي يهم أسباب القوة والرخاء فتجده يفكر الليل والنهار، مع أن رصيده مضمون له، ومع أن الدولة تعطي مأوى للعجزة، ومع ذلك كله لا راحة ولا طمأنينة أبداً، فهو يلهث ليل نهار مهما كان لديه من شركات ومؤسسات فإنه يخاف المستقبل، فهاتفه يجلب عليه ضيق، فيأتيه عن طريقه فقط خمسة أعمال وهموم في وقت واحد، كما نجده عند أغنيائنا الكبار أيضاً. تفكيره وهمومه الدولار أو الجنيه انخفض أو ارتفع، وهل زاد التأمين أم انخفض؟! فهو مشغول العقل ليلاً ونهاراً من أجل هذه الدنيا، ومع ذلك: إن جالسته تجده مهموماً مغموماً يخاف من المستقبل ويفكر في الانهيار والخسارة أكثر مما يفكر بها الإنسان العادي، حتى أن نسبة الانتحار في العالم الغربي، وكذلك مع الأسف في العالم الشرقي والعالم الإسلامي عالية جداً، وأيضاً يزداد التفكك في الأسرة، شيء عجيب جداً يعيشه هذا العالم البعيد عن دين الله، وعن الإيمان به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. النكد مرسوم على ملامحهم، والحياة الشقية مرسومة على وجوههم، فيهربون ويلجئون منها إلى المخدرات، فلا يجدون فيها إلا الوبال، فيهربون منها إلى الشهوات المحرمة، فظهرت لهم هذه الأوبئة التي حجزتهم وحرمتهم عن هذه الشهوات وهذه المتع، فأين يذهب هؤلاء الناس؟! أين يذهبون؟! أما نحن المسلمين فإننا نعرف قوله تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وقوله: {لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] ولكن! هم والله لا يدرون؛ ولذلك فهم يحارون ويحارون! فيعلقون الآمال على ما عندهم من العلم كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] فالأوبئة تعالج بأن العلم سيكتشف لها مضادات؛ والانهيار الاقتصادي أو الخوف الاقتصادي يعالج بالخطط طويلة المدى؛ والخوف المستقبلي يعالج بأن الحياة مضمونة ومكفولة وكذا وكذا، كل ذلك ضمن النظرة المادية القاصرة. مثله كمثل المسجون في قفص؛ فكل مرة يفكر ويحلم بأن القفص سوف يتسع فيطير وهو مرتاح، وما درى أنه لن يتسع أبداً؛ وإنما لا حل له إلا أن يخرج من ذلك القفص، ولن يخرج من قفص الدنيا ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة إلا الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

السبب في عدم نزول عقاب الله على دول الكفر

السبب في عدم نزول عقاب الله على دول الكفر يتساءل أحدنا -وهو سؤال مهم-: لماذا لم يعجل الله العقوبة لهذه الأمم وهو قادر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأسباب الانهيار موجودة فيهم والكفر والإلحاد -أيضاً- موجود؟ و A يجب أن نعلم أولاً: هل قامت الحجة على هذه الأمم؟ ومن الذي دعاهم؟ فإن دعوا إلى الحق ورفضوه استحقوا العقوبة من عند الله أو بأيدي المؤمنين، لكننا نحن المسلمين ببعدنا عن الله عز وجل نسهم في بقاء هذه الأمم الكافرة قوية ومسيطرة؛ لأننا لم نقم حجة الله عليها حتى ينزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عذابه عليها. فالله تعالى جعل سنناً لكل شيء، فيعدل بعضها ببعض، ويولي بها بعض الظالمين بعضاً، لكن لو أننا أقمنا حجة الله عليهم لنصرنا الله عليهم، أو لأهلكهم بعذاب من عنده كما يشاء، ولكننا تبعاً لهم، فنحن نردد ما يقولون، ونؤمن بما يقولون، ونسعى إلى أن نكون مثلهم في التقدم والرخاء والمدنية والحضارة، إذاً كيف نرجو النصر والفلاح ونظرتنا هكذا؟! ونحن الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] لكننا نقول: نريد أن نلتحق بركبهم ويكفينا ذلك كما يردد البعض، والله تعالى يقول: {مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] فنحن عندما نقول ذلك، وعندما تكون غايتنا أن نكون في الذيل؛ فلن يجعلنا الله قادةً أبداً.

تحمل هذه الأمة لمسئولية نشر الإسلام

تحمل هذه الأمة لمسئولية نشر الإسلام كيف تكون حياتنا مطمئنة وسعيدة؟ وكيف نقضي -أيضاً- على الكفر والشرك والشر والضلال في العالم؟ نحن الذين أخرجنا للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر فنحن مسئولون عن المظالم التي تقع، وحتى عن الفجور والشرور الذي يقع من الكفار في بلادهم. فهذه تعتبر مسئولية على المسلمين؛ لأنهم هم الذين يملكون كلمة الله التي لم تحرف وتبدل، وماذا نصنع في ظل العالم الذي أصبح كالقرية، فتظهر الفكرة الخبيثة في الغرب في المساء وتصبح عندنا، وفي هذا العصر من غير المستطاع أن تعيش أمةٌ بمعزل عن العالم، ولهذا لابد أن نواجه هذا الواقع بهذا الإيمان القوي الصحيح، ولعل في ذلك حكمة وهي: أننا عندما نواجه هذا الواقع وقد ذقنا الأمرين منه، فإن ذلك يكون بداية لأن يصل هذا الدين وينتشر في الدنيا كلها، وأن {يبلغ ما بلغ الليل والنهار} كما ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذاً فمن أين يبدأ العلاج؟ إنه يبدأ من ذواتنا ومن أنفسنا، وهذه ميزة عظمى في هذا الدين المنزل من عند رب العالمين وهي أن الإصلاح يبدأ من الفرد، فليس هناك قبل ذلك شيء، فكل إنسان يجب أن يصلح نفسه ويتزود من الإيمان بالله إيماناً حقيقياً بالتمسك بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالدعوة إلى الله على منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعلم أنه سوف يموت ويقبر ويبعث يوم القيامة فرداً، وسوف يحاسب على كل شيء، فليس هناك حساب جماعي أو أن العقوبة تكون جماعية؛ لأن المسئولية في الأصل هي على كل إنسان، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد حدد في آيات كثيرة أن المسئولية فردية.

كيف نحقق النصر؟ وما هي أسبابه

كيف نحقق النصر؟ وما هي أسبابه من حكمته عز وجل ورحمته: أن الأفراد مهما قل عددهم إذا قاموا بدين الله وعلى منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأظهروه ودعوا إليه؛ فإن الله عز وجل قد ضمن لهم وتكفل لهم بالنصر، ذلك نصرٌ لا يمكن لأحد أن يحول بينهم وبينه، بشرط أن تكون الغاية هي ما عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. وإن من الأخطاء الكبيرة التي يحملها أصحاب الدعوات الإسلامية: أن يكون هدفها وغايتها قيام دولة الإسلام والخلافة الإسلامية التي تتمكن على العالم؛ حقاً أن المسلمين يجب أن يكون لهم خلافة، ويجب أن يكونوا هم المتمكنين في الأرض وليس في ذلك شك؛ لكن يجب ألا تكون هدفاً وغاية، وإلا فسدت النية، وهذه من ضمن المسائل التي يتحقق بها وعد الله عز وجل، فإذا فسدت النية؛ لم يتحقق النصر، لكن إذا كان الهدف هو الله والدار الآخرة، وأن ينجي الإنسان نفسه من عذاب الله سواء مات الآن أم مات بعد حين، وسواء تحقق النصر على يديه أو لم يتحقق؛ فهو في كل الحالات منتصر إذا استقام على التوحيد والإيمان، فأنبياء الله ورسله -مثلاً- الذين لم يتبعهم أحد كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط -أو الرهيط- والنبي وليس معه أحد} هم لم يخسروا شيئاً، انتصروا؛ بل لأنهم حققوا ما أمر الله به، ودعوا إليه، هذا هو واجبهم، فإذا لم يستجب لهم أحد فليس ذلك عليهم، بل هو لله وحده. لذلك فإن الذي يريد الدار الآخرة، والذي يريد أن ينصره الله في هذه الدنيا، فعليه: أولاً: أن يحقق حقيقة الإيمان، ويبدأ بإنقاذ نفسه من المعصية والقيام بطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثانياً: أن يحرر رغباته من حب الدنيا والتعلق بشهواتها ومناصبها إلى الدار الآخرة، وليكن رجاؤه عند الله ورغبته فيما عن الله تبارك وتعالى. فالأنصار -مثلاً- بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ماذا؟ وماذا كفل لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ كفل لهم الجنة كما في الحديث: {قالوا: وما لنا يا رسول الله؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل} لكن نحن عندما عظمت عندنا الدنيا؛ هانت عندنا الجنة، فمن الآن يحدثنا عن الجنة؟ ومن منا يتذكر نعيم الجنة؟ لقد شغلنا بزخرف الحياة الدنيا، التي {لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء} وكما جاء في الحديث {مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه جمع من أصحابه بجدي أسك ميت، فأخذه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأذنه وقال: من يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: يا رسول الله! لو كان حياً ما اشتراه أحد؛ لأنه أسك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم} وما قيمة الدنيا إذا تجردت عن الإيمان بالله إلا كجيفة فلتكن حضارات، أو صناعات، أو قصوراً، أو ملكاً عظيماً، لكنها إذا تجردت عن الإيمان بالله فإنها جيفة، لكن إذا ارتبط ذلك بالإيمان بالله فإنها تتحول إلى الحياة الطيبة، فإنه لم يقل: بكثرة المال، لأنها للكفار وهم أشد الناس وأكثرهم عقاباً وعذاباً قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] وأما للمؤمنين فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف:96] فلم يقل كل شيء؛ وإنما قال: (بركات من السماء والأرض) فهي بركة وإن كانت قليلة وإن قل الراتب، مثلاً أو قلت الوظيفة ففيهما بركة، فهذه الحقيقة التي يجب أن تكون في حسنا وفي إيماننا وشعورنا. إن إنقاذ قيادة أمتنا لا تكون إلا بذلك، وإنقاذ هذا العالم الذي يتردى في الظلام والكفر والإلحاد والظلم والفساد، وتفتك به الأمراض القلبية، والأمراض الاجتماعية والنفسية، لا علاج لذلك كله؛ إلا بالإيمان الصادق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن يصبح الإنسان وهمه الدار الآخرة، وأن يمسي وهمه الآخرة، ولو أن الأمة وصلت لهذه الحقيقة لتغيرت نظرتها إلى كل شيء، ولكن كيف ننظر نظرة سليمة ونحن نعظم الدنيا، وننسى الآخرة، ونحسب حساب كل شيء بالمعيار وبالميزان الاقتصادي والمادي، حتى العلاقات بين الأسر أصبحت تقاس بالمادة، فالعرض والشرف هو أغلى شيء كان يملكه الإنسان في جاهليته، وهو أغلى شيء في دينه أيضاً بعد إسلامه، أما الآن أصبح كل شيء يقاس بالمادة، أصبح الإنسان يرضى أن يدنس عرضه ويعرضه للشرور من أجل دراهم معدودة. إذاً، سخرنا كل شيء من أجل المادة، وشغلنا بعيوب الناس وننتظر إصلاح نفوسهم، فكأن صلاحنا مرهون بصلاحهم، فأصبح كلامنا عن الناس هو حالنا؛ لكن كم منا من يتكلم عن نفسه؟! ومن منا من يحاسب نفسه؟! ومن منا من ينظر إلى ذنوبه وإلى عيوبه؟! وأقل من ذلك، من منا الذي إذا أهدي إليه عيب من عيوبه فرح وحمد الله تعالى وشكر له وشكر صاحب الهدية؟! ومن منا الذي إذا أرشده إنسان إلى سنة من سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتركها يفرح، ويستبشر أنه عرف السنة وترك البدعة؟! فكيف مع هذا نرجو أن يغير الله ما بنا من حال! والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] لا يمكن أبداً، فلن يجاملنا الله عز وجل لأننا ندعي أننا مسلمون أو أننا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا إنما هو حق وإيمان ودين فما دان الله عز وجل وما حابى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما عصوا أو وقع من البعض الانحراف في مراحل معينة في أُحد -مثلاً- وفي يوم حنين وفي غيرها أبداً! فالله غني عن العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإذا أن ننقذ أنفسنا وأردنا أن نفوز برضا الله عز وجل وبسعادة الدارين فهذا هو المنطلق. فالواجب علينا دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة، والإيمان الصحيح، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنها ليست مجرد آراء، ولا تعصب لأشخاص، ولا انتماء لطائفة من المسلمين قديماً أو حديثاً؛ لكنها المفتاح والطريق والمخْلَص والمنقذ الوحيد. نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا جميعاً وأمتنا كلها للعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتمسك بهداه إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

الحداثة وخطرها على المؤمن

الحداثة وخطرها على المؤمن Q أرجو أن توضح لنا ما معنى الحداثة وما هي خطورتها على الإيمان وعلى المؤمنين؟ A الوقت يضيق عن توضيح هذه الفكرة أو الحديث عنها، ولكن لنربطها بموضوعنا السابق من جهتين: أولاً: من جهة الغرب الذي نشأت فيه هذه الأفكار: فإنه ما نشأت فيه إلا لأنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فهذه إحدى الصرعات والموضات والموجات الفكرية الوبائية التي اجتاحت الغرب والتي يشكو منها المفكرون الأوروبيون الذين يخافون على بلادهم، فيتخوفون من الحداثة وأشباهها على مجتمعهم؛ لأنها ليست لغة ولا أدب، وهذه معلومة يجب أن يعرفها الجميع، فـ الحداثة اتجاه كامل في الحياة، أي: نظرة كاملة إلى الحياة، وهناك كتاب مطبوع بعنوان: ما الحداثة؟ تأليف رجل فرنسي اسمه جنرلي ليسيفر وملخص ما ذكر فيه: ' إن الحداثة هي إشعال الثورة، أو القيام بالثورة، أو تحقيق الثورة الغائبة هنا؛ وغير المكتملة هناك " ما معنى هذا الكلام؟ هذا الكاتب في باريس يكتب ويقول: " > الحداثة هي تحقيق الثورة الغائبة " هنا أي غائبة في باريس غائبة لماذا؟ لأن باريس ليست شيوعية -كما تعلمون- فـ الحزب الاشتراكي يمتلك نصف المقاعد في فرنسا، والشيوعيون يمتلكون بعض المقاعد، ويريدون أن يسيطروا على فرنسا، فالصورة الغائبة في فرنسا فهي غائبة فيها لعدم تحققها، وغير المكتملة هناك أي (في موسكو) لأنهم يعتبرون أن موسكو التي هي رمز الشيوعية ثورتها ناقصة غير مكتملة، لماذا؟ لأن المرحلة التي كتب عنها ماركس لم تتحقق بعد. وألخص هذا مما قاله زعيم الحداثة أو مؤسسها في العالم العربي وهو النصيري أبي يوسف يقول: إنها الثورة ضد المجتمع والدين والأسرة والأخلاق، لابد أيضاً من ثورة في الأدب ضد الأدب، وفي المسرح ضد المسرح؛ وثورة في اللغة ضد اللغة، وثورة ضد الدين، المهم ضد كل شيء. لأن ماركس أصلاً عندما وضع الشيوعية في القرن الماضي يقول: الشيوعية تمر بمراحل: المرحلة الموجودة الآن في العالم هي تطبيق لمرحلة ما قبل النهاية بالنسبة للشيوعية، والمرحلة التي هي ما قبل النهاية هي أن تسيطر البرولتاريا أو الطبقة الكادحة العاملة وتحكم، وهذه مرحلة، وأما مرحلة ما بعد البرولتاريا فهي مرحلة ألا دولة، وألا سلطة على الإطلاق، وهذه المرحلة لم تصل إليها روسيا، ولهذا ليسيفر يقول: 'الثورة الواقعة غير مكتملة في موسكو، لأنها لم تأتِ بعد مرحلة ألا دولة وألا سلطة وهي كذلك، مفقودة في باريس ' فأي مصيبة يريد هؤلاء الناس أن يوصلونا إليها، فإذا كانت باريس لا شيء وموسكو ناقصة؛ فمن أين يأتي هذا الكمال؟ إنه أمر خطير ومع ذلك أقول: ما هي إلا موضة من موضات كثيرة، وما هي إلا أسلوب من أساليب كثيرة لهدم هذا الدين، ولهدم هذه الأمة ولتمزيقها، وتحتاج منا إلى مقاومة وهذه المقاومة موجودة في الشرق والغرب، وأما المجتمعات الإسلامية إذا كانت مجتمعات إسلامية حقة فلن تجد هذه الموضات ولا ما أشبهها موضع قدم فيها، وهل يوجد شاب مؤمن مسلم يقيم صلاته ودينه يمكن أن يتأثر بهذه الأفكار! لا يمكن أبداً. فالوقاية منها ليست وقاية من هذه المشكلة الخبيثة فقط، بل إن الوقاية من كل مشكلة ومن كل خطر وغزو في أن نربي مجتمعنا على الإيمان الصحيح والعقيدة الصحيحة والكتاب والسنة، وحينئذ نبحث في هذه الأفكار. أتدرون أن من جماعات الحداثة في باريس وهي أكبر مركز في الحداثة: جمعية الضفادع! وهم شباب متخنفسون يهملون شعورهم ويعيشون في حالة مزرية، وينسبون أنفسهم لجمعية الضفادع!! ويقابلهم جمعية أخرى اسمها جمعية الخنازير كذلك يعيشون في حالة سيئة جداً يتسكعون في الشوارع، ويتعاطون المخدرات، وينامون على الأرصفة، هذه من شيم الحداثة في باريس وأمثالها، وهذه هي الحالة التي وصلوا إليها! فهل يمكن أن يفكر مؤمن أن يكون في هذه الحال يوم من الأيام عياذاً بالله، لا يمكن فإذاً مع خواء الإيمان تقع أمثال هذه الأمور، ومع ضعف العقيدة ومع عدم وضوحها لكن مع وجود العقيدة الصحيحة ومع عرض كل شيء على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن هذا لا يقع، العامي لا يقبل هذا الكلام مهما كان الأمر؛ لأن النظرة لديه أن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هما المرجع، لكن الشباب الذين تأثروا بها هم الذين يريدونها إباحية انحلالية، كما قال قائلهم: أرضنا الجيد غارقة بالظلام طوّق الليل أرجاءها وكساها بعسجده الهاشمي فدانت لعاداته معبدا وهذا الكلام له مدلول خطير، وقوله (بعسجده) لعله حرفها أو الناسخ وإلا فهو بمسجده، والعسجد هو الذهب، والهاشمي الذي جعل الجزيرة للعرب مسجداً ودانت له وللناس معبداً هو بلا شك الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهؤلاء الذين تدرجوا في الفسوق والدعوات الهدامة، من مساواة المرأة بالرجل ثم إلى السفور حتى الأقنعة التي ترتديها النساء هي دخيلة عليها، ويقولون على من تفسخ أخلاقياً: إنه متحرر ومنطلق، فليقل ما شاء، وليفعل ما يحلو له، فيريدون أن تكون محتمعاتهم مجتمعات إباحية مطلقة، لا يريدون سلطة على الإطلاق، لا دين ولا أخلاق ولا رقابة، ورمز هذه الرقابة هي الحدود والقبيلة والأعراف القبلية والعيب والحرام، ورمز هذه الرقابة هم رجال الجوازات ورجال الجمارك، فتدخل الأفلام إلى البلاد من الخارج تحت رقابة رجال الجوازات ورجال الجمارك، وكذلك الكتب الشيعية كذلك فمن الذي يستقبلها؟ إنهم رجال الجوازات ورجال الجمارك، فهم يريدونها إباحية مطلقة، وهذا لن يتحقق أبداً لأن هذه موجة شيطانية ستضمحل بإذن الله، لكن لابد أن نقاومها، فلا نقاومها بالاسم فقط، بل نحاربها ونرد عليها أو نكتب عنها ونقاومها كل المقاومة وبكل فكرة؛ كتربية أنفسنا على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن خلال وسائل إعلامنا، ومن منابر الخطب والمحاضرات في المساجد، ومن خلال التأليف، ومن كل مكان، فكلنا على ثغرة، ولعل الله أن ينصر هذا الدين بنا، فإذا كنا كذلك فمهما هبت رياح فإنها لن تؤثر بإذن الله على هذه القلعة الحصينة. وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبقيها كذلك بإذنه تعالى.

السعادة معنوية أكثر منها حسية

السعادة معنوية أكثر منها حسية Q قال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] وقلت معلقاً على هذه الآية: إن الإنسان بقدر معاصيه سوف يشقى في هذه الدنيا، فهل إذا رأينا أي شخص غير سعيد في حياته نقول: إن هذا من معصيته لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع العلم أن الله قد يختبر عباده ليعلم الصابرين، فكيف نفرق بين هاتين المسألتين؟ A الكلام عن حقيقة الشقاء وحقيقة النكد لا ننظر إليها النظرة الظاهرية، ولكن ننظر إليها من خلال النظرة الحقيقية، إن المؤمن بالله حق الإيمان لو ذهب بصره أو ذهبت نفسه أو أمواله أو أولاده فهو مطمئن وسعيد؛ لأنه يرضى بقضاء الله عز وجل، ويعلم أن هذا ابتلاء، وأن الله تعالى سيعوضه خيراً منها، وأنه يجب عليه أن يصبر وأن ما قدر الله فهو كائن مهما كان محتاطاً، فالمؤمن مطمئن، والإنسان المؤمن إيماناً حقيقياً وهو فقير مدقع بحالة يرثى لها ومع ذلك تجد كلمته وحاله يقول: الحمد لله على كل حال، وهذا من فضل الله، ونحمد الله، ونحن خير من غيرنا، كما أمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله} فهو سعيد مطمئن؛ وإن كان ظاهره أمام الناس في الشقاء، فهو يعلم أنه إن كان صرف عنه الناس ففيه خير {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] وهذه الآية من قواعد المؤمن، فالصبر والثقة في الله عز وجل واحتساب البلوى عند الله طمأنينة تعوض الإنسان، ولا يجدها الكافر أبداً ولا يشعر بها لأنه فاقد لهذه النعمة. وكم من الناس اهتدى إلى الإيمان لما أصيب بمصيبة أو بمرض، وكم من الناس أصابته نكبة مالية فكانت سبباً في ثرائه فيما بعد، وكم من إنسان طرد من وظيفته فكان ذلك فتحاً له في عمل آخر يدر له الخير، وكم وكم من الواقع، فكيف بحال من يؤمن بالله وبما أعد الله وادخر له في الدار الآخرة، فهذه هي حقيقة الشقاء، كما أن تلك حقيقة السعادة، وأما الكافر فمهما بلغ من الثراء فهو نكد شقي يائس قانط لا يطمئن أبداً، لأن القلب لا يطمئن أبداً إلا بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] هذا للحصر، وفي غير ذكر الله عز وجل لا يتم إلا الشقاء.

أثر الفرد في بناء الأمة

أثر الفرد في بناء الأمة Q قلت في كلامك: إن الأساس في الأمة هو الفرد، وإذا صلح الفرد صلحت الأمة، وبالمقابل فالفرد عندما يخطئ يقول: أنا فرد ولن يؤثر خطئي هذا في هذا الخضم من البشر، فكيف نوفق بين هذين القولين؟ A أضرب مثلاً على ذلك، يقال: إن أحد الملوك كان له وزيراً فطناً وكان يقول: الرعية فيها من يحبك، وفيها من يذمك، والملك يصر على أن الرعية ليست كذلك، ويظن أن كلهم على الصدق والإخلاص والوفاء له، وليس فيهم غشاش أو كذاب، والوزير يقول: أنا أعلم بالناس منك، وإذا أردت أن نختبر الناس حتى تعلم حقيقتهم، فافعل، ثم اتفقا أن يبني الملك قصراً ضخماً من جميع الجوانب، ويجعل فيه بركة وهذه البركة يريد الملك أن يجعلها من اللبن، ثم أصدر أمره إلى الناس جميعاً بأنه إذا رجع الناس من المرعى بالمواشي، أن يأتي كل منهم بإناء كبير من اللبن ويصبه في البركة، حتى لا يطلع الصباح إلا وهي ملأى، لكي يتنعم الملك ويتمتع بالنظر إليها، ففعل ذلك الاختبار، وحين عاد الناس في الليل بالمواشي، قال كل واحد منهم: لو وضعت ماءً فإنه لا يضير إناء ماء في بركة من اللبن، ولن ينتبه أحد؛ لأنه يمشي في الظلام، وقد تعمد الملك أن يكون ذلك ليلاً، فجاء الملك في الصباح؛ فوجدها قد امتلأت بالماء. وهذه حالنا نحن المسلمين، وهذه المسألة -مع الأسف- واقعة في حياتنا، فإننا نسمع المحاضر يقول: شركات التدخين شركات يهودية وشركات نصرانية تحارب الإسلام وتفعل وتفعل، فتجمع ملايين الريالات من العالم الإسلامي لكي تحارب بها المسلمين، فيقول: الباكت بخمسة ريالات، وماذا تعمل لليهود والنصارى، فمثلاً لو اشترينا مليون (باكت) في جدة ومليون (باكت) في القاهرة ومليون في كذا ومليون في العالم الإسلامي، لاجتمع لليهود في ذلك اليوم ملايين من أجل (باكت)، وكذلك المجلات الخبيثة التي توزع على المكتبات بسعر الجملة (ثمانية ريالات) تقول له: لا تشتريها لأنك تساعد على نشر هذه المجلة الخبيثة، فيقول: ماذا يفيد! عدد واحد أشتريه من هذه المجلة! وكذلك آخرون، فإذا بصاحب المكتبة لم يبق عنده شيء منها. فاشتريناها وروجناها، فكل واحد نظرته نفس النظرة، أنه ماذا يفرق ريال واحد، وماذا يفرق عدد واحد، وماذا يفرق باكت واحد وهذه مشكلتنا. إذاً الإصلاح أولاً: يبدأ من الفرد، فإصلاح الأمم يبدأ من إصلاح الأشخاص، وكل منا على ثغرة، وكل إنسان عليه أن يتقي الله في عمله، فإذا أخذت الرشوة؛ انتشرت الرشوة بين الموظفين، وإذا قلت للناس: الأمانة ضعفت؛ وأمانتي أنا ضعيفة والناس كلهم يكذبون وأنا أكذب، وإذا قلت: إن الناس في غيبة ونميمة وفي حسد ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأنا واقع في نفس الشيء، فهو يريد أن يصلح غيره، وهو يسير كما يحب وكما تحب شهواته، لكن لا فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خاطب الإنسان، وخاطب نفسه ويبين له علاجها وأنه سيحاسبها منفردة، فإذا أنا أصلحت نفسي ونصحت غيري، وإذا كل واحد أصلح نفسه ونصح غيره؛ صلحت الأمة بإذن الله، ولكن إذا دعوت الأمة إلى الصلاح مهما دعوت، ولم أصلح نفسي، فإنه لن يستجيب الناس ولن يكون أثرها الصحيح أبداً.

حب الدنيا معناه وضعها في القلب لا في اليد

حب الدنيا معناه وضعها في القلب لا في اليد Q تكلمت عن حب الدنيا، وأنه من الأسباب التي أدت إلى تردي الأمة، فما هو السبيل لنزع حب الدنيا من قلوبنا، مع العلم أننا نعيش اليوم في دوامة العمل ومتطلبات الحياة؟ A لا شك أننا جميعاً نعاني من ذلك، ونسأل الله أن يعيننا، فكم نعايش ونكابد الحياة وقد كابدها قبلنا أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكانوا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وكما تعلمون قصة عمر رضي الله عنه أنه كان يرسل رجلاً من الأنصار يستمع حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يعود في آخر اليوم ليجلس وليسمع، فهذه المعاناة عاناها أفضل جيل؛ ومع ذلك كان همهم الآخرة. فالعلاج أن ننزع من قلوبنا حب الدنيا وتعظيمها ونجعل بدلاً من ذلك تعظيم الآخرة، فلا أقول: نترك أعمالنا، ولا أقول لا نحرص على الربح الحلال، ولا أقول: لا نتمتع بما أحل الله لنا من الطيبات وبما أعطانا الله من الرزق أبداً، لكن نقول: نخرجها من قلوبنا وليس من أيدينا، وأما التخلي الذي فهمه الصوفية الضلال بالتخلي عن الدنيا، أن يعيش الإنسان فقيراً لا يملك شيئاً فليس هذا هو الخروج من الدنيا، إذاً لكان فقراء الهند من البوذيين من أسعد خلق الله عند الله عز وجل، لكن! لا. فالزهد الحقيقي والرغبة الحقيقية في الآخرة؛ وقد تكون مع وجود المال، ومن وجد مالاً فإنه يمسكه في يده لا في قلبه. كما قال الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل: أيكون الرجل زاهداً وعنده ألف دينار أو عشرة آلاف دينار، فقال: نعم إذا كانت في يده وليست في قلبه فهو زاهد" وقد كان الصحابة رضي الله عنهم منهم الأغنياء كـ عثمان والزبير مع أنهما من أزهد الناس، فهذا هو المقصود، فإذا لم يتعلق القلب بها، ولم يحملك حب الدنيا على أن تعصي الله -وكم من المسلمين من يفعل ذلك- ولم يحملك حب الدنيا على أن توالي أعداء الله -وكم من المسلمين من قد يعادي أهل الخير ويحب أهل الكفر وأهل الفجور من أجل دنياه والعياذ بالله- فإذا كان الحال كذلك فإنه لا يضير كون الإنسان يملك مالاً كثيراً. ونسأل الله أن يوفقنا لمرضاته.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه Q هل الإيمان يزيد وينقص؟ A نعم! لا شك أن الإيمان يزيد وينقص كما أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن عن زيادة الإيمان، فقال: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] وغير ذلك مما هو معلوم لدى الجميع. والنقص أيضاً فلا شيء يزيد إلا وهو ينقص، وقد نص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثه عن النساء: أنهن ناقصات عقل ودين، وفي خبره عن ذلك قوله: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي اللب من إحداكن} فهذا دليل على نقص الدين. ويدل عليه أيضاً أن الناس يوم القيامة متفاوتين بحسب أعمالهم عند الله، فمن الناس من تكون حسناته كالجبال ومنهم من يدخلون النار لضعف إيمانهم؛ ثم يخرجهم الله من النار بحسب درجاتهم في الإيمان؛ وآخر من يخرج من النار هم الفئات التي هي أقل الناس إيماناً، فيأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويأذن بأن يُشفع لهم، فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة؛ ثم مثقال ذرة، ثم أدنى أدنى مثقال ذرة. فهناك درجات من الإيمان، فبعض الناس إيمانه كأدنى أدنى مثقال ذرة، وبعض الناس إيمانه كمثقال الذرة، بعض الناس إيمانه كالشعيرة، وبعض الناس إيمانه كالجبال، وأعظم الإيمان ما كان كإيمان عمر رضي الله عنه لما أول له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا عندما رآه أنه يلبس ثوباً طويلاً واسعاً، فأوله أنه الدين والإيمان، وكما كان إيمان أبي بكر رضي الله عنه الذي لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح بهم. وهكذا، فإن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت وحسبكم أن تعلموا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فهذه الشعب من حقق أربعين شعبة منها ليس كمن حقق ثلاثين، وأعظم منه من حقق منها خمسين وهكذا، وقد يجتمع عند الإنسان تحقيق شعب ونقص في أخرى، فمن كمل في الشعب فقد بلغ درجة الإحسان التي هي أعلى الدرجات، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم من المقبولين.

الرد على قول الصوفية (أن حياة القبور تشابه الحياة المعتادة على الأرض)

الرد على قول الصوفية (أن حياة القبور تشابه الحياة المعتادة على الأرض) Q في قصة الإسراء والمعراج ورد أن رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام في السماء؛ وهذا استغله بعض الصوفية أو بعض الفرق المنحرفة في إثبات أن هناك حياة في القبور، وأنها تشابه الحياة المعتادة على الأرض، فكيف يمكن التوفيق والرد؟ A هؤلاء الذين يعبدون الأموات، ويدعونهم من دون الله شبهاتهم كثيرة، ونحن قبل أن نرد على شبهاتهم نسألهم على أي أساس بنيتم ذلك؟! وهذا كتاب الله بين أيدينا، ففي أي آية منه أجاز الله أن نعبد غيره؟! وأن ندعو غير الله نبياً أو ولياً كائناً من كان؟ وهل في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيحة الثابتة شيء من ذلك؟! لا بل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نزه الأنبياء وبرأهم مما افترت عليهم أمتهم فقال سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:79] سبحان الله! {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] والأنبياء أنفسهم كانوا يخافون من الشرك {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] فالأنبياء يخافون على أنفسهم من الشرك، ويحاربونه، وما كان أبداً لأحد منهم أن يدعو إلى الشرك، أو يقره، فكيف يأتي هؤلاء ويقولون: ندعوهم ونستغيث بهم ونتوسل بهم إلى الله لأنهم أحياء؟! وإذا كانوا أحياءً! فهل عبدو في الدنيا وهم أحياء حياة حقيقية، وهل أجاز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحد أن يعبده وأن يدعوه -عياذاً بالله من ذلك- فلما قالوا: ما شاء الله وشئت، قال: {أجعلتموني لله ندا ً!} فهذا أمر عظيم، فما أقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما رضي بهذا العطف؛ لأن الندية معناها الشرك ومع ذلك يقولون: ندعوهم؛ لأنهم أحياء في قبورهم. والإنسان في الدنيا يستطيع أن يكسب مزيداً من الحسنات لنفسه أو أن يحسن للناس إذا كان يملك شيئاً؛ ومع ذلك نفى الله عز وجل أن أحداً من الناس يملك لنفسه شيئاً إلا ما شاء الله، فكيف إذا مات؛ فإنه أحوج ما يكون إلى ربه عز وجل، فكيف يصبح يعطي وينفع ويضر ويدعى ويستغاث به! بلى إذا كان يتخلى أولوا العزم من الرسل عن أمته ويقول كل منهم: (نفسي نفسي)، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده فقط الذي يأذن له ربه بالشفاعة الكبرى، فهؤلاء أولوا العزم لا يملكون للناس شيئاً، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً يوم القيامة عند الله، فكيف يملك ذلك البدوي وعبد القادر الجيلاني وغيرهما! مع أنهم ليسوا أولياء في الحقيقة، وليسوا أفضل من الأنبياء -بأي حال من الأحوال- مهما كانت ولايتهم، فهذه شبهات فقط يزينها الشيطان لعباد القبور والأموات حتى لو كانوا أحياء عند الله، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الشهداء أنهم أحياء عنده فقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] فالشهداء أحياء، والأنبياء حياتهم -بلا شك- أكمل من حياة الشهداء، فهل ندعو الشهداء ونستغيث بهم، أو نستغيث بالأنبياء؟! نحن لا ندري ما حال الشهداء عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما الأنبياء فإنهم كما أخبر عنهم ربهم تبارك وتعالى قائلاً {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فهم أنفسهم كانوا يرجون رحمة الله ويخشون عذابه، وهم كما قال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الرعد:16] فكيف يملكونه لغيرهم من الناس؛ لا يمكن ذلك أبداً! فهذه الحقائق لمن يريد أن يناقش هذه الأفكار الضالة من صوفية وغيرها، فيعرض هذه الشبهات على هذه الحقائق الناصعة الجلية، نعم: نستطيع أن نرد ردوداً تفصيلية على كل قضية؛ لكن نعرضها على الأصول الجلية الواضحة؛ لتذهب هذه الشبهات، وإلا فلا بد أنه سيأتي بشبهات كما أتى بها المشركون من قبل، قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وقد كان المشركون يقولون في تطوافهم حول البيت الحرام: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فهذه هي تلبية المشركين (تملكه وما ملك) وإذا سئلوا: كيف تدعون اللات والعزى، ووداً وسواعاً ويغوث من دون الله؟ قالوا: نحن ما ندعوهم لأنهم يملكون شيئاً من دون الله؟ لكن هم يقربونا إلى الله، فهم شفعاؤنا عند الله، وهذا صريح في القرآن، وإذا سألت أحداً ممن يدعو نبياً أو ولياً، فإنه يقول: أنا لا أعبد غير الله ولا أدعو الولي بأنه إله، وأنا أدري أن الله هو الذي يملك كل شيء إلا أنني أدعو الولي؛ لأنه هو الواسطة بيني وبين الله، فنقول: هذه هي تلبية أهل الجاهلية (تملكه وما ملك) فأهل الجاهلية ما قالوا: إن آلهتهم تملك كل شيء! فهذا هو الشرك، ولكن شياطين الإنس والجن لبسوا عليهم دينهم ليصدوهم عن التوحيد، نسأل الله أن يكف عنا شرهم.

هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه

هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه Q ما هو القول الفصل في رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه في المنام؛ ثم في حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {رأيت ربي في أحسن صورة}؟ A أما بالنسبة لرؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه، فالراجح هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وهي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير ربه، كما في حديث أبي ذر {هل رأيت ربك فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نور أنى أراه} وقال: {حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهو لم ير ربه عز وجل، وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [[ثلاث من قالهن فقد أعظم على الله الفرية: ومنها من قال: إن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية]]. وأما القول المخالف، وهو ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه رآه، فقد ورد مقيداً عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: [[رآه بفؤاده مرتين]] وابن عباس رضي الله تعالى عنه ما دام أنه قد ورد عنه ذلك التقييد، فإذاً نقيد ما أطلق من أنه يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه، فقوله وقول من قال بقوله إما أن يكون اجتهاداً وهو خطأ غير صواب، أي أن له أجر الاجتهاد وليس أجر الصواب، أو أن نقول: إنه رضي الله عنه قيد ذلك وهو الأولى والأرجح بالفؤاد، فلا يكون هناك خلاف ولا منافاة بين أقول الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في ذلك. أما بالنسبة لحديث الصورة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه في أحسن صورة في المنام، فإذا نظرنا لكلام ابن عباس إلى أنه رأى ربه بفؤاده مرتين فنستطيع أن نقول: إن هذه هي إحدى الرؤيتين، رآه في الأرض لما كان في المنام، ورآه أيضاً بقلبه (بفؤاده) لما أسري به، فحدث للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤيتان قلبيتان. وموسى عليه السلام هو كليم الله، ومن أولي العزم، ونعلم منزلته وفضله، وقد سأل الله عز وجل الرؤيه، فقال سأريك نفسي في المنام، أما اليقظة فمعلوم أنه محال ذلك ولن يتحقق. فإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بفؤاده مرتين، وموسى عليه السلام لم يره لا في اليقظة ولا في المنام، فمن من الأقطاب يدعي أنه يراه في الدنيا؟! وأي إنسان هو أفضل من موسى أو أفضل من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ولهذا من قال: إنه يرى الله في الدنيا، ومن زعم ذلك فقد كذب، وهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإسلام، وإذا أصر على ذلك بعد قيام الحجة، فإنه يعزر ولو بالقتل كما نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وغيره، وكما ثبت في الحديث {إن الشيطان يضع عرشه على الماء} ويلبس على هؤلاء، بأن يريهم نفسه ويريهم عرشه، ويقول: أنا الله وهذا العرش حتى أن الصوفية عندهم أحد الأولياء سموه فلان العرشي، لأنه دائماً تحت العرش، ويخاطب الله من تحت العرش، وهذا هو عرش إبليس.

حاجة الصحوة إلى الرعاية

حاجة الصحوة إلى الرعاية Q يقول: الصحوة الإسلامية حقيقة تشهدها معظم البلاد الإسلامية، وهي تحتاج إلى الرعاية والتوجيه، فهل تعتقدون أن هذه الصحوة، تلقى ما تستحق أن تلقاه من التوجيه والرعاية، حتى تصل بإذن الله إلى بغيتها؟ A حقيقة من خلال الواقع المشاهد، نرى أن هذه الصحوة لم يتحقق لها ذلك، الحمد لله! يوجد خير، ويوجد شيء من هذا، لكن لم يتحقق لها ذلك، والدليل هو وجود هذا الشباب الحائر الذي أفاق وعاد إلى دينه، ولكنه حائر بين اتجاهات شتى، فلو كانت هذه الصحوة مرشدة وموجهة على المنهج الصحيح؛ لكان الشباب جميعاً منضوين تحت الكتاب والسنة، ولا يجدون ما يفرقهم أو ما يشتتهم ويبعدهم عنه، فهذا الجانب فيه خلل، ونرجو أن يستكمل بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والصحوة أيضاً محفوفةٌ بالمخاطر من أعداء الله، لأنهم يخططون لضرب هذا الدين، وضرب الشباب.

بعض أهداف الباطنية ضد الإسلام

بعض أهداف الباطنية ضد الإسلام السؤال: على ذكر الأخطار التي تهدد الصحوة الإسلامية، الرجاء ذكر بعض أهداف الباطنية التي ترصد العداوة للإسلام، وما هي أقوال السلف في هذه الفرق، وبماذا تنصح الشباب لمزيد من الوعي والدارسة عن هذه الفرق وأهدافها وأضرارها؟ وقد ذكرت في محاضرة سابقة، أنك سوف تذكر ألعوبة فعل رجل سني في الروافض أو بهذا المعنى؟ A الباطنية، أجمع العلماء على تكفيرها ونصوا على أن ذلك، بل ونصوا على أن من عرفهم ولم يكفرهم فهو كافر، واتفق على ذلك علماء السنة، وكثير من علماء البدع، حتى من المعتزلة والأشعرية، وكثير من الفرق المنحرفة عن منهج السنة، لكنها لا تزال داخل دائرة الإسلام، فكلها متفقة على تكفير الباطنية، لأنها فرقة أخطر من اليهود والنصارى والمجوس، وذلك لأنها لا تريد إلا أن تهدم هذا الدين، وتجتثه من أساسه وليست فقط تؤول بعضه، أو تنحرف عن بعضه، بل إنها تقضي على الاعتقادات، فلا تثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا اسماً ولا صفة على الإطلاق، وتقضي على العبادات، فتؤول الصلوات الخمس بأنها ذكر الأئمة الخمسة، وتؤول الصيام بالإمساك عن أسرارهم أو ذكر ثلاثين رجلاً من أئمتهم. وتقول: إن شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منسوخة، وقد نسختها شريعة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وتقول: إن كل ما حرمه الكتاب والسنة حلال، وليس هناك حرام على الإطلاق! إلا ما أرادوه هم من شهوات أو ما شاءوا أن يفرضوه ليكون الناس تبعاً لهم، وكذلك القرامطة والعبيديون فإنهما منهم؛ فهم خارجون عن جميع الملل وعن جميع الشرائع، فلو أن رجلاً من الباطنية ترك الباطنية وتحول عنها إلى النصرانية، لكان ذلك أخف من الرجل الذي يتحول من النصرانية إلى الباطنية. وأما مكرها في العالم الإٍسلامي فإنه لا ينتهي في كل مكان وفي كل زمان، فالقرآن عندهم لا يبقى له معنى على الإطلاق؛ لأنهم يقولون: إن للآية معنىً ظاهراً، وهذا الظاهر له باطن، والباطن له باطن إلى سبعمائة باطن فمن أين نفهم القرآن؟! كذلك يردون سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رداً مطلقاً، فمن أين يكون الأخذ؟ يقولون: عن الإمام فقط وهذا الإمام هو الذي يفسر كما يشاء، ويتحكم في الأنفس والأموال والشهوات، وإلى الآن لهم أئمتهم من البهرة والأغاخانية والإسماعيلية وأمثالهم من طوائف الضلال التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يقي المسلمين من شرهم، فلا نستطيع أن نأتي على كل خطط الباطنية وأهدافها، ولكن خطرها بلا شك عظيم، ويجب أن نحذر منها؛ ويمكن أن تدخل من باب التشيع، وما دخلت وما جاءت إلا من هذا الباب، أو من باب التصوف، فغلاة الصوفية باطنية، والصوفي ينتهي به الحال إلى أن يكون في النهاية باطنياً، والرافضي -أيضاً- ينتهي به الحال إلى أن يكون باطنياً وهكذا فكل هادم للدين فإنه يبدأ بداية منحرفة قد تكون أقل لكنها تنتهي به إلى الأكثر، عياذاً بالله.

خطر الباطنية على الصحوة الإسلامية وتعدد الانتماءات

خطر الباطنية على الصحوة الإسلامية وتعدد الانتماءات السؤال: الحديث عن الصحوة -كما يقولون- ذو شجون والصحوة أمرها يهم الجميع، وأسال الله عز وجل أن يكتب لها التوفيق، وأن يجنبها كيد الأعداء ومكرهم، ويمكن أن يكون للسؤال الأول شق آخر، وهو أنه إذا عرفنا خطر الباطنية على الصحوة، وشبابها، فأيضاً هناك جانب آخر للموضوع وهو التفرقة التي تحصل بين شباب الصحوة، فنجد انتماءات مختلفة لجماعات مختلفة، هناك من ينتمي لجماعة تسمي نفسها جماعة التبليغ، وهناك من ينتمي لجماعة تسمي نفسها الإخوان، وهناك من ينتمي لجماعة تسمي نفسها الجماعة السلفية، وإلى غير ذلك من المسميات والاختلافات والتفرقة التي حلت بشباب الصحوة الإسلامية، فهل هذه حالة صحية للصحوة الإسلامية؟ أم أن الموضوع يحتاج إلى نظر ويحتاج إلى وقفة صادقة إذا كان القصد هو وجه الله عز وجل؟ A الأمة الإسلامية قد عانت من الفرقة وتعاني منها إلى اليوم، والجماعات الإسلامية هي بلا شك أفضل ما في هذه الأمة، على ما في هذه الأمة من أفضل ما فيها هي هذه الجماعات التي تريد أن تعيد الناس إلى الكتاب والسنة، سواء من كان منها على خطأ أومن كان منها على صواب؛ على الأقل فهي ترفع دعوى الإسلام وشعاره في أوقات وفي بيئات وفي مجتمعات تنفر نفوراً كاملاً من رفع هذا الاسم، ولا نقيس المجتمعات مثل هذا المجتمع الذي نعيش فيه، لأنه يوجد مجتمعات لا تريد ذكر الله ولا تريد اسم الله على الإطلاق، والصحوة الإسلامية في جملتها، لاشك أن من أسباب وجودها وجود هذه الجماعات التي قامت ونشرت الدعوة، وكل منها على رأيه واتجاهه، ما كان فيه من خطأ أو انحراف، وما كان فيه أيضاً من صواب ولو في الجملة، فهذه الصحوة هي نتاج عوامل عديدة، منها: وجود هذه الحركات وهذه الجماعات، إذاً فما موقف المسلم منها؟ الموقف من هذه الجماعات ومن الفرق والأفراد والأمم هو نفس الموقف الذي يجب أن يكون لدينا دائماً، بأن نزن كل شيءٍ بميزان كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ميزان العدل، فمن الوصايا العشر التي أوصى الله بها جميع الأمم وأوصانا بها قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] فننظر إليها بميزان العدل، وأيضاً ننظر بمنظار الاستفادة من التجربة أي من جهة العلم نفسه، فنحن الذين نسعى إلى الأكمل والأفضل ونريد أن تتوحد الأمة، ولا نريد أن تتفرق الأمة هذا التفرق وهذا التمزق، بل يجب أن نكون جماعةً واحدة على الكتاب والسنة. ووجود هذه الجماعات ما هو إلا نتيجة التفسخ الكبير الذي حدث في الأمة بأكملها، وبُعدها عن منهج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فكان من الضروري أن يتجمع الناس في تجمعات صغيره، ولا ضير في ذلك لو أنها كانت متمسكةً على الكتاب والسنة، ولو أن كل جماعة قامت كانت متمسكة بالكتاب والسنة، لوجدنا أننا في النهاية نكون جماعة واحدة فعلاً، ولا خلاف على الإطلاق، لكن المشكلة تأتي من التقليد والتبعية والتعصب والتحزب، وهذا ما وقع مع الأسف، بأن الإنسان يقيس الناس بجماعته، فمن كان منها فهو على الحق وما كان ضدها فهو على الباطل، وهذا هو الخطأ الذي تخوفه السائل -جزاه الله خيراً- على الصحوة وله الحق في ذلك؛ فنحن في هذه الحالة قضينا على الغاية من أجل الوسيلة، واسأل أي إنسان ينتمي إلى هذه الجماعات -أي جماعةٍ كانت- لماذا وجدت الجماعة؟ لقال: من أجل تحقيق الإسلام، ولو قيل له: وبماذا تسير هذه الجماعة؟ لقال: على الكتاب والسنة، إذاً خذه على ظاهره ونسلم لك بهذا الظاهر على ما عليه من ملاحظات، ثم ننظر ما أنت عليه في الواقع، فأنت أصبحت توالي وتعادي بناءً على هذه الجماعات، وقلت: إننا لا نحب أن نذكر الأسماء، لا لأننا نخاف أن نذكر اسماً معيناً، لكن لأننا نريد أن ننظر إلى الأمور والأخطاء والانحرافات بنظرة مجردة؛ لنعرف حجمها؛ وإلا قد نقع نحن في الحيف، فأنا مثلاً قد أكره جماعة معينة لسببٍ ما، فأجور وأحيف في كل من يذكرها لدي. الآن أذكر لكم مثال من بعض الجماعات التي تطبع وتوزع فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وهل هناك من لا يحب علم الشيخ عبد العزيز؟! وهل هناك شخص غير حريص على نشر فتاوى الشيخ عبد العزيز؟! لا، إذاً فكم فتاوى للشيخ؟ كثيرة جداً وفي أمور هامة، فتاوى في التوحيد، وفتاوى في أنواع البدع، وفي الشرك، وفتاوى عن الربا، والقمار، والفيديو، وفتاوى في أمور مهمة تنهش مجتمعنا وتفتك به، إذاً أنتم يا دعاة! هل صورتم فتاوى الشيخ هذه ووزعتموها على الناس؟ لا، بل صوروا هم فتوى أو كلام يقول فيه: إن الجماعة الفلانية على الحق، إذاً نحن ندعو إلى من؟! وهذه هي المشكلة، وهذه نصيحة لا نقولها إلا نصحاً، إذاً: نحن الآن لا ندعو إلى الله، بل ندعو إلى الجماعة، بدليل أننا نختار من كلام العلماء ما يؤيد الجماعة، ونختار ممن يعادي الجماعة ولو على سبيل الملاحظة فنعتبره به عدواً للجماعة، فالولاء في الجماعة، والعداء في الجماعة، والدعوة إلى الجماعة إذا فقد أضعنا الغاية من أجل الوسيلة!! لا يا أخي انشروا العلم النافع ووزعوا الفتاوى النافعة، وليس ما يتعلق بك أنت أو بجماعتك فقط، وهذا خيرٌ لك وأفضل لك عند الله؛ أن تنظر إلى من ينصحك؛ وإن نقدك أيضاً فانظر له، لماذا؟! لأنك أنت الذي عليك أمل الأمة، وكما أشرت أن أفضل ما في الأمة هم جماعاتها هذه؛ فالإصرار على الأخطاء قد تردنا إلى انحطاط وضياع وضلال أعظم مما نحن فيه في هذا الواقع، فأنتم أحرص أن تستكملوا أي جانب من جوانب الخلل، ولهذا نقول لكل الشباب، ونحن بإذن الله عز وجل جماعة أهل السنة والجماعة التي لها وبها تجتمع الأمة وعليها تأتلف: يجب أن نكون منصفين، وأن نكون حريصين على من ينتقدنا ويخطئنا، ويجب ألا نظهر أنفسنا، وإذا أثني علينا ومُدحنا لا ننشره أبداً، فماذا نظهر إذاً؟ نظهر دين الله وننشر كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا مدحني فربما يكون في ذلك هلاكي، فلا أغتر وأستمر في البدعة، وأقول: فلان أفتاني أو مدحني، وإذا انتقدني أشكره وأسمع منه، فإن كان على حق فجزاه الله عني ألف خير، وإن كان مخطئاً فأحمله على أحسن المحامل وأشكر له حسن النية، وأقول: تعال، أنت تنقدني وتريد الحق، فيقول: نعم إن شاء الله، إذاً تعال فالحق كذا وكذا، وقد أتى له بأدلة من كتاب الله وسنة رسوله، ولا أقول: أنا رأيي كذا، وشيخنا قال كذا، أو طائفتنا قالت كذا، وفلان قال كذا، وهذا هو علامة أهل البدع، علامتهم أنك تقول: قال الله وقال رسول الله، فيقولون: قال شيخنا وقال إمامنا وهذا هو الذي تعجب منه ابن عباس: وقال: أقول: قال الله، قال رسوله، تقولون: قال أبو بكر وعمر! ومن جهة أخرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أن نزلت عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1 - 2] إلى أن لقي الله وهو يعيش في حالة دعوة: فجاهده دعوة، وتعليمه دعوة، ونصحه دعوة، وكل حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة فهل لم نجد في سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يغني ويكفي للدعوة حتى تضع خطة ونرسمها ونلزم الناس بها؟ بل وأدهى من ذلك أن من لم يلتزم بها فإنه متهم في دينه، وأنه يفرق الأمة، وإذا أثنى علينا فهو الحبيب المقرب المبرأ من كل العيوب سبحان الله!! حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها دعوة، وحياة السلف الصالح كلها دعوة. ولن يتغير حال الأمة من حالٍ سيئ إلى حالٍ صالح، إلا إذا قام دعاة يدعون لوجه الله، ويعلمون الناس العلم النافع، ويصلحون القلوب من جميع الأمراض ومنها مرض التأفف والاستنكاف عن أن يقال: إنك خالفت الحق أو خالفت الدليل، ومنها مرض الجهل الذي يفتك بهذه الأمة، ولابد من تزكية النفس. بعض هذه الجماعات يقولون: لم ينتقد علينا إلا أن عندنا جهل، وفينا بعض البدع! - مقللين شأنهما- وهل عارٌ في الدنيا أعظم من هذين، فماذا بعد الجهل والبدعة من عيب؟! إذاً: راجع نفسك يا أخي، فماذا تريد أن يقال إذاً؟ كافر! فإذا كان البعيد فيه جهل وبدع، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ وماذا تريد أن يقال عنك حتى لا يكون عيباً؟ فهذا قدر مشترك، فكل جماعة أو فرقةٍ خارجة عن منهج أهل السنة والجماعة لابد وأن يكون لها نصيبها من البدعة والهوى والتعصب. وإذا أردنا أن تجتمع الأمة؛ فلنجمعها على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الجماعات هي أول من أوجد من يدعو إلى ذلك، لأنها تملك التجربة، وتملك الجهود والطاقات والشباب، فلو أنها التزمت بالكتاب والسنة؛ لكان لذلك النفع العظيم للإسلام المسلمين، ولهذا لا ننظر إليها بنظرة العداء، أو لمجرد العداء ولكن ننظر إليها بنظرة الإشفاق والنصح، ونظرة الهداية بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثم أيضاً يجب أن نبين لكم أسماء بعض هذه الجماعات لأن تحت هذه الأسماء أفراداً شتى، فتجد بعض الناس ينتمي إلى جماعة من هذه الجماعات، والفرد في ذاته هو على عقيدة طيبة، لكن خطأه محصوراً، إما في الانتماء أو في أشياء أخرى لا تقدح في عقيدته، وبعبارة أوضح أقول: لا تجعلك تصنف كل من ينتمي إلى هذه الدعوة في صنف واحد، فمثلاً الإخوان، يوجد منهم سلفيون ويوجد غير ذلك، ويوجد منهم ربما من يكفر بعضهم بعضاً، مع الأسف وهكذا حتى الجماعات نفسها تجد أن اسمها جماعة وفي بعضها من يخالف البعض الآخر، فتجدها فرقاً وأحزاباً. أقول هذا لكي أؤكد على أن المعيار يجب أن يكون هو الكتاب والسنة, وإلا فأي جماعة من هذه الجماعات لو أخذتها في ذاتها معياراً، لقالت لك: إن كلامك هذا لا ينطبق علي، بل ينطبق على أناس مثلاً تسمونهم باسمي، فتضيع في دوامة، لكن أرح نفسك من هذه الدوامة، وانقض الباطل من حيث هو باطل؛ وبين الحق من حيث هو حق بيان الناصح المشفق وبيان الحريص على أن

ذنوب العباد بين الكبائر والصغائر [1]

ذنوب العباد بين الكبائر والصغائر [1] إن الحديث عن ذنوب العباد حديث أَرَّقَ العلماء، وأقض مضاجع العبَّاد؛ لما يترتب عليها من عقاب يوم القيامة لا ينقطع أمده ولا ينتهي مداه إلا برحمة من الله جل وعلا، والذنوب إما أن تكون صغائر وإما أن تكون كبائر، إلا أن هناك ضابطاً ورد في هذه المادة يبين أن الكبيرة قد يتجاوز منها عن المحسن ما لا يتجاوز عن غيره، وعكس القول ينطبق على المسيء عند ارتكابه للصغيرة، كما أن حال العبد عند مقارفة الذنب ينبني عليه مآله وحسابه على هذا الذنب والذي قد يكون سبباً للتوبة أيضاً.

لا كبيرة مع خوف واستغفار ولا صغيرة مع إصرار

لا كبيرة مع خوف واستغفار ولا صغيرة مع إصرار إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فكما تعلمون وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، ونفعنا بما نسمع وما نقول أننا قد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن حديث الدواوين الثلاثة، وبينا أنه مع ضعف الحديث فإن معناه صحيح، وكان الموضوع هو موضوع الديوان الثاني الذي لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ما يتعلق بحقوق العباد ومظالمهم، وذكرنا ما فتح الله تعالى به ويسر من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن المظالم وحقوق العباد، ولعل في ذلك كفاية إن شاء الله تعالى. وننتقل إلى ما بعده في قول الشارح رحمه الله: (وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر)، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يُخَلَّدون؛ ولكن ثمَّ أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره، وأيضاً فإنه قد يُعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يُعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة). هذا موضوع عظيم، وخير الموضوعات وأنفع العلوم ما كان علاجاً للقلوب وأدوائها وأسقامها، وأعظم ذلك -أي أعظم الأدواء والبلايا والأسقام- هو الشرك، كما تحدثنا عنه فيما سبق، وهنا نأتي إلى قاعدة عظيمة فيما دون الشرك، وهي الذنوب التي لابد أن يصيبها العبد وأن يلم بها، هذه الذنوب أراد الشارح رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الديوان الأول الذي لا يغفره الله تعالى أبداً، ثم الديوان الثاني الذي لا يترك الله تعالى منه شيئاً أراد أن يبين الديوان الثالث، وهو ديوان ظلم العبد لنفسه في حق الله تعالى فيما دون الشرك، وما دون الشرك ينقسم إلى كبائر وإلى صغائر، وأحال موضع الفرق بين الكبيرة والصغيرة إلى ما بعد، حيث سيأتي التفصيل بإذن الله، وأظن أن القضية هي قضية اختلاف الطبعات، فأنا عندي (ص524) مثلاً، وبعض الإخوان تختلف عندهم الطبعات، وهي فقرة طويلة جداً، أولها: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يُخَلَّدون) إلخ، وقد شَرَحَها شرحاً طويلاً، ومن أحب منكم، أو تعجل المعرفة في الفرق بين الكبائر والصغائر قبل أن نشرحه هنا -وهذا حسن جداً أن تقرءوا قبل أن نشرح- فليراجِع الجواب الكافي، ففيه تفصيل لذلك، وسنعرض له إن شاء الله تعالى ولغيره عندما نصل إلى هذا الموضع؛ لكن الشارح هنا بعد أن أشار إلى ذلك ذكر هذا الاستدراك العظيم الذي هو قاعدة من قواعد تعامل القلوب مع رب القلوب تبارك وتعالى. قال: (ولكن ثمَّ أمر ينبغي التفطن له) هنا قضية مهمة ينبغي أن يتفطن لها عباد الله، ولا يجوز أن يتغافل عنها من يسر الله تبارك وتعالى له أن يعرفها، قاعدة عظيمة من القواعد التي استخرجها أمثال هذا العالم الفاضل ومن نقل عنهم -رحمهم الله أجمعين- استخرجوها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سير العبَّاد من السلف الصالح، الذين قاموا لله تبارك وتعالى بواجب العبودية على نحو يَقتدي به من بعدهم. قال الشارح: (وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر). قال: (وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل). أي: أن ما يقوم بالقلب قدر زائد على مجرد الفعل. ثم قال: (والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره). ثم شرع في موضوع التوبة، وأسباب التوبة، وأسباب سقوط العقوبة التي أولها التوبة. فالقاعدة إذاً: أن الذنوب إما كبائر وإما صغائر؛ لكن الكبيرة إذا فَعَلها صاحبها لا ريب أن صورة العمل الظاهر أن هذا مرتكب لكبيرة؛ لكن يقول الشارح: (إن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر)، وبالعكس: (قد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر). إذاً: عندنا أمران: صورة الفعل، أو صورة العمل في مظهره، وعندنا حقيقته وتعلق القلب به، أو حال القلب عند عمل هذا الذنب. وهذا مفتاح لباب عظيم من أبواب التربية الإيمانية القلبية.

الحكم على الكبير والصغيرة مناطه القلب

الحكم على الكبير والصغيرة مناطه القلب إذاً: القضية قضية القلب، أي: أن الجوارح إنما تتحرك وتعمل وتتأثر بالقلب كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فمن الواجب إصلاح القلوب؛ لأنها محط ومحل نظر الرب من العبد. يقول بعض العلماء: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً. فالمسألة ليست هي صورة العمل؛ فإن بعض الناس قد يعصي الله وتكون هذه المعصية سبباً لبداية الخير وبداية التوبة في حياته، فقد يكون بداية الهداية موبقة كبيرة، أو ذنباً فَعَلَه، والبعض ربما كانت بداية انحرافه وزيغه ودخوله في باب الرياء والعُجْب، ثم خروجه -نسأل الله العفو والعافية- نهائياً من طريق أهل الاستقامة وأهل السنة، هو عَمَلٌ عَمِلَه في ظاهره أنه من الأعمال الصالحة، أو من الطاعات العظيمة المقبولة.

ذكر الأدلة على غفران الكبائر بما يقوم بالقلب من تعظيم ونحوه

ذكر الأدلة على غفران الكبائر بما يقوم بالقلب من تعظيم ونحوه إذا ً: يجب على الشاب المؤمن، وعلى من يريد تنقية قلبه، وعلى كل من يحرص على تقوى الله سبحانه وتعالى أن يتنبه إلى هذه القضية وإلى هذه الحقيقة. وما بقي علينا إلا أن نأتي عليها بالأدلة، والأدلة كثيرة جداً مما ثبت وصح في الوحي، وكثيرة من واقع الناس؛ فمن المُشاهَد من أحوال الناس أناس كانوا على ذنوب وعلى فجور ثم تابوا واستقاموا، والذين كانوا على طاعة وعلى خير وطلب علم ودعوة ثم انحرفوا وحاروا ولذلك نستطيع أن نذكر الإخوان بشواهد وأدلة كثيرة على هذه القاعدة: أن بعض الناس إنما يكون سبب هدايته وبدايتها بإذن الله موبقة أو كبيرة أو ذنب أو سيئات عَمِلَها، فتكون هذه الذنوب لَمَّا قارنها خوفُ الله تبارك وتعالى واستعظامُ هذا الذنب، والنظرُ إلى عظمة مَن عصى، والخوفُ من الرب الجليل العزيز الجبار المتكبر، فإنه بالمعصية وبما أحاط بها من هذه الأمور يتحول الأمر إلى طاعة، وتنقلب الغواية إلى هداية واستقامة بإذن الله سبحانه وتعالى.

الخوف من لقاء الله سبب لنيل مغفرته

الخوف من لقاء الله سبب لنيل مغفرته أقول: لقد سبق معنا حديث عظيم جداً، وذكرنا اختلاف العلماء فيه، وجوابه الصحيح هو ما ذُكِر الآن وقد قرأنا رواياته، وشرحناه طويلاً، وهو حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته: إذ قال لهم: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: نِعْم الأب. وهو رجل -كما جاء في إحدى الروايات والتي قرأناها- أسرف على نفسه في المعاصي، فهو رجلٌ مسرف عاصٍ وأدركته الوفاة، فأخذ يقلب صفحات العمر، وإذا كلها سواد، وظلام، وموبقات، وذنوب، فأخذ يفكر في المخرج منها، إذاً: في هذه اللحظة جاءه الخوف من الله سبحانه وتعالى، واستعظام الذنب، واللقاء كيف ألقى الله وأنا بهذه الذنوب؟ ‍ فمع أنه ارتكب ذنباً آخر، ووقع في غلط عظيم؛ ولكن بسبب هذا الاستعظام، وهذا الخوف، وهذا الحياء؛ غُفِر ذنبه المتأخر وذنوبه المتقدمة ما هو الذنب العظيم الذي وقع فيه، والخطأ الجليل؟ عندما ظن أن الله لن يقدر عليه. فقال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا الحطب، وأحرقوني، ثم ذُرُّوني في الهواء، واجعلوا نصفي في البحر، والنصف الآخر في البر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. هكذا تخيلَ! إذاً: ما الحل والمخرج من لقاء الله، ومن الوقوف بين يدي الله؟ لا عذر ولا حجة، فأعماله كلها ذنوب ومعاصٍ وإسراف. قال: الحل يا أبنائي! أن تحرقوا هذا الجسد وتَذروه في الهواء، وتفرقوه في البر والبحر، وحينئذ لن يقدر الله تعالى على جمعه، كيف يجمعه فإذاً كأنه ينساه فينتهي، هذا هو المخرج كما كان يظن، مع أن هذا ليس بمخرج، فإن الله سبحانه وتعالى الذي هو على كل شيء قدير، إذا قال للشيء: كن كان، واجتمع ما في البر وما في البحر وكان، وأحياه الله سبحانه وتعالى، فهو الذي أنشأه أول مرة. فيسأله عز وجل: لِمَ فعلتَ؟ هذا؟ السؤال الآن ليس عن الموبقات، ولا عن الذنوب الأولى، بل عن هذه المصيبة الكبرى التي أوصى بها. قال: خوفك يا رب! أو خشيتك ومهابتك يا رب! فغفر الله تبارك وتعالى له. إذاً: إذا اقترن بالذنوب والمعاصي خوفٌ وتعظيمٌ وهيبةٌ لله تبارك وتعالى، فإن هذه الذنوب إما أن تُمحى، أو تُكفَّر، أو تكون -كما قال الشيخ- كالصغائر وتأخذ حكمها، كما ذكر الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] لأنها بما اقترن بها أصبحت صغيرة. هذا واحد من الأدلة.

حديث قاتل المائة نفس

حديث قاتل المائة نفس والدليل الآخر هو الرجل قاتل المائة، أول الأمر قتل تسعة وتسعين. فذهب إلى العابد، وهذا من الأحاديث التي يستدل بها على كثرة ما فيها من الحكم والدلالات، من أعظم دلالاته وحكمه وعبره: فضل العالم على العابد، أي: العابد المجرد عن العلم. ذهب إلى هذا الراهب العابد المنقطع وقال له: إني رجل قتلت تسعة وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ فاستعظم الراهب ذلك وقال: لا أجد لك توبة. هذا من قلة العلم، ومن قلة الحكمة والفطنة كما ذكر العلماء فهذا الراهب، ليس عنده بصيرة أو فطنة في الدعوة، فهذا السائل قاتل، فإذا قلت: لا أجد لك توبة، كيف تأمنه على نفسك وعلى غيرك من الناس؟ فكان على هذا العابد أن يقول له: تُبْ واستقِم، ويقول: كُف عن كذا وكذا، ثم إن لم يكن له عند الله توبة فهذا بينه وبين الله؛ لكن على الأقل يكون لديك من الحكمة ما تدفع به شره في هذه الحياة الدنيا. قال الراهب: لا أجد لك توبة. فأكمل به المائة، ما دام ليس هناك توبة، فسواء قتل هذا أو قتل معه ألفاً أو ألفين فالأمر لا يتغير، فأكمل به المائة. وبعد ذلك ذهب إلى العالم فأرشده أن له توبة، وأرشده أن يذهب إلى القرية الصالحة ليعبد الله تبارك وتعالى فيها. ثم كان ما تعلمون عندما قبضه الله تبارك وتعالى، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذا أيضاً فيه دليل على أن الملائكة تجتهد في أمر الله تبارك وتعالى، كما نجتهد نحن بني آدم، نحن نسمع من كلام الله آية أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فنجتهد في العمل به، وقد نخطئ وقد نصيب، فملائكة الرحمة أخذوا ينفذون أمر الله تعالى فقالوا: رجل تائب مقبل على الله كيف ندعه لكم؟ وملائكة العذاب تقول: وأي توبة حصلت؟ رجل قتل مائة نفس وذهب إلى قرية. ما رأوا شيئاً قد تحقق، فهؤلاء ينظرون لها من جهة، وهؤلاء ينظرون لها من جهة، فحكم الله تبارك وتعالى بين الفريقين وهو الحكيم العليم: أن انظروا إلى أي القريتين كان أقرب فألحقوه بأهلها، وجاء في بعض الرويات: أن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه أمر هذه أن تتباعد، وأمر هذه أن تنقبض، فقاسوا فوجدوه إلى أرض التوبة أقرب، فغفر الله تبارك وتعالى له، وتولته ملائكة الرحمة. إذاً: هذا الرجل أسرف على نفسه، وهل بعد القتل من جُرم؟ عندما نتعرض لموضوع التوبة إن شاء الله فسنذكر مسألة قبول توبة القاتل، والخلاف الذي بين علماء أهل السنة والجماعة فيها؛ لأنه ذنب عظيم، لكن اقترن به الخوف، أليس الذي دفعه أن يبحث عن الراهب ويسأله، ثم عن العالم ويسأله، أليس هو الخوف من الله؟ إذاً: هذا فعل كبائر؛ لكن اقترن بها الخوف من الله سبحانه وتعالى، والتفكير في التوبة، والبحث عن مخرج، والحياء من الله، ومهابة لقاء الله، هذه إذا اقترنت بأي ذنب من الذنوب تحرقه بإذن الله، فلما اقترنت بحال هذا الرجل كانت نهايته وكانت عاقبته كذلك.

قصة ماعز وقصة الغامدية

قصة ماعز وقصة الغامدية ومن الأدلة أيضاً: قصة ماعز والغامدية رضي الله تعالى عنهما، فإنهما أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدان أن يطهرهما. والأمثلة في هذا كثيرة. وقد أحببت بهذه المناسبة أن أدلكم على مرجع مفيد في هذا الباب وهو: كتاب التوابين، للإمام ابن قدامة رحمه الله، بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناءوط، أخي شعيب، وإن كنت أحب أن أنبهكم قبل ذلك إلى أن الكتاب لم يُعلَّق عليه في مواضع كان ينبغي أن يعلق عليه فيها، ولن تخفى على مثلكم إن شاء الله، منها: أن أغلب من يتوب كما في هذا الكتاب يترك الدنيا بالكلية، ويذهب في البراري وفي الجبال ويسيح، أو يعتكف في المساجد ويترك كل شيء بالكلية، وليس هذا من صفة التوبة الشرعية كما تعلمون؛ لكن في هذا الكتاب فوائد عظيمة جداً، ولا سيما الذين يتوبون من الطرب ومن الغناء أو من الفسق والفجور، كحال العالم اليوم والله المستعان. ونقتصر على ذكر أو عرض بعض التوبات التي تتعلق بحال العاصي الذي كانت معصيته وسبب هدايته، وهو المناسب لموضوع الدرس اليوم، أما مجرد التوبة فالتوابون كثيرون والحمد لله. وقد ذكر صاحب الكتاب قصة قاتل المائة أيضاً، ويكفي ذلك عنه.

قصة أبي خيثمة وتخلفه عن تبوك أولا

قصة أبي خيثمة وتخلفه عن تبوك أولاً أيضاً من التائبين -كما ورد في السيرة- الذين اقترن بالذنب ما جعلهم يتوبون ويهتدون ويستقيمون: الصحابي الجليل أبو خيثمة رضي الله تعالى عنه، والإمام ابن قدامة رحمه الله يروي بالسند، وهو عالم محدث فقيه بارع كما تعلمون، ولذلك يروي القصص التي يوردها بالأسانيد، سواءً أكان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد العلماء من المؤلفين، أو إلى كتب رواة الإسرائيليات وأخبار بني إسرائيل إن كان السند ينتهي إليهم، وهو كما تعلمون من الأئمة المجاهدين، ابن قدامة رحمه الله كان مع صلاح الدين الأيوبي في معاركه، ومع ذلك كتب المغني الذي ترون، وهو من أعظم وأنفع كتب الفقه المقارن، وله مؤلفات نافعة غير ذلك مع انشغاله بالجهاد، وله هذا الكتاب، فذكر بإسناده إلى ابن إسحاق المعروف، صاحب السيرة. يقول: (تخلف أبو خيثمة أحد بني سالم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حتى إذا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله) وهذا التخلف ما حكمه؟ حكمه كبيرة {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:120] (ما كان لهم) هذا من أقوى أنواع التعبير في التحذير والنهي. (ما كان لهم) يعني: لا يصح ولا يليق بحال من الأحوال أن يتخلف أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغب بنفسه عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على الله في الحر والرمضاء والحرب واللأواء وهذا في الظل الظليل الوارف مع الأهل والعيال وفي المزرعة، لا ينبغي ذلك، ولا يليق بأي حال من الأحوال؛ لكن هذا الذي لا يليق ولا ينبغي وقع فيه أبو خيثمة رضي الله تعالى عنه. (فعاد إلى امرأتين له في عريشين له في حائط) وكما تعلمون كانت الغزوة -كما جاء في حديث الثلاثة- في شدة الحر والقيظ، وكما جاء في القرآن لما قال المنافقون: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] فرجع، ما كان عندهم كالآن مغريات مثلنا، يعني لما تقرأ المغريات التي كانت في عصرهم -الله المستعان! - المغري كله أن كلاً منهما لديها عريش ورشت الماء من حوله، فكان بارداً بالنسبة لهم، وبالنسبة لنا لا يُعد بارداً، ولا من البارد في شيء. (فأتى امرأتين في عريشين له في حائط) الحائط يعني: المزرعة والبستان. (قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبرَّدت له فيه ماء، وهيأت له طعاماً) برَّدت الماء بالطرق البدائية جداً كما تعلمون، وهيأت الطعام، وتعال يا أبا خيثمة! يعني: الزوجة والظل والعريش والماء البارد والطعام، هذه غاية المغريات المثبطات في زمانه. (فلما دخل قام على باب العريش ينظر) الآن استيقظ، الذنب وقع؛ لكن حفت به هذه القرائن، وقف على باب العريش ينظر. (ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر) في الضح أي: شدة حر الشمس. ضحوت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة ناقصا قال: -وأبو خيثمة هذا يقول عن نفسه: (رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة -الآن يخاطب نفسه- في ظل وماء بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، ما هذا بالنَّصَف) يعني: هذا ما هو عدل ولا إنصاف أبداً، ولا يليق ذلك أبداً، ربما لم تكن الآية قد نزلت بعد، والظاهر أنها ما نزلت إلا بعد ذلك؛ لأن فيها: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]؛ لكن هو عرف أن هذا لا يليق ولا يحق بحال من الأحوال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وأن يتخلف عنه أبو خيثمة، ويرغب بنفسه عن نفسه، ويتمتع ورسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحال. (قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدما ناضحه فارتحل، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه حين نزل تبوك) كما تعلمون آخرها: (لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الراكب من بعيد فقال: كن أبا خيثمة. فذهبوا فوجدوه، فقالوا: يا رسول الله! هو أبو خيثمة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى لك أبا خيثمة، فأخبره الخبر، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذاً: سبحان الله العظيم! لو أن أبا خيثمة خرج أول الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان في قلبه من الإيمان والأثر والخوف من الله سبحانه وتعالى، والحرص على الجهاد والرغبة فيه مثلما كان بعد أن وقع في الخلل، وغلبه الضعف البشري. الناس ذهبوا أمة، وهو ذهب يجوب البراري والقفار وحيداً، لا رفيق له، وهو مستشعر الذنب في شدة الحر، ويركب البعير ومعه زاده وهو يذهب وأمله أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يكون شعوره وهمه وتفكيره في هذه الحالة، وهو لم يدخل العريش أبداً. إذاًَ: قام بقلبه من حقائق الإيمان والتوبة والندم والاستغفار والحياء من الله تبارك وتعالى ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة اللحاق به أمور عظيمة جداً، ربما بل قد نقول: نعم. ما كانت لتأتي لو أنه ذهب من أول الأمر مع الناس. فكان إذاً في هذا الذنب -وهو التأخر والتخلف- خير. إذاً: رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً. المثال الآخر أيضاً: مثال أبي لبابة رضي الله تعالى عنه، وهذا حال المتقين دائماً، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] يعني: الشيطان يَمَس، (إن للملَك لَمَّة، وللشيطان لَمَّة) لكن ميزة أهل التقوى وأهل الإيمان أنهم إذا ألَمَّت بهم اللمَّة تذكروا فعادوا. هذا ما حدث لـ أبي لبابة رضي الله تعالى عنه. يقول: (لَمَّا أرسلت قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يرسلني إليهم حين اشتد عليهم الحصر، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب إلى حلفائك فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس) هو كان حليفهم في الجاهلية، وأبو لبابة له منزلة، وقاتل الله اليهود في كل زمان ومكان، اليهود هم اليهود، لا تصدقوا الذي يقول: اليهود منهم الحمائم ومنهم الصقور. بل كلهم ثعالب، لا حمائم ولا صقور، بل ثعالب خبيثة، فاليهود هم اليهود، يظنون أن جيش الإيمان والتقوى ركب المهاجرين والأنصار كغيرهم من الأمم والملوك والجيوش، فيقولون بلسان الحال: إذا كان لنا عندهم واسطة، أو لنا عليهم دالة أو حليف تغيَّر الأمر، فلنأتهم عن طريق الحليف، فأرسلوا يريدون أبا لبابة؛ لأنه حليفهم، والناس كما تعلمون حديثو عهد بالجاهلية وأحلافها وعاداتها، ولهذا لما قال عبد الله بن أبي بن سلول: إني امرؤٌ أخشى الدوائر، ثلاثمائة دارع وحاسرة، حلفائي تحصدهم في غداة واحدة، هكذا كانت الارتباطات والعلاقات الجاهلية ما تزال قريبة العهد بهم. (قال: اذهب إليهم، قال: فدخلت عليهم وقد اشتد عليهم الحصار، فهشوا إلي وقالوا: يا أبا لبابة! نحن مواليك دون الناس كلهم قال: فقام كعب بن أسد فقال: أبا بشير! قد عرفتَ ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يوم الحدائق، ويوم بعاث، وكل حرب كنتم فيها) يذكره بأيام الجاهلية يقول عملنا معكم الجميل، والفعائل، والآن هذا وقت الشدة، ووقت رد المعروف. (وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنا لحقنا بأرض الشام , أو خيبر، ولم نكثر عليه جمعاً أبداً) يقولون: يزيد أن تجعله يتركنا، ونحن نلحق بـ خيبر أو الشام، ولن يرى منا أذىً بعد اليوم. فما ترى؟ الآن يستشيرون أبا لبابة. (فما ترى؟ فإنا قد اخترناك على غيرك، وإن محمداً قد أبى إلا أن ننزل على حكمه قال: نعم، فانزلوا) هو قال: نعم فانزلوا؛ لأنه صحابي مؤمن، لا يمكن أن يشير عليهم بغير ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يمكن أن يخالف حكم الله، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يطلب منهم غير ما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لكن في آخر لحظة أخذته وقعة، الضعف البشري يقع حتى من هؤلاء الصحابة الأجلاء. (قال: انزلوا على حكمه. ثم أومأ بيده هكذا. يعني الذبح) فهو من حيث المقال قال الحق، ونطق بالحق، وقال: انزلوا على حكمه، وهكذا يجب أن يكون الإنسان وأن يقول؛ لكن أدركه شيء من الحمية لهؤلاء؛ نظراً لقولهم: إنك حليفنا، ووثقنا فيك، وفعلنا معك، وفعلنا. وعددوا المآثر، واليهود قوم خداعون كذابون، فوقع، فأومأ بيده، هكذا يعني: الذبح. حسناً يا أبا لبابة! فعلت ذلك وليس أمامك إلا اليهود، فمن رآك يا أبا لبابة؟! لا أحد من الصحابة، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أهل السنة نؤمن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، هذا من العقائد القطعية، الذين يعتقدون أو يؤمنون أنه يعلم الغيب هؤلاء جعلوه إلهاً آخر، تعالى الله عما يشركون. فما أحد يعلم يا أبا لبابة! أنت وحدك؛ لكن القضية ليست قضية وحدي أو غير ذلك، فقد استشعر الندم توَّا فنترك التعبير له. (وقال: فندمت، واسترجعت، فقال

أم البنين بنت عبد العزيز وقصتها مع عزة المعشوقة

أم البنين بنت عبد العزيز وقصتها مع عزة المعشوقة ثم ذكر توبات كثيرة، كما قلت لكم: الكتاب لو خلا مما فيه مما يستوجب التعليق لكان نفعه عظيماً جداً. ذكر أيضاً توبة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، هذه لها قصة مشهورة في كتب الأدب، وإن كانوا يذكرونها في كتب الأدب على أنها طرفة، أو مُلحة من المُلح والنوادر؛ لكنها عند أهل الإيمان واليقين تدل على ما يذكُر كما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى. يروي أيضاً في سنده قال: دخلت عَزَّة صاحبة كُثَيِّر كُثَيِّر عَزَّة، انظروا النسبة، نعوذ بالله! بعض الناس ينسب إلى الخير، وهذا الرجل نُسب إلى العشق، وإلى المرأة التي عشقها، وكان رجلاً باطنياً خبيثاً، كُثَيِّر هذا كان رجلاً خبيث العقيدة، على عقيدة الباطنية، وهو ممن كانوا يعتقدون أن الإمام في أعلى جبل رضوى، وأن عنده نمور تحرسه، وعنده عسل، وعنده ماء، وسيخرج في آخر الزمان، انظروا! هذا الكلام كان في القرن الأول، فما بالكم عندما ابتدعت الروافض فيما بعد أن الإمام في سرداب سامراء إلى آخر ما ابتدعوه، فالكلام في هذا قديم، وهذه البدعة قديمة. الشاهد: عَزَّة دخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز، هذا البيت بيت الملك والأبهة، الدنيا كلها كانت تحت حكمهم كما بينا في مرة مضت، الدنيا كلها تحت حكم بني أمية، فكانت تسمع من الشعراء، وتسمع كأي امرأة مترفة ذات ملك وجاه ومال، فإذا قيل لها: فلان مطرب أو عنده نغمة، قالت: جيئوا به، ننظر ونسمع ما عنده، إلى آخره. فلما دخلت عَزَّة سألتها أم البنين: وهي عارفة بأخبارها، وعارفة بالحكايات التي يتناقلها الناس يتناقلونها، يعني: كما قالوا عن مجنون ليلى، وكما قالوا عن صاحب عفراء، وفلان وفلان ممن جاءت أسماؤهم في كتب العشق عند العرب، وفي قصص العشق، فيُنسب الشاعر إلى صاحبته، كما أن كُثَيِّر نُسب إلى عَزَّة. قالت لها أم البنين: ما معنى قول كُثَيِّر: قضى كل ذي دَين فوفى غريمَه وعَزَّة ممطولٌ مُعَنَّى غريمها انظر السؤال! وهذا يا إخوان! فضول العلم، وفضول الكلام، وفضول النظر، وجاء في الأخبار: أن رجلاً دخل على أحد السلف فقال له: إني أرى خشبة في سقف البيت تريد أن تسقط. فقال له: يا رجل! والله إن لي عشرين سنة في هذا البيت ما نظرت إلى السقف. وكانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام. هناك أناس ابتلاهم الله بالفضول، وأناس بخلاف ذلك، فيقول: هذا بيتي وأنا فيه منذ عشرين سنة فما نظرت إلى السقف، الناس في هم أعظم، قلوبهم منشغلة بالله وبالآخرة وبالعمل الصالح، فهم في شغل عن الفضول؛ لكن الناس الذين لا همّ لهم لا يستشعرون خوف الله ولقاء الله، فيسأل سؤالاً ولا يهمه الجواب هكذا على هذا السؤال فالقضية أنه يسأل من باب الفضول فقط. فجاءها الشيطان بهذا الفضول. قالت: يا عَزَّة! ما معنى قول كُثَيِّر: قضى كل ذي دَين فوفَّى غريمَه وعَزَّة ممطولٌ مُعَنَّى غريمها أي: ما هو هذا الغُرم؟ وما هو الدَّين؟ قالت لها: ما هذا الدَّين الذي يذكره؟ قالت: أعفيني. قالت: لابد أن تخبريني، ما هذا الدَّين. قالت عَزَّة: كنت وعدتُه قُبلة فأتاني يطلبها، فتحرجت عليه، ولم أفِ له أي: ما أعطيته. هؤلاء عشاق العرب الفجار الذين كان هذا حالهم، لذلك يسمونه الهوى العذري، أو الحب العذري؛ لأن الحب عندهم كان على نوعين، أو العشق على نوعين: نوع إباحي. ونوع عذري. الهوى العذري في زعمهم: هو فقط الحديث والمزاح والكلام دون أي شيء آخر. وهكذا كان كُثَيِّر وعَزَّة وطائفة من العشاق. والنوع الآخر هو الإباحي وهو الذي يؤدي -عياذاً بالله- إلى ارتكاب الفاحشة. يعني: هؤلاء كانوا من الموصوفين بالفجور، فهي منعها دينُها أو حياؤها أو أصالتها أو عربيتها أو قبليتها أي شيء، المهم منعها مانع أن تعطيه قُبلة، رغم أنه يواعدها ويخلو بها ويتحدثان، ويخبرها بما قال فيها من شعر، ثم يرجع كل منهما إلى مكانه. فقالت هذا الشيء، كما قال بعضهم: كان العشق فيما مضى أن الرجل يلاقي المرأة فيحدثها وتحدثه، ويناشدها وتناشده، أما اليوم فلا يكاد يخلو بها حتى يفعل بها الفاحشة، وكأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله تعالى عنه. هذا الكلام قالوه في القرن الأول، فكيف الآن! الآن ما عاد فينا -نعوذ بالله- إلا الفجور والفساد، حتى المجرمين في ذلك الزمن كانوا أخف جرماً، كان هناك نوع من الحياء العام في الأمة، يربط الأمة نوع من (لماذا نفعل؟). فاستعظمَتْ مع هذا الشعر والأخبار أن تعطيه هذا، بينما بعض الناس -عياذاً بالله- لا يرى هذا إلا عادياً جداً، الروايات والقصص والتمثيليات يأتي بها كل ليلة، فأصبحت لا تثير شعوراً إلا عند أهل الإيمان والتقوى -جعلني الله وإياكم منهم. فالشيطان جاء لـ أم البنين، رغم أن الأمر قد انتهى، وكُثَيِّر في مكان وعَزَّة في مكان، وانتهت القضية، وبَعُد العهد؛ لكن الشيطان أراد أن يوقعها. فقالت أم البنين: أنجزيها منه وعليَّ إثمها أي: أعطيه وعليَّ إثمها، فما هي إلا قُبلة، ليست فاحشة، كما يقول بعض الناس: بسيطة. كيف تكون بسيطة، حين يختلي الرجل بالمرأة وقد تسافر معه الأيام والأسابيع، بل بعضهم والله يخرج بها خارج المملكة، ثم يقولون: القضية بسيطة. كيف بسيطة؟ قالت: أنجزيها وعليَّ إثمها هذا الشيطان أوبقها فقالت هذه الكلمة. ثم راجعت نفسها من وقتها ومن مكانها، واستغفرت الله، وأعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة وتعلمون ما في العتق من الثواب، وقد وردت أحاديث تتناول ثواب العتق منها: (من أعتق رقبة أعتق الله رقبته)، نعم. كل عضو منه بعضو منها، فأعتقت أربعين رقبة من أجل هذه الكلمة. وكانت إذا تذكرت هذه الكلمة بكت حتى تبل خمارها وتقول: يا ليتني خرس لساني عندما تكلمت بها. الله أكبر! انظر كيف! {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. وتعبدت عبادة ذُكرت بها في عصرها من شدة اجتهادها، فتحولت أم البنين من امرأة تستقبل الشعراء، وتسمع أخبار العشاق، إلى امرأة عابدة مجتهدة صالحة فاضلة. قال: فرفضت فراش المملكة، وقامت تحيي ليلها، وكانت كل جمعة تحمل على فرس في سبيل الله أي: كانت كل جمعة تجهِّز فرساً يخرج في سبيل الله عز وجل تكفيراً وتوبة، وكانت تبعث إلى نسوة عابدات يجتمعن عندها ويتحدثن انتهت أيام الشواعر والمطربات والطبالات والكلام الفارغ. فالآن من جلساؤها العابدات، الزاهدات، المتقيات. تقول أم البنين: أحب حديثكن، فإذا قمت إلى صلاتي لهوت عنكن سبحان الله! كيف رسخ الإيمان في قلبها إلى هذا الحد. وكانت تقول: البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة والله هذا هو البخيل، الناس لو رأوا واحداً عنده مال، ولبس ثوباً ليس مناسباً، وأكل أكلاً جافاً قالوا: بخيل، تبخل على نفسك، أما تكرمها. فهذه معايير البشر أهل الظاهر الذين يرون ظاهر الأمور؛ لكن حقيقة الأمر: البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة، فما عمل لها ولا اجتهد لها، وماذا تعادل الدنيا هذه كلها بالنسبة إليها. وكانت تقول: جُعل لكل إنسان نُهمة في شيء فكل إنسان له نُهمة، بعضهم نهم في الطعام، بعضهم نهم في النكاح، بعضهم نهم في سماع الشعر مثلاً، له هواية، وذوق، ومزاج. قالت: وجُعلت نُهمتي في البذل والإعطاء، والله للعطية والصلة والمواصلة في الله أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، والشراب البارد على الظمأ سبحان الله! جعل الله نُهمتها في العطاء والبذل والإحسان، هذا خير عظيم فتح عليها. قال: وهل يُنال الخير إلا بالاصطناع؟ وكانت على مذهب جميل حتى توفيت رحمها الله. إذاً: يا إخوان! واضح، فهذه معصية وقعت، وذنب وقع؛ ولكن أعقب ذلك هذه التوبة وهذه الاستقامة، وهذا الخير، وربما لم تكن لتنال ذلك الخير ولا تحصل عليه لولا أنها لم تقع في تلك الكلمة. ولقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثة عشر مشهداً من مشاهد العبد في الذنب؛ وعند ذكرها إن شاء الله سنعلق على بعض المشاهد، وهي التي تشمل مشهد الخوف، مشهد الإجلال، ومشهد الحياء، يعني: الذنب هو ذنب إذا وقعت فيه، لا يذهب بك الشيطان إلى القنوط واليأس من رحمة الله، في هذه الحالة قف فأنت في مشاهد عظيمة مع الله سبحانه وتعالى، في لحظة الذنب والخطأ هنالك موقف التوبة والضراعة والإنابة والذل والانكسار والعبودية، مواقف عظيمة جداً، ولهذا كما ذكر من كلام يحيى بن معاذ وغيره من العلماء الذين فضلوا حال التائب الذليل المنكسر على حال الطائع، لأن الطائع قد يُدِل ويُعجب ويغتر بعمله، أما ذلك المنكسر الذليل المذنب الذي جاء يطرق الباب مسكين، أين ملجؤه؟ أين ملاذه؟ لا يُتهم؛ لأنه جاء طالباً راجياً، أما ذلك فربما أصابه عجب، وتحدثنا عن هذا فيما مضى.

قصة سلامة القس

قصة سلامة القس والقصة الأخرى قصة سلامة القس، هذا رجل من شيوخ القراء، كان اسمه عبد الرحمن، وكان يلقب بالقس، أو القسيس، كما أن أبا عامر العابد قيل له: أبو عامر الراهب، أو كما يقال: الحبر، يعني ألفاظ أو أوصاف أهل الكتاب، الحبر والراهب وأمثاله قد تطلق على من يقابلهم من هذه الأمة، فالرجل لشدة عبادته كان يلقب بذلك، فكان عبد الرحمن القارئ عند أهل مكة من أفضلهم عبادة وأظهرهم تبتلاً، فمر يوماً بـ سلامة انظروا‍إلى الغناء يا إخوان! يقال لك: ماذا في الغناء؟ ليس فيه شيء، المفتري على الله ورسوله الأسبوع الماضي يقول: الغناء حلال، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه، يفترون على الله ولا يبالون، الغناء هذا الذي قال فيه ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس: الغناء الذي أباحه بعض السلف غير الغناء في زماننا هذا، هذا ابن الجوزي يقول: عندنا الآن الشبابة والعود والدف، وأضافوا إليها الألحان والأنغام، ماذا عند ابن الجوزي؟ ماذا كان في أيامهم بالنسبة لنا الآن، الآن يسمونها فرقة، وعندما يأتون بهم فعلى طائرة خاصة؛ لأنها فرقة، وآلاتها وأمورها، يؤتي لأجل زواج أو بشأن أن (تميت) حفلة من الحفلات، أو تميت أمة من الأمم، تميت قلوب أمة، انظروا هذا الغناء الذي كثير من الناس لا يبالي به، التليفزيون يغني، والإذاعة تغني، والشريط يغني، وهو يغني، حتى لَمَّا يقفل السيارة ويمشي إلى الدكان يغني حتى يصل ليشتري الأغراض، كل الحياة أصبحت غناء نعوذ بالله. هذا عابد قارئ عالم زاهد، مر بجارية، وكانت لرجل من قريش، فسمع غناءها، فقال له الشيطان: قف قليلاً عند الباب، واستمع إلى هذا الصوت الحسن ثم انصرف. فأطل مولاها وإذا: بـ عبد الرحمن عند الباب فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع، فتأبَّى عليه، فألحَّ عليه الرجل، فلم يزل به حتى وافق، فدخل، فقال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني، هو الحمد لله ويخاف الفتنة، هذا الذي يقول لك بعض الشباب في مجال الطب وفي مجال الخطوط الجوية، وما أدري أين: نحن نحاول أن نبعد عنها، الحمد لله الواحد يجتهد ما استطاع؛ لكن القضية أن النساء فتنة (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)، وهو الذي بالمؤمنين رءوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه، شفيق على هذه الأمة، وحذر من هذه الفتنة، المال والنساء، لا يقول واحد: والله ما يمكن أن أقع في المحظور أبداً. يبدأ قليلاً قليلاً، يأخذ الذي يبقى من الهلل في الصندوق، وفي النهاية يأكل نصف المشروع، بدأت بالهلل؛ لكن انتهت بالمليارات والملايين، وكذلك الزنا -نعوذ بالله- والفواحش، أولاً نسمع صوتها ثم نجلس ثم بعد ذلك يكون كما قال أحمد شوقي: نظرةٌ إلى آخره. قال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني حرام أن أراها؛ لكن الصوت هذه المرة ونمشي ولن نعيدها، ما دمتُ أُحرِجتُ ولكن لن أعيدها إن شاء الله. قال: فدخل فتغنت، فأعجبته، فقال مولاها: هل لك أن أحولها إليك؟ فتأبَّى وامتنع، فلم يزل به أيضاً حتى وافق ما في خلوة، وأنا وإياك موجودون، وما في مشكلة. فجاءت فجلست أمامه، فلم يزل يسمع غناءها حتى شُغف بها وشُغفت به، وعلم ذلك أهل مكة نسأل الله أن يغفر لنا ويستر علينا. الخبر السيئ ينتشر في الآفاق -نعوذ بالله، نسأل الله أن يستر علينا ذنوبنا وعيوبنا- فتسامعوا، وإذا بهم يتسائلون: عبد الرحمن القس؟ نعم. القس سمعها، وصار يصغي لها، وانتشرت في كل مكان. وأخذ المجرمون والشعراء من ذلك مجالاً للقصائد، كما في كتاب الأغاني وأمثاله، يقولون: الشافعي أفتى، لأن الشافعي قيل له: (هل عليَّ في القُبلة من حرج؟ قال: لا حرج إن شاء الله). وفلان قال، وفلان، في روضة المحبين ذكر ابن القيم رحمه الله نماذج من كلامهم هذا كثير. فمن جملتها انتشر الخبر في مكة، العابد الراهب الزاهد تعلق بهذه المغنية. حتى أنها مرة -بدأ الشيطان ينسج فيما بينهما؛ ولكن أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون تلك بداية التوبة والانقطاع- فاتحته وقالت له: أنا والله أحبكَ. فقال: وأنا والله أحبكِ. قالت: فما يمنعك من الوصال، فوالله إن الموضع لخال! بدأ الشيطان الآن في العميق ولا يوجد أحد، فقال: إني سمعت الله تعالى يقول: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وأنا أكره أن تكون خُلة ما بيني وبينكِ تئول بنا إلى عداوة يوم القيامة. قالت: يا هذا! أتحسب أن ربي وربك لا يقبلنا إذا تبنا إليه أوه! عندها فقه، الشيطان فقهها، فتقول: نعمل هذه المعصية الآن وبعد ذلك يتوب الله علينا، أنت حافظ للقرآن وعارف للأدلة، نتوب وكفى وانتهينا. قال: بلى بلى، يتوب علينا لو تبنا. قال: ولكني لا آمَن أن أفاجأ انظروا كيف تكون العودة إلى الله. ثم نهض وعيناه تذرفان، فلم يرجع بعد، وعاد إلى ما كان عليه من العبادة. سبحان الله! وعاد وهو أشد إيماناً وتقوى وخوفاً على نفسه، وعلى أذنه، وعلى عينه من الفتنة. هذا أيضاً مثال من الأمثلة الذي تكون فيه هذه الذنوب والموبقات سبباً أو داعياً إلى الخير.

استشعار شدة عذاب الله وأليم عقابه سبب للتوبة

استشعار شدة عذاب الله وأليم عقابه سبب للتوبة يذكر أيضاً الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى مثالاً آخر قصيراً لكنه عظيم جداً. قال وهيب بن الورد أحد العباد المشهورين المعروفين: بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول: يا رب! ذهبت اللذات وبقيت التبعات التبعة هي: المسئولية، أي: ذهبت اللذة، كسهرة ليلة، وجلوس مع فاجرة، وسماع لأغنية، ومجلس شر، إلى آخره، ذهبت اللذة تلك الليلة وانتهى؛ لكنه في الديوان ما تزال مسئوليته مكتوبة، فالإنسان يلقى الله يوم القيامة وقد انقضت اللذات؛ ولكن بقيت عليه التبعات. قالت: يا رب! ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب! سبحانك، وعزتك إنك أرحم الراحمين، يا رب! ما لك عقوبة إلا النار؟ الله أكبر‍‍! انظروا لَمَّا الله تعالى أيقظ قلبها بالإيمان. يا رب! ما لك عقوبة إلا النار؟ لأنها تذكرت، ليس بعد هذه الدار من دار إلا الجنة أو النار، فتعجبت، لا إله إلا الله: ما لك من عقوبة إلا النار؟ يعني: ليس هناك أي مخرج آخر؟ نعم، إما الجنة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] هذا فاز؛ لكن إن كانت النار، فما هي النار؟ لو سيرت فيها جبال الدنيا لذابت من شدة حرها، أعوذ بالله، ليس هناك غير هذا. إذاً: ما الحل؟ وما المخرج؟ قالت: يا رب! ذهبت اللذات، وبقيت التبعات، يا رب! سبحانك وعزتك إنك أرحم الراحمين، يا رب! ما لك عقوبة إلا النار؟ وكانت معها امرأة أخرى صالحة تمشي معها قالت: يا أخية! دخلتِ بيت ربك اليوم؟ تظن أنها دخلت الكعبة، قالت: والله ما أرى هاتين القدمين أهلاً للطواف حول بيت ربي فكيف أراهما أهلاً لأن أطأ بهما بيت ربي وقد علمت حيث مشتا، وأين مشتا سبحان الله العظيم! تذكرت أن هاتين القدمين مشتا إلى معاصٍِ وفجور، والآن جاءها الندم، فكان تذكُّرها لتلك المعاصي والذنوب أعظم دافعٍ -بتوفيق الله سبحانه وتعالى- لأن تستقيم، وأن تستشعر هذا الشيء. امرأة عامية، ما عندها كثير علم، كما قال الأعرابي: لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ؛ لكن عندها هذا الفهم العجيب: ما لك عقوبة إلا النار؟ شيء عجيب لو أن العاقل تفكر‍‍، هذه العبارة الصغيرة والله إنها تكفي عِبَراً لأي معتبر، ما لك عقوبة إلا النار؟ يعني لو أن هناك مخرجاً آخر، لو أن هناك ملاذاً أو ملجئاً. إن لم تكن من أهل الجنة فإنها إلى النار. والنار هي ما علمنا. إذاًَ: يا رب، أين الملاذ؟ أين المهرب؟ أين المنجى؟ فلذلك تابت وحسنت توبتها وكانت على ذلك. وأقول: الكتاب قيم حقيقةً كما قلت لكم، ولو أنه يُعلَّق عليه لوجدتم فيه فوائد عظيمة جداً. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتوب علينا.

ذنوب العباد بين الكبائر والصغائر [2]

ذنوب العباد بين الكبائر والصغائر [2] في هذه المادة يتحدث الشيخ عن مسألة مهمة في تربية النفس وتزكيتها، ألا وهي: فضل اقتران الوقوع في الذنب بالخوف والحياء من الله سبحانه وتعالى، وبين أن أعمال القلوب هي الأساس الذي يبنى عليه التفاوت بين الناس، ودلل على ذلك بأمثلة من الواقع، ثم ختم هذه المادة بالحديث عن التوبة والأسباب المسقطة للعقوبات.

فضل اقتران الذنب بالخوف والحياء

فضل اقتران الذنب بالخوف والحياء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد: فلا زلنا في الحديث عن هذه الكلمات الخيرات في فقه التربية -أو كما أحب أن أسميه فقه التزكية- لأن الله سبحانه وتعالى سماها تزكية حيث قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]. هذه الكلمات التي جاء بها الشارح رحمه الله تعالى، نحتاجها جميعاً، ونحن طلبة العلم قد نكون أحوج ما نكون إليها، ثم ننقلها ونعلمها إلى غيرنا من العامة، وهي من قوله: (ولكن ثمة أمر ينبغي التفطن له). وقد تعرضنا لشرحها، وقلنا: إن بعض الذنوب والمعاصي التي يقع فيها العبد ربما تكون سبباً في تغيير خط حياته بالكلية، وتحوله من طريق الضلالة والغواية والفجور إلى طريق السنة والهداية والتقوى. وذكرنا على ذلك أمثلة ونماذج مما ثبت وصح، ومما ذكره العلماء -أيضاً- من أخبار التائبين من كتاب: التوابين للإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في بيان فضل وأثر اقتران الذنب بالحياء والخوف إن وقع من العبد، كما ذكر الشيخ هنا، من أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وبخلاف ذلك وضده تماماً، الصغيرة التي يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة والاهتمام بها ما يلحقها بالكبائر. نسأل الله العفو والعافية.

أعمال القلوب يبنى عليها التفاوت بين الناس

أعمال القلوب يبنى عليها التفاوت بين الناس ثم أن قال رحمه الله: (وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل). وهذه حقيقة عظمى من حقائق الإيمان؛ ولهذا يجب أن نعلم جميعاً أن أعمال القلوب هي الأفضل وهي الأساس، وهي أصل كل الأعمال، أما أعمال الجوارح فقد يشترك فيها الناس، ومع ذلك فهم متفاوتون في أعمال القلوب. ومن أوضح الأمثلة على ذلك: الصلاة. حيث يقف الناس جميعاً خلف الإمام، ولكن بين هذا وهذا في الأجر والمنزلة والدرجة والثواب الشيء الكثير والبون الشاسع جداً؛ وذلك بأعمال القلوب، فأما أعمال الجوارح فقد يكونوا كرجل واحد في متابعة الإمام، لكن تجد هذا يصلي بخشوع وحضور قلب واطمئنان، وتأمل وتدبر، وتفكر في آيات الله تبارك وتعالى المقروءة، فهذا حاله غير حال ذلك الذي يصلي بلا حضور قلب وبلا خشوع واطمئنان، بل ربما كان أقل بكثير جداً. وكذلك الحال في الجهاد، فليس الجهاد بكثرة الإبلاء في العدو، وكثرة القتل فيهم، ولكنه بالإخلاص وبصدق النية مع الله سبحانه وتعالى، وإن كان حال المرء كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة) لا يبالي في أي موقع كان. وكذلك الصدقة والنفقة، فليست العبرة بكثرتها ولا بمظهرها، ولكنها بحقيقة إيمان صحابها وصدق يقينه، وإخلاصه وتجرده عن الدنيا، وبذله ما أعطاه الله وجعله مستخلفاً فيه في سبيل الله، ولهذا قال صلوات الله وسلامه عليه: (سبق درهم ألف درهم) فدرهم يتصدق به الإنسان وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، وقد لا يكون لديه فضل مال غيره خير من ألف درهم، بل خير من آلاف الآلف إذا كانت تعطى من غير نية صادقة، خالصة لله، ومن غير هذه الصفات التي اجتمعت في الأول، والناس في ذلك متفاوتون على مراتب ودرجات. فأعمال القلوب كما قال رحمه الله: (هذا قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره). ثم قال: (وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره). وهذا أمر آخر فالقضية إذاً ليست قضية ذنوب أو معاصٍ ارتكبت، أو حرمات انتهكت -هذه تقع- لكن وقوعها من شخص غير وقوعها من آخر. وهذا أيضاً أمرٌ آخر، ومقامٌ آخر من المقامات التي نعرف بها اختلاف الناس في ذلك؛ فبعض الناس -كما أشرنا- ذنبه قد يكون سبباً لهدايته، ويكون حال التائب من هذا الذنب أفضل من حال ذلك المطيع المستقيم الذي قد يدل ويعجب بطاعته -هذه حالة-. الحالة الأخرى: أن وقوع الذنب من هذا غير وقوعه من ذاك، وهذا كثيراً ما يغفل عنه بعض الناس، فإذا رأى أن أحداً من أئمة هذا الدين -قد يكون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من دونهم- يقول: أليس من الصحابة من فعل كذا وكذا، فأنا أفعل مثله، ونسي هذا المسكين أن البحر العظيم المتلاطم من الحسنات مهما ألقي فيه من النجاسات لا تضره، وأما ذلك المسكين الذي ليس لديه إلا إناء صغير، فإن أقل قذارة أو نجاسة تنجسه كله، فقارن حاله بحال غيره في المعصية فقط. قال بعض الصحابة: إن الربا نوع واحد، وبعضهم يقول: إن بعض العلماء أباح الغناء، واستماع الصوت مثلاً، وقال الآخر: إن بعض العلماء أجاز النبيذ أو شيئاً من ذلك، فهذه رخص العلماء التي هي مخالفة للدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال العلماء: من تتبع رخص العلماء تزندق؛ لأنه يجمع الرخص من هنا ومن هنا فيخرج وقد أصبح زنديقاً والعياذ بالله. فلو اتبع كل واحد من الناس ما ترخص فيه بعض الأكابر والفضلاء لما بقي له من الدين شيء، فكيف يقرن الضعيف المسكين -الذي لا فضل له ولا جهاد ولا سابقة- نفسه بعمل أولئك؟ بل حتى بين الأكابر والفضلاء أنفسهم يكون التفاوت بينهم، والعقوبة والمؤاخذة بحسب ودرجاتهم وفضلهم.

ذكر قصص موسى وعفو الله عنه لعظيم إحسانه

ذكر قصص موسى وعفو الله عنه لعظيم إحسانه هذا الكلام بنصه من قوله: (ولكن إلى: وغيره)، منقول من مدارج السالكين، الجزء الأول (صفحة 328)، وعقب هذا الكلام يأتي شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله بكلام لشيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ ليدلل به على كلامه المذكور؛ فيقول: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه) يدلل على أن الذنب من هذا غير الذنب من ذاك، وهذا بين الأنبياء فكيف بمن كان صحابياً أو تابعياً، أو كان له عند الله تعالى منزلة، ويأتي من لا قيمة له فيجعل نفسه مثله، فالتفاوت بين هذا وهذا أعظم.

من مواقف موسى عليه السلام

من مواقف موسى عليه السلام يقول: (انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله) وهو هارون، أخذ بلحية أخيه ولهذا قال: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} [الأعراف:150]، (ولطم عين ملك الموت ففقأها) والحديث في الصحيح، لطم عين ملك الموت وقد جاءه بالحق، والله سبحان وتعالى إنما يبعثه ويرسله بالحق، ولا مناص ولا فكاك لأحد من الموت، ولكن نبي الله تبارك وتعالى موسى يلطمه، يقول: (وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه). كيف لو بدرت هذه الأعمال من أحد؟! لو أن أحداً ألقى كلام الله، والله سبحانه وتعالى إنما أوحى إلى موسى أنه سيكرمه ويصطفيه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:155] وذهب صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى حيث أراد الله سبحانه وتعالى، وصعد إلى الجبل، وكلمه الله تبارك وتعالى، وأوحى إليه الكتاب الذي هو التوراة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فاصلاً ومعلماً عظيماً بين عهدين كبيرين من عهود التاريخ الإنساني. هذان العهدان كما قال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هما: العهد الأول: عهد إهلاك الأمم، وقد أهلكت الأمم، ولم يكن لله تبارك وتعالى كتاب باقٍ محفوظ، فقد أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام ولكنها لم تبق -كما تعلمون- وأما ما أنزله الله تبارك وتعالى على داود، وهو الزبور: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء:163] فإنما نزل بعد التوراة، لكن التوراة بنزولها: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} [القصص:43]، أي: القرون التي قبل التوراة، أما من بعد أن أنزل الله تبارك وتعالى التوراة فإنه لم يهلك أمة بأكملها من الأرض، وهذه مرحلة عظيمة جداً لهذا الكتاب؛ ولهذا فإن فرعون أهلك قبل نزول التوراة؛ لأنه أهلك أثناء خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر، فلما أن عبروا البحر إلى الصحراء، {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] وكانت القصة. ثم كانت دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، ثم قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ثم ضرب عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض -عياذاً بالله-، وفي جبل الطور أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وألقى إليه هذه الألواح -هذا الكتاب العظيم: التوراة-. ومع ذلك لما عاد إلى بني إسرائيل، لم يكن يعلم أن الله قد فتن قومه من بعده، فلما علم بذلك ألقى الألواح من شدة الغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولا شيء في الدنيا أعظم وأفضل من تلك الألواح؛ لأنها كلام الله، وكتاب الله عز وجل الذي أعطاه.

محاجة آدم لموسى عليهما السلام

محاجة آدم لموسى عليهما السلام ثبت في الصحيحين حديث محاجة ومخاصمة موسى وآدم عليهما السلام، وأول الخصومة من موسى، -وهذا مما يؤخذ ضمن الشواهد هنا- أن موسى صلوات الله وسلامه عليه قال: (أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته؟ خيبتنا وأخرجتنا من الجنة -بهذه القوة يعاتب أباه-. فأجابه آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وبكلامه، وخط لك التوراة بيده؟!) كل منهما يعرف قيمة الآخر، والكرام يعاتبون بما فيهم من خلال الخير، أنت يا فلان، أنت طالب العلم الذي كذا وكذا تفعل كذا، ويذكر ما يعلم من فضائله ومن محاسنه.

رمي الألواح ومعاقبة هارون عليه السلام

رمي الألواح ومعاقبة هارون عليه السلام لو أن أحد الآن ألقى المصحف على سبيل الإهانة له لكان كفراً بلا ريب، لكن أين هذا الفعل من فعل نبي الله تبارك وتعالى موسى، فعله موسى صلوات الله وسلامه عليه غضباً لله، ألقاها لأنه لم يعد يملك نفسه؛ ألقاها ليعاقب أخاه توهماً أنه هو السبب الذي أتاح لهم ذلك، لم لم تلحقني وتخبرني وتقول لي، وبين هارون عليه السلام له عذره: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] كل له اجتهاد. الشاهد: أن ذلك وقع من نبي الله صلوات الله وسلامه عليه، وأيضاً فإنه جر لحية نبي مثله، جعله الله وزيراً ونصيراً ومعيناً، وأفصح منه لساناً، وقام معه في الدعوة، وعادة الكرام وطبعهم أن من صحبك وعاشرك وأعانك أنك لا تسيء إليه، لكنه صلوات الله وسلامه عليه من أفضل الكرام، وما خالف طبعهم، لكنه في الغضب لله عز وجل هانت عنده هذه الأمور، نسي الألواح، ونسي قدر أخيه؛ غضباً لذات الله سبحانه وتعالى وجهاداً فيه. وأما عين ملك الموت فإنما لطمها بناءً على هذا.

موقف موسى مع فرعون عليه السلام

موقف موسى مع فرعون عليه السلام يقول الشيخ: (لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعتى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر). له مقامات ومواقف، من الذي استطاع أن يقف أمام فرعون الذي ادعى الألوهية فقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وادعى الربوبية: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] أعوذ بالله، لم يتجرأ أحد على التلفظ بمثل هذا، وبهذه القوة والعناد؛ ولهذا ما تحدث الله تبارك وتعالى عن عدو من أعدائه كما أخبر وقص علينا من خبر فرعون، نسأل الله العفو والعافية. مع هذا الطغيان، فإن أمة القبط كانت خانعة وخاضعة له، وأما بنو إسرائيل فهم عبيد عند الأقباط، يستضعفونهم، ويستحيون نساءهم، ويذبحون ويقتلون أبناءهم، فليس لهم أي قيمة؛ فيأتي هذا الرجل -موسى عليه السلام- وهو وحده، إلا أن الله تعالى جعل معه أخاه هارون وزيراً، ويواجه هذا المجرم ويناظره ويجادله، ثم يبلغ به من قوة إيمانه ويقينه وتوكله على ربه، وثقته بما يوحي إليه أن يقول: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] يطلب أن يكون في يوم العيد، وأن يجتمع الناس جميعاً، وأن يروا أأنا على الحق أم أنت يا فرعون؟! وهذه لا يصبر عليها ولا يطيقها إلا من كانت ثقته وقوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى ويقينه قوياً، ثم تكون له الغلبة والنصر!

موسى عليه السلام مع أمته

موسى عليه السلام مع أمته قد عالج عليه السلام ما عالج من أمر أولئك الأمة العتية الغضبية التي كتب الله سبحانه وتعالى عليها غضبه، وضرب عليها الخزي والذل أينما حلت وسارت، أمة بني إسرائيل العتاة، غلاظ الأكباد، عبدة الدرهم والدينار، هؤلاء الذين يرون آيات الله سبحانه وتعالى عياناً ثم ينكرونها، ويجحدون ويكابرون. يعطيهم الله سبحانه وتعالى من النعم، كما أعطاهم المن والسلوى، وكما أنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا يفعلون بهم ما يفعلون، وقبل تبارك وتعالى توبتهم لما عبدوا العجل، ولما نتق فوقهم الجبل وتابوا رفع العذاب عنهم، وطلبوا ما هو أردأ، استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ حتى بلغ بهم أنهم يقتلون الأنبياء بغير حق. أي أمة أعتى وأشد في الكفر والجحود والعناد من هذه الأمة؟! كتاب الله بين أيديهم، حرفوه وبدلوه، وافتروا على الله تبارك وتعالى الكذب، ويكتبون الكتاب بأيدهم ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، يأكلون بهذا الكتاب ثمناً قليلاً، يأكلون السحت والربا، قالوا في مريم وعيسى بهتاناً عظيما، قالوا في محمد صلى الله عليه وسلم إفكاً مبيناً. ماذا تعدد من ذنوبهم؟! إن الذي عالج هذا وتعب منه أشد التعب والمعاناة هو نبي الله تعالى موسى؛ فقد أخبر الله عنه فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] أي: أن النصر مضمون، ادخلوا، ولكنهم ردوا عليه: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] أعوذ بالله أهذا يقوله مؤمن بالله سبحانه وتعالى؟! كلما يأمرهم بأمر أو ينهاهم يبدلوه؛ حتى أنه لما قيل لهم: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58]، قالوا: حنطة، استهزاء وسخرية، فهذه الأمة عالج منها صلوات الله وسلامه عليه ما عالج، وتعب، وبذل ما بذل، من أجل أن تهتدي للحق. فصبره مع فرعون، ومع هذه الأمة، ويقينه بالله الذي ما فارقه، لما أمره الله تبارك وتعالى وبني إسرائيل أن يخرجوا؛ فخرجوا وأتبعهم فرعون بجنوده، فلما رأوا الماء أمامهم، قالوا: ما الحل؟ الآن العدو بجيشه وجبروته من وراء والبحر من أمام أين المفر؟ {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أمة لا يقين لها في الله: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] هذا اليقين لا يأتي لكل إنسان، فكثير من القلوب تهتز وتضعف، وتتزلزل وتنهزم، وتبدأ تفكر كيف تنسحب وتستسلم وتعتذر، ولكنه قال: {كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ثقة بالله سبحانه وتعالى. وغيرها من المواقف العظيمة لهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه تذكرنا بمواقف أفضل رسل الله سبحانه وتعالى، وأكثرهم جهاداً في ذات الله محمد صلى الله عليه وسلم من بعده.

موسى عليه السلام يعاتب ربه

موسى عليه السلام يعاتب ربه وكذلك قوله ليلة الإسراء يعاتب ربه سبحانه وتعالى: أتبعث هذا الغلام من بعدي، وتجعل أمته أفضل من أمتي. هذا شيء لا يقوله أحد إلا من كان لديه من القرب من الله عز وجل ما يجعله يقول مثل هذا الكلام ويعاتب ربه ويقول مثلما قال. يقول: (ومع ذلك فإن ربه تبارك وتعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدلله). هذه العبارة التي علق عليها الشيخ، وهي بيان أن هذا الإكرام له منزلة خاصة عنده، ولم يصف الله سبحانه وتعالى، أو يجعل من أسماء الله سبحانه وتعالى اسماً زائداً، وإنما هو تعبير. ويكفي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يكرمه ويعطيه ما يريد، ويسارع في هواه، ولا يؤاخذه بهذه الأعمال رغم أنها مخالفة لما كان ينبغي أن يكون، كما وضحنا في حديث محاجته لأبيه آدم لما أن رآه وتقابلا. الصحيح أنهما تقابلا ولكن أين؟ أولاً: هل نقول إن القصة هذه إخبار عما سيقع، أو نقول وقعت؟ الصحيح أنها وقعت؛ لأن ظاهر اللفظ أنهما تحاجا، فالمحاجة قد وقعت. والأمر الآخر أنهما التقيا في دار البرزخ، وهذا ليس بغريب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه قابلهما وسلم عليهما، وغيرهما من الأنبياء كيحيى وعيسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهذا لا غرابة فيه، فلما حصل بينهما اللقاء عاتب موسى عليه السلام أباه آدم عليه السلام. يا موسى! ما مضى مضى، أكل أبوك آدم من الشجرة، وغفر الله تبارك وتعالى له وتاب عليه، ثم جئت من بعده، وأنت الآن في جنة البرزخ، أنت الآن فيها، فما وجه المحاجة والمخاصمة؟ محاجته ومخاصمته كانت في ذات الله عز وجل، هو في عالم الآخرة -أو البرزخ- كما هو في عالم الدنيا، لا يقبل المخالفة أبداً؛ ولهذا قال له: خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، كيف يحصل هذا منك؟ مع أنه قد قضي؛ فكان الرد من الأب على الابن: (يا موسى! أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، ألست تقرأ فيها أنه كتب علي أن يخرجني منها قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى -ثلاثاً-) حجه: أي: غلبه بالحجة، وهي قوله: كتب الله علي أني أخرج منها قبل أن أدخلها بأربعين سنة، وهذه -والله أعلم- هي الواردة في قوله تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] هذه الأربعين سنة، بين خلقه له وبين نفخ الروح فيه. نعم الإخراج من الجنة بسبب الذنب له حكمة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى؛ حتى يعرف بنو آدم خطر الذنوب والمعاصي وإن هانت أو قلَّت، وأن يعرف الإنسان عدوه الشيطان الرجيم فلا يطيعه أبداً، هذا عدوك الذي أخرجك من الجنة، وأخرج أبويك، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]. لا يقول الإنسان: هذه معصية صغيرة، وذنب بسيط، أحل الله له كل شجر الجنة إلا شجرة واحدة محرمة، فأكل منها طمعاً في الخلود وتغريراً من الشيطان، لاسيما إذا اقترن بذلك الإيمان المغلظة: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]. وبعض الناس والعياذ بالله من أجل العافية، والراحة، وطول العمر، تجده يقول لك: هناك ولي -لا يقولون: كاهن- من السادة إذا ذهبت عنده أعطاك بعض الأعشاب فلا يصيبك سرطان ولا مرض وطوّل العمر، ويجعل الشايب يعود شباباً. ما هي القضية وكيف يصنع؟! يكتب وحرزاً تحفظه، وحاجات تمحوها وتشربها. هذا سببه حب الخلود، فهو شايب يريد أن يعود شباباً، ويتزوج امرأة شابة، فيقول: والله هذه فرصة، وما هذه إلا خدعة الشيطان اللعين، فأول الأمر يخدعك به، ثم تذهب إليه فتصدقه بما يقول، ثم تكون النتيجة: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) النتيجة: الكفر والعياذ بالله.

قوة موسى عليه السلام في الحق

قوة موسى عليه السلام في الحق أما موسى صلوات الله وسلامه عليه، فقوته في الحق حتى مع نفسه، وهكذا دائماً كل من كان قوياً في الحق وصادقاً، تجد أنه قوي وشجاع حتى مع نفسه، هكذا كان الأنبياء والرسل، والمجاهدون والصحابة والتابعون، ما كان أحد في هذه الأمة أشد هيبة من عمر رضي الله تعالى عنه، عمر إذا سلك فجاً؛ سلك الشيطان فجاً آخر، ومع ذلك ما كان يستنكف أن يقال له: أخطأت، ولا أن يتراجع عن خطأ أخطأه، وهذا من قوته وشجاعته، يتراجع ويستمع، ويقبل من يقول له ويوجهه. ففي أي قصة من كتاب الله تظهر لنا قوة موسى صلوات الله وسلامه عليه حتى مع نفسه؟ {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] سبحان الله! يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وددت أنه صبر حتى يطلعنا الله تعالى من أنبائهما) شيء عجيب، وقصص عجيبة جداً، لكن ما مرت إلا ثلاث فقط؛ لأنه لما وقعت الثانية حكم موسى صلوات الله وسلامه عليه على نفسه. ماذا قال له في الأولى؟ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:72] فكانت الأولى نسياناً: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73] وهكذا الكرام والمتأدبون وطلاب العلم. وأما الثانية: ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) [الكهف:75] فرأى أنه أخطأ {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] أنت معذور معي، ولك الحق كل الحق أن تطردني وتفارقني إن تجرأت عليك مرة ثالثة. لكن الثالثة جوع وتعب وإجهاد، ومسافة طويلة، فقد نسي الحوت ورجع من أجل أن يأخذه؛ فقد قطع المسافات، ذهاباً وإياباً، وأصابة الجوع والجهد، ثم يأتي إلى القرية اللئيمة فيقول: يا عباد الله! أطعمونا، فيأبون أن يضيفوهم، بل ينهرونهم. فلما رأى موسى صلوات الله وسلامه عليه هذه الحالة قال الخضر: تعال نبني هذا الجدار، ورد في بعض الروايات في الصحيح أنه قال له: قم، فقام بإذن الله، لكن الذي يرجح الروايات الأخرى أنه بناه وتعب؛ لأنه قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] والأجر يكون على شيء بذلت فيه جهداً، فنرجح الروايات الأخرى. فلما انتهيا من البناء {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] قليلاً من الدراهم غداء وعشاء، نملأ هذا الفراغ وهذا الجوع، فكان ترجياً ولم يكن اعتراضاً قوياً، ومع ذلك: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78]. انتهى الأمر، ما قال له موسى لا؛ لأنه قد قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:76] فكان قد حكم على نفسه، فقبل الحكم، فانظر القوة التي أعطاه الله تبارك وتعالى بالحق لذات الله ولوجه الله سبحانه وتعالى، وليست انتصاراً لحظ النفس أبداً. حتى لما قتل القبطي: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] ما قتله لحظ نفسه، لكن استغاثه رجل من بني إسرائيل اجتمع عليه الأقباط. فهذه قوته صلوات الله وسلامه عليه، قوة البدن والقلب واليقين، ومع هذه القوة كان له عند الله تبارك وتعالى من المنزلة والمكانة ما جعل إلقاء الألواح، وجر لحية أخيه، وعتابه لربه ليلة الإسراء والمعراج، وضربه ملك الموت، وعتابه لآدم، كل هذه لا تساوي شيئاً، ولم تكدر هذا البحر العظيم من المكارم والمناقب والفضائل والحسنات.

موقف يونس بن متى عليه السلام من قومه

موقف يونس بن متى عليه السلام من قومه قال: (وفي المقابل انظر إلى يونس بن متى صلوات الله وسلامه عليه حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرة، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى). كلاهما نبيان، لكن هذا دعا قومه إلى الحق فكذبوه؛ فذهب مغاضباً: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، أين الصبر والتحمل؟ أليس محقاً صلوات الله وسلامه عليه؟ بلى والله إنه لمحق، والله ما دعاهم إلا بما أوحى الله إليه، ولا دعاهم إلا إلى توحيد الله، ولا دعاهم إلا إلى طاعة الله، لكن لم تغضب وتذهب، اصبر وصابر ورابط وادع، ولو لم يستجيب لك إلا واحد. لا تقل: لم يصغ لي، كيف أنذركم عذاب الله وتستهزئون بي، وتسخرون مني، إذاً: لا مقام لي بينكم، فذهب، وفي السفينة شهد على نفسه. قال القبطان: إن هاهنا رجل ارتكب ذنباً، قال: أنا هو؛ فألقوه، كما الله تعالى في هذه الآية: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] ثم ذهب يجوب به، حوت عجيب، وما كان يعلمه الناس من قبل من الحوت إلا من أطلعه الله تبارك وتعالى عليه، أما الآن حتى الكفار الذين لا يقرءون كلام الله يعجبون من عظم الحوت، وكبر خلقته، وحياته، ومن ثم يقول: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] نعم. بطن الحوت ظلمة، وظلمة الليل ظلمة، وظلمة البحر، فأعماق البحر ظلام مطبق؛ لأن شعاع الشمس لا يستطيع أن يخترق هذه المسافة الهائلة. كم أبعد نقطة ما بين سطح الماء وقعر البحر؟ هذا من علم التفكر في ملكوت السماوات والأرض، يقولون إنها تصل إلى عشرة كيلو مترات، وكما ترون الآن في البحار أن الشمس لا يمكن أن يصل شعاعها إلى هذا الحد أبداً، وفي قعر البحر تعيش أنواع من الحيتان والأسماك، وبعضها لها شكل الفسفور الذي يضيء في ذلك الظلام مثلما تضيء الساعة. وفي قعر تلك الظلمات تسمع الملائكة تسبيحاً، يا رب! صوت معروف في مكان غريب، والملائكة تعرف الصوت، لكن المكان غريب ما عهدناه، هل عهدنا أن إنساناً يسبح في ظلمات البحر؟ وهم لا يعلمون الغيب، كذب المخرفون، وكذب الصوفيون، وكذب المبطلون الذين يدعون أن أحداً غير الله يعلم الغيب، لا والله ما يعلمون، ولكن الله سبحانه وتعالى يطلعهم: هذا عبدي يونس ذهب مغاضباً فعاقبته بذلك. ثم يكون ما كان لما أراد الله سبحانه وتعالى له أن يقذفه الحوت إلى البر، وأن ينبت عليه شجرة من يقطين، ويرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، ثم كانت هذه الأمة -كما تعلمون- لها موقف تتميز به عن بقية الأمم، بالشر والغلظة والعتو والعناد والجحود، مع قوته صلوات الله وسلامه عليه، ونجد أن قوم يونس صلوات الله وسلامه عليه مع هذا الذي وقع فيه، ومع ضعف صبره، لم يكن من أولي العزم، ولا كموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نجد أن قومه بخلاف أولئك. فإن قومه لما رأوا العذاب تضرعوا إلى الله، فأخذوا النساء والأطفال والدواب، وخرجوا في الصعدات، وأخذوا يبكون ويتضرعون ويستغيثون: يا رب! يارب! حتى رحمهم الله سبحانه، فكشف الله عنهم العذاب في الحياة الدنيا، وهذه آية عظيمة من آيات الله تدلنا على فضل اللجوء إلى الله، وقيمة الضراعة إليه سبحانه وتعالى، وأنه إذا أهمك أمرٌ أو حزبك فالجأ إلى الله؛ لأن كل شيء بيده سبحانه وتعالى. مهما بلغت الذنوب وكثرت فالجأ إلى الله سبحانه وتعالى ولا تخف؛ فإنه سينجيك، المهم أن تتوب ما دام للتوبة مجال.

شفاعة الأعمال لصاحبها

شفاعة الأعمال لصاحبها يقول ابن القيم رحمه الله: (ففرق بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنب وجاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل في شعر العرب: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع ) ثم ذكر بعد ذلك كيف أن الأعمال تشفع لصاحبها، وذكر كلاماً قيماً نفيساً جداً، من صفحة (329) في حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، ولولا أن المقام لا يتسع، والكلام في التوبة طويل وطويل لذكرناه لنفاسته ولأهميته.

حديث البطاقة (لا إله إلا الله)

حديث البطاقة (لا إله إلا الله) قال: (وتأمل حديث البطاقة الذي توضع في كفه، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر). لا إله إلا الله! كل سجل منها مد البصر! فيه ذنوب، وموبقات، ومعاصٍ، وغفلة، وإعراض، وغيبة، ونميمة، وقطيعة، وشتيمة، وكله ذنوب؛ فتوضع البطاقة فتثقل هذه البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء، تثقل البطاقة لأن فيها اسم الله، وتطيش السجلات وكأن شيئاً لم يكن. يقول: (ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه). قال: (ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة). أي: لا يقول الواحد منا والله هذا حديث عظيم، كلمة لا إله إلا لله ثقلت وطاشت السجلات، إذاً: نفعل ما نشاء وعندنا لا إله إلا الله، فنقول: القضية ليست قضية بطاقة فقط، هناك حقائق وأعمال للقلب، من الذي يستطيع أن يدعي أنه مع هذه السجلات لديه من أعمال القلب واليقين ما يجعل البطاقة ترجح؟ ولهذا فهذه الحالات لشذوذها وخروجها عن القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت على القاعدة ما ذكرها فالذي على القاعدة لا يحتاج أن يذكر ويفرد بالذكر، كأن يقال إن رجلاً جاء، ورجحت حسناته على سيئاته فأدخل الجنة، لا يأتي حديث مثل هذا، فهذا معروف وقاعدة معلومة عند الناس، لكن هذا الرجل ذكر لغرابة حاله. إذاً: لا يأخذ من هذا الحديث أحد قدوة إلا في أمر واحد، وهو تحقيق التوحيد؛ لأن تحقيق معنى لا إله إلا الله هو الذي جعل الأمر هكذا. ثم قال: (وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى؛ فانظر إلى ذكر من قلبه مملوء بمحبتك، وذكر من هو معرض عنك غافل ساهٍ، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قبله إلى محبة غيرك، وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحداً؟) سبحان الله! الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (وإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم). أنت -ولله المثل الأعلى-ليس حال الذي يذكرك وتذكره مثل غيره، فالحالان مختلفان بسبب ما قام في القلب.

حال قاتل المئة نفس

حال قاتل المئة نفس قال: (وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته على أن ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت). انظروا كيف أن التائب له عند الله تعالى منزلة عظيمة، وأن الله يجب أن نتوب إليه كما أمر فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31] وأنه يجب أن نحث الناس جميعاً على التوبة، فهذه منزلة عظيمة مهما كانت الذنوب، وهو يعالج سكرات الموت يخاف أن يموت وهو في القرية الفاجرة، فينوء بصدره ويتحرك لكي يزحف ولو قليلاً؛ ليقرب من أرض التوبة والخير. فيا من أعطاك الله تعالى المهلة والعافية، والعلم والفراغ والوقت! ألا تتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا يعالج التوبة وهو في هذه الحالة، أفلا نتوب نحن؟! جعلنا الله من التائبين الصادقين.

قصة البغي مع الكلب

قصة البغي مع الكلب (وقريبٌ من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى). القلوب لها مفاتيح، وسبحان الحي القيوم الذي خلقها هكذا، بعض القلوب لا تأتي من باب الصلاة ولا الصوم، تأتي من باب الشفقة والرحمة، مهمل في صلاته وطاعة ربه، لكن لو قلت له: هناك فقير انكسر خاطره، وسعى إلى جبره، وهذا باب من أبواب الخير يُفتح له. إذاً: أنت أيها الداعية! ادخله من هذا الباب؛ حتى يدخل إلى المسجد وإلى الصلاة والصيام والحج، والأساس هذا الباب، لا يوجد مانع، المهم أنك تعرف مفتاح القلب من أين. ولهذا من غفلة بعض الدعاة -وليس هذا من منهج النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته أبداً- أن له موقفاً واحداً، كلما جاءك واحد قال له: أنت ليس فيك خير، صل واتق الله. فلو كانت الدعوة هكذا لكانت سهلة، نحفظها أي واحد، أو نسجلها في شريط ويقولها لكل شخص، لكن الدعوة ليست هكذا، عليك أن تعرف أساليب الدعوة إلى الله، فهذا رجل نأتيه من جانب العرض والغيرة. رجل غيور يقاتل حتى لا يرى أحد امرأته أو أخته، لكنه في الصلاة والعبادة مضيع، فتدخل إليه من باب الغيرة، فقل له: يا فلان! أنت ما شاء الله غيور، هذه الغيرة يا أخي من الإيمان، ولهذا ما رأيك أن تخرج من بيتك هذا المنكر؟ وهكذا تتدرج معه حتى يوفق الله بهداه. وهناك أناس تأتي إليهم من باب الإنفاق، وأناس من باب الشجاعة، فتقول له: أنت لا تقدر أن تقول كلمة الحق، هل أنت خائف؟ قل لفلان، وأنكر عليه، والله ما قدر أحد أن يكلمه، فاذهب أنت وكلمه. فيقول: أنا أقدر أكلمه من يكون وماذا يكون؟! فيذهب يكلمه، فهذا تدخل عليه من باب الشجاعة؛ فكيتب الله الأجر، وهكذا وهذا ما فعله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأمثاله، فالداعية الحكيم ينظر إلى أحوال الناس، فلكل قلب مفتاح، أما الخطاب العام فلا ينفع في ذلك. فهذه بغي، وهناك فرق بين امرأة زنت وبين امرأة بغي، فمعنى بغي أنها محترفة وممتهنة لهذه الحرفة الدنيئة الدنسة التي تترفع عنها الحيوانات. وأشنع من ذلك فعل قوم لوط، لا يفعله الحيوان، فضلاً عن أنك تجد حيواناً يحترف ذلك، إلا الإنسان إذا انحط وسفل عن دين الله، وكرامة الله التي أكرمه بها، وهي التمسك بالتقوى وبالطاعة. هذه البغي رأت كلباً اشتد به العطش حتى أصبح يأكل الثرى، فقام بقلبها وازع الرحمة، مع عدم الآلة -فلم يكن عندها دلو- وعدم المعين -ليس عندها أحد يعينها- وعدم من ترائيه بعملها. وهذا ليس ولد فلان، بل هذا كلب لا يفهم ولا يمكن أن تمن عليه، فهذه صفات مبررات للقبول بإذن الله: ليس لها معين، ولا عندها آلة، ولا يوجد من ترائي أمامه أوتمن عليه، بل هو كلب لو مات لا أحد يسأل عنه، ولا يعبأ به. فحملها وازع الرحمة في قلبها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، فلو انفك الخيط أو الشجرة التي تمسك بجذعها، أو وضعت قدمها على حجر ضعيف، فإنها ستموت، فيقولون: ماتت من أجل الكلب، لكن حقائق الإيمان إذا قامت في القلوب لا تبالي، وهذا هو المعنى الحقيقي لقول المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام النفوس الكبيرة هي التي عرفت قيمة الجنة، وأن سلعة الله غالية، وأنها لا تشترى بالضعف والمهانة والاستكانة، وإنما تشترى بقول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقيام مقام الأنبياء، هكذا فليكن من أراد طريق الجنة. فنزلت البغي وملأت الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها لخفها بفيها، والواحد منا لا يضع خفه أو شرابه في فمه، لكن كل هذه المعاني ذهبت؛ لأن أمامها هدف؛ لما قام في قلبها داعي الخشية والرحمة والشفقة نسيت كل هذه الاعتبارات، فحملت خفها بفيها حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء؛ فغفر لها. فانظر حالها وحال الأخرى التي رآها النبي صلوات الله وسلامه عليه في قصة كسوف الشمس، وأخبرهم صلوات الله وسلامه عليه: أنه رأى الجنة ورأى النار، ورأى في النار امرأة تعذب في هرة، لا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها؛ حتى تأكل من خشاش الأرض هذه في النار تعذب، وهذه مع البغاء والزنا، وامتهان هذه الحرفة الخبيثة غفر لها. إذاً: القضية ليست مجرد أن هذا أذنب أو هذا لم يذنب، كل ابن آدم خطّاء، ولكن يجب عليك أيها العبد الصالح دائماً إذا أخطأت أو أذنبت أن تستحضر التوبة والندم، والانكسار والحياء من الله سبحانه وتعالى، ومراقبة الله حتى تعلم أن هذا الفعل بسبب أن الله أو كلك إلى نفسك، فإذا قامت هذه الحقائق بقلبك؛ فإن هذا الذنب يكون بداية خير كثير.

أهمية التوبة

أهمية التوبة ويقول رحمه الله تعالى في صفحة (181) في مسألة: لماذا التوبة وضرورة التوبة، ولماذا يكون المصر على الصغيرة أخطر وأكبر من التائب المقلع عن الكبيرة؛ لأن حالة الإصرار لا تخلو من أمرين، يقول: (الإصرار على المعصية معصية أخرى، والقعود عن تدارك الفارق من المعصية إصرار ورضاً بها وطمأنينة إليها، وذلك علامة الهلاك، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب). منهم من يذهب -والعياذ بالله- يزني ويعربد ويفجر في مكان ستره الله عليه، فيكتب ذلك في جريدة، دخلنا مرقص وملهى وفعلنا، فيقرؤه الملايين، أو يتحدث به في التلفاز والإذاعة، فسبحان الله! كيف يبلغ الشيطان من التلاعب بعقول بني آدم وإضلالهم؟ كيف يستره الله ويفضح نفسه؟! فيقول: لماذا المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الله تبارك وتعالى من فوق عرشه إليك أيها المذنب، هذا إن آمن بنظره إليه، وأقدم على المجاهرة فعظيم، وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر. فالمذنب المجاهر المصر بين حالين، ليس هناك حال ثالث: إما اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه ويراه وهو يعمل هذه الذنوب ومع ذلك يعملها، فهذا عظيم، ووالله أن العاقل لا يفعله فإن الإنسان تستحي أن يرى فلا تريد أن يراك أحد على شيء يكرهه، فكيف بالله تبارك وتعالى؟! وأشد من ذلك إن كان يظن أنه لا يطلع عليه ولا يراه، ولا يعلم ماذا يصنع، فهذا كفر، والكلام فيه مفروغ منه؛ لأنه مرتد. فيقول: فهو دائرٌ بين الأمرين: بين قلة الحياء -في حالة إيمانه بأن الله يراه وينظر إليه- وبين الكفر والانسلاخ من الدين؛ فلذلك يشترط في صحة التوبة تيقنه أن الله كان ناظراً إليه، ولا يزال مطلعاً عليه يراه جهرة عند مواقعة الذنب، وهذا من جملة ما يشترط للتوبة. وأكثر الشباب هداهم الله تعالى ووفقهم، بل أكثر الناس الذين أخطئوا الطريق، إنما جاءتهم التوبة لما استشعروا هذا الاستشعار، يفكر الواحد ويقول: كان الله تبارك وتعالى مطلعاً علي ويسمعني، ثم يحلم علي ويمهلني، كما قرأنا في قصة تلك المرأة التي عبرت ذلك التعبير العادي جداً، لكن فيه عبرة عظيمة، هذه الأقدام التي مشت يعلم الله أين مشت، سبحان الله! ذهبت اللذات وبقيت التبعات، تذكرت أين اللذات، سهرة مشاهدة فيلم فاسق أو مجلة خلوة بأجنبية معاكسة في التلفون، والله كلها إن كانت ملذات -وهي لا يستلذ بها إلا القلب المريض- ذهبت. اسأل أي شخص تمتع ما تمتع، تجد المتعة قد ذهبت، إلا إذا كان مثل ذلك الفاسد صاحب (الهربز) الذي جاءوا به في كتاب: ولا تقربوا الزنا قال له الطبيب: ما هو شعورك الآن وأنت تودع الحياة الجنسية والشهوة؟ فقال: خمس عشرة سنة وأنا أخذ حظي من هذا، يكفيني ذلك، الله أكبر! هذا حظه من الدنيا والآخرة، لكن المؤمنون يتمنون الجنة، ويريدون الحور العين والنعيم، وأنت ما عندك إلا هذه الخمس عشرة سنة وقد ذهبت وانقضت. أيها الإخوة! يوجد من شبابنا -مع الأسف- من يتمنى أن يعيش عيشة هؤلاء، فهل هذا يرجو الله واليوم الآخر؟! لا. بل حظه في الدنيا، قال: أنا اكتفيت، خمس عشرة سنة كان يزني وانتهى الأمر، فهذا حظه. ذهبت الملذات وبقيت التبعات، سبحانك يا رب! أما لك عقوبة إلا النار؟! والله لو تفكر الإنسان في هذا الكلام لكفى وشفى. قد علم أنه يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره.

أسباب سقوط العقوبات

أسباب سقوط العقوبات قال: (فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جنهم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة: السبب الأول: التوبة، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} [مريم:60] وقال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة:160] وغيرها، والتوبة النصوح: هي التوبة الخالصة التي لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، بحيث لو تاب من ذنب وأصر على آخر قبلت توبته؟ الصحيح أنها تقبل. وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها، أم لابد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر، فهل يؤاخذ بما قد عمله في كفره من الزنا وشرب الخمر، أما لابد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه، أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ الأصح، أنه لابد من التوبة مع الإسلام. وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها، مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس هناك شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وهذا لمن تاب؛ ولهذا قال: (لا تَقْنَطُوا) وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54]. فانظر إلى هذا الإله الكريم، الحليم الغفور الودود سبحانه وتعالى، كيف جعل هذه الأسباب لإسقاط العقوبة، هل من كرم أعظم من هذا الكرم؟! وجود أعظم من هذا الجود؟! وعفو وصفح وحلم وتجاوز مثل هذا؟! يجعل هذه العشرة الأسباب تسقط العقوبة في حال الذنب، أي: أن هذه ليست لمن لم يذنب، هذه لمن أذنب وأسرف على نفسه، ووقع فيما حرم الله، ولم يقف عند حدود الله، جعلت لك هذه الوسائل والطرائق المختلفة فخذ منها ما شئت، وتمثلها وحققها؛ فيكفر الله تبارك وتعالى عنك، ويعفو ويغفر لك، ولا تعاقب، وتكون ممن زحزح عن النار، وتدخل الجنة بإذن الله تبارك وتعالى. هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى الذي كتبه في كتابٍ فهو عنده فوق العرش: (أن رحمتي سبقت غضبي) وهذه عرفت من الاستقراء من الكتاب والسنة، والشيخ رحمه الله تعالى نقل هذه العشرة الأسباب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وذكرها في كتاب الإيمان، والطبعات تختلف، كتاب الإيمان -بالمناسبة- موجود في مجموع الفتاوى في الجزء السابع، ولشيخ الإسلام ابن تيمية ثلاثة كتب في الإيمان: الإيمان الكبير، وهو المطبوع وحده باسم: الإيمان، والثاني: الإيمان الأوسط، والثالث الإيمان الصغير، فكل بحسبه، وتجد في الصغير والأوسط من الفوائد ما قد لا تكون في الكبير على سعته، فكلها فوائد ودررٌ عظيمة، رحمه الله رحمة واسعة. من هذه الكتب الثلاثة يتكون عندنا الجزء السابع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والمحقق هنا ذكر أن الجزء السابع من صفحة (487) إلى (501) ذكر فيه الأسباب التي بها تسقط العقوبات عن المذنب والمجرم. أولها: التوبة: وبدأ بالتوبة لأمور، ولأن هذه التوبة شأنها عظيم جداً، ولهذا أطال فيها ابن القيم رحمه الله بما لم يطل في غيرها من المنازل. أولاً: لأنها تكفر الذنوب، فأي ذنب تبت منه كفرته التوبة وإن كان الشرك، وقد قال الله تعالى في حق المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]. فلو كان الذنب كائناً ما كان فإن التوبة تكفره، هذا الأمر الآخر وهو مهم جداً، وقد أشار إليه الشيخ هنا مما يجعل التوبة تقدم، فالمراد ليس قيمة التوبة في ذاتها بقدر ما هو بسبب ما وقع بين الناس من الاختلاف في حكم مرتكب الذنوب، ولكن رغم هذا الاختلاف نجد أن التائب تقبل توبته عند الرافضة والخوارج والمعتزلة -كل الفرق- أي إنسان يتصور أن هذا ذنب حتى لو كان مخطئاً تجده يقبل أنك تتوب منه. إذاً: فالأمة متفقة عليها، ونحن نقول: إن الزنا كبيرة، وشرب الخمر كبيرة، وتقول الخوارج: إنه كفر، وكذلك المعتزلة، لكن نتفق معهم أنه إذا تاب تاب الله عليه، والفرق أننا نقول: تاب من ذنب، وهم يقولون: تاب من كفر، لكن التوبة تقبل. إذاً: من ترك هذا الذنب اتفقنا نحن وهم على أنه مؤمن مسلم تائب مقبول لا يؤاخذ، بغض النظر أننا اختلفنا في تصنيف أو في نوعية الذنب وهكذا. إذاً: هذا مما يعطي التوبة أهمية خاصة، وهي مجمع عليها. يقول: السبب الثاني: الاستغفار، والثالث: الحسنات، والرابع: المصائب، والخامس: عذاب القبر، والسادس: دعاء المؤمنين إلى آخر العشرة، كلها تغني عنها التوبة، وكلها مع عدم التوبة لا تغني، إلا الاستغفار لعلاقة التوبة به، وسنذكر إن شاء الله العلاقة بينهما. إذاً: الأساس هو التوبة؛ ولأن تبديل السيئات إلى حسنات إنما يكون بالتوبة؛ فإن لم تكن توبة فالأمر لا يعدو أن يكون محواً ومجاوزة. إذاً: فرق بين محو ومسامحة وتجاوز، وبين أن تبدل، وهل على الكريم من لوم؟ والله سبحانه وتعالى أكرم كريم، والدليل على التبديل {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] الدواوين الكبرى، والسجلات العظمى في جانب الشر والفجور والطغيان والشرك وغيرها من الذنوب التي نبه عليها بالشرك وقتل النفس والزنا، حيث أن هذه الثلاثة هي أصل جميع الذنوب في الدنيا. نستطرد في هذا المعنى فنقول: تكون أصل جميع الذنوب، أي: أن ذكر هذه الثلاثة يغني عن ذكر جميع الذنوب، نبه بالشرك وهو أعظم الذنوب وهو حق الله، وليس بعده ذنب، والقتل؛ لأن القتل يكون في أشد ما تكون القوة الغضبية عند البشر، أما الزنا فهو أصل الذنوب المتولدة عن القوة الشهوانية. فهذه الثلاث من الكبائر تكفيك: أعظم الذنوب جميعاً، وأشد ذنب بالقوة الغضبية، وأشد ذنب بالقوة الشهوانية، هذه لو فعل العبد ما فعل ثم تاب: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يبدل سيئاتنا حسنات، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الشرك قديما وحديثا [1]

الشرك قديماً وحديثاً [1] الله عز وجل منذ أن خلق الخليقة، وبث عباده في المعمورة، وهو يحذرهم من طاعة عدوهم الشيطان، الذي ما برح يدعوهم إلى الوقوع في الشرك، ويزين لهم طرقه على كثرتها، فإن أبواب الشرك كثيرة، وأسباب الوقوع فيه عديدة. والشيخ في هذه المادة يبين أنواع الشرك التي وقع ويقع فيها الإنسان، سواء شعر بذلك أو لم يشعر، وبين ما يترتب على كل من هذه الأنواع من الجزاء، مع الإشارة إلى الحقيقة الخطيرة التي ينبغي على كل إنسان التنبه إليها؛ ألا وهي أن الله قد يتجاوز لعباده عن كل عمل ومعصية دون الشرك.

الشرك وخطره

الشرك وخطره إن الحمد لله؛ نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وبعد: كنا بفضل الله تبارك وتعالى ومنه وكرمه قد تعرضنا في الأسبوع الماضي إلى موضوع الرجاء، وإلى نقد ما قيل فيه من أنه أضعف المنازل، وعلى هذا الأساس كان المفروض أن يكون موضوعنا في هذا اليوم هو نماذج من حياة السلف الصالح ممن غلب عليهم جانب الرجاء أو عرفوا به؛ لنعرف الفرق بين رجائهم ورجاء غيرهم عملياً الفرق بين الرجاء الإيماني الشرعي، وبين مجرد الغرور والأماني والكسل وترك الطاعة، هذا شيء وذاك شيء آخر. وهذا الكتاب كما تلاحظون هو مجموع ومنقول من عدة كتب، وفيه إضافات من المؤلف رحمه الله تعالى، فلذلك يحتاج إلى شيء من الترتيب، وشيء من تجميع كل القضايا أو الجزئيات المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد. فموضوع الرجاء مثلاً تكلم عنه الشيخ هنا، ثم دخل في بيان الأسباب التي تسقط العقوبة، ولها علاقة بالرجاء لا شك، لكن بعد ذلك أتبعه بفقره أخرى وهي قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) ثم عاد فذكر الخوف والرجاء، والمحبة، وذكر كلام الهروي الذي نقدناه في درس متقدم. فلذلك يحسن أن نؤخر أيضاً بقية الحديث في الرجاء إلى حيث أخره المؤلف في الفقرة القادمة إن شاء الله. وهاهنا اليوم موضوع عظيم جداً، بل هو أعظم أبواب العقيدة كلها، وهو يستحق الحديث عنه لذاته دون أن يكون تابعاً لأي موضوع آخر، بل كل موضوع في العقيدة هو تابع له، وهو معرفة الشرك وخطره وضرره، وفي المقابل معرفة التوحيد الذي هو حق الله تبارك وتعالى على العبيد.

التوحيد دعوة الرسل جميعا

التوحيد دعوة الرسل جميعاً فالتوحيد أعظم ما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وكل نبي بعثه الله تبارك وتعالى وقص علينا ما جرى بينه وبين قومه نجد أن أول وأعظم ما يدعو قومه إليه هو قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقد دعا إليه نوح وهود وصالح وشعيب، وكذلك دعا موسى صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا، وكذلك دعا عيسى عليه السلام: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36] حتى جاء داعية التوحيد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم فجاهد الناس جهاداً عظيماً على التوحيد، وعلى ترك الشرك، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، ونبذ اتخاذ الأنداد من دون الله أو مع الله عز وجل.

الشرك محبط لجميع الأعمال ومخلد في النار

الشرك محبط لجميع الأعمال ومخلد في النار والشيخ هنا إنما ذكر الشرك ليبين من الذي لا يرجو رحمة الله، فالذي لا يرجو رحمة الله هو المشرك، أما من عداه فإنه وإن كان من أهل الكبائر فإن له أملاً ورجاءً في رحمة الله، ولا يجوز أن يقطع هذا الأمل، أما الذين لا أمل لهم فهم الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [هود:16] فهم المشركون، لماذا؟ لأن أعمالهم لا تقبل جميعاً، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] فلا تقبل أعمالهم لأن الشرك هو أقبح القبائح، وأعظم الذنوب، وأكبر الجرائم، وأكبر الكبائر، فهو الذي يحبط الأعمال كلها، ولا يقبل معه أي عمل من الأعمال كائناً ما كان، وإن كانت صلاةً أو صياماً، أو صدقةً، أو دعوةً، أو جهاداً، أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، مهما بلغ جهد من يجتهد، مهما كانت عبادته، مهما توسل إلى الله تبارك وتعالى بأي نوع من أنواع القربات وهو مشرك فلا يقبل الله تبارك وتعالى منه صرفاً ولا عدلاً. والشيخ رحمه الله تعالى يقول هنا: وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ذكر أن المشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، فلا ترجى له ولا يرجوها لنفسه، ولا يرجوها أحد له مهما كانت قرابته أو صلته، فإن أقرب قريب لأعظم رسول وحبيب هو أبو الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هل نفعه ذلك، هل نفعته قرابته، هل يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل النار؟ لا. في صحيح مسلم أن رجلاً سأله عن أبيه، وفيه قال: (أبي وأبوك في النار) وليس لأحد عليك من حق أعظم من والديك، وليس أحد له قيمة عند الله سبحانه وتعالى ووجاهة أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، فلو أن أحداً ينفع أباه لنفع النبي صلى الله عليه وسلم أباه، وإنما شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب أن يخفف عنه، لا أن يمنع من دخول النار أو أن يدخل الجنة، لا يدخلها أبداً {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. أيها الإخوة الكرام: هذا الشرك بابه عظيم، وشأنه جلل، وهو خطير، ولابد من معرفته والحذر منه، والتنبه له كبيره وصغيره، دقيقه وجليله. ومن أوفى ما كتب في هذا الموضوع عن الشرك -وقد أحببت أن أقرأه لكم، ونستفيد منه جميعاً ونرجع إليه- هو كتاب: الجواب الكافي لـ ابن القيم رحمه الله، الذي له عنوان آخر هو: الداء والدواء، والكتاب في الأصل هو عبارة عن جواب لسؤال عن كبيرة، عن سبب الذنوب التي تأتي من قبل الشهوة؛ لأن الذنوب إما أن تأتي من قبل الشهوة أو من قبل الشبهة، والذنوب الشهوانية مرجعها إلى مرض القلب، وأعظم مرض يصيب القلب من جهة الشهوة مرض العشق، فناسب أن يستطرد رحمه الله في الكلام عن الذنوب وخطرها وضررها، فتوسع في ذلك، ثم استطرد في بيان الذنوب التي لا يرجى معها خير أبداً وهو الشرك، أي: عند حديثه عن آثار الذنوب وخطرها وضررها ناسب أن يذكر أعظم الذنوب وأخطرها، وأشدها ضرراً على الإنسان في دينه ودنياه؛ لأنه إذا كانت الفواحش دون الشرك بتلك المنزلة من الخطر، إذا كان عقوق الوالدين إذا كانت الغيبة إذا كانت النميمة إذا كانت السرقة إذا كان الزنا إذا كان ظلم الناس، كل هذه الكبائر والموبقات توعد الله تبارك وتعالى عليها من الوعيد ما توعد، فما بالكم بالذنب الأعظم الذي ترجع إليه هذه الذنوب جميعاً، والذي لا ينفع معه عمل صالح؟!!

التوحيد هو غاية خلق الجن والإنس

التوحيد هو غاية خلق الجن والإنس يقول الشيخ رحمه الله تعالى: (إن الله عز وجل أرسل رسله، وأنزل كتبه، وخلق السماوات والأرض؛ ليعرف ويعبد ويوحد، ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له) قاعدة عظيمة، يعرف ويعبد ويوحد، ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له، هذا الذي من أجله خلق الله تبارك وتعالى الثقلين، وأنزل كتبه وأرسل رسله، والذي كثير من المسلمين يتكلمون في كل شيء إلا فيه، قد يتكلمون في الرقائق والفضائل، في النوافل في الأخلاق في المعاملات، ولا يتكلمون على هذا الذي هو الأساس والأصل.

عبادة الله سبحانه وتعالى

عبادة الله سبحانه وتعالى ثم قال: (الدين كله له والطاعة كلها له، والدعوة له وإليه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الحجر:85] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] لاحظ التعليل: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] إذاً: المقصود أن يعلم الناس صفات رب العالمين، وأن يعرفوه.

معرفة صفات الله رب العالمين

معرفة صفات الله رب العالمين وأعداء التوحيد يتهاونون في الأسماء والصفات، ولا يريدون أن يعرِّفوا الناس بالله سبحانه وتعالى، ولا أن يحببوا رب العالمين إلى العبيد، ولكن أهل السنة والجماعة من عقيدتهم أن أعظم شيء في هذا الدين أن يعرف الناس رب العالمين ويوحدوه، والاستدلال على ذلك جلي في كتاب الله، فأعظم سورة في كتاب الله هي الفاتحة، وهي تعريف بالله كما بينا فيما مضى، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي، وهي أيضاً تعريف بالله وصفاته سبحانه وتعالى. وكما قال في المائدة: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97] فالذي لا يعلم ذلك لا خير فيه ولا في عبادته، فإنما شرعت هذه الشرائع، وفرضت هذه الفرائض ليعرف الله تبارك وتعالى، ويعبد وحده لا شريك له. قال: فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] يعني: القصد والغرض من خلق العباد، ومن أمرهم ونهيهم؛ أن يعرف بأسمائه وصفاته، وأن يعبد وحده لا يشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط -وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض- ويتركوا الظلم.

أعظم العدل هو التوحيد

أعظم العدل هو التوحيد قال: ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقوامه، والشرك هو أعظم الظلم، كما في قول العبد الصالح لقمان الحكيم: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فأعظم أنواع الظلم هو الشرك، كما أن أعظم أنواع الأمر بالمعروف هو الأمر بالتوحيد، فقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] أعظم ما يؤمر به هو توحيد الله عز وجل، وأعظم منكر يجب أن ينهى عنه هو الشرك بالله عز وجل. فأعظم عدل ذكَّرنا الله تعالى وأمرنا به {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] هو توحيد الله سبحانه وتعالى. ثم بعد ذلك العدل فيما ولي الإنسان، حتى في بيته، وكل إنسان له ولاية بقدر حاله كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكل راعٍ مسئول عن رعيته) ولهذا كان المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين؛ لأنهم يعدلون في أهليهم وما وُلوا. قال: (فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر)، أي: ما كان فيه منافاة لما خلق الله سبحانه وتعالى من أجله الناس ولما أمرهم به، فهو أكبر الكبائر، وإنما تتفاوت الكبائر بحسب قربها من الشرك؛ فكل معصية تمس جانب العقيدة فبقدر ما يكون فيها من الإخلال بجانب العقيدة تكون أكبر. وعلي فأيهما أعظم: الذنوب التي يفعلها العبد ويرتكبها من جهة الشهوة، أم التي يرتكبها من جهة الشبهة والبدعة؟ الشبهة والبدعة! لأن البدع والشبهات أقرب إلى الشرك، فمن هنا كانت أخطر من الذنوب التي لا يقترن بها شبهة ولا بدعة. على أن البدع درجات، كما أن الذنوب الشهوانية العملية درجات أيضاً كما سبق ذلك.

حقوق الإنسان والأساطير الكاذبة

حقوق الإنسان والأساطير الكاذبة يقول: (فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر به وبتفاصيله، تعرف به أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده وحرمه عليهم، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي، فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك أياً كان، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد) هذا الذي رفض وأبى واستكبر أن يكون عبداً لرب العالمين يستحق من العقوبة في الدنيا أن يكون عبداً لمن يعبد رب العالمين، لا ننخدع بمن يقول: الإسلام ليس فيه رق، وأن الرق هذا يتنافى مع الحضارة، أو يقول: لا يعقل أن يوجد في القرن العشرين رق، وأن الإنسان يستعبد الإنسان؟! فيأتي المدافعون المغرورون المهزومون، فيقولون: الإسلام ليس فيه رق أبداً، لأن القرون الأولى أيام الرومان واليونان كانت الحروب بينهم فيها رق وعبودية، فجاء الإسلام على وضع من قبله فأقره، وبعضهم ينكر على استحياء فيتخافتون بها، سبحان الله!! هل في ديننا ما نستحيي منه؟. هل في ديننا ما نخافت به؟. هل في ديننا ما نداري الخلق من أجله؟!! فهذا الرق مما شرعه الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على فضل التوحيد وأهله، وعلى إهانة الله تبارك وتعالى للشرك وأهله، فلا مكرم لهم، ولا قيمة لهم عند الله سبحانه وتعالى. حقوق الإنسان التي يعبرون عنها بالميثاق الدولي لحقوق الإنسان، أسطورة الكاذبة، فلم يأت دين بمثل ما جاء به هذا الدين والحمد لله، الله تعالى هو الذي خلق البشر وجعل لهم هذه الحقوق، وأعظم حق للإنسان أن يعبد الله وحده لا شريك له، ولا يعبد شيئاً من دونه، هذا هو أعظم حق؛ لأنه الذي من أجله خلق، ومن أجله قامت السموات والأرض وبه قامت. أما أن يكون من حقوق الإنسان -كما جاء في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان- أن يغير الإنسان دينه كما يشاء، حتى لو كان مسلماً يرتد ولا أحد يملك شيئاً من ذلك ولا يمنعه، فهذا غير مقبول. أبداً، هذه إضاعة لأعظم وأكبر حق وهو حق الله تبارك وتعالى، فلو كان هذا الميثاق يدعو الناس إلى أن يكونوا جميعاً مسلمين موحدين لله عبيداً له فنعم، هذا هو الحق، ومن ارتد منهم فإنه يقتل إلا أن يعود إلى إيمانه، أما هذه الحقوق فزيف وكذب، وإنما عرفها الغرب بعد الثورة الفرنسية، عرفتها أوروبا لأنها عاشت في ظلام وظلمات لم يخرجها منها أحد، لماذا؟ لأنها لم تدخل في دين الله، ولم تعتنق الإسلام، أما المسلمون فهم في غنىً عن أن يقال: إن لك حرية التنقل، وحرية العمل مكفولة، وحرية العيش الكريم، وحرية صيانة المنازل، هذه بدهيات في ديننا، لا تحتاج إلى أن تقرر ولا أن تقال، فمنذ أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وهذه الحريات والحقوق مكفولة مضمونة، ومن انتهكها خالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأثم في الدنيا والآخرة، فهي لا تحتاج إلى تأكيد، لكن لا ننسى الحق الأعظم، وهو أن هذا الإنسان له الحق والحرية أن يعبد الله تعالى كما يشاء، أي: أن يكون حراً في أن يتدين بدين الله عز وجل، وأن يعبد الله سبحانه وتعالى كما أنزل وكما بعث رسوله صلى الله عليه وسلم دون أن توضع عليه القيود، التي منها: لا تتحجبي أيتها المرأة لا تفعل كذا لا تحج -كما فعلت دول أوروبا الشرقية إلى حدٍ قريب- لا تبنوا المساجد، لا تطالبوا بالاحتكام إلى الكتاب والسنة. فالحرية في داخل الكتاب والسنة، فهو دين الحرية الحق، الذي يحرر الإنسان من الشهوات ومن عبادة الشيطان، ومن عبادة الأنداد والبشر، والأحبار، والرهبان، والكهان، والأباطرة، وغير ذلك ممن ادعى الألوهية أو الربوبية مع الله سبحانه وتعالى. فهؤلاء لما تركوا القيام بعبودية الله استحقوا أن يكونوا عبيداً لمن قام بحق العبودية لله وهم المؤمنون، ولذلك انظروا إذا ترك المؤمنون التوحيد سُلط الكافرون عليهم عقوبة لهم أيضاً؛ لأنهم عرفوا الحق وتركوه وتنكبوا طريقه.

الظلم والجهل أساس كل شر في الإنسان

الظلم والجهل أساس كل شر في الإنسان يقول: (أبى الله أن يقبل من مشرك عملاً أو أن يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقبل له فيها رجاء). هذا ليس له رجاء أبداً، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم. أسوأ صفتين في الإنسان واحدة منهما تكفي، لكن إذا اجتمعتا فلا شر أكثر منهما ما هما؟ {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فهما: الظلم والجهل، غاية الجهل أن يجعل مع الله نداً، وغاية الظلم أن يسقط حق الله ويعطيه لغير الله بالشرك، هذا غاية الظلم وغاية الجهل. فإذا اجتمع الظلم والجهل فكل شر في الدنيا خطر على بالك فهو آت من قبل الظلم أو الجهل، فالمشرك جاهل بالله، ما قدر الله حق قدره، ولهذا عبد معه غيره، وهو ظالم لنفسه مبين أشد الظلم بصرفه حق الله الخالص وإعطائه لغيره، عبد مثلك، بشر، مخلوق، يقول كما قال فرعون وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] يريدون أن يستعبدوا الناس كما ذكر الله سبحانه وتعالى، لكن لا لوم في الأصل فهم كلهم ملامون، لكن المقصود أن أصل الشر والبلاء يأتي من قبل العابدين؛ لأن المعبودين من دون الله تعالى أسماء سماها العابدون، لو لم يعبدوهم ما كانوا شيئاً، ما منزلة فرعون لو قال له قومه: حين قال: أنا ربكم الأعلى كذبت أنت بشر مثلنا، ماذا سيفعل فرعون؟ لا شيء، فما بالك بالحجارة، أو شجرة عبدت من دون الله؟ فإذا ترك الناس عبادة الشجرة هل تضر شيئاً أو تنفع؟! كلها أسماء، العادات أنها أسماء: المبادئ، الحرية، والديمقراطية والاشتراكية، أسماء سماها الناس وجعلوها أصناماً، فإذا تركوها لا تفعل شيئاً أبداً. إذاً: من السبب الحقيقي؟ العابدون، ولهذا هل ينفعهم يوم القيامة عندما يشكون إلى الله سبحانه وتعالى يقولون: إن الذين أضلونا هم هؤلاء الكبراء وهل ينفعهم قولهم: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} [الأحزاب:67] وغير ذلك مما قص الله تبارك وتعالى كما في البقرة وفاطر وغيرها من السور، هل ينفع؟ لا ينفع الضعفاء هذا العذر؛ لأنه في الحقيقة لو تأمل المتأمل لوجد أنه لولا هؤلاء الضعفاء لما تفرعن أو المعبودون من دون الله سبحانه وتعالى. إذاً: هذا الجاهل بالله هو الذي يدعو غير الله مع الله، وهو هذا المشرك.

أنواع الشرك

أنواع الشرك ثم يبين بعد ذلك شيئاً آخر فيقول: (الشرك شركان). الشرك شركان، أي من حيث الأصل كقاعدة كبيرة (شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته، والآخر شرك يتعلق بعبادته ومعاملته، فالأول يتعلق بما هو من خصائصه تبارك وتعالى، أما الثاني فهو في معاملته، وفي عبادته، فيما يتقرب العباد به إلى الله عز وجل). يقول: (وإن كان صاحبه -يعني: الشرك- يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لذلك أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة وأشباههم يقولون: معنى التوحيد أن تعتقد أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله). هل هذا هو التوحيد الحقيقي؟! اعتقاد أنه واحد ليس مركباً ولا مبعضاً، ليس اثنين ولا ثلاثة بل واحد، أي: في ذاته واحد، في أسمائه وصفاته واحد، في أفعاله واحد؟ لا. ليس هذا التوحيد فقط، هذا جزء من التوحيد، يجب أن يكمل بأن يعبد وحده لا شريك له، يتقرب إليه وحده لا شريك له، فيكون إخلاصك ورجاؤك ويقينك وصدقك وخوفك ومحبتك وإنابتك ورغبتك وصلاتك وصيامك وقيامك وحجك ونذرك كله لله، مع ما يتعلق بصفاته، لكن هم أخطئوا في الصفات كما أخطئوا في المعاملة.

شرك متعلق بذات الله وأسمائه وصفاته

شرك متعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وقال: (الشرك الأول -المتعلق بذاته وأسمائه وصفاته- نوعان: أحدهما شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]) ما معنى قول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] هل هو كما يقول المجادلون أو المتنطعون سؤال عن الماهية، أي: أخبرني ما ماهيته، ما حقيقته؟ كلام فرعون هنا على سبيل الإنكار، أي: لا رب، لا أحد، إلى أي شيء تدعو؟ أنا ربكم الأعلى! هكذا يزعم فرعون، ولهذا قال فرعون لهامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37] لا يوجد شيء من كلامهم على الأقل من وجهة نظر فرعون المعلنة، لا نعني داخل الأمر أما باطن الأمر قال الله عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] ولهذا يقول له موسى عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] تعلم يا فرعون أن الله تعالى هو الذي أنزل هذه الآيات وهذا الدين، ففي الحقيقة فرعون يعلم. هل يستطيع عاقل أن يدعي أنه رب العالمين؟ في الحقيقة والواقع لا، لكن هذه شهوات وأبهة، وملك وغرور {إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الملك:20] يا فرعون أأنت رب العالمين؟ أنت الذي لم تنجب ولداً من نفسك تكون رب العالمين؟ كيف يعبدك هذا الشعب الذي لا عقل له؟! الشعب المستخَف كما قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] الأمة الفاسقة المتحللة الضائعة، التي تميل إلى الإباحية والعري والفساد، وإلى إضاعة الأوقات، يستخفها أي مجرم وأي كذاب، يأتي ماركس ولينين فيقولا: نحن أتينا بأفضل شريعة، نقول: معك يا لينين؟ وجاء القوميون وقالوا: لا، القضية قومية عربية قلنا: معكم يا قوميون، الاشتراكيون مع الاشتراكيين، البعثيون الملايين من الناس تصفق لهم، مع كل من يدعو إلى ضلالة؛ لأنهم استخفهم الذين عرفوا ضعفهم وفسقهم، وفجورهم. الأمة التي لا تفسق ولا تفسد ولا تفجر تملك عقلها، ولهذا يردعها ذلك عن أن يستخفها أحد، فهذه الأمة لماذا لم تفكر؟ تصدقون أنه ربكم وتجتمعون يوم الزينة لتروا النتيجة؟! وهل في ذلك من شك، هل تحتاجون أن تروا النتيجة؟!! {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40] يعني: الاحتمال الراجح عندهم أنهم هم الغالبون، عجيب والله!! ما تزال القضية غير واضحة في أذهانهم وهم يرونه لم ينجب، يعني: هذا الشعب كله خلقه وهو لم ينجب من نفسه وإنما هو عقيم كما يعلم الجميع، ولهذا أتاه الله تعالى من بابه، من مأمنه يؤتى الحذر وأتي من مقتله، لماذا؟ لأن ضغط حنان الأمومة الذي تشعر به الزوجة التي لا ولد لها يؤثر دائماً على أعصاب الرجل الذي لا ينجب فقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص:9] فوافق؛ لأنه لا يستطيع أن يقول: لا، ليس معه ولد فلابد أن يسكت، فلتفعل بهذا الولد ما تشاء، ولِتربه كما تشاء، فربى الله تبارك وتعالى موسى في بيت فرعون: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص:8] من هذا المقتل أتي وقتل فرعون لما أراد الله تبارك وتعالى أن يُظهر وأن يُحقق ما أراد، رغم كل الاحتياطات التي جعلها للقضاء على من يقضي على ملكه كما أُخبر. إذاً: أقبح أنواع الشرك هو شرك التعطيل، وهو شرك فرعون ومن اتبعه.

تلازم التعطيل والشرك

تلازم التعطيل والشرك قال: (والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل). التعطيل لغة: هو الإخلاء، أو الإفراغ، إنسان ينكر صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه هذا يقال له معطل، وكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك؛ لأنه لما أشرك بالله عطل الله سبحانه وتعالى، عطل أسماءه أو صفاته مما هو من خصائص ذاته. وكذلك كل معطل مشرك؛ لأنه لما ترك هذا الخاصية من خصائص الله تعالى فإنه قد أشرك معه غيره، وغالباً ما يجعلون بعض هذه الصفات لغير الله سبحانه وتعالى. قال: (لكن لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وبصفاته، ولكن عطل حق التوحيد). من جهة أخرى: قد يكون العبد مقراً كحال أكثر الناس اليوم، وبالذات من يدعي الإسلام، فحاله: كلنا مسلمون والحمد لله، تقول له: لابد من التوحيد؛ فيقول: يا أخي! أنحن كفار مشركون؟ الحمد لله نحن أمة محمد، وكلنا نقرأ القرآن، فتقول له: أهم شيء تتعلمونه هو العقيدة، فيقول: العقيدة معروفة ومعلومة لدينا والحمد لله. في عمرك هل رأيت أحداً قال: أنا أجهل العقيدة إلا طالب علم صادق؟ أما العامة من الناس والمكابرون: يقولون: كلنا نعرف والحمد لله لا يرون أنه ينقصهم شيء أبداً، من هنا يؤتون، فهم مقرون بأسماء الله وبصفاته وبشيء منها، ولكنهم مضيعون لحقه.

أنواع شرك التعطيل

أنواع شرك التعطيل قال: (وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام:

تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه

تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه)، أي: تعطيل الخلق عن الخالق، هذا أول نوع من أنواع التعطيل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] مخلوقات أمام أعيننا يدعون أن لا خالق لها، عطلوها عن خالقها تبارك وتعالى، لذلك فالذين يشركون بالله من الشيوعيين أو الملحدين، أو الغربيين، لابد أن يجعلوا خالقاً غير الله، وفي اللفظ يقولون: هذه لا تحتاج إلى خالق، لكن في الحقيقة لابد أن يفترضوا خالقاً أو موجداً ما؛ لأنه لا يمكن الأمر إلا بذلك، ما الذي جعلهم يهربون من افتراض وجود خالق؟ لأنهم إذا قالوا: الله أو الرب، فالمقصود به عندهم هو ذلك البابا، صاحب الكنيسة المكون من ثلاثة أقانيم، الذي تجسد في شكل إنسان وصلب على الصليب، ثم صعد إلى السماء، أفذاك هو الذي خلق السموات والأرض؟ هذا غير ممكن القول به، إذاً هل من الحل أن يقال: ليس لها خالق؟ كأنه أسهل في نظرهم أن يقال: ليس لها خالق، وخاصة إذا كان هذا الرب الذي تذكره الأناجيل المحرفة ويدعي البابا وأتباعه الإيمان به مقرون بالعنف، بالقوة، بالسيطرة، فإذا خالفت أي شيء من كلام رجال الدين فأنت كافر، زنديق، حلال الدم والمال، فهربوا من ذلك إلى الإلحاد. فلما هربوا من إثبات الإله والرب صاروا معطلين. لكن هل غابت القضية عن أذهانهم ونسوها ولم يفترضوا خالقاً؟ افترضوا فقال بعضهم: الطبيعة، يقول: هذا الكون الذي أمامك هو الطبيعة! لكنا ما استفدنا شيئاً من كلامكم! لأن معناه أن هذا المخلوق هو الخالق! فالطبيعة أوجدتها الأشياء، وهذه الأشياء هي الطبيعة، فلم نستفد شيئاً، إذاً أين الرب الذي خلقها؟! وهم إنما يقولون ذلك ليهربوا من إثبات هذا الدين. قال بعض الفلاسفة اليونانيين القدامى: العلة الأولى. ولهذا لما جاء العلم الحديث أنكروا المنطق كله بعلله وبلاياه، ولا يؤمنون به ولا بكلام أرسطو ولا أفلاطون، لا في التوحيد لا في الألوهية لا في الصفات تركوه نهائياً، إذاً: ماذا يسمى؟ بعضهم يقول: أنا أتوقف، وهذا حال كثير من الملحدين في العالم اليوم، أو الذين يسمون أنفسهم الربوبيون، الترجمة الصحيحة أن يقال: الربوبيون، وإن كان بعض المترجمة يقول: المؤلهون، في الحقيقة ليس تأليهاً وإنما هو ربوبية، يقولون: نؤمن بإله لكن لا نستطيع أن نتبع دينه -لأنه ليس له دين في نظرهم في الأرض- أو نتوقف، وهؤلاء الذين يسمونهم: اللاأدريين، أو الربوبيين، هذا موقفهم؛ لأنهم عطلوا المخلوقات عن خالقها جل وعلا ولم يؤمنوا به كما أمر تبارك وتعالى. لكن عقولهم تلح عليهم أن لهذا الكون خالقاً، فبعضهم كأن الأدلة تكافأت عنده فقال: لا أدري، وبعضهم قال: لا، أثبته لكن على غير طريق الكنيسة، ولا يعرف له أي صفة من الصفات، إنما يقول: لابد من وجود إله، وهذه من آخر أو أحدث، النظريات الأخيرة جداً عندهم في علم الطبيعة أو الفيزياء، وهم منذ أربعين سنة تقريباً لا تجد عالماً متخصصاً في العلوم الطبيعية في أمريكا لا يؤمن بوجود إله، لكنه ربوبي وليس مسلماً، لكن المهم أنه لا ينكر، لماذا؟ لأن آخر النظريات التي منها نظرية الانفجار العظيم مضمونها أن قوانين الديناميكا الحرارية، وقوانين الهندسة الوراثية أو الجينات، وغيرها لا يمكن أن تتصور إلا من مدبر حكيم، العلوم الحديثة في نشأتها لا يمكن أن يتخيل أهلها أو يعقلوا أن هذا الكون نشأ إلا وقد أوجده وأنشأه خالق حكيم مدبر لا حد لحكمته ولا حد لتدبيره. هكذا هم يقدرون ويصفونه من عند أنفسهم من خلال ما عرفوا من آثار هذه الصفات في خلقه، حتى إنهم عندما يتحدثون عن علم الجمال، الذي كان في القديم مجرد مبحث من مباحث الفلسفة العتيقة، الآن الحديث عن الجمال أصبح عند هؤلاء موجوداً دون أن يقال لهم من جهة أي أحد من المؤمنين، لكن هم قالوا: الجمال الذي في الكون يدل على أن له إلهاً في غاية الحكمة، وأن هذا الإله جميل، ولذلك يقولون: لو كان الغرض من الزهرة الأغصان إذا جردت عن الجمال فسيبقى هذه الألوان!! ألوان عجيبة جداً، فهم كما ترون عندما يصنع الإنسان أعظم وأدق الألوان، وتتعرض للشمس فترة من الزمن فإن اللون يتغير أو يبهت أو يضعف، خذ أقوى أنواع العطور وأغلالها وأثمنها وضع منه في الغرفة منه في اليوم الأول، ثم انظر غداً أو بعد غدٍ تجده قد زال، وهذه الأزهار الفواحة التي تتلون بأجمل الألوان هي في غاية النعومة والرقة، وفيها ألوان في غاية الجاذبية والجمال، والأشكال التي لا تكاد تخطر على البال، وتفوح منها هذه الرائحة الزكية طوال الأيام والليالي لا تنفد، مع أنها من ماء وتراب، لا يمكن إلا أن خالقاً خلقها وقدرها كذلك، فهم تعجبوا. قالوا: حتى حبيبات الثلج الصغيرة جداً لما وضعوها تحت المجهر، وجدوا أن لها أشكالاً سداسية وأشكالاً ثمانية، إذاً: الإنسان المسكين ينظر من بعيد فيرى هذه الأشياء كأنها عبث، لكن عندما يدقق يجد فيها من الجمال والتناسق شيئاً عجيباً جداً، الإنسان الواحد منا عندما ينظر إلى الجبال يراها مختلفة بين جبل طويل وجبل قصير وأشكال مختلفة، ولو تجمع ألف حجر أو مليون فإن كلاً منها يختلف عن الآخر، والسبب في هذا أن هذا نوع من أنواع الجمال، نحن لا ندركه، كيف لا يدرك الإنسان الجمال؟! الإنسان عقليته بسيطة، يحب أن يرى شيئاً مربعاً، أو مثلثاً، أو مستطيلاً دائرة، الأشكال الهندسية المعروفة عندنا لأنها مبسطة، تفترض ضلعاً مربعاً هكذا، وفي الذهن تكمل الضلع الآخر والثالث والرابع، هذه عقلية مبسطة، لكن لو ارتقى الإنسان بعقله قليلاً لأصبح في شيء أكثر من هذا التبسيط، ثم أكثر ثم أكثر، حتى يجد أن موج البحر -كمثال- لا يستقر على شكل معين، وهذا غاية ما في الكون من جمال، وفيه دليل على أن لهذا البحر رباً يحركه كل لحظة، وهو الذي يديره سبحانه وتعالى، فتجد هذه الحركات المتغيرة وهذه الأشكال والألوان، فأينما نظروا كما ذكر الله سبحانه وتعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4] تأملوا فوجدوا العجب العجاب! وجدوا أن أصغر ذرة في الكون عندما توضع تحت المجهر الذي ما عرفه الملاحدة في القرن الماضي أو في أول هذا القرن ممن كانوا يظنون أنهم حملة العلم، وجدوا أن هناك كهيربات، ومدار تدور فيه، ونواة، سبحان الله! فإذا تأملوا في الفضاء وجدوا أن هناك مدارات هائلة جداً، المدار هو المدار، الفرق أن هذا مداره في حيز لا يكاد العقل يتصور ضيقه، وهذا المدار يبعد ملايين الكيلومترات، وهل الفلكيون يعبرون فيقولون مليون كيلو مليون ميل؟! ليس عندهم هذا، عندهم مليون سنة ضوئية، يعني: السرعة محسوبة بسرعة الضوء، الضوء يقطع -كما جربوه هم تجربة عملية مع الزمن تقريباً نظرية تكاد تكون صحيحة مائة بالمائة- أنه يقطع ثلاثمائة ألف كيلو في الثانية، أسرع شيء في هذه الدنيا هو الضوء، يعني: أنت لو تكلمت وناديت شخصاً وعندك (كشافاً) ثم أضأت الكشاف يصل النور إليه قبل ما يسمع كلامك، وهذا مجرب، فالبرق يصل قبل صوت الرعد، فأسرع شيء هو الضوء. لا يمكن أن يحسب الكون بملايين الكيلو مترات أبداً، إنما بملايين السنين الضوئية، ولما تعمقوا أكثر وأكثر أصبحوا لا يقدرون أن يحسبوا الملايين، فأيضاً اصطلحوا على اصطلاح هو (تليون) ليس هناك اصطلاح يجمع السنين الضوئية، المهم أنهم عجزوا وسأخبركم به بعد، لما قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] الشعرى اليمانية، وهي نجم عظيم في السماء، وكل من يعلم الشعرى هذه لا شك أنه يؤمن بالله وبعظمة الله، رب هذا النجم والكوكب العظيم الذي في السماء، لكن الأولون أو بعضهم على الأقل كانوا يتخيلون أن الأرض هذه والسماء سواء، وأن هذه النجوم بعيدة وعالية، لكن إلى حد ما كأنها جبل، يعني: نفرض أن الشعرى مثل جبل أحد، لكن من بعدها نراها صغيرة، لكن الآن يقولون: الشعرى تبعد عن الأرض ستة ملايين سنة ضوئية، بمعنى آخر: يحدث انفجارات كبيرة جداً في بعض النجوم تتلاشى وتتحول إلى أشياء متناثرة في الفضاء، فلو انفجرت الشعرى وانتهت ودمرت فلا يعلم الناس أنها انفجرت ودمرت إلا بعد ستة ملايين سنة، لأنهم يظلون يرونها من شدة بعدها، فهذه حقائق مذهلة جداً، وهذا الكلام بالنسبة لعلومهم يعتبر عادياً جداً، يتعلمه أبناؤنا وإخواننا في المتوسطة والثانوي، لكن المتعمقون منهم يصلون إلى نظريات مذهلة جداً، فتضطر أعصابهم وشعورهم وعواطفهم ومشاعرهم أن تقول: الله، أو الخالق، لا يمكن إلا أن يكون هناك خالق وراء هذا الكون البديع، حتى وجدوا من جملة العجائب التي وجدوها أن وجدوا مجرات في أطراف الكون ولم يعرفوا آخره، ولن يعرفوه يكون على شكل: رأس الحصان، يسمونها: مجرة رأس الحصان، وبعضها على شكل كذا وبعضها على شكل كذا يعني: شيء عجيب جداً، وجدوا الدقة الحكمة الإبداع الإتقان وفي نفس الوقت الجمال، ليس مجرد إتقان في الصنعة، لكن مع هذا الإتقان جمال عجيب، جمال في الشمس، وجمال في الأرض، وجمال في القمر، وجمال في البحار، وجمال في الصخور، بحيث أن بعض الحجارة أو بعض الصخور يشاهد فيها أشكال عجيبة جداً في منظرها وجمالها. وبعض الجمال لا تراه العين المجردة كما قلنا: حبيبات الثلج ما فيها جمال، لكن عندما يريدون أن يدققوا ويضعونها تحت المجهر يرون من الجمال أعاجيب وأعاجيب، هذا كله دليل على أن لهذا الكون خالقاً. إذاً: من أعظم أنواع الجاحدين والكافرين والمعاندين الذين ينكرون أو يعطلون الخلق عن الخالق، هذا النوع الأول من أنواع التعطيل.

تعطيل الخالق سبحانه وتعالى عن كماله

تعطيل الخالق سبحانه وتعالى عن كماله والثاني: تعطيل الصانع، أو الخالق. ورد الصانع في حديث: (الله خالق كل صانع وصنعته) وفي قوله سبحانه وتعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فيجوز إطلاق الصانع، والأفضل أن يقال: الخالق. فنقول: تعطيل الخالق عن كماله بتعطيل أسمائه وصفاته، وهذا النوع لا ينكرون وجوده، ولا أنه الخالق، لكن ينكرون صفاته وأسماءه، كما يقول أهل الكلام: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا نقول: إنه يغضب، ولا نقول: إنه يرضى، ولا نقول: إنه ينزل قالوا: حتى لا نقع في التشبيه، فينفون ويعطلون صفات الله سبحانه وتعالى، ويثبتون شيئاً شبيهاً بالعدم، أو هو العدم؛ حتى التفتازاني من أئمتهم الكبار اعترف أنه من الصعب جداً نقض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما قال: إن قولك: إن الشيء لا داخل ولا خارج، ولا فوق ولا تحت، ولا أمام ولا خلف إلى آخره، قولك هذا معناه غير موجود، لا يمكن للعقول أن تفرق بين هذا وهذا، فأفضل لك أن تقول: غير موجود، لكن الله تعالى موجود، إذاً: أين هو؟ يقول: لا تسأل عنه بأين، لا داخل ولا خارج لكن الذي سأل عنه بأين من هو؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للجارية: (أين الله؟ فقالت: في السماء) إذاً: هذا نوع من أنواع التعطيل، والكلام فيه طويل، وقد بسط والحمد لله كثيراً في مباحث تقدمت من هذا الكتاب.

تعطيل معاملة الله سبحانه وتعالى

تعطيل معاملة الله سبحانه وتعالى والثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. يوجد أناس يقولون: نحن نؤمن بالله، وأن لهذا الخلق خالقاً، ونؤمن بجميع الأسماء والصفات، ولو تقول له: اليوم وجدنا حديثاً يثبت شيئاً من صفاته، يقول: الحمد لله نحن نؤمن به نحن على التوحيد، ونحن من أهل السنة، لكن يعطله عن حقه في المعاملة، وفي الطاعة، بالشرك الكلي أو الجزئي. الكلي: كأن يعبد غير الله سجوداً وصلاةً وصياماً لغير الله. والجزئي: كأن يقع في الرياء مثلاً، أو في صرف بعض الأنواع لغير الله، أو في بعض الأوقات، أو في بعض الحالات لغير الله تبارك وتعالى، فهذا هو النوع الثالث من أنواع التعطيل. قال: (ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثَمَّ خالق ومخلوق، ويقولون: ما هنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق). هذه جماعة محمود محمد طه وأمثاله، وغلاة الصوفية في القديم والحديث، هذا نوع آخر يقول: ما ثمة خالق ولا مخلوق، عياذاً بالله! ويقولون: الخالق عين المخلوق، والمخلوق عين الخالق. هؤلاء بلغوا من الكفر إلى حد لا تستسيغه العقول، وأظن أنني ذكرت لكم مرة أنه قابلني واحد منهم في بلاد الحرية، وكان المركز ممتلئاً بالناس في المسجد، فتحدثت فجاء يقول: إنه هو الله!! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! قلت: كيف تقول هذا يا رجل أأنت مسلم؟ قال: نعم مسلم، لكن هذا حقيقة التوحيد، قلت: هذا أكفر الكفر، وأعظم أنواع الكفر، قال: النصارى كفرت؛ لأنها جعلت الآلهة ثلاثة، لكن نحن نقول: كل شيء هو الله! يرى المسكين المخدوع -لأن شيخهم لقنهم ذلك- أن كفر النصارى لأنهم جعلوا الآلهة ثلاثة فقط، وفرعون كفر عندما قال: أنا ربكم، والحقيقة يقول: هو والشعب رب، عياذاً بالله! أرأيتم كيف الكفر؟! فهذا الكفر هو شر وأقبح أنواع الكفر عند جميع أهل الملل، كل من يعرف الله أو يعبد الله أو يتحدث عن الله يُكفِّر هذا النوع، اليهود يعتبرونهم كفاراً، ويوجد في اليهود بعض الحلولية والاتحادية، والنصارى الذي يزيد عن الثلاثة عندهم كافر، إذاً: هم كفار حتى عند النصارى، كفار عند البوذيين، كفار عند الهندوس إلا من كان على مثل هذه النحلة الخبيثة، ومع ذلك يدعون أنهم هم أهل التوحيد والعياذ بالله!! وكذلك الجهمية الذين عطلوا صفات الله وأسمائه كما ذكرنا، هذا نوع من الأنواع. هذا النوع الأول شرك التعطيل.

من أنواع الشرك

من أنواع الشرك

شرك النصارى

شرك النصارى والنوع الثاني: شرك من جعل معه إلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فهذا شرك الأنداد، أي: لم يعطلوا أسماءه وصفاته، لكن قرنوا به غيره، مثل شرك النصارى، فهم مثلاً يقولون: الله عظيم جليل قدير سميع بصير، لكن يقول لك: أيضاً هذه الصفات هي للرب يسوع، من الرب (يسوع)؟ قالوا: هذا ابنه، أو (الأقنوم الثاني)، تعالى الله عما يقولون! مثلما نسمع كل يوم في إذاعات أصحاب الأناجيل وفي كتبهم، وفي هذه الدعايات الخبيثة التي تذهل العقول!! ماذا نقول لو أردنا أن نتحدث عن التنصير؟! فذلك شيء لا يكاد العقل يصدقه، فإنه إذا كانت شبكات التلفاز في أمريكا والمشتركون فيها قد يصلون إلى عشرين مليون مشترك، وهذا في قناة تلفزيونية تنصيرية في داخل بلاده، أما الذين يعملون خارج أمريكا في نشاطات التنصير فلا يقل عددهم عن أربعة ملايين، في الولايات المتحدة الأمريكية نظام عام لجميع الموظفين أن أي إنسان يتطوع للعمل في أي شيء إنساني أو خيري أو ديني فإنه يصرف له راتبه كاملاً مدة غيابه. فأنت في أي إدارة من الإدارات تقدم طلباً: أنا أريد أن أذهب إلى مكان كذا لأقوم بالدعوة، فتذهب، والجهة التي ذهب إليها تثبت أنه حضر، وأنه عمل معنا سنة، ويصرف له كل حقوقه، بل حتى الإقامة لا يؤثر عليها السفر إذا كان مقيماً، ولا يريد أن تنقطع إقامته، ويعتبر كأنه في أمريكا، ولا يؤثر السفر على إقامته لأنه ذهب في عمل خيري، إذاً: لابد أن يتنافس الناس في هذا الخير، وفي نظرهم هذا هو الخير، أربعة ملايين يخرجون، هذا في أمريكا، أما السويد والنرويج فماذا نقول؟ اذهب إلى أفغانستان تجدهم، إلى بنجلادش تجدهم، إلى الحبشة إلى الصومال، إلى أي مكان، أي بلد مسلم بالذات البلدان الإسلامية التي يحدث فيها فيضانات أو زلازل أو فقر، أول ما يحدث هذا الأمر وإذا بهؤلاء في مطاراتهم بمعاهدهم ومراكزهم ومستشفياتهم ينزلون فيها تعال: تنصر ونعطيك كذا انظروا أسوأ أنواع الدعوة إلى المبدأ، يدعون الإنسان حال الاضطرار، كما يفعل الروافض الآن، أيضاً عندهم دعاية خبيثة، ليس هناك إقناع، ما هي العقيدة التي يعرضها عليه فيؤمن بها؟ ليس عنده شيء، لو أتى يشرحها ليس عنده شيء، ولذلك كما ذكر ابن القيم رحمه الله: لو اجتمع عشرة من النصارى، وطلبت من كل واحد منهم أن يشرح عقيدته لاختلفوا على أحد عشر قولاً، يعني: خلافاتهم أكثر من عددهم، النصارى الآن في العالم كله عملوا استبيانات: ماذا تعرف عن الرب؟ لا يوجد شيء، إذاً: لا شيء، ومع ذلك يعملون له كل شيء. أما الذين عندهم كل الإيمان والخير والهدى فلا يعملون أي شيء إلا ما رحم ربك، وإن قاموا بالدعوة فيقوم بها إما مبتدعة، وإما جهال، لويس فرخان، هذا داعية الإسلام الأكبر في أمريكا ماذا يعتقد فرخان؟ مشرك وثني، يعتقد أن ليزيا محمد هو الله، تعالى الله عما يقول! هذا الذي مات من زمان، وابنه وارث الدين لا يزال، ويأتي هنا على أنه ممثل الإسلام الأكبر في أمريكا، وليس فيه من الإسلام ذرة. هناك جماعة كبيرة اسمهم أنصار الله قالوا: نحن نؤمن بالأديان الأربعة، يصنعون القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، ويضعون هلالاً وصليباً ونجمة، ويقولون: نؤمن بها كلها، وتجدهم في المطارات وفي كل مكان يرون المسلمين أو السعوديين يأتون فيأتي أحدهم ويقول: أنا أخوك في الإسلام، نريد مساعدات لجمعية أنصار الله، أحياناً أكثر الناس يدفع، فتقول له: ماذا تعتقدون؟ يقول لك: كذا وكذا أعوذ بالله! هذا أنتم مسلمون؟ يرون أن هذا هو الإسلام، هذا إن دعا أحد يدعو على بدعة، ولا يدعو إلى التوحيد إلا قلة قليلة جداً. كم عدد الذين يدعون إلى التوحيد؟ كم مندوب للإفتاء في أمريكا؟ عشرة مثلاً، أعرفهم من قبل أنهم عشرة أو اثنا عشر، ولا أدري هل زادوا أم لا، بلد عدد سكانه مائتان وخمسون مليوناً فيه عشرة أفراد أو اثنا عشر فرداً، وهم متلهفون يريدون ديناً يؤمنون به ولا يجدون شيئاً، وهم يأتون إلى بلد مثل الصومال أو غيرها من الدول المنكوبة بالآلاف بمعداتهم ومنشآتهم وكل شيء، فرق عظيم وهائل بيننا وبينهم في اهتمامنا بديننا وفي دعوتنا. بلغ من حيرة الأمريكان ومن بحثهم الشديد عن أي دين -كما حدثني بذلك الشيخ الرواي وهو إن شاء الله ثقة، حدثني بهذا في منزلي- قال: رأوا مرة دعاية، مكان دعاية للهندوسية، عبادة الأبقار في أمريكا، فقالوا: نذهب ننظر، فكانوا ذاهبين ينظرون دعوة هؤلاء، وكيف سيدخل الأمريكان في هذا الدين؟ المفروض يدخلون في الإسلام، كيف سيدخلون في دين عبادة البقر وهم أمة متحضرة، ويدخل في دين أمة منحطة كيف سيكون هذا الشيء؟! ولا شك أن النصرانية خير من الهندوسية، ومع ذلك ينتقلون من النصرانية إلى الهندوسية، قال: في مقدمة المدخل عند البوابة كتب للدعاية، وتماثيل وأصنام منصوبة على طريقة الهندوس، يدخل الواحد إلى قاعة كبيرة فسيحة مكيفة مؤثثة، ويستمع لشرح الدعاة حتى يعتنق هذا الدين، الأمريكي من عند الباب يدخل يأخذ كتيباً، ينظر الصنم، يسأل: ما هذا؟ يقولون: هذا نحن نركع وننحني له، يركع عند الباب ويدخل، قبل ما يسمع ما هو الكلام يركع ويستسلم، فارغ ما عنده شيء، من أول الطريق راكع، يريد شيئاً، لكن الذين يدعون إلى الإسلام ليس عندهم شيء للأسف، إن اهتدى تركوه للبدع والضلالات في تلك البلاد، وإن لم يدعوا بطريقة معينة وإنما طريقة فردية فقط، طالب في الجامعة يكلم زميله، حتى يهديه الله، ما عنده لا جهد، ولا وقت، ولا تفريغ، ولا شيء، الله المستعان! وهذا كلام يطول، ولكن التذكير به واجب.

شرك المجوس

شرك المجوس ومن ذلك شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة، كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51] المجوس جعلوهما إلهين، إله النور وهو إله الخير، وإله الظلمة وهو إله الشر.

شرك القدرية

شرك القدرية وشرك القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعاله، ومن ذلك شرك الذي حاج إبراهيم في ربه، فالذي حاج إبراهيم في ربه ما ادعى الربوبية المطلقة، لكن ادعى صفة من صفات رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] فقال: هذا تعريف الرب عندك {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] إبراهيم عليه السلام أراد أن يعرفه برب العالمين بالصفة التي لا شاركه فيها غيره، أنت إذا قلت: يفعل كذا ويفعل كذا، يمكن أن يقول: وأنا أفعل كذا وأفعل كذا مثلاً، فكان مدخل إبراهيم الخليل عليه السلام أفضل وأكثر وسيلة للإقناع، فذكر له ما لا يملكه الشر أبداً، مهما بلغ من علمه في القديم والحديث، لكن جاء الرجل من باب المغالطة قال: أنا أحيي وأميت، فجاء إبراهيم عليه السلام من باب الإلزام، لو شاء لقال: إن إحياء الله أنه يخلق من العدم، أما أنت فتحييه أي: تتركه حياً، لكن لنعرف نحن قاعدة من قواعد مجادلة المشركين والمجرمين، ليس شرطاً أن ترد على الكلمة بنفس الكلمة، تعال بشيء واضح جداً يدمغ ما قال. قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة:258] يعني: قولك إنك تفعل كل ما يفعله الله، فالله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، هذا الشيء لا يستطيع له، القضية ليست قضية حجة عقلية لديه أو فهم، لكن الخليل عليه السلام جاء بشيء لا يمكن أن يطاق، لا يستطيعه، وإلا فحجته الأولى داحضة، لكن المغفلون الذين حوله قالوا: غلبه، لأنهم لا يفهمون، فلهذا أراد إبراهيم عليه السلام أن يأتي بشيء لا يمكن أن يلبس يا من ترون الشمس كل يوم تطلع من هنا! هذا ملككم الذي يدعي الربوبية فليأت بها من المغرب! إذاً: فبهت الذي كفر، انتهى وانقطع وخرس، وهذا نوع من أنواع المجادلة العظيمة التي علمنا إياها الله تبارك وتعالى من خلال ما قصه عن خليله إبراهيم عليه السلام.

شرك اليونايين

شرك اليونايين ويقول رحمه الله: (ومنهم من يزعم أن معبوده هو الإله، أو أنه أكبر الآلهة)، هذا الكلام الذي نحن نقوله أو نحكيه عرضاً هو في الغرب، عند الذين يدعون أنهم أهل العقول، وأهل الحضارة، اليونان جعلوا لكل شيء إلهاً أو رباً تعالى الله عما يشركون! فالجمال له إله، والمطر له إله، والجبال لها إله، والنور له إله، والشمس لها إله، والشِعر له إله، أي شيء تتصور في بالك له رب، الغالب أنه ليس إلهاً ذكراً فقط، بل هو إلهة إن صح التعبير، فاليونان جعلوا لكل شيء إلهاً، ثم بعد ذلك الأساطير والخرافات التي عندهم أن الآلهة تتصارع، وهذا الإله يصرع هذا الإله، والإله هذا غلب هذا، فكل كلامهم وتاريخهم وعقائدهم هكذا، هذه الوثنية المنحطة التي أي عقل يترفع عنها، ومع ذلك يُنسب إليهم من الفضائل والحضارة والعلم ما لا ينسب إلى أية أمة أخرى. وحتى في العالم الإسلامي يُنقل هذا الكلام تأثراً بالغرب، يعني: (فينوس) هذه إلهة الجمال، و (أبلو) إله الشعر، و (أطلس) إله العالم الذي يقولون فيه: إنه يحمل العالم على ظهره، فتستخدم هذه العبارات وتطلق حتى أحياناً يقال: إله كذا أو رب كذا، مثل ما فعل هذا الخبيث نجيب محفوظ في كتابه الثلاثية التي أخذ عليها الجائزة الصهيونية، كما عبر بلسانه أنها جائزة صهيونية، السنة الأولى لما حرم من الجائزة وسئل: لماذا لم تأخذها وقد رشحت لها؟ قال: أنا لا آخذها، هذه الجائزة لا يأخذها إلا صهيوني عميل للصهيونية، جاءوا في السنة الثانية ورشحوه فأخذها شاكراً ممنوناً، وهو صحيح فعلاً لا يأخذها إلا صهيوني، من جملة الثلاثية هذه يذكر قصة مصرية قديمة: أن الآلهة غضبت والإلهة رضيت كلها حول التأليه تعالى الله عما يصفون، ولا يتحرجون أن يقولوا: إله أو آلهة غير الله، ونحن نقول: لا إله إلا الله، والحمد لله شعارنا نحن المسلمين هذه الكلمة العظيمة كملة التوحيد، لا إله إلا الله، لا يطلق هذا على أحد غير الله تبارك وتعالى.

من أنواع شرك العبادة (الرياء)

من أنواع شرك العبادة (الرياء) النوع الثاني: هو شرك العبادة، الشرك في عبادته وحقوقه ومعاملته، يقول رحمه الله: فهو أسهل أي: هذا الشرك أسهل من ذلك الشرك وأخف شراً، لماذا؟ قال: لأنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، يعني: هذا يقع، لكنه أخف من جهة أن فاعله وقع في اللبس، ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] هذا لبس إيمانه بظلم وشرك، مقر أنه لا إله إلا هو، ولا خالق ولا نافع ولا ضار إلا هو؛ لكن لا يخلص لله تعالى في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، وطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة عند الناس والجاه عند الخلق تارة، إذاً: فلله من عمله نصيب، ولنفسه ولشيطانه من عمله نصيب، هذا هو الشرك الآخر أجارنا الله وإياكم منه. وهذا هو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه فيما رواه ابن حبان في صحيحه قال: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، قيل: وكيف ننجو منه يا رسول الله؟ قال: قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم) يعني: من أشرك به وهو يعلم فقد ارتكب أكبر الكبائر، وأكبر المحرمات عن علم عياذاً بالله (وأستغفرك لما لا أعلم) لأنه لابد أن نقع فيه، فنستغفر الله مما لا نعلم، ونستجيره ونستعيذه مما نعلم. وذكر من ذلك فقال: (فالرياء كله شرك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] وقال: وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل) فلو صلى لغير الله أو حج أو زكى ولا نعني (لغير الله) أنه عبد غير الله مطلقاً، لكن لو جعل صلاته من أجل الناس، من أجل أن يقال عنه: مصلّ، أو يثنى عليه، وبعض الناس عياذاً بالله ابتلوا بهذا البلاء، فالعلماء يذكرون بعض هذه الأمثلة أن بعض الناس يبلغ به هذا الأمر إلى حد عجيب عياذاً بالله فالأعرابي الذي دخل عليه بعض السلف ورأى صلاته وحسنها فتعجب، فقال: أعرابي ويصلي هذه الصلاة الخاشعة!! فلما سلم قال: ومع ذلك أنا صائم، والعياذ بالله! يقول: أنت مدحتني على الصلاة، لكن لابد أن تعرف أيضاً أني صائم. إذاً: ما أراد بعمله وجه الله، إنما ليثنى عليه به، فحالة الأعرابي هذا حالة نفسية موجودة عند كثير من الخلق عافانا الله وإياكم، لا يأمن الإنسان على نفسه أبداً أن يكون من هؤلاء، ممن يريد أو يحب أن يحمد بما لم يفعل، ويراءون الناس، ولهذا علامتهم كما قرنها بهم الله سبحانه: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142] المؤمن في باطنه مع ربه خير منه في ظاهره، أما أن يذكر الإنسان بالخير ويثنى عليه بما هو فيه، فتلك عاجل بشرى المؤمن، لكن لا يعمل هو من أجلها! فهناك فرق بين أن يعمل من أجلها، وبين أن تقال عنه، فلا شك أن الإنسان لا يريد أن يقال عنه السوء، ويتألم إذا قيلت فيه مقالة في عرضه، أو في دينه، أو في إيمانه لا ترضيه، لكن هذا أمر وذاك أمر آخر، فهذا يحبط العمل كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك، أو قال: تركته وشركه، وأنا منه بريء). قال: (الشرك في المعاملة وفي العبودية ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومغفور وغير مغفور، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفور)، يعني أن النوع الأول شرك كبير وشرك أكبر، ولا شيء منه مغفور، أما هذا النوع منه أكبر كمن يصلي لغير الله أصلاً، أو كمن يكون رياؤه في أصل الدين، فالمنافقون نفاقاً أكبر نفاقهم في أصل الدين، يعني: شهد أن لا إله إلا الله رياءً، فالمؤمن شهد أن لا إله إلا الله وآمن بالله، وصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن عن حق، لكن رياؤه في بعض عبادته، في جهاده، في صلاته، في دعوته، في بعض أنواع العبادة، أما أصل الدين عنده ليس فيه رياء، فهذا هو الثاني الذي يدخل في الكبائر، وقد يُحبط العمل وقد لا يحبط بحسب قوته، وقد تُحبط صلاة راءى فيها ولا تحبط صلاة أخرى لم يراء فيها، وهكذا. إذاً: هذا منه مغفور، والمغفور منه ما يندرج تحت الكبائر والذنوب، فيكون تحت المشيئة، ولا نفهم أنه لا يؤاخذ عليه، إنه قابل لأن يغفر، داخل تحت المشيئة، أما الشرك الأكبر فإنه لا يغفره الله سبحانه وتعالى. ثم ذكر بعد ذلك شيئاً من أنواع هذا الشرك، مثل شرك الألفاظ: كالحلف بغير الله، وشرك الإرادات، وشرك النيات، إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى مما بين به حقيقة هذا الذنب العظيم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا وإياكم وإخواننا المسلمين منه، وأن يجنبنا الشرك صغيره وكبيره ودقيقه وجليله، وأن يجعلنا من المؤمنين الصادقين الموحدين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الشرك قديما وحديثا [2]

الشرك قديماً وحديثاً [2] إن حقيقة ما يقع من الإشراك بالله سبحانه وتعالى على وجه المعمورة هو تشبيه المخلوق بالخالق في بعض ما هو من خصائص الله سبحانه كالعبودية، والدعاء، والخوف والرجاء، ورجاء النفع والضر، والمنع والعطاء وغير ذلك، ولذلك من صرف شيئاً من خصائص الله سبحانه وتعالى لغيره فقد ظن بالله ظن السوء، وقال على الله عز وجل بغير علم، فهذه أعظم الذنوب التي ارتكبها العبد المشرك مع ربه سبحانه وتعالى.

حقيقة الشرك

حقيقة الشرك إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أيها الإخوة المؤمنون: ما زلنا في الموضوع المهم الجلل الذي دونه كل موضوع، وهو موضوع الشرك، حقيقته وخطره وضرره، وكنا في درس سابق بحمد الله تعالى وتوفيقه قد قرأنا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، كلاماً قيماً نفيساً عن الشرك وعن التعطيل، ووقفنا عند شرك الإرادات والنيات، فنكمل إن شاء الله تبارك وتعالى كلامه رحمه الله؛ لأن الموضوع قد لا يأتي له مناسبة أخرى، وإن جاءت فبعد حين، ونحن نعلم أن أهم ما ندعو إليه هو التوحيد، وأن أوجب ما ينبغي أن نتعرف عليه من الأضداد هو ضد التوحيد وهو الشرك بالله تعالى، الذي هو أكبر الذنوب. والذي جاء الحديث عنه في متن الكتاب بمناسبة الكلام عن الرجاء، وذلك أن المشرك لا رجاء له عند الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [هود:16] فلا يرجون رحمة الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن يستدرجهم من حيث لا يعلمون. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (إذا عرفت هذه المقدمة -من الكلام الذي تقدم كله في درس سابق- انفتح لك باب الجواب على السؤال المذكور)، فالسؤال المذكور الذي سألناه عن الكبائر وأنواعها، ولماذا كان الشرك أكبرها وأعظمها وأخطرها؟ فيقول: (حقيقة الشرك مما تقدم) يعني: تبين لنا، قاعدة مهمة نستنتجها مما تقدم وهي: أن حقيقة الشرك هي التشبه بالخالق، وتشبيه المخلوق به، هذا أوجز ما يمكن أن يقال في حقيقة الشرك، ومعرفة لماذا كان هو أعظم الذنوب وأعظم ما عصي الله تبارك وتعالى به؟ الشرك هو التشبه بالخالق تبارك وتعالى، أو تشبيه المخلوق به تبارك وتعالى، هذا هو التشبيه في الحقيقة لا إثبات صفات الكمال. يريد ابن القيم رحمه الله تعالى أن يرد على الذين نفوا الصفات، قالوا: حتى لا نقع في التشبيه، مثلما تقدم معنا في صفة العلو مثلاً، وموضوع الرؤية والكلام، وغيرها من مباحث الصفات التي شرحناها والحمد لله. فالعلة واحدة عند الذين ينكرون صفات الله تبارك وتعالى من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم يقولون: لو أثبتنا الصفات لوقعنا في التشبيه، فنقول: أنتم لا تفهمون حقيقة التشبيه، التشبيه الذي هو الشرك عكس ما تظنون، التشبيه هو تشبيه الخلق بالخالق، لا كما تظنونه إثبات صفات الله، أما تشبيه الخالق بالمخلوقين، كمن يقول: إن الله له يد كيد المخلوقين، أو يقول: إن الله له سمع كسمع المخلوقين، أو يستوي كاستواء المخلوقين، هذا وقوعه في العالم قليل. الله تعالى فطر النفوس على أن هذا غير موجود وغير حاصل، ووقوعه قليل وإن وقع فهو مما ينكر، ولا شك أنه مناف للتوحيد لا ريب في ذلك، لكن هم لا يقصدون ذلك، يقصدون إثبات الصفات، والسلف الصالح والحمد لله يثبتون الصفات لله تبارك وتعالى كصفات المخلوقين، ولكن يقولون: كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. يثبتون السمع والبصر وجميع الصفات مع إثبات أنه ليس كمثله شيء وليس له كفواً أحد، وهل تعلم له سمياً، وإن وقع الاشتراك اللفظي في الاسم فالحقيقة غير الحقيقة، كما أن الوجود غير الوجود، والذات غير الذات، متفقون معنا أن ذات الله تبارك وتعالى لا تشبهها ذات، وأن وجود الله تبارك وتعالى لا يماثله وجود، إذاً: فبقية الصفات تتبع الذات، وتتبع صفة الوجود المجمع عليها، وهذا مذهب واضح والحمد لله، منهج رحب واضح سهل الفهم، ولا ينكره إلا مكابر، لكن ليس هذا، وإن زعم من زعم كـ الرازي وأمثاله ونسبوه إلى رجل لا عقل له ولا نقل، وهو المنجم المشهور أبو معشر الفلكي منجم من المنجمين، كان في الإسلام لا يعرف له فضل ولا خير وسابقة ولا دين، هو الذي يقول: إن أول شرك وقع هو أن الناس اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى له يد كيد المخلوقات، وله عين كعين المخلوقات، فعبدوا الأصنام. هذا كلام فارغ، ومغاير للحقيقة وللواقع التاريخي، ولما صحت به الأحاديث، وبالعكس: الذين عبدوا الأصنام شبهوها بالله، ولم يشبهوا الله بالأصنام، هذا هو الواقع.

الخصائص الإلهية

الخصائص الإلهية فيقول: (وليس في إثبات الأسماء التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فعكس من نكَّس الله تعالى قلبه وأعمى عين بصيرته، وأركسه، وجعل التوحيد تشبيهاً والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق بالخصائص الإلهية.

التفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع

التفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع من الخصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع: (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) هذا مما يملكه الله سبحانه وتعالى وحده، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل عليه وحده؛ لأنه هو الذي يملك العطاء والمنع والضر والنفع، فإذاً من يدعى؟ من يرجى؟ من يستغاث به؟ من يطلب عند الشدائد؟ هو الله وحده. والذي فعله المشركون أنهم عكسوا ذلك، فأصبحوا يدعون من دون الله آلهة، إما في وقت الرخاء والشدة، وإما في وقت الشدة كما كان المشركون الأولون إذا ركبوا في الفلك، وجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان دعوا الله مخلصين له الدين في هذه اللحظة، إذاً: نسوا الوسائط، لكن إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون به ويدعون غيره معه أو من دونه، فوقعوا في الشرك. يقول: فمن علق ذلك بمخلوق، يعني: الدعاء والخوف والرجاء فقد شبهه بالخالق من جهة أنه أعطاه وأضفى عليه خصائص الإلهية، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، جعله كالحي القيوم سبحانه وتعالى، الذي بيده كل هذه الأمور، وهو مرجعها، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي إن فتح باب الرحمة فلا ممسك لها: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] هذا بيده، كل شيء بيده، وعنده خزائنه سبحانه وتعالى، وإليه المنتهى، وأن إلى ربك المنتهى، منتهى الإرادات ومنتهى المطالب، ومنتهى المنى، كله ينتهي إلى الله سبحانه وتعالى. أي مخلوق تصورت أنه ممكن أن يعطيك أو يساعدك أو يضرك أو ينفعك ففكر بعقلك من الذي خلقه؟ من الذي أوجده؟ من أعطاه؟ تجد أنك في النهاية تستيقن وتعلم قطعاً أن إلى الله المنتهى، إذاً: يطلب وحده لا سيما وهو كما قال الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب إذاً: اطلب الغني الكريم الذي بيده كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، ويريد أن تسأله، ويغضب إن لم تسأله وتطلبه، فكيف تلجأ إلى المخلوقين وتتخذ منهم وسائط من دونه؟! إلى أن يقول رحمه الله: (فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات تبارك وتعالى). شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم لهم هذا المنهج، يستطردون ويوضحون، وهذا المنهج لو تأملناه لوجدنا أنه قرآني، فالله تبارك وتعالى في القرآن حتى وهو يأتي بقصة أو بخبر فإنه يأتي بإشارة أو دلالة قوية على أهمية التوحيد، أو تجلية لجانب معين من جوانب التوحيد تتعلق بهذا الموضع، وهكذا الذين يسيرون على منهج القرآن والسنة في الدعوة والفهم والحكمة والبصيرة التي أمر الله تعالى بها، ويأخذونها من القرآن كهذين الشيخين الفاضلين، أي موضع من مواضع التوحيد سواء وهو يتكلم عن مشابهة المشركين ومحبتهم كما في اقتضاء الصراط المستقيم يعرج على موضوع الشرك، في الصارم المسلول يعرج على موضوع الكفر وأنواعه وهكذا. هنا كما ترون السؤال عن المعاصي، الكتاب كله عن العشق، ومع ذلك عرج إلى الشرك وأطال وهكذا، لعلمه بأهمية التوحيد وأنه أساس كل شيء في هذا الدين.

الكمال المطلق من جميع الوجوه

الكمال المطلق من جميع الوجوه ويقول أيضاً: (من خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه)، ولهذا بعض الإخوان كثيراً ما يسأل فيقول: هل أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية أم غير توقيفية؟ هل نطلق هذا الوصف أو لا نطلق؟ والقاعدة هي أن ما كان كمالاً لا نقص فيه بوجه من الوجوه فإثباته لله من طريق الأولى، وقد تقدم هذا عندما تعرضنا لمعنى (المثل الأعلى)، في قوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]. المثل الأعلى: الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص بأي وجه من الوجوه، خذ مثلاً العلم، فالمثل الأعلى في العلم لله، فله العلم المطلق الذي لا يعتريه الجهل بأي شكل من الأشكال. القدرة المطلقة: المثل الأعلى لله فيها، وهي القدرة المطلقة بحيث لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يملك هذا إلا الله وحده، وكذلك الحكمة والعزة والتدبير ففي كل شيء له المثل الأعلى، فالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه من خصائص الألوهية، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لله وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستغاثة والاستعانة وكل أنواع العبادة تكون له وحده؛ لأنه وحده الذي يملك هذا الكمال المطلق، ويكون له الأمران المهمان اللذان هما سبب إيراد هذا الموضوع في شرح العقيدة: غاية الذل مع غاية الحب، هكذا لا بد أن يجتمعا. يقول: (كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده)، وهذا احتراز من كلام بعض أهل البدع، كأن الأمر ما يجب إلا في الشرع، نعم، فنحن ما عرفنا التقسيم إلا من الشرع، لكن العقل يدل عليه جملة، والفطرة تدل عليه جملة، وإنما تفصيله وبيانه يأتي في الشرع من الوحي، لكنها تدل عليه، ومن زعم أن ذلك مجرد دلالة الشرع فقط فقد غلط غلطاً عظيماً، وهذا ما سيوضحه رحمه الله فيما بعد. إذاً: يقول: (فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير -من جعل العبادة والرجاء والتعظيم والذل والخضوع لغير الله- فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله). إذاً: لاحظتم خطر هذا الشرك! فلو قيل: حتى لو جعل ذلك لنبي من الأنبياء أو لملك من الملائكة؟ أعني الدعاء والرجاء والخوف والرغبة والتعظيم، نقول: نعم. حتى لو جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون أيضاً شركاً وتشبيهاً. ومن الناس من يفعل ذلك، ولهذا فالشرك باطل، وأعظم من أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى لو كان هو المدعو صلى الله عليه وسلم، أو من يخاف ويرجى ويستغاث به، فالشرك باطل بأي وجه من الوجوه، وأعظم ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمحاربته هو الشرك وإن كان متعلقاً بذاته، كما سيأتي التفصيل إن شاء الله تبارك وتعالى.

العبودية المتضمنة غاية الحب مع غاية الذل

العبودية المتضمنة غاية الحب مع غاية الذل ثم يقول: (من خصائص الألوهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل). يقول: (وهذا من المحال أن تأتي شريعة من الشرائع به -يعني: بهذا التشبيه- لأن قبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق، كما جاء في حديث عياض بن حمار: (وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللته) فالذي صرف الفطرة وحرفها في الأصل القديم الشياطين، ثم يحرفها أيضاً في حق الآحاد من الناس: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فالإنسانية كانت على التوحيد حتى صرفها الشيطان إلى الشرك، والآحاد: الأفراد من الناس يولد كل مولود على الفطرة حتى يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه أي: يصرفانه ويحولانه من التوحيد إلى الشرك).

السجود من خصائص الإلهية

السجود من خصائص الإلهية يقول: (إذا عرفت هذا: فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغير الله فقد شبه المخلوق بالله، ومنها التوكل، فمن توكل على غير الله فقد شبهه أيضاً بالله، وقس على ذلك التوبة والحلف، يكون منها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً). هذا الكلام لا يقوله الإمام ابن القيم هكذا، لأجل الرد على الواقع في عصره من شيوخ الطرق، فهو يعالج واقعاً مؤلماً مريضاً في عصره، كانوا يستغيثون بالشيخ ويسجدون له، كان بعض المريدين يسجد لشيخه، وآخرهم هذا المهدي الذي ظهر في السودان يدعي أنه المهدي، وعبد الله التعايفي كانوا يسجدون له سجوداً، ويستغيثون به ويتوكلون عليه، والشيخ هو الذي يعلمهم، يقول بعض مشايخهم: الشيخ الذي لا ينقذ مريده أو تلميذه وإن كان في أطراف الأرض أو أوساط البحر ليس بشيخ! يعني: الشيخ هو الإله، تعالى الله عما يصفون! فالذي يستطيع أن ينجي تلاميذه في ظلمات البر والبحر هو الشيخ!! فأصبحوا يتنافسون في ذلك، حتى قال بعضهم: لو جئتم إلى قبري ودعوتموني ولم أغثكم فلست بشيخ، انظروا كيف وصل بهم ادعاء الألوهية! نسأل الله العافية. والحلف بالشيخ صار أعظم من الحلف بالله، ولهذا يذكر هذه الأمثلة؛ لأنه يعيش ذلك ويعانيه في زمانه. قال: (فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاءً والتجاءً واستعانة، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، وأن يذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه). ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطؤهم الناس بأخفافهم). سبحان الله! الجزاء من جنس العمل، الناس يحشرون يوم القيامة على خلق أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً، إلا المتكبرون الذين كانوا يتكبرون على خلق الله، ويرون أن من واجب الناس أن يعظموهم ويبجلوهم ويخضعوا لهم، ويحبوهم ويطروهم ويمدحوهم، هؤلاء يحشرون على هيئة الذر، انظر الفرق! يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاءً وفاقاً بما كانوا يصنعون في الدنيا، أياً كان السبب الداعي مال منصب اعتقادات باطلة كشيوخ الصوفية الذين يرون أنه يجب على المريدين أن يعظموهم، وأن يلحسوا أقدامهم وأكفهم وركبهم، أياً كان المتكبر فقد تشبه بالخالق، فإذاً: ينطبق عليه الحديث الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته) ثم يضرب ابن القيم رحمه الله مثالاً: وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذاباً يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح: (من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) ما هي العلة؟ القضية ليست قضية أن الشخص صور فقط، يجب أن تطرد العلة في كل من ادعى شيئاً من خصائص الألوهية، أو نازع الله تبارك وتعالى فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى. يقول: فهؤلاء من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، لتشبههم بالله في مجرد الصنعة، يخلق كخلقه، يصنع كهيئة خلق الله هذا ما فعله المصور، ومع ذلك فهي جريمة عظمى، وهو من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فكيف من تشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ ليس هناك رسمة ولا صنعة، وفي الحديث الصحيح: (لا أحد أحب إليه المدح من الله) فالذي يجب أن يطرى ويمدح ويعظم، وأن تقال له الألقاب هو الله. ثم قال: (والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلاهيته؟) وهنا يضرب مثالاً آخر، وهو من الأدلة على أن جانب التوحيد من أعظم ما يراعيه الشرع في كل الأمور، وسد كل الذرائع التي توصل إلى الشرك، فيضرب مثالاً بهؤلاء الناس الذين يحبون الألقاب ينازعون بها الله تبارك وتعالى في ملكه، وفي ربوبيته وإلاهيته. فيقول: من تشبه في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الملوك ولا ملك إلا الله، أو ولا مُلك إلا لله، وفي لفظ أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك) مجرد أنه تسمى، قد لا يكون عمل عملاً، أو دعا الناس ليعملوا أعمالاً توجب ألوهيته وربوبيته كقول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] لكن هذا كل ما قد يكون عمله أنه سمى نفسه باسم لا يجوز إلا لله، ولا يطلق إلا على الله تبارك وتعالى، فهذا استحق أن يكون أخنع الأسماء، وأن يكون أغيظ رجل على الله تبارك وتعالى. فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، وهو الذي يحكم على الحكام كلهم ويقضي عليهم كلهم لا غيره، إذا تبين هذا فهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة. ثم يفتح لك ابن القيم باباً عظيماً من أبواب العلم، ويؤصل قضية عظيمة بأجمل وأوضح ما يمكن، ثم ينتقل منها إلى قضية أخرى فتجد علماً، لا ينقل كلاماً هكذا ليس له فائدة علم مؤصل مرتب مبني على الأدلة، على نظرة شاملة، وهذه التي لا تجدها عند كثير من العلماء في القديم فضلاً عن المتأخرين، مثل الإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله ومن سار على نهجهما، هذه ميزة للمدرسة السلفية بأنها مدرسة قوية، هذه المدرسة التي جددها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه، وما عمله ابن تيمية ما هو إلا تجديد للمنهج الذي كانت عليه الثلاثة القرون المفضلة، لم يأت بشيء من عنده أبداً. فالآن ينقلك من سر عظيم بعد أن تجلت عندك هذه الحقيقة العظيمة، حقيقة الشرك وهو هذا التشبيه، ينقلك إلى حقيقة أخرى عظيمة جداً.

أعظم الذنوب إساءة الظن بالله تعالى

أعظم الذنوب إساءة الظن بالله تعالى يقول: (إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به). إذاً: القضية ليست قضية رجاء -أضعف منازل المريدين- كما يقول الهروي أو يقول الصوفية، لا. أعظم الذنوب إساءة الظن بالله سبحانه وتعالى، وهي باب لموضوع آخر سيأتي فيما بعد، قد يقال: أليس أعظم الذنوب هو القول على الله تعالى بغير علم كما في الآية؟ نقول: انتظروا سيفتح الشيخ باباً إلى باب إلى باب حتى تجدوا مدناً من مدن العلم والخير في هذه العبارات الموجزة. يقول: (فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته). أي أن مسيء الظن بالله ظن به خلاف الكمال الذي تقتضيه هذه الأسماء والصفات التي تثبت له، يقول: ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح:6] أعوذ بالله! انظروا شدة الوعيد نتيجة هذا الظن بالله تبارك وتعالى. وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] ما هي الصفة التي أنكرها هؤلاء؟ الصفة التي أنكرها هؤلاء هي صفة العلم، وأن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم. يقول: (وقال تعالى عن خليله إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124] {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123] شرف عظيم أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته، هذا من أعظم الدلالة على إمامته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ولما قال لقومه: {مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:85 - 87] {أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86] أئفكاً: افتراء لا أصل له ولا حقيقة ثم يعقب على ذلك: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:87]. يقول: فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظنكم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى العبودية لغيره؟ ماذا ظننتم به حتى عبدتم غيره معه أو من دونه؟! يقول: (فلو ظننتم بالله ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجها، وإلى من يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم وإلى من يستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة حاجتهم). نتيجة حاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، انظروا إلى هذه العبارات العظيمة.

إدخال الوسائط بين الله وخلقه إساءة ظن به سبحانه

إدخال الوسائط بين الله وخلقه إساءة ظن به سبحانه قال: (فأما القادر بنفسه على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] وكما في حديث أبي ذر المشهور في خطاب الله تبارك وتعالى لعباده). فإذاً: الغني بذاته، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، يقول: هذا إدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص في حق ربوبيته وإلاهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، هذا الظن أسوء الظن بالله. فالموضوع إدخال الوسائط!! قال: وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه) أي فليس من المعقول أن يشرع الله سبحانه وتعالى للناس أن يتخذوا بينه وبينهم وسائط وهو العليم بكل شيء، وهو قادر على كل شيء، الغني عن كل أحد، المتصرف في كل أمر، الذي رحمته وسعت كل شيء، أيحتاج لواحد يأتي فيدخل بينه وبين خلقه فلا يعبد إلا من طريقه، أو يدعى هذا من دونه بزعم أن يوصل العبادة إلى الله؟! تعالى الله عما يشركون! يقول: (يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله، والرب تعالى هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأليه والتذلل والخضوع). ولهذا عندما نقول كلمة لا إله إلا الله، كلمة التوحيد العظيمة، ففيها كلمة (إله) وإذا عُرف معناها عرفنا معنى كلمة: لا إله إلا الله، فما معنى الإله؟ أوجز وأفضل تعريف لهذه الكلمة أن الإله هو الذي تألهه، والوله: غاية الحب، فغاية الحب ونهاية الحب تسمى: الوله، فالإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وخضوعاً وذلاً وتعظيماً وانقياداً ورغبة ورهبة ورجاءً. إذاً: لا إله إلا الله، هذا هو الذي تصلح له هذه الصفات تبارك وتعالى.

ما قدروا الله حق قدره

ما قدروا الله حق قدره يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى بعد هذا الكلام أمثلة عظيمة جداً ونافعة، رداً على جميع الطوائف، مما يدل على ما له من الفقه والحكمة، فإنه رد على جميع الطوائف من خلال هذه القاعدة العظيمة، وهي قاعدة أن شر الذنوب وأعظمها وأقبحها هو سوء الظن بالله، وهو الذي أوقع في الشرك. يقول بعد أن ذكر الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73]: (الله أكبر! كل من يعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وأيضاً: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]). يعني: هذه الآلهة من البشر أو من الشياطين أو غيرهم ضعفهم كضعف الذباب! ومع ذلك لو أنه أخذ شيئاً منهم لا يستنقذوه منه، بل هم أضعف: (ضعف الطالب والمطلوب) ثم قال: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] أي: لم يحسنوا الظن به، يعني: أساءوا الظن بالله، ولهذا ما قدروه حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، فالإله عندهم كما هو عند كثير من الغافلين عندما تكلمه عن الله، تعالى الله عما يصفون كأنك تكلمه عن أي شخص، بل ربما لو كلمته عن بعض المخلوقين الذين لهم هيبة وقوة لارتجف وأرعاك أذنيه لكن إذا قلت: يا أخي اتق الله! يا أخي! أنا أخبرك بكلام الله، فتجده غير مبالٍ ما قدر الله تعالى حق قدره، ولا عرفه حق معرفته. ولهذا قلنا كما تحدثنا في درس سابق: إن مشكلة الناس في جميع العصور والأوقات، وفي كل زمان ومكان، أنهم ما عرفوا الله، وما قدروا لله قدره، فأشركوا به، اتبعوا شرائع البشر وتركوا شريعته لسوء ظنهم به، ولأنهم ما قدروا الله حق قدره أحبوا بعض الخلق أكثر من محبتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ما قدروا الله حق قدره حتى يعرفوا قدر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء منهم من يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه

ما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه يقول: (فما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه ممن لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره، وإن يسلبه الذباب شيئاً مما عليه لم يقدر على إنقاذه منه، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]) هذه قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه حبر اليهود وقال له: (إن الله يضع الأرض على إصبع والجبال على إصبع سبحانه وتعالى. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقول الحبر وإقراراً له، وقرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]) أبعد هذا يعبد أحد من دونه؟! إنساناً كان أو حجراً أو شجراً أو قبراً؟! سبحان الله عما يشركون!

ما قدر الله حق قدره من أنكر الرسل

ما قدر الله حق قدره من أنكر الرسل (وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل رسولاً إلى خلقه). وفي هذا يرد على منكري الشرائع، وفي ترتيب أنواع الكفر والكفار، فإن أعلى درجة من درجات الكفر وأشد الناس كفراً هم الفلاسفة، وهم من ينكر النبوات والشرائع بالجملة، وفي القديم كان هناك قلة تسمى الفلاسفة أما الآن أصبحت أمماً، الغرب الآن بأكمله تقريباً! المذهب الشيوعي والنازية والفاشية كل هذه تنكر النبوات والوحي، فأكفر وأعلى درجات الكفر هم هؤلاء فابتدأ بهم. إذاً: من قال إن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه رسولاً ولم ينزل كتاباً، هل قدر الله حق قدره؟ لأن معنى كلامه هذا: أن الله سبحانه وتعالى أهمل الخلق وتركهم سدى، كما فسرها الإمام الشافعي رحمه الله، سدى أي: لا يؤمر ولا ينهى، تركهم هملاً وخلقهم عبثاً، وهذا غاية سوء الظن بالله، هؤلاء ما قدروا الله قدره، فقالوا هذا القول.

ما قدر الله حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى

ما قدر الله حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى درجة ثانية في الكفر: ما قدر الله تعالى حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى. كـ الجهمية الذين نفوها بالكلية وأشباههم. يقول: (ومن نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال العباد من طاعتهم ومعاصيهم). وهؤلاء هم المعتزلة والقدرية، إذاً هذه درجة ثانية.

ما قدر الله حق قدره من زعم أن الله يعاقب عبده على ما لا يفعله

ما قدر الله حق قدره من زعم أن الله يعاقب عبده على ما لا يفعله يقول: (وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله، ولا له عليه قدرة، ولا تأثير ألبتة! بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله). وهذه الطائفة هي الجبرية، يقولون: هو سبحانه الذي جبر العبد، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق، يعني: المخلوق لا يمكن أن يكره المخلوق إكراهاً كلياً، لا يستطيع أي مخلوق أن يملك ما تضمره مهما كان، وهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى أجبر المخلوقين، تعالى الله عما يصفون!! قال: (وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد -أي المالك- لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان ذلك قبيحاً، فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير)، هذا مذهب الجبرية، هل هناك فرقة تسمى الجبرية الآن؟ نعم، الأشعرية، ماذا يقولون؟ والفعل في التأثير ليس إلا للواحد القهار جل وعلا أي: الفعل كله لله، فما دام الفاعل والمؤثر هو الله، إذاً: هل يعاقب على فعل نفسه؟ فهو الذي فعل، أما العبد فلم يفعل شيئاً ولم يؤثر في شيء، فهم ينظرون من جانب وينسون جانباً آخر. طيب! إذا كنتم تقصدون أو تريدون بذلك أن العبد لا يملك أن يطيع ولا يملك أن يعصي حتى نجعل إرادة الله هي كل شيء، فقد نسيتم الأفعال الأخرى، فنقول: إذا ارتكب العبد فاحشة تقولون الذي فعلها من؟ إن قالوا: الله -تعالى الله عما يصفون- وقعوا في الكفر، وإن قالوا: العبد إذاً أثبتوا للعبد فعلاً وتأثيراً وإرادة، لكن هم ينسون ذلك ويغفلون عنه. إذاً: الطائفتان الجبرية والقدرية ما قدروا الله حق قدره.

ما قدر الله حق قدره من زعم أنه حل في كل مكان

ما قدر الله حق قدره من زعم أنه حل في كل مكان (وكذلك ما قدر الله حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان)، وهذا مذهب الحلولية من الصوفية ومنكري العلو، الذين ينكرون علو الله، يقولون: الله في كل مكان، إذاً: هناك أماكن قذرة نجسة يترفع الإنسان أن ينطقها، كيف تقول: إن الله في كل مكان؟ إذاً: ما قدر الله حق قدره من نفى علو الله وأثبت هذا.

ما قدر الله حق قدره من نفى الصفات الفعلية

ما قدر الله حق قدره من نفى الصفات الفعلية ثم ينتقل ويقول: (وما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته). هذه اسمها الصفات الفعلية، الذي ينفيها هم الأشاعرة وأمثالهم ممن يؤولون وينفون الصفات، خاصة صفات الرضا والغضب والمحبة؛ لأن هذه فيها تشبيه لا يمكن أن يثبتوها أبداً. إذاً: ما قدروا الله حق قدره إذا نفوا أنه يحب، وأنه يبغض، وأنه يريد، وأنه ذو انتقام، وأنه رءوف، وأنه يمقت إلى آخر ذلك.

ما قدر الله حق قدره من نفى حكمته وغايته

ما قدر الله حق قدره من نفى حكمته وغايته (ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله). الذين نفوا حكمة الله، لم يقولوا: إنه ليس بحكيم هكذا، يقولون: ليس لأفعاله غاية ولا علة، يظنون أنهم بهذا الكلام ينزهون الله، ما نقول: الأفعال لها حكمة أو لها علة، تعالى الله! نقول: إنه إذا فعل شيئاً فمن أجل شيء مثل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] إذاً: هو خلقهم من أجل العبادة، فهذا لا يليق، لا نثبته لله، الله سبحانه وتعالى ما يحقق شيئاً من أجل شيء، ظنوا بهذا أنهم ينزهون الله، فوقعوا في المصيبة الكبرى وهي نفي الحكمة عن الله. فكأنه إن خلق شجرة أو حجراً أو أرسل نبياً فالأمر واحد، وكلها أفعال تخضع لمطلق المشيئة أو الإرادة فقط، ليس لها حكم ولا علل، فنفوا مقصوده وحكمته وغرضه من خلقه.

ما قدر الله حق قدره من جعل له صاحبة وولدا

ما قدر الله حق قدره من جعل له صاحبة وولداً (وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً)، وهؤلاء معروفون قاتلهم الله.

ما قدر الله حق قدره من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

ما قدر الله حق قدره من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه رفع أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وأعلى ذكرهم وجعل الله فيهم الملك والخلافة والعز، ووضع أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذل أينما ثقفوا، وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب، تعالى الله عن قول الرافضة علواً كبيراً!) انظروا كيف لو أن التوحيد صح عند هذه الطوائف وقدروا الله حق قدره ما وقعوا في هذه المصائب، يقولون: صنما قريش، يقصدون أبا بكر وعمر! فأعدى أعداء الدين عندهم أبو بكر وعمر، ثم بنو أمية هم الشجرة الملعونة في القرآن، شجرة خبيثة ملعونة وكلهم كفار إلى آخر ما يقولون. إذاً هؤلاء هم أعدى أعداء الدين، فمن هم أولياء الله؟ قالوا: علي وذريته والأئمة ممن يعتقدون إمامتهم، ولكن الواقع أن الله تعالى مكّن لبني أمية وأعطاهم الملك والولاية، ففتحوا البلاد، وأقاموا الجهاد، أعطاهم الله ولاية حتى على هؤلاء، وضرب أهل البيت وسجنوا وأوذوا وعذبوا وقتلوا وما تولى أحد، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، وما تولى أحد ممن يدعي الروافض أنه إمام الخلافة أبداً؛ لأن بدعة الإثني عشرية ما جاءت إلا متأخرة بعد أحداث كربلاء، أي: بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، بعد ذلك جاءت هذه البدع، منذ أن جاءت هذه البدعة ما ولي إمام من أئمة الرافضة قط. إذاً: أحسنوا ظنكم بالله يا من تدعون أنه لم يول أحداً من أوليائه الذين تقولون إن الله اختصهم بغاية العلم والحكمة، ويعلمون الغيب، ويدبرون كل شيء، وأعطاهم مفاتيح الكون، (ولولاك لولاك ما خلقت الأفلاك) كل هذا الاعتقاد العظيم فيهم وما تولوا إذاً: ظنكم بالله ظن عجيب غريب من أين تأتون به؟! وأعجب من ذلك أنه يمكن لأعدائهم ويوليهم وينصرهم، ويفتحون البلاد وتثني عليهم الأمة، وتؤلف فيهم الكتب، إذاً: لا بد أن تصححوا نظرتكم إلى الله. ونأتيك بجواب مفحم لا يستطيع الروافض أن يرفعوا رءوسهم بعده، نقول: مثل هذا القول في حق أهل البيت وفي حق أعدائهم -كما تزعمون- قالته اليهود والنصارى في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقاعدة واحدة، كيف؟ اليهود والنصارى كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه مفترٍ، افترى على الله الكذب وجاء برسالة، إذاً: ما الدين الحق الذي يقبله الله ولا يرضى غيره؟ قالوا: ما عليه اليهود والنصارى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135] أفيسلط الله كذاباً دجالاً مفترياً فيستولي على ممالك هذا الدين الحق، ويقتلهم ويأسرهم، ويضرب بالسيف رقابهم، ثم يستعبد من شاء منهم، ثم يظل الملك والشأن والرفعة والمجد له ولأمته أبد الآبدين، طوال الدهور، هذا ظن بالله سيء! إذاً: إما أن يكون الله لا حكمة له في أفعاله، حيث ينصر عدوه وهو يفتري عليه ويقول إنه رسول من عنده، ويأتي بكلام فيقول: هذا كلام الله، ويدعي الرسالة من الله وأن الوحي ينزل إليه، والدين الحق اليهودية والنصرانية كما تزعمون، ذليلة مهانة مضطهدة معذبة، ويقضى عليها في أغلب بقاعها الأساسية المهمة لها، وهي منقطة حوض البحر الأبيض يعني: لا يمكن أن لا يكون هناك حكمة أبداً، ولا يستطيع عاجز أن ينصر أولياءه، على أعدائه، أو أنه الواجب الآخر وهو أنكم أنتم ظننتم به غير الحق وما قدرتموه حق قدره، ويكون هو نصر وليه ونبيه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ويكون دينكم باطلاً لا حقيقة له، هذا دليل. فهذا يتفق مع حكمة الله ومع أفعال الله تبارك وتعالى في خلقه، فهذا القول قول الرافضة مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين إنه أرسل ملكاً ظالماً، فادعى النبوة لنفسه وكذب على الله، وأخذ زماناً طويلاً يكذب على الله كل وقت، ويقول: قال الله كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول: الله أباح لي ذلك، والرب تعالى يظهره ويؤيده ويعليه ويقويه، ويجيب دعواته، ويقيم الأدلة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به، فيصدقه في قوله وفعله وتقريره، وتحدث أدلة تصديقه شيئاً بعد شيء إلى يوم القيامة. يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليست آياته معجزة واحدة ثم تنتهي كما كان الرسل من قبل، وإنما كما قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) كلما جاء زمن تجدد فيه ما يدل على صدقه، وتتجدد الدلائل على أنه نبي، وبما يقع من أخبار وأحداث أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، ولا يمكن أن يتوقعها بشر، ولا أن يقولها أحد إلا بعلم من الله تبارك وتعالى. يقول: ومعلوم أن هذا يتضمن -يعني: كلام اليهود وأتباعهم- أعظم القدح والطعن في رب العالمين. فقارن بين قول هؤلاء اليهود وقول إخوانهم من الرافضة، تجد القولين كما قال الشاعر: رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما بأسحم داج عووا لا نتفرقا يعني: أبداً لا نتفرق، كأنهم أخوان رضعا من ثدي واحد وأقسما: أننا لا نفترق أبداً، يعني: القاعدة واحدة، ما يقال في حق اليهود يقال في حق الروافض.

ما قدر الله حق قدره من نفى التحسين والتقبيح للعقل

ما قدر الله حق قدره من نفى التحسين والتقبيح للعقل ثم قال: (وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين، ويدخلهم دار الشقاء، وأن يثيب أعداءه ومن لم يطعه طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه جائز، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك). وهذا من إنكار الحكمة، فهو تابع لموضوع إنكار الحكمة أو إنكار التعليل. لكن هنا أيضاً ملحظ آخر وهو أنهم يقولون: إن العقل لا يحسن ولا يقبح، فلو أن الله تبارك وتعالى -كما يقولون هم- أتى بأفضل الأولياء وأدخله النار فذلك جائز، وأتى إلى أعدى أعدائه وهو الشيطان وأدخله الجنة فذلك جائز عقلاً، لكن الشرع جاء بخلاف ذلك، فلولا أن الخبر الشرعي جاءنا لقلنا يحتمل هذا وهذا، تعالى الله عما يصفون! لا والله لا نعتقد ذلك، بل الله تعالى أعطانا من العقول ما نعرف أن هذا الأمر لا يليق به، إذاً: العقل له دخل في معرفة التمييز بين الحق والباطل، في معرفة الصواب من الخطأ من خلال ما يأتي في الوحي تفصيله وبيانه، ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه الرسول النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وهي تدل على منهج أهل السنة والجماعة ولا تدل على مذهب الأشاعرة وذلك لأن الله وكل إلينا معرفة الطيبات من الخبائث بعقولنا، ولو كان العقل لا يحسن ولا يقبح لما كان لهذه الآية أية دلالة. وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس، وركز في عقولهم قدراً يعرفون به الحق، فيأتي الشرع فيصدقه، ولو عرض عليهم دين آخر باطل محرف لما قبلته عقولهم، بل تقول عقولهم: لا يمكن أن يكون هو دين الله تبارك وتعالى. يقول: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27 - 28] سبحان الله! هل يمكن هذا؟! كل الأمم اليوم إلا من عرف الله تعتقد ما نفاه الله، تعتقد أنه خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، وأنه يجعل المتقين كالفجار والفجار كالمتقين، والمفسدين كالمصلحين، لأنهم ينكرون البعث والجزاء والحساب. : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:21 - 22] وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] لا يليق بالله تبارك وتعالى أن يجعل هؤلاء كهؤلاء أبداً.

ما قدر الله حق قدره من كذب بالقيامة

ما قدر الله حق قدره من كذب بالقيامة إذاً: لم يقدر الله تبارك وتعالى حق قدره من زعم أنه لا يحيى الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع الخلق ليوم يجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين المشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] انظر كيف ظن الكفار بالله، ظن السوء، أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت {بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [النحل:38 - 39] هذه حكمة عظيمة جداً، والأخرى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39] وكيف يعلمون ذلك؟! أولاً: ليبين لهم الذي يختلفون فيه مسلمين وكفاراً، الدماء يومياً تنزف في هذه الأرض منذ أن جعل الله تبارك وتعالى الحق والباطل، منذ أن خلق الله السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، وجعل جيشاً للإيمان وجيشاً للكفر جيشاً للتوحيد وجيشاً للشرك، جبهةً لأهل الطاعات وجبهة لأهل المعاصي، والمعارك قائمة في كل مكان، وفي كل بيت وكل مجتمع وكل قرية، ودماء تراق وتهدر. خلاف كبير جداً، ألا يبين هذا الخلاف؟! سبحان الله، لا يليق هذا بالله! طيب! هناك ناس يقولون: إن المسيح هو الله، كل يوم ألف ومائتا لغة يترجم إليها الإنجيل، محطات إذاعية تقارب الألف محطة بجميع اللغات في العالم، تقول: الرب (يسوع) الإله المخلص ويأتي اليهود فيقولون: هذا ابن زنا، هذا كذا، تعالى الله. فهؤلاء غلوا وهؤلاء كفروا من جانب التنقيص، والمؤمنون يقولون: سبحان الله! هذا عبد الله ورسوله، إذاً: خلاف كبير بين هذه الأمم الكتابية الثلاث الرسالات الثلاث الأديان الثلاثة في العالم، خلاف كبير جداً الآن، فمن يبين لو لم يكن هناك يوم قيامة؟ لو مات اليهود وهم يعتقدون أنهم على الحق، والنصارى وهم يعتقدون أنهم على الحق، والمسلمون يظلون على هذا الاعتقاد؟ والأجيال تمر وكل واحد يظن أنه على الحق، لكن يأتي يوم القيامة ليبين لهم الذي يختلفون فيه، تعالوا فيبين يوم القيامة فيقول: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] هنا يظهر، عيسى نفسه عليه السلام، أأنت قلت؟ تعالوا يا إذاعات الإنجيل والتبشير، كل ما تقولونه وتزعمونه اسمعوا الجواب الآن من عيسى، والمسلمون الحمد لله يعلمون أنهم على الحق، واليهود يعلمون أنهم كاذبون: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39] وقس على ذلك. إذاً: فمهما حلف الكفار وأقسموا جهد أيمانهم أنه لا يبعث الله من يموت: {بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:38] * {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39]. يأتي المشرك بالعظم فيفته ويقول: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ويجيبه الله سبحانه وتعالى:: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] لكن لو ما أتى البعث بعد ذلك من يصبح الكاذب ومن يصبح الصادق؟ تختل الأمور والموازين، إذاً: هناك حكم عظيمة، فمن أحسن ظنه بالله، ومن قدر الله تعالى حق قدره آمن بها، أما من كان غير ذلك فإنه هو الذي يكفر بالبعث وبالحياة بعد الموت.

ما قدر الله حق قدره من هان عليه أمره

ما قدر الله حق قدره من هان عليه أمره قال: (وكذلك لم يقدر الله تعالى حق قدره من هان عليه أمره فعصاه). كأن الشيخ ابن القيم رجع إلى موضوع الكتاب الأساس (المعاصي والعشق) لكن هو يأتي بالأشياء المهمة الأساسية ثم يأتي بهذه. تقول: اتق الله يا أخي، هذا حرام! فيقول: هذا. بسيط لا يضر تقول: يا أخي! اتق الله وصل! افعل كذا! يقول: ليس هناك مشكلة. هان عليه أمره، هل قدره حق قدره؟ لم يقدره. إذاً: ضيع حق الله وأهمل ذكره، غفل قلبه عن ذكر الله، آثر هواه وشهواته ورغباته، وأعرض عن طلب رضا الله، وأطاع المخلوقين وجعل طاعتهم عنده أهم من طاعة الله، يعني: جعل لله الفضل من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله. إذاً القضية ليست أننا عصينا أو غفلنا، وإنما المشكلة من فعل ذلك وكلنا كذلك نسأل الله أن يرحمنا برحمته ما قدرنا الله حق قدره، لماذا؟ لأن له الفضلة من قلوبنا، والهم والتفكير في الدنيا، على السيارات والعمارات والزوجات والأبناء والوظائف. قد يبتعث شخص خمس عشرة سنة للعلم ليس لله منها كلمة واحدة. وكذلك يوجد أناس كل يوم يكتبون قصائد، مجلدات من الشعر ليس لله منها شيء، ومجالس وسهرات، يبدأ في الحكاية ويضحك الناس ويحكي لهم طوال الليل كل يوم، وليس لله شيء من هذا القول، يتكلم ويذهب ليس لله شيء، نسأل الله العفو والعافية. وعمله كدح ليل نهار كم لله من هذا الكدح؟ لا شيء، يغضب لكن ليس لله، يرضى لكن ليس لله ينتقم لا لله؟ يثور لنفسه وشهواته، ماذا جعل لله؟! وماله: شهوة تمشية نزهة رحلة خرجة إلى آخره، خذ ما شئت من المال، لكن أعط عشرة ريالات لله، وإن أعطى لله فإنما هو الفضلة، مثلاً: لو نجح واحد من أولاده لأعطاه هدية، لو كان لاعب كرة من أولاده وأتى بهدف يعطيه سيارة أو مليوناً أو أي شيء، ولو واحد من أولاده حفظ جزءاً من القرآن أعطاه عشرة ريالات أو خمسين ريالاً. إذاً: هل أنت تحسن الظن به؟! يقول: والله عندنا الرجاء نحن أمة محمد والله نحن نحسن الظن بالله يا شيخ ما أحسنت الظن به، من هذا حاله والله ما أحسن الظن بالله، ولا أحسن الرجاء، لو أحسن الظن لأحسن العمل، لو أحسنت الظن به لعظمت أمره ونهيه، ووقفت عند حدوده، وسعيت إلى مرضاته بكل طريقة، وكنت مع أوليائه، إن لم تجاهد أعداءه فكن محباً لأوليائه بقلبك. يا إخوة! أناس يتفكهون في المجالس بالدعاة بالهيئة بالمقاومة سبحان الله! تحاربون أولياء الله الذي رزقكم وأعطاكم المال والمناصب والخير، فإن لم تكونوا مع أوليائه فلا تقفوا مع أعدائه، لكن الشيطان أعماهم وأصمهم، فهذا موقفهم من الله سبحانه وتعالى. فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق، وأمر لأجله بالأمر الديني كان من أكبر الكبائر عند الله، وكذلك الكبر وتوابعه كما سبق، فإن الله سبحانه خلق الخلق، وأنزل الكتاب؛ لتكون العبادة والطاعة له وحده، والشرك والكبر ينافيان ذلك، ولذلك حرم الله الجنة على أهل الشرك والكبر، يقول الله تعالى في القرآن: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) لهذا كان أعظم وأكبر الذنوب.

القول على الله بلا علم

القول على الله بلا علم قال: (ويلي ذلك في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله إلى آخره). قال: (فهذا أشد شيء منافاة ومناقضة لكمال من له الخلق والأمر، وقدحاً في نفس الربوبية وخصائص الرب). قلنا أن القول على الله من أعظم الذنوب ونستدل على ذلك بآية الأعراف؛ لأن الله تعالى يقول في الآية: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] وبعد الفواحش الإثم والبغي، {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] إذاً: هذا أكبر، مرتبة حسب درجتها في العظم. فإذا صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك وأعظم إثماً عند الله، فإن المشرك المقر بصفات رب العالمين خير من المعطل الجاحد لصفات الكمال، كما أن من أقر بالملك للملك ولم يجحد ملكه، ولا الصفات التي استحق بها الملك، لكن جعل له شريكاً في الملك أو بعض الملك هذا خير ممن يجحد صفات الملك وينكر الملك بالكلية، هذا الفرق بينهما. يعني: إذا كان القول على الله تعالى بغير علم صادر من عالم يعلم الحق، فهو أعظم الذنوب جميعاً، وهنا خصوصية ذلك، أن الذين يفترون على الله الكذب أكثرهم ممن يعلمون الحق، ويعلمون أن الله تعالى لا يليق به ما يفترون عليه من الكذب، فهؤلاء عارضوا أصل القضية ونازعوها.

العبر من الحروب الصليبية [1، 2]

العبر من الحروب الصليبية [1، 2] لم يجرؤ حملة الصليب على التطاول وتدنيس أرض المسلمين في حملاتهم الصليبية السابقة إلا بعد أن باتت الأمة تشكو جروح التفرقة في جسدها الداخلي، وخيانة الباطنيين وتعاونهم مع أعدائها لقتل قادة الجهاد وأمرائه، وكان من قدر الله أن هيأ لهذه الأمة نور الدين محمود الذي بدأ أولى مراحل الجهاد والنصر، والتي تكللت في النهاية بتحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

مقدمة في كيفية بدء الحروب الصليبية

مقدمة في كيفية بدء الحروب الصليبية إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبعد: أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أشكر الله تبارك وتعالى الذي جمعنا بكم في هذه الليلة التي نسأله عز وجل من فضله وكرمه أن يجعلها طيبة مباركة، كما نشكر الإخوة القائمين على هذه القاعدة البحرية على دعوتهم، ومن كانوا سبباً في هذا الاجتماع الطيب. لقد تحدثنا في لقاء سابق عن مستقبل العالم الإسلامي في ظل الحرب الصليبية الجديدة المتسترة بما يسمى: الوفاق الدولي، ووعدنا الإخوة الكرام أن نتحدث في هذا اللقاء عن بعض العبر والمواقف من الحروب الصليبية الأولى؛ لأن فيها معالم نحتذي بها إن شاء الله في مقاومتنا لهذه الحملة المعاصرة؛ ولأن فيها من العبر والعظات الشيء الكثير الذي قصرت عنه الأفهام أو العيون فلم يُطلع عليه، ونحن أحوج ما نكون إليه في هذه الأيام. إن في إمكاننا -كما تعلمون- أن نقرأ أو نستعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو تاريخ الصحابة الكرام، والفتوحات الإسلامية، وهذا أمر مطلوب وحق، والعبرة فيه عظيمة بلا ريب، فهي أعظم العبر، لكننا عندما نختار أن نأخذ مرحلة الحروب الصليبية بالذات؛ فإن ذلك له دلالته الخاصة من جهة أنها تحكي أو تشابه الواقع الذي نعيشه الآن، والمرحلة التي تحياها هذه الأمة في ظل هذه الهجمة الخبيثة الماكرة التي يستجمع الغرب فيها قواه مرة أخرى. فما أشبه الليلة بالبارحة! إن المؤرخين يقولون: التاريخ يعيد نفسه، ونحن نقول: سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، هذه هي سنة الله تعالى في الأمم، وبالذات في الأمة الإسلامية، كل حياتها كرٌ وفر، وكل مواقفها إقبال وإدبار. قبل ألف سنة بالضبط من الآن اجتمعت أوروبا شرقها وغربها وشمالها وجنوبها في غارة واحدة على العالم الإسلامي، جاءت الجيوش من بولندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وما بقيت -تقريباً- قطعة في أوروبا إلا وتدفقت منها الجيوش استجابة لداعي تلك الحملة الهوجاء التي بدأها أول من بدأها البابا قريقور السابع الطاغية المشهور، ثم خلفه البابا أرذان الثاني ومعه المدعو بطرس الناسك. بطرس الناسك هذا المشهور جداً في تاريخ الحروب الصليبية، ماذا فعل؟ لقد ركب حماراً وطاف به أرجاء أوروبا داعياً الأوروبيين إلى حرب صليبية دينية على المسلمين الذين انتزعوا منهم بيت المقدس، والذين يهينون الحجاج النصارى ويسيئون إليهم. لقد رفع عقيرته بهذه الدعوة الخبيثة؛ فاستجابت له جموع من الوحوش الضواري، يعترف التاريخ كله شرقيه وغربيه أنهم كانوا مجموعات من الوحوش والرعاع والهمج الذين لا يضبطهم ضابط، ولا يردعهم رادع من خُلق أو دين، وإنما هو تعصب حاقد جمعهم فانسالت هذه الجموع وتدفقت إلى المملكة البيزنطية أو الإمبراطورية الشرقية، ومنها إلى بلاد الشام حيث بدأت تلك الحروب التي تسمى الحروب الصليبية، واحتلوا مواقع كثيرة أهمها -بلا ريب- القدس التي دانت وخضعت لهم قرابة قرن؛ حتى حررها الله سبحانه وتعالى واستنقذها بـ صلاح الدين الأيوبي.

عوامل نجاح الحروب الصليبية

عوامل نجاح الحروب الصليبية لن نطيل عليكم بالتفصيلات التاريخية، لكن لا بد أن نعرج على بعض الأمور التي نأخذ منها العبرة لواقعنا وحاضرنا. أول ما يتبادر إلى الأذهان هو: كيف استطاعت هذه الجموع الهمجية أن تحتل العالم الإسلامي، وأن تأخذ أطهر وأقدس بقعة بعد الحرمين الشريفين؟! أين كانت الأمة الإسلامية؟! الواقع أن حال الأمة الإسلامية يرثى له، وأن السبب هو كما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. السبب هو: أن هذه الأمة كانت تستحق أن تؤدب بالصليبيين، وأن تردع وتعاقب بأمثال هؤلاء؛ لكي ترجع إلى رب العالمين. كيف كان حالها؟

أولا: العوامل الداخلية في جسم الأمة

أولاً: العوامل الداخلية في جسم الأمة أصبحت دولة السلاجقة ممالك موزعة ممزقة، وأصبح كل أمير يحسد أخاه، والإخوة أبناء السلطان الواحد يتقاتلون على الملك؛ حتى أنه بلغ الحال أن أي مدينة من المدن ولاسيما المدن الكبرى في بلاد الشام أو العراق أصبحت دولة أو سلطنة فـ حلب دولة، ودمشق دولة، والموصل دولة، وطرابلس أو غيرها كانت كل واحد منها عبارة عن دولة أو دويلة وهكذا، كل منطقة أو مدينة أصبحت دولة مع أن بعض السلاطين كانوا أبناء رجل واحد. وكانت العلاقة بين هؤلاء السلاطين تحاسد وتباغض وشحناء، وانغماس في الشهوات والملذات كانت آثارها واضحة عندما قدم الصليبيون. قد تستغربون -أيها الإخوة- إذا قلنا: إن الصليبيين الذين وصلوا منهم فعلاً إلى الشرق الإسلامي وإلى بلاد الشام كانت أعدادهم قليلة كان المقاتلون فقط بضعة ألوف من الفرسان والمشاة، ومع ذلك فعلوا ما فعلوا، معرة النعمان وحدها قتلوا فيها أكثر من مائة ألف من المسلمين، وغيرها من المدن كذلك. وما كان ليحصل هذا إلا في ظل هذا التراخي والتحاسد، كثيرٌ من الحكام أول ما وصل الصليبيون إليهم مدوا أيديهم إليهم للتحالف معهم، وسلموا لهم القلاع والمدن بشرط واحد هو: أن يعترفوا بهم حكاماً على تلك المدن، وبعد أن اعترفوا ببعضهم واشتد ساعد الصليبيين أرادوا أن يحتلوها؛ فرضي أن يدفع لهم الجزية. والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منهم: صاحب حلب رضوان: هذا مشهور بموالاته للصليبيين، وللباطنيين أيضاً؛ حتى أنه كان في آخر أمره يدفع أكثر من عشرين ألف دينار من الذهب كجزية للصليبيين دون أن يتحد أو يتعاون مع أي إمارة من الإمارات الإسلامية، أو مع إخوانه السلاطين الآخرين لجهاد الصليبيين، وقد كانوا قادرين على ذلك. وكذلك معين الدين أنر صاحب دمشق: وهذا رجل غريب جداً، كان يوالي الصليبيين ويحالفهم ويراسلهم بل، ويدلهم على عورات المسلمين، وهكذا أحداث طويلة يكفينا منها هذه الإشارات العابرة عنها.

ثانيا: الفرق الهدامة الرافضة الحشاشون

ثانياً: الفرق الهدامة الرافضة الحشاشون بعد العوامل الذاتية في جسم الأمة المنتسبة إلى السنة نجد هنالك الفرق الخبيثة الهدامة، وهي تمثل في كل زمان ومكان الحربة التي تطعن من الخلف، والعدو اللدود المقيم الذي لا يأتي العدو الخارجي ويمشي إلا على جسر منه، وهم دول الرافضة دول الرفض، ومن ذلك دولة العبيديين الذين يسمون الفاطميين، وقد كانوا يحكمون مصر في تلك المرحلة وأجزاء من بلاد الشام، وكان التشيع يغلب على كثير من العالم الإسلامي في ذلك الوقت. ماذا فعلوا؟ فعلوا ما يليق بـ الرافضة أن تفعله؛ حالفوا الصليبيين، وأمدوهم وراسلوهم، وكانوا عوناً لهم ضد المسلمين؛ حتى أن القدس المدينة المقدسة عند المسلمين كانت بيد السلاجقة السنة، الذين كونوا الإمارات في أنطاكيا وفي غيرها من بلاد الشام؛ وعندما قدمت الحملات الصليبية، جاء جيش العبيديين فاحتل القدس من السلاجقة وأخذها منهم، ولم يستطع أن يدخلها إلا بعد أن دك أسوارها، وحطم قلاعها وما حولها من الحصون، وكان ذلك تهيئة لأخذ الصليبيين لها؛ فعندما جاء الصليبيون لم يجدوا أي مقاومة من قِبل أولئك العبيديين الذين سلموا لهم القدس، وجاء الأهالي يريدون أن يدافعوا عن المدينة وإذا بها لا أسوار لها ولا حصون، وسلمها أولئك لقمة سائغة لهؤلاء المجرمين. كذلك كانت العقيدة الرافضية منتشرة، وكان جزءاً منها تلك الفرقة الخبيثة الباطنية الذين كانوا يسمون بالحشاشين، وكان للحشاشين الباطنيين وجود قوي في وقت قدوم الحملة الصليبية، ثم كان لهم دور خبيث في تعطيل حركة الجهاد ضد الصليبيين، وفي الحروب الصليبية. كان زعيمهم الخبيث المشهور الحسن بن الصباح صاحب قلعة ألمونت في بلاد فارس، ثم بهرامل الاسترباذي، ثم راشد الدين سمنان وغيره، كانوا زعماء كما ذكر المؤرخون وأجمعوا على ذلك، ولم يغتالوا شخصية واحدة من شخصيات الصليبيين ولا أميراً واحداً، وإنما كان غرضهم أن يقتلوا أمراء الجهاد المسلمين، وقد قتلوا من قتلوا، ومن أول من قتلوا وفتكوا به الوزير نظام الملك وزير السلاجقة المشهور. ثم بعد ذلك لما تحركت مشاعر الجهاد عند الأمة الإسلامية، كان من أول من حركها السلطان مودود رحمه الله، كان من أوائل الذين حركوها، وهو يكاد يكون مغموراً -وما أكثر من هو مغمور في تاريخنا من أولئك الرجال- بدأ السلطان مودود ووصل إلى دمشق، وكان أول من بدأ المعارك وحطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأعاد للمسلمين الثقة في النصر، فعندما وصل إلى دمشق اغتاله الباطنيون في رمضان في الجامع الأموي بعد الصلاة. ولهذا قال الصليبيون كلمة أصبحت مثلاً: أمة تقتل عميدها، في شهر عيدها، في بيت معبودها؛ حق على الله أن يبيدها. الصليبيون أنفسهم لم يصدقوا أن هذه الأمة تغتال السلطان مودود في داخل المسجد، في رمضان وهو صائم من أجل أنه أراد أن يجاهد الصليبيين. ثم اغتيلت بعد ذلك شخصيات أخرى، منهم على سبيل المثال: آغ سنقر، وقد كان له أيضاً دور وشأن في الحروب الصليبية، ومنهم: تاج الملك بوري الذي اغتيل (عام 526) عندما قرر وعزم أن يستخلص بانياس ويستردها. حوادث كثيرة نرى فيها أنه في حالة وجود من يجاهد ويريد أن يرفع هذه الأمة إن لم يهزمه الصليبيون فإن أولئك المجرمين يغتالونه ويطعنونه من الخلف. وكان الأذان يعلن في حلب وفي غيرها من مدن الشام ومصر والحجاز، والمغرب وأفريقيا كلها على الطريقة الرافضية، وكانت شعائر هذه الملة الخبيثة ظاهرة، وكان تعاونهم مع اليهود والنصارى ظاهراً، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع كثيرة في منهاج السنة، كما ذكره ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة، وغيرهما حيثما جاءت المناسبة لذكر هذه الأفعال القبيحة. إذاً: عندما نجد واقع الأمة، ودور الرافضة العبيديين، وأيضاً دور الباطنيين وهم جزء من أولئك الروافض وخيانتهم؛ نجد أن الأمة وصلت إلى حالة من التردي لا تكاد تصدق.

العبرة الأولى: المكان الذي يبدأ منه الجهاد

العبرة الأولى: المكان الذي يبدأ منه الجهاد في هذه الظروف هيأ الله سبحانه وتعالى من عنده مَن يرفع لواء الجهاد على الصليبيين، هنا نأخذ عبرة وموقفاً: كيف بدأ الجهاد حقيقة؟ الأمر الأول: يذكر المؤرخون -ولا داعي للإطالة في النقول- أن أول ما ابتدأت الغيرة والحمية الإسلامية من الدعاة والأئمة في المساجد حين خطبوا في المساجد وفي كل مكان ومنها في بغداد؛ حتى إن العامة تظاهروا أمام الخليفة في بغداد، وأصبحوا يضجون ويقولون: لم لا نجاهد ولا نقاتل؟ ولماذا يفتك الصليبيون بإخواننا ويدمرون مدن الإسلام ونحن قاعدون؟ فقامت الدعوة أولاً من المساجد، وكانت دعوة جهادية قام بها العلماء والدعاة والخطباء. الأمر الثاني: أن الدعوة قامت نقية من الولاءات المشبوهة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]. من المستحيل لأي جيش جهادي أن ينتصر وفيه الخونة، أو وهو موال للخونة، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع عندما أثنى على قادة الجهاد العظام؛ نور الدين وصلاح الدين، الذين سنستعرض إن شاء الله هذه الليلة سيرة الأول منهما. ذكر رحمه الله في الجزء الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى كيف أن الله سبحانه وتعالى أذل دولة الرافضة العبيديين في مصر؛ لأن وزراءهم كانوا من اليهود والنصارى من الأرمن وغيرهم؛ ولأنهم والوا الكافرين، فسلط الله تبارك وتعالى عليهم، كما قال الله عز وجل: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144] جعلوا لله عليهم سلطاناً مبيناً بموالاتهم للكافرين؛ فأذلهم الله سبحانه وتعالى. ثم قال رحمه الله وقد ذكر كيف استنجد المصريون بـ نور الدين: (ثم أرسل إليهم القائد المعروف صلاح الدين. قال: وصلاح الدين وأهل بيته ما كانوا يوالون النصارى -يريد أن يبين سبب انتصارهم- ولم يكونوا يستعملون منهم أحداً في شيء من أمور المسلمين أصلاً). لا يمكن؛ لأن من استشارهم فقد خان الأمة؛ ولأن من ولّاهم فقد أعز من أَمَر الله تبارك وتعالى أن يهان ويذل. ولهذا يقول رحمه الله: (ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد). قال في الجزء الرابع صفحة (22): (وكذلك السلطان نور الدين محمود الذي كان في الشام -وهو الذي أرسل صلاح الدين وأسد الدين شيركوه إلى مصر - عز أهل الإسلام والسنة في زمنه، وذل الكفار وأهل البدع ممن كان في الشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم). أول ما بدأت الدعوة وقام الجهاد -كما سنرى- كان على يد عماد الدين زنكي، ثم من بعده ابنه نور الدين محمود المعروف بالشهيد، وهذا الرجل سيرته من أعجب العجب في قمع البدع، وإظهار السنة والعدل؛ ولهذا نصره الله سبحانه وتعالى بعد أن اجتمعت عليه ملوك أوروبا.

العبرة الثانية: نور الدين وصموده أمام الصليب

العبرة الثانية: نور الدين وصموده أمام الصليب الحملة الصليبية الثانية جمعت أكثر من خمسة ملوك من ملوك أوروبا، وهم ملوك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، كما جمعت كثيراً جداً من الأمراء، ومن كبار رجال الدين، حملة عاتية واجهها نور الدين بماذا؟ كم كانت مملكته؟ كانت مملكة نور الدين جزءاً بسيطاً من شمال العراق وبلاد الشام، هذا كل ما كان يملكه نور الدين، ومع ذلك لما أن قام على هذه السيرة والسنة الحميدة نصره الله تبارك وتعالى نصراً مؤزراً؛ فما مات رحمه الله إلا وقد صار يملك كل بلاد الشام ومصر والحجاز وجزيرة العرب، وما بقي إلا الإمارات الصليبية، وأهمها إمارة القدس التي قدر الله أن يكون فتحها على يد قائده صلاح الدين؛ ولهذا يجب أن نقف عند سيرة هذا الرجل؛ لأنا عندما نتحدث عن نور الدين فنحن نتحدث عن الأمة مجتمعة، إذ كيف تحول من أمير لمقاطعة إلى أن يصبح سلطاناً كبيراً يهزم أوروبا كلها، لا بد من أخذ العبر من حياته ومن سيرته.

ترجمة نور الدين بقلم الإمام الذهبي

ترجمة نور الدين بقلم الإمام الذهبي اخترت لكم ما كتبه الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام الثقة الثبت رحمه الله تعالى، لنستعرض بعض ما ذكره من حياة هذا الإمام القائد رحمه الله تعالى، يقول: (كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد -ونِعم الرايتان- قلَّ أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق ثم تملكها، وبقي بها عشرين سنة، وافتتح أولاً حصوناً كثيرة -وذكر حصوناً كثيرة جداً- وأظهر السنة بـ حلب وقمع الرافضة. فهو الذي ألغى الأذان على طريقة الرافضة في حلب وما جاورها، ولهذا أراد الباطنيون أن يغتالوا بعض قواده، واغتيل بالفعل بعض من كانوا موالين له من الأمراء). من أعظم أعماله: أسس العلم على العقيدة الصحيحة والعلم الصحيح، فأنشئت دور العلم، ويذكر المؤرخون أنه لما قدمت الحملة الصليبية الأولى كان عدد المدارس في بلاد الشام مدرسة واحدة فقط، وهي التي تسمى دار الحديث أو ما أشبهها، وهي عبارة عن كليات علمية أو مراكز علمية متكاملة، مثل المعاهد أو الكليات المتخصصة، وعند قدوم الحملة الصليبية في أيام صلاح الدين كان عددها أكثر من تسعين مدرسة. إذاً: الأمة نهضت نهضة علمية ودعوية؛ ولهذا من حقها أن تنتصر بإذن الله سبحانه وتعالى، أنشأ نور الدين المارستان -المستشفى- ودار الحديث، والمدارس والمساجد، ومن العجب في حياته أنه كان يتعرض للشهادة، ويسأل الله سبحانه وتعالى دائماً أن يرزقه الشهادة، مع أنه لم يمت في معركة، كما سنرى إن شاء الله. يقول كاتب سره أنه كان يسمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير. يقول الذهبي رحمه الله: (جهز جيشاً لجباً مع نائبه أسد الدين شيركوه؛ فافتتح مصر، وقهر دولتها الرافضية، وهربت منه الفرنج، وأباد العبيديين واستأصلهم، والحمد لله). قال سبط ابن الجوزي رحمه الله: (جاهد -أي: نور الدين - وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينة وحصناً)، أي: أكثر من خمسين مدينة وحصناً انتزعها نور الدين في وقت يعتبر وجيزاً. يقول ابن الأثير: (طالعت السير فلم أقرأ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً منه للعدل).

عجائب من أخبار نور الدين

عجائب من أخبار نور الدين ذكروا أمثلة عجيبة من عدل هذا الرجل قال: (كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة) أي: أنه جاهد وأخذ سهمه من الغنيمة من جملة المسلمين أخذه وأخذ ينميه فكان أحد مصادر دخله، وهو يملك هذه البلاد. وكان له مصدر آخر عجيب للدخل، يقول سبط ابن الجوزي: (كان له عجائز -كان هناك عجائز يتعامل معهن- وكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر -هذا السلطان نور الدين الذي يحارب ملوك أوروبا جميعاً- فيعطيها العجائز فيبعنها سراً ويفطر على ثمنها؛ لأنه كان كثير الصيام نافلة، فيفطر من القوت الحلال الذي تبيعه له العجائز؛ حتى لا يأخذ من بيت المال أي شيء، ومثل هذا جدير أن ينصره الله سبحانه وتعالى). ومن عجائب أخباره: أن زوجته طلبت منه مالاً وألحت عليه، فتذكر أن من جملة سهمه من الغنيمة ثلاثة دكاكين له في حلب؛ فأعطاها إياها فقالت: لا تكفي ثلاثة دكاكين. زوجة السلطان الذي يحكم ما يعادل الآن ست أو ثمان دول، قال: ليس لي إلا هذا، وأنا خازنٌ للمسلمين، لا أملك أي شيء. قال: وكان يتهجد كثيراً، لم يترك في بلاده على سعتها مكساً.

من تواضع نور الدين

من تواضع نور الدين ومن تواضعه رحمه الله أن أحد القواد أو المقربين إليه قال له في إحدى المعارك: بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف! فقال: ومن أنا حتى يقال لي هذا؟ حفظ الله البلاد قبلي لا إله إلا هو! يقول: من أنا حتى إذا مت ضاع المسلمون؛ قد حفظ الله البلاد قبلي وبعدي. انظروا إلى كيفية معرفة عظمة الله سبحانه وتعالى، وهيبة الله وجلاله. ولهذا نجد شيئاً عجيباً عندما نستعرض شيئاً من موقفه من هذه القضية. قضية التواضع، أعجب المسلمون إعجاباً شديداً بـ نور الدين محمود، وأخذوا يضجون في الدعاء له لما نصره الله، ولما أبطل المكوس والضرائب والعشور التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولما رأوا عدله وجهاده وتمسكه بالسنة كانوا يلهجون له بالدعاء في رمضان وغيره. قال: وكانوا إذا دعوا له يطيلون في الدعاء، فيمدحونه بما ليس فيه؛ فغضب، وقال: إن خطباء المساجد يبالغون في الدعاء لي؛ فجمع المقربين له وقال لهم: لا بد أن تعدلوا هذا، فكتبوا له صيغة، وكلما وضعوا صيغة يخففها؛ حتى اتفقوا على صيغة واحدة فقط يدعى له بها في المساجد وهي: (اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود بن زنكي بن آغ سنقر ناصر أمير المؤمنين)؛ لأنه يدافع نيابة عن الخليفة. فقط لا يزاد في الدعاء على هذه الصيغة، ولا داعي للمديح والاستطراد فيما لا خير فيه. ولما قيل له في ذلك وعوتب قال: مقصودي ألا يكذب على المنبر، فأنا بخلاف كل ما يقال، أفرح بما لا أعمل. يقول: لا أحب أن أحمد بما لم أفعل؛ لأن من قلة العقل أن يقولوا: فتح وجاهد وفعل، وأنا ما فعلت، يقول: تكفي هذه الصيغة. اكتب بها نسخاً حتى نصيرها إلى جميع البلاد. ثم قال: ثم يبدءون بالدعاء: اللهم أره الحق حقاً، اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفقه يقول: دع الناس يدعون فقط من جنس هذا الدعاء، أما المدح والثناء فأنا لا أريده، ومن قلة العقل أن أدعهم يثنون علي بما ليس فيّ أو بما يغرني ويفتنني. ولهذا يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: (كان ديناً تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق). لا ينفق عنده سوق الشعراء الذين كانوا يمدحون من قبله ومن عاصره من الملوك والسلاطين، فيحشو فم الشاعر باللآلئ والتي يبلغ ثمن اللؤلؤة الواحدة عشرة آلاف دينار. لا سوق لهم كما كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. ولهذا قال فيه أسامة بن منقذ: سلطاننا زاهدٌ والناس قد زهدوا له فكل على الخيرات منكمش أيامه مثل شهر الصوم طاهرة من المعاصي وفيها الجوع والعطش يقول: نحن الشعراء نعتبر أيام الخليفة نور الدين مثل أيام رمضان، طاهرة من المعاصي، لكن فيها الجوع والعطش، الشعراء لا يجدون سوقاً، سواء قالوا القصائد أو لم يقولوا؛ فالأموال تذهب للجهاد. وهنا نقف وقفة: أسامة بن منقذ هذا كان فيه نوع من الموالاة للصليبيين، وكان يحب الدنيا؛ حتى إنه ذهب مع معين الدين أنر الذي كان في دمشق موالٍ للنصارى، وكان سفيراً بينه وبين الصليبيين، وكثير من الشعراء والكتاب في كل زمان ومكان يبيعون دينهم، ويخونون أمتهم مقابل شيء من المال أو الشهرة، نسأل الله العفو والعافية. هناك موضوع يتعلق بالرياضة نؤخره قليلاً؛ لأنكم قد تستغربون أن السلطان نور الدين محمود كان له اهتمام بالرياضة، فنؤجل هذا الموضوع؛ حتى نتعرض لمسألة العدل الذي اشتهر به هذه السلطان.

تحكيم نور الدين لشرع الله

تحكيم نور الدين لشرع الله كان نور الدين عند ملوك الترك، وتربى على أيديهم، والذي رباه مودود رحمه الله الذي قتل في المسجد، ثم كان ابنه نور الدين، فهم تربوا على نفس التربية، وكان عند ملوك الترك شيء يسمى الياسق، وهو عبارة عن قوانين وضعية، وأكثرها قوانين عسكرية، وهي تطبق على الرعية دون الرجوع إلى الشرع وإلى القضاة، عرف اتخذ وأصبح شرعاً. وفي أيام التتار ظهر ذلك وطغى، حتى أن شيخ الإسلام رحمه الله أفتى بوجوب قتال التتار؛ لأنهم لا يتحاكمون إلى دين الله وإنما يتحاكمون إلى الياسق. يقول المؤرخون: انتشر الفساد، وقطع الطريق؛ فجاء قواد الجيش وقالوا لـ نور الدين: لابد أن تطبق الياسق أو تأخذهم بنوع من السياسة -كما تسمى أحياناً- فقد كثر الدعار وأصحاب الفساد، ولا يجيء من هذا شيء -أي: لا يزول هذا- إلا بالقتل والصلب، ثم قالوا لرجل يسمى الشيخ عمر الزاهد وكان من العباد، وكان يحبه -وهذه من المظاهر العجيبة في سيرة نور الدين أنه كان يحب العلماء والزهاد والعباد جداً- اكتب لـ نور الدين في ذلك؟ فكتب الشيخ عمر قائلاً: إن الدعار والمفسدين وقطاع الطريق قد كثروا، ومثل هؤلاء لا يجيئوا إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يشهد له. أحياناً العلماء قد ينافقون أصحاب السلطة، لكن السلطان العادل لا يقبل هذا النفاق. العالم كتب إلى السلطان يقول: إذا إنسان أُخذ ماله في البر، وذهبنا به إلى المحكمة فإن القاضي يريد شهوداً، ومن أين له شهود على ما يقول؟ فتضيع الحقوق، فلا بد أن يؤخذ الناس بالظنة وبالتهمة، ويطبق عليهم قانون الياسق، فلما قرأ نور الدين الكتاب قلبه، وكتب على ظهره: إن الله تعالى خلق الخلق، وهو أعلم بما يصلحهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها, ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها، فما لنا حاجة إلى زيادة على ما شرعه الله تعالى. فلما وصل الكتاب إليه في الموصل جمع الشيخ عمر أهل الموصل فقرأ الكتاب عليهم، وقال لهم: انظروا في كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد. انظروا كيف أن الزاهد يكتب له يأمره بغير الحق، والملك يكتب فيذكر العالم بضرورة اتباع الحق. وكان نور الدين يقرب الفقهاء والقضاة والعلماء، وأخباره بذلك مشهورة، ولم يكن لأهل اللهو واللعب واللغط في مجلسه أي مكان، وكان كلما دعي أو طلب إلى قضية يتمثل قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]. ومرة حصلت له واقعة، وجاء رجل وشكاه إلى القاضي؛ فأمر القاضي أن يعامله كما يعامل أحاد الناس، وذهب إلى القاضي متمثلاً بهذه الآيات، وجلس حتى أصدر القاضي حكمه، وحكم له، فقال: أما وقد ظهر أن الحق لي، وقد حكمت وفق الشرع، فأنا قد وهبته لذلك الخصم. سيرة عجيبة!

نور الدين وموقفه من المكوس والعشور

نور الدين وموقفه من المكوس والعشور تكاثر الصليبيون وتكاثرت الأمم الغربية من كل مكان تمول هذا العدوان على العالم الإسلامي، وكان نور الدين محمود يعيش في قلة -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله- من العدد والمال. ماذا يصنع نور الدين؟ يحتاج إلى المال، والجهاد لا بد له من المال، ووجد أن من قبله كانوا يأخذون الضرائب المكوس العشور من الرعية المسلمين، ويجمعونها ليجاهدوا بها الصليبيين، والمعارك تكون خاسرة ولا يوجد نصر، وأحياناً نصر وأحياناً هزيمة، فما رضيت سيرته المتأسية بالخلفاء الراشدين هذا الأمر. وكان يرى أنه لابد من إبطال هذه المكوس والضرائب، فأمر بإبطالها جميعاً، وكتب إلى جميع البلاد والقرى والأمصار أنه قد ألغاها إلغاءً أبدياً، وأنه يطلب من كل الخطباء في دولته من فوق منابر الجمعة أن يطلبوا من المسلمين جميعاً أن يسامحوه على ما أخذ منهم فيما مضى، وأن يستغفروا الله تعالى له من ذلك. وكان يقوم الليل ويبكي كلما تذكر ذلك، ويقول: اللهم ارحم العشار المكاس. ويبكي ويقنت؛ لأنه كان يأخذ العشور والمكوس من المسلمين، ولما أمر بذلك قال له قادة جيشه وأركان حربه: إن فعلت ذلك لم يبق لنا شيء نجاهد به الصليبيين. فقال لهم: إن كان الجهاد لا يأتي إلا من هذا المال الحرام فلا نريد الجهاد. قالوا: إنك إن لم ترد الجهاد أنت جاهدك أعداؤك. قال: لا نجاهدهم إلا بالحلال، والله تعالى هو المستعان. فألغى ذلك كله، فكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى نصره، وبارك له في القليل الذي أعطاه. يقول الإمام الذهبي رحمه الله: (أسقط المكوس في بلاده، وقد ذكرته في تاريخنا الكبير مفصلاً، ومبلغه في العام: خمسمائة ألف دينار وستة وثمانون ألف دينار وأربعة وسبعون ديناراً من نقد الشام)، انظروا إلى هذه المبالغ الباهظة التي أسقطها لما علم أنها حرام، ولم يستعن بها في الجهاد، ليس لم يستعن بها على شهواته أو ملذاته؛ بل حتى في الجهاد يقول: لا نصرف في الجهاد إلا ما كان حلالاً. ويذكر صاحب البرق الشامي أنه كتب أكثر من ألف منشور إلى الرعية من أجل هذه المسألة.

تأسي نور الدين بالنبي صلى الله عليه وسلم

تأسي نور الدين بالنبي صلى الله عليه وسلم كان نور الدين رحمه الله يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة، يقول المؤرخون: كانت تُقرأ عنده السيرة والعلم، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج للحرب متقلداً السيف، أو معلقاً إياه في حمائل تدور حول الرقبة كأنها القلادة. قال: سبحان الله! ولماذا نحن نحزم السيوف في حزام ونجعلها في الوسط؟ فأمر أفراد جيشه أن يغيروا الأحزمة، وأن يلبسوا السيوف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبسونها؛ لعل الله ينصرنهم، كان يريد أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذه الأمور، وذلك بغية أن ينصره الله سبحانه وتعالى، وقد نصره الله سبحانه وتعالى، وجدير بمثله أن ينصر؛ لأنه على هذه الحالة. يقول المؤرخون: كان قد أقبل يعد للجهاد آلته مما آتاه الله، ونشط في البناء والتعمير؛ حتى أنفق فيهما مئات الألوف، وقد أعانه على ذلك أنه لم تكن له نفقات قصور ولا خدم ولا حشم ولا جوارٍ، ولا مجالس أنس تملأ أفواه الندامى فيها بالدر والدنانير جوائز على أبيات من شعر الملق السخيف، وإنما كان يبني المدارس والمساجد والمستشفيات، ويقيم أسوار المدائن وقلاعها إلى آخر ما ذكروه.

رياضة نور الدين

رياضة نور الدين هذا الرجل العجيب كان لديه رياضة، ولكن ما نوع الرياضة التي كانت عند نور الدين؟ رياضة للتخدير، أو لتفريق الأمة وتمزيقها، والتشتيت حتى بين الزوجين؟ لا. إنها رياضة من نوع خاص، ومع ذلك انتقد فيها وأجاب عنها رحمه الله، يقول عنه سبط ابن الجوزي: (لم يلبس نور الدين حريراً ولا ذهباً، ومنع بيع الخمر في بلاده، وكان كثير الصوم، وله أورادٌ في الليل والنهار، ويكثر اللعب بالكرة). كيف يجتمع هذا الوصف؟! لم يلبس الذهب ولا الحرير، ومنع الخمر بل ومن العجائب أن ابن نور الدين رحمه الله توفي وعمره أقل من عشرين سنة بسبب مرض أصابه يسمى (القولنج)، فأصر عليه الأطباء أن يشرب الخمر، وقالوا: لا علاج لك إلا أن تشرب الخمر، فقال: والله لا أشربها، وأبى أن يشربها ويعصي الله. فجاءوا له بفقيهين أحدهما شافعي والآخر مالكي، وقالا له: لا بأس أن تشربها -ضرورة- فأقسم أنه لا يعصي الله سبحانه وتعالى، ولا يموت وفي جوفه شيءٌ مما حرم الله، وتوفي رحمه الله. هذا ابن نور الدين، فكذلك كان أبوه، نقول: مع هذه السيرة كان يكثر اللعب بالكرة، كيف يلعب بالكرة؟ وما نوع هذه الكرة؟ كانت نوعاً من أنواع الرياضة تشبه (الجولف)، عبارة عن كرة ترمى ويستقبلها الناس بصولجان وما أشبه ذلك، كانوا يستخدمون فيها الخيول ويلعبون بها، وكان نور الدين محمود رحمه الله يركب الفرس هو وجيشه ويلعبون هذه الكرة، فلما أنكر عليه وقيل له: كيف تفعل ذلك؟ قال: والله ما أقصد اللعب، وإنما نحن في ثغر، فربما وقع الصوت -ربما نادى المنادي للجهاد- فتكون الخيل قد أدمنت الانعطاف والكر والفر، أي: نكون مستعدين للجهاد، هذا هو اللهو وهذا هو الحق كما ذكر صلى الله عليه وسلم: أن كل لهو يلهو به المسلم باطل إلا ثلاثة ومنها: أن يكون الإنسان ملاعباً فرسه ليجاهد في سبيل الله عز وجل. حتى إن ابن كثير رحمه الله يثني على قوته، يقول نقلاً عن ابن واصل: (كان من أقوى الناس قلباً وبدناً، لم ير على ظهر فرسٍ أحدٌ أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك، وكان من أحسن الناس لعباً بالكرة، يجري الفرس ويخطفها من الهواء ويرميها بيده إلى آخر الميدان، ويمسك الجوكان بكمه تهاوناً بأمره، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها). يتأسف! قال الذهبي رحمه الله: (قلت: قد أدركها على فراشه، وعلى ألسنة الناس نور الدين الشهيد)، سبحان الله! اسمه نور الدين الشهيد في التاريخ، مع أنه مات على فراشه، فيقول الذهبي رحمه الله تعالى: (فلعل هذا إن شاء الله فألٌ حسن له)، وقد أدركها على فراشه بماذا؟ بتمنيها وبالسعي إليها؛ لأن (من تمنى الشهادة وهو صادق أعطيها وإن مات على فراشه) كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فتمنى الشهادة في سبيل الله فأعطيها.

العبرة من حياة نور الدين

العبرة من حياة نور الدين لا أحب أن أطيل عليكم في سيرة هذا الرجل، فهي سيرة عجيبة، وجدير بنا أن نقرأها ونتأملها، وما ذكرت منها إلا موجزاً، وإنما نريد أن نصل إلى العبرة النهائية، أن هذا الرجل الذي افتتح إمارات الصليبيين، ثم رزقه الله سبحانه وتعالى بقائده صلاح الدين، فأكمل فتحها بعد حطين، وقضى على أوروبا التي اجتمعت عليه، هذه كانت صفت، وهذه كانت صفت الأمة التي كان فيها. وهكذا جمع الله تبارك وتعالى بمثل هذا الرجل الأمة بعد الفرقة والشحناء، جمعها على السنة بعد البدعة، فقمع دولة الرافضة وقهرها كما رأيتم من كلام العلماء رحمهم الله، وأزال البدعة من الأذان ومن غيره، وأعاد تدريس الحديث والسنة في المساجد، وقرب العلماء والفقهاء، ومكن للشرع والقضاة، وقطع دابر الدعارة والفساد، ومنع بيع الخمور والزنا وكل ما يتعلق بهما، وكان شديداً في الإنكار على أهلها قوياً عليهم، فلما كان كذلك، طهر البلاد من الفساد ومن أكل الحرام، ومن المكوس والربا، وأمرها عظيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم في المرأة التي زنت ورجمها الصحابة الكرام قال: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه أو لغفر له). دليل على أن المكس أعظم من الزنا، والربا كذلك، كما روى الإمام أحمد رحمه الله في الحديث الصحيح: (درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية) والعياذ بالله، فالربا والمكوس والضرائب وأكل الحرام عموماً سواء للأمم أو للأفراد يباعد النصر، ويدمر الأمة، ويحول بينها وبين وعد الله تبارك وتعالى لها بأن تغلب أعداءها، وأن تهزمهم. وقد قضى على ذلك كله، فنصره الله سبحانه وتعالى نصراً مؤزراً، وأبقى ذكره، وإن كنا نحن المسلمون -مع الأسف- في غفلة عن ذكره، لكن أبقى الله تبارك وتعالى ذكره عند المطلعين، وهو عند الغربيين أذكر وأشهر. والمؤرخون الصليبيون كانوا يعجبون من سيرته؛ حتى إن أحد ملوك الصليبيين قال: ما غلبنا من ملوك المسلمين إلا نور الدين، وما غلبنا بكثرة جيوشه، ولكنه كان يعبد الله ويقوم في الليل يدعو علينا. نعم هذا هو. يدعو الله، ويجاهد في سبيل الله، ويطهر البلاد من الفساد، ويجمع الأمة على الحق، وعلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولم يكن وحده بل كان معه العلماء الذين كانوا ينصحونه، والقضاة الذين أجلسوه وحاكموه مع الرجل كما يحاكم أي إنسان، وكان معه القواد أيضاً الذين كانوا يضحون ويجاهدون كما جاهد، ومنهم: صلاح الدين رحمه الله، فهو ليس رجلاً وحده، وإنما هي -كما قلت- أمة متجسدة في سيرة هذا الرجل، فهزم الله تبارك وتعالى الصليبيين في الحملة الأولى. ولا نستطيع أن نستعرض سيرة صلاح الدين ولعل الله سبحانه وتعالى أن يتيحها في موعد آخر إن شاء الله، ولكن نقول: حسبنا بهذا الذي بدأ هذه البداية، وأن الله تبارك وتعالى قد هزم الغرب مجتمعين، فأظهر دينه، وهزم الأحزاب وحده سبحانه وتعالى على يد هذا الرجل. فالعبرة قائمة، وتاريخه موجود، وجدير بنا أن ندرسه بعناية، لا كما هو موجود في مناهجنا، نور الدين ولد عام كذا، وتوفي عام كذا، وفتح الرها، وحارب الصليبيين، ووصل إلى دمشق، هذه السيرة، أي واحد يمكن أن يسردها، لا. لا بد أن نعرف لماذا انتصر؟ لماذا قرابة قرن من الزمان والمسلمون في ذل وانحطاط، ولماذا انتصر هذا الرجل؟ وكيف كانت الأمة علمياً ودعوياً وجهادياً، وقبل ذلك كيف كانت عقائدياً، لما تحولت من البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الشهوات والملذات والجواري والترف والقصور والحشم إلى الجهاد، أكثر حياة صلاح الدين ونور الدين كانت في الخيام، كانوا يجاهدون في سبيل الله عز وجل، لما فعلوا ذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى، وإن وعد الله سبحانه وتعالى لا يتخلف {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122]. فكل من استحق نصر الله، وهيأ نفسه له؛ فإن الله تعالى ينصره، بل ويمده بجند من عنده، نسأل الله تبارك وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه راية الجهاد في سبيل الله.

الأسئلة

الأسئلة .

السبب في اختلاف الحملة الصليبية الحالية عما سبقها

السبب في اختلاف الحملة الصليبية الحالية عما سبقها Q نشهد في العصر الحاضر هجمة صليبية علينا ولكنها مختلفة جداً عن الحملات الأولى، فما السبب في ذلك؟ A نعم. هذا صحيح فإن المعركة تغيرت، وسبب تغير المعركة التي نخوضها الآن المتغيرة في الشكل هو الحروب الصليبية الأولى، في الحقيقة نستطيع أن نقول: إنها ثلاث حملات للصليبيين على بلادنا، بل إن أطول معركة في تاريخ الإنسانية هي معركة المسلمين مع النصارى؛ لأنها تمتد منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجهاده للروم هو وقواده من الصحابة إلى قيام الساعة. الحملة الأولى التي كانت كما ذكرنا، فصدها نور الدين وصلاح الدين، الحملة الثانية التي يسمونها الاستعمار وقد أعادت ذكريات الحملة الأولى، دخل قائد الجيش الفرنسي الجنرال قورو إلى دمشق، فقال: دلوني على قبر صلاح الدين، لماذا؟ قال: نريده. فلما ذهب إلى قبر صلاح الدين أخذ يركله بقدمه، ويقول: ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين! بعد حوالي ألف سنة يجددون ذكرى الحروب الصليبية. الجنرال اللمبي قائد الجيش الإنجليزي الذي دخل القدس ومعه العرب الذين ألبهم، والذين كانوا من أتباع العميل لورانس وأصحابه، دخلوا مع اللمبي القدس واحتلها، ووقف على جبل الزيتون وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، أعاد ما كان قبل ألف سنة أيضاً، كانت هذه النزعة موجودة لديهم بوضوح. أما الحملة الصليبية الثالثة وهي أخطر الحملات، فهي التي سيشهدها العالم الإسلامي عما قريب؛ لأن النوع فيها مختلف تماماً، وهي تأخذ العبرة من الحملتين. أما من الحملة الأولى؛ فلأن لويس التاسع الذي أسر في المنصورة في مصر متأخر عن أيام صلاح الدين رحمه الله كتب وصية للأوروبيين الصليبيين النصارى، وقال: إننا لن ننتصر على المسلمين ما داموا متمسكين بدينهم، وإن أقوى عامل في نصرهم هو دينهم. فقال: يجب علينا أن نبعدهم عن دينهم، وأن نستعين بالفرق المنشقة، وبنصارى الشرق، المهم ركز على وصية مهمة وهي: إبعاد المسلمين عن دينهم، ومضى على هذه الوصية ثمانمائة سنة تقريباً، وإذا بالمستعمرين -كما يسمون- يعيدونها. الحرب الصليبية الثالثة القادمة سوف تكون أعتا، وسوف تكون غزواً فكرياً؛ لأنها عن طريق التسلط الثقافي والفكري تريد أن تمسخ هذه الأمة، والحقيقة أن الحرب الصليبية القادمة لن تكون معركة غالب ومغلوب كما كانت الحروب القديمة، وإنما هي معركة وجود أو عدم؛ لأنها ستكون مسخاً كلياً للأمة، شهوات وإباحية، وتفتيت للعقيدة بالمذاهب، وبلبلة بالإلحاد والفساد نتيجة التسلط الاقتصادي والفكري عن طريق البث المباشر والأقمار الصناعية، والتلفزة والتقنية الحديثة، وغسيل المخ الذي سوف يمارس بشكل كبير على الأمة، وليس على أفراد منها.

حرب صليبية قادمة

حرب صليبية قادمة Q نرى -أثابكم الله- أن العالم الإسلامي كان في حالة من النوم والغفلة؛ حتى قامت الحروب الصليبية في القرن السادس الهجري، وبعد هذه الحرب نهض المسلمون واهتموا بالعلم والجهاد فنصرهم الله، فهل ترى أن العالم الإسلامي الآن في انتظار حرب عالمية صليبية تعيد إليه عقله؟ A نعم. الحرب قادمة ولاشك فيها، بعدما يقارب عشرين شهراً فقط أو قريب من ذلك، تكون أوروبا دولة واحدة، وتبدأ الحملة التي لم يسبق لها مثيل، وإن كانت في أساليب وأشكال مختلفة، وستعيد إن شاء الله للمسلمين رشدهم وصوابهم بإذن الله، وما علينا إلا أن نكون من السباقين إلى هذا الجهاد الكبير الذي سوف ينصر الله تعالى فيه دينه، ولا ريب في ذلك، لكن المعركة قد تطول، وقد يلاقي المسلمون من واقعهم السيئ المرير أضعاف ما يلاقونه من الأعداء الخارجيين، مثلما لاقى وعانى مودود الذي قتل وهو صائم في رمضان؛ لأنه جاء يجاهد الصليبيين؛ حتى عرضوا عليه أن يفطر، فقال: والله لا أفطر حتى مات وهو صائم. فعانى وعانى من بعده عماد الدين والد نور الدين، أتدرون كيف قتل؟ ما قتله الصليبيون، ولكن أوغروا عليه بعض حرسه وقتلوه، وهكذا نور الدين قيل: إنه قد سم، فالمعاناة من واقع الأمة المرير ستكون أشد، لكن إذا صح هذا الواقع على عقيدة مستقيمة، ودعوة قويمة، واجتماع كلمة المسلمين عليها بإذن الله؛ فإن النصر حق ولا بد، بإذن الله تعالى. والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم.

معنى المكوس

معنى المكوس Q ما معنى كلمة المكوس التي ذكرتها في المحاضرة؟ A المكوس: هي الضرائب أو أشبه ما تكون بالجمارك، وكما ورد في الحديث: (إنما المكوس على اليهود والنصارى) أو (إنما العشور على اليهود والنصارى) وإن كان في سنده مقال، لكن تطبيق واقع الصحابة رضي الله عنهم والخلفاء الراشدين حق ثابت في ذلك. كان عمر رضي الله عنه يسمح ويأذن لأهل الذمة أن يأتوا إلى بلاد المسلمين ويؤخذ عليهم العشور حتى يبيعوا ما عندهم من بضائع، فيستفيد المسلمون منهم بيع البضائع ويأخذون منهم العشور مقابل ما يأخذون هم أيضاً على تجار المسلمين. أما المسلم لا يحل أن يُأخذ منه عشرٌ ولا مكس ولا ضريبة، وإنما جعل الله تبارك وتعالى الزكاة وفيها الكفاية، وجعل الغنائم والفيء، ومصادر بيت المال المعروفة فيها الكفاية لإصلاح حال المسلمين بإذن الله، ولهذا أبطلها نور الدين رحمه الله.

مطالبة باشتمال المقررات الدراسية على السير الصحيحة

مطالبة باشتمال المقررات الدراسية على السير الصحيحة Q أنتم -كما أعرف- أحد المسئولين عن تطوير مناهج التعليم في المرحلة الثانوية والمتوسطة، لماذا لا تُضمن هذه السير الصحيحة والدروس المستفادة من الحروب الصليبية وغيرها وتدرَّس للطلاب؟ A أنا لست من المسئولين عن التطوير، أنا كنت عضواً في لجنة التأليف، وشاركنا في بعض المقررات، ولا يخفى عليكم -ليس سراً- أن مادة الفِرق نشرت وقررت ودرست وبعد أن اكتمل الكتاب ألغي المقرر، وبقي مقرر التوحيد الآخر هذا في الثانوية، أما المتوسطة فليس لنا فيها دخل، وهذه المناهج مناهج تاريخ أكثر من كونها مناهج عقيدة وهذا لا يمنع. أقول: يجب علينا وعليكم أن نكتب إلى لجنة التطوير التربوي بوزارة المعارف بإدارة التطوير التربوي ونحثها على أن يكون التاريخ كذلك، والحقيقة والحق يقال أن المنهج الموجود الآن أفضل بكثير جداً مما كان في الثانويات أيامنا، وأيام بعض الإخوان الذين كانوا قريباً من دفعاتنا، فنحن كنا نقرأ تاريخ أوروبا، حيث كان المقرر تاريخ أوروبا حتى في المعاهد العلمية، أشغلونا بتاريخ أوروبا، فكان التاريخ موجزاً سهلاً في صف أول ثانوي وبعد ذلك تاريخ أوروبا وباسمرت وحرب السبعين والإنجليز، وسيطرة شركة الهند الشرقية كلام فارغ ليس لنا فيه أي دخل. الحمد لله الآن أفضل، ونسأل الله أن يتحسن.

حكم محبة وتقليد النصارى

حكم محبة وتقليد النصارى Q قلت: إن أسرة صلاح الدين كانت تكره النصارى كما قال ابن تيمية رحمه الله، وفي زماننا هناك من يحب النصارى ويقلدهم في كل شيء، ويعجب بهم أشد الإعجاب، فهل حبهم وولاؤهم من نواقض الإيمان؟ A لا يجتمع في قلب مسلمٍ محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم مع محبة أعداء الله النصارى، الذين يسبون الله تبارك وتعالى كل حين بما لم يسبه به أحدٌ من العالمين وهي قولهم: إن لله ولداً (يسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك) كما في الحديث، يسبون الله كل حين حيث يقولون: إن لله ولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، هؤلاء من يحبهم؟ الذين يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بنبي، إنما هو عبقري ومصلح سياسي، وداعية من دعاة القومية العربية إلخ، هؤلاء لا يواليهم مسلم، ولا يحبهم مؤمن، ولا يقلدهم من يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) فهذا الحديث له مدلولان لنا وعلينا، فالأول: تشبهوا بالصحابة والصالحين والمتقين المجاهدين تكونوا منهم وعلى طريقتهم إن شاء الله، والثاني: إن تتشبهوا باليهود والنصارى وأعداء الله المجرمين تكونوا منهم عياذاً بالله.

اضطهاد روسيا للدول الإسلامية

اضطهاد روسيا للدول الإسلامية Q دولة روسيا في هذه الأيام تشهد تفككاً في بعض دويلاتها، هل هذا الأمر إشارة إلى نصر الله، أم أن هذا الأمر مدروس ومدبر له؟ A هذا الأمر له أسباب بلا شك، ولا نريد أن نطيل فيه؛ لأن الوقت ليس مناسباً، لكن يهمنا أن نقول: انظروا لتعرفوا خطر الحملة الصليبية القادمة، تأملوا كيف تعامل الكرملن وغورباتشوف مع لتوانيا وكيف يتعامل مع الجمهوريات الإسلامية؟! فهناك يتعامل بالديمقراطية والانفتاح عن طريق البرلمان والحل السلمي، وأما في المناطق الإسلامية فالدبابات تدك المدن دكاً؛ لأنها حاولت أو أرادت أن تطالب بشيءٍ من الاستقلال، ومعنى ذلك أن الحرب الصليبية لن ترحم المسلمين، بل لهم حساب آخر ومعيار آخر. أما أنه تقويض لهذه الإمبراطورية العاتية فنعم، ونرجو أن يكون هذا بداية سقوطها إن شاء الله، لكن هم على أية حال مهما اختلفوا فهم متعاونون علينا، متفقون على حربنا، لا شك في ذلك.

حرب إعلامية والأطراف التي تديرها تستفيد منها

حرب إعلامية والأطراف التي تديرها تستفيد منها Q ما يدور الآن عبر وسائل الإعلام من تصريحات وردود بين دولة العراق وإسرائيل وأوروبا إشارة إلى بدء رفع راية الحروب الصليبية؟ A قد تكون تمثيليات مثل تمثيليات العبور، ولا نعني بالتمثيليات أن الجند يقومون بهذه التمثيليات، فالجنود أكثرهم لا يدرون، لكن ما يدور وراء الكواليس لا يُكشف إلا فيما بعد، فعلى كل حال هذه الحرب الإعلامية تستفيد منها الأطراف التي تديرها جميعاً، والفائدة منها حاصلة وواقعة، لكن هل سيترتب عليها عمل؟ الله أعلم.

حكم القتال تحت رآية عمية

حكم القتال تحت رآية عمية Q هل تتوقع مواجهةً بين دعاة القومية العربية والصهيونية العالمية، وما هو دور الشباب المسلم الواعي في مثل هذه الحروب، وما هو دورهم في المواجهة التي سوف يتأثر بها كل فرد سواءً كان مسلماً أو غير مسلم، وإلى أي جنب ينحاز هؤلاء الشباب المسلمون، وما هو صنيعهم؟ A لا يجوز أن نقاتل إلا تحت رايةٍ إسلامية (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ومن قاتل تحت رايةٍ عَمية فمات فميتته ميتة جاهلية) أي راية عمية لا يجوز القتال تحتها، راية القومية، راية تحرير الأرض، راية الوطنية، راية الدولة العلمانية، العلمانية كفر، فراية الدولة العلمانية معناها أن الإنسان يقاتل تحت راية الكفر وينصر الكفر والعياذ بالله، وهذا لا يجوز أبداً. وأنا لا أتوقع على المدى القريب أن يشتبك اليهود وهؤلاء القوميون في معارك، لا أتوقع ذلك، بل الحاصل الآن هو أنه قد تواطأ الشرق والغرب والدول كلها تقريباً على أنه لا حرب ولا عدوان على دولة إسرائيل، وإذا أردتم فخذوا هذا المثال: ذكرنا أن الباطنيين لم يغتالوا زعيماً صليبياً واحداً، وإنما اغتالوا أمراء المسلمين، وأرادوا اغتيال صلاح الدين أكثر من مرة. وأيضاً الآن الباطنيون فيما مضى كانوا عصابات في قلاع، لكن الباطنيين اليوم لهم دولة، هذه الدولة مضى عليها سنوات طويلة لم تقتل جندياً إسرائيلياً واحداً، ولكنها قتلت عشرات الألوف من أبناء السنة في داخل البلد وفي خارجه، هل يجوز القتال تحت هذه الرايات وإن قالوا نحن نقاتل إسرائيل؟ فالعاقل يفهم ولا تنطلي عليه مثل هذه الأمور.

واجبنا تجاه التبرج والسفور

واجبنا تجاه التبرج والسفور Q نعلم أن ما يشاهد في أسواقنا من سفور وتبرج من الغزو الفكري لهذه الأمة عن طريق نسائها، وقد انحل شبابها، ما هو واجبنا تجاه هذه الظاهرة التي انتشرت وعمت وطمت؟ A هم في الحقيقة كما ذكر الله تعالى عن الشيطان الشيطان يزين ويمني وَيَعد، ولكنه لا يرغم أحداً أن يخرج من بيته، لا يرغم امرأةً أن تتبرج ولا شاباً أن يغازل أو يعاكس أبداً، فهم يأتون بالأفلام بالمجلات بأنواع الفساد، ولكن المصيبة ليست من الغزاة، المصيبة منا نحن، لَمَّا ضعف الإيمان وفقدت التقوى، وقل المحاسب أو المعاتب أو المربي انتشر هذا الفساد، فنحن المسئولون عنه أولاً وآخراً، ولا شك أنه مدمر للأمة، وأن علاجه يكون بإحياء الدعوة إلى تقوى الله، وإلى التحذير من المعاصي ومن آثارها على الأمة، ومنها التبرج الذي هو داعي الزنا، وليس بعد الزنا -عياذاً بالله- في تحطيم الأمة من شيء.

نصيحة لجنود القوة البحرية

نصيحة لجنود القوة البحرية Q نحن في مركز من مراكز الدفاع عن الإسلام، وبجوارنا شباب يُؤمل منهم الدفاع عن الإسلام إن شاء الله، شباب ينتمون إلى القوة البحرية، فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب تجاه هذا الغزو الصليبي أياً كانت طرقه؟ A الحمد لله هناك في البحرية من أخلص وجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، فهو أفضل مما لو جاهد في البر أليس كذلك؟ كم له من الأجر؟ أجر شهيد البحر أجر شهيدين من شهداء البر، هذا فضل من الله سبحانه وتعالى عليهم، ولذلك يجب علينا أن نعد العدة براً وبحراً وجواً بالإيمان الصادق والإخلاص لله سبحانه وتعالى والبعد عن المعاصي، ولا تؤاخذوني إن كررت، البعد عن المعاصي والاعتصام بالتقوى، والصبر والاستعانة بالصلاة، في هذه العبارات فقط نحدد كل ما نحتاجه في هذه المعركة وإن طالت، وفي أي معركة وفي أي زمان وفي أي مكان، أما إذا استوينا نحن وهم في المعصية فإن الفضل يكون لهم في القوة، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى.

جهود صلاح الدين

جهود صلاح الدين Q سمعناك قلت في درسك أن صلاح الدين الأيوبي من الرافضة؟ A أعوذ بالله، بل هو الذي قتل الرافضة وأبادهم، أرجى عملٍ لـ صلاح الدين رحمه الله قضاؤه على الرافضة، هو عندي كذلك، بل عند علماء الإسلام الذين كتبوا عنه، وأرجى من قتله للصليبيين وأفضل قربةً إلى الله تعالى من قتله للصليبيين، قضاؤه على تلك الدولة الرافضية التي كانت تنادي وهي تقول: (من لعن وسب فله كيل وإردب) يعني: من لعن الصديق والفاروق رضي الله عنهما يأخذ، ومن لم يلعنهما لا يأخذ. هذه دولة قضى عليها صلاح الدين أفيكون من الرافضة؟! حاشاه من ذلك والحمد لله. - وما هي عقيدة صلاح الدين؟ في هذه المناسبة أقول: أولاً يا إخوان! لا نفترض في كل قائد أو مجدد أن يكون كاملاً أو معصوماً، المعصوم من عصمه الله، وهذا خاص بالرسل الكرام، ولكن نقول: هل كان صلاح الدين أشعرياً كما يقال؟ بعض العلماء كـ المقريزي وبعض المؤرخين المتأخرين قالوا: إنه كان أشعرياً، أظهر العقيدة الأشعرية، في الحقيقة لا صحة لهذا الكلام على الإطلاق، لماذا؟ لأن بعضهم يسمي الأشاعرة أهل السنة، فيقول: أظهر العقيدة الأشعرية، ويقصدون أنه أظهر عقيدة أهل السنة، صلاح الدين رحمه الله ونور الدين منعوا كتب المنطق والفلسفة، وفي أيام دولة صلاح الدين وأبنائه كانت كتب الفلسفة محرمة وممنوعة، وتحرق إن وجدت، ولذلك كان اتجاههم إلى السنة، لكن قد تخفى بعض المسائل، حتى على علماء عصرهم، نعم لا ندعي لهم الكمال والعصمة على أية حال، لكن السؤال: هل كانوا دعاة إلى البدعة؟ لا. هل كانوا يحبون السنة؟ نعم. هل كانوا ينصرونها؟ نعم. فأنا وأنت قد نجتهد في أن ننصر السنة وندعو إليها، ثم نخطئ فنقع في بعض البدع، وبعض المعاصي، ولا عصمة لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن المؤكد والثابت أن صلاح الدين والعادل وغيره من ملوك الأيوبيين كانوا ضد البدع حتى أن الكوثري المعروف بتعصبه الشديد على أهل السنة وميله إلى الأشعرية والماتريدية يسب صلاح الدين وذواته ويذمهم بذلك، أنهم كانوا يمكنون للحشوية ولـ أهل الحديث ويتركون أهل العلم، أو أهل العقيدة الصحيحة لا يمكنون لهم، والكلام في هذا يطول

التاريخ يعيد نفسه

التاريخ يعيد نفسه Q بعض الإخوة يقول: ذكرت أن الحل هو التقوى والصبر؟ الشيخ: نعم كما ذكر الله تعالى ذلك في القرآن. السائل: وما كان يفعله ذلك القائد الفذ صورةٌ حية، ولكن يختلف الوضع في العالم الإسلامي الآن، فهناك قادةٌ وحكام يحاربون السنة في دولهم، وهم من مصدر قوة، فكيف يكون الجهاد؟ وقد يقومون لقمع كل نهضة، كما هو حاصل الآن؟ الشيخ: الوضع هو هو، يعني: نور الدين لم يظهر فجأة، نور الدين ظهر بعد أمد، بعد أن طهر الذين باعوا الأرض، الرافضة العبيديون -كما ذكرنا- وغيرهم، الذين سلموا البلاد والعباد للصليبيين ولغيرهم، لكن عندما قامت الدعوة، وتحركت الأمة وقام العلماء والخطباء والدعاة في المساجد وفي كل مكان وُجد الجيل التالي الذي كان منه عماد الدين ونور الدين، فإذا قامت الدعوة فلا بد أن تتحمل كل ما ستلقاه، نعم سيوجد من يقاومها لكن يهيئ الله لها أيضاً من ينصرها، وهو على ذلك قدير، وتبدأ المعركة في أول الأمر صعبة وشاقة، وقد تهزم، ولكن في النهاية سيكون هذا الجيل بإذن الله الذي يألف التضحية ويألف الجهاد، ويرفع راية السنة وهو واثق بنصر الله سبحانه وتعالى ستكون العاقبة له، أما الواقع الآن مثله مثل أي واقع، سيذهب، وكل أعداء الله سيضمحلون، وكل ما كان لله يبقى، ومن كان على تقوى الله فسيبقى، قاعدة وسنة لله تعالى في جميع الأوقات والعصور. في زمن عبد الناصر كنا نقرأ ونسمع كيف كانت أوضاع المسلمين في السجون، وكانت توزع كتيبات كثيرة تتحدث عما يُفعل بالدعاة في مصر، كنا نقول: متى يأتي اليوم الذي تتخلص فيه الأمة من جمال عبد الناصر، ونترقب هلاكه؟ حتى إنه لما مات أذكر أن بعض الطلاب سجد وظل ساجداً لله شكراً حتى إنه لما رفع رأسه كان وجهه كله أحمر، كأنه غير مصدق أن عبد الناصر سيموت، وبعد أن أهلكه الله بفترة، إذا به يذم ويلعن في المنابر التي كان ينفق عليها ويؤسسها. أقول: نحن لا ننظر للتاريخ ولا نعتبر، مسألة سنتين ثلاث عشر عشرين سنة ليست شيئاً في حساب الدعوة والأمم، بعد عشر سنوات إن شاء الله من الآن كثير من هؤلاء المجرمين سيكونون قد ذهبوا وقضى الله تعالى عليهم بأي شكلٍ من الأشكال، كما قضى على أتاتورك وعبد الناصر وتيوتو واستالين وهتلر وغيرهم، ولكن دينه سيبقى بإذن الله.

السبيل إلى القيادة والريادة

السبيل إلى القيادة والريادة Q كما ترون أن العالم الغربي والشرقي قد اكتشفوا وابتكروا واخترعوا أشياء كثيرة فكيف يربط المسلم بين كلٍ من تعلم التكنولوجيا الحديثة وتعلم العلم الشرعي وحفظ كتاب الله والدعوة إلى الله بشرط أن لا تؤثر على استقامته ودينه، حيث أنه ولا بد أن يحتك بهؤلاء الغربيين والشرقيين غير المسلمين إلخ؟ A طلبة العلم الشرعي ليس مطلوب منهم أن يذهبوا ليتدربوا على التكنولوجيا، لكن من فرَّغته الأمة لهذه التكنولوجيا يجب عليه أن يتقنها، بشرط أنه إن ذهب إليهم أو خالطهم أن يذهب وهو مؤمن ويرجع وهو مؤمن، ليست المشكلة في نقل التكنولوجيا، القضية قضية إرادة، إذا توجهت إرادتك لأن تحقق أمراً فسوف تحققه. هذه فطرة هذه سنة، وقد تحدثنا عنها في محاضرة سابقة في عطلة الربيع، فالإرادة الإنسانية والحافز الموجود أو الدافع له أثر في تحقيق أي شيء، كل التجارب النفسية الفردية تثبت ذلك فكيف بإرادة الأمم؟ مثلاً: يذكرون أنه في سباق المرثون -وهو شعيرة جاهلية يونانية- يجري اللاعب عشرين كيلو مثلاً ويسقط، وعندما يفحص الأطباء هذا الذي سقط يجدون أنه كان بإمكانه أن يواصل عشرة أميال أو خمسة مثلاً، لماذا سقط؟ لأنه سقط نفسياً. تجارب أخرى: وجدوا أن الإنسان إذا كان ضعيفاً منهكاً مجهداً تقول له: خذ هذه الحبة ابلعها، يقول: لا أستطيع أن أمد يدي حتى آخذها، لكن لو سلطت عليه وحشاً أو ثعباناً في الغرفة ستجده يقفز عشرة أمتار، وقد ذكروا أن رجلاً قفز عشرة أمتار، وقد كان مقعداً، لماذا؟ إنه الحافز. ولذا المسألة هذه ليست مسألة كيف نأخذ التكنولوجيا، نبدأ نتعلم من (أب) وأما متى نصل إلى الكمبيوتر والمفاعل الذري، فهذا طريق غير صحيح، لا تنظر إلى الناحية المادية، اشحذ العزيمة والهمة تجد العجب العجاب. إمبراطور اليابان أرسل أول دفعة إلى أوروبا فرجعوا بالبنطلونات وبالسجائر ويتكلمون بالإنجليزي والألماني، عجيب!! هذا الذي أُرسلتم من أجله؟ فقيل: إنه جمعهم في ميدان وحكم عليهم بالإعدام، وأرسل دفعة ثانية، وقال: اذهبوا فذهبوا باللباس الياباني، ويطبخون على الطريقة اليابانية، ويأكلون بالطريقة اليابانية، ويتكلمون باليابانية، فرجعوا بالتكنولوجيا الأوروبية، والآن اليابان تنافس أوروبا حتى أنها اقتحمت أوروبا الشرقية قبل أن تخطط ألمانيا الغربية وغيرها من الدول اقتحامها، والسبب أنهم أوجدوا عند الناس الإرادة. فيتنام كيف استطاعت أن تهزم أمريكا؟ نفس الشيء، وجدت إرادة مع أن الجميع كفار، هذه الإرادة إذا وجدت فلا يوجد حافز ولا إرادة أقوى من الإيمان بالله، ولا أقوى من جهاد أعداء الله، ولا أقوى من طلب الجنة الجنة يا إخوان! لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، هذه الجنة أقوى حافز، فالهارب يضاعف الهرب إذا علم أنه يهرب من النار، والطالب يضاعف الطلب إذا علم أنه يطلب الجنة، سلعة الله الغالية، التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، إذا كنا نريدها فعلينا أن نشحذ الإرادة وننتصر، وإن كنا نريد فقط أن تكتب الصحافة الغربية عنا أننا تطورنا وعندنا شوارع إلخ، وعندنا كذا، وتأتي بصور لبعض مناطق، فسنظل على هذا الوضع قروناً ولن نصل إلى شيء، فالمرء حيث يضع نفسه، والأمة حيث تضع نفسها، ضعها في القيادة تجد أنك قائد. مثلاً: -شيء واقعي جداً نذكره من واقع الحياة- لو اجتمع عشرون لاعباً وذهبوا يلعبون كرة، فقام أحدهم وأمسك الكرة. وقال: أنا الكابتن وصرخ عليهم اسكتوا وجعلوه الكابتن، فعلاً؛ لأنه أثبت شيئاً، لكن لو جعل نفسه لاعباً كأي لاعب وضعوه حارساً أو وضعوه حكماً، المهم أنت حيث تضع نفسك، لهذا يقول الله تعالى: {وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] لكن قلنا بألسنتنا نحن قادة العالم نحن، ونريد أن نلتحق بركب الحضارة سنظل في الذيل؛ لأننا ما فكرنا إلا بالالتحاق، ولم نفكر في السباق والقيادة.

مراجع المحاضرة

مراجع المحاضرة Q المراجع لهذه المحاضرة؟ A المراجع لهذه المحاضرة: كتاب سير أعلام النبلاء، فيها سيرة نور الدين محمود للذهبي رحمه الله، كذلك كتاب نور الدين محمود للدكتور/ عماد الدين خليل، وكذلك كتاب نور الدين محمود للدكتور/ حسين مؤنس، كذلك كتاب البرق الشامي، أخبار الروضتين في أخبار الدولتين، الكامل لـ ابن الأثير وغيرها.

لا دور للشيعة في الحروب الصليبية

لا دور للشيعة في الحروب الصليبية Q هل للشيعة دور في الحروب الصليبية؟ A لا. ليس للشيعة دور مضاد في الحروب الصليبية، ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: لم يُعرف عنهم أنهم جاهدوا أو قاتلوا الصليبيين، بل هناك وقائع كثيرة جداً تثبت أنهم عندما يأتي الصليبيون إلى بعض الإمارات التي كانت بشمال لبنان وفي شمال بلاد الشام من الدويلات الشيعية يسلِّمون لهم هذه البلاد مقابل أن يتحالفوا معهم على أهل السنة، فلم يوجد لهم أي دور، وإنما حدثت بعض المناوشات والخلافات بين العبيديين والصليبيين عندما اختلفوا كما يختلف الناس عادةً اختلافاً سياسياً، لم يكن العبيديون يحاربونهم من منطلق أنهم كفار أو صليبيون، والأساس في العلاقة بين العبيديين الذين يدَّعون أنهم فاطميون وبين الصليبيين هي علاقة المسالمة والسفارات المتبادلة والهدايا والصلح الدائم، وهذا طوال الحروب الصليبية التي امتدت قروناً كان هذا هو السائد الغالب. أما غلاة الشيعة الذين منهم الحشاشون، فهؤلاء ذكرنا لكم أفعالهم وفتكهم بالمسلمين، ولم يتعرضوا بأي أذىً للصليبيين إلا أحياناً، إذا حاول الصليبيون أن يستولوا على قلاعهم ليأخذوا منها ما فيها من خيرات وما فيها من كنوز، فهي عبارة عن معارك لصوص مع بعض، ليست مسائل عقدية.

آثار الحرب العالمية الأولى على العالم الإسلامي

آثار الحرب العالمية الأولى على العالم الإسلامي Q ذكرت لنا الحروب الصليبية فنود منك ذكر الحروب العالمية وأسباب هزيمة المسلمين إلى يومنا هذا لتكون صورة حية؟ A الحرب العالمية الثانية ليس لنا فيها دور إلا أنهم دكوا بلادنا، أي: الذين دخلوها حاربوا فيها، حاربوا في أرضنا، وليس لنا دور فيها أبداً. الحرب العالمية الأولى التي تستحق أن تذكر؛ لأنه بناءً عليها مزقت دولة الخلافة العثمانية، ووضعت البلاد الإسلامية تحت الانتداب بناءً على نقاط الرئيس يلسن الأربع عشر، وهذه فعلاً تستحق إذا قدّر الله لي أو للإخوة الذين هم أقدر مني ومتخصصون في التاريخ أن يحدثونا عنها فهذا شيء طيب.

سبب هجرة اليهود إلى فلسطين

سبب هجرة اليهود إلى فلسطين Q سمعنا بهجرة اليهود إلى فلسطين، فلماذا يهاجرون إلى هناك، أم أنه -كما سمعنا- إعداد للحرب التي ستكون بين المسلمين واليهود؟ A نحن دائماً نتفاءل تفاؤلاً طيباً، نحن نحب الفأل ونكره الطيرة كما كان صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هديه غير ما نظن، أي نحن لا نتفاءل على حقٍ وحقيقة، أنا أسميه تخدير، ونحن نتخدر بسرعة؛ مثلاً: هناك أناس يشربون القهوة، هذا لو يعطى أقوى إبرة لا يتخدر كما يقول الأطباء، لكن هناك ناس أول ما توضع فيه الإبرة يغمى عليه، نحن من النوع الذي يتخدر بأدنى مخدر، فلما جاءت الأحداث في أوروبا الشرقية خدرونا قالوا هذه سقطت؛ لأنها قائمة على الظلم وعلى الفساد والاشتراكية والشيوعية، وهي مخالفة للإسلام، أما نحن فالحمد لله طيبون مسلمون، انتهت الشيوعية وارتحنا، وهو بخلاف الواقع تماماً. ولما جاءت الهجرة ظهرت أيضاً بعض الأصوات المخدرة، قالوا: دعهم يتجمعون، لماذا؟ قالوا: كيف نقاتلهم في آخر الزمان إلا إذا تجمعوا؟ من قال لك أننا سنقاتلهم الآن، نحن نأخذ بالأسباب كما شرع الله، فإذا أمر الله وقدر بشيء فأمر الله واقع، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق وحق، لكن هل يعني ذلك أني أترك اليهود يفعلون كما يشاءون ويتجمعون؟ لا. فنحن نقول: سبب هذه الهجرة أن اليهود يريدون تقوية دولتهم بالعنصر البشري، وهو أهم عنصر في الحياة، اليهود والروافض وغيرهم أهم شيء عندهم هو العنصر البشري، والأقباط في مصر وغيرهم الزيادة السكانية مهمة جداً، أما تحديد النسل فهو خاص بـ السنة، والدعايات خاصة بـ أهل السنة، والكلام عن العدد وأن الثلاثة كفاية والخمسة مشكلة، وأن الزوجتين حرام أو ممنوع، هذا خاص بـ أهل السنة، العنصر البشري أهم عنصر في أي دولة في العالم، في أي وجود عالمي في هذه الحرب المستعرة والصراع بين الأمم، فاليهود يريدون تقويته بهذه الهجرة، ولا غرابة في ذلك، لكن نحن ماذا عملنا؟ أخبرناكم في المرة السابقة لا تعيدوا هذا السؤال، نحن عندنا هجرة الخدَّامات مستمرة إلى أرض المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أساسيات الين واضحة ولا تحتاج إلى مؤتمرات

أساسيات الين واضحة ولا تحتاج إلى مؤتمرات Q لماذا لا تكون هناك مؤتمرات بين علماء المسلمين من أهل السنة وعلماء الشيعة لتصحيح مفاهيمهم في العقيدة؟ A هذا الأمر واضح لا يحتاج إلى مؤتمرات، أنا أذكر لكم مثالاً واقعياً: لما ثارت فتنة بعض المبتدعة من سنوات، وجاءني أحد طلاب صاحبهم وقال: لماذا الجدل هذا؟ والخلاف وارد، قلت: ماذا تريد؟ قال: لماذا لا يكون هناك مقابلة في التلفزيون أو في الجامعة، أو في أي مكان، وتجتمعون ويصير هناك نقاش؟ قلت: هذا غير معقول، قال: لماذا؟ قلت: ما هي النقاط التي تتوقع أن نتناقش فيها؟ قال: واضحة، قلت: نأخذ النقاط واحدة واحدة. أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، هذه نقطة؟ قال: نعم. ثانياً: أن الأولياء يتصرفون وأن الأموات المقبورين يؤثرون ولهم من التأثيرات كذا وكذا، قال: نعم، وذكرت له بعض العبارات الموجودة في كتبهم، مثل: وانتشلني من أوحال التوحيد إلى الوحدة وغيرها، وقلت له: هذه وهذه تريدها أن تكون موضوع نقاش؟ قال: نعم. قلت: هل تتوقع أن أحداً من أهل السنة ينزل إلى مستوى أنه يناظر على هذه المسائل؟! هل نأتي لك بأصغر طالب من أهل السنة يحفظ القرآن ويقرأ عليك الآيات التي تكذب ما تعتقده من الخرافات: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] إلخ، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] الآيات يقرؤها عليك أي واحد هل هناك حجة أخرى؟ كل ما تقولون يرد عليه أصغر مسلم يحفظ آيات من كتاب الله، أو أي عجوز تعرف شيئاً من كتاب الله، أما نحن فلسنا لذلك. وهذه سنة قديمة، لما قال أحد أهل البدع لـ أيوب رحمه الله قال: اجلس نتناظر، قال: لا. ابحث عن شاكٍ مثلك، أما أنا فعلى ثقةٍ من ديني، وأما أنت فابحث عن شاكٍ مثلك، إذا كان المقصود أن نتناظر لنعرف من هو على الحق فهذا أمر محمود، أما إذا كان المقصود أن نتناظر مع بعض أهل البدع في أمور واضحة ولا يجهلها أحد، فهذا أمر مذموم، إن الحق واضح مثل الشمس في رابعة النهار، ولولا علمنا جزماً ويقيناً أنهم يعلمون هذا الحق لتحرجنا وأثمنا أمام الله أننا ما بيناه لهم، ولكن الحق كالشمس في رابعة النهار، بالله عليكم أي عاقل يقرأ تاريخ الإسلام ولو كان يهودياً أو نصرانياً هل يصدق أن عمر بن الخطاب وأبا بكر الصديق أكبر منافقين في الدنيا، سبحان الله! من يصدق هذا الكلام؟! إن أعداء الدين وأعداء القرآن، لا يصدقون مثل هذا الهراء، إن حقائق التاريخ كلها واضحة، فعندما نناقش شخصاً ونقول له: تعال نبين لك أن هؤلاء الصحابة لهم حرمتهم ولهم قدرهم تجد أنه لا يسلم للحق أبداً. فلعلمنا بأن المسألة تعصب ومكابرة، وعناد وتضليل من الزعماء الذين يستخفون الرعاع، لذلك أقول لا يحتاج الأمر إلى مؤتمرات، وما يسمى من التقريب أو أشباهه إنما تكون عادةً من مصلحة أهل البدع، أو بمواطأة معهم.

أسباب اجتماع المسلمين في عهد عماد الدين زنكي

أسباب اجتماع المسلمين في عهد عماد الدين زنكي Q هل لنا أن نعرف كيف تم لـ عماد الدين زنكي توحيد صفوف المسلمين بعد أن كانوا مفككين؟ A لقد تعب عماد الدين والد نور الدين رحمه الله تعباً شديداً لكي يجمع أنصاره، لكن كان اجتماع المسلمين أسهل من واقعنا، والسبب لأن القلوب كان فيها خير أكثر، بمعنى لم يكن عند المسلمين إبان الحروب الصليبية الأولى شيء من الولاء للنصارى، ونقصد بالمسلمين أهل السنة، الذين ليس عندهم ولاء لليهود ولا للنصارى، ويعلمون أنهم كفار، ويعلمون أن قتلهم شهادة وهكذا، فالحقائق التي ذكرناها وعقيدة الولاء والبراء كانت معلومةً عندهم، وكانت ظاهرةً جلية، أما الآن فأكثر المسلمين مع الأسف مبهور بما عند الكفار ويائس من النصر، ولا يتصور المسألة حلقة من حلقات صراع طويل وإنما يتخيل أن الغرب حاكم ومسيطرٌ إلى الأبد، فلا أمل ولا حتى مجرد تفكير بأن نقاومه أو نحاربه، أما الأمة التي عندها استعداد ولو ضعيف وتنظر إلى عدوها نظرة معقولة يمكن أن تُوقى. فلقي عماد الدين رحمه الله العنت، حتى دبر بعض أعدائه من المسلمين في الإمارات الإسلامية وبعض قواده مؤامرةً لقتله فاغتاله غلمانه وحرسه، لقد تعب حين جمع أنصاره، وهو في الإمكان إن شاء الله في كل زمان ومكان.

كيفية التعامل مع أهل الكتاب الذين هم في ديار الإسلام

كيفية التعامل مع أهل الكتاب الذين هم في ديار الإسلام Q إن من أسباب النصر على الكفار عدم موالاة النصارى وغيرهم من الكفار، فكيف نتعامل مع النصارى الموجودين في بلاد الإسلام؟ A النصارى في بلاد الإسلام نوعان: النوع الأول: البلاد التي يحرم عليهم أن يدخلوها، وهذا النوع ليس هناك داع أن نتحدث عن تفاصيل الأحكام فيه وهي: جزيرة العرب، واقرءوا فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في مجموع الفتاوى الجديد، فتوى طويلة وموضحة فيها الأدلة، جزيرة العرب جميعاً لا يجوز لليهود والنصارى أن يبقوا فيها، وجزيرة العرب من البصرة -كما يقول بعض العلماء- إلى أطراف الشام إلى الأردن إلى عدن، كل الجزيرة المعروفة لا يجوز للنصارى أن يدخلوها أصلاً، وإن اضطر المسلمون إلى إدخال أحدٍ منهم لضرورة فكما كان يفعل عمر رضي الله عنه يعطيهم ثلاثة أيام فقط للبيع والشراء، فهذه تكون ضرورة مقيدة ومقدرة بقدر. وأما خارج جزيرة العرب فهم أنواع، منهم: الحربي، ومنهم المستأمن، ومنهم الذمي -لا نريد أن نطيل في أحكام فقهية، فالحربي: هو الذي نحن وإياه في قتال، كما كان الحال بين المسلمين وبين الصليبيين، فالصليبيون كانوا حربيين، وأما المستأمن: فهو الذي يقدم من الروم البيزنطيين مثلاً الذين هم في حالة سلم وصلح فمن يقدم منهم إلى بلاد المسلمين يعطى أماناً بأن يقيم في بلاد الإسلام زمناً محدداً ليبيع أو يشتري. والذمي: وهو الذي أصلاً مسكنه الشام أو مصر ورضي أن يدخل في عقد الإسلام ويخضع لأحكامه مع بقائه على دينه، وأعطاه المسلمون العهد بذلك ويدفع الجزية عن يدٍ وهو صاغر، وفي بلاد الإسلام التي يجوز لهم أن يدخلوها لهم معاملة خاصة منها: ألا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يتكنوا بكناهم، وألا يرفعوا بناءهم فوق بيوت المسلمين حتى لو كان جار مسلم عنده دور ونصراني يستطيع أن يبني دورين لا يجوز له أن يبني مسكنه دورين إلا إذا بنى المسلم بيته دور آخر، وفي الطريق لا يبدءون بالسلام، وإذا لقيتموهم فاضطروهم إلى أضيقه، لأن الأفضلية في المرور للمسلم، ويجب عليهم أن يلبسوا ما يدل على أنهم من أهل الذمة ليلزموا بالصغار، حتى إن الطفل المسلم حتى يُلزمهم الصغار والذلة، ولا أن يعرف أنهم من أهل الذمة بشكل يميزهم، ولهذا وضعت الزنانير، ووضعت أنواع معينة للباس والطيالس الخاصة بهم ليُعرفوا فلا يكرمون كما يكرم المسلم أو يبدءون بالسلام. هذه الأحكام مقررة في شريعتنا، أما الواقع فغير ذلك.

نصيحة لمن ابتلي بالسحر

نصيحة لمن ابتلي بالسحر Q هذا سؤال خارج عن الموضوع، لكن أرجو أن تجيبني، أنا شخص مصاب بمرض السحر -عافاني الله وإياكم والمسلمين أجمعين- وقد ذهبت لعدة مشايخ ولكنها -أي الجنية- رفضت الخروج مني، حيث أنها تتكلم عندما يقرأ عليها قارئ القرآن وتقول: إنها يهودية -إذاً هناك علاقة في الموضوع! - ولا يمكن أن تخرج مني حتى يلقى القبض على من أتى بها، وهو معروف، وقد اشتكيت ولكن لم أجد تجاوب، وقد قال لي بعض الناس أن هناك مشعوذين يستطيعون أن يخرجوها ولكني أتردد من هذا خوفاً من الله، دلوني جزاكم الله خيراً حيث إني معذب، وقد كرهت بيتي وأهلي وأنا في شقاءٍ شديد؟ A ما أنزل الله تعالى من داءٍ إلا وجعل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، هذا شيء، والشيء الآخر أن من الأدواء ما جعلها الله تبارك وتعالى مستديمة فربما قتلت صاحبها أو مات، فما على المسلم إلا الصبر، فوطن نفسك يا أخي! وأقول هذا لنفسي ولكل أخ، وطن نفسك دائماً على أسوأ الأمرين، حتى إذا كان الأخف فرحت، افرض أنك مت، هناك أناس مصابون بمرض السرطان والأطباء يقولون: حالته ميئوس منها، وأنت أفضل حالاً منه، أنت إن شاء الله حالة غير ميئوس منها، فانظر إلى من هو فوقك إذا تعلق الأمر بعبادتك وبمعاملتك مع ربك لتجتهد فيها، أما في أمور الصحة والدنيا فانظر إلى من هو دونك لئلا تزدري نعمة الله تعالى، انظر إلى من جُن وفقد عقله بالكلية وأنت في نعمة والحمد لله، وهكذا تستطيع أن تأمل ذلك. ثم الأدوية الشرعية، القراءة المشروعة لا تتجاوزها، والله تعالى يشفيك وندعو لك ويدعو لك الإخوان جميعاً بالشفاء بإذن الله، وإياك والمشعوذين! إياك وإياهم! لن يضرك أحد ولن ينفعك أحد إلا بما كتب الله تعالى لك أو عليك، لكن ذهابك إلى الدجال أو الكاهن أو المشعوذ يترتب عليه: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) ونعوذ بالله، ونعيذك يا أخي! بالله تعالى أن ترجو الشفاء بالكفر، نسأل الله العفو والعافية.

سبب تأييد مجلس كنائس الشرق الأوسط لقيام دولة فلسطين

سبب تأييد مجلس كنائس الشرق الأوسط لقيام دولة فلسطين Q لأول مرة منذ خمسة عشر قرناً -والله المستعان- مجلس كنائس الشرق الأوسط أيد دولة فلسطينية مستقلة؟ A لا نحتاج أن نقرأ كلاماً طويلاً، ولكن لعلكم فهمتم اللعبة!! قيام دولة فلسطينية على قطعة شريط صغير بـ الضفة الغربية وتحت حماية سلطة إسرائيل، هذا الشيء الذي يجعله العرب مطلباً عظيماً، وإذا تحقق فقد انتهت جميع مشاكلنا في الدنيا يؤيده مجلس كنائس الشرق الأوسط، يعني إذا قامت الدولة سيكون ممن أيدها ويحتفظ له بالجميل والشكر والعرفان ولا ينسى معروفه مجلس الكنائس -أي: النصارى-، كل لعبة يدخلها النصارى تجد أن طرفاً يهاجم فيمد العدو بالقوة والآخر يقول: أنا معك، حتى في الأمم المتحدة تجد أن هناك من يؤيد العرب، ومع الدولة الفلسطينية، ويشجب، ويستنكر العدوان الإسرائيلي، والسبب أن الأدوار موزعة، ونحن كالكرة يقذفنا هذا إلى هذا، ثم يقذفنا هذا إلى هذا، وأدوارهم موزعة فيما بينهم، الشرق الأوسط كما يسمى بالتسمية الاستعمارية هذا هو العالم الإسلامي، العالم الإسلامي لا نعترف فيه بمجلس كنائس أبداً؛ الموجود منهم هم أهل ذمة، ويجب أن يخضعوا لأحكام الإسلام كما ذكرنا، لا يوجد شيء اسمه مجلس كنائس، ولكن الله المستعان، إذا كان كما ترون البابا يشارك في أحداث لبنان والبطريك صفير وجماعته يشاركون، وعلماء المسلمين بعيدون عن المعركة فإذاً نحن نستحق، فهم الذين جعلوا علماءهم وأحبارهم ورهبانهم كذلك، ونحن علماؤنا أقصيناهم، المهم أنهم لا وجود لهم في المعركة، لذلك هم لا يلامون وهم يلعبون ويخططون وهم يمكرون ويكيدون، ولكن يجب علينا نحن أن نخطط وأن نعمل وأن نجتهد، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، وهي الخطوة التي لا يمكن تجاوزها أبداً، وهي التي نبدأ فيها ونعيد ونقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120]. هذا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المؤامرة على المرأة المسلمة [1 - 2]

المؤامرة على المرأة المسلمة [1 - 2] إن التآمر على هذا الدين قديم قدم الصراع بين الحق والباطل؛ لأنه يمثل الحصن الأخير، ولقد سعى أعداء الإسلام إلى إفساد المسلمين بشتى الطرق، باذلين في ذلك جهودهم وأموالهم، ومركزين في ذلك على ركن من أهم أركان المجتمع المسلم، ألا وهو المرأة؛ التي بصلاحها يصلح المجتمع، وبفسادها تنهار الأمة مهما بلغت من القوة والمنعة.

أهمية الحديث عن المرأة في عصرنا الحاضر

أهمية الحديث عن المرأة في عصرنا الحاضر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: فإني أشكر الله تبارك وتعالى الذي جمعنا بكم في هذه الليلة التي نسأله تعالى أن يجعلها طيبةً مباركة، كما أشكر الإخوة القائمين على هذا المسجد، والقائمين على مركز الدعوة بـ الرياض أثابهم الله جميعاً، حيث هيئوا ويسروا لنا أن نجتمع وأن نلتقي لنذكر الله تبارك وتعالى، ولنتحدث في أمر عظيم يهم كل مسلم في هذا الزمن. ولا شك أن ما تعلمونه جميعاً -ولله الحمد- مما شرعه الله تبارك وتعالى بشأن المرأة وحجابها وعفتها وطهارتها لهو غني عن الإعادة والتكرار هنا، وأنتم والحمد لله طلبة علم ودعاة، ولا يخفى على أحد منكم شيء من هذه الأحكام إما على سبيل الإجمال أو التفصيل، وإنما نريد أن نتحدث عن قضية قد تخفى على بعض الإخوة؛ لأننا في زمن كثرت فيه الضلالات، وكثر فيه الدعاة إلى أبواب جهنم الذين حذرنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت فيه الفتن، وكاد أعداء الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أضعاف ما كانوا يكيدون من الدس والخيانة والتآمر عليها وعلى دينها. ولهذا وجب على هذه الأمة أن تعلم حقيقة الأمر، وأن تعرف أن ما يتعلق بمسألة المرأة وما يحدث في المجتمعات الإسلامية اليوم من تحولات وتغيرات ليس أمراً عفوياً ولا اتفاقياً، وإنما هو نتيجة تخطيط مدروس، وتنظيم عُمل له طويلاً، فهي مؤامرة تدبر من قديم، وهي الآن في طور الاكتمال، ولكن الله غالب على أمره مهما فعل أعداؤه وكادوا. وموضوع المرأة -أيها الإخوة الكرام- كان إلى زمن قريب موضوع آداب وأخلاق وأحكام يدعو إليها الخطباء والوعاظ والأدباء، ولكنه في هذه الأيام وفي هذا العصر أصبح موضوع عقيدة، أقول: الآن أصبح موضوع المرأة موضوع عقيدة، فلم تعد المرأة تخطئ أو تعصي ربها عز وجل فتتبرج أو تتكشف أو ترتكب بعض ما نهى الله عنه، ثم سرعان ما تعود إلى حظيرة الحق، وينظر إلى ذلك على أنه شذوذ لا، إن الأمر قد تعدى ذلك، وأصبحت هناك دعوات صريحة إلى أن تتحلل المرأة من أوامر ربها عز وجل، وترفض كل ما شرعه الله تبارك وتعالى، وتنطلق -كما يزعمون- وتتحرر لتقلد المرأة الأوروبية الكافرة في كل شيء، وهذا الأمر أمر عقيدة؛ لأنه لا يفعله إلا الفتاة التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا بهذا الدين ديناً. ومن هنا وجب التنبه، ووجب على كل ذي شأن وعلم أن يبين لهذه الأمة طريقها.

سبب تأثر المرأة المسلمة بالحضارة الغربية

سبب تأثر المرأة المسلمة بالحضارة الغربية إن المؤامرة على هذا الدين -أيها الإخوة الكرام- قديمة قدم الصراع بين الحق والباطل، قدم وجود الحق والباطل، ولكنها في هذا الزمن أصبحت أكثر كيداً؛ حيث أن الاحتكاك بين الغرب الكافر الصليبي وبين الأمة المسلمة قديم، وقد سبق أن جاء الصليبيون إلى العالم الإسلامي كما تعلمون، واحتلوا كثيراً من بلاد المسلمين في الأطراف، ولكن المرأة المسلمة، والأمة المسلمة ظلت تنظر إليهم على أنهم همجيون كفار صليبيون حاقدون؛ فلم تأبه بأن تقلدهم في أي شأن من شئون الحياة. وقد كتب المؤرخون والأدباء وأصحاب السير عن أوضاع المرأة الصليبية عندما جاءت الحملات الصليبية إلى العالم الإسلامي؛ وتحدثوا عن الدياثة التي كان يتصف بها الإفرنجة، ما هي هذه الدياثة؟ قالوا: إن نساءهم يمشين كاشفات الوجوه، ويراهن الرجال، ولا يبالي بعضهم بأن تذهب زوجه مع الآخر، فكل ذلك عده المسلمون -حتى الذين لم يكونوا في منزلة من العلم والدعوة- دياثةً وانحطاطاً وسفولاً تبرأ منه المرأة المسلمة. ولكن مرت بالأمة الإسلامية عصور تراجعت فيها عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وعن العقيدة الصحيحة عقيدة السلف الصالح، ودخلتها الضلالات والبدع من كل جهة حتى جاءت الحملة الصليبية الكبرى التي تسمى حملة نابليون، وعندما قدم نابليون قدم معه عاهرات الفرنجة مرةً أخرى، ولكن الأمة اختلفت نظرتها هذه المرة عنها في المرة السابقة، فأخذوا يكتبون ويقولون -وإن كتب ذلك بعد نابليون - إن المرأة الفرنسية متحضرة متطورة ناهضة، وأن على المرأة المسلمة أن تقلدها وأن تحتذي حذوها. كان هذا التحول في عقيدة الأمة لا في واقع الفرنجة، فهم هم في دياثتهم التي كانت فيما مضى، ولكن ما صحبوه هذه المرة من وسائل التطور الحديثة التي جاء بها نابليون: كالمطبعة، والتنقيب عن الآثار، والمدافع، وغيرها من الوسائل لم يكن يعرفها المسلمون، جعلتهم ينبهرون بهذه الحضارة الجديدة، ومع ذلك فقد كان هذا التأثر محدوداً ومحصوراً، وقد ذكر الجبرتي رحمه الله -وقد كان الجبرتي رحمه الله حنبلي المذهب، ومن هنا تأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، وتعاطف معها في كتابه وأيدها- أن اللواتي تأثرن بالحملة الفرنسية كن إما من الطبقة الدنيئة من اللاتي كن يمارسن البغاء والدعارة والرذيلة قبل مجيء الفرنسيين، وهذه الطبقة من أصلها هذا شأنها، والفريق الآخر هو أولئك النساء اللاتي أسرن، وفي الأسر أرغمن على أن يماشين الفرنجة ويلبسن كملابس نساء الفرنجة هكذا يقول رحمه الله، ولكن الذي حدث بعد ذلك في نهاية القرن الثالث عشر هو قدوم الإنجليز واحتلالهم لـ مصر، ثم بداية الحملة الصليبية الأخيرة وهي ما نسميه الاستعمار، وما هو في الحقيقة إلا حملة صليبية، ولكنها جاءت هذه المرة مدعومةً بالعلم، والاختراعات، والتطور المادي، والتخطيط البعيد المدى لإفساد هذا الدين وتدميره.

مؤامرات الصليبيين على الإسلام

مؤامرات الصليبيين على الإسلام لقد كاد أعداء الله تبارك وتعالى مع قدوم هذه الحملات، ومع النهاية الواحدة المتكررة لجميع حملاتهم الصليبية وهي الهزيمة العسكرية، فخططوا لهزيمة من نوع آخر يلحقونها بالمسلمين، فكانت تلك المؤامرة على هذا الدين وكانت تدور -على سبيل الإيجاز- في أربعة مجالات: المجال الأول: هدم العقيدة الإسلامية. وقد عملوا على ذلك بنشر الإلحاد والانحلال، وبعث وإحياء الفرق ذات العقائد المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وبعث الحضارات القديمة، وإثارة النعرات والجاهليات؛ بغرض إبعاد هذه الأمة عن عقيدتها. والمجال الثاني: هو تحطيم الشريعة الإسلامية وإبعادها عن مجال الحكم؛ لتحل محلها القوانين الوضعية والأوروبية الكافرة؛ ليطمئنوا على أن الحدود لن تقام، وأن أحكام الله لن يعمل بها، وإذا وصلت الأمة إلى هذا الحد فقد فقدت كل مميزاتها. والمجال الثالث: هو المجال الاجتماعي؛ حيث خططوا لإفساد المرأة المسلمة، وإخراجها عن وظيفتها وأمومتها وحجابها لتقلد المرأة الغربية في كل شيء، وهذا ما سعوا من أجله، وما نفيض إن شاء الله في الحديث عنه. والمجال الرابع: هو تحطيم وهدم اللغة العربية، والأدب العربي وما يتعلق به، وبذلك يتوصلون إلى قطع صلة المسلمين بالقرآن وبفهم كتب السلف الصالح وما في تراثهم من خير وهدىً وبركة، هذه الأربعة المجالات التي خطط لأجلها أعداء الله تبارك وتعالى. وأهم ما يهمنا الآن هو المجال الاجتماعي المتعلق بالمرأة، فإن هذا المجال هو المقياس الظاهر الواضح لتمسك أي بلد من البلدان بالإسلام، فأنت إذا زرت أي بلد من البلدان تستطيع أن تحكم على دين أهله من خلال وضع المرأة فيه، فإن كانت متسترةً متحجبة حكمت على المجتمع بالطهر والفضيلة، وإن كانت متهتكةً متخلعة علمت وأيقنت أن هذا مجتمع فاسد منحط -يعني في الأغلب والظاهر- لأن هذا هو المعيار الذي توزن به الأمم قديماً، وتوزن به الحضارات، حتى أن سولد اسبنجلر الذي كتب كتاب: تدهور الحضارة الغربية؛ يقول: هذا هو المعيار الذي يقاس به سقوط الحضارات من عدمها. الحضارات جميعاً تسقط وتنهار عندما تترك المرأة عملها ووظيفتها كأم وتتبرج وتتبذل، وقد استعرض حضارات كثيرة جداً في كتابه هذا وفي غيره. إذاً: أعداء الله يعلمون أهمية هذه القضية؛ ولهذا حرصوا عليها كل الحرص، وابتدأت المؤامرة كالعادة ساذجةً، أو بتخطيط غير عميق، ولكن الأمر يتطور ويزداد، لقد وجد أولئك القوم كاتباً نصرانياً بعد الاستعمار الإنجليزي ببضعة عشرة سنة يدعى مرقص فهمي؛ فقالوا: نريد أن تكتب عن المرأة كتاباً، فكتب كتاباً عنوانه: المرأة في الشرق، وتحدث فيه عن ظلم الإسلام للمرأة، مع أن هذا الصليبي الذي دينه وكنيسته وباباوات ورجال دينه يعتبرون المرأة شيطاناً رجيماً، وظلوا قروناً عديدة لا يعتبرون المرأة كائناً إنسانياً، واختلفوا في أوروبا هل المرأة لها روح أم ليس لها روح؟!! هكذا كانت أوروبا الصليبية، ومع ذلك يقول مرقص فهمي المحامي في كتابه المرأة في الشرق: إن المرأة في الشرق مظلومة؛ وسبب ذلك هو التشريعات الإسلامية، وطالب بإلغاء الحجاب، وفي خروج المرأة من البيت، وحتى طالب بأن يسمح للأقباط -لأنه قبطي- أن يتزوجوا النساء المسلمات هكذا يريد هذا الهدام! ولكنه لم يتمكن من تحقيق ما يريد.

نشأة دعوة تحرير المرأة والمؤامرة عليها

نشأة دعوة تحرير المرأة والمؤامرة عليها للعلم -أيها الإخوة- أن اللورد كرومر الذي هو أساس التخطيط للإفساد العلمي والاجتماعي في العالم الإسلامي هو يهودي الأصل، وقد جاء إلى مصر لأهداف مبيتة، وأغراض خفية ظهرت فيما بعد، والذي ذكر يهوديته هو كاتب مؤرخ بريطاني معروف، فهذا الرجل اليهودي الخبيث جاء ومعه دنلوب -أيضاً- وهو قسيس خبيث آخر، ولا يبعد أن يكون من أصل يهودي أيضاً، كانوا يخططون لهدم هذا الدين. وجدوا من أسرة محمد علي امرأةً لا تزال هي الصنم الذي يقتدي به المجرمات في كل زمان وفي كل بلد من أنحاء العالم الإسلامي وبالذات العالم الناطق باللغة العربية، وهي الأميرة نازلي، هذه الأميرة نازلي حفيدة إبراهيم بن محمد بن علي باشا، وإبراهيم بن محمد علي باشا معروف ما الذي صنع بأرض الجزيرة، وما الذي فعل ببلاد التوحيد؛ حيث هو الذي دمر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه عندما قاد الحملات، حفيدته الأميرة نازلي التي أصبحت زوجةً للملك فؤاد وأماً للملك فاروق، في آخر أيامها -نسأل الله العفو والعافية- ارتدت عن الإسلام، ودخلت في دين النصرانية هي ومن كان معها عياذاً بالله! هذه المرأة الخبيثة كان اللورد كرومر يجلس في صالونها، وكان يجلس معه بعض المخططين لتنفيذ المخطط والمؤامرة على الإسلام وعلى المرأة المسلمة، وممن كان يرتاد هذا الصالون -كما هو ثابت في جميع المصادر التاريخية- الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وكثير من النصارى الذين كانوا يرأسون مجلة المقتطف وغيرها، وكذلك مرقص المحامي، كل هؤلاء كانوا يجلسون في ذلك الصالون -صالون الأميرة نازلي - ويتحدثون كيف يخططون للقضاء على الحجاب، وإخراج المرأة المسلمة من الحجاب إلى التحلل وإلى الإباحية. ويشاء الله سبحانه وتعالى أن مستشرقاً فرنسياً يكتب كتاباً يتهجم فيه على الإسلام والحجاب، فانبرى له كاتب جاهل لا علم له ولا فهم يدعى قاسم أمين، وكان شاباً نزقاً لا يفقه في الدين شيئاً، فأخذ يرد ويهاجم المستشرق داركور، وشاء الله سبحانه وتعالى أن أولئك يتنبهون لخطر هذا الشاب، فاستدعي، وإذا به يعلن تراجعه عما هاجم فيه ذلك المستشرق، وإذا به هو يكتب كتاباً بعنوان: تحرير المرأة، وهو الكتاب الذي يعتبر إنجيل أو نبراس دعاة الاختلاط في كل زمان ومكان. والعجيب أن كثيراً من فصول هذا الكتاب لو قرأتموها تجدون أنه لا يمكن أن يكتبها إلا متضلع بالأحكام الشرعية وبالفقه وبالأصول، ولهذا نُسب في أكثر من مصدر إلى أن الشيخ محمد عبده هو الذي كتب الكتاب أو كتب بعضه؛ لأن قاسم أمين كان يعمل مترجماً للشيخ في فترة من الفترات في مجلة العروة الوثقى. والحاصل أن هذا الكتاب قد ظهر من صالون كرومر ونازلي، ماذا كانت دعواه أيها الإخوة الكرام؟ ماذا تتوقعون أن يقول؟ هل يدعو إلى الاختلاط؟ هل يدعو إلى الرذيلة، إلى البغاء، إلى الزنا، إلى الأفلام الخليعة، إلى كذا؟ لا، كان يقول: إن المرأة لا يجب عليها أن تغطي وجهها وكفيها؛ هذا الذي دعا إليه فقط؛ لأن المرأة المسلمة إلى ذلك الوقت كانت متحجبةً الحجاب الكامل، أي: إلى قبل ثمانين سنة لم يكن في مصر، وهي أول بلد عربي ترك نساؤه الحجاب وبدأت فيه هذه الحركة، إلى ذلك الوقت لم يكن هنالك امرأة مسلمة فيه إلا وهي متحجبة الحجاب الكامل، تغطي وجهها وكفيها وكل جسمها. ولما طالب بذلك قاسم أمين، والعجيب أن قاسم أمين نفسه كانت زوجته محجبةً الحجاب الكامل، ولم يكن يسمح لأحد أن يراها أو أن يخلو بها؛ لأن المجتمع ما يزال تمسكاً بالمبادئ الإسلامية، والبداية هي هذه. وهنا أيها الإخوة يجب أن نقف وقفة! ففي كل مجتمع -والعملية واحدة والمؤامرة واحدة- تبدأ الدعوى فقط في الحديث عن الوجه والكفين، وبالقول بأنه لا حرج على المرأة أن تكشف وجهها وكفيها، ولكن بم تنتهي؟ تنتهي بنوادي العراة، وبالأفلام الجنسية القذرة، وإلى نهايات لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، لكن البداية هي من هنا، والمؤامرة واحدة في كل مكان وفي كل بلد، وهذا يجب أن يعلم؛ ولذلك كشر قاسم أمين عن أنيابه وكشف عن الحقيقة بعد ذلك بأعوام عندما ألف كتاب: المرأة الجديدة، ودعا فيه بصراحة ووضوح: إلى أنه يجب على المرأة المسلمة أن تقتفي نهج المرأة الأوروبية -أو قال: أختها الغربية- في كل شيء. وهكذا كشف القناع عن حقيقة المؤامرة، وبعد ذلك وبتحريض من الإنجليز وبرعاية منهم ظهرت أو ارتبطت الحركة النسائية بالحركة التي تسمى الحركة الوطنية.

الحركة الوطنية بداية المؤامرة

الحركة الوطنية بداية المؤامرة ونقف هنا أيضاً -أيها الإخوة- وقفةً أخرى؛ لأن العملية واحدة وتعاد وتكرر الأسطوانة في كل بلد، قيل: إن المرأة المصرية لابد أن تشارك في طرد الإنجليز والمستعمر، ولابد أن تسهم في خدمة وطنها، وفي بناء بلدها، وفي الخدمة الاجتماعية، وفي القيام بالواجب، نصف المجتمع لا يبقى معطلاً إلى آخر ما قيل في ذلك الزمن. ومن هنا استغلت الحركة التي كان الإنجليز ينظمها ويرعاها -الحركة الوطنية- وخاصة حزب الوفد الذي كان يرأسه سعد زغلول، دخلوا من هذا الباب، وتبنى أولئك ما يسمى بتحرير المرأة، فكانت زوجة سعد صفية قد نسبت نفسها إليه، فسمت نفسها صفية زغلول وتركت اسم أبيها، وتبنى امرأة هي التي تسمى رائدة الحركة النسائية؛ لأنهم وجدوا أن قاسم أمين رجل، ولابد أن تكون الرائدة امرأة، فهذه المرأة هي هدى شعراوي، دخلت في حزب الوفد وتبناها سعد زغلول، وأفسح لها المجال، ومعها المدعوة الأخرى سيزا نبراوي، ومن هنا بدأت المؤامرة بأيادٍ نسائية. وعندما قامت الثورة المصرية عام (1919م) -الثورة على الإنجليز كما سميت- وكانت ثورةً علمانية حيث كان شعارها: (الدين لله والوطن للجميع) وخرج الناس وقالوا: يجب أن نخرج جميعاً: اليهود والنصارى والمسلمون، واليهود في ذلك الوقت خرجوا علناًَ في مصر، للتظاهر ضد الاستعمار، فكان ممن خرج وشارك في هذه المؤامرة هدى شعراوي، ولجنة الوفد المركزية للسيدات كما سميت، خرج الوفد وخرجت معه هؤلاء السيدات في مظاهرة ضد الإنجليز، وكانت أغرب مظاهرة من نوعها في العالم الإسلامي، ولأول مرة تحدث أن النساء يخرجن ويظن أنهن في المظاهرة يحررن البلد ويشاركن في التنمية. وكانت كثير من الخارجات متحجبات، حتى إن بعضهن مغطية الوجه أيضاً؛ لأن المسألة لم تكن قد أخذت بعداً واقعياً كثيراً، وكان الحجاب هو الأصل، وكانت التي تنزع عن وجهها الحجاب ينظر إليها على أنها فاجرة ودنيئة ودنسة، ومن أسرة لا أصل لها ولا قيمة لها إلى آخر ما يقال. وحرص سعد زغلول على أن يقام سرادقات ضخمة لاستقباله لما رجع من المنفى -كما يسمى- ودخل المعسكر، وكن محجبات، ونزع الغطاء من فوق وجه هدى شعراوي وأمر الباقيات أن ينزعن، فنزعه بعضهن وأخذن يهتفن ويصفقن ويقلن: هذه الوطنية، وعاش الوطن، وليسقط الإنجليز‍. ما علاقة خروج الإنجليز وما علاقة الوطن بهذا التهتك؟! وما علاقة ذلك بالحرية؟! وما علاقة الحركة الوطنية؟! هكذا أيها الإخوان تربط القضية هذه بتلك، ويقال: إن خدمة الوطن لا تتم إلا بالتبرج والتهتك والتعري، فلو أن امرأة مسلمة قدمت لأمتها خدمة مثلاً في التعليم -ولو أمضت العمر كله وهي تعلم- أو في الطب ولكنها محجبة لا يذكرها أحد، ولكن إذا تهتكت وتعرت واشتركت في الأفلام، وفي مسابقات فنية، أو في أي شيء مما لا يرضاه الله تعالى تحدث عنها القاصي والداني واعتبروها رائدة، ورفعت سمعة بلادها، وساهمت في تنمية وطنها إلى غير ذلك. الاسطوانة واحدة تعاد وتكرر في كل مكان. ثم بعد ذلك أذن لهن سعد زغلول أن يشكلن لأول مرة في تاريخ الأمة الإسلامية تنظيماً نسائياً، وتشكل هذا التنظيم النسائي، وستعجبون إذا عرفتم أن المكان الذي انطلق منه هذا التنظيم وخرجت منه المظاهرة هو الكنيسة المرقصية، كنيسة القديس مرقص صاحب الإنجيل، في الكنيسة تجمعن -هؤلاء حزب الوفد- وهن مسلمات في الأغلب، وخرجن من الكنيسة يطالبن بترك الحجاب، وبالتحلل منه؛ لتعلموا ماذا تريد المؤامرة!

إقامة المؤتمرات الدولية النسائية

إقامة المؤتمرات الدولية النسائية وانطلق التنظيم وتشكل، وشارك في مؤتمرات دولية، منها المؤتمر النسائي الأول في روما، والمؤتمر النسائي الثاني في أثينا. وهنا أيضاً نقف وقفة عجيبة: لم تصدق المؤتمرات الدولية أن المرأة المسلمة ستترك الحجاب، وحدث أنه في المؤتمر الذي عقد في روما أن جاءت الممثلات اللاتي يمثلن الوفد المصري وكن متكشفات إلا واحدة، انظروا أيضاً من دعاة تحرير المرأة، وجاءت وهي محجبة حجاباً كاملاً، حتى وجهها لا يرى، انظروا حتى لا يقال: المجتمع -الحمد لله- طيب، والنساء محجبات، لماذا تخافون؟ كانت التي تدعو إلى التحرر وعضوة الوفد للتحرر لم تستطع من الحياء أن تنزع الحجاب عن وجهها أمام الأجانب الأوروبيين، ومع ذلك انظروا حال المرأة المسلمة اليوم، والعملية واحدة، والخطة واحدة‍، فأعضاء الوفد قالوا: أنتن غير مصريات. يقول لـ هدى شعراوي وسيزا نبراوي: أنتن غير مصريات، مصر استعارتكن لتمثلنها، وأبوا أن يصدقوا أن امرأةً مسلمة تنزع الحجاب، قالوا: هذه التي لم تنزع الحجاب مصرية، هي التي تتكلم باسم المرأة المسلمة في مصر حتى أقنعنهم بالجهد حتى اقتنعوا، وصدقوا أن النساء الثلاث مصريات. ومن هنا بدأت اللعبة تدخل إطاراً عالمياً جديداً، وتقول هدى شعراوي: إنها تشرفت بمقابلة موسوليني -الزعيم النازي الفاشي المعروف- قابلته، ثم بعد ذلك أخذت الصحافة الإنجليزية تشيد إشادةً عظمى بحركة تحرير المرأة وبدورها وبنشأتها وتطورها، وأخذ الكتاب من أمثال لطفي السيد وطه حسين، وكثير ممن شابههم يكتبون عن هذه القضية.

إقامة الأحزاب النسوية

إقامة الأحزاب النسوية هنا نقف أيضاً ونتذكر شيئاً آخر: في هذه المرحلة -وهي مرحلة الحرب العالمية الثانية- كانت أمريكا قد برزت وأخذت تتسلم قيادة العالم الغربي، ومن ثم ورثت الاستعمار الغربي بكل ضروبه وأنواعه، ونجد الرئيس روزفلت، وتعلمون أن أول رئيس تمكن اليهود من السيطرة عليه بشكل واضح جداً هو ترومان، ثم بعده روزفلت، وكانت زوجة روزفلت من أعظم المهتمات بشئون ما يسمى تحرير المرأة، وتبنت زوجته الحركة، وأخذت تنفق عليها، وأقامت علاقات مع درية شفيق وأمثالها، ومع حزب بنت النيل، هذا الحزب النسائي، وتأسست أحزاب أخرى تسمى الأحزاب النسائية، وكان غرضها المطالبة بحقوق المرأة حتى طالبوا بمساواتها في الميراث، وطالبوا بخلع الحجاب، وطالبن بالتحلل الكامل من كل أحكام الشريعة الإسلامية. وهنا يشاء الله سبحانه وتعالى وهو الذي تكفل وتعهد بنصر دينه ولو كره الكافرون، وبأن يخزي أعداءه في الدنيا والآخرة، وبأن ينصر الذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد: أنه حصل خلافات سياسية بين الأحزاب أدت إلى كشف الأوراق على حقيقتها، وإذا بحزب بنت النيل يفضح على رءوس الملأ وفي الصحف، ويكشف أن السفارتين الإنجليزية والأمريكية هما اللتان تمولان هذا الحزب والأحزاب الأخرى، وأن الذين بنوا لهم مقراً من الأثرياء الأمريكان، وبعضهم من اليهود، وأن اللاتي شاركن فيه هن متآمرات متواطئات مع الاستعمار ومع أهدافه وخدمته. وما أن انكشف ذلك حتى أيقظ الله تعالى من كتبت لها الهداية واليقظة، وأحس الناس بخطر الأمر وارتفعت الأقلام من جديد بالمطالبة بالقضاء على هذه الحركة الخبيثة اللئيمة قبل أن تستشري عدواها، هذا على المستوى الفكري. أما على المستوى العملي: فأنشئت أول دار للسينما، وأنشئت مراكز أيضاً بما يسمى الترفيه والرقص، وكانت النساء اللاتي يشاركن فيه يهوديات وقبطيات، وبعض المسلمات اللاتي تعمد إدخالهن، وعد ذلك من تحرر المرأة ومن نهضتها وتقدمها كما يقال. ثم بعد ذلك لما قام ما يسمى بالثورة قامت وتحولت مصر دولة اشتراكية -كما هو الحال في كثير من دول العالم الإسلامي- أخذ الأمر بعداً أعظم من ذلك، وأصبحت المسألة مسألة حرب سافرة على الإسلام والمسلمين، حتى خلت الجامعة من كل محجبة، وفرضت على المرأة المسلمة شاءت أم أبت أن تكون أوروبية غربيةً بمعنى الكلمة، وكبت صوت الحق وقد كان يقاوم هذه الصرخات والدعوات. ولا يخفى عليكم ماذا نتج بعد ذلك، وماذا حصل أيضاً بعد الهزيمة المنكرة التي حلت بأولئك المجرمين في عام (1967م) وذلك عندما قامت دعوات من جديد، ورجعة في صفوف الشباب إلى الدين، وعاد الحجاب من جديد إلى الجامعة، وأصبح هذه المرة الدعوة إلى الحجاب دعوةً إسلاميةً سلفية، تقوم على التمسك بالحجاب؛ لأنه من عند الله، لا لمجرد أنه من العادات. وهنا تعالى الصراخ وما يزال إلى اليوم يتعالى، وتحدث الدكتور زكي نجيب محمود يقول: ما هذه الردة -سماها ردة -‍التي وقعت فيها المرأة في مصر بعد أن تحررت وانطلقت ترتد الآن للحجاب، وكتبت أمينة السعيد عدة كتابات، وكتباً كثيرة، وما تزال الصحف ووسائل الأعلام التي يملكها هؤلاء تكتب الآن عن هذه الظاهرة، والعجيب أن يقع في فخاخ ذلك أيضاً دعاة أو كتاب ومفكرون يقولون: كيف تتحجب المرأة؟ كيف تغطي وجهها؟ كيف ترجع إلى ما كانت عليه من عادات فارسية وتركية ليست من الدين في شيء؟ واتسع نطاق المؤامرة، ولا يهمنا بعد ذلك العرض التاريخي الذي لا يخفى على أحد منكم، وإنما نقول: هذا هو المسلسل أو المخطط العام لهذه المشاهد والفصول لهذه القضية المهمة. وبعد ذلك نقول: ماذا يريد هؤلاء؟ وماذا حققوا للمرأة؟ وماذا يجب علينا إزاء هذه الدعاوى الخطيرة؟

واقع المرأة الغربية

واقع المرأة الغربية لعلنا إن تحدثنا عن المرأة المسلمة أن يقال: إن هذا الأمر نتيجة اقتصادية، أو عائلية، أو أوضاع دينية لا علاقة لها بمسألة التحرر أو التحرير، فاسمحوا لي أن أتحدث عن واقع المرأة الغربية التي يريد هؤلاء أن ينقلوا المرأة المسلمة لتكون مثلها، هناك لا يستطيعون أن يتحدثوا عن هذه الأمور، فما هو واقع المرأة في الغرب في الدول التي تطبق ما يريده دعاة الاختلاط والانحلال أن يدعو إليه المرأة المسلمة، البلاد القدوة لهؤلاء كيف حال المرأة فيها؟ ما قصتها؟ كما أشرت كان الغربيون ينظرون إلى المرأة على أنها شيطان، رجس، وأنه ليس لها روح، وكان كثير من الباباوات أو من القديسين -كما يسمون- يقول: إن الشيطان ظهر له في صورة امرأة، ودعاه إلى ترك الدين -أو ما أشبه ذلك- فكانت عندهم رمز الرجس ورمز الرذيلة، ولأن -كما تقول التوراة المحرفة التي كتبوها بأيديهم- المرأة هي التي أغرت الرجل -أي: آدم- بارتكاب الخطيئة والأكل من الشجرة. وعندما قامت الثورة الفرنسية مطالبةً بما أسموه حقوق الإنسان وحرية الإنسان حصلت المرأة على شيء مما يمكن أن نعتبره اعتراف بأنها إنسان، وبأن لها روح، وبأنها بشر، وأخذ المفكرون والأدباء يدعون إلى ذلك، وإن كانت دعوتهم تتلبس بالرذيلة والكلام عن البغايا، والرأفة بهن والشفقة عليهن، وتتحدث عن الراهبات وأنهن منافقات ويزنين في السر وما أشبه ذلك؛ لكن بدأ هناك شعور في أوروبا أن للمرأة روحاً، وأنها إنسان وليست بشيطان. ثم جاءت الثورة التي تسمى الثورة الصناعية، وهي التحول الاجتماعي الكبير الذي حدث في أوروبا نتيجة الانتقال من الإقطاع إلى الصناعة، وهناك اضطهدت المرأة اضطهاداً شنيعاً، -كما في التاريخ الأوروبي- فكانت المرأة الأوروبية تعمل لمدة ثماني عشرة ساعة وهي تعمل في مناجم الفحم تحت الأرض، وتجر العربات المحملة بالفحم كالحيوان لتصعد بها إلى أعلى المنجم، فكن يشتغلن في أعمال شاقة جداً ولا سيما مع الحروب، ومع الفتن التي تؤدي إلى أن المرأة تحتاج ولا تجد من يعولها ولا من ينفق عليها. فحينئذ قامت حركات في الغرب تنادي بأن تتحرر المرأة، وأن تتعادل في الأجر مع الرجل، وأن تساوى به في الحقوق؛ لأنها مهضومة. واستمر الحال، وجاءت الحربان العالميتان فزاد الأمر سوءاً؛ لأن الملايين من الشباب والآباء قتلوا، فكثر عدد النساء، واضطررن إلى الابتزاز ليجدن ما يتكسبن ويعشن منه. والقوانين الأوروبية والفرنسية والإنجليزية وغيرها لا تسمح للمرأة بالتملك إلى هذا اليوم، والمرأة ممنوعة في كثير من الدول أو في بعض منها أن يكون لها حق الانتخاب، وإلى هذا اليوم والمرأة ممنوعة من أن تملك شيئاً أو مبلغاً أو مالاً وتضعه باسمها، حتى أني أذكر قبل حوالي شهر نشرت جريدة سعودية خبراً تعليقاً على خبر، شيء عجيب يقول الخبر: إن امرأةً سعودية لها تركة فيها ملايين وعملت مصنعاً، تملك هذه المرأة مصنعاً!! فتقول الكاتبة -وهي من دعاة التحرر-: هذه فرصة عظيمة للمرأة السعودية أنها بدأت تملك شيئاً، وأنه يجب عليها أن توظف النساء في هذا المصنع. سبحان الله! يعني غريب في الدين أن المرأة تملك مصنعاً!! لو أن رجلاً توفي وعنده ثلاثة مصانع، وعنده ولد وبنت كيف نقسم التركة؟ بديهية معروفة: البنت تأخذ مصنعاً والولد مصنعين، من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومنذ نزول آيات الميراث والتركة تقسم بأن للذكر مثل حظ الأنثيين، فما هو العجيب؟! قال: هذا شيء عجيب أن امرأة سعودية تمتلك مصنعاً؛ إذاً: لازم أن يكون العاملون فيه من النساء سبحان الله؟! من أين جاء هذا اللزوم؟ لأنهم ينظرون بعين الغرب حتى إلى بلادهم التي فيها تنعم المرأة والحمد لله بما لا تحلم به أي امرأة في الدنيا. هناك المرأة الأوروبية تريد أن يعترف بها كإنسان -كما قلت- أن يعترف لها بحرية التملك، بأنها تملك شيئاً ما، أن يعترف لها ببعض الحقوق وهي لا تستطيع أن تحصل على ذلك. هنالك المرأة إذا بلغت الثامنة عشرة تطرد من البيت، نعم يطردها أبوها، ولا تعيش مع الأسرة، وتذهب لتكدح بأي وسيلة من الوسائل، وفي أي بلد من بلدان العالم، تكدح وتحمي نفسها من الابتزاز، وتنفق على نفسها، وتبذل شرفها وعرضها من أجل لقمة العيش؛ وهذا أمر عادي جداً في العالم الغربي؛ ولهذا رأى كثير من الناس المظالم التي تنزل بالمرأة فقالوا: لماذا تبقى المرأة هكذا؟ لماذا هذا التعصب والعنصرية من الرجال ضد النساء، وهو تعصب واضح، قالوا: لماذا لا تساوى بالرجل في الأجور؟

فشل الجمعيات النسائية المطالبة بحقوق المرأة

فشل الجمعيات النسائية المطالبة بحقوق المرأة في الولايات المتحدة الأمريكية في الستينيات -على ما أظن (1968م) أو (1964م) - صدر قرار في الولايات المتحدة الأمريكية بأن الرجل والمرأة إذا كانا يعملان في مكان واحد في عمل واحد أن تكون أجرة المرأة مساوية لأجرة الرجل ما شاء الله، الآن في أرقى دولة في العالم نفس العمل ونفس الوظيفة ونفس الشهادة، والآن تذكروا أنه لابد أن يكون لها نفس الأجر. إذاً: هم يطالبون بالتحرر لأن واقعهم هكذا، ومع ذلك لم يطبق القرار فالشركة التي تريد أن تبتز المرأة تجعلها تكتب تعهداً على نفسها بأنها تقبض مثل الرجل وتقر بذلك، وتعهد خفي آخر بأنها لا تقبض إلا أقل، ولا تطالب الحكومة، ولا تقيم دعوى ضد الشركة، وهذا هو المعمول به. مظالم كبيرة جداً تنزل بالمرأة الغربية لأنها امرأة فماذا يعملون؟ قالوا: لابد من وجود حركة نسائية، وجمعيات نسائية تجابه هذا التسلط الطاغي الباغي، فالمرأة لا أحد يعولها، لا أحد يرحمها، لا أحد يشفق عليها، محاربة من كل مكان ما الحيلة؟ قالوا: تجمعن يا نساء، طالبن بحقوقكن؛ فأنشأن الجمعيات النسائية لماذا أنشئت؟ قالوا: حتى تطالب بحقوق المرأة جماعياً ما شاء الله. حسناً: حزب الأحرار يريد أن يفوز في الانتخابات فيقول: إذا فزنا في الانتخابات نعطي المرأة ونعطي ونعطي، فتصوت معه النساء، فإذا كسب الانتخابات تنكر لها وأصبح مثل حزب المحافظين، وكذلكم فرنسا، وكذلك في كل دولة يستغلون المرأة ليكسبوا الأصوات النسائية، فإذا حكموا تخلوا عما وعدوا به المرأة، لا فائدة، حتى أن هذه الجمعيات لم تؤد دورها، لكن كما يقال: بدل أن تبكي وحدك اذهب في مأتم. يعني: بدل أن تبكي المرأة وحدها تدخل في مأتم تبكي مع ألف امرأة أحسن من أن تبكي وحدها، تدخل في جمعية، والجمعية هذه تبكيهن، وتسليهن، نطالب نطالب نطالب، ولكن لا فائدة في المطالبة. فهي امرأة مظلومة فعلاً، وحقوقها مهدرة بالفعل، ولا تجد من يحميها، ولهذا في أحد مؤتمرات المستشرقين تكلم كثير من المستشرقين على أن الإسلام يظلم المرأة ويضطهد المرأة ويفعل بها، فقام الدكتور أحمد الشرباطي رحمه الله -راوي القصة- رافعاً يده حتى يرد على هذا الافتراء، فقامت امرأة كانت تشغل منصباً كبيراً في وزارة الثقافة الألمانية، قالت: أنا أتكلم. فقاطعها فقاطعته، فظن أنها تقاطعه لتؤكد الأمر، قالت: أنا أريد أن أجيب عنك، فقالت: أيها السادة! لماذا تتكلمون وتتهمون الإسلام لأنه يبيح تعدد الزوجات؟! هذه القضية التي دائماً تكررونها، لأنه يجعل المرأة الرابعة، قالت: أنا أريد أن أكون المرأة الرابعة والثلاثين؛ بشرط أن أجد رجلاً يحميني من اللصوص ويؤويني إذا كبرت أو عجزت إلى آخر ما تحدثت به، الرابعة والثلاثين! تقول: نحن مستعدات! هذه المرأة الغربية التي يريدون للمرأة المسلمة أن تقتدي بها وأن تكون مثلها. الحركة النسائية الغربية دخلها الهدامون أيضاً، وأخذوا يقولون: نطالب بالمساواة في الأجور حسناً، نطالب بالمساواة في الحقوق حسناً، ماذا بعد ذلك؟ قالوا: نطالب بحرية الإجهاض، نطالب بمنع الزواج سبحان الله! هذا من حقوق المرأة! لكن المفسدون دخلوا حتى في هذه الجمعيات يريدون أن يفسدوا المجتمع أكثر؛ ولهذا ظهرت حركات مضادة للحركة النسائية، وتدعو إلى سيطرة الرجل، وإلى دوام تسلطه على المرأة، وأن المرأة لا يصح أن تولى أي شيء، ولا يصح أن تملك أي شيء، واستمر الصراع بين الحركة النسائية والحركة النسائية المضادة، والكل لا شريعة لديه ولا وحي يهتدي به، صراعات وآراء، مظاهرات تقوم لصالح المرأة ولا نتيجة لها، مظاهرات تقوم ضدها ويكون الهدامون يعملون من ورائها، حتى أصبحت النساء يطالبن بالعودة إلى البيت، ويطالبن بأن ترجع إليهن شيء من كرامتهن في عصور الإقطاع، يترحمن على عصور الإقطاع القديمة؛ لأنهن الآن يمارسن إقطاعاً من نوع بغيض كريه في ظل الحضارة الرأسمالية الغربية. أما الدول الشيوعية فماذا تقول؟ حدث ولا حرج عما تعانيه المرأة هناك من تسلط، ومن ظلم، وهكذا. إذاً: لا عدل ولا رحمة ولا إنسانية إلا في شرع الله سبحانه وتعالى، وإلا في دين الله عز وجل. وإن مما يجب أن نتحدث عنه هو: ماذا يريدون من هدم المجتمع المسلم ومن إخراج المرأة المسلمة من حجابها؟ ما هي بعض الأهداف التي يحققها دعاة ما يسمى التحرر؟

كثرة عدد المسلمين تقلق الغربيين

كثرة عدد المسلمين تقلق الغربيين إن الغرب يجد نفسه -أيها الإخوة- أقليةً، يوماً بعد يوم يتحول الغرب - أوروبا وأمريكا - إلى أقلية بالنسبة لدول العالم، وإن الشيء الوحيد الذي يملكه الغرب الآن ويتفوق فيه على جميع شعوب العالم، وبه يمتلك الدنيا أو معظمها هو: التقدم والتفوق التكنولوجي المادي، فقالوا: الآن التكنولوجيا سرقتها منا اليابان وكوريا وبعض الدول، وفي الإمكان أن تتفوق علينا، لكن الشيء الأساس التفوق الإنساني، التفوق الإنساني يا أمة الإسلام! الغرب أدرك أن أهم شيء هو التفوق الإنساني لا المادي، ومن ذلك التفوق في العدد البشري، إذا بقي الحال هكذا كما في إحصائيات نشرت، فإنه بحلول عام ألفين يصبح عدد سكان مصر أكثر من مائة مليون، وعدد سكان إندونيسيا أكثر من مائتين وعشرين مليون، وبمعنى آخر: يصبح عدد سكان مصر وإندونيسيا موازٍ لعدد سكان أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا شيء مفزع جداً لهم، ما بالك بالدول الأخرى. إذاً سيتحول الغرب إلى أقلية بالتدرج، فوجدوا بدراسات إحصائية مستفيضة أن نسبة الوفيات في بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وأكثر دول أوروبا أنها أكثر من عدد المواليد، لماذا درسوا ذلك؟ لأنهم وجدوا أن السبب تأخر سن الزواج، وأن السبب هو خروج المرأة للعمل، فإذا خرجت المرأة للعمل ترتبت مفاسد عظيمة، منها: أنها لا تتزوج، وبالتالي تريد أن تصرف وتنفق راتبها بالزينة، وبالتهتك، وفي أماكن اللهو الرخيص، ولم تتحمل أعباء الحمل والوحم والولادة ومشاكل البيت، ولو تزوجت فنسبة الطلاق في ارتفاع مذهل في الدول الأوروبية فماذا يفعلون مع وجود ما يسمونه التحرر الجنسي والحرية الجنسية؟ لماذا ترتبط المرأة برجل ولماذا يرتبط بها؟ فإذاً فلتبق هكذا، فنتيجة لذلك لم يعد هناك لدى الأمة مواليد بقدر الوفيات، ومع الزمن تشيخ الأمة وتهرم، وتموت بعد ذلك إذاً: نهاية الغرب في أحد جوانبها مرتبطة بعدد السكان، ولهذا حرصوا على هدم المجتمع المسلم، وانظروا إلى مصر بالذات لأنها تشكل كتلة بشرية كبيرة بالنسبة للعالم الإسلامي، ولمجاورتها لإسرائيل، كم يحرصون أشد الحرص على إقناع المسلمين في مصر بأن يقللوا من عدد المواليد، ويقللوا من عدد الأسرة، بينما الأقباط يريدون أن يكثروا ليصبحوا أكثرية أيضاً، وفي الهند كذلك، وفي سيرلانكا سمعتم الأخبار الأسبوع الماضي تعقيم المسلمين إجبارياً حتى لا ينجبوا، وحتى لا يكثروا! الاتحاد السوفيتي درسوا دراسة إحصائية، وجدوا أن ثلث السكان من المسلمين، وأن نسبة توالدهم في ازدياد، حيث يمكن أن يصبحوا بعد مائة سنة ثلثي سكان الاتحاد السوفيتي، وإذا انتهى الاتحاد السوفيتي أصبحت أكثر الدولة إسلامية هذه قضية مهمة يغفل عنها دعاة تحرير المرأة عندنا -مع الأسف- في بلاد الإسلام، ولا يبالون بها لأنهم منساقون وراء أعداء الله وكفى. ألمانيا وضعت خمسين ماركاً للمولود الأول، منحة وإعانة، والثاني سبعين، والثالث مائة وعشرين، من أجل أن يكثر عدد الأطفال، ويقولون: المصيبة أن الذي استفاد من هذا هم المسلمون الأتراك العمال؛ لأنهم مليونان تقريباً ويعملون في ألمانيا، فالأتراك يكثر نسلهم؛ إذاً هذه مصيبة جديدة. في فرنسا قالوا: ما استفدنا شيئاً؛ لأن المهاجرين من شمال أفريقيا وهم من المسلمين أيضاً، والمسلم -الحمد لله- أينما حل يحرص على الزواج، وإن ارتكب الحرام لكن يبقى عنده هم أنه لو أمكن الزواج فسأتزوج. أيضاً في فرنسا استفاد المسلمون من المغرب شمال أفريقيا من الإعانات ولم تستفد منها فرنسا القاصية إلا القليل؛ وهكذا أصبحت هذه قضية مهمة تتحدث عنها الصحافة الغربية يومياً تقريباً، وقالوا: لابد أن نصدر هذا الوباء إلى العالم الإسلامي أيضاً، وبالذات الدول التي أنعم الله تبارك وتعالى عليها كدول الخليج، دول أنعم الله عليها بالثروة، وتعتمد على العمالة الأجنبية، وتعتمد على الأيدي المستقدمة، هذه لو كثرت -وهي أقرب المجتمعات إلى الفطرة وإلى النقاوة - ولو أصبحت هناك كثافة سكانية كبيرة، لاستغنت عن استقدام هؤلاء ومنهم الكفار وغيرهم ولكان لها قوة.

عمل المرأة والأخطار الناتجة عن ذلك

عمل المرأة والأخطار الناتجة عن ذلك الأمم الآن يا إخوان -كما أشرت- أدركت أن الإنسان هو المهم وليس الآلة، الإنسان هو الأساس، والأمة الإسلامية وإن قل عددها لكن إذا تمسكت بدينها فهي التي تقيم الحضارات وتكون أعظم من أي أمة كافرة؛ لأن الأمريكي الذي يكتشف، أو يطلق الصواريخ في الفضاء أو ما أشبه ذلك هو إنسان منحط أخلاقياً، كم يقضي في الخمر! كم يقضي في الزنا! نحن نعلم جميعاً أن المعاصي تضعف وتنهك البدن، وتنهك الأمة، مع ما في أمريكا من المفاسد والمخدرات التي أقلقت المسئولين، وكل شيء تخترع وتصنع، كيف لو أن الأمة الإسلامية التي تحتفظ بعقلها؛ وبقواها البدنية؛ لأنها لا تزني، ولا تسرق، ولا تشرب الخمر، ولا تمارس الدعارة والفساد والمخدرات، كيف لو أن هذه الأمة أخذت بالتكنولوجيا ولديها المال والحمد لله ثم زاد عدد سكانها؟! إذاً: لا تغلب هذه الأمة أبداً هكذا يخططون؛ ولهذا نجد أن ما يشكى عنه في الجرائد، كل يوم: زيادة العنوسة، ومشكلة تأخر الزواج وما إلى ذلك، أن جزءاً منها على الأقل مما يخطط له أعداء الله، ومما يريدونه؛ لأنهم جعلوا مناهج الفتيات كمناهج الأولاد سواءً بسواء، وأصبحت إن أخذت الشهادة الجامعية كالابن يعزف عنها الشباب؛ لأنه لا يريد أن يتزوجها؛ لأسباب عديدة تتكلم عنها كثيراً الجرائد لا داعي أن أعيدها عليكم، وإن أخذت شهادةً أقل تشعر أنها قد لا تتزوج إذاً لا تعمل، ربط الحصول على العمل بالشهادة، وربطت الشهادة بمنهج الأولاد ونفس المراحل، هذه المصيبة التي خطط لها أعداء الله حقيقةً، وهي التي يجب على الأمة الإسلامية أن تعيد النظر فيها. لو أنه وجد للمرأة تعليم مستقل تماماً عن التشبه بتعليم الرجال، ولم يربط مطلقاً بمسألة الوظيفة لكانت الأمة بخير عظيم، ولتجنبت كل هذه الشرور والمفاسد. ثم ما الذي ينتج إذا عملت المرأة كما هو واضح؟ إذا عملت المرأة أولاً تنافس الرجال في الوظائف، الدولة التي عندها عشرة آلاف وظيفة مثلاً، وتخرج عشرة آلاف خريج وعشرة آلاف خريجة، إنها ستعطي خمسة آلاف منهن خمسة آلاف وظيفة؛ فيتعطل خمسة آلاف شاب فيتحولون إلى مجرمين، وإلى لصوص، وإلى مدمني مخدرات، وإلى ما لا يحتاج إلى أن يذكر لمعرفته في الإحصائيات العالمية. أما الخمسة آلاف اللاتي توظفن ما الذي يحصل؟ تحتاج إجازة ولادة، وفترة الحمل، والوحم، وفترة الدورة الشهرية تكون متوترة عصبياً؛ ويكون الإنتاج قليلاً. ثانياً: إن تزوجت تحتاج إلى خادمة -قد تكون كافرة- حتى تربي الأولاد، تحتاج إلى سائق، ثم ما بقي من الراتب بعد أن تعطي الخادم والسائق والمربية أين يذهب؟ يذهب على مشاغل الخياطة، وعلى دور الأزياء التي ترجع في النهاية إلى الشركات اليهودية، وأباطرة المال هم اليهود في العالم؛ لأنها مفتونة بالتزين، مفطورة على ذلك. ثم بعد سنوات تقدم الاستقالة أو تضيع الأسرة، أو يطلقها الزوج، ثم جاءت المصيبة الأخرى، لو قال الزوج: يا زوجتي! أنت تعملين، والأطفال ضائعون، وأنا لا أريد الخدامة، أريد أن أتزوج زوجة ثانية بالحلال؛ تقوم الدنيا ولا تقعد! وتؤيدها في ذلك الصحافة وأمثالها: كيف تتزوج اثنتين؟ كأن -عياذاً بالله- مبدأ النصارى المنحرف أصبح هو مبدأنا، كيف يتزوج فلان؟ كيف يتزوج عليها؟ فتصيح وتضج، حتى أصبح بعضهن عياذاً بالله يفضلن أن يذهب أزواجهن إلى أماكن الفساد - بانكوك، مانيلا - شهر شهرين ولا يتزوج عليها! سبحان الله! كيف وصل الأمر إلى هذا الوضع المؤلم؟ فلو تزوج انشقت العائلة، وصارت الفتنة، وقد تستقيل، وإذا استقالت عطلنا هذه الوظيفة، وعطلنا العمل الذي كانت فيه، ولم تنجب الأمة الأطفال من كل ناحية نجد مفاسد عديدة! لكن لو أعطيت الوظيفة للخريج، وتزوج تلك الفتاة خريجة أو غير ذلك، وبنى أسرة، هو رجل يعمل ويكدح وهي في البيت تربي الأجيال، وهو أقدر منها على التصرف بالمال بحكمة، وليس كل أحد، ولكن في الجملة الرجل أحسن تصرفاً ولا سيما فيما يتعلق بالزينة وبما اشتهى. في الاتحاد السوفيتي، الدولة الشيوعية الكافرة الفاجرة، المرأة التي تنجب عشرة أطفال من حلال أو حرام، المهم أنها تثبت أنها أنجبت من رحمها عشرة أطفال تعطى وساماً تعلقه على صدرها، وتقدم لها تسهيلات في الركوب، وتركب أي مكان وتنزل في أي مكان، وتعطى شيئاً من الحصانة؛ لأنها استطاعت أن تنجب عشرة أطفال، طبعاً هذا غير المسلمات، لأنها أنجبت عشرة أطفال اشتراكيين عماليين. إذا جئنا إلى واقع المرأة من هذه الزاوية وأخذنا مثالاً: المرأة التي تتزوج وهي في الثامنة عشرة -وفي مجتمعنا كانت الفتاة تتزوج وهي في الخامسة عشرة على الأقل- هذه المرأة إذا تزوجت وهي في الثامنة عشرة مثلاً إذا وصلت إلى الأربعين كم نتوقع أن يكون عندها من الأطفال؟ في العادة في مجتمعنا هذا قد يصلون إلى ستة، فلنفرض أنهم خمسة فقط مع أن هذا قليل جداً، ولنفترض أن الطفل الأول ولد وهي في سن الثامنة عشرة أو العشرين، عندما يكون عمرها أربعين سنة كم يكون عمر الطفل الأول؟ عشرون سنة، إذاً: شاب قوي، ما شاء الله! والذي بعده ثماني عشرة سنة، شاب قوي، والذي بعده خمس عشرة سنة أيضاً الحمد لله شاب، وكذلك وإن كانت فتاةً، الثاني أو الثالث أيضاً في سن الزواج. إذاً: هذه الأمة بعد جيلين أو ثلاثة يتضاعف عدد سكانها، وتبقى أمةً شابة، الشباب فيها متجدد، لكن لو أن المرأة توظفت وعملت ولم تتزوج -كما يقال أحياناً في زوايا المجلات- فضلت واختارت العمل على الزواج بئس الاختيار والله! اختارت العمل على الزواج. حسناً: عندما يصير عمرها أربعين سنةً تصبح عجوز، مجهدة، منهكة، محطمة نفسياً لأنها لم تتزوج، لا تستطيع أن تستمر في العمل لكبر السن وللعوامل النفسية والطبيعية والصحية إلخ، ثم قد لا تتزوج إلى الأبد، وإن تزوجت وهي في الأربعين فأي إنسان يأتي مهما كانت الشروط ترضى وتأخذ، ثم مرت عليها هذه العشرون سنة لم تعطي العطاء الصحيح أثناء العمل، ومع ذلك فهي هرمة، والأخرى تلك نجد نفسيتها أفضل، صحتها أحسن، تعيش في بيت وفي أسرة مطمئنة، وفي هذا البيت هؤلاء الشباب الذين تتراوح أعمارهم من العشرين إلى الثمانية عشرة إلى الخامسة عشرة إلى الثانية عشرة إلى العشر سنوات إذاً: انظروا كم قد قدمت هذه للأمة من خدمة، لو نظرنا بالحسابات المادية المجردة: أيهما التي قدمت خدمة أفضل لأمتها: هذه التي لديها هذا العدد -ما شاء الله! - من الشباب، أم تلك الهرمة التي لا تملك شيئاً إلا نفسيةً محطمةً تفرزها على المجتمع نقمةً وسخطاً وكآبة ومطالبات لأمور لا يحق لها أن تطالب بها؟ أقول: من هذا المثال يتبين لنا أن الأمة كلها لو سارت على نهج الإسلام، وتزوجت الفتيات في سن الزواج، وانصرفن إلى الوظيفة العظمى وهي الأمومة وما يتعلق بها، وكان العمل محدوداً في مجال وميدان المرأة، ومحكوماً بالأسس والأحكام الشرعية الواضحة التفصيلية، وترك المجال للشباب كيف تكون حال هذه الأمة؟ وبالمقابل: كيف لو أن الأمة انساقت وراء هؤلاء الهدامين، وفضلت نساؤها العمل على الزواج، وتركن إنجاب الأطفال، وبقيت العمالة الوافدة بمفاسدها وبما فيها من شرور، وأصبحت الأمة أمةً هرمةً، أمةً لا تملك الشباب، وهم القوة التي تحرص كل أمة عليها.

خطورة التمييز العنصري بين الرجل والمرأة

خطورة التمييز العنصري بين الرجل والمرأة موضوع المرأة وبالذات إذا أردنا أن نستعرض الموضوع من الناحية الواقعية فإنه طويل ومتشعب، وأحب أن ألفت أنظار إخواني الكرام إلى مسألة مهمة جداً، وهي: أنه لا يوجد في ديننا، ولا في مجتمعنا أيضاً ولله الحمد، لا وجود لتمييز عنصري بين رجل وامرأة، لا وجود لذلك. الإثارة التي تثار في الصحافة وفي بعض وسائل الإعلام وفي المسلسلات الفاسدة التي تصور العلاقة على أنها علاقة عداء، تمييز عنصري بين الرجل وبين المرأة يجب أن تقف عند حدها، ويجب أن نترصد لها وأن نتنبه لها ونكون لها بالمرصاد. ليس في مجتمعنا رجل عدو للمرأة ولا مرأة عدو للرجل فضلاً عن ديننا والحمد لله، هذه قضية مستوردة من الغرب، الغرب -كما أشرنا- هو الذي يعيش في هذا التمييز الشنيع بين الطبقة الأرستقراطية الغنية وبين الكادحين العمال، ويعيش في التناقض الشديد بين جنس المرأة والرجل كجنس مسيطر، وبين شعوب تريد أن تسيطر على الشعوب الأخرى، بين أصحاب مهن يتصارعون من أجل الحصول على ما يريدون، المجتمعات الغربية هي التي تتفكك إلى تجمعات للطلاب ضد المدرسين وضد إدارة الجامعة، وتجمعات للمدرسين ضد الطلاب أو أحياناً ضد إدارة الجامعة، تجمعات للشعب ضد الحكومة، وأحزاب حكومية ضد الشعب، تجمعات نسائية ضد الرجل، تجمعات رجالية ضد المرأة، هذه لا وجود لها في ديننا ولا يجوز أن توجد في مجتمعنا، والحمد لله هي في الأعم الأغلب لا وجود لها حتى في واقعنا في هذا البلد بالذات. هذه القضية هي الأصل ولو فقهنا ذلك لعرفنا ماذا وراءه، عندما يقوم رجل ويطالب بحق المرأة وأن الرجل يظلمها، قف يا أخي! قف إن كنت مؤمناً بالله واليوم الآخر! لا تكتب هذا في جريدة سعودية ولا مجلة سعودية، ماذا تقصد بالرجل، من الرجل الذي ظلم المرأة: أبوها، أخوها، زوجها؟ من؟ إن كان أحد هؤلاء وهذا واقع مجتمعنا؛ لأن المرأة تتعامل في مجتمعنا مع هؤلاء، فإن كان هؤلاء فليكن في علم كل من يدعو إلى هذه الدعوة أنه لن يحرص على أي فتاة أكثر من حرص أبيها أو أخيها، لا نقول: إن الأب لا يخطئ على ابنته، لأنه قد يقع، لا نقول: إن الأخ لا يظلم أخته، قد يقع، لا نقول: إن الزوج لا يظلم زوجته، قد يقع، لكن من المحال أن هذا الكاتب البعيد الذي يعيش وهو ربما لم يعرف الزواج أصلاً أن يكون أشفق وأرأف بالبنت من أبيها. هذا غير معقول. ثم إن كان هناك شيء من هذه المظالم فإن للظلم في ديننا ما يرفعه وجوباً، إن القاضي في شريعتنا والحمد لله يتولى أمر الفتاة إذا ظلمها أبوها أو إذا لم يكن له عليها ولاية شرعية، إنها لا تضيع أبداً؛ فلا حاجة إلى تكتلات، ولا تجمعات، ولا مطالبات صحفية، هي بنفسها تتقدم إلى القاضي فترفع الولاية عن أبيها وتعطى لأقرب ولي، وإن لم يكن فالقاضي بنفسه يزوجها ولا يرضى أن يقع الظلم عليها. لا يمكن في المجتمع المسلم أن تبقى امرأة تتكفف الناس وتسألهم من الحاجة، أبداً، ولو أدى الأمر إلى أن يؤخذ جزء أو نصيب من أموال الأغنياء لتعطى في حالات الضرورة، لكن لا يوجد أصلاً، مجتمعنا -والحمد لله- بنفسه لا يرضى ذلك على ما فيه من أخطاء ومعاصٍ نحن نعيشها -نسأل الله أن يغفرها لنا- لا يوجد تكريم للمرأة كالمرأة في هذا المجتمع، الرجل الغليظ القلب الذي يأتي من البادية بجفائه، إذا رأى زوجته يكرمها ويصونها ويشتري لها كل شيء، وينزلها في مكان محترم يراه، وإذا جاءت لتركب مع أناس قالوا: صاحب العائلة يقدم وتترك السيارة له، ورجل المرور إذا رأى صاحب العائلة يفسح له المجال ويراعيه، أشياء لسنا مأمورين بها كنظام كما في الغرب، نحن والحمد لله تنبع منا عادات طيبة أصلها الدين، إن هذه المرأة عرض محترم وغال جداً، وأخطر قضية يمكن أن تحيط بأي أسرة ليس هي أن يقال: أنها خسرت المال، أو أن زعيمها ترك المنصب لا، أخطر قضية أن يكون في عرضها شيء عياذاً بالله، هذا أخطر شيء عندنا. فنحن ننزل المرأة هذه المنزلة والحمد لله، ومع ذلك يزعمون أنهم بهذه المطالبات يريدون أن تكون المرأة كالمرأة الغربية فيحررونها

توجيه للصحفيين بإبراز جوانب الخير

توجيه للصحفيين بإبراز جوانب الخير وأحب أن ألفت النظر إلى إخواننا الصحفيين بالذات ومن يهمهم الأمر أن يتقوا الله تعالى، أنتم في صحفكم تدأبون على أن تتحدثوا وتتفاخروا بما حققته البلاد من إنجازات مادية وتقدم هائل، لا شك أن التقدم هذا كبير وعظيم إذا قيس بما كنا فيه والحمد لله من قبل، نعمة عظيمة من الله، مصانع ومدارس وتطور مادي عظيم، ولكن تتحدثون عن إنجازات الإدارات إلا إدارتين لا أرى الحديث عنها إلا ضعيفاً إن لم يكن نادراً، أما غيرها فالحديث عنها كثير، الإدارة الأولى هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثانية: رئاسة تعليم البنات. لابد أن أكون واقعياً لعل الإخوة الصحفيين بالذات يعون هذه الحقيقة، نحن مما يميزنا عن جميع دول العالم -أيها الإخوة- أن لدينا هيئة ورئاسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورئاسة لتعليم البنات، رجال الهيئة هؤلاء هم الذين يمثلون صمام أمان بإذن الله عز وجل لمجتمعنا على قلة الإمكانيات والجهود، لا يوجد مجتمع فيه مثل هذه الإدارة ولا مثل هذا الجهاز، فبدلاً من أن يكون مفخرةً نفخر بها وبجهودها ونطالب بدعمها وإتاحة الإمكانيات لها، والتعاون معها في القضاء على الرذيلة والجريمة والاختلال والفساد، لا نكاد نذكرها إلا على سبيل الذم والقسوة والعنف، مع أنه لا قسوة ولا عنف، ولم يحصل شيء من هذا، وإن حصل فأشياء قليلة، وما يحصل من قسوة في مؤسسات أخرى بطبيعة البشر والاحتكاك البشري يكون أضعافه ولا يتحدث عنه. والأخرى رئاسة تعليم البنات -وهذا موضوع الشاهد- الرئاسة التي كان يرأسها سماحة الشيخ العلامة الإمام الداعية المجدد محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، والذي قرر أنه لا يمكن أن يتولاها أبداً إلا من كان عالماً وقاضياً، لكي تبقى حصينةً وأمينة بإذن الله، الحصانة القضائية والحصانة العلمية هي التي تتولى هذا الجهاز المهم، التي هي أعجوبة -ولا نقول معجزة- حققت شبه اكتفاء ذاتي بالتعليم، وأصبحت المرأة السعودية تتعلم وتعلم وأصبحت أنوذجاً فريداً في العالم، حقاً إنه أنموذج فريد في العالم!! لا أقول: ليس هناك أخطاء في المناهج، في المساواة بين الرجال، في كذا، أشياء لا أريد أن أقولها، لكن الذي أريد أن أقوله: أننا نفتخر بما هو دون ذلك أضعافاً مضاعفة، ولا نفتخر بهذا الجهاز الفريد الذي لا يوجد له نظير في العالم، والذي استطاع أن يثبت أننا بلد يستطيع أن يواكب العصر وأن يحافظ على الدين، وأن بإمكان أي أمة صادقة أن تجمع بين عقيدتها ودينها، وبين أن تتنعم بما أنعم الله به من الحضارة ومن الوسائل المادية والرفاهية والتقدم في جميع المجالات، فأين الحديث عن هذه الناحية؟ لماذا نتكلم باستحياء، لماذا نقول: لا، إن شاء الله سوف ينشأ مسرح سعودي، وإن شاء الله المرأة السعودية تشارك في الفن التشكيلي وكذا، ونحن نعلم أنه لا مسرح لدينا، ولا فنانات، ولكن يكون إن شاء الله بالشكل الذي يريدون ولا شيء من هذا، ولو فعلنا لكان خزياً وعاراً لا فخاراً، ونترك المفخرة الحقيقة المتمثلة؛ لأننا في إطار نسائي أو نسوي محدود لا يدخله الرجال أبداً، استطعنا أن نعلم بناتنا والحمد لله، لماذا ننسى هذا؟ أين الذين يدّعون الوطنية ويفاخرون في بلادهم وفي إنجازاتها؟ لماذا لا يذكرون هذه الظاهرة الفريدة؟ لماذا لا تعرض في صورة مشرقة وتنشر على دول العالم العربي والإسلامي والغربي ليقال للناس: لو التزمتم بأحكام الله لأمكن أن تعلموا المرأة وأن تنال كرامتها في إطار لا علاقة له بالاختلاط من قريب ولا بعيد؟! أنا أقول هذا لأنبه إلى أصل القضية، وهو: أن الأمة قد تتوجه إلى الشر وواقعها خير مما يدعو إليه دعاة الشر، وبالعكس: أحياناً قد تتوجه إرادياً وشعارات إلى الخير وواقعها بعيد عن ذلك، وقضية المرأة من أكثر القضايا المليئة بالتناقضات في مجتمعنا، قضية متناقضات ظاهرة تجدها في واقعنا وفي كتاباتنا، وفي ما نردده من شعارات، فنحن ندعي أنها لابد أن تكون وفق الأحكام الإسلامية. ثم يظهر من يطالب بغير ذلك، ثم نطالب لها بهذه الكرامة، ولها من الكرامة ما لا تحلم به المرأة الغربية، تناقضات عجيبة لابد أن نعيد النظر فيها، وبه أختم هذه المحاضرة لأقول: إنه يجب علينا في كل أمر من الأمور أن نعيد النظر أيها الإخوة الكرام ولنتقي الله سبحانه وتعالى، ولنكون كما أمرنا الله ورسوله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] أبداً، وإنما الاختيار والتحكيم إلى ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين الصادقين، الطائعين المطيعين، ذكوراً وإناثاً، إنه سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

ارتداء الحجاب عبادة

ارتداء الحجاب عبادة Q إن كثيراً من القادمين من البلدان الأخرى الذين تفشى الفساد في بلادهم يحاولون إقناع المرأة بأن الاختلاط ليس فيه ضرر، فمع التعود يذهب الشعور بالحساسية ما بين المرأة والرجل، ويعتاد ارتكاب المعاصي، فهم يقولون: إن التعود هو الأساس، فما رأيكم؟ A والمرأة المسلمة لا تحتجب لأنها حساسة إذا قابلت الرجل، ولا لأن الرجل حساس إذا قابلها، ولا لأنها خجولة لم تتعود محادثة الرجال، ولا لأي سبب من الأسباب التي يبرر بها هؤلاء هذه المقولة، ثم إذا بطل السبب بطل الحكم، المرأة المسلمة تحتجب امتثالاً لأمر ربها عز وجل، وطاعةً لله، واتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بذلك، أمر الله تعالى به أمهات المؤمنين ومن بعدهن من باب أولى، فهي تفعل ذلك لأن الله أمر به، ولا وحي بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم، فمتى ما نزل الوحي بأن ما أمرتن به، وما فرض عليكن أربعة عشر قرناً أصبح اليوم حلالاً لأن الحساسية زالت! لا وجود في الكتاب ولا في السنة لحساسية ولا غيرها، وإنما هذا حكم أنزله الله، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ذكراً أو أنثى فهو ملتزم بأمر الله متمسك به، وهذا هو كل ما في الأمر.

حكم انشغال المرأة بالتدريس عن تربية أبنائها

حكم انشغال المرأة بالتدريس عن تربية أبنائها Q ما حكم المرأة التي تخرج للعمل في حقل التدريس، تاركةً أبناءها في تلك الفترة مع الخادمة، وخروجها إلى العمل مقصده تعليم الفتيات أمور دينهن وتوعيتهن، فهي لا تجد طريقاً في الدعوة إلى الله أهم من هذا؟ A إن الوضع إذا لم يبن من أساسه على الحكم الصحيح فلابد أن تحدث مشكلات، وحينئذ قد تعالج جزئياً بحلول صحيحة، لكن لا يمكن أن تعالج كلياً إلا بأن يرجع الأمر من أصله إلى وضعه الشرعي الصحيح، فليس وضعاً شرعياً صحيحاً أن المرأة تخرج من بيتها ولو بغرض التعليم العام، لتعلم بنات أو أولاد الآخرين إن كان مثلاً في حضانة أو تمهيدي وتترك أطفالها، هذا ليس هو الوضع الشرعي الصحيح، هذه امرأة ذات مهنة، وذات حرفة، لو أن ذلك حدث في حالات فردية؛ امرأة لا عائل لأبنائها؛ فخرجت لتعلم صبايا وصبيان الآخرين لتعول أبناءها يمكن، لكن أن يصبح ذلك نظام الأمة هذا ليس هو الأصل في ديننا. ثم بعد ذلك نبحث عن حلول قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، لكن في ظل الوضع وهو واقع نقول لهذه الأخت: تحرص أن تتقي الله ما استطاعت، وأن تبذل في الدعوة إلى الله، وأن يكون خروجها فعلاً للدعوة إلى الله، وأن تبذل لهؤلاء البنات اللاتي يتعلمن منها. ثم في نفس الوقت (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) وهي مسئولة في بيت زوجها كما صرح بذلك صلى الله عليه وسلم، فأطفالها هم المسئولية الأولى، ويجب أن تحرص عليهم فتعطيهم من وقتها وإن كان في ذلك مشقة، ما تعلمهم به أمور دينهم، وتحرص على أن تكون المربية غير متبرجة ولا فاسقة، أما الكافرة فلا يجوز أصلاً أن تستقدم إلى بلاد المسلمين، فلابد أن تكون مربيةً مهذبة فاضلة، وإن كانت هذه المربية هي جدة الأطفال فذلك هو الأفضل والأولى، جدتهم من جهة الأم أو الأب، المهم أن تتقي الله ولتصعي الضوابط المناسبة، وكل إنسان أدرى بوضعه وببيته، حتى لا تضيعي أبناءك على حساب أبناء الآخرين.

حكم لبس البرقع

حكم لبس البرقع Q ماذا ترون في التبرج الخفي، وهو على طريق العادات والتقاليد، وهو لبس البرقع لبنات المسلمين، حيث وهو أكبر خطر يهدد مجتمعنا؟ A المرأة الكاسية العارية التي جاء وصفها في الحديث (الكاسيات العاريات) هي على أحد معان الحديث، ولعله المعنى الأرجح: التي تغطي جزءاً وتدع الآخر، أو هي كاسية متسترة متحجبة ولكنها ظاهرة العورة لأنه يشف، أو لأنه يصف أو ما أشبه ذلك. التي تجعل البرقع هذا بعد أن كان عادةً -ولا سيما في البادية- جعلن منه موضة بحيث تجعله بطريقة تغري وتثير أكثر مما لو كانت متكشفة، فتبدي من شعر الرأس، وتبدي العينين كاملتين وما حولهما من حواجب اصطناعية، أو ما أشبه ذلك، وتبدي أيضاً أعالي الخدين بصورة فاتنة، فهذه متبرجة وكاسية عارية، ولا يجوز أن يقر هذا الوضع من أولياء الأمور الذين يباشرون ذلك كالزوج أو الأب، ولا من أولياء الأمور عامةً الذين يجب عليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، في المدارس، أو في الهيئات أو في الشوارع، وما أشبه ذلك، هذا مما لا يجوز، وهذا نوع من التبرج، وكل ما أدى إلى الفتنة فإنه لا يجوز. المرأة إذا خرجت لحاجة أو ضرورة فلا تخرج متطيبة، ولا تخرج إلا وهي في هيئة رثة لا تلفت النظر، وتعود في أقصى سرعة على قدر الضرورة أو الحاجة، فكيف إذا خرجن بهذا الزي، وذهبن وتجولن في الأسواق متعطرات متهتكات، وفي الكلام يخضعن بالقول، فإذا كُلمت إحداهن قالت: أنا محجبة، لماذا لا تنظر إلى اللاتي لا يتحجبن؟ أنا برقعي عليّ لا، هذا الدين ليس بالهوى. فيجب على رجال الحسبة، وعلى الدعاة إلى الله، وعلى أولياء الأمور أن يتفطنوا إلى ما أشار إليه الأخ السائل أو الأخت السائلة من خطر هذا التبرج الخفي.

الحياء سياج يحمي المرأة

الحياء سياج يحمي المرأة Q هل يجوز للمرأة أن تكشف شعرها أو ذراعيها أو شيئاً من زينتها لأحد من أقاربها غير زوجها؟ وما حكم تقبيل المحرم للمرأة في خدها أو فمها، حيث أن كثيراً من الآباء والأجداد يصرون على أن تقبيل البنت في فمها وأن من حقه ذلك؟ A المرأة في حدود محارمها لا بأس أن يظهر منها الوجه أو القدمان، ولكن المرأة المسلمة والأب والأخ أيضاً يجب أن يكون السياج الذي يحمي الأسرة عموماً، وإن لم يكن حراماً أن يرى الأب ذراعي ابنته أو ساقيها، ولكن أين الحياء من المرأة المسلمة ومن الأب المسلم ومن الأخ، هذا الذي لا يستحي أن يرى شعر أخته أو نحرها أو ساقها أو ذراعها؟ هذا في الحقيقة مما تهاونا فيه، ولم يكن أصلاً من عادتنا فضلاً عن أن يكون مما هو كما تلاحظون الآن أصبح أمراً عادياً لغير المحرم، بل في الشارع الذراع وربما الساق أحياناً. فنحن لا نقول: إنه يحرم على الرجل أن يرى ساق أخته أو ابنته ولكن من باب الحياء والتطهر والعفة والأدب الذي يجب أن يكون سمة الأسرة عدم ذلك. وأما التقبيل فلا بأس للرجل أن يقبل ابنته، ولكن كما ذكرت السائلة: التقبيل في الفم خاصة، وإن كان بعض الناس قد يلح عليك سواء الرجال أو النساء، هذا من العادات التي لا تنبغي حقيقةً، وإنما لا بأس أن يقبل الرجل ابنته في خدها أو في جبهتها، وهذا بالذات للأب فله أن يفعل ذلك، وأما الإخوة فالأولى ألا يفعلوا إلا في حدود ضيقة مثلاً إذا قدمت من سفر أو ما أشبه ذلك، وكلما ترفعت الأسرة وتسيجت بسياج الحياء والحشمة فهو أفضل حتى من بعض ما قد يكون مباحاً كما أشرنا. أما أن يبتذل ذلك كما هو الحاصل في بعض المناطق فيصبح ابن العم وابن الخال وبعض الأقرباء يصافحون أو يقبلون، هذه مصيبة كبرى ومنكر يجب أن ينكر، ويجب أن يقوم الجميع لمحاربته ولمنعه.

حكم قيادة المرأة للسيارة أو اتخاذ المرأة سائقا لها

حكم قيادة المرأة للسيارة أو اتخاذ المرأة سائقاً لها Q هل الأفضل جلب سائقي سيارات لنقل المرأة إلى عملها، أم تتعلم وتسوق السيارة بنفسها وتذهب إلى عملها المخصص لها دون اختلاط؟ A هي نفس القضية التي تحدثت عنها من قبل، نقع في وضع غير شرعي ثم بعد ذلك نريد حل، فيقول: الحل الشرعي أنها تأخذ سائق، والبعض الآخر يقول: الحل الشرعي أنها تقود السيارة، والحقيقة لا هذا شرعي ولا هذا شرعي، الحل الشرعي أن تبقى في البيت، خروج عن دائرة الشرع ونريد أن نضع حلولاً لأمور ليست مما شرعه الله، فأصلاً خروجها من البيت مع غير محرم هذا لا يجوز، فلا داعي أن نبحث مسألة السائق أو أن تتعلم. أما السائق فإنه إن كان كافراً -ومع الأسف هذا حاصل كثير- فهذا فيه عدة محاذير: أولها: أن الكافر لا يجوز أن يستقدم إلى جزيرة العرب التي نص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع فيها دينان، فكيف نرضى أن نستقدم العمال الكفرة إلى بلادنا هذه الطاهرة بلاد الإسلام والتوحيد؟؟ وما يترتب على ذلك من الفتن والفساد فحدث ولا حرج، فبمجرد أن المرأة تركب مع السائق وتذهب معه تقع محاذير لا تحمد عقباها، أنا أقول يجب ألا ننظر المسألة من مسألة أنه خلوة أو ليس خلوة، الواقع شيء وما قد نتحدث عنه أحياناً في فتاوى مجردة شيء آخر، لا ننظر هل هي خلوة أو ليست خلوة؛ لأنهم في الشارع، وهناك زجاج في السيارة، ومكشوفة، وكذا، ليست المسألة هذه فقط، لا ننسى الواقع الذي يكون فيه خروج المرأة مع السائق، واقع المسلسلات التي تثير الغرائز، والمجلات الهابطة، والأغاني الخليعة التي قد تكون في نفس السيارة، والتلفزيون أحياناً قد يكون في السيارة وما أشبه ذلك، كل ما يثير الشهوة، ويدفع إليها، ويحرض عليها، وما قد يصحب ذلك من أن يذهبا إلى كفتيريا، أو يدخلا إلى مكان عام، أو أن يتطور الأمر فيذهبا بعض الأسواق، وفي أدوار علوية وما أشبه ذلك، أو يذهبا إلى بعض المنتزهات، وكل خطوة تؤدي إلى ما بعدها، حتى تقع المحاذير التي لم نحسب لها حساباً في أول الأمر، ولم تخطر لنا على بال. والسبب: هو أنها تركت أمر الله، وخرجت مع هذا الذي ليس لها بمحرم، من غير ضرورة ولا حاجة مؤقتة، بل أصبحت عادة عادية جداً مع الأسف. أما مسألة أن تتعلم المرأة القيادة فهذا قد تحدث عنه بعض أعداء الله، وبعض المتآمرين على المرأة المسلمة في هذه البلاد، ولكن الله تعالى رد كيدهم في نحورهم، وهذا أمر يستحيل أن يطبق -والحمد لله- في هذه البلاد، ولن يرضى به أحد بإذن الله عز وجل، ولو دندنوا في الصحافة أو في غيرها ما دندنوا لا يمكن أبداً أن يطبق هذا الأمر؛ لأننا بلد يجعل العرض فوق الوظيفة، وفوق الشهادة، وفوق المال، وفوق المنصب، ومهما أهلكتنا الدنيا، ومهما أخذنا في الدنيا من الترف فلن ننسى أبداً أن ديننا وعرضنا أغلى من كل متاع هذه الحياة الدنيا وما فيها من مناصب. وإن كان هناك أناس ليس لهم دين يردعهم، ولا أصل شريف يمنعهم عن هذا الأمر، فهؤلاء قلة شاذة، وبأي حال من الأحوال لن يسمع كلام القلة ويترك ويضرب عرض الحائط برأي الأكثرية المؤمنة المتمسكة بالحق، هذا لن يكون أبداً والنقاش فيه نقاش بيزنطي لا معنى له ولا فائدة منه.

ضابط التشبه بالكافرات

ضابط التشبه بالكافرات Q نرى كثيراً من النساء المسلمات يتشبهن كثيراً بالنساء الكافرات في لباسهن وتسريح شعورهن، وإذا أنكر عليهن قلن: نحن لا نتشبه بالكافرات وإنما نقصد التجمل وخاصة أننا لا نخرج بهذا التجمل إلا أمام النساء. فما هو الضابط لهذه الأفعال؟ وما هو الحد الفاصل للتشبه من غيره وجزاكم الله خيراً؟ A التشبه بالكفار رجالاً أو نساءً هو أن يُفعل ما هو من خصائصهم وهذه يعني: أن العادات البشرية العامة التي لا يختص بها قوم دون قوم، ولا دين دون دين لا تدخل في باب التشبه. أما أن يفعل ما هو من خصائص اليهود أو النصارى أو المجوس أو ما أشبههم فتفعله المرأة المسلمة فهذا تشبه، وأيضاً نستطيع أن نرجع إلى النية دوراً أو أساساً أو جزءاً من الجواب، فمن نوت التشبه بكافرة رأتها في (فيلم) أو في مجلة فهي تأثم للتشبه، ومن تزينت لزوجها عفوياً هكذا بزينة أعجبته أو ترضيه بها ولم تقصد التشبه فلا بأس، فالنية لها دور ومجال في ذلك. الأمر الآخر: أنه من العجيب فعلاً أن المرأة تكون في بيتها مع زوجها متهتكة مبتذلة في ثياب المهنة ثم إذا أرادت الخروج ولو إلى نساء تزينت وتجملت وتعطرت، وتقف ساعة أو أكثر أمام المرآة، وقد تتحجب بعد ذلك، فإذا جلست مع النساء وتكشفت، وإذا بها يرى عليها من المساحيق والأصباغ ما يعلم أنه نتيجة ساعة من الوقوف أمام المرآة وما أشبه ذلك لماذا؟ لماذا لا يتفق النساء جميعاً على أن يدعن هذا، ولا سيما أن الزينة إنما شرعت للزوج في البيت لا عند الخروج هذه أول مخالفة. والمخالفة الأخرى: أين المسلمات؟ أين المؤمنات اللاتي يحرصن على أوقاتهن وأموالهن؟ هل الأمة المسلمة اليوم محتاجة إلى هذه الأصباغ وإلى إضاعة الأوقات، أم أنها أمة في أمس الحاجة إلى دقيقة واحدة من العمر لا تذهب إلا في طاعة الله والعمل لبناء هذه الأمة بناءً يغنيها عن الكفار؟ إنها في حاجة إلى المال الذي يذهب إلى جيوب أباطرة اليهود من النصارى وأصحاب الأزياء، لتجاهدي به لتعيني به المجاهدين لتبني به دوراً للمحتاجين والمعوزين لتساعدي به الذين يريدون الزواج من الذكور أو الإناث لتنفقيه في الخير. كذلك المفاخرة في اللباس، ومتابعة الأزياء هذا من تقليد الكافرات؛ لأنه لا وجود له في مجتمعنا من قبل إلا بعد أن رأينا هذه الحضارة الكافرة، هذا نفسه في الجملة تقليد ومتابعة للكفار؛ والمرأة المسلمة تظن بوقتها وبمالها عن أن تضيعه في أمثال هذه الأمور.

نصيحة توجيهية للنساء اللاتي يرفضن التعدد

نصيحة توجيهية للنساء اللاتي يرفضن التعدد Q نطلب منكم أن ترشدونا عن كيفية دعوة نسائنا فقد تشبهن بكل ما يبث في وسائل الإعلام وخصوصاً مسألة تعدد الزوجات، التي أصبحت اليوم عند بعض النساء أنها جريمة يرتكبها الرجال، نرجو توضيح ذلك ولكم جزيل الشكر؟ A يجب علينا نحن إما أزواجاً أو آباءً أو إخوةً أن نوصي أخواتنا وزوجاتنا وأمهاتنا أيضاً ومن نستطيع من المسلمات أن يتقين الله عز وجل، وأن يحذرن من دعاة الضلالة الدعاة إلى أبواب جهنم في وسائل الإعلام أو غيرها، وأن يتجنبن سخط الله عز وجل بالاعتراض على أحكام الله، سواءً ما يتعلق منها بالحجاب أو بتعدد الزوجات، أو بأي حكم شرعه الله؛ لأن الاعتراض على حكم من أحكام الله سبحانه وتعالى كفر عافانا الله وإياكم، فالمؤمن إنما عمله وواجبه أن يسلم لحكم الله سبحانه وتعالى، وتنقاد له نفسه، ويطيع أمر ربه عز وجل. أما الاعتراض فما كفر إبليس إلا بسبب الاعتراض على أمر الله عندما أمره بالسجود، فإذا أُمرت المرأة بالتحجب فرفضت واعترضت، وقالت: لا يمكن. فهذا من الكفر عياذاً بالله إن كان رداً لأصل الحكم! أما التي تعترض على التعدد لأن نفسها وطبيعتها لا تريده كدافع طبيعي هذا لا شك أن من فطرة المرأة الغيرة فهذا معروف، وأيضاً أن من فطرتها أنها لا تتحمل التعدد، لكن اعتراضها إذا كان منصباً على الزوج وأ، لا مبرر ولا حاجة إليه، أو بدافع الغيرة الفطرية الطبيعية فهذه عليها أن تجاهدها ما أمكن. أما إن كان اعتراضاً على أصل الحكم، وأن التعدد في ذاته غير جائر كما يكتب بعضهم في الصحف، وأنه لا يتناسب مع المرأة في القرن العشرين، أو مع المرأة العاملة أو المثقفة أو ما أشبه ذلك، أي: يريدون أن يبطلوا حكماً شرعياً ثبت بنص القرآن الصريح، وبعمل النبي صلى الله عليه وسلم، وبتواتر الأمة أربعة عشر قرناً، من فعل ذلك وهو عالم بهذا فإنه بذلك يكفر عياذاً بالله، فالأمر خطير ويجب أن نتنبه له جميعاً، وأن تكون الدعوة المضادة هي التي توجه المرأة المسلمة، أعني الدعوة إلى الحق، لا يكفي أن نتكلم عن الظلام، بل يجب أن يكون لنا دور إيجابي في نشر النور وفي الدعوة إلى الحق بإذن الله.

واجب الأم تجاه أبنائه الذين لا يصلون

واجب الأم تجاه أبنائه الذين لا يصلون Q امرأة لها أولاد، وهم كبار بالغون، والمشكلة أنهم لا يصلون الفريضة ولا يعرفون الصلاة، ووالدهم يصلي، لكنه لا يصلي مع الجماعة، وأنها نصحتهم كثيراً ولا تزال تنصح ولن تيأس من رحمة الله، هل يلحقها إثم على ذلك؟ وبالنسبة لزوجها لا تستطيع أن تترك بيته بسبب الصلاة؛ لأن لها منه أكثر من عشرة أبناء، ما هي نصيحتك لها؟ A لها أكثر من عشرة أبناء ما شاء الله! الحمد لله! هذه امرأة مسلمة لها أكثر من عشرة أبناء ما شاء الله! بالنسبة لمسألة الصلاة: لا شك أن من ترك الصلاة عامداً متعمداً فقد كفر، سواء كان يقول: أنا أقر بوجوبها أو لا يقول ذلك؛ لأن الحكم الشرعي متعلق ومنوط بالترك كما معلوم من منطوق الحديث، فمن ترك الصلاة فقد كفر، والتربية مسئولية كبرى على الأم وعلى الأب وعلى المدرس وعلى المدير وعلى المجتمع بأكمله. وهذه الأخت تحتاج إلى أن يقوم زوجها بواجبه ليعينها حتى يصلي أبناؤها، ويحتاج زوجها هداه الله هو نفسه إلى أن يصلي جماعة، يجب عليه هو أن يصلي جماعة، وأن يكون قدوةً لأبنائه، ويمكنها أن تستعين على ذلك بالأقارب الأخيار، قد يكون لها أخ أو لزوجها إخوة أخيار صالحون يعينونها على نصيحة هذا الزوج وعلى نصيحة الأبناء. وعلى أية حال في حدود طاقتها هي عليها أن تبذل ولا تيأس ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وأما ضياع هؤلاء الأطفال فلا شك أن المسئولية منه تقع على عاتق الأب أولاً، ثم على المدرسين الذين يدرسونهم ثانياً، ثم المجتمع عموماً، والدعاة ثالثاً، لا شك في ذلك. فلتعمل بما تستطيع، ولتجتهد في ذلك، ولا أنصحها أن تفارق زوجها، بل تصبر عليه ما دام يصلي، وتحثه بكل وسيلة ممكنة على أن يصلي جماعة، وأيضاً لتحفظ أبناءها ما أمكن، ولتبعد عنهم الشر ما أمكن. ونسأل الله تعالى أن يعينها ويعين كل ساع إلى الخير.

واجبنا نحو ما ينشر من فساد تجاه المرأة المسلمة

واجبنا نحو ما ينشر من فساد تجاه المرأة المسلمة Q إنه يُنشر كثيراً من الملاحق والصفحات التي تدعو إلى تحرير المرأة في هذا البلد الطيب، هل من توضيح وتوعية للناس في هذه القضية المهمة؟ A المؤامرة على المرأة المسلمة -أيها الإخوان، كما أشرت- أمر مخطط له، وقد حوصرت المرأة المسلمة في هذه البلاد؛ لأنها من أي منفذ لا تجد إلا ما يدعوها إلى الشر، الصحافة الأجنبية تغزونا، ويقال: هذه أجنبية، ولا نستطيع أن نمنع صور النساء منها. هناك أمر ملكي بمنع صور النساء في الصحافة السعودية، ومع ذلك قد ينتهك هذا الأمر أحياناً؛ لأن من لا يخاف الله عز وجل فلا يبالي بأوامر البشر. أيضاً هناك وسيلة خبيثة لجأ إليها أعداء الله, وهي: أنهم لما رأوا أن المرأة السعودية لا يمكن أن تخطاب بترك دينها وحجابها من داخل البلاد؛ لأن الأنظمة هنا تمنع مثل ذلك والحمد لله، أنشئوا صحافةً سعودية في الخارج، فهناك مجلات وصحف تصدر في الخارج، والمخاطب فيها هي المرأة السعودية، وعندما تقرؤها تشعر أن المقصود بهذه المجلة وبهذا الكلام والمخاطب هو المرأة السعودية، وإن كانت هي تصدر في باريس أو لندن أو قبرص أو أي بلد، هذا من المكر والتخطيط؛ لأن هذا آخر معقل للإسلام، ولأنه المعقل الذي منه تنطلق الصحوة الإسلامية بفضل الله عز وجل، وحول قيادته العلمية تلتف الصحوة الإسلامية في كل مكان بفضل الله عز وجل؛ ولهذا لا يريدون أن هذه القلعة تعود من جديد فيعود الإسلام من جديد، فيهدمونها بهذه الطريقة. لا أقول لكم: الأفلام والمجلات والمفاسد كثيرة، أقول شيئاً واحداً يجب علي أن أقوله وهو: ما واجبنا نحن؟ من منا زار رئيس تحرير إحدى الصحف التي فيها هذه الملاحق؟ زاره وكلمه بأسلوب علمي مقنع، وقال: هذا لا يجوز، هذا مخالف لأمر الله أولاً، ثم لأمر ولي الأمر في هذه البلاد ثانياً، ووعظه وذكره بالله، والتقى أيضاً بالمحرر الأدبي أو محرر الملاحق، ونصحه وذكره بالله؟ يجب أن نفعل ذلك، هذا يتصل، والآخر يكتب، يجب أن يشارك الشباب من الذكور والإناث في الكتابة الهادفة الجيدة في هذه الصحف. قد يقول قائل: قد ترفض. وإذا رفضت خذ المقال واذهب إلى مدير التحرير وقل: لماذا رفض؟ ما الذي فيه؟ لأنه إسلامي، يا إخوان! هذه الصحافة تصدر من هذا البلد، وتعيش على أموال هذا البلد، معقول تخرج عن ما يعيش في حدود هذا البلد؟ لا يمكن، لكن بإهمالنا نحن يأتي جاهل مهزوم فكرياً، يأتي إنسان عاش في الغرب فيطيش قلمه فيكتب ما يشاء فينعق معه الناعقون، لكن لو كان لأهل الحق وقفة، وهم -والحمد لله- الأقوى والأكثر، ومعهم والحمد لله النظام فضلاً عن أن دين الله عز وجل ونصره وتوفيقه معهم، والله لا يكون هذا الشر أبداً. فيجب علينا نحن الدعاة وطلبة العلم أن يكون لنا دور إيجابي في إنكار هذه المنكرات، ونحاول ونحرص أن نقدم لهم النصيحة، وأن نقدم لهم التوجيه، وأن نكتب محذرين من خطر هذه المؤامرة الشرسة، وهذا الحصار الذي يضرب على المرأة المسلمة في هذه البلاد الطاهرة، وهي والحمد لله أعف وأطهر المجتمعات في الدنيا، لا يجوز لنا أن نجعل هذا الكيان الكبير العظيم يتهدم أمام أعيننا وأعداء الله ينخرون ونحن لم نقدم البديل العملي هل هذا عجز؟ لا والله، الأقلام المسلمة أكثر وأذكى من الأقلام غير المسلمة، هذا ضعف أعوذ بالله! لماذا الضعف؟ تخاذل ويمكن أن يكون تهاون منا، ولهذا أقول هذا لنفسي أولاً ولإخواني ثانياً، أي جريدة أي مجلة أي ملحق ارصده وانظر ما فيه، وخذه واكتب ردوداً واذهب بنفسك إلى الجريدة وأقنعهم وتكلم، وانظر والله سترى الإجابة بإذن الله، لو استنكر عشرة أو خمسة كل صورة خليعة أو كل صورة فيها امرأة ولو بالهاتف تجد أنها في اليوم الثاني ما تدخل؛ لأن النظام صارم ممنوع نشر أي صورة امرأة في أي صحيفة ومجلة سعودية. يبقى المجلات غير السعودية، الحمد لله منع منها أكثر من عشرين مجلة خليعة، ولو كان هناك جهود وتعاون ونصيحة لمن يهمه الأمر في أجهزة الرقابة فقد تمنع البقية إن شاء الله، وما المانع؟ كل شيء ممكن بإذن الله لكن بالأسلوب الحكيم، وبالدعوة إلى الله، وبالصبر على ما نلاقي في سبيل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

وجوب الصبر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى

وجوب الصبر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى Q من العادات التي قد اعتدنا عليها هي اختلاف الرجال مع النساء، وعائلتنا مكونة من مائة وعشرين شخصاً يختلط النساء مع الرجال، وقد اعتزلتهم لغرض هجرهم، مما جعلهم يقولون لي: إن هذا دين جديد! أرجو إرشادي في هذا الأمر ولكم جزيل الشكر. A لابد من الصبر، هذا الدين ما قام إلا على الصبر، والأنبياء هم رسل أرسلهم الله تعالى وأمرهم بالصبر وتذرعوا به فنالوا ما ظفروا به، وقد قال الله تبارك وتعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48] لأنه لم يصبر عليه السلام، الصبر لابد منه أيها الإخوان، هذا الدين لا يقوم إلا به، وعلي أن أصبر على ما ألاقي وأتحمل في سبيل أن أقيم ديني، وعلى كل إنسان أن يصبر. على هذه الأخت أن تجتهد في أن تقيم دينها، وأن تتمسك بحجابها، ولتصبر على كل ما تؤذى به، وتبذل النصيحة للآخرين، وكيف يتحول الناس من المنكر إلى المعروف إلا بهذه البداية، بشخص يصبر ويتحمل مضايقات، ثم يتلوه آخر ثم ثان ثم ثالث ثم رابع حتى يعم الخير وينتشر، أما إذا تهاونا وتركنا هذا الأمر فإنه لن تقوم للمعروف قائمة، ويبقى المنكر هو القائم. فعليك أن تحتسبي عند الله ما تلاقين من الأذى، وأن تصبري وتجتهدي في الدعوة والنصح لهم، والحمد لله الصحوة الإسلامية والتوبة والرجوع إلى الله عز وجل أصبحت منتشرة في كل بيئة وفي كل مكان، وأرجو الله تعالى أن تصل إلى هذه الأسرة أو إلى هذه العائلة وإلى كل عائلة وبيت لترجع إلى ربها، وتثوب إلى رشدها، وتعلم مقدار وفداحة الخطأ الذي ارتكبته في أيام الغفلة عن الله سبحانه وتعالى، والتقليد لأعداء الله سبحانه وتعالى. نرجو الله عز وجل ذلك، وإنه على ذلك لقدير، ونسأل الله الهداية لهذه الأسرة ولجميع الأسر، إنه سميع مجيب.

نحن أمة القرآن لا أمة اللعب والعبث

نحن أمة القرآن لا أمة اللعب والعبث Q أنا شاب أشجع نادياً رياضياً، فإذا انهزم ذلك النادي لعنت النادي الذي هزمه، وهذا يصدر بدون قصد، فهل هذا حرام؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً. A المشكلة يا أخي ليست هي اللعن فقط؛ المصيبة أنك جعلت ميلك القلبي، الذي هو أغلى ما عندك مع الكرة، وهذا القلب الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ليكون معموراً بمحبته، وبالتقرب إليه، وبمناجاته، وبصلته، وبمحبة الأنبياء والصالحين والمجاهدين والأخيار، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومتعبداً بمعاداة الكفار والمجرمين والعصاة والمفسدين، هذا القلب خلق لذلك، فأنت فتجعل محبته للهو واللعب، وتجعل بغضه وعداوته للهو ولعب آخر. هنا الخطأ الكبير الذي وقعت فيه يا أخي -غفر الله لك- أنك جئت إلى أفضل عضو جعله الله لك، وفضلك به على كل المخلوقات، هذا القلب، هذا العقل والفكر والذهن، فجعلته في غير موضعه، وهذا من الظلم: أن يوضع الشيء في غير موضعه. ظلمت نفسك ظلماً كبيراً حين جعلت محبتك وبغضك يدوران مع الكره حيث دارت، ولا يدور مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أين محبة الله ورسوله؟ أين الشاب المسلم الذي يوقن بأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به). فيا أخي إذا سئلت عن عمرك وعن شبابك وأجبت بأنه كان في التشجيع، ماذا تتوقع؟ أبواب الجنة تفتح، أم الملائكة ترحب، أم الأنبياء والصالحون يهللون سبحان الله! يا أخي كيف يضيع المسلم وقته وعمره في هذه التوافه؟ أمة تحاصر وتحارب من كل جهة، ويكاد لها من كل جهة، وشيطانها من داخلها يؤزها، والموت ينتظرها وهو آتٍ وكل آتٍ قريب، وأمامها الصراط والقيامة، وأمامها الأهوال هذه، وتشارك أمم الكفر والضياع التي لا تعرف رباً ولا آخرةً ولا رسولاً ولا كتاباً ولا سنةً ولا قرآناً، تضيع هذا الضياع وهذا التسكع وهذا التشرد في ملاعب أو ما أشبه ذلك! أين الاهتمام بالعمر أيها الإخوة؟ هل أدرك الشباب المسلم قيمة الزمن والعمر؟ هل عرفت يا أخي أن هذه الدقائق المعدودة هي عمرك؟ مم يتكون عمرك إلا من السنين، والسنون هي شهور، والشهور هي أيام، والأيام هي هذه الدقائق التي تضيع، فكيف لا تتخسر عندما تضيع من وقتك هذا. الذي يضيع الوقت لينظر إلى المباريات قد أضاع والله العمر الثمين في لهو، وترك الخير، وترك أن يعمره بذكر الله وطاعته الله أو ما ينفعه في دنياه، فكيف الذي يزيد به الأمر فوق النظر بأن يصرخ ويشجع ثم يلعن عياذاً بالله! (ليس المؤمن باللعان) كما ذكر ذلك صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أن الإيمان ضعيف، نسأل الله الهداية لنا ولهذا الأخ ولكل مسلم، وأن نكون على بصيرة من أمرنا، وألا يشغلنا اللهو واللعب، ولهذا ذكر الله تعالى ووصف الدنيا في آي من كتابه بأنها لهو ولعب، ما هذا؟ إذا كان الاشتغال بالعمارات والقصور والشوارع، والحدائق والملاهي، وما أشبه ذلك، إذا كان هذا لهو ولعب وهي من المباح فكيف بالذي يشتغل باللهو الذي هو لهو في الحقيقة كلهو الكرة أو لهو الألعاب التي تضيع العمر، وقد تشغل عن طاعة الله سبحانه وتعالى؟ إذاً هذا هو لهو اللهو، وهذا عبث العبث، يجب أن تترفع عنه أمة القرآن وأمة الإسلام، وألا تنساق وراء المجرمين الذين يزينون لها ذلك ويجعلونه من باب الانتماء لفريق أو الانتماء للوطن، أو التقليد لأمم الكفر، نحن قادة ولسنا أتباعاً لأي أمة من الأمم.

الرد على من يجوز كشف الوجه واليدين للمرأة

الرد على من يجوز كشف الوجه واليدين للمرأة Q أخي سفر الحوالي هنيئاً لك بهذه الوجوه التي جاءت من أطراف الرياض لكي يسمعوك! أخي الكريم: كيف نرد على هؤلاء الذين يقولون بضرورة كشف الوجه واليدين، حيث يأتون بأحاديث ونصوص نحسبها صحيحة، فأفدنا؟ ثم ما رأيك في انتشار ظاهرة استعمال الدائرة التلفزيونية أو ما يسمى بالحجاب الإلكتروني في التعليم والمحاضرات والأمسيات الأدبية والشعرية وجزاكم الله خيراً؟ A لعلي أختصر حقيقةً. أما ما يتعلق بمسألة كشف الوجه، فلابد أن ننظر أولاً إلى من يقول ذلك، إن كان الذي قاله إنسان من الأتقياء من العلماء ممن تحرى وبحث في الأدلة من الكتاب ومن السنة وخرج برأي: أن المرأة لا يجب عليها أن تغطي وجهها إلا عند الفتنة؛ لأن جميع المسلمين يقولون: إذا حصلت فتنة وجب أن تغطي وجهها، إن كان كذلك فهذا لهم جواب، وإن كان متهتكاً متخلعاً لا يلتزم بأوامر الله وقد لا يصلي ولا يطبق السنة ويكتب في الجرائد: كشف الوجه ليس بحرام سبحان الله! هذا الذي نصّب نفسه عالماً مفتياً، وليس فيه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم شيء، هذا كلامه مردود من أصله، ونقول: هذا ضلع في المؤامرة الشيطانية على المرأة المسلمة. أما ذاك فجوابه هين، النصوص التي يوردها إما غير صحيحة وإما غير صريحة، فإن كانت غير صحيحة بينا له، ولا يحتج إلا بالصحيح، وإن كانت صحيحة لكنها غير صريحة فيجب أن يعلم أن كل نص قد يوهم أو قد يشف منه أو يدل على عدم تغطية الوجه فهو قبل نزول الحجاب، ما نزلت سورة الأحزاب إلا بعد غزوة الأحزاب -الخندق- وقبل ذلك كان المجتمع المسلم يتدرج في تطبيق هذا الدين قليلاً قليلاً، المجتمع المسلم كان في أول الإسلام لا تغطي المرأة وجهها، فأي حديث يوجد فهو إن كان صريحاً صحيحاً فهو في هذه المرحلة، أما بعد ذلك فلا يمكن، ولا يمكن أن ننسى أبداً أن التواتر العملي في هذه المسألة موجود، التواتر العملي، أربعة عشر قرناً والأمة الإسلامية تطبق الحجاب عملياً، ليس فقط مجرد نص، بل هو عمل توارثته الأجيال، تلقاه التابعون عن الصحابة، ثم أخذه أتباع التابعين إلى هذا القرن، إلى هذه الأيام، تواتراً عملياً. كيف يقال: كل هؤلاء كانوا متمسكين بشيء خطأ مهما قيل من النصوص؟! لا. كما قلت لكم: المرأة المسلمة في مصر -أول بلد ضغط عليه ليكون مكاناً للمؤامرة- وتمثل المؤامرة امرأة محجبة تغطي وجهها، وهي ذهبت لتمثيل المؤامرة، هذا دليل على عمق الحجاب بالشعور الإسلامي. أمان الله خان ملك أفغانستان لمّا جعل زوجته تتبرج وشهر بها سقط، وهذا المجرم اليهودي كمال أتاتورك لما ألغى الحجاب في تركيا قامت الضجة عليه وما تزال، والآن رجعت المرأة التركية للحجاب والحمد لله، في كل مكان هذا الشعور موجود، حقيقة موجودة! فيم يتغزل أهل الغزل وأهل الشر إلا في الوجه؟ ماذا يرى الخاطب؟ الوجه والكفين، إذا كان الخاطب يرى وجهها وكفيها في كل مكان ما الذي يطلب منها إذا خطبها؟ إذا كان الله تعالى أباح للمحَرم أن يرى الوجه والكفين، إذا كان هذا يراه كل الناس ماذا يبيح للمحرم؟ لماذا قال: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] لماذا يخصص الآباء والأبناء وأبناء الإخوة ما دام كل الناس يرون الوجه والكفين؟ كيف نتجاهل هذه الأمور جميعها. الحقيقة لا أريد أن أطيل، لأن كثيراً من العلماء والحمد لله والدعاة كتبوا وتكلموا وخصت كتب ومحاضرات لدحض شبهات هؤلاء، لكن أكتفي بالإشارة، وأؤكد على أن بداية المؤامرة تبدأ بالوجه، ولكنها لا تنتهي إلا بأفلام ومسارح التعري والرقص المشين الخليع، هكذا دائماً. أما عن الدائرة التلفزيونية، الدائرة التلفزيونية هناك خلط -الآن- يقع في الواقع، أما بالنسبة لكلية تربية البنات مثلاً؛ لأنه هو الأنموذج الأفضل، أنا أقول حقيقةً وأنا في جامعة لدينا قسم للنساء، قسم العقيدة في جامعة أم القرى فيه طالبات، هذا معروف، وأنا رئيسه، لكن أنا أقول: الحقيقة أنه يجب أن يكون هنالك جامعة أو أكثر للبنات ينفصلن تماماً عن الرجال، هذا الحق الذي يجب أن يكون، ونرجو أنها في الطريق إن شاء الله إلى التحقق. فأنا أقول: أما بالنسبة لكلية التربية للبنات لها نظامها المستقل تماماً، فإذا وجدت دائرة تلفزيونية بحيث يبنى لها كما هو معروف مبنى مستقل في الخارج عند المدخل يأتي الشيخ يلقي المحاضرة، تنقل عبر الدائرة إلى الصالات هذا لا بأس به إن شاء الله، ريثما تتخرج الخريجات اللاتي يقمن بالدور المطلوب. على أن القضية لا أنسى أن مرجعها إلى الأصل، الأصل: أن المرأة لا تخرج من بيتها إلا لحاجة أو ضرورة، وأن تعليمها يجب أن يختلف عن تعليم الرجل أيضاً، لا نقول هذا بإطلاق إقراراً للواقع، لكن أن تكون أمسية أدبية، وتوضع ستارة من القماش في الوسط، وهنا نساء وهنا رجال، وتلقي المرأة القصيدة والناقد ينقد -ما شاء الله- ويعترض عليها وهي ترد عليه، وقلنا: حرام. قالوا: مثلما عندكم في الجامعة سبحان الله! هذا ليس عندنا في الجامعة؟! ليس هناك نسبة بين جهة تعليمية تربوية دينية -ولا أقر بكل ما فيها- وبين ما يقال وما يفعله هؤلاء الناس الذين يأتون إلى فندق أو إلى مسرح، ويجعلون هذه الستارة من القماش في الوسط، ويقولون ما يشاءون ويقولون: إن المرأة لا يظهر منها إلا صوتها لا، هذا شيء وذاك شيء آخر، وهذه من البوادر السيئة التي لا يزيد عمرها عن سنتين في مجتمعنا، سنتان أو أقل فقط في مجتمعنا عرفنا أمثال هذه الظاهرة وأمثال هذه الحوارات الأدبية السيئة التي يجب أن تختفي، وأن نبذل جهدنا لإقناع كل من يهمه الأمر إلى إخفائها وإبعادها إن شاء الله.

فتنة اللباس القصير والشفاف للفتيات الصغار

فتنة اللباس القصير والشفاف للفتيات الصغار Q إن مما ابتلي به كثير من الناس، وقد خفي -مع الأسف- على كثير من الناس حتى على بعض من يسمون من أهل الصلاح وهي فتنة اللباس القصير للفتيات من عمر سنة إلى سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، ويقولون: إنه ليس به بأس، مع أنها تربية من الصغر على كشف العورة، فنأمل النصح للآباء والأمهات والإخوان في ذلك. A هذه حقيقة من القضايا الخطيرة التي يعيشها المجتمع ولا يأبه لها كثير من الآباء، في المسجد الحرام وفي رمضان تجد الأم متسترة كلها وتطوف ومعها ابنة خمس سنوات ست سبع بآخر التقليعات الأمريكية والفرنسية عجيب! كيف وجد هذا التناقض في البيئة، تخرج مع أبناء عمها ومع أبناء خالها، ومع الناس بهذا اللباس، الساقان وأحياناً نصف الفخذ مكشوف والذراع والنحر والشعر وبطرائق وبأصباغ معينة، خاصة في الأعياد والمناسبات، ويقال: ليس هناك بأس هذه صغيرة، إذا كبرت تحجبت. وتقترب إلى العاشرة ويقال: ليس هناك بأس، وأحياناً ثلاثة عشر وليس هناك بأس سبحان الله! لابد أن تربى، وأن تغرس الفتاة غرساً سليماً صحيحاً، وكذلك الفتى، وأن يعلم الأخلاق، وأن يُهذب عليها، أما أن يظن أنها عادة تبدأ هذه العادة الاجتماعية منذ سن معين وقد لا يقع ذلك لا، هذا أمر ديني شرعي، يجب أن نحتاط له من الصغر، وأن تعلم الفتاة المسلمة قيمة وأهمية الحجاب، بحيث أن الفتاة المسلمة تشتاق إلى الحجاب. من أفضل وسائل التربية أن ابنتك التي عمرها أربع سنوات تقول: الله يخليك يا أبي، أرجو أن تأتيني بعباءة، اشتر لي عباءة هذا شيء طيب، وتشكرها على ذلك؛ لأن هذا الشعور يجب أن ينمى عند أن تشتري لها عباءة، وأن تحذر من تقليد أهل الشر، لكن مع الأسف هذا الأمر تهاونا فيه، والتلفاز يعرض المسلسلات العارية، والصحافة تعرض الصور العارية، والواقع في المجتمع أنه يرى وبخاصة الكافرات العاريات، ثم يقال: ليس هناك بأس كيف ليس هناك بأس والبنت تقتدي بهؤلاء وتنسى أمها؟! وتظن أن هذا وضع أو عادة ربما تنتهي أو تزول فالحقيقة أن التربية الإيمانية المتكاملة يجب أن تبدأ من الصغر، ويهذب ذلك قليلاً قليلاً، وشكر الله لمن نبه إلى ذلك وأرشد إليه.

خيركم خيركم لأهله

خيركم خيركم لأهله Q هناك كثير من الأزواج يقومون بالتسلط على زوجاتهم وذلك بكبتهن داخل البيوت على مدار السنة، كما وأنهم لا يقومون بأي حق لهن، فما نصيحتكم لهؤلاء الأزواج؟ A هناك فرق بين الحقوق وبين الإقامة في البيت، فلعلي أركز كلامي على أنها تقيم في البيت. أولاً: يجب على الأخت المسلمة أن تعلم أن إقامتها في بيتها ليس تسلطاً من أحد، نعمة من الله عز وجل، فضل وتكريم من الله عز وجل لها، فعليها أن تحمد الله أنها لم تضطر أن تخرج، لتعمل أو لتبتذل نفسها أمام الناس، فبقاؤها في البيت هو الأصل، وإن كان الزوج ممن يرضى أن تخرج فلا تخرجي إلا لما يستدعي الخروج، فهذا شيء يجب أن تعلمه الأخت المسلمة ولا تعترض على من يأمرها به. لكن لا يجوز للزوج أن يتعسف أيضاً فلا يخرجها إلى قريب أو إلى ذي رحم تزوره، أو أيضاً إلى أن يصطحب أهله إلى مكان لا خلوة فيه ولا اختلاط -يعني: بأجانب- فيفسحهم أو ينزههم في مكان آمنٍ وبعيد. لا. المفروض أن تراعى النفوس، وقد نقصر، وأنا أقول هذا وأنا أعترف به ويمكن كثير من الإخوان مثلي، نحن قد نقصر كثيراً في حق زوجاتنا، لكن هذا لا ينبغي أن يقع لا منا ولا من غيرنا، نحسن إليهن، نفسحهن ونحن معهن ومع الأبناء، نحاول بقدر الإمكان أن نوسع عليهن بوسائل الترفيه الصحيحة والسليمة، لكن لا يصل الأمر إلى حد أن يسمح لها بالخروج كما تشاء. أما ما قالته الأخت من الحقوق الأخرى لا، لا يجوز لا له ولا لها، الله تعالى جعل له حقوقاً عليها وجعل لها حقوقاً عليه في العِشرة، وفي الإنفاق، وفي الرحمة، وفي الرأفة فيما بينهما، فلابد أن يعطي كل ذي حق ما عليه من الحق للمقابل، ولابد أن نعلم جميعاً أن الله سبحانه وتعالى كما قال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فلا يجوز للزوج أن يظلم الزوجة وهي عانية -أي: أسيرة لديه- وإنما هذه نعمة أنعم الله تعالى عليه، وجعلها من آياته سبحانه وتعالى التي يجب على الإنسان أن يذكرها ويتذكرها فيحسن إليها، وخيركم خيركم لأهله، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العجب العجاب من حسن معاملته للزوجة، وللخادم، ومن رفقه بمن يعاشره صلى الله عليه وسلم. فيجب أن تكون سيرته صلى الله عليه وسلم هي القدوة التي نقتدي بها جميعاً.

توجه عقيدة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده

توجه عقيدة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده Q تعرضت في معرض كلامك عن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فقد كثر الكلام حول المذكورين، فما رأيك فيهما من ناحية عقيدتهما، وخدمتهما للإسلام أو ضده؟ A على كل حال نحن لا يهمنا الأشخاص كأشخاص، قد قدموا على ربهم وأفضوا إلى ما قدموا، ولكن عندما نتعرض إلى أي أثر سيئ لأي شخص فلا يجوز أن نكتمه مراعاة لذلك الشخص؛ لأن الحق عندنا فوق الرجال، ومن هنا قد نتعرض لسيرة بعض الناس بل لابد أن نبينه. أما الأفغاني فرجل رافضي تلبس بلباس السنة، وسمى نفسه الأفغاني وهو إيراني، وهو رجل باطني يقر وحدة الأديان، وعميل للسياسة الإنجليزية، وتلقن في بلاطات ملوك أوروبا، فهو رجل نستطيع أن نقول: لا صلة له بالإسلام. وأما الشيخ محمد عبده فإنه فيه جوانب يُعرف منها الغيرة على الدين، والحرص على أوضاع المسلمين، ولكن هناك جوانب صريحة وقطعية بأنه تعلم اللغة الفرنسية ليعرف القوانين الفرنسية، وجاء بالقوانين الفرنسية وأقامها وطبقها بنفسه في مصر يوم أن كان رئيساً لمحكمة النقض ومفتياً للبلاد، وكان من دعاة خروج المرأة وسفورها، هذا لا شك فيه، وكان أيضاً في عقيدته أقرب إلى منهج المعتزلة وفي بعض الأمور إلى منهج الفلاسفة، ومن ذلك أنه يرجح أن البعث لا يكون بعثاً جسدياً، وإنما بعث وحشر روحي، وهذا ما حققه المحققون في شرح تعليقه على الحاشية العضدية، وغير ذلك من الأمور التي -نسأل الله العفو والعافية- وقع فيها من الضلالات. وعلى أي حال: إذا تعرضنا لأي من أمور الدين والعقيدة فلا مجاملة لأحد كائناً من كان، ولا ننظر إلى البشر وإنما ننظر إلى الخالق سبحانه وتعالى.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عقيدة أهل السنة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عقيدة أهل السنة Q أرجو أن يتكرم الشيخ بكلمة توجيه قصيرة في أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هناك تقصير من الشباب المتمسك بدينه في هذا الأمر. A والله أنا لعلي أعرف القضية أكثر من أني أنصح، إذ لا أحد فيكم -والحمد لله- إلا وهو يعلم أهمية هذا الأمر، لكنني أقول حقيقة: وأنا أعترف بها وأنا واحد منكم: أننا أحياناً يكون في ذهننا انفصام بين ما نتعلمه وما ندعو إليه وبين الواقع، الشاب يقرأ ويعلم من الآيات والأحاديث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن في ذهنه شيء آخر مثل أن يطلب العلم؛ فيحرص على طلب العلم، وحضور حلقات الخير والكتب، وفي أثناء مروره وذهابه وإيابه يرى مكان يباع فيه الغناء ولا يأمر ولا يتكلم، ويرى مكاناً يباع فيه أشرطة الفيديو ولا يأمر ولا يتكلم، ويرى من يتخلف عن الصلاة ولا يبالي به، يذكر الله، ومتطهر وذاهب إلى الصلاة -ما شاء الله- في المسجد، ولكن يرى تاركي الصلاة ولا يكاد يكلمهم شيء عجيب! أيصبح علمنا كعلم أحبار اليهود عياذاً بالله؟! لا يمكن لمن يعتقد العقيدة الصحيحة إلا أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، مجاهداً في سبيل الله بيده وقلمه ولسانه في كل ميدان بما يستطيع، إذا كان هناك شاب يتعلم العلم الشرعي، ومتمسك بالسنة، ولا ينكر المنكر فليراجع نفسه في عقيدته، لا أقول في سلوكه، لأن من مقتضيات العقيدة الصحيحة اللازمة إنكار المنكر حسب المستطاع، لكن يجب أن ينكر المنكر، والحمد لله نحن بفضل الله في بيئة ومجتمع نستطيع أن ننكر فيه المنكر بوسائل كثيرة ومتعددة ومتنوعة قد تتعدى أحياناً اللسان إلى اليد في مواضع، فمدير المدرسة ينكر المنكر باليد في مدرسته، الأب ينكر المنكر باليد في البيت، والمسئول ينكر المنكر باليد في الشارع، وغير ذلك. هكذا يجب أن نحيي هذه الشعيرة العظيمة التي من الله بها علينا، وبها كنا خير أمة أخرجت للناس. فصدق الأخ، وحق له أن يقول: إن في طلبة العلم تقصيراً في هذا الجانب، وترك هذا الأمر وكأنه خاص بالهيئة، والهيئة على ضعفها وقلة إمكانياتها تواجه جبهات طويلة عريضة من كل جهة، ونحن نترك الأمر ونتفرج عليه، ونقول: إننا ندعو سبحان الله! إلى أي شيء تدعو؟ إذا تركت أبواب الشر مفتوحة فمهما دعوت وربيت نفسك فإن التيار قد يجتاحك ويجتاحهم، يجب أن يكون هناك سدود لمنع الشر والفساد، ويجب أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سمة ومنهج عملي يومي لكل مسلم، في الطائرة، في السيارة وأنت راكب مع أناس، في الشارع وأنت ماش، في كل مكان بحسب الإمكان وبحسب الوقت والأحوال.

نقصان عقل المرأة ودينها ليس عيبا

نقصان عقل المرأة ودينها ليس عيباً Q هل يمكن أن توضحوا كيف تكون المرأة ناقصة عقل ودين، جزاكم الله خيراً؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال ذلك بينه في نفس الحديث، قال: (أما نقصان دينها فإنه يمر عليها الأيام لا تصوم ولا تصلي) هي تقضي الصيام لكن لا تقضي الصلاة، وهذا نقصان الدين. وأما نقصان العقل فإن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل، هذا هو الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم. وما قد يقال: أن التركيب العضوي للمرأة يدل على أن الجمجمة أصغر أو أن الجسد أصغر نحن لا يهمنا هذه الحقيقة، لا يهمنا أن يثبت أو لا يثبت، ليست هذه هي القضية، القضية أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الكون يقوم على الزوجية، زوجية بها ينتظم أمر هذا الكون ليل ونهار: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2] ثم قال: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:3] هذه إشارة إلى هذه الزوجية الموجودة، ظلام ونور، عاطفة وعقل، المرأة ميزها الله سبحانه وتعالى عن الرجل بالعاطفة، وبهذه العاطفة تحيا الإنسانية، أرأيتم لو أن الأمهات في قسوة قلوبهن كالآباء ما تصلح الحياة! لكن الأب يقول: خذي الولد ابتعدي اخرجي أنت وإياه أريد أن أنام وينام مطمئناً، لكن هي لا تنام والولد يبكي سبحان الله! هذا فضل من الله، نعمة من الله عز وجل أنه جعلها بهذه العاطفة وبهذه الرقة. فإذاً هي العاطفة، لا يمكن أن نقول: إن العاطفة شر والعقل خير لا، العاطفة خير، والعقل خير، وكل منهما زوج للآخر تقوم بهما الحياة إذا كان وفق ما شرعه الله سبحانه وتعالى. كما أن أحداً لا يقول: الليل أفضل من النهار، والنهار أفضل من الليل، ويقارن، هذا فيه خير وهذا فيه خير، هذا له مصلحة وهذا له مصلحة، وهكذا، ما في المرأة من نقص طبيعي جبلي خلقي، هذا فيه حكمة، وهو ميزتها، من غير المعقول بل من الإجحاف والظلم أن تأتي وتختلق لها طبيعةً خلقية كالرجل لماذا؟ لتقطع الطريق عليه لا يمكن، هذه ميزتك، من هنا كانت الإنسانية سعيدة بالمرأة وبالرجل، الله سبحانه وتعالى جعل أصل البشرية هو هذا: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1] فبقيت القاعدة الإنسانية تقوم على هذه الزوجية، فليس ذلك عيباً في ذاته أبداً، ولكن العيب يأتي من صاحب العاطفة أو صاحب العقل إذا استخدم عاطفته أو عقله في غير ما شرع الله، وبخلاف ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو الأساس.

واقع المرأة وما وصلت إليه من جهل هو تبعة الجميع

واقع المرأة وما وصلت إليه من جهل هو تبعة الجميع Q ألا ترى أن علماء المسلمين سبباً فيما وصلت إليه المرأة، حيث أنهم لم يهتموا بأمرها وينشئوا مؤسسات خيرية تتربى فيها المرأة، ثم لو جنُد نساء يلتقين بالنساء في بيوتهن أو المسجد، ألا ترى أن في هذا طريق وصلاح للنساء؟ هل لنوادي الروتاري علاقة في تحرر المرأة وفسادها؟ A بالنسبة للعلماء، نحن -أيها الإخوة- يجب أن نعلم أنه ليس من خُلق الأمة المسلمة ولا طلبة العلم الطعن في العلماء أو الحط من شأنهم، أو تحميل العلماء ما لا يطيقون، قل لي: إن هناك تقصيراً من الدعاة والعلماء وطلبة العلم في حق المرأة في الدعوة إلى الله في مجال المرأة أقول لك: نعم، في مجال المرأة وغير المرأة، التقصير حاصل، لكن لا نقول: العلماء سبب. كل ما جاء صاحب منكر وصاحب شر قال: العلماء سبب. كم أوقات العلماء؟ من من جنود العلماء إلا أنا وأنت، فإذا أنا وأنت قلنا: العلماء ما فعلوا شيئاً. نحن نكون كمن يلقي التبعة على غيره وهو المسئول أيضاً عن ذلك، فالعلماء والحمد لله لهم -وبالذات علماء هذه البلاد والحمد لله- من الجهد والخير وإنكار المنكر الشيء الكثير. أما أن الأمة ككلٍ مقصرة في جوانب فنعم، هذا حاصل، وعلى العلماء تبعة في ذلك، وأنا وأنت علينا التبعة الكبرى؛ لأننا نعيش الواقع أكثر من العلماء، ومشاغلنا أقل، يجب علينا أن تكون هناك دعوة في مجال الدعوة وغيرها، وأن توجد داعيات مخلصات صادقات في المنتديات النسائية الشرعية، يجب أن يكون ذلك وهو ضروري، ويجب أن يتدارك ما فيه من تقصير، لعل هذا يكفي. أما نوادي الروتاري فهي نواد ماسونية، والماسونية تستغل المرأة وتدعو إلى هدم الأخلاق، ولا يخفى ذلك عليكم ولا نطيل فيه، يكفي أن نقول: نعم، إن للماسونية الدور الخطير في هدم ونشر الفساد، وإن صالون نازلي -الذي أشرنا إليه، الأميرة نازلي- هو الذي انطلقت منه البذرة لما يسمى بتحرير المرأة كان من المنتديات الماسونية، وكان بعض أعضائه أعضاء مجاهرين في المحافل الماسونية، ومن هذه المحافل الماسونية أندية الروتاري وأمثالها.

الغرب وحرصهم على إفساد المرأة المسلمة

الغرب وحرصهم على إفساد المرأة المسلمة Q نرى هذه الأيام اهتماماً كبيراً بأمور النساء وآرائهن، ومتابعة أخبارهن من قبل إعلاميين، واستيراد مجلات للمجتمع فيها إفساد للمرأة، فهلا يوجد من يتصدى لهذا الأمر؟ أو ما هو الحل وفق الله الجميع؟ A أخبركم عن تجربة أخبرني بها بعض الإخوة الفضلاء، هذا الأخ أراد أن يرصد هذه المؤامرة رصداً عملياً، يقول: فاشتريت الصحف الموجودة في البقالات مع الأسف، بعضها منع من شهر وبعضها ما يزال، لكن اشترى كل هذا الغثاء الذي يوضع في البقالات في المكتبات عدة أعداد، وجلس وفتح صفحة التعارف والمراسلة، وأخذ يعد كل المراسلين كم هم -كم نفر- ثم يحسب نسبة السعوديين أو السعوديات منهم. يقول: وصلت إلى نتيجة مذهلة! أكثر من ثمانين وأحياناً تسعين في المائة من المراسلين والمراسلات من السعودية، مجلات من كل البلاد تأتي، يقول: قلت لا يمكن أن يكون هذا إلا غزواً مقصوداً ومتعمداً لهذه البلاد، وإلا فهل من المعقول أن تأتيهم رسائل من غيرهن، أو ألا يمكن أن يفتعلوا هم أسماء من عندهم؟ المهم أنه تصديقاً لكلام الأخ السائل لا شك أن هناك استدراج لهذه البلاد الطاهرة الطيبة لكي تقع في حبائل الرذيلة، نحن بلد أنعم الله عليه بنعم عظيمة جداً تحسدنا عليها كل أمم الدنيا، الإيمان وهو أعظم نعمة، التوحيد والعالم يعج بالشركيات إلا من رحم ربك، الرخاء والعالم يعيش في فقر وتعاسة وشقاء إلا من كان مستدرجاً بنعمة مثلنا، الأمن والعالم يعيش في خوف وإجرام فظيع! العالم الغربي بالذات يعيش حالة من الإجرام. الغربيون لا يصدقون إذا جاءوا إلى مطاراتنا في الساعة الثانية أو الثالثة في الليل ويركب سيارة أجرة يذهب أي مكان عادي، هذا في الرياض، في جدة، لكن في نيويورك لا تستطيع، في فرانكفورت في عدة مطارات لا تستطيع أن تذهب إلى أي فندق في هذه الساعة من الليل مثلاً. أشياء كثيرة جداً أنعم الله فيها علينا فنحن مستهدفون محسودون، وتسمعون كثيراً من المسئولين يصرحون بها، مستهدفون، قرأتم بلا شك ما نشر في أكثر من صحيفة عن تخطيط الموساد -المخابرات الإسرائيلية- الذي قام على أن يؤخذ من البغايا اليهوديات عميلات المخابرات، ويوضعن في أوكار الدعارة والزنا في بانكوك وأمثالها وهن يحملن وباء الهربز أو الإيدز لينقلنه إلى الشباب السعودي والخليجي الذي يذهب إلى تلك البلاد، هذا نشر في الجرائد السعودية. وغير ذلك، وما خفي كان أعظم، يخطط لنا لشبابنا، فتيات وفتيان ونحن نقول -كما تقول الأخت- أين التصدي؟ أنا أتساءل معها: هل نتصدى لهذا، وأين التصدي والمقاومة؟ هل نحن على مستوى المعركة؟ هل لدينا من المقاومة ما يكافئ هذه الجهود العظيمة التي تبذل؟ هل نصدق أن التنصير يدخل كل بلد ولا يخطط لهذا البلاد ولأمثالها، أم أن التنصير يدخل فيها بوسائل وطرق أخرى؟ حقيقةً إن الغزو جاءنا من كل جهة، وأنا أسبوعياً أتلقى رسائل من الإخوة الذين يقولون: هذه لقيتها في صندوق البريد، منها ما هو أندية قمار منها ما هو أندية تعارف تعارف مع بنات وأبناء من جميع أنحاء العالم، وهي عندي موجودة، منها ما هي رسائل تدعو للدخول في دين النصرانية، رسائل وأناجيل، حتى عجبت من كثرة ما أحملها كل أسبوع معي، والإخوان في جدة وفي مكة يرون هذا شيء عجيب يا إخوان!! أمة مستهدفة محاربة إلى هذا الحد، ومع ذلك تضيع أوقاتها، وتضيع أجزاءً كثيرة من وقت إعلامها في أمور فارغة تافهة! والله لسنا على مستوى المعركة؛ ولهذا فإنه إن لم نتدارك أنفسنا بإيمان صادق، وبأوبة وتوبة إلى الله، وبعمل جاد مستمر فنخشى أن يدركنا العدو ونحن لم نعمل شيئاً؛ لأن التخطيط جاد ومستمر لإفسادنا والقضاء علينا، وكلنا والحمد لله يأمل وفي ثقة بالله عز وجل أن النصر بإذن الله لهذا الدين، لكن -يا إخوة- لنكن من المشاركين لهذا النصر، ومن السابقين الأولين إلى إقامة هذا الدين بإذن الله.

حكم خروج النساء إلى المسجد متعطرات ومتزينات

حكم خروج النساء إلى المسجد متعطرات ومتزينات Q هناك بعض الأخوات -هداهن الله- يأتين إلى المسجد وهن متزينات متعطرات، وقد غفلن عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فما رأيك؟ A هذا لا يجوز، النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن أن يخرجن تفلات -أي: غير متعطرات ولا متزينات- إنما تخرج في هيئة مبتذلة لا تثير، وإذا فعلت المرأة ذلك فقد خالفت وعصت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت خرجت لخير، وإن لم تقل: أنا أذهب إلى السوق، لكن عصت النبي صلى الله عليه وسلم في الوسيلة وإن كانت محسنة في الغاية والمقصود.

حكم رفض المرأة الزواج ممن يسمع الأغاني

حكم رفض المرأة الزواج ممن يسمع الأغاني Q ما حكم رفض النكاح أو الخطبة إذا كان الرجل غير ملتزماً كأن يسمع الأغاني وغيرها مثلاً؟ A على كل حال لا يجوز للمرأة ولا لوليها أن يختار إلا من يرضى دينه وأمانته، أو أن يرضى بمن لم يكن من أهل الديانة والأمانة، الأصل هو اختيار صاحب الدين والخلق والأمانة الكفء، هذا هو الأصل. لكن في حالات معينة لو أن رجلاً يسمع الأغاني مثلاً، فيه هذه المعصية، ومحافظ على صلاة الجماعة، فيه خير كثير لكن فيه هذا الشيء، وتظن الأخت المسلمة أنها لو وافقت على الخطبة بشرط أن يترك هذه المعصية لتركها، أو أن ذلك وسيلة للدعوة وأنها تستطيع أن تؤثر عليه فلا بأس. أقول هذا يا إخوان لأن واقعنا مرير، لأن المعاصي قد انتشرت، ولأن الزواج أصبح الإقبال عليه ضعيفاً أيضاً. فننوه إلى هذا الجانب، وإن كان خلاف الأصل بنظرة أيضاً مصلحية، وهو أنه إذا اطمأنت الأخت وأولياء أمورها إلى أن الزواج قد يصلح من شأن هذا الرجل فلا بأس، مع دوام النصيحة، ومع اشتراط ذلك بأي نوع من أنواع الشروط، كل إنسان يجتهد بأنه يكون همه وهدفه هو إصلاح هذا الشاب.

حقيقة اعتزال أهل الفن

حقيقة اعتزال أهل الفن Q ما مدى صحة هذا الخبر: رجوع بعض الفنانات المصريات واعتزالهن الفن ورجوعهن إلى الحجاب؟ A الخبر صحيح، وليس عجيباً، سبحان الله إذا تهتكت النساء، وتعرين، وخرجن وتحللن من الدين وهن مسلمات، هذا طبيعي، فإذا رجع منهن واحدة أو اثنتان أو ثلاث تعجبنا وصرخنا وولولنا! لماذا؟ الأصل في المسلم أنه يتوب، الأصل أن الأمة المسلمة تتوب إلى الله وإن عصت ربها عز وجل، أما أن تصرخ الصحافة الغربية: الأصوليون الإسلاميون وكذا وكذا، والإذاعات الغربية، ويتردد ذلك هنا، وكأنه غريب أن المسلمين يتوبوا ما هو الغريب؟ امرأة كانت تبيع عرضها وشرفها لكل ساقط، فتركت ذلك هذا غريب؟! سبحان الله! الغريب أن أولئك اللاتي ما زلن يعشن في العفونة والرذيلة لم يتبن، هذا غريب يجب أن نتحدث عنه، لكن عملت ضجة كبرى على فلانة وفلانة لأنهن تركن الغناء واعتزلن الفن في أوج الشهرة، وقال بعضهم: أمراض نفسية. وقال بعضهم: خشية المنافسة. وقال بعضهم: أرادت أن تعتزل وهي في أوج الشهرة حتى لا تضعف، وقال بعضهم: عامل السن وقال وقال سبحان الله! لماذا؟ ثم عرض عليهن ملايين الجنيهات ليعدن. وقد تاب عندنا بعض المطربين، وعرضت عليه أيضاً مئات الألوف من الريالات ليعود سبحان الله! أصبحنا نتعاون على الإثم والعدوان! شعب يحتاج إلى القرش والجنيه يعرض ملايين الجنيهات على امرأة كانت فاسقة لتعود إلى فسقها لتنشر الرذيلة! هذه أمة؟ ولماذا تأخر نصر الله عنا؟ إلا لأننا بهذه المثابة وبهذه الحال. فالحمد لله التوبة والعودة إلى الله حاصلة في كل قطاع وفي كل مجال، وأنا أقول: لو أنه وضعت أساليب وبرامج جيدة للدعوة بحكمة في النوادي الأدبية، وفي الأماكن التي قد يجتمع فيها الفساق والله قد تثمر وقد يتوب كثير منهم بإذن الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يعانون من لهيب وسوء المستنقعات التي يعيشون فيها، نحن لا ندري بنعمة الله علينا، لأننا نعيش والحمد لله في نعيم، وقد لا نحس به، أم الذي يعيش في العفونة والرذيلة والفساد فإنه إذا استنقذه أحد فإنه قد ينقذه بإذن الله سبحانه وتعالى. أسأل الله جل وعلا أن يجزل مثوبتكم، ويجعلنا جميعاً من المستمعين للقول المتبعين لأحسنه، وأن يجعل ذلك في ميزان أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المؤامرة على المرأة المسلمة [3]

المؤامرة على المرأة المسلمة [3] إن المرأة هي الركن الأساسي في بناء المجتمع وتقوية أركانه، فهي حاضنة بذور المستقبل لهذه الأمة، ومنشئة الجيل الصالح الذي يرفع مكانتها. ولما علم أعداء الله وأعداء دينه بذلك سعوا إلى إفساد المرأة، ودعوها إلى الخروج للعمل ومزاحمة الرجل، والانشغال عن الدور الرئيسي الذي أنيط بها. وفي هذه المادة تحذير للأخت المسلمة من تضييعها لوظيفتها الأساسية وانشغالها بغير ما خلقت له من عبادة الله، وإصلاح بيتها، وإعداد الجيل الصالح الذي يقود الأمة إلى ساحل الأمان والعبودية لذي الجلال والإكرام.

كيد الكافرين للمؤمنين سنة كونية لا تتغير

كيد الكافرين للمؤمنين سنة كونية لا تتغير إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه. أما بعد: أيها الإخوة الكرام: يقول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ويقول جل شأنه: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ويقول تبارك وتعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] فعداوة أهل الكتاب من اليهود عباد العجل، ومن النصارى عباد الصليب، وعداوة المنافقين المندسين في هذه الأمة مما لا يخفى على من تدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هذه العداوة الحاقدة الآثمة مرجعها إلى أن الشيطان يؤز أولياءه أزاً، ويدفعهم لمحاربة الحق دفعاً، فالباطل -أيها الإخوة الكرام- يكره الحق ويترصد له، حتى وإن غفل أهل الحق أو تعاموا عن عداوة الباطل، والشيطان وأعوانه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، لا يكفون لحظةً واحدة عن الكيد لهذا الدين وأهله، بكل ما يستطيعون من الوسائل. وإن من أعظم الكيد ما نقرأه وقرأناه جميعاً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تعاون عليه المشركون واليهود، ثم النصارى والفرس والروم فيما بعد، تعاونوا على طمس دين الله تبارك وتعالى، وعلى إفساد الأمة الإسلامية وإخراجها من دينها الرباني العظيم، ولا تزال هذه المعركة قائمةً إلى قيام الساعة، إلى حين أن يغزونا الروم بين يدي الساعة في ثمانين راية، تحت كل راية ثمانون ألفاً. لا تزال المعركة مستمرة بين الحق وبين الباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد كانت المعركة فيما مضى أكثر ما تدور رحاها في المجال الحربي، حيث كان أعداء الله يظنون أن هذه الأمة هي حدث تاريخي مثل الأحداث التاريخية التي تأتي ثم تنقضي، مثلما قامت دول وحضارات ثم انقرضت وبادت، ولكن الحقيقة الكبرى صدمتهم صدمةً رهيبة، فقد تكفل الله تبارك وتعالى بحفظ هذا الدين وحمايته، وإظهاره على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، صدمهم ذلك وجعلهم يفكرون في وسائل أخرى للحرب والغزو. وبالرغم من أن المعركة لم تهدأ على جميع الجوانب، فإن أول ما يمكن أن يقال: إنه تنظير حقيقي فعلي ذاتي لموضوع الحرب غير العسكرية على الإسلام، وبرمجة لها هو ما كتبه لويس التاسع، ذلك القائد الصليبي الذي كان حاكماً لـ فرنسا، وقاد حملات صليبية على الشرق المسلم، وهُزم مرات، وعجب قومه: لماذا نهزم دائماً مع المسلمين؟! لماذا تكون النتيجة خاسرةً دائماً إذا واجهت جيوش الصليب جيوش التوحيد؟! ففكروا وقدروا، فوجدوا أن الأمر لا يعدو التمسك بهذا الدين. إن سبب النصر سبب انتصار المسلمين هو تمسكهم بدينهم، كما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: [ألا عمل صالح قبل الغزو؛ فإنكم إنما تنصرون بأعمالكم] وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لـ سعد بن أبي وقاص: [اتق الله ومن معك من المسلمين، فإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله وبطاعتهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية كان الفضل لهم علينا في القوة]. عند ذلك كتب لويس وصيته التي ملخصها وموجزها أنه لابد للقضاء على أمة الإسلام من هدمها من الداخل، وإبعادها عن دينها وتنحيتها عنه. ولنتجاوز الأحداث والقرون لننتقل إلى العصر الحديث حيث طبقت هذه الوصية، وهو: التطبيق المتمثل في الغزو الاستعماري الذي تعرضت له الأمة الإسلامية، والذي صاحبه وواكبه غزو فكري على مستوىً ومجالات كثيرة.

المحاور التي تدور عليها حرب الكافرين للمؤمنين

المحاور التي تدور عليها حرب الكافرين للمؤمنين وإذا أردنا أن نؤصل المحاور الكبرى التي دارت عليها معركة أعداء الله تبارك وتعالى وخططهم لإخراج هذه الأمة من دينها، فإننا نجد أنها ثلاثة محاور:

تحكيم غير شرع الله

تحكيم غير شرع الله المحور الأول: تنحية الشريعة عن الحكم: إقصاء شريعة الله تبارك وتعالى عن الحكم في أمور المسلمين؛ ليتحاكموا بعد ذلك إلى الطاغوت، فإذا تحاكموا إلى الطواغيت إلى القوانين الوضعية فقد فقدوا أعظم ما يميزهم عن الأمم، وفي الإمكان بعد ذلك أن يتخلل مجتمعهم أية ضلالة وأية نحلة وعقيدة.

تفكيك المجتمع المسلم وإفساده عن طريق إفساد المرأة

تفكيك المجتمع المسلم وإفساده عن طريق إفساد المرأة المحور الثاني: هو تفكيك المجتمع المسلم وإفساده عن طريق إفساد المرأة المسلمة، مربية الأجيال، التي إذا فسدت فسدت الأمة كلها.

هدم لغة القرآن

هدم لغة القرآن المحور الثالث: هدم اللغة العربية، وإحلال اللهجات المحلية العامية محلها، وإفساد لغة العرب؛ لكي لا يتذوقوا القرآن ولا يفهموا القرآن، ولا يرجعوا إلى كتاب ربهم تبارك وتعالى. على هذه الثلاثة المحاور دارت تلك المعركة، ودارت تلك الخطة، ويهمنا منها الآن الحديث عن المحور الثاني، وهو ما يتعلق بقضية المرأة -كما أسميت- أو موضوع المرأة. فما هي أبعاد المؤامرة على المرأة المسلمة.

أبعاد المؤامرة على المرأة المسلمة

أبعاد المؤامرة على المرأة المسلمة أيها الإخوة الكرام: لقد تعرضت الأمة الإسلامية للغزو الصليبي كما أشرنا، وجاء أولئك الفرنجة الذين ليس فيهم من صفات الإنسانية والرجولة ما يرفعهم عن الحيوان الهابط، فعجب المسلمون لما رأوا الفرنجة وقد جاءوا بنسائهم كاسيات عاريات، ورأوا فيهم من الدياثة ومن التفريط في العرض ما سجلوه وسطروه، كما كتب ذلك على سبيل المثال أسامة بن منقذ في سيرته الذاتية التي سماها: الاعتبار. وعلى الرغم من أن الصليبيين قد هزموا المسلمين واحتلوا بلادهم، إلا أن المسلمين كانوا يسخرون سخريةً مرّة من دياثة الصليبيين، ومن تعاملهم بهذا الشكل، ومن بروز نسائهم وتكشفهن بهذا الشكل الذي رأوه وكتبوه. ولكن الذي حدث أن حملة صليبية أخرى -وهي التي تسمى حملة نابليون بونابرت - حدثت بعد ذلك بقرون -في العصر الحديث- وكثير من الكتاب والمؤلفين المغزوين فكرياً يجعلون قدوم هذه الحملة هي بداية تاريخنا الحديث، مع أن بداية تاريخنا الحديث في العصر الحديث هي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فهي البداية الحقيقية للعصر الحديث. المهم أن حملة نابليون جاءت ومعها التبرج والتفرنج والدياثة والانحطاط، ولكن نظرة المسلمين اختلفت في هذه المرة! نظرة المسلمين اختلفت عنها فيما سبق، فأخذوا ينظرون بشيء من الإعجاب إلى هؤلاء الذين جاءوا ومعهم مستحدثات الحضارة الغربية التي كانوا قد وصلوا إليها في ذلك الوقت، عجبوا بما لديهم من آلات، وما لديهم من وسائل، وأعماهم ذلك عن الدياثة والانحطاط الخلقي الذي رأوه. ويشير المؤرخ المسلم الجبرتي إلى أحداث وقعت في أثناء تلك الحملة، وكيف انبهرت كثير من المسلمات بالنساء الكافرات وتشبهن بهن وتزيين بزيهن. وظل الأمر قضية محدودة، ولكن أعداء الله كانوا يدرسون الخطة بإحكام وإمعان. إلى أن جاء الاحتلال الإنجليزي إلى مصر، وجاء بالذات اللورد كرومر، وهو رجل غريب عجيب في خططه ومؤامراته على هذه الأمة. في ذلك الوقت ابتدأت القضية التي سميت في ما بعد قضية المرأة، حين ظهر كاتب قبطي نصراني يدعى مرقص فهمي، فكتب كتاباً سماه: المرأة في الشرق، في نفس الوقت الذي ظهر فيه هذا الكتاب -والذي دعا فيه إلى التحلل من أخلاق الإسلام وأحكام الإسلام، والإباحية- كان هناك العمل الذي يديره اللورد كرومر في صالون إحدى السيدات المتفرنجات، حيث كان ذلك الصالون يضم نخبةً ولفيفاً من قادة الفكر، وقادة السياسة، ومن ذلك الصالون خرجت فكرة أخرى، وهي: أن كتاب مرقص فهمي لم يؤد الدور المطلوب؛ لأنه قبطي نصراني، والأمة الإسلامية لا تثق أن تأخذ دينها عن النصارى؛ فكان أن خرج كاتب منتسب إلى الإسلام وهو قاسم أمين بكتابه: تحرير المرأة، وأعانه على ذلك -كما ثبت تاريخياً- من كان يستضيفهم ذلك النادي، ومنهم الشيخ محمد عبده وغيره؛ أعانوه على تحقيق مسألة هي في ذاتها صغرى بالنسبة لما بعدها، ولكنها البداية التي تبدأ منها المؤامرة في كل مكان وفي كل بلد، وهي: أنه لا يجب على المرأة أن تغطي وجهها، بل قالوا: إنّ تغطية الوجه هي عادة من العادات التي ورثها المسلمون عن الفرس أو الترك، وليست من الدين في شيء، كان هذا هو محور ومضمون كتاب تحرير المرأة. وبعد سنوات كتب قاسم أمين كتاباً آخر أسماه: المرأة الجديدة، وفي هذا الكتاب قال بصراحة وبعلانية وبوضوح: إنه لابد للمرأة المسلمة أن تقلد النساء الغربيات في كل أمورها. وقد واكب ذلك أن بعض الصحفيين النصارى الذين كانوا يعيشون في بلاد الشام والذين كانوا قد تعرضوا للأذى من الحكومة التركية نتيجة جهودهم التنصيرية ومؤامراتهم الخبيثة هاجروا إلى مصر، وأسسوا مجلات وصحافة، وظهرت بذلك أول صحف تتحدث بوضوح عن المرأة وقضية المرأة ودور المرأة على يد أولئك النصارى، فكانت القضية مخططاً لها من جميع الجهات ومن جميع الوجوه. ثم كانت الثورة المصرية عام (1919م) وقيل للمرأة: لابد أن تشاركي في تلك الثورة؛ فخرجت وعملت مظاهرات، وكانت بذلك تعطي المبرر الذي أراده المخططون وهو: أن المرأة تشارك في تحرير الوطن، وتشارك في إخراج العدو ومقاومة العدو المحتل، فلماذا تبقى مظلومة وتبقى مهدرة؟! لماذا لا تكون على قدم المساواة مع الرجل؟! وخرجت نتيجة لذلك مظاهرات نسائية، واجتمعن في ميدان عام، وخرجت التي تولت كبر هذا الموضوع وهي المدعوة هدى الشعراوي، وخلعت الحجاب وأحرقته في الميدان أمام المتظاهرات، وأمام الزعيم سعد زغلول. ومنذ ذلك الحين -والتاريخ كما تعلمون ليس ببعيد- بدأت المرأة المسلمة تكشف عن وجهها، وبدأت المؤامرة تحكم أنفوختها وأحبولتها على تلك البلاد وفي كل مكان.

بداية المؤامرة على المرأة في مصر

بداية المؤامرة على المرأة في مصر إن أعداء الله إنما ركزوا جهودهم على مصر لأنها الزعيمة، زعيمة العالم الإسلامي حضارياً وثقافياً في تلك الفترة، ولذلك علموا أنه بالقضاء على أخلاقها سوف يصدَّر ذلك الفساد إلى بقية أجزاء الوطن الإسلامي الكبير. ولما أن قامت هذه الحركة وصارت لها صحف، وصارت لها منتديات وخطباء، وقام من يروج لها من الزعماء والمفكرين -كما يسمون- اضطروا إلى استحداث ما سموه الأحزاب النسائية، ولم تكن في ذلك الوقت -أيها الإخوة- تسمى جمعيات نسائية، وإنما سموها الأحزاب النسائية، ثم رأوا فيما بعد أن هذا الاسم يثير الانتباه، والأفضل أن تسمى جمعيات. فأنشئت الأحزاب النسائية مثل: حزب بنت النيل، والحزب النسائي، وغير ذلك من الأحزاب. وهذه الأحزاب تم ضمها فيما بعد إلى الاتحاد النسائي الدولي، ومن ذلك التبعية للاتحادات النسائية الإنجليزية، وكانت إحدى الوزيرات الإنجليزيات هي التي جاءت إلى مصر ونظمت تلك الأحزاب، وأعلنت تأييدها لها ووقوف المرأة الإنجليزية مع أختها -كما قالت- المصرية؛ من أجل تحقيق حريتها وانطلاقتها. ثم تولى الموضوع مع إطلالة الحرب العالمية الثانية -عندما ظهر الرئيس روزفلت، وكانت أمريكا تريد أن تتزعم العالم، وبدأت شمس بريطانيا في الأفول- زوجة الرئيس روزفلت، وقامت بنفسها وتولت كبر التخطيط للأحزاب النسائية والتمويل لها. ويقدر الله تعالى أن تختلف الأحزاب السياسية فيما بينها، وكل حزب نسائي يتبع حزباً سياسياً، وإذا ببعضها يفضح بعضاً، وإذا بالصحف السياسية كل منها تنشر الوثائق التي تثبت أن الأحزاب النسائية تمول عن طريق السفارتين: البريطانية والأمريكية، وأن زوجة روزفلت تقف وراء ذلك التوجيه كله. بلا شك لقد تمت مقاومة هذه الفكرة، وممن بقين على الحياة ممن أصابهن وعيد الله تبارك وتعالى حين قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] ممن أصابها هذا العذاب الأليم وبقيت على قيد الحياة أمينة السعيد، فقد قرأت لها قبل فترة تصرخ وتئن، تقول: بعد المجد الذي بنيناه، وبعد التضحيات التي بذلتها المرأة المصرية الآن تصبح (30%) من بنات الجامعة محجبات فضلاً عن اللاتي تركن الجامعة ما هذه الانتكاسة؟! ما هذه الردة والرجعية الجديدة التي بدأت الآن؟! فقلت: صدق الله العظيم {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} [النور:19] يعذبهم الله بفشل مخططاتهم، وفي الآخرة، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، خططوا وسيطروا على مجالات كثيرة في شتى بقاع العالم الإسلامي: خططوا للمرأة المتحضرة الجامعية أو المثقفة، وخططوا للمرأة الريفية أو القبلية ببرامج تشرف عليها منظمة الأمم المتحدة، وبالجمعيات والأحزاب التي تنتشر فروعها في تلك المناطق، وبالمراكز الاجتماعية وأمثالها مما دخل فيه أعداء الله إلى بلاد المسلمين. وخططوا على مستوى الأدب والشعر، فنشروا الدواوين الماجنة، والأفكار الخبيثة، والكتب الهدامة، وتولى كثير من الشعراء إشاعة موضوع المرأة وقضية المرأة: مثل جميل الزهاوي ومثل الرصافي، ومثل ولي الدين يسن، ومثل الطائر الحداد في تونس، وغير ذلك من الشعراء الذين إذا قرأنا دواوينهم نجد أنهم وضعوا فيها قسماً خاصاً سموه: النسائيات. ثم تطور الأمر إلى أن يصبح هناك شعراء وكتاب متخصصون في فن الدعارة، متخصصون في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ومحاربة الله ورسوله، ومحاربة عرض المرأة المسلمة، وعفاف المرأة المسلمة، وغيرة المرأة المسلمة وغيرة الرجل المسلم، وقالوا: لابد أن تنشأ صحافة نسائية، وأحزاب نسائية، ونقابات نسائية في العالم الإسلامي على طوله وعرضه.

أهداف المؤامرة على المرأة المسلمة

أهداف المؤامرة على المرأة المسلمة من الأهداف -التي لا تخفى عليكم جميعاً- التي يريدون أن يحققوها، وقد حققوا كثيراً منها:

تفتيت المجتمع المسلم وتمزيقه

تفتيت المجتمع المسلم وتمزيقه تفتيت المجتمع المسلم وتحطيمه وتمزيقه، وإذا مزقوه وحطموه بقي لهم وجودهم، وبقيت لهم مراكزهم وبقيت لهم سيطرتهم عليه، كما قال أحد وزراء فرنسا وكتابها: إن الذي هزم فرنسا في الجزائر هي المرأة المسلمة المحجبة، فلابد من أخذ العبرة، ولا بد من إفساد المرأة المسلمة -هكذا قالوا جميعاً- لكي تبقى السيطرة الخفية بعد رحيل الاستعمار المكشوف السابق. تفتيت المجتمع المسلم بأن يكون: المرأة تحارب الرجل، والطلاب يحاربون الجامعة، والعمال يحاربون أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الشركات، والسلطة تحارب الشعب، ففرقوا المجتمعات الإسلامية كما هو حاصل من تمزيق وتفكك وتفرق في المجتمعات الغربية. المجتمعات الغربية -أيها الإخوان- ليس لديها شريعة تحتكم إليها، ليس لديها شرع ينظم أمورها فيعرف الحاكم مسئوليته، والتاجر يعرف قدره، والعامل والطالب والمرأة والرجل، وكل إنسان يعرف ما يجب عليه وما يجب له، وإذا وقع ظلم أو حيف أو جور فبحكم هذا الشرع يظهر من الظالم ومن المظلوم، أما الغرب فليس لديهم ذلك، هذا من خصائص هذه الأمة ولله الحمد، نحن الأمة التي تمتلك الشريعة الربانية الخالدة التي تحكم وتنصف المظلوم ممن ظلمه. أما أولئك فليس هناك شيء من ذلك، ولهذا لابد من هذه التكتلات، ولابد من هذه التجمعات والاتحادات والنقابات، وما إلى ذلك من الأسماء، وهي أسماء وتكتلات غريبة على مجتمعنا، وعلى أمتنا الإسلامية، فقالوا: لابد أن يكون للمرأة تجمعات وتكتلات تطالب لتأخذ بحقها ممن تأخذ المرأة حقها؟ من هو العدو الذي تحاربه المرأة؟ من هو الضد الذي تسعى المرأة إلى إثبات وجودها وإرغامه؟ هل هو الأخ الزوج الأب؟ المرأة في كل بيت لا تخلو: إما أن هذا الرجل أخ لها أو أب أو زوج أو ما إلى ذلك، فكيف تنشأ العداوة بين الأخ والأخت؟ وكيف تفتعل العداوة بين الابنة والأب؟ وكيف تنشأ أيضاً بين الزوج وزوجه، فتشتعل نار العداوة، فلا تجد الزوجة من تطالبه بحقها إلا أن تنضم إلى الاتحادات النسائية والنقابات النسائية، ولا تجد البنت من ينصفها من أبيها إذا زوّجها بمن لا تشاء إلا أن تلجأ إلى الصحافة النسائية والاتحادات النسائية سبحان الله! هذه أمور غريبة على المجتمع المسلم الذي تسوده الألفة تسوده المحبة والتعاون، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، ونصر المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، المرأة المسلمة إذا خرجت وطالبت هي بحقها ضاعت وضاع حقها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل لها من يحميها، وجعل لها من يأخذ لها حقها، حتى ولو كان الظالم لها أباها! فإن الله سبحانه وتعالى أعطاها الوسيلة لتأخذ حقها منه، ولكنهم يريدون أن يفتتوا المجتمع المسلم، وأن يمزقوه، وأن يدمروه بهذه الطريقة.

تدمير الأمة الإسلامية والقضاء عليها

تدمير الأمة الإسلامية والقضاء عليها الهدف الثاني وما أكثر الأهداف التي يسعون إليها! - هو: تدمير هذه الأمة، والقضاء على وجودها إعلان الحرب عليها وإبادتها بطريقة لا تثير الانتباه كما كان في الماضي. وهنا لابد أن نستطرد قليلاً لننظر إلى حال المجتمعات الغربية، وما تعرضت له من احتمال الانقراض، بل من حتمية الانقراض والانحطاط بسبب خروج المرأة، وعمل المرأة، ودفع المرأة إلى خارج البيت. لقد اجتمعت كثير من الدول اجتمع مفكروها، وأعضاء برلماناتها، وأدباؤها، وأجمعوا على أن خروج المرأة من البيت هو مما يعجل بتقويض الأمة، وهدمها وتدميرها بشرياً. ولا يخفى عليكم جميعاً -أيها الإخوة- أن الطاقة البشرية هي أقوى قوة لدى أي أمة من الأمم، ففي روسيا -الدولة الشيوعية المعروفة- تعطى المرأة التي تنجب عشرة أطفال وساماً تحمله على صدرها تباهي به في كل مكان، وسام البطولة القومية! لهذه البطلة القومية التي أنجبت للمجتمع عشرةً من العمال! وفي بريطانيا وفرنسا وغيرها خطط متواصلة للإكثار من النسل؛ لأنه قد تبين أن عدد الوفيات أكثر من عدد المواليد، وهذا يهدد بانقراض الأمة وتناقص عددها، وأن يصبح العالم الغربي أقليةً لا قيمة لها في العالم. وإيطاليا -وهي من أكبر الدول الأوروبية- تعطي إعانات لكل مولود يولد، وتشجع الزواج، وتشجع على الإكثار من النسل نتيجة لذلك. لا نريد الاستطراد في هذا، ولكن نشير إلى أن العالم الغربي قد فطن إلى أن من أسباب وموجبات تدهور حضارته وانحطاطها: أن المرأة تعمل؛ وبالتالي لا تتزوج ولا تنجب؛ مما يؤدي إلى انقراض الأمة حتماً بالأرقام الرياضية الحسابية، من دون أي رجوع إلى كتاب ولا سنة ولا منهج رباني على الإطلاق. أذكر لكم مثالاً على ضوء ما قرأت مما حفظوا وقدروا: نقول: نفترض أن البنت الجامعية تتخرج وهي في الثانية والعشرين من عمرها في الغالب -في المتوسط- ولنفترض أن فتاتين تخرجتا هذه السنة وعمر كل منهما اثنتان وعشرون سنة، إحداهما تزوجت، والأخرى توظفت وعملت ولم تتزوج، ماذا سيكون الحال بعد عشرين سنة؟ كما تعلمون ومعروف من واقع مجتمعنا أن التي توظفت وعملت سوف تصبح هرمة عجوز أو قريبة من الهرم، فالمرأة تهرم وهي في مملكة البيت فكيف لا تهرم وهي في العمل في هذا السن؟! والفتاة الأخرى التي تزوجت بعد عشرين سنة - في المتوسط للمواليد المعروف عندنا- يكون لديها شاب عمره ثمانية عشر عاماً، ويليه شاب أو شابة في الخامسة عشرة، وشاب أو شابة في الثانية عشرة، وشاب أو شابة في العاشرة أو التاسعة، وشاب أو شابة في الثامنة، إلى السادسة، إلى الثالثة، إلى الثانية. إذاً تجدون أن الأمهات -ومجتمعنا معروف لديكم- كثير منهن في حدود الثانية والأربعين، أو ما أشبه ذلك، ولديها أسرة متكاملة ولله الحمد: الابن الكبير في الجامعة أو على مشارف الجامعة، والصغار من المتوسط إلى الابتدائي إلى الحضانة إلى البيت. إذاً: هذا وجود للأمة، بعد عشرين سنة تكون هذه الفتاة إذا وفقها الله تعالى وتزوجت بشاب يكون من هذا الشاب وهذه الفتاة أسرة مؤمنة، ويكون لدينا رجل وامرأة في الثانية والأربعين على قدر من الحكمة والعقل، ولديهم أسرة متكاملة، فعلاً يخدمون البلد، يستطيعون أن يسهموا في التنمية، ويقومون بدور لا يمكن أن يقوم به الإنسان الأجنبي المستقدم من الخارج في أي حال من الأحوال. فيكون بقاء الأمة ونماء الأمة نتيجة لهذا الزواج، ولهذه البنت التي كان هذا شأنها، بخلاف الأخرى العجوز التي حرمت من الزواج، ومن حنان الأمومة وعطف الأمومة، وهي عجوز هرمة لا تملك شيئاً، ولم تقدم لأمتها شيئاً، إلا أنها في العشرين عاماً الماضية قد عملت أعمالاً تتقطعها الإجازات المرضية، إجازات وإرهاق وإجهاد، وأعطاب وأمراض نفسية كثيرة لابد أن تتعرض لها ما لم تتزوج. نقول: إن الأمة التي يوجد فيها الآن عشرة آلاف فتاة ثم يتزوجن فإنها بعد عشرين سنة يكون لديها عشرة آلاف أم عاقلة، وعشرة آلاف شاب في الثامنة عشرة، وعشرة آلاف شاب في الخامسة عشرة إلى الثانية عشرة، إلى الثانية، ولكن الأمة التي تدفع المرأة للعمل خارج البيت فلا تتزوج، يكون لديها بعد عشرين سنة عشرة آلاف عجوز هرمة منهكة مجهدة، وتضطر حينئذ إلى أن تستقدم المربيات، أن تستقدم الذين يسهمون في بناء التنمية، الذين يعملون في أي مجال من المجالات سواء كانوا رجالاً أو نساءً. هذه العملية -أيها الإخوان- الحسابية الرياضية قالها وكتبها أولئك الناس الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ونحن إن لم نرجع إلى كتاب ربنا وإلى سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا هو أمر الله، ولأن هذا هو أمر رسوله، فلا خير فينا إن لم نرجع؛ لأن الأعداء قد رجعوا بعد أن جربوا ودرسوا وخططوا. ومع ذلك فهل يرجع المغفلون؟! هل يرجعون لأن الأسياد قد رجعوا؛ ولأن خططهم؛ وأبحاثهم قد أثبتت هذا؟!! لا ندري، نرجو الله سبحانه وتعالى لنا ولهم الهداية والرجوع إلى الطريق المستقيم.

امتصاص خيرات الأمة

امتصاص خيرات الأمة من النتائج التي يحققها أعداء الله بالمؤامرة على المرأة المسلمة: أنهم يمتصون خيرات الأمة عن طريق المرأة، وهذا أمر معروف لدى كل إنسان في كل مجتمع، وهو أن المرأة تميل إلى الإنفاق أكثر من الرجل، وأنها أقل منه حسباناً للعواقب، وخاصةً ما يتعلق بزينتها، وبمتاع الحياة الدنيا لها، أو بمن تحب؛ ونتيجة لذلك حرص أعداء الله على أن تخرج المرأة المسلمة، فالمرأة المسلمة التي في بيتها إن لبست الثمين وإن لبست الرديء فهي في البيت مصونة محفوظة بحفظ البيت، لكن إذا خرجت إلى الشارع، وخرجت تلك وتلك فلابد أن تنافسهن فيما يلبسن، وهنا نصب أعداء الله الشباك العريضة لهذه المرأة المسلمة! عشرات من أنواع المساحيق التي تباع بأبهض الأثمان، ويقال: إنها تعيد البشرة وكأنك بنت العشرين، وكأنك كذا دعايات في الصحف وفي غير ذلك، دعايات ينفق عليها الآلاف لنشر وترويج هذه المساحيق وأدوات التجميل! بيوت الأزياء -والتي يملكها أباطرة المال اليهود في الغرب- تجعل فساتين وأزياء للسهرة، وفساتين وأزياء للصباح والعمل، وللشتاء وللصيف وللنوم وللتفسح ولكذا ولكذا، وتجعل تقليعات وموضات، تلهث المرأة وتجري، ما يأتي موعد راتبها أو راتب زوجها الشهر القادم إلا وقد جمعت من هذه الموضات ما تريد أن تستنفد به ربع الراتب أو الثلث، وربما كله من أجل أن تلاحق هذه الموضات، وتلاحق هذه التقليعات والصرعات. فتكون النتيجة: أن المرأة المسلمة التي تطالب بالعمل وبالخروج تضيع الأسرة، وتسبب انقراض الأمة، إنها إذا عملت فإن نتيجة عملها وكسبها تذهب إلى جيوب أباطرة المال من اليهود في العالم الغربي، وهي تشعر أو لا تشعر، وتذهب في شراء المجلات النسائية، ومجلات التفصيل، ومجلات الأزياء التي إذا قرأتها من الغلاف إلى الغلاف فلأجل صور النساء فقط، لا تقلب شيئاً: لا علم، ولا ثقافة، ولا تحقيقات متعبة لا، أبداً، ما هي إلا صور نساء ترص في صفحات ملونة، وتباع بأربعين ريالاً، أو بمائة ريال بما شاءوا، فتتسابق البنات المسلمات إلى شرائها، وإلى اقتنائها؛ لتتابع هذه التقليعات وهذه الصرعات. والخاسر من هو؟ هو هذه المرأة المسكينة، خسرت دينها، وخسر الزوج، وخسر المجتمع، وربح اليهود، وربح أعداء الله الذين يخططون لإفساد المرأة المسلمة.

تضييع التربية الإسلامية

تضييع التربية الإسلامية كما أن من الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها: أن تضيع التربية الإسلامية الصحيحة، وأن تفتقد الأجيال إلى التربية: إن الله سبحانه وتعالى قد شرع لنا الخير كله، وفي ما أنزله لنا الخير والهدى والصلاح في أمور ديننا ودنيانا جميعاً، ولكن هؤلاء يريدون أن تتمرد المرأة المسلمة على ذلك كله، شرع الله تبارك وتعالى لنا الرضاع -كمثال- وأهم منها التربية، تربية الأبناء على طاعة الله سبحانه وتعالى. وجاء أولئك فقالوا: لا ترضع، المرأة المسلمة لا ترضع، روجوا الأنواع الكثيرة التي تدر عليهم الأموال الطائلة لكي تحتفظ المرأة برشاقتها فلا ترضع الطفل، ولكي تنطلق إلى العمل وتأتي بالمربية، تخرج وتحل محلها مربية بوذية وثنية نصرانية، أو جاهلة لا تدري شيئاً، ولن تربي الطفل كالأم بأي حال من الأحوال، وهذه المربية تأخذ من مرتب الأم ما تشتري به الحليب لتطعم به الطفل، فيحرم الطفل من حنان الأمومة، ويحرم من الغذاء الطبيعي، وأعظم من ذلك يحرم من الحياة الطبيعية من بسمة الأم من حنان الأم من عطف الأم فماذا ينشأ ذلك الطفل؟ ينشأ مجرماً، وينشأ حاقداً إلا من رحم الله، ينشأ ولديه حب الانتقام والغضب من هذا المجتمع ومن هذه الحياة التي عاشها؛ لأنه فقد الحنان وفقد العطف وفقد الرقة التي يفتقر إليها المخلوق، ويفتقر إليها الابن في مثل هذا السن، وربته تلك على ما تربيه عليه.

نموذج لبيت خرجت منه الأم للعمل

نموذج لبيت خرجت منه الأم للعمل لابد أنكم قد قرأتم ما نشر في جريدة المدينة قبل سنوات، من أن مربية بوذية جاءت الأم إلى البيت ووجدت أنها تعلم أبناءها السجود والركوع لتمثال بوذا، حيث وضعت تمثال بوذا أمام الأطفال، وبدأت تعلمهم كيف يسجدون ويركعون ويعبدون بوذا، والأم في العمل، تقول الأم: أخدم المجتمع أنمي بلدي لكنها أضاعت أبناءها وجعلتهم يعبدون غير الله ويشركون بالله، وهذا نموذج، والنماذج كثيرة. التربية -أيها الإخوان- أعظم عملية وأطول عملية، الطفل قبل أن يبلغ العشرين يعتبر طفلاً يشرف عليه الأب والأم، ويعتبر ما يزال في حاجة إلى الرعاية، وهذا أمر معروف لكم جميعاً، الأب والأم يعتبرون أنه ما يزال في حاجة إلى الرعاية حتى يتخرج من الجامعة، وربما بعد ذلك، وهذه حقيقة، فإذا أفسد من أول ما يولد، وربته المربية، وفقد حنان الأم وتربية الأم -بحجة أن الأم تسهم في خدمة المجتمع- فإن المجتمع قد ضاع في الحقيقة، لأن المجتمع هو هذه الأجيال التي بعد عشرين سنة، تكون هي الشباب وهي الطاقة وهي القوة. ولقد دلت البحوث التي بحثت في أمريكا بالذات وفي غيرها، على أن سبب انتشار الجرائم في العالم الغربي هو أن الشباب والأحداث المحترفين للجريمة لم يتربوا على أيدي الأمهات، وأن خروج المرأة -بهذا النص قالوا-: خروج المرأة وعملها هو وراء هذه الجرائم، ومن هذه الجرائم انتشار الشذوذ اللواط، ونتيجة انتشار الشذوذ واللواط انتشر الإيدز المرض الذي يهدد العالم الغربي بل وغيره تهديداً رهيباً، وما هو إلا إحدى عقوبات الله عز وجل التي يسلطها على من عصاه من عباده ليعتبر بذلك من اعتبر. فخروج المرأة -إذاً- وعملها ليس كما يزعم الخداعون والماكرون أنه هو الأصل، وأنه هو الأساس، وأنه لابد منه للتطور والتقدم والتنمية وما أشبه ذلك، إن الله سبحانه وتعالى يقول مخاطباً أمهات المؤمنين: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] هذه هي القاعدة الكبرى، وهي الخط العريض الذي يجب أن تكون عليه كل امرأة مسلمة، البيت وظيفة الأمومة تنشئة الأجيال تربية المؤمنين تربية الشباب المؤمن القوي القادر على أن يكون قوياً في إيمانه، قوياً في جسمه، قوياً في محاربة أعداء الله وأعداء أمته، وما عدا ذلك فحالات عارضة لا يجوز ولا يصح أن تجعل هي القاعدة إن عملت أو توظفت، حتى في المجال النسائي البحت فهي حالة عارضة حالة مؤقتة، يجب أن ننظر إليها على أنها مؤقتة، ويجب أن ننظر إلى أنه حتى تعليم الفتاة إنما هو مؤقت لكي تحصل على قدر من العلم يعينها على أن تكون أماً صالحةً لتتزوج، وهذا هو الهدف، وهذا هو الأساس. ولهذا نجد أن كل من خالف الله عز وجل وكل من عصا الله فإنه يتحقق عليه ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (بعثت بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، فالله تعالى قد كتب الذل والصغار على من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم المخالفات التشبه بالكفار في تبرجهم وتهتكهم ومخططاتهم، ومناهجهم التربوية والتعليمية والسلوكية فيما يتعلق بجانب المرأة المسلمة. إن أعداء الله -أيها الإخوة الكرام- في سبيل أن يسيطروا على هذه الأمة قالوا: لابد أن نشغل الفتاة المسلمة بالفتى المسلم، ونشغل الفتى المسلم بالفتاة المسلمة، فتجد الشباب في المدرسة وهمه في الشارع وفي السوق كيف يراها؟ كيف يخاطبها؟ كيف يتلطف بعينه إليها؟ أو برجله ليصل إليها، يقرأ ويشتري الدواوين التي تدل على ذلك، والكتب التي تحث على ذلك، يشاهد الأفلام والمسلسلات التي تحث على ذلك؛ وبالمقابل نجد البنت أيضاً هكذا، فيكون في ذلك إضاعة لعمر الأمة، ما هي الأمة إلا الأولاد إلا الشباب وإلا الشابات؟ ما هي الأمة غير ذلك: العجائز أم الأطفال الصغار؟ فإذا شغل الشاب بالشابة، وهي كذلك؛ فإنهم يبقون كما هو الحال في أكثر بلاد العالم الإسلامي، يبقون في غفلة عن أعداء الله، وعن قضايا أمتهم وماذا يدور فيها وماذا يحدث لها، يهمهم آخر فيلم لفلانة أو آخر كتاب أو ديوان لفلان أكثر مما يهمهم ماذا حدث في أفغانستان، ماذا حدث في فلسطين، ماذا حدث هنا وهناك من أمور يجب على الشاب المسلم أن يهتم بها، وأن يعيها ويعلمها. يضيعهم ذلك عن العلم النافع العلم الشرعي الصحيح الذي لا بد منه، حتى وإن كنت في كلية الطب أو الهندسة، حتى وإن كنت عاملاً أو موظفاً لابد لك من العلم الشرعي، لابد أن تعبد الله على علم تصلي على علم، لابد أن تزكي وتصوم وتحج على علم. هكذا يشغلون الشباب عنه بهذه المجلات النسائية، والمسلسلات النسائية، والأفلام النسائية، فيضيع عقل الأمة وفكرها، ويضيع مالها، ويضيع شبابها، وتضيع كل جهودها؛ نتيجةً لهذا التخطيط ونتيجةً لهذا الطعم الكبير الذي هو المرأة، الذي جُعل في شبكة المؤامرة ليصطاد الأمة جميعاً، ويجعلها لقمةً سائغةً لأعداء الله تبارك وتعالى.

وإن الفرج مع الصبر

وإن الفرج مع الصبر أيها الإخوة الكرام: الحديث عن المؤامرة وأبعادها لا ينسينا أبداً الحديث عن الثقة في وعد الله وفي نصر الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، والثقة في الله ثم في الشباب المسلم الذي بدأ يصحو ويتيقظ لهذه المؤامرة، ونحن في هذا البلد بالذات نحمد الله تبارك وتعالى أن الوعي والصحوة الإسلامية عندنا قد تواكبت مع بداية الغزو الفكري وتخطيط المؤامرة لهذه البلاد، وإننا لواثقون بإذن الله من أن النصر سيكون لدين الله سبحانه وتعالى، وللدعاة إلى الله تبارك وتعالى، ولكن علينا أن نكون واعين، وأن نكون حذرين، وأن نعرف أولئك الهدامين، وأن نقاومهم المقاومة الفعالة بالحكمة، بالكلمة الصادقة، بالنقد الذي يقنع الخصم ويلزمه، بإقامة الحجة عليهم، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بقطع كل سبيل إلى إفساد المرأة المسلمة. الأب يراقب ابنته: لا تذهب إلى السوق، لا تشتري المجلات الخليعة، لا تنظر إلى الأفلام الخليعة. الزوج يراقب زوجته في ذلك، المعلم يوصي تلاميذه بأن ينتبهوا لأسرهم، وأن يغضوا من أبصارهم، وأن يحفظوا فروجهم، وكذلك الإمام في المسجد، وكذلك كل من يملك سلطة للتوجيه، أو منبراً للإعلام، فإذا قمنا بذلك فإننا نحبط المؤامرة، وإنها لحابطة بإذن الله تبارك وتعالى، ولكن إذا غفلنا، وإذا لم ننتبه إلى ذلك، فإن عمر المقاومة سيطول، أما إذا حصل الانتباه، وحصلت اليقظة وهي حاصلة ولله الحمد منذ الآن؛ فإن البشائر المقبلة تؤكد أن النصر لن يكون إلا لهذا الدين. وإننا نذكر المرأة المسلمة المتمسكة بحجابها في هذه البلاد، بأن أختها التي خدعت وغرر بها، ووقعت في شباك المؤامرة في العالم الآخر في الدول الأخرى قد عادت ولله الحمد، وقد تنبهت لتلك المؤامرة، وقد عرفت حقيقة دينها. وإن فتاةً واحدة محجبةً عن دين وإيمان واعتقاد في وسط بيئة جاهلية فاسقة منحرفة لهي أفضل ألف مرة ممن كانت تلبس الحجاب لأنه تقليد واتباع، ولو جاءتها دعوة إلى غير ذلك لفعلت وهذا هو الموجود ولله الحمد، وجدت البنات المؤمنات اللاتي يتمسكن بالحجاب، واللاتي يرفضن العمل المختلط، واللاتي يعلمن أن وظيفتهن هي الأمومة، وأن مملكتهن هي البيت، وجدت في تلك البلاد التي سبق إليها الغزو، وليس ذلك بعجيب؛ فإن الغربيات وهن قدوة المتهتكات والساقطات الغربيات قد تمنين هذه الحياة، كما ذكر الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله عن امرأة أمريكية شهيرة زارت دمشق؛ وسألت عن الحياة الإسلامية، وقيل لها: هذه هي حياة المسلمين، المرأة المسلمة واجبها كذا وكذا، الزوج يحميها، الزوج يؤويها، الزوج ينفق عليها، أو الأب أو الأخ، فهي مصونة، محترمة، يستدين المبالغ الطائلة ولا يرضى أن تعمل وأن تخرج. لما رأت ذلك قالت: والله لقد تمنيت أن أعيش هذه العيشة الكريمة ولو لبضعة أشهر ثم أموت! مما تعاني من شقاء وهي امرأة مبجلة محترمة.

والحق ما شهدت به الأعداء

والحق ما شهدت به الأعداء في إحدى المؤتمرات التي عقدت في ألمانيا كان الموضوع عن الإسلام والمرأة، وقام عدد من المستشرقين وأثاروا أن المرأة المسلمة -المرأة الشرقية- مظلومة ومهدرة، وكذا وكذا، وأخذوا يتكلمون وقالوا: إن تعدد الزوجات هو خطر من الأخطار، وهو من أكبر المظالم التي تهدد المرأة في الشرق، ويجب أن يرفع عنها هذا الحيف وهذا الجور. فقام أحد الدعاة أو أحد المشاركين في المؤتمر -وأظنه الدكتور أحمد الشرباطي - ليرد على هذه الفرية، فقامت امرأة ألمانية تشغل منصباً كبيراً في بلدها وقاطعته قائلة: أنا سأتكلم. فقال: لا، أنا أرد على هذه التهمة، ثم ستتكلمين بما تشائين؛ لأنه كان يظن أن المرأة سوف تؤيد هذه الشبهة، فقالت: لا، أنا سأدافع وسأرد بدلاً عنك، وقامت وقالت: أنتم يا من تقولون: إن المرأة الشرقية إذا كانت المرأة الرابعة فإنها شقية محرومة مظلومة، أنا أريد أن أكون المرأة الرابعة والثلاثين -هكذا قالت- بشرط أن أجد رجلاً يحميني من اللصوص في الليل فقط!! يحميها من اللصوص في الليل؛ لأنها لا تأمن ولا تطمئن، أين أبوها؟ لا تدري عنه، أين أمها؟ لا تدري، أين أخوها؟ لا تدري، هي تكدح وتعمل وتستأجر المنزل، وربما إذا تزوجت هي التي تدفع المهر، ثم يتركها إلى عشيقة أخرى هذه حال الدول التي تسمى متقدمة! تتمنى أن تكون الرابعة والثلاثين، ولكن ماذا يقول بعض سفهاء الصحافة في بعض البلدان الإسلامية؟ يتكلمون عن تعدد الزوجات وكأنه أكبر خطر وأكبر ظلم يهدد الأمة الإسلامية بالزوال سبحان الله! والدليل على ذلك: أنهم يجعلون موضوع المرأة موضوعاً اجتماعياً بحتاً، مسألة اجتماعية لا علاقة لها بالحلال ولا بالحرام؛ ولهذا يجرون الاستفتاءات والاستبيانات -كما يسمونها- كما يشاءون، مع شاب وشابة، ومعلم ومعلمة، يختارون من يشاءون ويقولون: ما رأيكم في عمل المرأة؟ ما رأيكم في خروجها من البيت؟ ما رأيكم في إعطائها حقوقها؟ ثم ما رأيكم في تعدد الزوجات؟ ويأخذون رأي الجميع ويلخصون، هم الخصم والحكم، وفي النهاية يقولون: الآراء اجتمعت واتفقت على أن المرأة لابد أن تعمل، ولابد أن تخرج من البيت، وأن تعدد الزوجات يهدد الأسر، ويؤدي إلى التناحر وإلى التفكك، وإلى سوء التربية، وإلى كذا وإلى كذا. هؤلاء الذين يعترضون على حكم الله، الذين يجعلون شرع الله وما أنزله الله سبحانه وتعالى في كتابه، وما أنزله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن المرأة وغيرها، وما درجت عليه الأمة الإسلامية خلال أربعة عشر قرناً، يجعلونه كله باطلاً ولغواً، ويأخذون آراء الناس أصحاب الأهواء في هذه الأمور، وكأننا أمة ضائعة لا شرع لها ولا كتاب ولا سنة ولا ميزان ولا معيار! الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. انظروا كيف جاءت هذه الآية وشملت مراتب الدين الثلاثة: التحكيم في مقام الإسلام، ونفي الحرج في مقام الإيمان، والتسليم المطلق في مقام الإحسان. لابد، هذا هو حالنا {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] لابد أن يكون هذا منهجنا. أما إذا كان ديننا وعرضنا، أما إذا كانت حياتنا الاجتماعية أو غيرها مسخرة للآراء والأهواء: ما رأي فلان، وما رأي علان؟ وماذا تقول فلانة؟ وماذا كتب فلان؟ إذا فعلنا ذلك فإن هذا هو بعينه اتباع الأهواء اتباع أهواء الذين لا يعلمون اتباع حكم الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] كل ما خالف أمر الله فهو جاهلية كل حكم أو هوىً أو منهج أو رأي خالف أمر الله وناقضه وحاده فهو جاهلية؛ ولهذا تجدون الجاهلية اليوم في الغرب والشرق تستشري وتنتشر؛ لأنها تمشي على غير منهج الله سبحانه وتعالى، وعلى غير ما شرع الله، وقد جنت بأنفسها عاقبة تلك المعصية، وذلك الخروج عن أمر الله تبارك وتعالى. فما علينا من الأمم التي لا تملك منهج الله؟ وما علينا من الشعوب التي ذاقت مرارة الاحتلال بجميع أنواعه؟ إن الأمة الإسلامية يهمنا أمرها كلها، لكن يا إخوان! قلعة التوحيد هذه الخط الأخير الذي يقف فيه المسلمون لمحاربة أعداء الله سبحانه وتعالى، البلد الذي يجب أن يظل طاهراً من كل رجس: من شرك أو بدعة أو ضلالة أو انحراف، يجب أن يبقى كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) يجب أن نبقى على منهج واحد، لا يجتمع لنا منهجان، لا في التعليم، ولا في المرأة، ولا في الاقتصاد ولا في أي مجال، وإنما هو منهج الله وشرع الله، واتباع أمر الله. ونحن نحمد الله سبحانه وتعالى على أننا نستطيع أن نقوم وأن ندعو إلى هذا المنهج، وأن نبين للفتيات وللشباب، وأن نبصرهم بالحقيقة، فهذا واجب، هذه فرصة عظيمة يجب أن نستغلها، ويجب أن ندعو إليها، ويجب أن تبقى هذه قاعدةً ومنطلقاً للدعوة إلى تحرير الإنسان المسلم في كل مكان من العبودية، ومن التبعية إلى غير منهج الله وإلى غير شرع الله تبارك وتعالى، وأهم من ذلك المرأة المسلمة، المرأة المسلمة المخدوعة في كل مكان. يجب أن ترى الفتاة المسلمة في هذه البلاد القدوة الصادقة، والنموذج الصحيح للمرأة المسلمة التي تتمسك بدينها في هذا العصر رغم الانحرافات، ورغم زيف المدنية، ورغم بهرج الحضارة، فإنها تتمسك بدينها، وتعطي القدوة لغيرها، وإلا فإن الخسارة الكبرى، الخسارة كل الخسارة أن تخدع المرأة المسلمة في هذه البلاد كما خدع غيرها: وما يصلح الملح إذا الملح فسد والرجل المسلم هو الذي يجب أن يحمل لواء التوحيد، ولواء السنة، ولواء الدعوة إلى منهج الله وإلى شريعة الله تبارك وتعالى، وينشر ذلك في كل مكان، فنحن محط أنظار العالم الإسلامي، والفتاة المسلمة هي محط أنظار البنات المسلمات في كل مكان، فيجب علينا أن نقدر المسئولية حق قدرها، وأن نعي واجبنا، وأن نؤدي ما يجب علينا أن نؤديه كما شرع الله تبارك وتعالى من الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإقامة الحجة، وإعلان الحق، وإرشاد التائه والغاوي من شاب أو شابة، ومحاربة المنكرات والفساد بأقل ما نستطيع إذا لم نفعل الكثير، وأقل ذلك ألا نشتريها، ولا نسهم فيها، ولا ندعو إليها، هذا أقل ما ينبغي وأقل ما يجب على المرأة المسلمة وعلى الشاب المسلم، كل ما يدعو إلى الفساد من أفلام ومجلات وكتب ودواوين وقصص فإنه يجب أن نبدأ الطريق بمقاطعة ذلك كله، ثم نتعلم العلم الصحيح، ثم ندعو الذين وقعوا في شباك هذه المؤامرة. أكتفي بهذا للإجابة عن الأسئلة، بقدر ما يسمح لنا الوقت، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وما نقول، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

إبطال دعوى خروج المرأة للعمل بحجة حاجة المجتمع إليها

إبطال دعوى خروج المرأة للعمل بحجة حاجة المجتمع إليها Q هناك من الدعاوى الباطلة الموجودة الآن أن نصف المجتمع معطل، ولابد للمرأة من الخروج، فبماذا يرد على أمثال هؤلاء؟ A يرد عليهم أولاً بقول الله تبارك وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] فليس هذا تعطيلاً، وإنما هو امتثال لأمر الله، حتى ولو كانت بالفعل لا عمل لها على الإطلاق إلا امتثال أمر الله، فامتثال أمر الله وطاعة الله هي الخير وهي الشرف، وهي العمل العظيم الذي من أجله خلقنا، وهي أكبر عمل نقوم به في هذه الحياة الدنيا: أن نطيع الله. ورد من الواقع: وهو أن المرأة المسلمة التي في البيت ليست معطلة، إن كانت أماً فإنها تربي الأجيال، فهي تهيئ الأسرة المسلمة، فلديها من الأعمال ما يفوق عمل كثير ممن يعملن، وربما إنهن يمضين الوقت في الفراغ وقراءة الصحف وأمثال ذلك كما نشاهد في الرجال، والله تعالى أعلم في حال النساء. وأيضاً: المرأة المسلمة التي تبقى في بيتها، وتربي أطفالها، بل نفترض أنها ليست متزوجة، فيمكن أن تعمل وهي في البيت الأعمال التي تجلب لها الخير، أن تتعلم العلم، أن تعمل بالخياطة، أن تعمل أي عمل يمكن أن تعمله في بيتها، ويدر عليها الخير ويدر عليها الربح، فتجمع بين امتثال أمر الله سبحانه وتعالى وبين الإنتاج والعمل الذي يحقق لها الخير في الدنيا والآخرة. أما إذا خرجت المرأة، فإنه لن يتعطل نصف المجتمع فحسب، بل سوف يتعطل المجتمع كله ونضطر إلى المربيات وإلى الخادمات وإلى الطباخات، وإلى الخياطات وأمثال ذلك، ثم تخرب الأمة وتهرم، ويفنى شبابها، ويضيع مستقبلها، وتتدهور تنميتها، وتنقرض بعد أجيال، تنقرض كما سمعنا في الإحصائيات الغربية.

حكم كشف المرأة وجهها ويديها

حكم كشف المرأة وجهها ويديها Q حبذا لو بينتم حكم الشرع بالنسبة لكشف المرأة لوجهها ويديها؟ A تغطية المرأة لوجهها واجب، وكشف وجهها حرام، وكذلك اليدان: كشفهما حرام إلا لمن أحل الله تبارك وتعالى له ذلك. وهذا أصل عظيم درجت عليه الأمة الإسلامية، ودل عليه كتاب الله تبارك وتعالى، ودلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة، ودرج عليه عمل المسلمين، بل حتى في الجاهلية كان ذلك مما هو معروف لدى المرأة العربية. ولم تُعرف قضية الخلاف في كشف الوجه وعدمه إلا في هذا العصر، وقد أثيرت لا لأجل الترجيح العلمي في أن كشف الوجه أو تغطيته خلاف لا، ليس هذا هو المقصود، إنما عرضت لتخرج المرأة المسلمة عن حجابها، لتدع الحجاب بحجة أن تغطية الوجه فيه خلاف. وأقول: من هؤلاء المجتهدون العلماء الثقات الذين يقولون: على المرأة أن تخرج حتى لا يتعطل نصف المجتمع، من أجل أن الرأي الراجح هو تغطية الوجه؟ من هؤلاء؟! إنهم ليسوا بعلماء، كل علماء المسلمين يوجبون على المرأة أن تغطي وجهها إذا كانت الفتنة، ولا شك على الإطلاق أن الفتنة قائمة وموجودة الآن على أشدها في كل مكان، لكن مع ذلك الرأي المرجوح والضعيف هو الذي يقول: إن كشف الوجه أو الكفان جائز. عندما قال الله تبارك وتعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ماذا فهم الصحابة؟ تريدون الخلاف الفقهي أم تريدون أن نأتي بما يدل من لغة العرب ومن كلام العرب؟ ما معنى الخمار؟ الخمار عندما يضرب على الجيب لا يحتمل في كلام العرب إلا أن يكون الوجه مغطى، هذه حقيقة، انظروا إلى القاموس -إلى لسان العرب - مادتين: مادة (خمر) وهو الخمار، ومادة (نصف) أي: النصيف، النصيف الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الشهداء في صفة الحور العين: (ولنصيف إحداهن خير من الدنيا وما فيها) ما هو النصيف في لغة العرب؟ النابغة الشاعر المشهور ماذا قال؟ قال: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد ما هو النصيف؟ ولماذا سمي النصيف؟ يقول اللغويون: النصيف هو الخمار حسناً هذه واحدة، وسمي كذلك لماذا؟ لأنه ينتصف بين المرأة وبين الناس فلا يرونها، كأنه في النصف بين المرأة وبين الناس فلا يرونها. فإذاً: النصيف هو الخمار، ولذلك لما سقط عن المرأة الجاهلية هذه اتقت وجهها باليد، حتى قال بعض اللغويون وأظنه السيرافي أو ثعلب: ويجب أن يكون مغطياً للرأس كله، وإلا فلا معنى أن تغطي وجهها ويبقى شعرها. المقصود: أن النصيف هو الخمار الذي يغطي المرأة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] الخمار كل مادة خَمَرَ مأخوذة من الستر ومن التغطية، والخمار الذي شرعه الله تعالى للمرأة وكان معروفاً لديها، والذي تكفن فيه والذي جاء ذكره في الكتاب والسنة: هو الغطاء الساتر السادل لأعلى المرأة: رأسها ووجهها وصدرها ونحرها.

تقوى الله سبحانه وتعالى هي الطريق

تقوى الله سبحانه وتعالى هي الطريق Q إنني فتاة -إن شاء الله- مؤمنة، أضلني الشيطان فمشيت معه إلى طريقه وسبيله -إلى أن تقول- والآن أنا تبت، ولكن ما زال الشيطان يأتيني ويغريني، وأريد الرجوع إلى سبيل الخير، فكيف الطريق؟ الرجاء الإجابة عنه لأنني حائرة. A الله تبارك وتعالى يقول: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:27 - 28] فأيها الأخت المؤمنة: الإنسان ضعيف، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يتوب علينا، فأطيعي الله ولا تطيعي الشيطان، ولا تطيعي الذين يتبعون الشهوات ويزينون لك هذه الشهوات، فالسبيل هو تقوى الله سبحانه وتعالى، إن الله تبارك وتعالى قد أوصانا وأوصى الأمم قبلنا بهذه الوصية العظيمة التي جمعت طريق الخير كله، يقول جل شأنه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فاتقي الله يا أختي المؤمنة، اتقِ الله وتذكري الموت وسكراته، وتذكري القبر ووحشته، وتذكري البعث والقيامة وأهوالها، وتذكري النار وورودها، وتذكري الصراط وعبوره؛ فإن هذا مما يعينك بإذن الله على الإقلاع عن اتباع سبيل الشيطان، ويجعلك تقاومينه. واعلمي أن -والكلام للجميع أيها الإخوة- الشيطان لن يدع فرصة للمسلم شاباً أو شابة إلا ويثيره، إما إلى شهوة وإما إلى شبهة، فيجب علينا أن نقاومه، والمعركة لا تنتهي، فلا نيئس، لا نقول: الشيطان هزمني وغلبني لا نيئس أبداً، بل نقاوم ونقاوم حتى نلقى الله تبارك وتعالى ونحن على سبيل الطاعة والمجاهدة في ذات الله.

حكم كشف المرأة وجهها أما م غير محرم

حكم كشف المرأة وجهها أما م غير محرم Q إنني متزوجة وزوجي يطلب مني الكشف أمام إخوانه وأعمامه وأخواله؛ بحجة أن إخوانه محارم مؤقتون، ويجوز كشف الوجه واليدين أمامهم بدون زينة فهل يجوز؟ A أكثر من سؤال ورد عن حكم نظر الأقرباء إلى المرأة، الأقرباء الذين ليسوا بمحارم، مثل: أخو الزوج، ومثل ابن الخال وابن العم وابن الخالة وأشباه ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (الحمو الموت) فيجب علينا أن نحترز من الحمو كما يحترز من الموت، والحمو هو قريب الزوج أياً ما كان إذا لم يكن محرماً، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فلا تطيعي زوجك، ولكن انصحيه وأقنعيه، أو أسمعيه ما يقنعه إن شاء الله.

العوامل التي تساعد المرأة المسلمة على أداء وظيفتها التربوية

العوامل التي تساعد المرأة المسلمة على أداء وظيفتها التربوية Q ما هي العوامل التي تساعد على نجاح المرأة المسلمة في أداء وظيفتها التربوية؟ A أن تنظر إلى نساء المؤمنات، إلى ما كان عليه نساء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابيات من سلوك وعمل وبر وطاعة وتقوى، فتبر زوجها وتربي أبناءها، وتسير في حياتها وفق ما كنّ يسرن عليه، فهن القدوة، وللأخت المسلمة فيهن الأسوة. فأمر الله سبحانه وتعالى واضح، والنماذج هذه بين أيدينا، فلنقرأ عن سيرهن، ولندع سير الداعرات والفاجرات اللاتي تنتشر أنباء حياتهن -مع الأسف- في كثير من الوسائل المقروءة أو المرئية.

المقصود بمصطلح تحرير المرأة

المقصود بمصطلح تحرير المرأة Q ما المقصود بتحرير المرأة؟ A المقصود الذي يريده أعداء الله من تحرير المرأة هو: إفساد المرأة، وإخراجها من بيتها، أن تتحرر من أمر ربها تبارك وتعالى، أن تعصي الله مخالفةً لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]، يريدون أن تعصي الله، فميزان التحرر عندهم هو التعري هو التبرج هو التهتك هو مزاحمة الرجل في الأسواق وفي كل مكان، هذا هو ميزان الحرية عندهم، وكما قال الشاعر: إذا كان التقدم في التعري فما فضل الحصان على البغي أما في دين الإسلام وفي كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحرية هي طاعة الله، هي حرية القلب من العبودية لغير الله. واقرءوا إن شئتم رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية العبودية، حيث فصل ذلك وبينه، فالعبودية هي عبودية القلب، والحرية حرية القلب، فالمؤمن عندما يحرر قلبه من العبودية لغير الله يكون عبداً لله وحده لا شريك له، أما أولئك فإنهم يتحررون، ويريدون أن يحرروا المرأة من عبودية الله؛ لتكون عبداً وتكون رقاً للشركاء المتشاكسين من أصحاب بيوت الأزياء، وأصحاب الدعارة، وأصاحب الهدم وتقويض المجتمعات. هذه هي الحرية في الإسلام، وهذه هي الحرية عندهم.

حكم النظر إلى صور النساء

حكم النظر إلى صور النساء Q ما حكم النظر إلى صور النساء؟ A النظر إلى المرأة في الصورة حكمه حكم النظر إليها على الطبيعة والحقيقة {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] هذا الغض -غض البصر- يشمل الصور المطبوعة أو المرئية في الأفلام كما يشمل المرأة الحقيقية التي ترى في الشارع، المحظور واحد، والحكمة واحدة، والعلة واحدة، والداء واحد، والنتيجة واحدة في هذا أو في هذا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العين تزني وزناها النظر) فلا يقول الإنسان: إنني لم أرتكب الفاحشة الكبرى وإنما هذا مجرد النظر، فإن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وهذه محرمة في ذاتها ومحرمة لأنها وسيلة إلى غيرها، إلى الفاحشة الكبرى. ومن غض نظره استجابةً لأمر الله وحياءً من الله أبدله الله تبارك وتعالى إيماناً يجد حلاوته في قلبه، كما روي ذلك من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم، فانظروا يا إخوان هل هناك قيمة أغنى من الإيمان؟ هل هناك شيء في هذه الدنيا أغلى من أن الله سبحانه وتعالى يقذف الإيمان في قلبك؟ والله لا يوجد شيء أبداً أغلى من ذلك ولا أعظم منه، وهذا تحصل عليه بهذه الطاعة، غض نظرك عن النظر إلى النساء المحرمات يبدلك الله سبحانه وتعالى إيماناً تجد حلاوته في قلبك. جربوا ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى تجريب؛ لأنه حق صراح {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

حكم زواج فتاة ملتزمة من شخص غير مستقيم

حكم زواج فتاة ملتزمة من شخص غير مستقيم Q هذه الأخت تسأل عدة أسئلة -ثلاثة أسئلة- أولاً تقول: تقدم شاب لخطبتي، وهذا الشاب يصلي ويؤدي جميع فرائضه، ولكنه غير ملتزم بالشريعة الإسلامية الالتزام الكامل، أي أنه يسمع الأغاني ويشاهد أفلام الفيديو، بالرغم أنني أنا ملتزمة جداً والحمد لله. فما حكم الرفض في هذه الحالة؟ A مثل هذه الأمور -أيها الإخوان- يراعى فيها المصلحة الشرعية لا المصلحة الفردية، فإن تقدم لهذه الفتاة من هو خير منه في دينه فلا شك أنه يجب عليها أن ترفض ذلك العاصي، وأن تتزوج من الشاب التقي، وأما إن لم يتقدم غيره -إن كان هناك في نفس الوقت أمل في إصلاح هذا الشاب، كأن تكون محبته لها وتعلقه بها دافعاً لها بأن تنصحه وتثق وتطمئن بأن الله سبحانه وتعالى سيهديه على يديها- فإنه لا بأس، بشرط أن تبدأ مبدئياً منذ الخطبة في أن تكلمه في هذا الموضوع، وأن تباشر الدعوة معه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن من نساء المسلمين من جعلت مهرها إسلام زوجها كما تعلمون ذلك، فالمرأة إذا استطاعت أن تهدي -والله تعالى هو الذي يهدي هداية التوفيق- هذا الشاب فإن لها بذلك الخير والأجر، لا سيما إن كان ذا قرابة ورحم. وإلا فإن الأصل معلوم لديكم جميعاً، وهو أنه لا يجوز أن تتزوج الفتاة من الفاسق، ولا أيضاً الفتى من الفاسقة، وإنما عليك بذات الدين، فاظفر بذات الدين، وأيضاً عليكِ بذي الدين، فاظفري بذي الدين.

حكم حضور حفلات الزفاف التي فيها منكرات

حكم حضور حفلات الزفاف التي فيها منكرات Q ما حكم حفلات الزفاف التي فيها منكرات؟ A الله سبحانه وتعالى يقول في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72]، وشهود الزور هو حضور المنكرات والذنوب حيث اللغو واللغط أو الموسيقى أو المعاصي التي تغضب الله عز وجل، هذا من حضور الزور وشهود الزور، ومن سماع اللغو المحرم؛ ولهذا لا يجوز للفتاة المسلمة أن تذهب إلى هذه الحفلات إلا إذا كانت تضمن أن لوجودها تأثيراً بحيث يؤدي إلى إلغاء المنكر، أو تذهب لإقامة الحجة وإنكار المنكر ثم تنصرف ولا يحتمل الوقت تفصيلاً أكثر من ذلك.

حكم زيارة المرأة للقبور

حكم زيارة المرأة للقبور Q ما حكم زيارة القبور أو قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للنساء، وهل هو محرم أم جائز أم مكروه؟ A زيارة القبور فصل فيها العلماء كما فصل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الجواب الباهر وفي الرد على البكري والأخنائي وغير ذلك. فالراجح والصحيح: أن زيارة القبور للنساء لا تجوز. أما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإن المرأة المسلمة تزور مسجده صلى الله عليه وسلم وتصلي فيه ما يكتب الله تبارك وتعالى لها ولا تذهب إلى القبر.

نصيحة للآباء بتخفيض المهور

نصيحة للآباء بتخفيض المهور Q نرجو أن توجه نصيحة إلى كل أب بتخفيض المهور ليتمكن الشباب من الزواج، وكذلك الرد على كل أب يريد من ابنته أن تأخذ الجامعة وبعدها تتزوج. A نحن نحمد الله سبحانه وتعالى أنه قد وجد حتى من الفتيات المسلمات من تستنكر المغالاة في المهر ومن تريد أن تعف نفسها وتعف دينها، ولو أن رجلاً لا يملك من الدنيا إلا ما يقيم أوده، ولو أن إنساناً لم يدفع ذلك المبلغ المغالى فيه، ولا يملك الشقة الفاخرة ولا السيارة الفاخرة، هذه ولله الحمد من بشائر الصحوة، ومن علامة أن مجتمعنا ولله الحمد يسير في طريق الخير إن استمرت هذه المسيرة وعمت وانتشرت. فيا إخوة‍ أيها الآباء الكرام‍‍! أنصحكم وأنصح نفسي نصيحةً لوجه الله تبارك وتعالى -كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن تبحثوا عن الشاب المتدين، وألا تشترطوا إلا ما يقيم الحياة على الوجه المتيسر الحد الأدنى من السيارة أو الشقة أو العمل، وأن تيسروا سبيل الزواج، فوالله لئن تتزوج ابنتك شاباً فقيراً وتنفق عليه وعليها من جيبك، خير ألف مرة بل مليون مرة من أن ترتكب -والعياذ بالله- فاحشةً؛ فيبقى عار الأبد عليك فاحذروا أيها الآباء‍. وكذلك ما يتعلق بالدراسة، ما معنى الجامعة؟ بأي كتاب أم بأية سنة لا تتزوج إلا الفتاة الجامعية؟ ألا تقرءون الصحف أن كثيراً من الشباب يعزف عن الزواج من الجامعيات؟ لأنه يريد التي أقل في سنها، التي لا تجادل ولا تماري، القوامة -أيها الإخوان- التي جعلها الله تعالى للرجل، إنما تتحقق إذا كان أعلى من المرأة حتى فكرياً، فإذا كان الشاب جامعياً والشابة جامعية فهما ندان، وهذا مما يضعف القوامة، لا نقول هذا تقليلاً من جهود، أو نهياً وزجراً عن مواصلة البنات المسلمات للدراسة الجامعية، لكن كما قلت: الأصل شيء، والاستثناءات شيء آخر، الأصل: أن تتزوج الفتاة مع سن البلوغ. الأحنف بن قيس أحلم العرب، جيء له بابنه مقتولاً، قتله ابن أخيه، وهو محتب فما فك حبوته من الحلم، وهو يرى ابنه ميتاً أمامه، بل قال لابن أخيه: لقد قتلت أخاك -أو ما أشبه ذلك- فقيل له: إنك لحليم، ما هذا الحلم؟ قال: أما إني لحليم إلا في ثلاث -أول واحدة ذكرها- البنت إذا بلغت فإنني أزوجها ليس هناك حلم، سعة البال هذه التي عند قتل الولد لا تكون عند زواج البنت، مجرد أن تبلغ فإنه يزوجها، ثم ذكر والميت، والضيف إذا نزل. الشاهد: أنه ليس هناك مفر من أمر الله، ولا مندوحة من السنن الطبيعية التي جعلها الله، وهي: أن الفتاة بمجرد أن تبلغ -أي تحيض- فإنها مستحقة للزواج، فمتى تقدم الشاب الكفء المتدين وجب زواجها وحرم الرفض، سواء كانت في الكفاءة أو دونها أو بعدها، لا يجوز ذلك بحجة أن تأخذ الجامعة، وقد يفوتها -كما يقولون- قطار الحياة وتبقى عانساً دائماً.

كتب تنصح المرأة بقراءتها

كتب تُنصح المرأة بقراءتها Q هل هناك كتب تنصحون الأخت المسلمة بقراءتها بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ A ما كتب عن المرأة المسلمة وحجابها، مثل ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، وأيضاً أكثر من رسالة للشيخ عبد العزيز بن باز، ورسالة للشيخ ابن عثيمين، وكتاب الشيخ البليهي، وأمثال ذلك من العلماء الثقات، وفتوى لهيئة كبار العلماء نشرتها مجلة البحوث العلمية، وخطبة الجمعة التي هي فتوى في الحقيقة التي كتبها فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين للنساء والرجال جميعاً عن المجلات الخليعة، هذه مما يجب أن ينشر، وأمثال هذه الرسائل والكتب، يجب أن تطبع وأن تذكر وأن توزع، أين المحسنون الذين يتبرعون بالآلاف وبالملايين لأعمال قد لا تكون خيرة؟ أين هم عن هذه الرسائل الموثوقة التي كتبها علماؤنا ولله الحمد بالدليل الشرعي الصحيح، يجب أن ينشروها وأن يبثوها في المجتمع لتقوم الحجة على العاصي، وليجد التقي فيها ما يعينه على تقواه.

حكم لبس المرأة القصير أمام النساء

حكم لبس المرأة القصير أمام النساء Q هل يجوز لبس المرأة المسلمة لباساً قصيراً أمام النساء مثلها، والذي يظهر ساقيها أمامهن؟ س A هو -بدون دخول في التفاصيل- ليس حراماً على المرأة المسلمة أن ترى أختُها المسلمة منها الساقين أو الشعر، ليس ذلك بحرام، لكن يجب علينا جميعاً أن نضع الأصل دائماً نصب أعيننا، وهو أن نسد الطريق والذرائع إلى الفساد وإلى الفتنة. إن مما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه: أن تصف المرأةُ المرأة لزوجها، وهذا الوصف يكون إذا كشفت عن شعرها وعن ساقيها أكثر بلا شك، وإن مما انتشر في هذه الأيام من الفسق ومن المعاصي ومن قلة الثقة بالنساء، مما يوجب علينا أن نحترز ونلتزم بالمبادئ وبالأصول، حتى وإن لم تكن في الأصل حراماً، ولكنها من باب الآداب التي ينبغي مراعاتها، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر أن العفة للقواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60]، فالقواعد: العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً، واللاتي رخص الله تعالى لهن أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، ومع ذلك العفة لهن أفضل، والستر لهن أفضل.

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق Q بعض الرجال يجبرون زوجاتهم على الخروج والسفور أمام الرجال، فماذا تعمل المرأة في هذا؟ A ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، يجب عليها أن ترفض ذلك وأن تنصحه، فإن قبل وإلا فلتشتكه إلى من يثق فيه أو من يستطيع أن يقنعه أو إلى أهلها، ولو أدى الأمر أيضاً إلى القاضي في النهاية، لا يجوز لها أن تطيعه في معصية الله تبارك وتعالى.

§1/1