دروس للشيخ خالد المصلح

خالد المصلح

الله أكبر

الله أكبر من كان بالله أعرف كان لله أخوف، ولا يكون الخوف من الله حاصلاً إلا بتعظيم الله جل وعلا، ومعرفة قدره، ولا يستطيع أحد أن يقدر الله حق قدره كما ينبغي له، فإن هذا لا يبلغه أحد، لكن على المسلم أن يعظم الله ويكبره بقدر استطاعته.

عظمة الله عز وجل

عظمة الله عز وجل الحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الشكر وإليه ترجعون، أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، له الكبرياء في السموات والأرض وهو الخبير الحكيم، سبحانه وبحمده، هو أحق من حمد، وأعظم من ذكر، وأجل من دارت الأفكار في صفاته، وتلقت القلوب أخباره وأحكامه، أحمده جل وعلا حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين ورب العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، بالعلم والبيان، والسيف والسنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن استمسك بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله -أيها الإخوة- في هذا اللقاء الشهري الذي نتناول فيه شيئاً من هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي الخير كله في هديه، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم لا يختص بجانب من حياته، بل هديه هو طريقته ومسلكه، وهو سلوكه وعمله في قيامه وقعوده، وفي سفره وإقامته، وفي معاملته لربه، وفي معاملته للخلق، قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب:21]. أيها الإخوة الكرام! إن موضوعنا اليوم هو موضوع كثيراً ما يطرق الأسماع، وكثيراً ما تلهج به الألسنة، فكم هي المرات التي نتكلم فيها بقولنا: (الله أكبر)؟ وكم هي المرات التي يطرق أسماعنا قول القائلين: (الله أكبر)؟ إن هذه الكلمة أصدق كلمة، وأعذبها، وأحلاها. (الله أكبر) أبلغ لفظة عند العرب في تعظيم الرب جل وعلا، وتقديره حق قدره جل وعلا. (الله أكبر) كلمة فيها الخير كله، وفيها الخبر بأن الله أكبر من كل شيء. (الله أكبر) روى في شأنها الإمام أحمد في مسنده والترمذي رحمه الله في جامعه من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عدي! ما يفرك؟ -يعني: ما يجعلك تفر من الإسلام ومما جئت به؟ - أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل تعلم من إله غير الله؟ يا عدي! ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟! فهل من شيء أكبر من الله؟)، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن أقر بذلك، فأقر بأنه لا إله إلا الله، وأنه لا شيء أكبر من الله، فالله أكبر من كل شيء، قال الشاعر: رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنوداً (الله أكبر) -أيها الإخوة- كلمة يعظم بها الرب جل وعلا، عظمة لا تبلغها العبارات، ولا تفي بها القوة البشرية، وإن بالغ العبد مهما بالغ في التنزيه والتحميد والتمجيد والتقديس لرب العالمين إلا أنه لا يفي بحق ربه في التعظيم والتمجيد إلا بمثل هذه الكلمة، فلن يبقى إلا الوقف بأقدام المذلة في حضيض القصور، والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا، كما قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، ما قدر العباد ربهم حق قدره جل وعلا، وهو كما قال عن نفسه: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37]، هذا ربكم الذي له تصلون، هذا ربكم الذي له تقومون وتأتون وتذهبون وتتعبدون، الله أكبر الله أكبر القائل: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:107]، من يتولاكم؟ ومن ينصركم إن خذلكم الله جل وعلا؟ (الله أكبر) -أيها الإخوة- يمسك الله جل وعلا السموات والأرض أن تزولا، يمسك هذه الطباق السبع سبحانه وبحمده بقدرته، وهو على كل شيء قدير، كما قال سبحانه: {يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]، يعني: ما يمسكهما من أحد من بعده جل وعلا، فإذا لم يمسكهما الله، فمن يمسكهما؟! وفي الآية التنبيه على أمر مهم وهو: أن إمساك السموات والأرض من رحمته وحلمه ومغفرته، وإلا فإن العباد شرهم إليه صاعد، وخيره إليهم نازل، فهم يتقربون إليه بالسيئات والمعاصي، والله جل وعلا يتحبب إليهم بالنعم، وحق عليهم أن يؤاخذوا لولا حلم الله جل وعلا ومغفرته ورحمته. (الله أكبر) إذا طرقت سمعك فتذكر هذه المعاني التي في قوله جل وعلا: {رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، تذكر هذه العظمة، وتذكر هذه الصفات عند قولك: (الله أكبر)، فإن الله سبحانه وتعالى قد ملأ كتابه الحكيم بصفاته العظيمة وأفعاله الجليلة وأسمائه الحسنى؛ ليحيا تعظيمه جل وعلا في قلوب عباده، وليقفوا على شيء مما يتصف به ربهم سبحانه وبحمده، فيزدادوا له محبة وتعظيماً، وبذلك يتحقق لهم كمال العبودية، فالعبودية لله جل وعلا تقوم على هذين القطبين: على قطب المحبة لله جل وعلا، وعلى قطب التعظيم، كما قال الشاعر: فعبادة الرحمن غاية حبه مع بر عابده هما قطبان فمن لم يكن في قلبه محبة ربه، ومن لم يكن في قلبه تعظيم ربه، فإنه لم يأت بما أمره الله جل وعلا من العبادة في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. (الله أكبر) {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف:54]، هذه السموات الفسيحة وما فيها من الأفلاك التي لم يقف الناس إلى يومنا هذا على منتهاها، ولم يقفوا على حقائقها، وما زالوا يبحثون، ومع عظيم ما معهم من الآلات والإمكانات لم يقفوا إلا على شيء يسير من خبرها ونبئها، خلقها ربنا جل وعلا في ستة أيام، فالله أكبر! قال سبحانه: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] جل وعلا، والعرش هو ذاك المخلوق العظيم الذي خلقه الله جل وعلا، وخصه دون سائر الخلق بأن استوى عليه وارتفع جل وعلا، لا إله إلا هو الحكيم الخبير. وقال سبحانه: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس:3]، فهذا هو الذي يستحق العبادة، الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، وهو الذي خص هذا المخلوق العظيم -وهو العرش- بالاستواء، وهو الذي لا شفاعة لأحد عنده إلا بإذنه، وهو أحق من صرفت له العبادة سبحانه وبحمده، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس:3]. (الله أكبر) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، (تبارك) تعالى وتقدس وتنزه، ((الذي بيده الملك)) ملك كل شيء، فكل شيء بيده، وكل شيء له، وكل شيء صائر إليه سبحانه وبحمده. (الله أكبر) ربنا جل وعلا ملك السموات والأرض بيده، يصرف الكون كيف شاء، كما قال سبحانه: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:107]، سبحانه وبحمده، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، وقوله جل وعلا: ((بيده الملك)) يدل على كمال التصرف والملك، فلا منازع له في ملكه، ولا منازع له في تصرفه، فإليه كل شيء صائر، وهو جل وعلا عنه كل شيء صادر، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، سبحانه وبحمده، كما قال جل وعلا: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] سبحانك وبحمدك {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، فإذا كان هذا شأنه فلماذا تمتلئ القلوب بتعظيم غيره؟! ينبغي للمسلم أن يمتلئ بهذه الأخبار العظام في صفات الرب الرءوف الكريم الذي له الأسماء الحسنى كما قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وله الصفات العلى كما قال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] سبحانه وبحمده، وكيف يكون في قلب العبد بعد هذا تعظيم لغير هذا الرب الكريم العظيم الذي تمتلئ القلوب بعظمته، وتُصم الآذان عن ذكر غيره؟!! فهو أحق محمود؛ ولذلك كان المدح من أحب الأشياء إليه؛ لأنه مستحقه سبحانه وبحمده. (الله أكبر): {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15]، ((رفيع الدرجات)) فهو العلي الأعلى سبحانه وبحمده، ((ذو العرش)) صاحب العرش جل وعلا، والله سبحانه وتعالى خص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم خلق الله جل وعلا. قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر:15]، الروح: ما تحيا به الأرواح وهو كتاب الله جل وعلا، وهو الذكر الحكيم والقرآن المبين، وقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ} [غافر:15] أي: الرسالة، {مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15]، فألقى الله جل وعلا على الرسل بالروح ابتداءً، وعلى من اهتدى بهديهم تباعاً، فهم أتباعهم في تلقي هذا الروح الذي تحيا به الأرواح، كما قال الله جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ي

آية العز

آية العز (الله أكبر) كلمة أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بها أهل الإيمان في آية سماها بعض أهل العلم: آية العز ألا وهي قول الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]، وهذه آخر آية ذكرها الله في سورة الإسراء، وهي السورة التي فيها ذكر أعظم مقامات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما أجراه الله له في تلك الليلة من الإسراء من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى حيث قال جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، هذه الليلة هي أشرف ليلة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عرج به إلى السماء السابعة، وكلم فيها رب العالمين جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:1 - 9]، ذلك كله من رب العالمين، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى} [النجم:9 - 10]، يعني: رب العالمين، {إِلَى عَبْدِهِ} [النجم:10]، يعني: جبريل، {مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:10 - 12]، تلك الليلة هي أعظم الليالي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رأى فيها من آلاء الله وعظيم صنعه جل وعلا ما يبهر العقول، ومع ذلك قال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وذلك لعظيم جأش النبي صلى الله عليه وسلم، وقوة قلبه، وثبات فؤاده صلى الله عليه وسلم، ما زاغ ولا طغى بصره، بل كان بصره فيما أذن الله له أن يراه، ولم يتجاوز ذلك قيد أنمله، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وختم الله تلك السورة بتقديسه وتعظيمه بهذه الآية التي سماها بعض أهل العلم بآية العز فقال جل وعلا: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ} [الإسراء:111] يعني: لا يوالي الناس، ولا يوالي الخلق لحاجته إليهم سبحانه وبحمده، بل هو القوي الحميد، كما في حديث أبي ذر في صحيح الإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا قال: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)، فالله سبحانه وتعالى هو الغني، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، أنتم الفقراء بمجموعكم: أولكم وآخركم، شرفاؤكم ووضعاؤكم، أنبياؤكم وأتباعهم، الملوك والمملوكون، الرعاة والرعية، الكل فقراء إلى الله جل وعلا، لا غنى لأحد من الخلق -مهما بلغ- عن ربه جل وعلا، ومن ظن أنه في غنى عنه فإنما أتى من قبل نفسه، بل هو في غاية الحاجة إليه، فقل لهذا الذي استغنى عن ربه: من الذي يجري الدماء في عروقك؟! ومن الذي يعالج النفس في صدرك؟! إنه الله الذي لا إله إلا هو، فهل يكون الإنسان بعد هذا في غنىً عن ربه جل وعلا؟ A لا، والله! بل إن كل من ادعى الغنى فقد كذب على رب العالمين، وكذب على نفسه أعظم الكذب، فالكل كما قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15]. أمر الله جل وعلا رسوله وأهل الإيمان في هذه الآية -آية العز- بأن يعظموه فقال: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]، قال ذلك بعد أن ذكر لنا من صفاته وعظيم ما أخبر به عن نفسه ما يبعث في القلوب عظمة رب العالمين سبحانه وبحمده، فهو الذي له الحمد كله، كما قال في أول هذه الآية: {َقُلِ الْحَمْدُ لله} [الإسراء:111]، وإنما يحمد لعظيم صفاته، وعلى أسمائه، وجميع أفعاله سبحانه وتعالى، فإنه إنما يستحق الحمد من كانت له الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الجليلة، فإنه بهذا يستحق الحمد: {َقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء:111]، فهو ليس بحاجة إلى ولد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111]، فليس له مشارك في هذا الملك ينازعه أو يقاسمه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111]، فلم يتول عباده، ولم يتقرب إليهم، ولم يحبهم لحاجته إليهم، بل هو الغني الحميد سبحانه وبحمده، وإنما يحبهم ليوصل إليهم إحسانه، وليبرهم جل وعلا: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]، أي: عظمه تعظيماً، وصفْه بأنه أعظم من كل شيء سبحانه وبحمده.

الكبر صفة خاصة بالله، لا يدخل الجنة من يتصف بها

الكبر صفة خاصة بالله، لا يدخل الجنة من يتصف بها (الله أكبر) -أيها الإخوة- كلمة تنخلع لها قلوب الجبابرة، وتذل لصاحبها سبحانه وبحمده الوجود، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته)، فالكبرياء رداء الله جل وعلا، خص به نفسه دون غيره؛ ولذلك كان كل من بلي بشيء من الكبر محروماً من فضل الله ورحمته، فإن الكبر سبب مانع من دخول الجنة، ففي صحيح الإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فالكبر ينافي حال المؤمن العابد؛ ولذلك لا يدخل الجنة من كان في قلبه أدنى ما يوزن من الكبر، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان في قلبه مثقال)، يعني: أدنى ما يوزن من الكبر، فإذا بلي به قلب العبد كان ذلك حائلاً مانعاً له من دخول الجنة، حتى يطهر ما في قلبه. فـ (الله أكبر) إذا امتلئ بها قلب العبد خرج منه كل كبر وكل غرور وكل رياء وكل ارتفاع وكل علو وكل آفة، وإذا صدق في هذه الكلمة كان لها في قلب السامع أعظم الأثر.

التكبير يفتتح به الصلاة ويعقبها

التكبير يفتتح به الصلاة ويعقبها (الله أكبر) كلمة يفتتح بها المؤمن صلاته ولقاءه بربه، يفتتح بها مناجاة الله عز وجل، بل هي الكلمة التي يدعى بها إلى مناجاة الله سبحانه وتعالى، فإذا سمعت المنادي ينادي: (الله أكبر) (الله أكبر) علمت أن وقت المناجاة قد جاء، فتأتي مسرعاً راغباً في لقاء ربك جل وعلا، ثم بماذا تستهل لقاء الله جل وعلا؟ A تستهله بكلمة التعظيم (الله أكبر)، فتستحضر بذلك أن الذي تقابله وتقف بين يديه أكبر من كل شيء سبحانه وبحمده، وسيقطع ذلك عنك التعلق بشيء غير الله جل وعلا، فتقبل عليه بعد ذلك، ولا تفكر: ما الذي يكون؟ وما الذي يجري؟ لأنك في مناجاة مع حبيب مقبل عليك بوجهه، ومستمع لدعائك، فإن العبد إذا قام في صلاته أقبل الله جل وعلا عليه بوجهه. (فإن الله ينصب وجهه للمصلي حتى يفرغ) وذلك لعظيم عمل المصلي، وعظيم شأنه وفعله. إن قولك: (الله أكبر) استحضار لعظيم الموقف، ثم إنك لا تزال تذكر هذا الذكر (الله أكبر) قائماً وقاعداً راكعاً وساجداً، وكل ذلك تذكير لك حتى لا تغفل عما أنت فيه، وعمن أنت واقف بين يديه، فهو الله الذي له الهيبة الكاملة جل وعلا، الذي ذلت له الأعناق سبحانه وبحمده، فتقبل على ربك معظماً ذاكراً مخبتاً خاشعاً لله جل وعلا، ترجو رحمته وتخشى عذابه، وهكذا ينبغي أن يكون قولنا لهذه الكلمة على الوجه الذي ينبغي أن تقال، وأن يكون في قلب العبد معناها، لا أن تقال باللسان والقلب في كل وادٍ هائم، وفي كل تجارة مساهم، وفي كل عمل مشغول، إن القلب الذي يحصّل هذه الفائدة هو ذلك القلب الذي يدرك معنى قوله: (الله أكبر) في افتتاحه لصلاته، فيدرك أن ربه جل وعلا أكبر من كل شيء. نُقل عن بعض العبَّاد أنه لما أراد أن يكبر في صلاته رفع يديه فقال: الله، ثم سكت، كأنه جسد بلا روح، إعظاماً لله جل وعلا، ثم أعاد الكلمة مستجمعاً قواه، فقال: (الله أكبر) فكانت لتكبيرته هيبة تنخلع منها القلوب، كما نقل ذلك أصحابه وقرناؤه، إن قلب العبد إذا عظم الله جل وعلا كان لهذه الكلمة أثر عظيم عند النطق بها في أذن من سمعها، وسيأتي توضيح ذلك بعد قليل. أيها الإخوة الكرام! (الله أكبر) كلمة يعرف بها انقضاء صلاتنا، كما قال ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه البخاري عنه أنه مسلم: (قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير)، فالصلاة تُفتح بالتكبير، ويُعرف انتهاؤها بالتكبير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من صلاته سبح الله سبحانه وبحمده، وحمده، وكبره، فكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم انقضاؤها بالتكبير، وهذا يبين لنا أهمية هذا الذكر، وأنت انظر إلى الترتيب البديع في ذكر المصلي بعد الصلاة، فالذكر يبتدئ أولاً بالتسبيح ثم التحميد ثم التكبير؛ لأن الغالب أن البداهة أن تكون البداية بالتسبيح، وهكذا جاء في أكثر الأحاديث، فتقول: (سبحان الله)، ثم تقول: (الحمد لله) ثم تقول: (الله أكبر) وسر هذا الترتيب بين هذه الأذكار الثلاثة أن التسبيح فيه تنزيه الله جل وعلا عن كل عيب ونقص، فقولك: (سبحان الله) أي: أنزه الله جل وعلا، وأقدسه، وأطهره أن يكون في شأن من شئونه نقص أو عيب، ثم بعد ذلك تقول: (الحمد لله) وفيه إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الجميلة للرب جل وعلا، فذاك تخلية، وهذا تحلية، ذاك إزالة لما يمكن أن يُعتقد من نقص في الرب، ثم الحمد فيه إثبات الكمال للرب جل وعلا، وبعد ذلك هل تكون بهذا قد بلغت المنتهى، وحصَّلت المقصود؟ A لا؛ ولذلك تقول: (الله أكبر)، (الله أكبر) من قولي، (الله أكبر) من تسبيحي وتحميدي، (الله أكبر) من ثنائي وتمجيدي، فتختم ذلك بالتكبير؛ لأن الله أكبر من قولي: الله أكبر، ومن تحميدي وتسبيحي، فهو العلي الكبير، كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، فربنا جل وعلا له من الصفات ما لا تطيقه العقول؛ ولذلك لم يبين ربنا جل وعلا من صفاته وأسمائه إلا ما تتمكن العقول من إدراك شيء من عظمته سبحانه وتعالى وبحمده. أيها الإخوة! المصلي إذا قضى صلاته لهج بالتكبير، فهذه العبادة -وهي أجل العبادات- محاطة بالتكبير وبالدعاء في افتتحاها وفي أثنائها، وهي - أيضاً- مختتمة بالتكبير، فكان لا يعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير. (الله أكبر) كلمة أمر الله سبحانه وتعالى بها أهل الإسلام، شكراً لله عز وجل على إحسانه، وشكراً على رزقه وإنعامه؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في ختام الآية التي ذكر فيها فرض الصيام: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، (لتكبروا الله) أي: لتقولوا: (الله أكبر) (عَلَى مَا هَدَاكُمْ) أي: لأجل ما هدى، فنحن نكبر الله على توفيقه لنا للهداية. والهداية هنا هي: هداية القلوب إلى دين الإسلام، وهي هداية الإرشاد التي بها يتبين الحق من الباطل، الهداية الكبرى التي يتم بها الإنعام على العبد بأن يهديه الله إلى الصراط المستقيم، وهناك هداية قبل هذه الهداية هي هداية الدلالة والإرشاد، فإن الله سبحانه وتعالى قد هدانا النجدين، وبين لنا سبيل الحق والهدى، وسبل الضلال والردى، فمن سلك سبيل الهدى فقد هداه الله هداية التوفيق، وجمع له مع الإرشاد هداية الإلهام، وهداية الإرشاد هي الهداية التي بها يستبين الحق من الباطل، وتقوم بها الحجة على جميع الناس.

تكبير الله وإجلاله سبب في ترك الذنوب والمعاصي

تكبير الله وإجلاله سبب في ترك الذنوب والمعاصي أيها الإخوة الكرام! إن هذه الكلمة (الله أكبر) إذا قالها المؤمن حقيقة، وذاق طعمها وأدرك معناها كانت حاجزاً بينه وبين التورط في المعاصي والسيئات، حاجزاً بينه وبين انتهاك الحرمات، فإنه -يا إخواني- لا يضيع ما فُرض عليه ويرتكب الكبائر إلا من قل خوفه من الله جل وعلا، وإنما يقل الخوف من الله تعالى بسبب ضعف التعظيم له جل وعلا، فالتعظيم يصدر عنه الخوف والورع، والعبد الخائف إنما يخاف عظيماً، يخاف من امتلأ قلبه بإجلاله وتقديره، أما ذاك القلب الذي خوى من تعظيم الله سبحانه وبحمده، وخوى من إجلال الله جل وعلا، وليس عنده لربه قدر ولا عظمة، فكيف ينزجر عن المعاصي؟! وكيف ينزجر عن السيئات؟! وكيف يحفظ نفسه من انتهاك الحرمات؟! إنه لا سبيل له إلى ذلك، واستمع إلى هذا الخبر: روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه في نبأ ثلاثة نفر من بني إسرائيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما ثلاثة نفر يمشون، أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم -ولم يتمكنوا من الخروج- فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرج عنكم بسببها) فذكر كل واحد منهم عمله، وكان منهم رجل عمله شاهد لنا في تعظيم الله جل وعلا، وكيف أن التعظيم سبب للابتعاد عن المعاصي؛ لأنه يورث التقوى، ويورث الخوف، ويعقب القلب إجلالاً لله عز وجل. (قال الثاني منهم: اللهم إنها كانت لي ابنت عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها، فأبت علي، حتى أحوجها الفقر، فأعطيتها عشرين ومائة ديناراً، فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه) ما الذي حال بينه وبين مراده ومطلوبه، وقد بذل المال ومكنته من نفسها؟ حال بينه وبين مراده أنها قالت له: (يا عبد الله!) فذكرته بمن هو عبد له، ذكرته بالله: (يا عبد الله! اتق الله) أي: اجعل بينك وبين الله وقاية بامتثال أمره، وترك نهيه، رغبة ورهبة، (اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، قال: فقمت عنها، اللهم إن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا، ففرج عنهم فرجة)، فهذا -يا إخواني- ما الذي حمله على هذا الفعل؟ وما الذي كفه عن المعصية بعد أن تمكن منها؟ وما الذي منعه مما سعى له وخطط وليس بينه وبين مبتغاه حائل؟ لا مانع له إلا قيام تعظيم الله في قلبه، ما منعه إلا ما كان في قلبه من كبرياء ربه الذي أورثه خوف ربه، ومراقبته سبحانه وتعالى، فانتفض قائماً لله تعالى يرجو ثوابه ويخشى عقابه، وهكذا يكون خوف الله وتعظيم الله مثمراً للفضائل، فكل الفضائل من الخوف والمراقبة والخشية والإنابة والدموع المنهمرة والأقدام الماشية في طاعة الله إنما تكون بالتعظيم الذي يصحبه محبة لله جل وعلا. (الله أكبر) أيها الإخوة! تحمل المؤمن على أداء الحقوق طيبة بها نفسه، فكم هم الذين شحوا في حقوق واضحة كالشمس؟ إنهم كثير مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)، وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، تصور ذلك الموقف العظيم الذي يحشر الناس فيه حفاة عراة غرلاً أحوج ما يكونون إلى رحمة الله وفضله: (إذا اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، والصحابة رضي الله عنهم فهموا أن هذا في الأمور الكبيرة، في سلب أرض أو عمارة أو ملايين مملينة فقالوا: يا رسول الله! ولو عود أراك -سواك-؟ قال: (ولو عود أراك) سبحان الله العظيم! يعني: لو تأخذ من أخيك المسلم عود أراك وهو لم تطب نفسه بهذا لقيت الله رب السموات والأرض وهو عليك غضبان، فأين تعظيم الله جل وعلا من هؤلاء؟! أين تعظيم هذا الموقف في قلوب هؤلاء؟! لو أنهم أكرموا الله جل وعلا لكانوا كذاك الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، ففي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل. واستمع إلى قصة هذا الرجل ففيها إجلال الله وتعظيمه، مما يدل على أن من عظَّم الله فإن الله معه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل جاء إلى رجل فطلب أن يسلفه ألف دينار، فسلفه، فقال له المسلِف -صاحب المال-: ائتني بالشهداء أشهدهم على هذا القرض، فقال له الرجل: كفى بالله شهيداً -يكفيك شهادة الله جل وعلا- قال الرجل صاحب المال: فأتني بكفيل -يعني: ائتني بمن يضمن المال لو تعذر وفاؤه، أي: ائتني بشخص يكفلك- فقال له الرجل: كفى بالله كفيلاً، فقال له الرجل صاحب المال: صدقت. فهذا الذي أعطى المال لولا عظمة الله في قلبه ما قبل إلا الشهادة، ولولا أن الله في قلبه عظيم ما قبل ذلك، ولكان يقول: لابد أن تأتي بشهداء وإلا ما أقبل، والمسألة إحسان، ما فيه إلزام، وليس عقداً يلزمه فيه، إنما هو إحسان قرض، وإنما قال: صدقت، فدفع الألف دينار إلى الرجل إلى أجل مسمى، فخرج الرجل المدين إلى البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً، يعني: أناساً يسافرون إلى الجهة التي فيها الدائن، التمس مركباً يركبه يقصد به الرجل من أجل الأجل الذي أجله، يعني: الموعد الذي حدده بينه وبين الدائن، فلم يجد مركباً، ولا يمكن أن يخوض البحر سابحاً إلى أن يصل إلى صاحبه، فأخذ خشبة وأدخل فيها ألف دينار -المبلغ الذي يطلبه صاحبه- وصحيفة -يعني: كتاب- كتب فيه لصاحب الدين، ثم رمى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت اقترضت من فلان كذا وكذا فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك -انظر الإشارة إلى التعظيم- وسألني شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني اجتهدت أن أجد مركباً أبعث إليه بالذي له فلم أقدر، وإني استودعكها. أي: أستودعك هذا المال، وأجعله وديعة عندك، فرمى بها في البحر ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركباً يذهب به إلى صاحبه، يعني: ما قال: الذي بيني وبين الله انتهى، بل عاد وهو ينظر متى ييسر الله له مركباً يركبه حتى يذهب إلى صاحبه؛ لأنه يمكن أن هذا الذي بعثه في البحر لا يصل، يقول: ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الدائن الذي كان أسلفه إلى البحر لعله يجد المركب الذي يقدم فيه هذا الرجل ليوفيه حقه لما جاء الأجل، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل المدين إلى صاحب الدين بعد حين، وقال معتذراً عن التأخر: إني اجتهدت في طلب مركباً لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟! فما قال: أنا فعلت كذا وكذا؛ لأنه يتعامل مع الله جل وعلا، ولا يدري هل وصلت أو ما وصلت، وإنما غرضه إبراء ذمته، غرضه أن يقدم على الله وليس في ذمته لأحد شيء، فقال له الدائن: هل كنت بعثت إلي بشيء قبل؟! قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً، لا حاجة لي فيها، والدين الذي عليك قد أديته. يا إخواني! هذا الخبر الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ما غرضه وقصده؟ غرضه بيان عظمة الله جل وعلا، وأن المعاملة مع الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخاف صاحبها، ولا يمكن أن يخسر الداخل فيها؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلمة بديعة نفيسة في بيان كيف يتعامل الإنسان مع الناس: (الناس إشكالاتهم كثيرة، ونواياهم مختلفة، وإيمانهم باليوم الآخر على درجات، وإيمانهم بالله وخوفهم منه على درجات، فكيف تسلم مع هؤلاء كلهم وفيهم التقي ومن دونه؟ تسلم بأن تعامل الله عنهم، ولا تعاملهم في الله) يعني: أنت في معاملتك للخلق لا تنظر إلى ما الذي يأتيك منهم، إنما انظر إلى ما الذي يعطيك ربك في معاملتك لهم، وما الذي يأمرك الله عز وجل به في معاملتك للخلق، فإذا كنت كذلك فاعلم أنك فائز في معاملتك، رابح في تجارتك، سالم من شرور الناس، فلا سلامة للإنسان من شرور الناس إلا بأن يلجئ إلى الله عز وجل. (الله أكبر) كلمة إذا قالها المؤمن صادقاً فجرت في قلبه ينابيع الحكمة، ولقي فيها ومنها خيراً كبيراً لا يقف منه على حد؛ ولذلك تجد التكبير مقترناً بالتهليل لما فيهما من عظيم حق الله جل وعلا، فالعبد يثني على الله جل وعلا ويقدسه ويمجده ويذكره، ولكنه مع ذلك كله يقر بأنه لن يؤدي حق لربه جل وعلا، حتى لو أفرده بالعبادة، حتى لو لم يكن في قلبه سوى ربه جل وعلا، فإنه في كل ذلك لن يفي ربه حقه كما تقدم في ثنايا الكلمة. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا تعظيمه، وأن يلقي في قلوبنا محبته، وأن يجعلنا من عباده المتقين، ومن حزبه المفلحين، وأولياءه الصالحين، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين إليك راغبين راحلين إليك أواهين منيبين. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المتقين، اللهم وفقنا للبر والتقوى، اللهم خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى. اللهم إنا نسألك أن تصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا. اللهم املأ قلوبنا بمحبتك، وارزقنا تعظيمك، واحفظنا -يا رب العالمين- فيما بقي من أعمارنا، اللهم وأختم لنا بخير، وأعنا على الخير، ووفقنا إليه، وحببه إلينا يا رب العالمين! اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

من ثمار التكبير تعظيم شعائر الله

من ثمار التكبير تعظيم شعائر الله (الله أكبر) -أيها الإخوة- تورث قلب العبد تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى، وهذا من ثمار تعظيم الله جل وعلا، ومن ثمار هذه الكلمة أن يكون العبد معظماً لشعائر الله، معظماً لحرمات الله تعالى، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، أي: هذا نتاج التقوى، التي يحيا بها القلب، ويجلى بها الفؤاد، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [الحج:30]، فالمؤمن المعظم لله تعالى، المعظم لشعائر الله تعالى، المعظم لحرماته سبحانه وتعالى؛ هو ذلك العبد الذي عرف قدر ربه جل وعلا، فهو قائم بأمر الله تعالى طاعة له فيما أمر، مجتنباً ما نهى عنه وزجر، متعبداً لله، خاشعاً له سبحانه وبحمده، هذا هو الذي قدر الله جل وعلا شيئاً من قدره، وإلا فإن العبد مهما بلغ من التقدير والتعظيم لا يبلغ حق ربه في القدر، ولا ولن يبلغ حق ربه جل وعلا في التعظيم، قال بعض أهل العلم: (لو أن العبد سجد لله منذ أن وضعته أمه إلى أن دخل في لحده لم يف لله بحقه) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (واعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، إذاً: لن يبلغ العبد قدر الله جل وعلا، ولن يبلغ إجلاله حق إجلاله، لكننا نتسابق في أداء ما فرض سبحانه وبحمده علينا، وفي أداء شيء مما أمرنا به، وفي الانتهاء عن شيء مما نهانا عنه.

العباد محتاجون إلى ملء قلوبهم بالتكبير والعظمة لله جل وعلا

العباد محتاجون إلى ملء قلوبهم بالتكبير والعظمة لله جل وعلا إننا -أيها الإخوة- بحاجة إلى أن نملأ قلوبنا بمعنى هذه الكلمة، حتى تثمر ثمرتها، وحتى نجني فائدتها. (الله أكبر) كلمة تورث في قلب العبد تعظيم الله جل وعلا، وهو الرب العظيم العلي الكبير سبحانه وبحمده الذي له ما في السموات وما في الأرض، إن هذه الكلمة إذا تأملها العبد وهو يقولها في صلاته، وهو يرددها في أذكاره، وهو يسمعها من المؤذن ويردد مع المؤذن؛ وجدها تغرس في قلبه وتصب في فؤاده تعظيم الله جل وعلا، هذه الكلمة هي أعظم وأجل القربات إلى الله سبحانه وبحمده، كيف لا، وليس شيء أعظم من الله سبحانه وتعالى؟! قال الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:90]، أي: يتشققن من عظمة الرب جل وعلا، هذه السموات السبع الطباق العظام التي لا يدرك الخلق حقيقتها وكنهها، تكاد تتشقق من عظمة الرب جل وعلا، والله بين لنا عظيم شدتها وقوتها وإحكامها ومع ذلك تكاد تتفطر، أي: تتشقق شقوقاً، وتتحول هذه الاستقامة في هذا البناء إلى شقوق بسبب عظمة الله سبحانه وتعالى، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى:5]، فالله جل وعلا عظيم، أدركت جمادات خلقه عظمته، فكيف بقلوب عباده الذي منَّ عليهم بالعقل والرشد والرأي والرسالة والوحي؟! إنهم أولى وأحرى بإدراك هذه العظمة، وإدراك جلال الله سبحانه وتعالى. (الله أكبر) كيف تذهل القلوب عن عظمة ربها جل وعلا؟! وقد قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، ما قدر الخلق حق قدره، ثم بين لنا شيئاً من عظيم القدرة فقال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، روى مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن الله سبحانه وتعالى يأخذ السموات بيمينه، ويأخذ الأرض بشماله فيقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، هذه عظمة ربنا، هذه السموات وهذا البناء العظيم يكون في قبضته، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة ذلك فاهتز في المنبر تأكيداً لهذا، فقال وهو يشير بيده إلى عظيم قدرة الله جل وعلا: (إن الله يطوي السموات السبع بيمينه، والأرضين بالأخرى، ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، هذه عظمة ربنا جل وعلا، وقد جاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- فقال: (يا محمد! إن الله يضع السماء على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول بيده: أنا الملك) يقول ابن مسعود: (فضحك النبي تصديقاً لقول الحبر)، يعني: أن ما أخبر به هو من الوحي الصحيح الذي لم يحرف في التوراة، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. الله أكبر! كيف تذهل قلوب المؤمنين عن تعظيم ربهم جل وعلا؟ الله أكبر! كيف تغفل القلوب عن تعظيم الرب جل وعلا وقد قال منكراً على الخلق: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، كيف لا تعظمون الله سبحانه وتعالى حق عظمته؟! وهذا خطاب من الله لجميع الخلق، أي: مالكم؟ ما دهاكم؟ وما الذي جعلكم لا تخافون مقام الله جل وعلا، ولا ترجون وقاره سبحانه وتعالى، فلا توقرونه ولا تعظمونه؟! مالكم -أيها الناس- تعاملون مالككم وربكم ورازقكم وخالقكم وإلهكم الذي لا إله لكم سواه معاملة من لا يوقرونه ولا يعظمونه؟! قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: (ما لكم لا تعرفون لله تعالى حق عظمته؟!).

أثر التكبير في الجهاد

أثر التكبير في الجهاد حدثنا بعض من اشتغل بمقاتلة الصرب الذين اعتدوا على إخواننا في البوسنة: أنهم كانوا إذا أتوا على المكان الذي فيه الصرب فقالوا: (الله أكبر) يقول: والله! إنه لا يبقى في القرية رجل واحد منهم، مع أن معهم سلاحاً وعتاداً، ولكن هذه الكلمة لها من الأثر ما ليس لغيرها، لكن إذا صدرت من قلب قد امتلئ بما فيها من معنى، فليس الشأن بأن نقول: (الله أكبر)، فكم هي المرات والكرات التي نقول فيها: (الله أكبر) صباحاً مساءً؟ لكنها لا تؤثر في حياتنا، وليس لها في سلوكنا أثر، وليس لها في قلوبنا أثر، فلم تأت بما حصل لأولئك القوم من نصر وظفر وعلو وصلاح حال واستقامة عمل، وما إلى ذلك مما حصله غيرنا.

التكبير يطرد الشيطان

التكبير يطرد الشيطان أيها الإخوة! كلمة (الله أكبر) كلمة عظيمة ترتعد لها قلوب أعداء الله عز وجل، وعلى رأسهم زعيمهم وكبيرهم إبليس الشيطان، أعاذنا الله منه، فهذه الكلمة لها من الأثر في هؤلاء ما لا يطيقون معه بقاءً، فهي تفرقهم وتزلزلهم وتأتي على مقاتلهم؛ ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان إذا سمع النداء -أي: سمع نداء المؤذن إلى الصلاة- أدبر وله ضراط) أي: وله صوت يخرج من دبره، يريد بهذا الصوت أن يصم أذنه عن سماع ذكر الله عز وجل، فإذا نادى المنادي ولى الشيطان وأدبر وله ضراط حتى لا يسمع صوت المنادي، (فإذا سكت المنادي عن ذكر الله وتكبيره وتهليله رجع فوسوس -أي: عمل في قلوب العباد ما يصرفهم عن الطاعة- فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس) وهكذا يوسوس الشيطان في قلب العبد ما غفل عن ذكر الله جل وعلا، وكلما تذكر القلب، وارتفع اللسان بذكر الله جل وعلا، كلما كان ذلك أدعى لهروب الشيطان وفراره.

إطفاء التكبير للحريق

إطفاء التكبير للحريق يذكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الحريق فكبروا -أي: قولوا: (الله أكبر) - فإن التكبير يبطله) وهذا الحديث جاء عن عبد الله بن عمرو، وعن أنس، وعن جماعة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة إلا أن طرقه ضعيفة، ولكن يستأنس باجتماع هذه الطرق في الدلالة على الحكم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن التكبير يطفئ الحريق؛ وذلك لما يوجد من المناسبة بين الشيطان وبين النار، فإن أصل خلق الشياطين من النار؛ ولذلك كان التكبير من أعظم الأسباب التي يحصل بها إطفاء النار، فالنار بطبعها تطلب العلو والفساد، والشيطان بطبعه يطلب العلو والفساد؛ فناسب أن ينخنس الشيطان، وأن تنخمد النار بذكر الله جل وعلا، فالشيطان والنار كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد والكبرياء، والله جل وعلا هو الذي له الكبرياء في السموات والأرض؛ ولهذا كان تكبير الله جل وعلا له أثر في إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله جل وعلا لا يقوم له شيء، فإذا قال العبد هذا القول ممتلئاً قلبه بتعظيم الله جل وعلا فإن له أثراً بالغاً في تحقيق مطلوبه، وفي دفع الشر والفساد عنه فيما يتعلق بالشيطان وعمله.

تكبير الله يكون عند كل أمر عظيم

تكبير الله يكون عند كل أمر عظيم (الله أكبر) -أيها الإخوة- يعلو بها المؤمن على كل عليٍّ من الخلق؛ ولذلك شرع الله عز وجل أن يكبره العبد عند كل أمر عظيم، وعند كل أمر كبير، وعند كل حال، وعند كل لقاء بمن تعظمه وتكبره، ولماذا نكبر إذا علونا في السفر؟ ولماذا نكبر عندما تمتلئ قلوبنا فرحاً؟ نكبر الله لأجل التعظيم، كما جرى من الصحابة رضي الله عنهم لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم ربع أهل الجنة فكبروا، ثم أخبرهم بأنهم ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم أخبرهم بأنهم نصف أهل الجنة فكبروا، ولماذا يكبر الإنسان في حال فرحه؟ ولماذا يكبر الإنسان عند ما يلقى أمراً عظيماً يدهشه؟ ولماذا يكبر الإنسان عندما تطير به الطائرة؟ يكبر الله في هذه الأحوال كلها ليملئ قلبه بكبرياء الله جل وعلا؛ وليستولي كبرياء الله عز وجل على قلبه، فإذا استولى على قلبه كبرياء الله اضمحل في قلبه كبرياء كل كبير، فيكون شرف الله جل وعلا وعلوه على كل شرف وعلى كل علو، أليس الله أكبر من كل كبير؟ الله أكبر من كل شيء جل وعلا، وأعظم من كل شيء سبحانه وبحمده.

حال السلف مع القرآن

حال السلف مع القرآن من أعظم نعم الله على عباده إنزال القرآن الكريم، ولذلك فرح به السلف واحتفوا به، فنالوا بذلك الخيرية، فإنه على قدر قرب الإنسان من القرآن تكون خيريته، وقد أقبل السلف على القرآن إقبالاً عظيماً، وتأثروا به تأثراً بالغاً، دائماً مثمراً، فينبغي أن نعرف حالهم مع القرآن لنقتدي بهم.

نعمة إنزال القرآن

نعمة إنزال القرآن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واستمسك بهديه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نعماً عظيمة متنوعة متعددة لا حصر لها، ولا يمكن للإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس، إلا أن أعظم ما أنعم الله جل وعلا به على هذه الأمة خاصة وعلى الناس عامة الكتاب الحكيم، إنزال هذا القرآن العظيم الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب خاتمةً للكتب، وجعله حجةً على الخلق، فهو أعظم آيات الأنبياء، وأعظم ما جاءت به الأنبياء؛ لأنه المعجزة العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان، بل هي آية ما تعاقب الليل والنهار، حتى إذا حيل بين الناس وبين القبول، وصرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب، وتعطل الانتفاع به؛ فإن الله جل وعلا يرفعه، وذلك في آخر الزمان، فإن من تعظيم الله لكتابه وحينئذٍ أن يرفعه من المصاحف والصدور. أيها الإخوة الكرام! بشر الله جل وعلا الناس عامة بإنزال هذا الكتاب الحكيم، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، ثم قال سبحانه وتعالى بعد هذه البشارة والبيان لما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] هذه البشارة -أيها المؤمنون- تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرح، فكان فرحاً بكتاب الله جل وعلا، فرحاً بنعمه سبحانه وتعالى، وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم، وفرحت به الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم، وكان انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أصيبوا به؛ لما في ذلك من انقطاع المدد من السماء، وانقطاع هذا الخير. هذا الكتاب فرح به التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لما فيه من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين، سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فإن هذا الكتاب لا يقتصر نفعه على دار القرار -الدار الآخرة- بل يجني المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة، فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس، وتستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك بشر الله به الناس عامة، فهو رحمة وهدى وشفاء، قال الله جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] وإنما خص المؤمنين بهذا؛ لكونهم المنتفعين من هذا القرآن، وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد، ففيه الهدى والنور، وفيه ترتيب شئون حياة الناس، وإصلاح دنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس حتى الذين لم يؤمنوا به، فإن ما فيه من البيان، وما فيه من الاعجاز، وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل، ولا يدركها بيان، ولا يحيط بوصفها لسان؛ أمر يفوق الوصف، أمر يتجاوز التصور؛ وذلك لأنه كلام رب العالمين، والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فليس كمثل ربنا شيء: لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى. ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام الرب جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، كما أن صفاته سبحانه وتعالى ليس كمثلها شيء، وكما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.

فرح السلف بالقرآن

فرح السلف بالقرآن أيها الإخوة الكرام! هذا الكتاب -كما ذكرت لكم- فرح به السلف فرحاً عظيماً، وأقبلوا عليه، ولم يشبعوا من تلاوته، ولا من قراءته، ففي أحوالهم وأمورهم وما نقل عنهم مما ذكرته كتب السير من أعمالهم ما يتبين به عظيم فرحهم بهذا الكتاب، وعظيم إقبالهم عليه، وعظيم ما كانوا عليه من تعظيم لهذا الكتاب العظيم.

من هم السلف الصالح؟

من هم السلف الصالح؟ إن السلف الصالح هم الصحابة بالدرجة الأولى، فهم الذين شهدوا التنزيل، وأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وهم الذين اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بأن جعلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هؤلاء هم السلف في الدرجة الأولى، ويليهم في الفضل من أثبت لهم الفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فالتابعون وتابعوهم يدخلون في مسمى السلف؛ لأنهم مِن من أثبت لهم النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية على سائر قرون الأمة.

الخيرية في هذه الأمة عامة

الخيرية في هذه الأمة عامة أيها الإخوة الكرام! إن الخيرية في هذه الأمة لا يحصرها مكان ولا زمان، بل هي باقية، فالله جل وعلا قد أثبت الخيرية لمن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان، فقال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، فاتباع سلف الأمة بإحسان ينظمك في سلكهم، ويضمك إلى حزبهم، ولو لم تكن معهم في زمانهم، ولو افترقت عنهم في مكانهم، فإنك تشاركهم في الفضائل إذا وافقتهم في الأعمال.

تعظيم الله لكتابه

تعظيم الله لكتابه أيها الإخوة الكرام! إن الله جل وعلا بين شأن القرآن ووصفه بنفسه، وكفى ببيان الله بياناً، وكفى بوصفه وصفاً، فهو الحكيم الخبير العليم الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يبلغ الخلق -مهما أوتوا ومهما اجتمعوا- في وصف الكتاب ما وصف الله جل وعلا كتابه، قال الله جل وعلا في وصف كتابه: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] فوصفه الله سبحانه وتعالى بالمجد، والمجد في لغة العرب: السعة في أوصاف الكمال، فكل ما اتسع في أوصاف الكمال أثبت له هذا الوصف، وأطلق عليه هذا اللفظ، فالمجيد هو: الذي كمل في صفاته، واتسع في صفات الكمال والشرف، حتى بلغ منتهاها وبلغ غايتها، كيف لا وهو الروح؟ كيف لا وهو النور؟ كيف لا وهو الهدى؟ كيف لا وهو شفاء لما في الصدور؟ قال الله جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82]، وقوله سبحانه وتعالى: (من القرآن) (من) هنا ليست للتبعيض، بل هي لبيان الجنس، أي: إن كل القرآن شفاء لما في الصدور، ويشفي -أيضاً- من الأمراض الحسية، ويشفي -في الأصل والأساس وفي الدرجة الأولى- من أمراض القلوب، من أمراض الشبهات من أمراض الشهوات.

تعامل الصحابة مع القرآن

تعامل الصحابة مع القرآن أيها الإخوة! إن سلف الأمة أقبلوا على هذا القرآن، وإن وقفةً مع بعض أحوالهم تبين لنا ما كانوا عليه -رحمهم الله- من حسن التعامل مع هذا القرآن، وليس عجباً؛ فإن السلف الذين نتندر بما كانوا عليه من الفضائل، ونتعجب مما كانوا عليه من السبق، كانوا رضي الله عنهم بهذه المنزلة، وبلغوا هذه المرتبة بما ارتسموه من كلام الله جل وعلا وتوجيه رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذه الأمة التي هي: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] إنما خرجت من بين دفتي المصحف الكريم، من بين هذا القرآن الحكيم، خرجت على ضوء توجيهات هذه الآيات المبينات، وهذا القرآن العظيم، قال الله جل وعلا في وصف هذه الأمة -وأول من يدخل فيها الصحابة رضي الله عنهم-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وإنما كانت هذه الأمة على هذه الصفة وعلى هذا النحو بتمسكها بالقرآن الكريم، ولا عجب بعد هذا أن تنقل السير والسنن والكتب والدواوين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين وتابعيهم العجائب في التعامل مع القرآن الحكيم.

النموذج الأول في تعامل الصحابة مع القرآن

النموذج الأول في تعامل الصحابة مع القرآن إن وقفة مع بعض ما حفظته السنة من تعامل الصحابة وتلقيهم الحي للقرآن العظيم يعجب منه الإنسان، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]) هذه الآية يحفظها كثير منا، ويقرؤها كثير منا، لكنها لا تستوقف أكثرنا؛ وذلك لأننا نقرأ القرآن لا على وجه التلقي لما فيه من المعالم، وإنما نقرأ القرآن طلباً للأجر بقراءة لفظه دون نظر إلى ما تضمنه من المعنى، صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أنزل الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي فيها إثبات الملك لله عز وجل، إثبات ما في السموات وما في الأرض له سبحانه وتعالى، وأنه جل وعلا يحاسب الناس على ما دار في صدورهم ونفوسهم، ولو لم يتكلموا به ولو لم يعملوا، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا اشتد عليهم الأمر، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- ثم بركوا على الركب -أي: جلسوا على الركب من شدة ما جاءهم في هذه الآية- فقالوا: يا رسول الله! كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة الصيام الجهاد الصدقة -أي: كل هذا نطيقه- وقد نزلت علينا آية لا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -مؤدباً ومعلماً لهم كيف يتلقون القرآن، وكيف يتلقون كلام رب العالمين: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟! قولوا: سمعنا وأطعنا)، فما كان منهم رضي الله عنهم إلا أن انقادوا إلى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، وتكلموا بها وقرءوها، وقبلوها قبولاً تاماً؛ جاء التخفيف من رب العالمين، وجاء الفرج من الله جل وعلا الذي قال: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] ((مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ)) أي: بإلحاق المشقة بكم: ((إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ))، جاء الفرج من الله جل وعلا لهذه الأمة، ونزل في كتاب الله جل وعلا تزكيتها، وبيان فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال الله جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:285 - 286] فجاء التخفيف من رب العالمين بعد إثبات إيمانهم وقبولهم لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. أيها الإخوة! الشاهد من هذه القصة ومن هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى، وتستنبط منه الأحكام، ويعرف ما فيه من المعاني فقط، بل قرءوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون، وهم المعنيون بما فيه من المعاني؛ ولذلك شق عليهم، فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي شق عليهم من هذا القرآن، وهذه القصة ليست الفريدة، وليست الوحيدة التي حفظتها كتب السنة من أفعال الصحابة رضي الله عنهم عندما أنزل الله جل وعلا ما وجدوا فيه مشقة وعسراً وصعوبة.

النموذج الثاني في تعامل الصحابة مع القرآن

النموذج الثاني في تعامل الصحابة مع القرآن في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن الله جل وعلا لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]) وهذه الآية فيها البشارة من الله جل وعلا لمن آمن وسلم من أن يخلط إيمانه بظلم، فقوله تعالى: {َولَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] أي: لم يخلطوه بظلم، {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم مهتدون أيضاً في الدنيا والآخرة؛ لأن الهداية المسئولة والمثبتة لأهل الإيمان ليست فقط في الدنيا بل الهداية في الدنيا والآخرة، وهداية الآخرة أعظم من هداية الدنيا، لكنها لا تكون إلا لمن اهتدى في الدنيا؛ لأن هداية الآخرة بها النجاة من أهوال ذلك الموقف العظيم الذي تشيب فيه الوالدان {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ففي ذلك اليوم يحتاج الإنسان إلى هداية يخرج بها من تلك الأهوال، وينجو بها من تلك المزالق، ويجوز بها الصراط، فإنه لو لم يهده الله جل وعلا إلى اجتياز الصراط ما اجتاز، وما تمكن من السلامة من صراط ورد في وصفه: (أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف). أيها الإخوة! إن صحابة رسول الله صلى الله وعليه وسلم لما نزلت عليهم هذه الآية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وقد شق عليهم الأمر- (فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟!) يعني: مَنْ منا لم يقع في الظلم؟! كلنا واقع في الظلم، وهذه الآية تدل على عدم حصول الأمن والاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان ظلماً، فشرط حصول الأمن والاهتداء ألا يقع الإنسان في الظلم، ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم: الدقيق والجليل، الصغير والكبير، الشرك فما دونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه؛ لأنه لا سلامة من الظلم، بل كل إنسان ظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وكما قال الله جل وعلا -قبل ذلك- في شأن الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] حيث حمل الأمانة وقد أعرضت عن حملها السموات، والأرض، والجبال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس، ولا بجنس منهم، بل هو لعموم الناس، فكلهم ظالم جهول، ولا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وما جاءت به الرسل عن الله سبحانه وتعالى. أيها الإخوة الكرام! لما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون ما في هذه الآية من مشقة قال لهم: (ليس الذي تظنون -أي: ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه- إنما هو الشرك، كما قال الله جل وعلا في وصية لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، فالظلم الذي في الآية هو الشرك، فهان الأمر على الصحابة رضي الله عنهم. والشاهد -أيها الإخوة- أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن تلقياً بارداً، بل تلقوه للعمل، وأخذوا به على أنهم هم المعنيون، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله جل وعلا يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك -يعني: أصغ إليها، وأعطها أذنك- فهي إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل، وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه، وخطاب لكل من بلغه، وليس المخاطب به قوم مضوا ولم يبق لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ، وما فيه من الكلام الذي جرد عن معناه، ولم يقصد ما تضمنه، لا؛ بل إن الصحابة رضي الله عنهم ضربوا في هذا أمثلة رائعة، وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقياداً تاماً، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تتهم ابنته عائشة في عرضها! ويبرأها الله جل علا في سورة النور في قصة الإفك، وتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها: مسطح بن أثاثة، وهو قريب لـ أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر يصله ويعينه، وكان فقيراً، ثم لما تبين الأمر وتبينت براءة عائشة رضي الله عنها حلف ألا يصله -بعد أن فعل ما فعل- شيئاً من عطاياه، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى، فانتهى عن الامتناع مما جرت به يده رضي الله عنه من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لـ عائشة رضي الله عن الجميع.

السلف وقراءة القرآن

السلف وقراءة القرآن أيها المؤمنون! إن الصحابة رضي الله عنهم تعاملوا مع القرآن تعاملاً عظيماً، وليس هذا في جانب التلقي فقط، بل فاقوا الأمة في جوانب عديدة، من ذلك قراءتهم للقرآن، فإن الصحابة رضي الله عنهم لازموا قراءة القرآن، فكان أحدهم يلقى أخاه في الطريق فيقول: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر، وثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا اجتمعوا جعلوا أحدهم يقرأ، والبقية يستمعون للقرآن، فالقرآن كان مخالطاً لحياتهم: في قلوبهم في مجالسهم في تذكرتهم وموعظتهم، فالقرآن دخل معهم في كل أمر، وكانوا رضي الله عنهم مقبلين عليه مشتغلين به عن غيره؛ فلذلك فاقوا غيرهم في الفقه في العمل في الجهاد فيما كتب الله على أيديهم من النصر، كل ذلك بسبب ما كانوا عليه -رضي الله عنهم- من تعهد القرآن، والإقبال عليه، والأخذ به، والاستكثار منه. إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكثرون من قراءة القرآن في مجالسهم في طرقهم في كل شأنهم، فهذا عثمان رضي الله عنه كان ليلة مقتله تالياً لكتاب الله جل وعلا، حتى ذكر أن الذي قتله -عليه من الله ما يستحق- قتله وكان في يديه كتاب الله جل وعلا. أيها الإخوة الكرام! سار السلف الصالح: التابعون ومن بعدهم على منوال أولئك في قراءة الكتاب الحكيم، وفي الأخذ به رضي الله عنهم، فهذا عفان يقول: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، لكن ما رأيت أشد مواظبةً على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه رضي الله عنه. وقال آخر: ما رأيت أحسن انتزاعاً لما أراد من آي القرآن من أبي سهيل بن زياد، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل والتلاوة، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه. يعني: في الاستشهاد والاستفادة مما في هذا القرآن من الأحكام، ويقول آخر في وصف ما كان عليه مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قيل لأخت مالك بن أنس: ما كان شغل مالك بن أنس في بيته؟ -بماذا يشتغل في بيته؟ وماذا كان يعمل في بيته؟ - قالت: المصحف والتلاوة. هذا شغل الإمام مالك رحمه الله في بيته، المصحف والتلاوة. والآثار في ذلك كثيرة، ومن العجيب! أن بعض السلف كان إذا اجتمع إليه أصحابه أوصاهم عند التفرق بألا يجتمعوا في سيرهم، بل يمشي كل واحد منهم بمفرده، قال لهم: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم فانشغلتم عن القرآن.

السلف وتعلم القرآن

السلف وتعلم القرآن السلف رحمهم الله من الصحابة ومن بعدهم كان أحدهم يمكث في تعلم السورة من القرآن السنين الطويلة، فـ ابن عمر رضي الله عنه مكث في تعلم سورة البقرة ثمان سنين، وقيل: مكث اثنتي عشرة سنة، قال أبو عبد الرحمن السلمي: كان الذين يقرئوننا القرآن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان وأبي بن كعب وغيرهما يقولون: كنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز العشر آيات حتى نعرف ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. هكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، ابن مسعود يقول: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن). وروى مالك أن ابن عمر رضي الله عنه تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً رضي الله عنه، وهذه المدة الطويلة ليست فقط لحفظ ذلك وضبطه من جهة اللفظ، بل إن المظنون فيهم رضي الله عنهم أنهم أسرع حفظاً من المتأخرين، لكنهم كانوا يتفقهون، وينظرون إلى ما تضمنه هذا الوحي من الخير العظيم، الذي به حصل لهم الفقه، فكلامهم رضي الله عنهم قليل لكنه كثير البركة؛ لأنه نابع عن فقه ونظر دقيق، أما كلام المتأخرين فهو كثير لكنه قليل البركة.

قيام الليل بآية واحدة

قيام الليل بآية واحدة أيها الإخوة الكرام! إن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يقوم الليل بآية واحدة، وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث أبي ذر فإنه قال: (قام النبي صلى الله عليه سلم بآية يرددها حتى أصبح، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]) هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة تامة في ترديدها وقراءتها، وورد ذلك عن جمع من الصحابة، فعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كرر قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21] ردد هذه الآية حتى أصبح، وورد أيضاً عن أسماء رضي الله عنها: أنها قرأت قول الله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فوقفت رضي الله عنها عندها، فجعلت تعيدها وتدعو، قال الراوي: فطال عليّ ذلك فذهبت إلى السوق، فقضيت حاجتي، ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو رضي الله عنها، هذا هو التدبر للقرآن! فالتكرار لآيات القرآن ليس تكراراً لطلب الأجر بقراءة الأحرف، إنما هو لطلب ما فيها من المعاني، وطلب ما فيها من الخير، وورد أن ابن مسعود رضي الله عنه ردد قول الله تعالى: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وورد عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه ردد قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، وورد ذلك عن جمع من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. والترديد للآية ليس أمراً مشروعاً في الفرائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يفعل ذلك ولم ينقل عنه، إنما هو في النوافل كما جاء ذلك في حديث أبي ذر الذي رواه النسائي وغيره، وهذا الترداد للآيات دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدبرون القرآن؛ لأن الترداد والتكرار لهذه الآية إنما هو للنظر في معانيها.

من سمات السلف قراءة الألفاظ وتدبر المعاني

من سمات السلف قراءة الألفاظ وتدبر المعاني هكذا كان السلف رحمهم الله في قراءتهم للقرآن، وإقبالهم عليه، وحرصهم على تلاوته، ولكن هذه التلاوة لم تكن مجرد قراءة للألفاظ، فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يتلون الكتاب ثناء حسناً، ولكنه أيضاً ذم قوماً يقرءون الكتاب لكنهم لا يفقهون ما تضمنه الكتاب من التوجيه، فقال الله جل وعلا في وصف طائفة من بني إسرائيل: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] يعني: إلا قراءة، فليس عندهم من معرفة كتاب الله من نصيبٍ، ولا من الكتاب إلا مجرد التلاوة، فليس عندهم فقه ولا معرفة ولا فهم للمعنى ولا تدبر؛ ولذلك حث الله جل وعلا في كتابه على النظر في الآيات، ومن جملة تلك الآيات التي تضمنها الكتاب الحكيم قوله جل وعلا: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، فهذا الكتاب أنزله الله جل وعلا ووصفه بأنه مبارك، ثم بين الطريق الذي تحصل به بركة هذا الكتاب، والطريق الذي تنال به خيرات هذا الكتاب فقال سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] أي: ليحصل لهم التدبر، ولا سبيل لتحصيل بركة الكتاب إلا بهذا. وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم في أول البعثة بقيام الليل، فقال الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1 - 4] أي: رتله في قراءته {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:4 - 5] وهو القرآن، فالقرآن قول ثقيل يحتاج إلى تهيئة {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:5 - 6]، أمره بقيام الليل وعلل ذلك بقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل:6] يعني: يتفق فيها قول اللسان مع تدبر القلب ونظره وتأمله وتفكره، وناشئة الليل قيل في تفسيرها: أوقات الليل، وقيل: عمل الليل، وكلا القولين يؤيد ما استشهدنا به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل بما أمره، ووجهه إلى أن يكون ذلك في الليل قياماً؛ لكونه أدعى لمواطأة القلب للسان بالتدبر، وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه الله جل وعلا وأمره، ففي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فقرأ: البقرة وآل عمران والنساء في ركعة!) كل هذا في ركعة في ليلة، وما هي صفة هذه القراءة؟ هل هي قراءة الهذ والنثر التي لا يعقل معها معنى، ولا يعرف معها مقصود؟! لا والله، يقول حذيفة رضي الله عنه في وصف قراءته صلى الله عليه وسلم: (وكان إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح، أو سؤال سأل، أو تعوذ تعوذ) هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قراءة تدبر ونظر وتفكر، ليست قراءة هذٍ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف القراءة التي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، قال: (لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب). هذا القرآن فيه من العجائب والأسرار ما لا ينفتح للذي يقرؤه قراءةً لا تدبر فيها ولا نظر، فإن الله جل وعلا يمنع من امتهن القرآن ولم يعطه حقه من أن يقف على أسراره وعجائبه.

مشروعية البكاء عند قراءة القرآن

مشروعية البكاء عند قراءة القرآن كان الصحابة رضي الله عنهم يكثرون البكاء عند آيات الكتاب، ولا عجب فقد رءوا ذلك من رسولهم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك فإن الله جل وعلا أثنى في كتابه على الأنبياء وعلى أولي العلم الذين يخرون للأذقان سجداً يبكون مما في هذا الكتاب من المواعظ، قال الله جل وعلا في وصف جماعة من الأنبياء: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، وانظر إلى قوله: (خروا) فإنه يدل ويشعر بالمسارعة إلى السجود، وأن سجودهم سجود ذل وخضوع وانكسار وتضرع، {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، وأيضاً أخبر الله جل وعلا عن قوم من أهل الكتاب فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83]، فشواهد ثناء الله جل وعلا على الباكين عند تلاوة القرآن كثيرة، وهي من الفضائل التي امتدح الله بها من امتدح من النبيين، وأولي العلم، ومَنْ تعقلوا وتدبروا ما في هذا الكتاب من الحكم، ولذلك كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعظم الخلق نصيباً في ذلك، ففي حديث عبد الله بن الشخير قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا -أي: يصلي بالصحابة- وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) والأزيز: هو الحركة والحنين الناتج عن التدبر والتأثر بالقرآن الحكيم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ عليَّ، فقال عبد الله رضي الله عنه: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحب أن أسمعه من غيري، يقول: فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك، فإذا عيناه تذرفان) فبكى صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم متأثراً بالقرآن. هذان مثالان فقط، وإلا فإن البكاء من هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كثير البكاء والتأثر بالقرآن؛ لما تضمنه من الحكم والعبر والآيات.

نماذج من بكاء الصحابة عند قراءة القرآن

نماذج من بكاء الصحابة عند قراءة القرآن وقد سار على ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه عند أن كانوا بمكة بنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فتتقصف عليه نساء المشركين -أي: تجتمع- وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، وهذا ليس خاصاً بـ أبي بكر رضي الله عنه، بل إن عمر رضي الله عنه -مع ما عرف به من الشدة والقوة- كان بكاءً، يقول من روى من أصحاب السير: إن عمر رضي الله عنه صلى بالجماعة الصبح، فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته. وفي رواية: كان في صلاة العشاء، أي: كان يقرأ ذلك في صلاة العشاء، فهذا يدل على كثرة تكراره لهذه السورة، وأنه رضي الله عنه كثير البكاء، ويقول: عبد الله بن شداد بن الهاد: سمعت نشيج عمر بن الخطاب وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ في سورة يوسف: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]. أيها الإخوة! إن الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في البكاء والتأثر بتلاوة القرآن عديدة وكثيرة، لكن هذه وقفة مع حال السلف في التأثر والبكاء عند قراءة القرآن.

أنواع البكاء

أنواع البكاء البكاء نوعان: النوع الأول: يأتي بلا طلب، وبدون تكلف، وهو ما يكون من تأثر طبيعي لا يطلبه الإنسان، وإنما هو ناتج عن تدبره وتأمله لما في هذه الآيات من الترغيب أو الترهيب، أو عظيم صنع الله جل وعلا، أو عظيم وصفه، وهذا هو الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم، وهو دال على سلامة القلب ولينه وصحته وحياته. النوع الثاني: هو البكاء الذي يكون بطلب، فينظر الإنسان ويحث نفسه على النظر في معاني الكتاب؛ ليتأثر، ومنه قول عمر رضي الله عنه لنبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لما رآهما يبكيان فقال لهما رضي الله عنه: (يا رسول الله! أخبرني ما يبكيك وصاحبك، فإن وجدت بكاءًَ بكيت معكما، وإن لم أجد تباكيت)، وليس المقصود أنه يتكلف البكاء، وإنما يطلب أسباب البكاء التي من أجلها حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن نزل في حزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا) فهذا الحديث يدل على مشروعية التباكي، لكنه التباكي الذي ليس فيه تكلف، وليس فيه طلب رياء ولا سمعة، إنما فيه طلب التأثر بالكتاب، وإذا كان القلب قد منعه مانع، أو عرض وحال دون حصول البكاء منه حائل، فينبغي لنا أن نطهر قلوبنا، وأن نطيبها؛ ليحصل لها التأثر بالقرآن دون تكلف.

تأثر السلف بالقرآن

تأثر السلف بالقرآن إن التدبر والبكاء المطلوب ليس آنياً محصوراً في وقت القراءة، ولا يثمر أثراً، ولا تحصل به ثمرة بعد القراءة، بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتأثرون تأثراً ممتداً غير منقطع؛ ولذلك كانت أعمالهم رضي الله عنهم على خير حال، وعلى خير مطلوب؛ لأن تأثرهم بالقرآن أثمر في حياتهم رضي الله عنهم. والواقع في حياة الناس اليوم أنك تجد في بعض الصلوات من يبكي عند قراءة القرآن بكاءً خاشعاً، إلا أن هذا لا يتجاوز حدود المسجد الذي حصل فيه التأثر، وحصل فيه البكاء، فليس لهذا البكاء أثر في العمل، ولا أثر في السلوك، ولا أثر في الأخلاق، ولا أثر في ترك المعصية، ولا أثر في الإقبال على الطاعة، ولا شك أن هذا قصور وتقصير فيما ينبغي أن يكون عليه المسلم المتأثر بالقرآن، قال الله جل وعلا في بيان أثر القرآن على من اتبعه وأخذ به: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، لا يضل في عمله، ولا يشقى في مآله، ولا في حاله، فهو سالم من الضلال، وسالم من الشقاء.

عمل الصحابة بالقرآن

عمل الصحابة بالقرآن وكان الصحابة إذا نزلت الآية تلقوها على الوصف السابق، ثم كان العمل، وإذا عاتبهم الله جل وعلا في شيء حصل منهم الانزجار، كما قال الله جل وعلا: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]، فكان الصحابة رضي الله عنهم يعاتبون بالقرآن فيحصل منهم الاستعتاب، تحصل منهم المراجعة، يحصل منهم إصلاح الخطاء، وإذا نزلت بهم مصيبة، أو نزلت بهم هزيمة كما جرى في أحد، وطلبوا السبب؛ جاءهم الجواب، فقد قالوا في غزوة أحد: أنى هذا؟! أي: من أين أوتينا؟ فقال الله جل وعلا في بيان ذلك: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فالقرآن في حياة الصحابة يختلف عنه تماماً في حياة غيرهم؛ ولذلك تميزوا عن غيرهم تميزاً سابقاً واضحاً، فلا يلحق مقامهم أحد، ولا يدرك شرفهم أحد رضي الله عنهم، ولكن كل من سلك سبيلهم مِن من اتبعهم بإحسان وسار على طريقهم فإنه يحصل على مثل ما حصلوا عليه من الفضل والخير أو قريباً منه. الصحابة رضي الله عنهم اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن وفي تلاوته وفي العمل به وفي جعله منهجاً للحياة، وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما خلقه؟ -فقالت للذي سألها مستغربة ومنبهة-: أولست تقرأ القرآن؟ قال: بلى)، فقالت جملة مختصرة تجمل مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وخلقه، فقالت: (كان خلقه القرآن) يعمل به في نهاره، ويقوم به في ليله، فهو قائم به، عامل به آناء الليل وآناء النهار، لا يتركه لحظة من اللحظات، بل كان يترجم القرآن ويبينه للناس بقوله وعمله وسائر شأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والصحابة رضي الله عنهم ساروا على هذا المنوال، فكانوا ينظرون إلى القرآن في كل أفعالهم وفي كل أعمالهم، ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن مسألة من مسائل الحج قال لهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ولما طلبوه عن دليل فعل من الأفعال لم يجبهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أو ترك، وإنما لفت أنظارهم إلى الدليل الأكبر الذي فيه الحث على الالتزام بكل فعلٍ فعله صلى الله عليه وسلم وكل قول قاله، فقال لهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].

ما ينبغي أن يكون عليه حامل القرآن

ما ينبغي أن يكون عليه حامل القرآن ينبغي أن يكون هناك أثر للقرآن عند قارئه وسامعه، في سلوكه وخلقه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن -وليس هذا في حق الحفاظ فقط، بل هو لكل حامل له ولو حمل منه شيئاً يسيراً- أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي أن يكون باكياً محزوناً حكيماً عليماً ساكناً، ولا يكون جافياً ولا غافلاً ولا صاخباً ولا صيّاحاً ولا حديداً -أي: ولا شديداً- في مطالبة الخلق ومعاملتهم. وقد ورد مثل هذا التوجيه -وبيان أثر القرآن على حامله وعلى القارئ له- في عدة أقوال من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، منها ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (يا حملة القرآن! -أو قال: يا حملة العلم! - اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم). أي: لا يجاوز حناجرهم، بل هو مجرد قول على اللسان ليس له أثر في القلب، ولا شك أن هذا الحاجز وهذا المانع يمنع من التأثر بالقرآن والانتفاع به. أيها الإخوة الكرام! إن القرآن نزل معالجاً لأمراض ووقائع كانت في زمن الصحابة رضي الله عنهم؛ ولذلك كانوا يرقبون ويخافون أن ينزل شيء من القرآن يبين شيئاً من عوراتهم، أو يكشف شيئاً مما يكرهونه، أو يكون سبباً لهلاك بعضهم، فكانوا رضي الله عنهم على غاية الحذر والوجل عند نزول القرآن وتلقيه؛ ولذلك كانت أحوالهم مستقيمة رضي الله عنهم.

منزلة القرآن عند السلف

منزلة القرآن عند السلف كانت منزلة القرآن عند السلف عظيمة، وعلومه مقدمة على سائر العلوم؛ ولذلك كانوا لا يشتغلون عن القرآن بشاغل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه منع من كتابة الحديث، حتى استقر الأمر، وميز القرآن عن غيره، وحفظ القرآن عن غيره، وقيل: إن منع النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في وقته صلى الله عليه وسلم إنما كان ليتميز القرآن عن غيره، ولئلا يشتغل الناس بغير القرآن، حتى بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تنبه الصحابة إلى هذا الأمر فكان القرآن عندهم في الدرجة الأولى، حتى إنهم كانوا يقولون: إذا حفظ الرجل سورة البقرة جد عندنا. أي: عظم وارتفع قدره، وكان له من المنزلة ما ليس لغيره؛ لأنها السورة التي تضمنت الأحكام الكثيرة، والأوصاف العظيمة لرب العالمين، ففيها آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا. فالصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يعدلون بالقرآن شيئاً، والناظر في أحوال كثيرٍ مِن من يشتغلون بالعلم في هذه الأزمنة يجدهم عن القرآن معرضين، والإعراض ليس إعراض هجر وبعد، وإنما هو إعراض ترتيب في أولويات طالب العلم، إن أولى وأعظم ما اشتغل به من أراد العلم أن يشتغل بالقرآن العظيم حفظاً وتلاوةً وتدبراً وفهماً للمعنى، وإقبالاً على ما قاله أهل العلم في هذا الكتاب الحكيم، وقد سار على هذا السلف الصالح، فكانوا يقدمون القرآن على كل شيء. استمع إلى ما جرى لـ ابن خزيمة رحمه الله وهو الملقب بإمام الأئمة، يقول ابن خزيمة: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة -ليتلقى عنه- فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن -أي: حفظته- فقال: أمسك حتى تصلي بالختمة -يعني: حتى تصلي بنا وتختم القرآن- يقول: ففعلت، فلما عيدنا -أي: انتهى رمضان- وختمت بهم القرآن أذن لي، فخرجت إلى مرو -ليطلب هذا المحدث ليتلقى عنه- وسمعت بمرو من فلان وفلان فنعي إلينا قتيبة -أي: أنه لم يدركه ولم يتلق عنه-. والشاهد من هذا: أن السلف رحمهم الله، ومن سلك سبيلهم وسار على طريقهم، كانوا يجعلون القرآن في المرتبة الأولى في التعلم، وحال الناس اليوم أنهم يشتغلون بعلوم الآلة وبالعلوم الأخرى عن القرآن، فليس لهم نصيب من التفسير، وليس لهم نصيب من علم القرآن وما فيه من الأحكام، بل حتى الذين يشتغلون بالقرآن تفسيراً ليس لهم نصيب من القرآن في استنباط الأحكام، فالقرآن مشتمل على أحكام وحكم كثيرة تحتاج إلى استنباط، وتحتاج إلى نظر، ولا يمكن أن تستنبط ولا أن تحصّل ولا أن تدرك إلا بإمعان النظر والتأمل والقراءة في كلام العلماء، وجمع ما تفرق من كلام أهل العلم في آيات الكتاب الحكيم، فيحصل للإنسان الخير، ويحصل له الفقه بكتاب الله عز وجل، والمعرفة بالقرآن الحكيم.

خيرية هذه الأمة بتعلم القرآن

خيرية هذه الأمة بتعلم القرآن إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطانا معياراً دقيقاً وميزاناً واضحاً في مسألة الخيرية، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وهو الذي لا ينطق عن الهوى- في فضيلة تعلم القرآن وتعليمه، (خيركم) أي: خير هذه الأمة، (من تعلم القرآن) وليس التعلم هنا فقط تعلم الألفاظ، إنما هو تعلم اللفظ مع المعنى (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فإقبال المرء على القرآن دليل واضح على خيريته، وله من الخيرية بقدر هذا الإقبال، فالذي يُقبل -فقط- على حفظ القرآن فيه من الخيرية ما يقابل الحفظ فقط، والذي يقبل على حفظه وفهم معناه، وتدبر واستنباط الحكم والأحكام منه، فهذا فيه من الخيرية ما ليس في غيره، ومن يقبل على هذا كله: حفظاً وفهماً وتدبراً ويعقب ذلك بالعمل فهذا فيه من الخير ما ليس في غيره، وهلم جراً، فبقدر أخذك للقرآن علماً وعملاً بقدر ما يكون معك من الخير، وبقدر ما يحصل لك الكمال إذا استكملت مراتب التعلم، ثم انتقلت إلى مراتب التعليم. فالتعليم للقرآن العظيم من خير الأعمال؛ لأنه به تحفظ الشريعة، وليس فقط -كما ذكرنا- التعليم للفظ بل التعليم للفظ والمعنى، والعجيب! أنك إذا نظرت إلى سير العلماء على اختلاف أزمانهم ودرجاتهم في العلم ونفعهم الأمة تجد أنهم في آخر أعمارهم يتحسرون أو يندمون على عدم الاشتغال بالقرآن، وودوا لو أنهم أعطوا القرآن من النظر والبحث والتأليف والقراءة ما لم يعطوه لغيره من العلوم؛ وذلك لما وجدوا في القرآن من الأثر والنفع والبقاء، فإن في القرآن من العلم ما ليس في غيره، ويكفي في ذلك قول الله جل وعلا: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، وقد طلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم الآيات والمعجزات فجاءهم الجواب في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51]، فالكتاب أعظم آيات الأنبياء، وأعظم حجة، وأعظم برهان، لكنه حجة وبرهان لمن تدبره وتأمله وأقبل عليه. فالقرآن: (يرفع الله به أقواماً ويضع به آخرين) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل ولا أصدق من وقوع هذا الحديث في واقع الأمة، فقد رفع الله جل وعلا سلف الأمة لأخذهم القرآن، ورفع الله القرون المفضلة؛ لما كانوا عليه من الإقبال على هذا القرآن: قراءةً وعلماً وعملاً وتعليماً ودعوةً وغير ذلك من أوجه الانتفاع بالقرآن الحكيم.

نجاة الأمة من واقعها المؤلم إنما يكون بالرجوع إلى القرآن

نجاة الأمة من واقعها المؤلم إنما يكون بالرجوع إلى القرآن أيها الإخوة! إننا في هذه الأزمان المتأخرة التي بليت فيها الأمة بالمصائب والرزايا من عدة جهات: فيما يتعلق بعلاقتها بربها، وبعلاقتها مع الخلق، وعلاقتها مع دينها، فتحتاج الأمة إلى أن تراجع هذا الكتاب الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله) فالواجب على المسلمين أفراداً وجماعات أن يعودوا إلى هذا المعين الصافي، إلى هذا النبع الذي لا تنضب فوائده، ولا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي أسراره، فإن أسباب النجاة فيه، فينبغي لنا أن نقبل على هذا الكتاب، ففيه القصص، وفيه العبرة، وفي العظة، وفيه التثبيت، وفيه الهداية، وفيه النور، فقد قال الله جل وعلا في وصفه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52]، فهذا القرآن نور وروح، وهذه الأوصاف تبعث الحياة في الفرد، كما أنها تبعث الحياة في الجماعة، وتبعث الحياة في الأمة، فإن الأمة إذا أقبلت على الكتاب بشرت بهذين الأمرين: بالروح والنور، فالروح تحصل به الحياة، والنور يحصل به التمييز بين الحق والباطل، والخروج من هذه الظلمات التي أحلكت بالأمة، وأحاطت بها من كل جانب، ولا مخرج لها إلا بالكتاب المبين، والقرآن العظيم، قال الله جل علا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]. نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فهم أهل الله؛ لإقبالهم على صفة من صفاته، وخاصته؛ لأنهم عظموا ما عظمه، وأقبلوا على كتابه. أسال الله جل وعلا أن يجعلنا مِمن تعلم القرآن وعلمه.

كن في الدنيا كأنك غريب

كن في الدنيا كأنك غريب الدنيا مزرعة للآخرة، خلقنا الله لعبادته فيها، وجعل فيهما الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فطوبى لمن لم يغتر بهذه الدنيا الفانية، وسابق فيما يرفع درجاته في الآخرة الباقية.

نعمة طلب العلم

نعمة طلب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، بالعلم والبيان، والسيف والسنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه أولاً وأخراً، وظاهراً وباطناً، على ما أولانا من النعم، فنعم الله جل وعلا علينا تتراً أيها الإخوان، ألا وإن من أعظم النعم وأجل المنن وأكبر المنح؛ أن يوفق الإنسان إلى العلم النافع، إلى حضور حلق الذكر التي تحيى بها القلوب، وينشط بها إلى العمل الصالح، فنعمة الله عز وجل على العبد بالتوفيق إلى الطاعة، وإلى طلب العلم، وإلى حضور حلق العلم؛ من أعظم ما يمن به على العبد ويوفق إليه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، والفقه في الدين الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم حصوله للمرء دلالة على إرادة الخير به من الله سبحانه وتعالى؛ هو معرفة قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فالعلم هو قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان رضي الله عنهم، فكل من اشتغل بهذا الأمر سواء اشتغالاً كلياً أو اشتغالاً جزئياً فإنه على خير عظيم، وهذا من دلائل إرادة الله عز وجل لعبده الخير، فاحمدوا الله -أيها الإخوة- على هذا الأمر، واشكروه عليه، واحرصوا عليه، فإن حلق الذكر يعلو بها الذكر، ويرتفع بها الإيمان، ويصلح بها حال الإنسان، وينشط بها على العبادة، ويعرف بها حق الله عليه، ويعرف بها ما يكون سبباً من أسباب الخروج من الظلمات إلى النور، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم العاملين به، الداعين إليه، المقبلين عليه، الفرحين به.

هدي النبي عليه الصلاة والسلام هو عنوان السعادة للعبد

هدي النبي عليه الصلاة والسلام هو عنوان السعادة للعبد أيها الإخوة الكرام! إن هذا هو الدرس الأول من سلسلة دروس في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أكمل الهدي، وهو عنوان السعادة للعبد إذا وفق إليه، فإن الله جل وعلا قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلا إذا كان موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواجب على كل من حرص على قبول عمله، وعلى كل من رغب في تحقيق السعادة لنفسه، أن يسلك وأن يعتني بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتني به علماً، ويعتني به عملاً، ويعتني به تحصيلاً، ويعتني به طلباً، فإن ذلك سبب للسعادة، والتعليل لهذا الأمر واضح جداً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق سعادة، فلا أحد أسعد منه في الدنيا ولا في الآخرة، قد من الله عليه بهذه السعادة الوافرة في الدنيا والآخرة، فمن رغب في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وفوز الدنيا وفوز الآخرة فليحرص على سلوك سبيل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وما سنتناوله في هذه الدروس إن شاء الله تعالى هو ما يتعلق بجوانب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، نذكر أنفسنا بحاله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا جعل لنا فيه الأسوة الحسنة، جعله سبحانه وتعالى لنا إماماً وقائداً، فبقدر حرصنا على اتباع سنته، والأخذ بهديه، والإقبال على ما خلفه وتركه؛ بقدر نصيبنا من صحبته، والحشر تحت لوائه، والكون معه يوم العرض والنشور.

وصية النبي عليه الصلاة والسلام لابن عمر

وصية النبي عليه الصلاة والسلام لابن عمر أيها الإخوة الكرام! درسنا إن شاء الله وتعالى سيكون في أول أحد من أول كل شهر بإذن الله تعالى، وكما علمتم أننا سنتناول هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وموضوع هذا الدرس هو نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للدنيا، وقد انتخبت لبيان ذلك حديثاً من صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه الله عنه قال فيه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي-والمنكب هو مجمع الكتف مع العضد - أخذ رسول صلى الله عليه وسلم بمنكب ابن عمر، لكن قبل أن نتم الحديث نحب أن نقف عند هذه اللفتة النبوية منه صلى الله عليه وسلم، التي تنم وتدل على تواضع جم منه صلى الله عليه وسلم، وتدل أيضاً على شفقة ورحمة، وتدل أيضاً على نصح تام، ورغبة في إيصال الخير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص ابن عمر الشاب الحدث الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أوائل العشرين أو لعله لم يبلغ العشرين، فإنه في غزوة الخندق كان عمره إما خمس عشرة سنة أو أربع عشرة سنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لفت نظر هذا الشاب الذي في مقتبل عمره، وفي أوائل طريق حياته، إلى أمر عظيم ينشطه به على ما يستقبل من بقية العمر، ويذكره بأهمية الجد والاجتهاد في استباق الأوقات قبل فواتها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر في هذه الوصية الجامعة، التي هي في الحقيقة ترجمة لهذه الدنيا: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، كلمتان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما هذا الشاب: (كن في الدنيا) أي: ليكن شأنك في هذه الدنيا، في هذا المعاش، في هذه الحياة، بين أحد أمرين: الأمر الأول: (كأنك غريب)، والثاني (أو عابر سبيل)، وكلاهما يجمعه معنى واحد ألا وهو السفر، فإن الغريب مسافر، وعابر السبيل مسافر، ومجمل الحديث يدل على أنه ينبغي لكل مؤمن، ولكل إنسان أن يحقق هذا المعنى في حياته، وهو الاستشعار بأنه في سفر، كم الذين غفلوا عن هذا الأمر؟ أكثرنا يظن أنه في دار إقامة، في دار قرار، في دار بقاء لا زوال لها إلا بعد آجال وأعمار، ثم يحدث الله ما يشاء مما يجري ويكون، لكن الأمر أقرب من ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجه هذه الوصية لشيخ كهل قارب القبر، بل وجهها لشاب صغير في أول عمره، وقد يكون في أوائل السنين بعد البلوغ، أو يكون قد بلغ العشرين، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، والجامع لهما -كما ذكرنا- هو معنى السفر، فما هي حال المسافر؟ حال المسافر جد في طريقه، واجتهاد في قطع المسافة لبلوغ مراده، وتحصيل مقصوده، هذه هي حال المسافر؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب)، هذه هي المرحلة الأولى، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه كل إنسان. المرحلة الثانية: مرحلة الجد وانتهاء الاجتهاد في تحصيل المقصود، وهي أن يكون الإنسان عابر سبيل، فإن الغريب قد يشتغل في غربته ببعض ما يشتغل به المقيمون من أخذ مسكن أو مشرب أو مأكل أو غير ذلك، لكنه لا يشتغل اشتغال الذي وطن نفسه على البقاء، فما زالت أحكام السفر عليه قائمة، ولا زال يمني نفسه ويعدها بالارتحال وبلوغ المنزل والمقصد الذي يسعى إلى بلوغه وقصده، وهو غايته، وهي الدار الآخرة.

سرعة انقضاء الدنيا

سرعة انقضاء الدنيا إن مما يعين على تحقيق ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننظر إلى سرعة انقضاء الدنيا، فالدنيا -أيها الإخوان- سريعة الانقضاء، هي مراحل تنقضي مرحلة تلو مرحلة، إذا لم يدرك الإنسان هذا الأمر غفل، وإذا غفل فاتت عليه الخيرات، وفاتت عليه الفرص، عمره فرصة للسبق إلى مغفرة من الله ورضوان، للمسارعة إلى جنة عرضها السموات والأرض، فاحرص على مراحل عمرك، واعلم أن الليل والنهار مراحل تطوى وتنقضي، فيوم أمس شاهد عليك، ويومك الحاضر محل عملك، وغداً قد لا تدركه، فلا تدري أتكون فيه من الأحياء أو لا تكون فيه من الأحياء؟ فاعمل جاداً في قطع المراحل لطاعة الله عز وجل، واعلم أن المراحل تطوى وأنت لا تشعر، كلنا لو أراد أن يسترجع ذاكرته وذهنه إلى ما قبل سنوات قريبة لفاته شيء كثير، وقال: ما أسرع تقارب الزمان، وتعاقب الليالي والأيام! لكن هذا لا ينفعه إذا كان لا يحدث فيه إقبالاً على الطاعة، وتصحيحاً للأخطاء، واستدراكاً لما فات، وتنمية وزيادة للخيرات، مراحل العمر تنقضي وتسير سيراً حثيثاً، والعجيب العجيب أنك لو تأملتها؛ لرأيت المنازل تطوى، والمسافر قاعد! هذه حال الدنيا، منازل الليل والنهار تطوى وتنقضي، والمسافرون أنا وأنت والثاني والثالث قاعدون لا نشعر بهذا السفر، ومن الغريب العجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والواقع أن تعاقب الليل والنهار أصبح غشاء عند كثير من الناس، ينسيه النهار ما كان في الليل، ويلهيه ليله عما كان في نهاره، وهلم جراً، أصبح تعاقب الليل والنهار فتنة له، لا ذكرى ولا عبرة. نسأل الله عز وجل -أيها الإخوة الكرام- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا من عباده المتقين المحققين لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، وأمره في هذا الحديث خاصة، ونكتفي بهذا القدر من الكلام.

موقف النبي عليه الصلاة والسلام من الدنيا

موقف النبي عليه الصلاة والسلام من الدنيا ومما يعيننا على تحقيق ذلك؛ أن نتلمس ترجمة هذا الحديث في هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله جل وعلا عليه القرآن؛ ليبينه للناس، فكان فعله صلى الله عليه وسلم وهديه ترجمة لما في القرآن، وكان هديه وفعله صلى الله عليه وسلم ترجمة لما أمره الله به، فهو السباق إلى الخيرات، ما أمره الله بأمر إلا وبادر إليه، ولا نهاه عن نهي إلا كان أول المنتهين عنه صلى الله عليه وسلم، فما موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا؟ روى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه، وابن ماجة في سننه أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على حصير، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا أثر الحصير في جنبه صلى الله عليه وسلم، فقال ابن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا أمرتنا فنعد لك مكاناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا! مالي وللدنيا!) يعني: أي شيء يحملني على التعلق بها؟ مالي وللدنيا! ثم بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هديه وسمته وطريقته فقال: (إنما أنا كراكب استظل -يعني: شأني شأن الراكب السائر في طريقه، القاصد إلى جهة من الجهات- إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة -وفي رواية: استظل- ثم راح وتركها)، هذه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا، وهذا الحديث يبين لنا بياناً واضحاً أن الحياة قليلة مهما كانت في الغاية من السعادة، فرسول الله كما قدمنا قبل قليل أسعد الخلق، أسعد الناس، أسعد بني آدم، ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعد هذه الدنيا كالظل الذي يستظل به السائر في طريقه، يحتمي به من الشمس ثم يخرج بعد أن قال واستراح لمواصلة سيره، وهذا يبين لنا -أيها الإخوة- أن الدنيا مهما طابت فهي سريعة الرحيل، سريعة الزوال، هي دار قليلة المكث، فالواجب على من نصح نفسه أن يجتهد في مرضاة ربه، وأن يبالغ في تحقيق العبودية لله عز وجل جهده وطاقته على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا وما فيها، مهما بلغت من النعيم، ومهما كان فيها من البهرج بقوله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد -: (والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع!)، هذه هي الدنيا بما فيها من الملذات، وما فيها من أنواع التنعمات، شأنها شأن الذي وقف على اليم ثم غمس يده في اليم وأخرجها، فما الذي يعلق في يده مقارنة بما بقي في اليم؟! لا يذكر، وهذا وصف لما يمكن أن يحصله الإنسان في هذه الدنيا من النعيم الذي يفوته في الآخرة إذا كان ممن حصل لهم الغاية في التنعم في هذه الدنيا. أيها الإخوة الكرام! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ترجمة لما في القرآن، وبيان لما حواه كتاب الله عز وجل، بل الله جل وعلا قال في كتابه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فنزل الله عز وجل هذا القرآن على رسوله ليبينه للناس لعلهم يتفكرون، لعلهم يحصل منهم التفكر والتذكر، وإذا نظرنا إلى هذه السيرة لا نستغربها إذا علمنا أن القرآن مملوء بالتزهيد في الدنيا، وبيان حقارتها وخستها وانقطاعها، وأنها دار زائلة، وطيف زائل، وخيال عما قليل عابر، وأن الآخرة هي دار القرار، وأنها هي المستقر لكل أحد.

الدنيا متاع الغرور

الدنيا متاع الغرور قف عند آية ليتبين لك ذلك، وإن كان القرآن مملوءاً بذلك، لكن قف عند قوله جل وعلا في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20]، بعد ذلك ماذا قال؟ {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور أي: إلا متاع خادع يظهر لك ما ليس له حقيقة، متاع باطل كاذب، فهو يظهر صاحبه بالسعادة والمكانة والطمأنينة وقلبه خال من ذلك، ثم بعد أن بين هذا الأمر وجه إلى ما يحصل به السلامة من هذا الغرور فقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]. إذاً: سبيل السلامة من غرور هذه الدنيا هو أن يجد الإنسان في تحقيق العبودية، فيغتنم الإنسان عمره بالطاعة، ويحتسب الدقيق والجليل عند الله عز وجل، ولا يشتغل بما يشتغل به الناس من الانهماك في هذه الدنيا، والإقبال عليها، وجعلها في المرتبة الأولى من الاهتمامات، ليس المراد أن ينقطع الإنسان عن الدنيا، فإنه لا قوام له إلا بذلك، لكن المراد ألا تكون الدنيا قد تخللت القلب، وتربعت على سويداء القلب، بل المراد أن يكون الإنسان مشتغلاً بالطاعة، عاملاً ما يرضي الله عز وجل، باذلاً طاقته في تحقيق مرضاة الله عز وجل، ولا مانع أن يشتغل بعد ذلك بما يقيم به معاشه، ويصلح به دنياه، لا ندعو إلى زهد الصوفية الذين يقولون: دع الدنيا واهجرها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك، بل كان صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- يدخر قوت أهله لسنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواعد الناس، ويجلس لهم، ويخطط لأمر مستقبله فيما يتعلق بطاعة الله عز وجل، وفيما يعين على ذلك من أمر الدنيا، ولكن الذي نذمه هو ما يخالف مقتضى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغربة، وهو أن يشتغل الإنسان بهذه الدنيا عن الآخرة، وأن تكون هي همه ومحل اهتمامه ومحل عنايته، وهي التي عليها يوالي وعليها يعادي، وهي التي بها يحب وبها يكره، ولها يعطي ولها يمنع، هذا هو الذي ينبغي أن نسلم منه، وأن نصون أنفسنا وقلوبنا ومجتمعنا منه، وإذا كنا كذلك فقد حققنا خيراً كثيراً.

استجابة ابن عمر لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم

استجابة ابن عمر لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة! إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تميزوا بميزة جعلتهم خير القرون، ألا وهي سرعة المبادرة والاستجابة لله ولرسوله، فكانوا رضي الله عنهم سباقون إلى امتثال أمر الله ورسوله، شواهد هذا في سيرتهم كثيرة، ولا أظن أننا نأتي على شيء منها إلا ما ذكر في هذا الحديث، فإن ابن عمر الذي أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية ذكر لنا الغاية في تحقيق الغربة، وتحصيل ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري أنه بعد أن روى هذا الحديث قال موصياً من يبلغه هذا الحديث: (فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)، هذه الكلمات من ابن عمر رضي الله عنه ترجمة حرفية فعلية يبين فيها كيف تحقق وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الغاية والمنتهى في قصر الأمل؛ لأن المسافر الذي هو عابر سبيل في الغالب قد يحتاج إلى الإقامة في مكان من الأماكن؛ ليستريح وينشط على سفره، لكن إقامته لا تدوم، بل إذا أصبح لا ينتظر المساء في المكان الذي أقام فيه، بل يمشي ويواصل السير، وكذلك إذا أمسى لا ينتظر الصباح، بل هو مسافر، ثم هو في سيره يغتنم أوقات عمره ونشاطه وقوته؛ لتحقيق غرضه ومقصوده، وهذا ما وجه إليه ابن عمر رضي الله عنه في قوله: (خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)، فإن كل أحد ميت، وكثير من الناس تنزل بهم الأمراض، فاجتهادهم في وقت النشاط في طاعة الله عز وجل يكتب لهم من الأجر مثله في حالة المرض، فإن الله من كرمه وواسع فضله وجوده وإحسانه وبره ورأفته ورحمته بعباده أنه يكتب للعامل الصادق في عمله إذا نزل به مرض أو سفر كما كان يعمل صحيحاً مقيماً، كما في حديث أبي موسى في الصحيح، فينبغي للعبد أن يأخذ بهذه الوصية، فإنها من أسهل الوسائل والطرق التي يتحقق بها امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر، وهو أمر لكل الأمة، ليس خاصاً بـ ابن عمر وحده: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).

سفر الإنسان إلى الدار الآخرة

سفر الإنسان إلى الدار الآخرة إن سفرنا -أيها الإخوة- بدأ من ظهور آبائنا، وانتقل إلى بطون أرحام أمهاتنا، ثم بعد ذلك بدأت الرحلة التي ندركها ونعيشها، وعليها مدار التكليف، وبها الفوز والفلاح، أو الخسار والهلاك؛ من الخروج من بطون الأمهات، ويكمل ذلك عند جريان قلم التكليف بالبلوغ، فإذا بلغ الإنسان فقد جرى عليه قلم التكليف، وأصبح في سفر يحاسب على دقيقه وجليله، ثم يمضي هذا العمر سنوات تقل أو تكثر إلا أن الجميع فيها مسافر، وكل سيئول إلى مقر، لكنه ليس لإقامة، بل هو زيارة، وهي دار البرزخ، قال الله جل وعلا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، فلما ذكر المقابر مع أنها الغاية والمنتهى عند كثير من الناس، لم يجعلها دار إقامة، بل جعلها دار زيارة، ثم هذه الزيارة هل هي طويلة أو قصيرة؟ هي على المؤمن من أقصر ما يكون، وكذلك الكافر لا تطول عليه؛ لأنه يرجو أن تطول وهي خلاف ذلك، فهو يقول: رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة، ثم يبعث الناس من قبورهم، ويقومون لرب العالمين على هيئتهم يوم خرجوا إلى دار التكليف: حفاة عراة غرلاً، ثم بعد ذلك يحشرون في محشر عظيم وموقف مهول، فيه من الأهوال والفظائع ما تشيب له رءوس الولدان، كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، هذا هو سبب الذهول والاضطراب، فيكون الناس على هيئة السكارى في هذه الدنيا، ومن رأى السكران يعرف حاله واضطرابه، هذه هي حال الناس في ذلك الوقت، والذي جعل هذه الحال على هذه الصفة -وهي حال عامة للجميع- هو أن عذاب الله جل وعلا في ذلك اليوم، وما أعده لمن خالف أمره؛ عظيم تذهل له العقول، وتضطرب له القلوب، وتهتز له النفوس، ويستوجب أن يثبت الإنسان نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح الذي يدفع عنه أهوال ذلك اليوم، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم - أيها الإخوة - من الآمنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يثبتون على الحق والهدى في هذه الدار وفي الآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المرحلتان المذكورتان في الحديث

المرحلتان المذكورتان في الحديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذا الحديث مرحلتين ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن يكون في إحدى هاتين المرحلتين، أو في إحدى هاتين الحالتين، ويخطأ ويظلم نفسه من يخرج عن دائرة هاتين المرحلتين: المرحلة الأولى: أن يكون في الدنيا كأنه غريب، مستعد للرحيل، ينتظر انقضاء وقت سفره، وانقضاء عمره؛ ليعجل السير إلى ربه، وليعجل السير إلى بلده، فإن الناس ليست هذه بلادهم، ولا هذه قرارهم، بل قرارهم ما ذكره الله جل وعلا في قوله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، هذا منتهى حال الناس، فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، نسأل الله أن نكون من أهل الجنة! فينبغي للمؤمن أن يستحضر هذه الغربة وأن تكون منه على بال، وأن تكون معه على خاطر، وألا يغفل ببنيات الطريق، وما في هذه الدنيا من الملاهي والملذات، فإن هذه الملاهي والملذات عوائق تضرك وتمنعك عن مواصلة سيرك. الأمر الثاني أو المرحلة الثانية التي ينبغي للمؤمن أن يسعى إلى تحقيقها: أن يكون عابر سبيل أي: أن يكون في حاله وشأنه واستعداده للآخرة، واستعداده لبلوغ قصده ذلك؛ مثل الذي سار في طريق فاستظل تحت ظل شجرة ثم ذهب وتركها. أيها الإخوة! إن عابر السبيل أقل أثقالاً من الغريب، فالغريب قد يسكن، وقد يستقر لبرهة من الزمن، وقد يشتغل بما يشتغل به المقيمون، لكن عابر السبيل مظاهر التعب والسفر عليه بادية، وقلبه بسفره مشغول، لا يأنس إلى أحد، ولا يأوي إلى أحد، بل همه وشغله بلوغ غايته وقصده. وكلنا يسعى ويشتغل بالوصول إلى رحمة الله عز وجل، إلى جنة عرضها السموات والأرض، فالواجب على كل أحد أن يشتغل بهذه الغاية، وأن يسعى إلى تحقيقها، قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذه هي غاية الوجود، هذا هو المقصود من هذه السماوات والأرض، والإنس والجن، والذكر والأنثى، المقصود تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، فهل نحن مشتغلون بالغاية لندرك المطلوب أم نحن غافلون عنها فيفوتنا خير مطلوب وهو الجنة التي وعدها الله عز وجل عباده المتقين؟ إن المرحلة الثانية مرحلة كمال، ولكنها مرحلة تحتاج إلى رجال، تحتاج إلى حضور قلب، ودوام مراقبة، ودوام ملاحظة، حتى لا يغفل الإنسان؛ لأن المسافر في سفره قد يشتغل بعض الأحيان بما يلهيه عن بلوغ مقصوده، وبما يعوقه عن الوصول إلى مكان إقامته وقراره، فينبغي له أن يكون دائم الملاحظة، دائم المراقبة، دائم العناية بقلبه ونفسه وسيره وقصده، هل هو على الجادة أم أنه متخلف؟ هل هو ساع في تحقيق المقصود أم أنه متأخر؟

لماذا نتعلم؟

لماذا نتعلم؟ العلم بهذا الدين من الشرف بمكان، وفضائله لا تكاد تحصر، فبالعلم يعرف العبد ربه، وبالعلم يعرف العبد ما له وما عليه، وبالعلم تكمل الأخلاق، ويُعصم الطالب من الفتن، وينور القلب، وتحصل الأجور، وأهل العلم هم خير الناس، وحاجة الناس إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب.

عظمة العلم

عظمة العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى على ما يسر من تجدد اللقاء في هذا اللقاء الشهري الذي نتناول فيه شيئاً من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أيها الإخوة الكرام! إن موضوع هذا الدرس هو: لماذا نتعلم؟ إنه سؤال قليل العبارة، لكنه يتضمن في جوابه معانٍ كبيرة؛ وذلك أن المسئول عنه أمر عظّم الله جل وعلا شأنه في كتابه، وذكر فضل أهله، وبين مناقبهم، وحث على الاستكثار منه، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مليئة بالنصوص الحاثة على العلم، المرغبة فيه، الداعية إليه، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما صح عنه في حديث أم سلمة أنه كان يستفتح النهار بأذكار، منها: (اللهم إني أسالك علماً نافعاً)، وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسؤال الله المزيد من العلم، فقال جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ولم يأمر جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شيء إلا العلم؛ وذلك أنه مفتاح الفضائل، وفيه خير عظيم، فالعلم -كما قال الإمام مالك - خير كله، لكن ينبغي للمتعلمين وللمعلمين، ولمن يشتغل في التعليم على أي وجه كان أن يعرف: لماذا نتعلم؟

حكم العلوم الدنيوية

حكم العلوم الدنيوية أما ما يتعلق بالعلوم الدنيوية المدنية، فإن العلوم الدنيوية المدنية واجبة على الأمة لاسيما في هذا الوقت الذي تعيش فيه الأمة سباقاً حضارياً لا يعرف توقفاً، ولا يعرف كللاً ولا مللاً، بل إن الأمة تسابقها أمم يَصِلون الليل بالنهار في سبيل تحصيل العلوم، ثم في سبيل تسخيرها والاستفادة منها في تحقيق العز لأممهم ودولهم ومجتمعاتهم. إننا نحتاج إلى العلوم بشتى صنوفها: في الصناعة في الطب في جميع مجالاتها التجريبية والمدنية، وبذلك يحصل فرض الكفاية؛ فتستغني الأمة عن غيرها، وتخرج من كونها فتنة للذين كفروا، فإن من صور افتتان الكفار: ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والانكسار والتقهقر الحضاري الذي جعل المسلمين في آخر الركب، ومعلوم أن السابق لا يمكن أن يقتدي بمن يراه دونه في التقدم والرقي، فلا بد للأمة أن تطلب هذه العلوم لتخرج من هذا الموضع الذي جعلها فتنة للذين كفروا، حيث إن كثيراً من الكفار يصدهم عن الإسلام ما عليه المسلمون من ضعف وتقهقر وتشرذم وتشقق؛ وعدم استمساك بالدين الحنيف، وعدم عمل به.

تحصيل العلوم ليس طريقا لكسب المال

تحصيل العلوم ليس طريقاً لكسب المال أيها الإخوة الكرام! إن العلوم بشتى أنواعها لم تعلم، ولم تبذل فيها الأموال، ولم يجتهد فيها المربون والمعلمون على مستوى العالم كله؛ لأجل أن تكتسب بها الوظائف، وتحصل بها الأموال، إن اكتساب الوظائف والأعمال والمناصب ليس سبيله التعلم فحسب، بل إن حصول المال من غير طريق العلم أقرب؛ ولذلك تجد أن أكثر الأثرياء إنما حصلوا ثرواتهم من غير العلم، فالعلم ليس سبيلاً للتكسب، بل إنه قد ثبت -بعد دراسات- أن أقل الناس دخلاً هم الذين يشتغلون بالعلم، فالعلم ليس وسيلة لتحصيل المكاسب الدنيوية، فإذا كان ذلك كذلك فينبغي لنا أن نصحح النية، ومن كان غرضه من العلوم الشرعية -خاصة- أن يحصل بها المكاسب الدنيوية فليذهب إلى غير هذا الميدان، وليبحث عن غير هذا السبيل، فإنه (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا لدنيا يصيبها لم يرح رائحة الجنة) كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، بل إن العلوم الدنيوية لا تطلب لأجل التكسب فحسب، بل إن الأمم تدفع الأموال وتشيد المدارس وتبذل الميزانيات الطائلة في سبيل التعلم، لا لأجل وجود الوظائف للمتعلمين، بل لأجل السبق الذي يحصل به رقي الأمة في مجموعها. أيها الإخوة الكرام! هذه لمحة عن جواب هذا السؤال الذي لا بد أن نشتغل بطلب الجواب عنه في مجالسنا وفي دراستنا وفي عملنا؛ لأن الجواب عنه يختصر ويلخص لنا شيئاً كثيراً قد نجهله، ووجود هذا السؤال في أذهاننا يفيدنا فائدتين: الفائدة الأولى: تحديد الغايات، وتحديد الغايات مما يعين الإنسان في السعي إلى تحصيلها. الفائدة الثانية: أن ننظر ونقيس خيرنا في تحقيق هذه الغاية، فإذا أجبنا على السؤال يمكننا عند ذلك أن نقيس ما الذي حصلناه، وما الذي حققناه مما لم نحققه في سبيل التعلم. أسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم العلم النافع، وأن يجعلنا من أئمة الهدى العاملين به، وأن يوفقنا وأمتنا إلى نشر العلم والدعوة إليه والعمل به. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

حاجة الداعية إلى العلم

حاجة الداعية إلى العلم أيها الإخوة الكرام! إن من فوائد ومنافع طلب العلم: أن العلم من أهم من يحتاجه من يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل، فلا يسوغ لمن يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل -والدعوة إلى الله هي أشرف المقامات- أن يكون جاهلاً، بل لا بد أن يكون عالماً بما يدعو، عالماً بمن يدعوهم إليه، فمن علم من يدعو إليه، وبما يدعو؛ فإنه داخل في قول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. فالعلم هو الذي يثمر البصيرة التي أثنى الله عليها في كتابه، وأثبتها الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: أنا ومن اتبعني ندعو على بصيرة. إن الناس في هذا الزمان أحوج ما يكونون إلى من يبصرهم بالله عز وجل، وإلى من يدعوهم إلى الهدى، وهذا ليس خاصاً بأهل الإسلام فحسب، أهل الإسلام يحتاجون إلى دعوة من أهل العلم الذين عرفوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاجون إلى من يعلمهم القرآن ويفهمهم القرآن ويبين لهم معاني القرآن، ويحتاجون إلى من يعرفهم بالله عز وجل ويعرفهم بدينه وما يجب له سبحانه وتعالى.

حاجة الناس إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب

حاجة الناس إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب لا تنظر إلى محيطك الضيق الذي تعيش فيه، فإن الأمة في حاجة ماسة إلى العلم، بل إن الإمام أحمد رحمه الله ذكر أن حاجة الناس إلى العلم فوق كل حاجة، يقول رحمه الله: الناس محتاجون إلى العلم قبل الخبز والماء، لأن العلم يحتاج إليه الإنسان في كل ساعة، والخبز والماء يحتاجه في اليوم مرة أو مرتين. العلم يحتاجه المسلمون وغيرهم، يحتاجونه بعدد الأنفاس، كلما كثر علم الإنسان كلما كانت بصيرته ونظره وعبادته وتقواه وصلاحه ونفعه أكبر، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار من العلم، وأن نشيع العلم الذي تعلمناه بين الناس، فإن إشاعة العلم ونشره مما يثبت العلم ويزكيه وينميه. أيها الإخوة! إن أمتنا الإسلامية في هذا الوقت بحاجة إلى العلم؛ لكثرة ما في بلدان المسلمين من الجهل بالله عز وجل، ويظهر ذلك في مظاهر الشرك الكثيرة المنتشرة في بلاد المسلمين، ويظهر أيضاً في البدع الكثيرة التي انتشرت في بلاد المسلمين، ويظهر أيضاً في تقصير كثير من المسلمين فيما أوجب الله عليهم، ومن ذلك تقصيرهم في بعض أركان الإسلام كالصلاة، فإن كثيراً من المسلمين يقصرون فيها: إما أنهم لا يؤدونها في أوقاتها التي أمر الله أن تقام فيها، وإما أنهم يقصرون فيها بالتأخير، أو أنهم لا يقيمونها على وجهها، وتظهر حاجة الأمة إلى العلم بما نشاهده من الدعاوى المنحرفة التي تظهر بين المسلمين، وتنتشر بينهم، وتروج في أقلامهم وأقوالهم وكتاباتهم وبلدانهم، إننا بحاجة إلى أن نبصر المسلمين بدينهم لما تشهده الأمة من هجمة عظيمة على الإسلام في هذه الأيام، فإن أعداء الإسلام ضاقوا بالإسلام ذرعاً، وبدءوا يشككون فيه، ويبحثون عما يصور لهم أنه تشويه فيه أو ضعف فيه، والضعف في عقولهم والتشوه في أذهانهم، وأما كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الحق المبين: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]. أيها الإخوة الكرام! إننا بحاجة إلى العلم لندعو غيرنا من الناس، فإن الناظر إلى جمهور الناس يرى أن المسلمين لا يشكلون إلا خمس العالم، وهذا بالنسبة إلى مجموع الناس عدد قليل، فينبغي على الأمة أن تجتهد وأن تبذل ما تستطيع في سبيل إيصال هذه الرسالة التي أنقذ الله جل وعلا بها الناس، وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور، فهؤلاء يحتاجون إلى دعوة تُبين لهم فيها محاسن الإسلام، وتبين ما في هذا الدين من جوانب العظمة -وكله عظيم-، وتبين فيها بطلان ما يدعيه أعداء الإسلام من أن هذا الإسلام فيه وفيه وفيه من الشبهات التي تثار وهي في الحقيقة: شبه تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور فالجميع لا حجة فيه، بل هي شبه وخيالات وظنون فاسدة، إما ناشئة عن فساد نية أو ضعف علم، فإذا كمل العلم وصحة النية انبهر العالم بما في هذا الدين من النور الساطع المبين الذي يخرجهم به الله عز وجل من الظلمات إلى النور. كل هذه الأسباب من أجلها نتعلم العلوم الشرعية.

الأجر والرفعة تنال بالعلم

الأجر والرفعة تنال بالعلم أيها الإخوة الكرام! إننا نطلب العلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في كتابه فضل العلم، وفضل أهله، ورتب الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة على تحصيل العلم وعلى طلبه؛ ولذلك ينبغي لمن رغب في تحصيل تلك الفضائل أن يسعى في تحصيل العلوم الشرعية، فإن العلوم الشرعية سبب لتحصيل تلك الفضائل كقول الله جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} [المجادلة:11]، وهذا فيه دعاء لكل أحد أن يسعى إلى الترقي في درجات الخير والبر والإحسان بالاستكثار من العلم، فكلما كثر علمك بالله عز وجل وكثر علمك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم كلما ارتفعت درجتك وعلا قدرك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) أي: يرزقه الفقه في الدين، أي: في الشرع مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الله عز وجل وسنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فضل أهل العلم

فضل أهل العلم أيها الإخوة! إن أهل العلم هم خلاصة الوجود، وهم الذين يحفظ الله سبحانه وتعالى بهم الأمة من الزيغ والضلال، وهم الذين تكفل الله جل وعلا بنصرهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فمن أراد مثل هذه الفضائل فليقبل على العلم الشرعي، ليقبل على كتاب الله عز وجل حفظاً وفهماً وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم درساً وضبطاً وفهماً، ليقبل على حلق العلم، ليقبل على المعاهد ودور التعليم فإن فيها خيراً عظيماً، فبها يحصّل الإنسان مبادئ العلم التي تنير له السبيل، ومن خلالها يستطيع أن يتوصل إلى خير عظيم، فإن حلق العلم ودور التعليم إنما هي بوابات فيها المفاتيح التي تفتح لك أبواب العلم، ثم بعد ذلك يفتح الله جل وعلا على العبد على حسب ما معه من الإيمان والتقوى والرغبة والإخلاص، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54].

العلم سبب لنور القلب

العلم سبب لنور القلب أيها الإخوة! إن التمسك بالعلم، والإقبال عليه سبب لأن يقذف الله جل وعلا في قلب العبد النور الذي يحصل به الفرقان بين الحق والباطل، وما أحوج الإنسان إلى أن يقذف الله جل وعلا في قلبه نوراً يمشي به في الناس، يميز به بين الحق والباطل بين الهدى والغي بين الرشاد والضلال، إننا نحتاج إلى هذا النور، وهذا النور سبب تحصيله تقوى الله جل وعلا مع العلم، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]. فالقلوب إذا ملئت بالعلم تحصنت من الوقوع في الشبهات، وتحصنت من أن تقر فيها الشهوات على وجه الدوام، بل كل شبهة ترد على القلب فإن القلب يردها بقوته وصلابته، وكل شهوة تترك أثراً في القلب يردها القلب بما معه من الإيمان الصادق، والإقبال على الله عز وجل والتوبة والاستغفار، فلا يبقى في قلبه شيء من الشبهات، ولا شيء من الشهوات، قال سبحانه وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، إن الذي أُعطي النور هو الذي استمسك بالعلم الشرعي -بالكتاب والسنة-، والذي بقي في الظلمات هو ذلك الذي أعرض عن كتاب الله عز وجل وعن سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

العلم الشرعي حصن من الفتن

العلم الشرعي حصن من الفتن أيها الإخوة! إننا نطلب العلم الشرعي؛ لأن الله يعصمنا به من الفتن، والفتن كثرت في هذا الزمان، وهي على مر الوقت تكثر؛ لأنه كلما تقدم الوقت كثرت أسباب الضلال، وأسباب الزيغ، وأسباب الشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه). أيها الإخوة! إن العلم الشرعي حصن يتدرع به الإنسان من الوقوع في شراك الفتن، سواء كانت من فتن الشهوات، أو كانت من فتن الشبهات، قال الله جل وعلا في بيان أثر العلم في العصمة من كل فتنة: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83]، وهذا شأن المنافقين وعملهم: {إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] أي: نشروه وأشاعوه دون أن يترووا، ودون أن ينظروا هل في إشاعته مصلحة للمؤمنين وأهل الإسلام أو لا؟ قال الله جل وعلا: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، فالعلم سبب للحفظ من الفتن، وصيانة من الوقوع في أسباب الشر. أيها الإخوة! إن الفتن -كما ذكرنا- تكثر مع مرور الوقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: (إن بين يدي الساعة أياماً يرفع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج) والهرج القتل، أي: كثرة القتل في الناس، وانظر حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما يصاب به الناس بين يدي الساعة فذكر أولاً رفع العلم؛ لما لرفع العلم من الشر الذي يصيب الناس، ويبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أنس: (إن من أشراط الساعة: أن يقل العلم، ويظهر الجهل، والزنا، وشرب الخمر، ويقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)، وهذا يبين لنا خطورة ارتفاع العلم، وأن ارتفاع العلم من المجتمع سبب للوقوع في أنواع الفتن وأنواع الشرور. وإذا تأملت مسيرة الأمة تجد أن عمل الصحابة رضي الله عنهم في ذم الفتن والبدع، وفي رد الشرور، كان أعظم من عمل مَنْ بعدهم، وأن الشرور والفتن في وقتهم لم تنتشر وتشيع كما كانت في العصور التي بعد عصر الصحابة من عصر التابعين ومن بعدهم، إن بوادر الفتن التي ظهرت في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانت بوادر خفيفة، وليست من الفتن المغلظة والبدع الشديدة، التي يحصل بها زيغ القلوب، وطيش الألباب.

بالعلم الشرعي تكمل الأخلاق

بالعلم الشرعي تكمل الأخلاق أيها الإخوة الكرام! إننا نطلب العلم الشرعي؛ لأن بالعلم الشرعي تكمل الأخلاق الفاضلة، وبه يُحصّل الإنسان محاسن الخصال؛ ولذلك قال الله جل وعلا: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]، فالله جل وعلا أخبر أنه منّ على المؤمنين بأن {بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] أي: من جنسهم، ما مهمته؟ ما وظيفته؟ ما عمله؟ {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:164] يتلو عليهم الآيات التي جاءت في كتاب الله عز وجل، والتلاوة هنا ليست تلاوة اللفظ فقط، بل هي تلاوة اللفظ والمعنى، فهو يبين لهم بقوله وفعله ما أنزل الله جل وعلا من الكتاب المبين، {وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:164] والتزكية: هي التدرج بالنفس إلى أعلى درجات كمالها، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثه الله مزكياً مكملاً للأخلاق، جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)، قال أنس رضي الله عنه: (إذا قلّ العلم ظهر الجفاء)، فالخلق الفاضل، والسجايا الكريمة؛ تنبع عن العلم الشرعي، فإذا أقبل الإنسان على كتاب الله عز وجل تعلماً، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم تلقياً، بصدر منشرح، وهمة عالية، ورغبة في الخير؛ فإنه لا بد وأن تزكو أخلاقه، ولا بد وأن يظهر للعلم أثر في أخلاقه: في قوله في عمله في هديه في سمته في سائر شأنه. وقد مدح الله جل وعلا في كتابه صفات كثيرة وأثنى على أهلها، واعلم أن كل صفة مدح الله بها العبد إنما منشؤها العلم، وهذا يبين لك أهمية العلم، وأن العلم به تكمل الفضائل، وبه تحصل على السبق في ميادين الخير والبر والشرف، وأن من قعد عن العلم فقد قعد عن تكميل أخلاقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).

من فوائد العلم العصمة من الشرك

من فوائد العلم العصمة من الشرك أيها الإخوة الكرام! إن من فوائد تعلم العلم الشرعي أنه يعصم العبد من الوقوع في أعظم الظلم، وهو الشرك، قال الله سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]، فاستشهد الله سبحانه وتعالى العلماء دون غيرهم من الناس، على أعظم مشهود وهو: أنه لا إله إلا هو سبحانه وبحمده، وأنه المتفرد بالألوهية، واستشهاد الله بالعلماء فيه بيان لفضلهم، وتزكية لهم؛ لأنه لا يمكن أن تقبل شهادة أحد ما لم يكن عدلاً، فاستشهد الله سبحانه وتعالى العلماء على أعظم مشهود وهو التوحيد، فكان في ذلك تعديلاً لهم؛ لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، قال الله سبحانه وتعالى -في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية لما فقدوا العلم-: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، فهذه وصية بعض الجهال من المشركين لأتباعهم ولمن يسمع نصحهم، لكن متى كان هذا؟ كان هذا لما انتفى العلم، وارتفع أثره، ولم يبق له في الناس وجود، فعند ذلك عبد هؤلاء الأصنام من دون الله عز وجل. فالعلم يعصم الإنسان من الشرك، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في بيان معنى هذه الآية، قال: (كان هؤلاء رجالاً صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا على مجالسهم أنصاباً وسموها بهم، فنصبوا الأنصاب ليتذكروا عبادة هؤلاء، وسموها بأسمائهم لينشطهم هذا على شدة السعي في الخير والعمل به، ففعلوا ولم تعبد -أي: لم تعبد فترة من الزمن- حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت)، ومن هذا نفهم أن نسيان العلم سبب لكل شر، بل هو سبب لأعظم الشرور وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى. أيها الإخوة! قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (خير القرون قرني -وفي رواية: خير الناس قرني- ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وإن المتأمل الناظر في هذا الترتيب للفضل يعلم أن هذا الترتيب للفضل إنما هو بالنظر إلى ما عند القرن الأول من العلم والإيمان، فلما كان القرن الأول سابقاً في العلم والإيمان كان متقدماً على غيره من القرون، وهكذا القرن الذي بعده، وهكذا الذي بعده، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه؛ وذلك بسبب نقص العلم، فإنه كل ما تقدم الزمن، وكلما مضى الدهر؛ كلما قل العلم في الناس، ولا يقل برفع العلم فـ (إن الله لا يرفع العلم ولا ينتزعه انتزاعاً من صدور الناس، إنما ينتزعه بموت العلماء).

أنواع العلوم

أنواع العلوم أيها الإخوة الكرام! إن جواب هذا السؤال يحتاج إلى أن نبين أن أنواع العلم التي يشتغل بها الناس نوعان من حيث الجملة: النوع الأول -وهو أشرفها وأعظمها أجراً عند الله عز وجل-: العلوم الشرعية أو العلوم الدينية، وهذه العلوم هي كل علم يقرب إلى الله جل وعلا، علم الكتاب وعلم السنة، ويدخل في هذا العلم كل ما أعان على فهم كتاب الله وفهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحصل لمتعلمه الفضل إذا قصد بهذا التعلم فهم كلام الله وفهم كلام رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أيها الإخوة الكرام! لماذا نتعلم العلم الشرعي؟! لماذا أطال العلماء في الحث على تحصيل العلم، والصبر على مضاضة الطلب، وما فيه من الكد والعناء؟! هل هو لتحصيل مكاسب قريبة، وانتزاع مناصب في الدنيا أو هو لأمر أبعد من ذلك؟!

من مقاصد طلب العلم الشرعي

من مقاصد طلب العلم الشرعي إن طلب العلم الشرعي له مقاصد عديدة، من أهمها وأولها: أنه به يعرف الله سبحانه وتعالى، فبالعلم الشرعي يعرف الإنسان ربه سبحانه وتعالى، يعرف ما لله جل وعلا من الأسماء، وما له من الصفات، وما له من الأفعال، هذا في ما يتعلق بذاته جل وعلا. ويعرف أيضاً ما يجب له من الحقوق، فإن العلم الشرعي هو السبيل الذي يتعرف به الخلق على ربهم سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى بعث المرسلين به معرفين وإليه داعين، فكل الرسل جاءت تعرف الخلق بربهم، وتدلهم عليه، وتبين لهم شيئاً من أوصافه؛ ليعرفوه سبحانه وتعالى ويعبدوه، وذلك لأنه لا سعادة للناس في حياتهم، ولا لذة لهم في معاشهم، إلا بمعرفة الله جل وعلا، فإن معرفة الله سبحانه وتعالى أصل السعادة ورأسها، وهذه السعادة ليست مقتصرة على سعادة الدنيا فحسب، بل هي التي تبقى بعد الموت وتنفع في الآخرة، فلذة العلم بالله جل وعلا ومعرفته سبحانه وتعالى فوق كل شيء، فالعلم بذاته يستلزم العلم بما سواه؛ لأن من عرف الله تفتحت له أبواب العلم، وأبصر السبيل، واستضاء له الطريق، فلا يحتاج بعد ذلك إلى أكثر من العلم بالله جل وعلا؛ لأن به يفتتح كل مغلق، ويحصل له كل مطلوب. أما من لم يعرف ربه جل وعلا فإنه عن كل خير غافل، قال الله جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، فتأمل هذه الآية تجد فيها أن الله عز وجل تهدد من نساه بأنه سبحانه وتعالى ينسيه نفسه، ومن نسي نفسه كيف يعرف مصالحها؟! كيف يعرف فلاحها؟! كيف يستقيم معاشه فضلاً عن معاده؟! إن من غفل عن الله عز وجل، ونسي ربه سبحانه وتعالى؛ يصدق عليه ما أخبر به جل وعلا: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، فإن من غفل عن الله عز وجل، وعن ذكره؛ انفرط عليه أمره، ولم ينتظم له شيء من الأشياء، بل تفوته مصالح دينه ومصالح دنياه، وليس في هذا مبالغة في بيان أهمية العلم بالله عز وجل، بل هذا هو الواقع، وليس ما نراه عند الكفار من إتقان عمارة الدنيا، ومن تشييد المباني، وإتقان المصنوعات، والسبق الحضاري؛ ليس ذلك بشيء أمام ما فاتهم من خير الآخرة، وإنما هو كما قال الله جل وعلا: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46]، فهو أكل وشرب وتمتع قليل، لكنه لا ينزع عنهم وصف الإجرام. أيها الإخوة الكرام! إننا نطلب العلم الشرعي لنعرف به نبينا صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله سبحانه وتعالى حجة على الإنس والجن، بعثه الله سبحانه وتعالى بين يدي الساعة بالحق بشيراً ونذيراً، يدعو إلى الله عز وجل، يبلغ الرسالات، ويبصر من العمى، ويهدي من الضلال، فمن أقبل على العلم الشرعي عرف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا عرف النبي صلى الله عليه وسلم وعرف ما جاء به تيقن صدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن أهل العلم يعرفون صدق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بما معهم من العلم يدركون صحة خبره صلى الله عليه وسلم فيما عقلوه من معاني هذا الكتاب العظيم، وفيما أدركوه من آيات الله عز وجل في الأنفس والآفاق، قال الله جل وعلا: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ:6]، وقال جل وعلا: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء:107]، ولا يمكن أن يكون منهم هذا إلا إذا كانوا قد صدقوا بما جاء في الكتاب، فإنهم يخرون تعظيماً لله عز وجل، وتعظيماً لكلام الله سبحانه وبحمده، وتعظيماً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى والنور.

من أسعد الناس؟

من أسعد الناس؟ أسعد الناس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لما امتن الله سبحانه وتعالى به عليه: كشرح صدره، ووضع وزره، ورفع ذكره ولا يحصل الإنسان على السعادة الحقيقية إلا إذا اتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في كل صغيرة وكبيرة، وأحبه المحبة الكاملة الصادقة.

السعادة الحقيقية

السعادة الحقيقية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام! قرأتم ما اختاره إخوانكم عنواناً في هذا اللقاء وهو: (مَن أسعدُ الناس؟). إن هذا العنوان اشتمل إشارة إلى ما يسعى إليه الجميع، وما يتسابق إليه الناس جميعاً على اختلاف أصولهم وأجناسهم وجهاتهم وألوانهم وألسنتهم، فالكل يسعى ويسير سيراً حثيثاً لإدراك هذه الغاية، وهي السعادة التي يحصل بها للإنسان نعيم الدنيا، هذا هو حال كثيرٍ من الناس في سعيهم وراء هذا الأمر، فإن كثيراً من الناس يقصرون السعادة على هذه البرهة القصيرة، والفترة الوجيزة من مراحل العمر، ومن منازل الإنسان، وهي منزلته في هذه الدنيا، وهذه الدنيا وصفها الله جلَّ وعلا فقلل من شأنها في كتابه، وبيَّن أنها متاع قليل، فمهما حصل فيها من الصفاء والجودة والجمال فإنها مؤذنة بالزوال، وهي راحلة ينتقل منها الناس ويصيرون إلى دار يستقرون فيها؛ وهي الدار التي ينبغي لهم أن يسعوا إلى تحقيق السعادة فيها.

نيل السعادة بسلوك هدي النبي صلى الله عليه وسلم واتباع أمره

نيل السعادة بسلوك هدي النبي صلى الله عليه وسلم واتباع أمره من أراد أن يأخذ من السعادة التي نالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا نصيباً، فليحرص على سلوك هديه، فإنه بقدر التزام الإنسان بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقدر ما يكون معه من انشراح الصدر، وتخفيف الوزر، ورفع الذكر. واستمع إلى ما قاله ابن القيم رحمه الله في هذا! يقول رحمه الله: شرح الله صدر رسوله صلى الله عليه وسلم أتم الشرح، ووضع عنه وزره كل الوضع، ورفع ذكره كل الرفع، وجعل لأتباعه -أي: لمن اقتفى أثره، وآمن به، واهتدى بسنته- حظاً من ذلك -يعني: من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر- إذ كل متبوع فلأتباعه حظٌ ونصيبٌ من حظ متبوعهم في الخير والشر على حسب اتباعهم له. فأتبعُ الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرحُهم صدراً، وأوضعهم وزراً، وأرفعهم ذكراً، وهذا فضل الله الذي منَّ الله به على الأمة؛ أن جعل ما منَّ به على رسوله صلى الله عليه وسلم من تلك المنن ومن تلك المنح ومن تلك الفضائل يمكن للعبد أن يدركها بسلوك سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يفعل كما فعل، وأن يعتقد كما اعتقد، وأن يعمل كما عمل، فبقدر متابعة الإنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً، حالاً واجتهاداً، بقدر ما يكون له نصيباً من السعادة التي نالها صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: وكلما قويت متابعة العبد علماً وعملاً وحالاً واجتهاداً قويت هذه الثلاث التي هي: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، حتى يصير صاحبها أشرح الناس صدراً وأرفعهم في العالمين ذكراً. نسأل الله عز وجل من فضله! أيها الإخوة الكرام! إن الله جلَّ وعلا قد أمرنا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأبان لنا في كتابه الحكيم فوائد ذلك؛ حثاً لنا على المسابقة إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن جملة ما بينه سبحانه وتعالى لنا من فضائل اتباع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما ذكره في قوله آمراً عموم الناس: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].

الأسباب التي أهلت النبي صلى الله عليه وسلم لسعادة الدنيا والآخرة

الأسباب التي أهلت النبي صلى الله عليه وسلم لسعادة الدنيا والآخرة أيها الإخوة! إذا كان أكمل الناس سعادةً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم قد حاز من ذلك السبق، وحصل على أعلى درجات الكمال، فلننظر ما الذي كان يتمتع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسباب السعادة لتحصُل لنا، فإن السعادة التي حصَّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لذاته، يعني: لم يكن أمراً مقترناً بذلك الشخص دون أسباب تؤهله لتحصيلها، وأسباب تؤدي إلى تلك النتيجة. إن الله عز وجل قد ذكر في هذه السورة الكريمة السبب الذي حصَّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم السعادة، فبعد أن ذكر تلك المنن الثلاث التي افتتح بها السورة، قال جلَّ وعلا في آخرها: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8] هذا هو سبب السعادة، وسر ذلك الشرح، وسبب ذلك التخفيف، وسبب رفع الذكر الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

مفهوم السعادة لدى كثير من الناس

مفهوم السعادة لدى كثير من الناس إن الناس في هذه الدنيا يفسرون السعادة بتفسيرات عديدة: - فمنهم من يرى السعادة جمع المال. - ومنهم من يرى السعادة جمال المنظر. - ومنهم من يرى السعادة جمال المركب. - ومنهم من يرى السعادة في الجاه والمنصب. وكل هؤلاء أصابوا شيئاً وأخطئوا في أشياء، فإن هذه الأمور -وإن كانت من أسباب السعادة في هذه الدنيا- ليست هي السعادة الحقيقية التي ينبغي للمؤمن أن يسعى لها، وأن يحث الخطا في تحصيلها وإدراكها؛ ولذلك تجد أن كثيرين ممن لم يُمَكَّنوا من هذه الأمور أو من أكثرها يتلذذون ويجدون من الانشراح والطمأنينة، وسعة الصدر، والابتهاج والسرور، ما لا يجده مَن مَلَك هذه الأشياء جميعاً أو مَلَك أكثرها، وذلك يبرهن ويبين أن السعادة ليست في هذه الأشياء، إنما هذه وسائل وآلات ووسائط قد يدرك بها الإنسان بعض مقصوده؛ لكنها لا تكون مقصوداً وغرضاً على أي حال من الأحوال.

رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس سعادة

رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس سعادة أيها الإخوة الكرام! إن أسعد الناس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك في هذا، فإن الله جلَّ وعلا قد بيَّن عظيم ما مَنَّ به على رسوله من السعادة والكمال وانشراح الصدر فقال في سورة من كتابه الكريم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1 - 3]. بهذه الأمور الثلاثة كمل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أسباب السعادة: شرح له صدره؛ فكان من أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلباً، وأقرهم عيناً، وأكملهم حياةً صلى الله عليه وسلم. ثم إن هذه السعادة لم تكن مقتصرةً على انشراح الصدر، بل هي سعادةٌ موطئةٌ لسعادة عظيمة في الآخرة، فقال جلَّ وعلا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4]، فخفف الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم الآثام والأوزار، فلم يكن محملاً بما يُحَمَّلُه كثيرٌ من الناس من الأوزار، التي هي من أعظم أسباب ضيق الصدر، ومن أعظم أسباب قلة السعادة، بل من آكد أسباب زوالها، فإن السعادات تذهب عند مقارفة السيئات؛ ولذلك ذكر الله جلَّ وعلا بعد شرح الصدر تخفيف الوزر عن رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر ثالث ما من به سبحانه وتعالى على رسوله فقال سبحانه وتعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، ولا شك أن رفع الذكر من سعادة المرء؛ ولذلك خصه الله جلَّ وعلا بالذكر.

أسباب الهداية

أسباب الهداية أيها الإخوة! إن الهداية أعظم مطلوب يطلبه الناس في هذه الدنيا، ولَمَّا كانت الهداية إلى الصراط المستقيم أعظم مطلوب، كان سؤالها في أعظم سورة لم يُقرأ مثلها في التوراة والإنجيل، في سورة تتكرر في صلاتك مرات في اليوم إما قراءةً أو تأميناً، يقول الله تعالى فيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:5 - 7]، هذه هي الهداية التي نسألها الله عز وجل في كل ركعة من صلاتنا قراءة أو تأميناً، وسبيلُ تحصيلها اتباعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم سبب محبة الله

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم سبب محبة الله إن مما حث به ربنا سبحانه وتعالى الناس على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن جعل اتباعه صلى الله عليه وسلم سبباً لمحبته جلَّ وعلا، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فبقدر ما معك من اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بقدر ما يكون لك من محبة الله. والإنسان يسعى لأن يكون محبوباً لله عز وجل، وإذا كنت ممن يسعى لذلك فاحرص على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

الصحابة واتباعهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم

الصحابة واتباعهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة! إن النصوص التي حث الله جلَّ وعلا فيها الأمة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداًً، ولا نستطيع أن نأتي على أكثر مما ذكرنا لِقِصَر الوقت، إلَّا أن في سيرة الصحابة وفيما عملوه، وما حفظته دواوين السنة لنا من هديهم في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جنوا به من البركات والخيرات؛ شاهدٌ على ذلك، فإن جيل الصحابة أكمل الأجيال، وهو خير القرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) خيريتهم لم تكن لأنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وفلان من الصحابة، إنما خيريتهم حصلت لما كانوا عليه من العمل والمسابقة إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة لهم تمام الانقياد لما كان يفعله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك نموذج حفظته السنة وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصلي بأصحابه في إحدى المرات فخلع نعليه وهو في الصلاة، فما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلَّا أن خلعوا نعالهم) تأسياً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لبس الخاتم فلبسوه، خلع الخاتم فخلعوه، وهكذا كانوا ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم حفظوا لنا حركة لحيته وهو يصلي؛ لشدة تأسيهم به؛ ونظرهم إلى أفعاله ليقتدوا بها ويتأسوا. ومن عجيب ما حفظوه لنا: عدد ما في رأسه ولحيته من الشيب! فحفظوا أن في رأسه ولحيته سبع شعرات من الشيب فقط لا غير، وهذا دليل على أن الصحابة جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت المجهر عندهم، يرقبون فعله، وينظرون إلى ما يفعل، وليس نظر ترفُّه وتفكُّه وحب استطلاع، وإنما هو نظر اتباع واقتداء، فكانوا يهتدون ويقتدون به في دقيق الأمر وجليله.

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم سبب الفلاح

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم سبب الفلاح إن مما حث الله سبحانه وتعالى به أهل الإسلام، وحث به من قرأ القرآن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورتَّب على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم الفلاح، فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] أي: الذين أدركوا الفلاح الكامل، والفلاح هو من أتم وأبلغ كلمات العرب في حصول المقصود، والأمن من المرهوب؛ لأن من أفلح فقد أدرك رغبته، وحصَّل طلبته، وأمن مما يخاف ويحذر؛ ولذلك إذا أخبر الله بالفلاح عن عبد فإنه قد بلغ الغاية في النعيم، وبلغ الغاية في تحصيل مطلوباته، والأمن مما يكره. {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله عز وجل، وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف:157]، والنور الذي أنزل معه هو: كتاب الله عز وجل، وهو السنة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم.

اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم سبب لحياة القلوب

اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم سبب لحياة القلوب قال الله جلَّ وعلا: {وَاتَّبِعُوهُ} أي: واتبعوا هذا النبي الأمي {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] أي: رجاء أن تحصل لكم الهداية. ومما حث الله سبحانه وتعالى به هذه الأمة على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعل اتباعه والاستجابة لندائه صلى الله عليه وسلم سبباً للحياة الكاملة والحياة الطيبة، فقال الله جلَّ وعلا مخاطباً المؤمنين، منادياً أهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، أمر الله جلَّ وعلا في هذه الآية بالمسارعة إلى الاستجابة إلى الله ورسوله، ثم بيَّن ما الذي يدعونا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وفي نهيه وفي قوله وفي تركه وفي فعله وفي كل ما دعانا إليه قولاً أو فعلاً، ما الذي يريده صلى الله عليه وسلم من ذلك؟ إنه يريد لنا الحياة الكاملة في هذه الدنيا، والحياة الكاملة في الآخرة. أما الحياة الكاملة في الدنيا: فإن أسعد الناس وأكملهم حياةً هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالحياة الكاملة إنما تحصل بالاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الآخرة: فأتباعه لهم الجنة التي قال الله جلَّ وعلا في وصفها: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]، انظر كيف قال: (الْحَيَوَانُ)! أتى بصيغة (فَعَلان) التي تدل على امتلاء الحياة، أي: إن الحياة الكاملة التامة التي يتمتع بها الإنسان، وينال بها كمال مبتغياته؛ هي الدار الآخرة، وذلك في الجنة نسأل الله أن نكون من أهلها! فإذا كان هذا شأن الإنسان في هذه الدنيا إذا اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شأنه إذا اتبع رسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، أي: أن الله يجزيه (الحيوان)، وهي الجنة التي أعد الله فيها لعباده المتقين الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ كان هذا حافزاً لأولي الألباب، وأصحاب البصائر والعقول، الذين تنفذ بصائرهم وأبصارهم من هذه الدنيا إلى الآخرة، إلى مزيد عمل صالح، واقتفاء للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، واعلم أن كل هديٍ، وكل سنةٍ صغيرةٍ أو كبيرةٍ، ظاهرةٍ أو باطنةٍ، دقيقةٍ أو جليلةٍ، من سنن النبي صلى الله عليه وسلم هي من أسباب الحياة، فبقدر أخذك من سننه وهديه وعمله صلى الله عليه وسلم بقدر ما تأخذ من أسباب الحياة في الدنيا، ومن أسباب الحياة في الآخرة.

لماذا يتخلف كثير من الناس عن سلوك منهج النبي صلى الله عليه وسلم؟

لماذا يتخلف كثير من الناس عن سلوك منهج النبي صلى الله عليه وسلم؟ أيها الإخوة الكرام! إن سؤالاً يتبادر إلى الأذهان، ولابد له من جواب وهو: إذا كانت هذه النصوص واضحة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد الناس، وأنه صلى الله عليه وسلم حصل الكمال في انشراح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وأن طريق السعادة هي الطريق التي سلكها صلى الله عليه وسلم؛ فلماذا يتخلف كثير من الناس عن سلوك هذا الطريق؟ إن الجواب على هذا السؤال هو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). إن الطريق فيه نوع صعوبة لاسيما في مبادئه، فطريق تحصيل هذا النوع من السعادة فيه عسر وصعوبة، يحتاج إلى مجاهدة نفس، ويحتاج إلى أن يتخلى الإنسان عن مألوفه، وما اعتاده وما شب عليه وتربى عليه، والنظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده، في ذهابه ومجيئه، في دخوله وخروجه، في نومه واستيقاظه، في معاملته لربه ومعاملته للخلق وفي جميع شأنه؛ وإذا نظر إلى ذلك فإنه يحتاج إلى عزم أكيد، ورغبة صادقة، وجهد متواصل؛ لإدراك ذلك الذي قرأه واطلع عليه، ولما كان الأمر يعسر على كثير من الناس كان أكثر الناس في تخلف عن سلوك هذا الطريق. لكن يا أخي! اسلك هذا الطريق، واستعن بالله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى إذا علم من عبده الصدق يسر له سبل الهدى، ويسر له سبيل الخير، وأعانه، وجعله يجني من ثمرات وبركات اتباع النبي صلى الله عليه وسلم خيراً كثيراً في الدنيا، يعينه ذلك على مواصلة الاتباع والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم. فأحثكم -يا إخواني- على قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ سنته، ومطالعة هديه، فإن السلف الصالح كانوا يمضون أوقاتاً طويلة، وأعماراً مديدة، في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي العمل بها، وفي طلبها، وكان أحدهم إذا بلغه الحديث عمل به؛ لكونه سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في نفسه شيء من معناه، حتى أن الإمام أحمد رحمه الله عمل بسنة، وقال: لم أعمل بها إلا مرة واحدة لما بلغني الحديث، وكان رأيه رحمه الله خلافاً لما دل عليه الحديث لأحاديث أخرى، لكنه لم تطب نفسه أن يترك تلك السنة، وقد بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها حديث. ينبغي لنا -أيها الإخوة- أن نحرص على الاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نحتسب الأجر في ذلك عند الله سبحانه وتعالى، والطريق -ولله الحمد- ميسر وسهل، لكن يحتاج إلى عزيمة وجد، وصدق رغبة، والإنسان إذا استعان بالله أعانه، فليقرأ من الكتب الميسرة في عرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه مثل كتاب ابن القيم رحمه الله: زاد المعاد في هدي خير العباد، فإنه من أنفع الكتب التي جمعت لنا هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته. ومن ذلك أيضاً الكتب التي حفظت لنا نصوص أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم، كرياض الصالحين، وبلوغ المرام، وما أشبه ذلك من الكتب التي ملأت بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يعين الإنسان على اقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر مجالس العلم، وأن يسمع أشرطة العلم، فإن فيها من بيان هديه صلى الله عليه وسلم وسنته ما يعين الإنسان على اقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم -يا أخي- أنك لن تحصل بركة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من فعل سنة أو سنتين مرة أو مرتين، بل داوم واستمر وجاهد، فإنك إذا استمريت على ذلك وصبرت؛ وجدت بركة ذلك بعد حين. فأسأل الله عز وجل أن يبلغنا وإياكم هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعيننا على التزام سنته، وأن يسلك بنا سبيله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

§1/1