دروس للشيخ الألباني

ناصر الدين الألباني

الابتداع في دين الله [1]

الابتداع في دين الله [1] في هذه المادة تحدث الشيخ عن لفظة: (خلاف فقهي) فبين معناها، مع ذكر ضوابطها، ثم بعد ذلك تكلم عن الابتداع في الدين راداً على من قال: بأن في الدين بدعة حسنة، مع ذكر أدلتهم والرد عليها.

ضوابط الخلاف الفقهي

ضوابط الخلاف الفقهي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. Q ما رأيكم في هذه العبارة التي قررها كاتب إسلامي كبير، قال هذا الكاتب: والبدعة الإضافية والتّركية، والالتزام بها في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل؟

الضابط الأول: عدم الإنكار على المخالف في الفروع الفقهية

الضابط الأول: عدم الإنكار على المخالف في الفروع الفقهية A جواباً على هذه العبارة أقول: لا شك أن المسائل الخلافية ينبغي ألا يشتد الخلاف فيها، بحيث أن المختلفين يتخاصمون من أجل الخلاف؛ ذلك لأن الخلاف أمر طبيعي، أي: من السُنن الكونية التي فرضها الله عز وجل على الناس فرضاً، ولو استطاعوا أن يكونوا كلهم على فكرة واحدة ورأي واحد لاستحال ذلك عليهم، لكن ليس مستحيلاً أبداً أنهم حينما يختلفون فيما لابد من الاختلاف فيه، ألا يحملهم هذا الاختلاف على التباغض والتباعد والخصام والتعادي، فهذا بالإمكان ألا يقعوا فيه، وأسوتهم في ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهم كما سمعتم في الحديث السابق: (خير الناس قرني) فهم خير الناس من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإخوانه من الأنبياء المتقدمين. فأقول: إن هؤلاء الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، ولكن نلاحظ أن هذا الاختلاف لم يتعد الخلافات التي يسمونها بالفروع الفقهية، ولم يتعد إلى الاختلافات الاعتقادية الفكرية، وهذا من فضل الصحابة. فهؤلاء لما اختلفوا في بعض المسائل الفقهية لم يعاد بعضهم بعضاً، مثلاً: منهم من تمسك بقول الإمام أبي حنيفة، فقال: خروج الدم ينقض الوضوء. وفيهم من تمسك بقول الإمام الشافعي فقال: مس المرأة ينقض الوضوء. ونحو ذلك من الاختلافات، ولكن هل وصل الأمر بذاك الصحابي الذي يرى بأن خروج الدم ينقض الوضوء باجتهاد منه، ألا يصلي وراء أخيه الصحابي الذي يراه توضأ ثم خرج منه دم ولم يعد الوضوء كما نفعل نحن اليوم؟ الجواب: لا والله، لم يؤدِ بهم الاختلاف إلى هذا الشقاق وهذا التنازع والتنافر. إذاً: إذا كان لابد من الاختلاف؛ لأن الله فرض ذلك على الناس، بسبب أنه جعل لكل منهم طاقة فكرية وعلمية خاصة به، تختلف عن طاقات الآخرين. نقول: هذا الخلاف أمر طبيعي وفطري لابد منه، ولكن ينبغي ألا يكون هذا الاختلاف سبباً للنزاع والشقاق، ومنه هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل في قوله: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل، لكن لم ينه أن الإنسان لاجتهاده إذا وصل إلى رأي خالف فيه رأي الآخر، ولم يصدم برأيه نصاً، كما يفعل المتأخرون المقلدون اليوم. هذه ضابطة لابد منها قبل الدخول للإجابة عن السؤال مباشرة.

الضابط الثاني: حقيقة المخالف ودرجته العلمية

الضابط الثاني: حقيقة المخالف ودرجته العلمية ضابطة أخرى: الذين قد يختلفون من هم؟ هذه نقطة مهمة جداً لنفهم الجواب عن هذا السؤال. إن الكاتب المشار إليه يقول: البدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلافٌ فقهي. الخلاف الفقهي هل هو إذا كان هناك مجتهد بل مجتهدون لهم رأي متفقون عليه، ثم جاء بعض المقلدين فبنوا رأياً لهم، ثم جاء بعض المتأخرين فقالوا: الخلاف فقهي. وهذا تعبير غير علمي صحيح، فالخلاف الفقهي هو الذي يكون مداره بين الأئمة المجتهدين، الذين هم في أنفسهم -قبل أن يشهد لهم الناس- يشعرون بأنهم قد بلغوا من المنزلة في العلم تمكنهم بأن يقول أحدهم: أنا أرى كذا، أنا أفهم كذا. ثم شهد الناس -فيما بعد- لهم بأنهم قد وصلوا هذه المرتبة، وهذه الشهادة ليست هي التي بررت لهم ذلك، وإنما هذه الشهادة تكشف عن حقيقة ما وصلوا إليه من المرتبة في العلم. أما إذا كان الذين اختلفوا أو خالفوا ليسوا من المجتهدين في واقع أنفسهم، بل هم يصرحون للناس بأنهم ليسوا كذلك، بل وأكثر من ذلك يفخرون بأنهم ليسوا مجتهدين، وإن كانوا لا يفصحون هذا الإفصاح، لكننا إذا فسرنا قول بعضهم حينما يفخرون بأنهم مقلدون، فتفسير ذلك أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، ولا فرق حين ذلك في التعبير إلا فرقاً لفظياً، كذلك الفرق على مذهب الحنفية، أو عند الحنفية. المعنى واحد، فهؤلاء الذين يفخرون بأنهم مقلدون، ذلك يساوي أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، وهذا يساوي في نهاية المطاف أنهم يفخرون بأنهم غير علماء، وهذا يساوي أنهم جهال.

مدى صحة القول بأن هناك بدعة حسنة ومن قال به

مدى صحة القول بأن هناك بدعة حسنة ومن قال به إذا عرفنا هذه الحقيقة، ولا مجال لأحدٍ أبداً إلى إنكارها، حينئذٍ أين هذا الخلاف الفقهي؟ من هم الأئمة المجتهدون الذين قالوا بأن هناك في الدين بدعة حسنة؟ أما أن هناك مِن المقلدين من استدل على ما ذهب إليه من استحسان البدعة في الدين واحتج برأي إمام، فأبداً لا يوجد لديهم أثر واحد عن إمام من الأئمة المجتهدين، لا سيما حينما يحصرون الأئمة الأربعة فقط. إذاً: غرضي من هذا لفت النظر إلى أن هذا الكاتب لم يكن تعبيره تعبيراً علمياً دقيقاً؛ لأنه حشر في جملة العلماء هؤلاء المقلدين الذين هم يتبرءون من أن يكونوا من العلماء، هذا لازمهم شاءوا أم أبوا، وما دام أنهم يعترفون بأنهم مقلدون فهم ليسوا بعلماء، وهم يقولون ذلك. ما هي وظيفة المقلد؟ هذه حقائق نستطيع أن نجابه بها أكبر مقلد، إذا كان هناك مقلد -كبير أو صغير- فنقول حينذاك: الذي يزعم بأن في مسألة الابتداع خلافاً فقهياً، فمن هم العلماء والفقهاء حقيقة الذين قالوا: إن البدعة في الدين تنقسم إلى بدعة حسنة، وإلى بدعة سيئة؟ هذه واحدة. والأخرى نطالبهم بالإتيان ببعض الأمثلة مما استحسنها وابتدعها أولئك الأئمة الذين يزعمون أنهم يتمسكون بأقوالهم، لو سألنا اليوم مشايخ التقليد: هاتوا مثالاً من البدعة الحسنة، لملئوا كتباً ومجلدات لإحصائها، كثيرة وكثيرة جداً، فهاتوا عشر بدع فقط عن إمام من أئمة المسلمين الذين تنتمون إليهم قال: هذه بدعة حسنة، وليس عليها دليل من الكتاب والسنة؛ لأن هنا تفصيلاً ذكرناه مراراً، ليس كل شيء حدث مجرد حدوث ووقوع بعد الرسول يكون بدعة، وإنما هذا بشرط: ألا يكون عليه دليل من الكتاب والسنة، ومن هنا يخطئ المتأخرون الذين يذهبون إلى تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، فيقولون: بدعة فرض: ومثالها: جمع القرآن -عياذاً بالله- جمع القرآن بدعة؟! لماذا يقولون هكذا؟ لأن الجمع وقع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، الجمع الصوري بكيفية معينة وقع بعد الرسول، مثل: الطباعة الآن، الطباعة ما كانت في زمن الرسول، فما نسميها بدعة، وهذه لها فصل وباب خاص في علم الأصول هو باب: المصالح المرسلة، فهذا من المصالح المرسلة، فيقولون: جمع القرآن بدعة، ويقولون: جمع عمر بن الخطاب الصحابة على التراويح بدعة، وقد يقولون -أقول هذا بتحفظ- إخراج عمر بن الخطاب اليهود من خيبر بدعة، مع أن هذه الأشياء عليها نصوص صريحة، التراويح تكلمنا عليها مراراً وتكراراً، فقد سنها الرسول بفعله، وحض عليها بقوله، وقال للذي يصلي صلاة القيام في رمضان مع الإمام وصلاة الفجر مع الإمام فكأنما قام الليل كله، مع ذلك يقال: إن جمع الناس على التراويح بدعة! فهذا أحد شيئين: إما أنهم يجهلون هذه السنن فيسمونها بغير اسمها، وهذا موضوع ينزع من البعيدين عن التفقه بالكتاب والسنة، أو إنهم -وهذا خير الظنين بهم- يسمونها بذلك مجازاً كما وقع من بعض السلف، فـ عمر بن الخطاب -مثلاً- سمى التراويح بدعة حين قال: [نعمت البدعة هذه] ، وهو لا يعني البدعة التي أطلقها المتأخرون: بدعة في الدين، وهو إحداث عبادة على غير مثال سابق، لا من فعله عليه الصلاة والسلام ولا من قوله. إذاً: في هذه الجملة: خلاف فقهي، تسامح في التعبير؛ لأن هذا الخلاف ليس قائماً بين المجتهدين، وإنما هو قائم بين المجتهدين والمقلدين، والمقلد لا رأي له بشهادتهم أنفسهم، فلا قيمة لقول أحدهم في رأيه واجتهاده أبداً.

الأدلة على تحريم الابتداع في الدين

الأدلة على تحريم الابتداع في الدين بعد تحرير الكلام على هذه الجملة: (خلاف فقهي) وأنه لا يسع أن يقال في مسألة الابتداع في الدين: اختلاف فقهي؛ لأن هذا خلاف حادث، ولا قيمة لخلاف حادث مخالف لاتفاق سابق، فالصحابة كلهم متفقون على أن البدعة في الدين ضلالة.

أولا: قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)

أولاً: قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) ونحن نبدأ الآن وبشيء من الإيجاز الممكن: نحن نعتقد أن الابتداع في الدين -وليس في الدنيا- ينافي نصوصاً من الكتاب والسنة، وقوله تبارك وتعالى في الآية المعروفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] لا يحتاج إلى بيان وتفسير، إلا أن الآية تعني أن الإسلام تام لا يحتاج إلى استدراك، لا سيما فيما يتعلق بالعبادات المحدودة النطاق، العبادات التي يريد الإنسان أن يتقرب بها إلى الله عز وجل؛ أقول هذا لأن المعاملات واسعة جداً، ففي اليوم الواحد تحدث حوادث تحتاج إلى أحكام، وهذا الأحكام لا يعرفها إلا أهل الاجتهاد في كل زمان، فهذه ليست محدودة، أما العبادات التي كانت في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام وتوفي عنها فلا تقبل الزيادة إطلاقاً؛ لأن الرسول قال: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به) ، فما أخفى عنا شيئاً، لذلك الآية السابقة: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] هي نص قاطع في موضوع الابتداع في الدين. من هنا يظهر لكم علم أحد الأئمة الأربعة الذين ينتمي إليهم جماهيرنا اليوم حين قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة، اقرءوا قول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] قال: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً. نحن نقول هكذا، فإذا أراد أحد المقلدين أن يجادلنا فبالله عليكم بماذا يجادلنا؟ فإن جاءنا بنقل عن إمام كما يقولون: إن أبا حنيفة قال بالاستحسان، والاستحسان لا يعني الاستحسان بمعنى الابتداع في الدين أبداً، وإنما هو ترجيح دليل على دليل، لوجود نصها أو ما شابه ذلك كما هو مذكور في أصولهم، فالغرض إن جاءنا مقلد بقول إمام فضلاً عن قول مقلد من مشايخهم، فنقول له: إمام من أئمة السنة وإمام دار الهجرة يقول: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً، نحن نقول: يومئذٍ لم يكن من الدين أن يصعد المؤذن المنبر وينشد ويتكلم بكلام غير جائز قبل الأذان، ما كان هذا باعترافهم، لذلك يسمونها بدعة، أي: حدثت لكنها حسنة، ولا أيضاً ما أضافوه بعد الأذان من الصلاة على الرسول عليه السلام، ومن أشياء أخرى أيضاً يضيفونها، كل هذا وهذا لم يكن. فـ مالك يقول: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً، إذاً: أذن كأذان بلال وغيره من مؤذني الرسول صلى الله عليه وسلم. سوف يقول: أنا مذهبي هكذا دعك أنت ومذهبك، فلماذا تجادل بالباطل وبالجهل؟ تريد أن تبحث على ضوء الكتاب والسنة تعال إلى الكتاب والسنة، هذه أول آية، وهذا تفسيرها ل إمام دار الهجرة، الذي بينه وبين الصحابي واسطة واحدة، مالك عن نافع عن ابن عمر، وعاش في عقر دار السنة المدينة المنورة، يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، اقرءوا قول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً. لكن مالك رحمه الله جاء بخاتمة قاسمة في الجملة، التي تستحق أن تُكتب بماء الذهب -كما يقولون- ونحن نعتبر هذه الجملة من منهجنا في الدعوة، بينما الذي يقول هذا الكلام وغيره لا يرفعون لهذه الجملة وزناً، يقول مالك: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فهل صلاح هذه الأمة بأن تتقرب إلى الله بمئات بل ألوف من البدع؟! يستحيل هذا! وهو من باب: وداوني بالتي هي داء العبادات التي شرعها الله هي معالجة لأمراض نفسية، قد يشفى بها بعض الناس وقد لا يشفى جمهورهم، فتأتي هذه التشاريع الإلهية الحكيمة كمرهم وعلاج لهذه الأمراض النفسية. وعلى العكس من ذلك؛ حينما نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ونقيم البدعة مقام السنة، زدنا مرضاً على مرض، بحيث أننا نصل إلى اليأس من الشفاء، لذلك فمن منهجنا نحن الدعاة إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح: -الذي يدل على هذا المنهج- كلمة الإمام مالك هذه: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وتأكيداً لما نقول؛ فهناك جماعات إسلامية كثيرة وكثيرة جداً، فهل هناك جماعة تسعى لتنوير بصائر المسلمين، لكي يهتدوا بهذا المنهج السليم، وهو أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؟ A لا يوجد -مع الأسف- جماعات إسلامية، لا اسمها ولا وزنها في العالم الإسلامي يدندن حول موضوع الاتباع للكتاب والسنة، ليس اتباعاً لفظياً، قلنا لكم مراراً وتكراراً: كل الطوائف الإسلامية التي بلغت ثلاثاً وسبعين فرقة أو زادت، كلها تقول: الكتاب والسنة، لكن المهم في الكتاب والسنة: أولاً: تطبيق عملي. وثانياً: فهم سليم لما كان عليه السلف الصالح. فهنا يقول: إن في هذه المسألة خلافاً فقهياً، وكل واحد وما ذهب إليه دليله. إذاً: هذه الآية من أدلة العلماء من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، الذين ذهبوا إلى أنه لا بدعة في الإسلام.

ثانيا: حديث: (خير الكلام كلام الله وكل بدعة ضلالة)

ثانياً: حديث: (خير الكلام كلام الله وكل بدعة ضلالة) ومما يؤكد لكم ذلك الأحاديث المشهورة التي منها ما نبتدئ بها دروسنا: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) . من عجائب الأمور التي نلاحظها، والتي تؤكد لنا صحة منهجنا وخطأ منهج غيرنا: أنك لا تجد خطيباً من الخطباء يحافظ في خطبته على هذه الخطبة، التي هي من خطبة الحاجة التي كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحافظ عليها دائماً وأبداً، لماذا؟ لأن أبسط إنسان سيقول له: من صعود الخطيب إلى خروجه من الصلاة كلها بدع وخلاف هدي الرسول، وهذا الذي أنت تدعو إليه، ولذلك الشيطان أوحى إليهم: كونوا متجاوبين، لا تكونوا متنافرين في أنفسكم، تصعد إلى المنبر تخطب: خير الكلام كلام الله، وتختمها: وكل ضلالة في النار، وأنت تقول: لا. هناك بدعة حسنة، ورسولك يقول، وأنت تنقل عنه: (وكل ضلالة في النار) هذا تناقض، لذلك زين لهم سوء عملهم، ونشأ من شريعتهم هذه السنة التي واظب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام. لذلك فأنا صار عندي مبدأ: بمجرد ما أسمع خطيباً يفتتح الخطبة بهذه الخطبة أقول: هذا لا بد، وأنا ما أقول سلفي، لكن عنده سلفية، وإلا فليس من الممكن أن يكون عنده بدعة حسنة ويأتي يخطب في الناس ويقول: وكل ضلالة في النار. فهذا من الأحاديث الدالة على خلاف ما يراه المتأخرون المقلدة -وليسوا مجتهدين أبداً باعترافهم- من أن هناك بدعة حسنة، ثم يتجرءون لجهلهم بل لغباوتهم ويقولون: يا أخي! هذا نص عام لكنه مخصص. كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يقولون: ذلك مخصص. أولاً: لا نعلم في ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من جوامع الكلم مثل هذا التعميم ثم يدخله تخصيص، ولفظة (كل) من أصرح ألفاظ العموم والشمول: (كل بدعة ضلالة) ، أقول دائماً وأبداً بهذه المناسبة على وزن قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) هل من الممكن أن يقول قائل: ليس كل مسكر خمر، وليس كل خمر حرام؟ مستحيل هذا الكلام! وهناك كليات كثيرة: (كل بني آدم من تراب، ويتوب الله على من تاب) ، لا يمكن أن إنساناً يقول: ليس من تراب، فأصله من تراب وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) . إذاً: كل من أطاع الرسول عليه السلام دخل الجنة. هذه الكليات لا تقبل التخصيص، وهذه الكلية جاءوا إليها فحطموها، وقالوا: ليس الحديث على عمومه، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية العارف بالله حقاً، ولا أدري هل نثني عليه خيراً حينما نصفه بما يصف غيرنا بعض كبارهم، حينما نصف ابن تيمية بأنه العارف بالله حقاً، ما ندري أنذمه أم نثني عليه! لكن إنما الأعمال بالنيات؛ لأنه حقيقة هو عارف بكتاب الله وبحديث رسول الله، يقول: رسول الله في كل خطبة جمعة فضلاً عن خطب أخرى يقول فيها: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ، تأكيداً وتقريراً لهذه القاعدة، ثم يأتي هؤلاء في أبسط حماقة ويقولون: لا. هذه ليست عامة، ولا مرة يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ما كل ضلالة بدعة، فهو دائماً يؤكد، وتكرار الجملة العامة على اختلاف الملابسات والمناسبات من حيث الأسلوب العربي، تأكيد أن هذا الكلام -كما أنكم تسمعون- لا يقبل تأويلاً ولا تقييداً ولا تخصيصاً إطلاقاً. فهنا يقول: (كل بدعة) هذه كلية، وهناك يقول: (من أحدث) ، أيضاً: (من) : مِن صيغ العموم والشمول، ومعنى: من أحدث أي: كل من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد، والبحث في هذا طويل، ولكن أذكّر أيضاً بأثر عن صحابي جليل، كان بارزاً من بين الصحابة بحبه للرسول صلى الله عليه وسلم وحبه لاتباعه واتباع سنته، فسر لنا الجملة الأولى: (كل بدعة ضلالة) تفسيراً سد الطريق على هؤلاء المبتدعة، فهم يقولون: كل بدعة ضلالة، وهذا يأتي فيرد عليهم، وكأنما الله عز وجل قد كشفها عن بصيرته، ولو كنا نؤمن بالكشف الذي يقول به الصوفية وأتباعهم لقلنا: انكشف له؛ لأنه سيأتي أناس من بعدهم يقولون: هذه بدعة حسنة، وأن قول الرسول: (كل بدعة ضلالة) من العام المخصوص، كشف له ذلك فأجابهم سلفاً، فقال: [كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة] ، فأين تذهبون يا مقلدون؟ وعلى فرض أنه أخطأ هذا الرجل وهو من كبار الصحابة، فنحن نقبل ولا نقول بالعصمة، لكن لا نرد كلام الصحابي الواحد -فضلاً إذا كانوا أكثر- بمجرد أن يرد عليه مقلد، بل ولو كان مجتهداً إلا بالدليل، فكيف ذلك وهناك من الصحابة من يقول وهو حذيفة بن اليمان: [كل عبادة لم يتعبدها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها] ، عدوا العبادات التي يفعلها الناس اليوم، واطلبوها من كتب التقليد وليس كتب السنة، سوف لا تجدون لها ذكراً، لماذا؟ لأن المقلدين -أنفهسم- الذين هم علماء بأقوال أئمتهم من قبل ما سطروا هذه البدع، وكل يوم تأتي بدعة جديدة، لماذا؟ لأن خرج البدع لا يكاد يمتلئ أبداً، فهو واسع جداً، والشيطان للناس بالمرصاد، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لما خط خطاً مستقيماً وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] خط الخط المستقيم وخط على طرفيه خطوطاً كثيرة، وقال: (هذه الخطوط للشيطان طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه) ، فشياطين الجن فضلاً عن شياطين الإنس لا يزالون أحياء يقومون بوظيفتهم، ولذلك فالسعيد من يستعصم ويستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. ما هي العروة الوثقى؟ الكتاب والسنة. ولعل في هذا الخبر الكفاية، وإن كنت أشعر -كما قلت لكم في مبتدأ الكلام- أن موضوع البدعة في الإسلام يحتاج إلى محاضرات عديدة، فعساني في درس آتٍ -إن شاء الله- أتبع البحث هذا ببحث متمم أو مكمل بعضه على الأقل بأدلة أخرى نذكر بها الإخوان، ونعالج شبهات المتأخرين التي يتمسكون بها لرد هذه الأساطين من الأدلة في أنه ليس في الدين بدعة حسنة. وقد ذكرنا لكم بعض الأحاديث والآثار التي تنهى المسلم عن الابتداع في الدين، ولا أدري إن كنت ذكرت لكم شعور وانتباه ذلك الرجل الذي كان من أحبار اليهود، الذي تنبه لهذه النعمة وعظمتها على المسلمين، حين جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال ذلك الحبر اليهودي: يا أمير المؤمنين! آية لو أنها علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا يوم نزولها عيداً، قال: ما هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ، فقال عمر رضي الله عنه: [لقد نزلت يوم عيدنا، نزلت يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات] . ومعنى هذا الكلام من هذا الحبر اليهودي أنه عرف بالغ أهمية هذه النعمة التي امتنَّ الله بها على عباده المؤمنين، حيث أكمل لهم الدين؛ ذلك لأنه سيفرغهم لأن يعملوا لشئون حياتهم، وأن يتفرغوا لها بعد قيامهم بواجبات ربهم، فأغناهم بهذا التشريع الكامل أن يتوجهوا إلى التشريع والتقنين الذي ليس من اختصاصهم وإمكانياتهم؛ ذلك لأن الإنسان كما وصفه ربنا في القرآن: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] ، فالإنسان لا ينظر بالنسبة لما يتعلق بمصالحه المستقبلة إلى أبعد من أرنبة أنفه -كما يقول المثل العربي- فلذلك نجد كل الذين يسمونهم بالمشرعين والمقلدين في كل بلاد الدنيا، كل يوم يأتوننا بدستور، وكل يوم يأتوننا بقانون؛ وذلك لأنه يتبين لهم بالتجربة العملية أن هذه القوانين بل الدساتير لا تقوم بمصالح العباد. ذلك الحبر اليهودي فعلاً كان من العلماء حينما عرف هذه النعمة وقدرها، فجاء ليقول لـ عمر بن الخطاب: لو علينا نحن اليهود نزلت هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيداً، فأخبره عمر بأنها فعلاً نزلت في يوم عيد، ألم يكن المسلمون أحق وأولى بأن يعرفوا فضل هذه النعمة من ذاك اليهودي؟ لقد كان الأمر كذلك، وكان كذلك بالنسبة للسلف الأول، فقد كانوا أبعد الناس عن الإحداث في الدين ما ليس منه، ومن هنا تبين المرتبة التي وصل إليها اهتمام السلف في إنكار البدعة. فماذا يقول هؤلاء لو بعثوا في زمننا هذا، ونظروا إلى هذه البدع التي لا يمكن إحصاؤها؛ لأنها بالألوف المؤلفة؟ لا شك أن إنكارهم سيكون بالغاً جداً جداً على هؤلاء المحدثين لهذه البدع، وأنهم سيذكرونهم بأن هذا الإحداث في الدين هو تشريع، والتشريع إنما هو من حقوق رب العالمين تبارك وتعالى.

أدلة القائلين بالبدعة الحسنة والرد عليها

أدلة القائلين بالبدعة الحسنة والرد عليها لا بد أنه سيقول القائل أو يسأل السائل: إن جماهير المشايخ اليوم يذهبون إلى أن البدعة فيها حسنة وفيها سيئة، ولا بد أن لهم بعض الأدلة، فما هي هذه الأدلة، وما جوابنا عنها؟ الأمر ليس حديثاً، فالحق والباطل دائماً في صراع مستمر؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:119] ، فهذا الاختلاف مستمر، ولذلك فحينما يأتي الإنسان بشبهة اليوم يتوهمها دليلاً فهو في الواقع لم يأت بشيء جديد، ونحن حينما نرد هذه الشبهة أيضاً لم نأت بشيء جديد؛ لأننا مسبوقين بهذا الحق الذي ندعو الناس إليه، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] .

الدليل الأول: حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)

الدليل الأول: حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) من أشهر ما يستدل به الجماهير اليوم في استحسانهم الابتداع في الدين الحديث المشهور وهو في صحيح مسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أوزارهم شيء) ، يستدلون بهذا الحديث على أن في الإسلام بدعة حسنة وبدعة سيئة. وكشف الخطأ في هذا الاستدلال يمكن أن يقوم على أمرين اثنين: الأمر الأول: أن نستحضر سبب ورود الحديث، فإن معرفتنا بسبب ورود الحديث سيكشف لنا مباشرة خطأ الاستدلال بالحديث على أن في الإسلام بدعة حسنة لم يأت بها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أمر بها، وإنما يستحسنها المسلمون. سبب هذا الحديث كما هو أيضاً مذكور مع الحديث في صحيح مسلم وغيره، يقول جرير بن عبد الله البجلي: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءه أعراب مجتابو النمار، متقلدو السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تمعر وجهه -أي: ظهرت عليه ملامح الحزن والأسى لما رأى في هؤلاء المُضريين من فقر مدقع- فخطب عليه الصلاة والسلام في الناس ووعظهم وذكرهم، وكان من جملة ذلك أن قال لهم: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] ) ، قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية يحض فيها الصحابة على الصدقة على هؤلاء- وزاد في ذلك أن قال عليه الصلاة والسلام مفسراً الآية: (تصدق رجل بدرهمه، بديناره، بصاع بره، بصاع شعيره، فكان أن قام رجل منهم لينطلق إلى داره ويعود ومعه ما تيسر له من صدقه، ووضعها أمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فلما رآه سائر الصحابة قام كل منهم أيضاً وجاء بما تيسر له من صدقة، فاجتمع أمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه كأمثال الجبال من الطعام والدراهم، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم صار وجهه كأنه مذهبة -تهلل وجهه كأنه مذهبة، كالفضة المكسية بالذهب، تبرق أسارير وجهه عليه السلام فرحاً باستجابة أصحابه لموعظته - فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) إلى آخر الحديث. فالآن هم يفسرون (من سن) بمعنى: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وهنا في الشطر الثاني: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة) أي: ابتدع في الإسلام بدعة سيئة، يفسرون (من سن) بمعنى: من ابتدع، في كل من الموضعين. فالآن نعود إلى الشطر الأول من هذا الحديث الذي فيه: (من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) وهم يفسرونها بقولهم: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، أين البدعة في هذه القصة حتى يصح تفسير الحديث لما يذهبون إليه؟ لم نجد في هذه القصة سوى الصدقة، والصدقة مشروعة بنص القرآن قبل هذه الحادثة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرهم بالآية السابقة فقال: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:254] ، فإذاً: هذه الصدقة ليست بدعة، وأكد لهم الرسول عليه السلام فحضهم أن يتصدق أحدهم ولو بدرهم، فإذاً: ليس في هذه الحادثة بدعة حسنة حتى يقال: إن الرسول قال في هذه المناسبة: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، ولا يتجاوب أبداً، فلو حرفنا لفظ الحديث إلى هذا اللفظ: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، لا يتجاوب هذا اللفظ مع الحادثة مطلقاً؛ لأن الحادثة ليست فيها بدعة مطلقاً، فهذا يبين خطأ هذا التفسير. وأنا كما أقول في مثل هذه المناسبة: إن تفسير هذا الحديث بهذا التفسير المتأخر: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة. لا يقوله رجل أعجمي -ليس عربياً- إذا كان عنده شيء من الفقه الإسلامي والمعرفة باللغة العربية؛ لأنه ليس هناك تتطابق ولا أي موافقة بين الواقعة وبين قول من قد يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، في مثل هذه المناسبة، وهذا يدل على خطإ هذا التفسير. والتفسير الصحيح واضح جداً إذا تأملنا تأملاً قليلاً في الحادثة، إذا عدنا إلى لفظ الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) نسأل الآن: الصدقة حسنة أم سيئة؟ لا شك أنها حسنة؛ فقد شرعها الله بنص الآية السابقة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه. إذاً: هذا المتصدق الأول لم يأتِ ببدعة حسنة، لم يأت بشيء جديد لم يكن معروفاً من قبل، بل الصدقة من فضائل الأعمال، وجاء فيها أحاديث كثيرة. إذاً: ما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بالذات: (من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) ؟ واضح جداً من الحادثة: أن الرجل الأول كان أول من استجاب لموعظة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأول من انطلق إلى داره ليأتي بما تيسر له من الصدقة، فاتبعه الصحابة في ذلك، فكان هو بانطلاقه أول إنسان سنَّ لهؤلاء هذه السنة الحسنة. فهو إذاً: كأناسٍ يكونون غافلين عن مشروع خيري، فيُلْهِم الله عز وجل أحدهم فيقوم بهذا المشروع، وهذا المشروع مذكور الأمر به في الكتاب والسنة، ولو فرضنا: جمع أموال لأيتام لمساكين لبناء مسجد لأي عمل خيري، لا يمكن لإنسان عنده ذرة من فقه أن يقول: هذا العمل الخيري بدعة في الدين أبداً، لكن كان هذا الإنسان أول من تحرك لهذا المشروع الخيري، فأعان الناس على ذلك، فهذا الإنسان الأول يطلق عليه أنه سنَّ في الإسلام سنة حسنة، لكن التحسين ليس من عنده، التحسين ممن له التحسين والتقبيح وهو الله تبارك وتعالى، لكن هو كان أول من تحرك لفتح باب هذا المشروع الحسن بنص الكتاب والسنة. إذاً: (من سن) بمعنى: من فتح طريقاً إلى سنة حسنة بالنص لا بالعقل والهوى، كما يفسره جماهير الناس اليوم: (كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) . كذلك تمام الحديث إذا ما قام به إنسان ينطبق عليه: (من سن في الإسلام سنة سيئة) ما هي السنة السيئة؟ أمر منكر شرعاً، معروف نكارته وضلالته بنص الشرع، يقوم الإنسان فيفتح باباً لهذا الشر، فيكون عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، مثلاً: التبرج رفع القبور والتفاخر ببنائها بناء المساجد على القبور، كل هذه محرمات في الإسلام، فأول واحد فتح هذه السنة المنكرة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، هو لم يأتِ بمنكر غير معروف شرعاً، معروف أنه منكر في الشرع، لكن الناس كانوا في عافية من هذا المنكر، فجاء رجل من الناس ففتح الباب لهذا المنكر، فهو ما سنَّ سنة سيئة بمعنى: ابتدع وأحدث شيئاً لم ينبه الشرع على نكارته وضلاله، لا. وإنما هو فتح الطريق لهذا المنكر أمام الناس فكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة. هذا هو الأمر الأول الذي يمكن أن نفهم به هذا الحديث فهماً صحيحاً، ونرد به التفسير الخاطئ الذي ذاع في الأزمنة المتأخرة بأن معنى الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، فهذا التفسير خطأ، والتفسير الصحيح قد تبين لكم. الأمر الثاني: أن نقول: في هذا الحديث ذكر السنة الحسنة والسنة السيئة، فما هو المعيار للتمييز بين السنة الحسنة والسنة السيئة، ولنقل معهم الآن -مجاراة لهم على ألفاظهم-: ما المعيار وما الميزان للتفريق بين البدعة الحسنة والبدعة السيئة؟ إنه القرآن أو السنة، ليس عندنا سوى ذلك. إذاً: كل من يقول: هذه بدعة حسنة، أو يقول: هذه بدعة سيئة، فلا بد أن يأتي على ما يقول بالدليل الذي يشهد بما يقول من الكتاب أو السنة، أما مجرد القول كما نسمع دائماً وأبداً حينما يقول أنصار السنة: إن هذه يا أخي بدعة، يكون A انظر يا أخي! كيف الإسلام؟ لا بد أن يأتي هذا الذي يستحسن هذه البدعة بالدليل المحسن، والذي ينكر البدعة أو يسميها بدعة سيئة لا بد أيضاً أن يأتي بالدليل على أنها بدعة سيئة. وهنا لا بد من التذكير بخطإٍ يقع فيه أولئك الناس حينما يقال: هذه بدعة، فيأتيك الجواب: أنت كلك بدعة! هكذا يبادءوننا، بدعة لماذا؟ يقولون: أنتم دائماً تقولون: هذا ليس من السنة، وهذا ليس من السنة والكرسي والعباءة والطاقية. وإلى آخره، كل هذا لم يكن في عهد السلف الصالح، هذه غفلة منهم عن الشعور بمنة الله وفضله على الناس في الآية السابقة، هو قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] ، ما قال: أتممت عليكم دنياكم، فهذه من أمور الدنيا ليس لها علاقة بالدين أبداً، كل إنسان له أن يأكل ويشرب ويلبس ما يشاء، لكن في حدود الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم صرح من أجل هذا وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، فيخلط هؤلاء الناس بين البدعة الدينية والبدعة الدنيوية، فأول ما تنكر عليهم بدعة من بدع الدين رأساً يحاججك ببدعة من بدع الدنيا. يا أخي: ما جاء رسول الله ليعلمنا المهن والاختراع والابتكار في أمور الدنيا، وإنما قال عليه السلام: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به) ، أما وسائل الدنيا والتوسع بها فهذه ليس لها علاقة بالبدعة في الدين. إذاً: من فسر الحديث بمن ابتدع بدعة حسنة عليه أن يأتي بالدليل من الكتاب والسنة أن هذه بدعة حسنة، وحينذاك نحن نسلم لهم تسليماً، فإذا جاءوا بحديث يؤيد أن هذا الذي يسمونه بدعة في الدين لكنها بدعة حسنة، جاءوا بالدليل على أنها حسنة فيبقى بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم كما يقول الفقهاء: خلافاً لفظياً، نحن لا نوافقهم على تسمية ما قام الدليل الشرعي على حسنه، لا نوافقهم على تسميته بدعة، وهم يسمونها بدعة، لا بأس، لكن المهم أن يكون هناك دليل يؤيد ما وصفوا به البدعة من أنها حسنة. وآتيكم بمثال، وهذا نستنكره أشد الاستنكار: لما يقسمون البدعة إلى خمسة أقسام، أول هذه الأقسام: بدعة فرض: واجبة، فريضة، وأول مثال: جمع القرآن الكريم بدعة في الدين، الله أكبر! إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام

حكم التشهير بصاحب البدعة

حكم التشهير بصاحب البدعة Q هل يجوز التشهير بصاحب بدعة، أو الكلام عليه وذمه؟ A صاحب البدعة له حالتان: - إما أن يكون منطوياً على نفسه. - أو أن يكون مشهوراً بين الناس. ففي الحالة الأولى لا داعي لتشهيره؛ لأن ضلاله محصور في ذاته. أما في الحالة الأخرى فلا بد من تشهيره والتحذير منه؛ حتى لا يغتر الناس الذين يعيش بينهم به، وليس ذلك من الغيبة في شيء كما قد يتوهم بعض المتنطعين، وحديث: (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره) هو من العام المخصوص، وقد ذكرت لكم قول بعض الفقهاء في بيتين من الشعر جمعوا فيهما الغيبة المستثناة من الحرمة، فقال قائلهم: القدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلم ومعرِّفٍ ومحذرٍ ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة منكر فهنا المبتدع والتشهير به يدخل في التعريف ويدخل في التحذير، ولذلك اتفق علماء الحديث جزاهم الله خيراً على وصف كثير من رواة الحديث بما كانوا عليه من الابتداع في الدين، وهذا كله من قيامهم بواجب البيان للناس؛ حتى يعرفوا الراوي الصارف يؤخذ بعقيدته، والراوي المبتدع، ويترك هو وعقيدته المنحرفة عن الكتاب والسنة.

أحكام الحج والعمرة [2]

أحكام الحج والعمرة [2] أجاب الشيخ رحمه الله عن أسئلة تتعلق بالحج، كمسألة أفضل أنواع الحج، وكذلك أركانه التي لا يصح إلا بها، متطرقاً إلى حكم التلبية: مكانها ووقتها، وحكم التلفظ بنية الحج، وكذلك ما يجوز فعله أو لبسه، وما لا يجوز في حال الإحرام.

أفضل أنواع الحج

أفضل أنواع الحج الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: Q ما هو الأفضل في الحج: التمتع أم القران أم الإفراد؟ A هذا السؤال قد اختلف الفقهاء في إجابتهم عليه منذ القدم. فمن قائل: إن الأفضل هو القران، وحجتهم في ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حج حجة الوداع قارناً) ، وهذا هو الصحيح الثابت الراجح من الروايات المختلفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجته. وهناك من يقول: إنه عليه السلام حج متمتعاً. ومنهم من يقول: إنه حج حجاً مفرداً، وحجتهم ما جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبى بالحج، لكن هذا لا ينافي أنه ضم إلى الحج العمرة، وهذا ما جاء صريحاً عن بعض الصحابة، منهم أنس بن مالك حيث قال: (إنه كان آخذاً بخطام ناقة النبي عليه السلام حينما أحرم بالحج من ذي الحليفة، قال: فسمعته يقول: لبيك اللهم بعمرة وحجة) . فلا نشك -أقصد جماهير علماء الحديث- أن حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت قراناً، ولذلك فلا مجال للمفاضلة بين حج القران وبين حج الإفراد؛ لأن حج الإفراد ليس له وجه من التفضيل؛ لأنه لم يثبت أن الرسول عليه السلام حج حجاً مفرداً من جهة، ولم يثبت أنه حج على حج الإفراد من جهة أخرى، ولذلك فلم يبق مجال للمفاضلة إلا بين القران وبين التمتع. ولا نشك -أيضاً- أن التمتع بالعمرة إلى الحج هو الأفضل، بل هو الواجب؛ ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وإن كانت حجته قراناً- كانت هناك ضميمة اقترنت بحجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تتعرى عن حجات الحاجين في أغلب الأزمان والعصور، وهي أنه عليه الصلاة والسلام ساق الهدي معه من ذي الحليفة، أي: أنه عليه السلام لما أحرم بالقران كان قد ساق الهدي، ولذلك فيختلف حكم من حج قارناً وقد ساق الهدي، عن حكم من حج قارناً ولم يسق الهدي. هذا الاختلاف أخذناه من حجة الرسول عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، ذلك أنه ثبت من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حج وحج الناس معه -وكانوا ألوفاً مؤلفة- كان منهم القارن، ومنهم المفرد، ومنهم المتمتع) فمن كان قارناً مع الرسول عليه السلام ومفرداً كانوا على قسمين: جمهورهم لم يسوقوا الهدي وإنما نحروا في منى، والقليل منهم ساقوا الهدي من ذي الحليفة. وعلى هذا فيمكن أن نقول: إن الذين حجوا مع الرسول عليه السلام منهم من ساق الهدي ومنهم من لم يسق الهدي، فالذين لم يسوقوا الهدي، أي: من كان قد قرن أو أفرد ولم يسق الهدي، فقد قال لهم عليه الصلاة والسلام في أول الأمر وهم ينطلقون من المدينة إلى مكة: (من كان منكم لم يسق الهدي وأحب أن يجعلها عمرة فليفعل) ، فنجد هنا أن الرسول عليه السلام رغبهم ولم يعزم عليهم. ثم في مرحلة أخرى لما جاء مكة وطاف حول الكعبة وسعى، قال لهم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) ، من قبل قال: (من أحب أن يجعلها عمرة فليفعل) وفي الأخير استقر حكم الله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام: (من لم يسق الهدي فليجعها عمرة) ، فبادر بعضهم فتحلل. ومعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فليجعلها عمرة) أي: فليفسخ نيته السابقة، سواء كان حج مفرداً أو حج قراناً، وليحولها إلى نية جديدة، هي العمرة، ولازم ذلك أنه مجرد أن ينتهي من السعي بين الصفا والمروة يحلق شعره أو يقصه، وبذلك تنتهي العمرة، فيتحلل منها ويبقى حلالاً إلى اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وهو اليوم الذي يسمى بالتروية. فبعض أصحاب الرسول عليه السلام بادروا إلى التحلل، إلى فسخ الحج إلى العمرة، لكن بعضهم ضلوا في إحرامهم، فلما بلغ الخبر إلى الرسول عليه السلام غضب، ورأته السيدة عائشة فقالت: (من أغضبك يا رسول الله؟ فقال: ما لي لا أغضب وأنا آمر الناس بأمر الفسخ ثم لا يفعلون) فخطب فيهم الرسول عليه السلام مرة أخرى، فقال: (أيها الناس من لم يسق الهدي فليتحلل، ولولا أني سقت الهدي لأحللت معكم، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) ، حينذاك بادر أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام فتحللوا جميعاً، وكما يقول جابر وغيره: [فسطعت المجامر وأتين النساء] ، أي: تحللوا. من هنا نأخذ أن حج التمتع هو الواجب على كل حاج، إلا من ساق الهدي من الحل فله أسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كانت حجته كذلك، وإن كان في قوله الأخير: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) ما يشعر بأن الأفضل بالنسبة إلينا بعد حجة الرسول عليه السلام ألا نسوق الهدي أيضاً، هذا هو الأفضل، لكن فإن فعل ذلك فاعل فليس لنا عليه سبيل من الإنكار؛ لأن الرسول عليه السلام فعل ذلك وما أنكره، بخلاف حج الإفراد، وبخلاف القران الذي لم يسق معه الهدي. ونحن نؤكد إفادة وخطابة أن كل من أراد الحج فليجعل حجته متعة، ثم عليه بعد ذلك شكر الله عز وجل، وأن يقدم هدياً إن وجد إلى ذلك سبيلاً، وإلا صام سبعة أيام حسبما فصل الله عز وجل ذلك بالقرآن، فقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] . وكثير من الناس الذين يصدق فيهم قول ربنا تبارك وتعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] لما كانوا يعلمون أن التمتع يجب عليه الهدي أو صيام عشرة أيام إذا لم يتيسر له الهدي، يفرون من هذا الحكم بحيلة شرعية، ومن تلك الحيل الشرعية: أنهم يفردون الحج ثم يقرنون العمرة إلى الحج، فبدل أن يتبعوا صريح القرآن وأمر الرسول عليه السلام بأن يأتوا بالعمرة بين يدي الحج، فهم يأتون بالعمرة بعد الفراغ من مناسك الحج، ويتخلصوا مما أوجب الله عليهم من الهدي أو سواه، ثم يأتي من يحتج لهم بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (أنها جاءت بالعمرة بعد الحج وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم) ، فأخذوا ذلك حجة لهم أن يعتمروا بعد الحج، وكأنهم يظنون أنهم بذلك يحسنون صنعاً، مع أن الرسول عليه السلام ثم الصحابة الذين كانوا معه، ثم السلف الذين جاءوا من بعدهم، كانوا كلهم يأتون بالعمرة بين يدي الحج، ثم يقدمون الهدي أو الصيام، أما هؤلاء الناس المحتالون الذين يأتون بالعمرة بعد الحج، فيتخلصون بذلك من هذا الواجب من الهدي أو الصيام، ويجب أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان معه من الحجاج عشرات الألوف من الصحابة لم يأت أحد منهم بالعمرة بعد الحج، إلا السيدة عائشة رضي الله عنها، وهذا حكم خاص بها؛ لا لأنها عائشة وإنما لأنها كانت حائضاً.

أركان الحج

أركان الحج Q ما هي أركان الحج التي لا يصح الحج بدونها؟ A الركن الأول: الإحرام بالحج، مثل الإحرام بالصلاة، وهو نية الصلاة، وهو أن تقول: لبيك اللهم بحجة وعمرة، ولا بد من التنبيه أن نية الحج اليوم يجب أن تكون مبتدأة بعمرة بين يدي الحج، فتقول: لبيك اللهم بعمرة، لا تقل: لبيك اللهم بحجة؛ لأنه لا بد من تقديم العمرة بين يدي الحج؛ لأن الرسول عليه السلام قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه) ، وهذا معناه أن العمرة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحج. فالذي يريد أن يحج اليوم يبدأ بالعمرة، لكن نية الحج بالنسبة للتمتع تكون وأنت في مكة، أما إذا خرجت من بلدك ومررت بميقات من المواقيت المعروفة، فهناك تلبي بعمرة الحج، ثم وأنت في مكة تلبي بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة، وتقول: لبيك اللهم بحجة، وعند الميقات: لبيك اللهم بعمرة، أما في مكة حيث كنت نازلاً: لبيك اللهم بحجة. ثم الطواف حول الكعبة، ثم الوقوف في عرفة، هذه هي الأركان التي لا بد منها، مع المبيت في مزدلفة، بحيث تصلي ثمة صلاة الفجر، فهذا أيضاً ركن على أصح قولي العلماء في طواف الإفاضة، هذه أركان الحج التي لا بد منها، وما سوى ذلك فهي شروط.

التلبية مكانها ووقتها

التلبية مكانها ووقتها Q إلى متى لزم الرسول من التلبية؟ وفي أي مكان كان يلبي؟ A التلبية هي من مناسك الحج والعمرة، ويبدأ الملبي في الحج أو العمرة من ساعة الإحرام بهما أو بأحدهما من الميقات، ويختلف هذا المكان باختلاف البلاد، فمثلاً: الشام ميقاتهم ذو الحليفة، وتسمى الآن أبيار علي، والعراق ذات عرق، واليمن يلملم وهكذا، ومن هذا المكان الذي يحرم منه الحاج أو المعتمر تبدأ التلبية ثم تنتهي عند استلام الحجر الأسود، فإذا لمسَ الحجر الأسود انتهت التلبية، ثم تستأنف التلبية، حينما يبدأ الإنسان بالحج بعد أن قضى عمرة الحج، فيلبي بالحج في اليوم الثامن، ثم يستمر في التلبية ما بين آونة وأخرى إلى أن يرمي يوم العيد جمرة العقبة، فهناك تنتهي التلبية حيث أعمال الحج لم تنته، فإذا رمى جمرة العقبة انتهت التلبية.

حكم الجمع بين التلبية والتكبير

حكم الجمع بين التلبية والتكبير Q هل هناك تلبية مع التكبير حسب الحديث؟ A عن الفضل أنه قال: (أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة) حديث صحيح. لا يشترط الجمع بين التكبير وبين التلبية، وإنما هو مخير بين التكبير وبين التلبية، ولعل الأحسن التنويع، فتارة يلبي وتارة يكبر، والتكبير ليس خاصاً عند رمي الجمرة، وإنما جاء في الرجوع من عرفات، وجاء في بعض الأحاديث: (كان منا من يكبر ومنا من يلبي، فلا يعترض المكبر على الملبي ولا الملبي على المكبر) . ولكن الذي يريد أن يرمي جمرة العقبة هناك لا بد من التكبير مع كل حصاة، أما التكبير قبل ذلك فهو بدل التلبية، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما قال عليه السلام: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) أو يقول: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله إلى آخره، أما التكبير عند رمي الجمرة، فهو: الله أكبر، مع كل حصاة.

الجهر بالتلبية لا يعد تلفظا بالنية

الجهر بالتلبية لا يعد تلفظاً بالنية Q بما أنه لا يجوز التلفظ بالنية، فكيف يصرخون بها كما في الحديث التالي: عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت رديف أبي طلحة وإنهم ليصرخون بها جميعاً، الحج والعمرة) رواه البخاري؟ A الحديث إن كانت روايته هكذا فهي مختصرة، إذا كان كاتب الحديث أولاً: نقله كما وجده، وثانياً: هم كانوا يقولون في التلبية: لبيك اللهم بحج، أو لبيك اللهم بعمرة، وحينئذٍ لا يرد السؤال؛ لأن هذه تلبية.

حكم امتشاط المحرم

حكم امتشاط المحرم Q هل يجوز للمحرم الامتشاط حسب الحديث التالي: (أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة فقال: انقضي رأسك وامتشطي) ؟ A في الوقت الذي لا يوجد ما يمنع المحرم بالحج أو بالعمرة من أن يمتشط، فهذا الحديث يؤكد البراءة الأصلية، فيجيز للمحرم أن يمتشط؛ لأن الفكرة بالنسبة للحاج ليس كما يتوهمها الكثيرون، فهذا الحديث وهو قوله عليه السلام للسيدة عائشة: (انقضي رأسك وامتشطي) يؤيد البراءة الأصلية وهو جواز امتشاط المحرم، وليس المقصود بأن المحرم إذا تلبس بمناسك الحج أنه حرم عليه كل شيء، ليس الأمر بهذه التوسعة التي يتوسع فيها الكثير من المؤلفين والمقلدين، ولكن الواجب أن نقف عند حدود الشرع. فمثلاً: الشارع الحكيم حرم على المحرم مطلقاً -ذكراً أو أنثى- أن يتطيب أثناء إحرامه، ولكن من السنة أن يتطيب الذي يريد الإحرام بين يدي الإحرام، يتطيب بالطيب الذي يفوح رائحته، فإذا أحرم بالحج أو العمرة شممت منه الرائحة الطيبة، فأجاز له الطيب بين يدي الحج، وحرم عليه الطيب أثناء الحج، إذاً: القضية ليس فيها هذا التضييق في أبعد معانيه كما يظن البعض. مثال آخر: وهو ما يظن البعض أن الصائم لا يجوز له أن يتطيب، ماذا تلاحظون؟ تلاحظون أن الصائم حبس نفسه عن الطيبات، فمن الطيبات أن يشم الرائحة الطيبة، إذاً: لا يجوز شم الرائحة الطيبة، فهذا كلام ضعيف، لا يجوز الأكل والشرب ونحو ذلك مما هو منصوص عليه، أما أن تتطيب وأنت صائم فلا يوجد مانع، وأن تتسوك وأنت صائم لا يوجد مانع. كذلك المحرم بالحج حرم عليه أشياء محدودة فنقف عندها، ولا نشدد على الناس أكثر مما جاء به النص، فالنص منع الرجل من أن يقص أظافره، ومن أن يأخذ من شعره ومن لحيته، كذلك المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من شعرها إلا بعد أن تتحلل، لكن هذا المحرّم شيء وكونه مشط لحيته، أو قصر من شعره، فأخذ بعض الشعرات، فهذا ليس فيه ما يمنع شرعاً أبداً، وحديث عائشة يؤيد هذا الأصل، والذي أحرم بالحج لا يجوز له أن يتطيب، ولكن بين يدي الإحرام، قبل أن يقول: لبيك الله بعمرة، يجوز له أن يتطيب.

التبان تعريفه وحكم لبسه للمحرم

التبان تعريفه وحكم لبسه للمحرم Q روى البخاري وسعيد بن منصور عن عائشة: [أنها كانت لا ترى بالتبان؟ بأساً للمقرن] ، فماذا تقصد عائشة بالتبان، وهل يجوز ذلك للمحرم؟ A التبان في اللغة العربية هو ما يسمى اليوم بالبنطلون (الشورت) وهو البنطلون الذي ليس له أكمام، فالسيدة عائشة لا ترى بأساً للحاج أن يلبس التبان، علماً بأن التبان سروال أو نوع من السروال، وقد جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم: (أن المحرم لا يجوز له أن يلبس السراويل ولا العمامة ولا القميص) أي: لا يجوز له أن يلبس أي ثوب يفصل على بدنه، وهذا حكم خاص بالرجال دون النساء؛ لأن إحرام المرأة إنما هو في وجهها وفي كفيها فقط، أي أن المرأة المحرمة لا يجوز لها أن تشد البرقع على وجهها، ولا يجوز أن تلبس القفازين (الكفوف) هذا إحرامها، وهو تيسير الله عز وجل على النساء، أما الرجل فلا يجوز له لبس السراويل، أما قول السيدة عائشة أنها أباحت لبس التبان، فقد فسره العلماء بأن المقصود: أنها لا ترى بأساً للمحرم أن يلبس هذا اللباس القصير ستراً لعورته إذا كان معرضاًُ للكشف عنها. فأجازت السيدة عائشة لمثل هذا النوع من المحرمين أن يلبس التبان، من باب درء المفسدة الكبرى بالصغرى ليس إلا، فلا يؤخذ من كلام السيدة عائشة جواز لبس التبان من المحرم مطلقاً، وإنما للحاجة.

كيفية تغطية الوجه بالنسبة للمحرمة

كيفية تغطية الوجه بالنسبة للمحرمة Q ذكرت في كتابك حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن الإحرام لا يمنع من التغطية، وإنما يمنع من النقاب والبرقع ونحوه، فكيف تكون التغطية؟ وكيف يكون برقع النقاب؟ A آنفاً قلت: لا يجوز للمحرمة أن تشد البرقع على وجهها، أما كيف تحصل التغطية الجائزة؟ فذلك بسدل الحجاب على وجهها، وهذه تغطية جائزة؛ لقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (كنا ونحن محرمات إذا مر بنا ركب من الرجال أسدلنا جلابيبنا على وجوهنا) ، فالممنوع هو ما يشبه اللباس، كالبرقع الذي على الجبهة كما هي عادتنا في هذه البلاد، أو النقاب كما هي عادة البدو كما في كثير من البلاد. وللجهل نجد في الحج نساء بالعشرات إن لم نقل بالمئات حاجات هكذا، ولا يوجد من يعلمهن ويذكرهن، فشد البرقع أو النقاب هذا الذي لا يجوز للمرأة، أما أن تأخذ خماراً وتسدله على وجهها فلا مانع، إذ الغرض ألا تلبس رأسها برقعاً أو نقاباً.

حكم اكتحال المحرم إذا رقق

حكم اكتحال المحرم إذا رقق Q هل يجوز للمحرم أن يكتحل إذا رقق؟ A إذا كان الكحل -كما نعلم- ليس طيباً فلا بأس بذلك، أما إذا كان طيباً فالطيب منهي عنه.

حكم قتل المحرم للذباب والنمل

حكم قتل المحرم للذباب والنمل Q هل يجوز للمحرم قتل الذباب والنمل؟ A لا يجوز قتل الذباب والنمل، ليس للمحرم فقط، بل وللحال (المحل) أيضاً، إلا في حالة واحدة، فقوله في الحديث: (العقور) يؤخذ من هذه اللفظة إذا كان النمل في صورة مؤذية جداً فيجوز قتله، أما بصورة عامة فلا يجوز قتل النمل حتى في حالة غير الإحرام وفي أي مكان إلا إذا كان يؤذي، فكل شيء مؤذي مما لم يأت النص بإباحة قتله لا يجوز مباشرة قتله فوراً، إلا بعد أن نعجز عن صرفه بالطرق السلمية، كالعدو الصائل تدفعه بالتي هي أحسن، فإذا ما استطعت إلا بقتله تقتله، أما رأساً نقتله فهذا لا يجوز. وهناك حديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (نزل نبيٌ من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر بها فأحرقت، فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة؟!) ، وفي رواية: (أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟!) ، أنكر الله على النبي، مع أنه مقروص من النملة وملدوغ منها، فهذا دليل على عدم جواز قتل النمل، إلا المؤذي حينما لا نستطيع أن نخلص من شره.

حكم الخطبة أو العقد للمحرم

حكم الخطبة أو العقد للمحرم Q هل يحرم على المحرم العقد أو الخطبة؟ A نعم ذلك حرام، مادام لا يزال في الإحرام، فلا يجوز الخطبة فضلاً عن العقد، وهذا فيه حديث صحيح صريح في صحيح مسلم.

حكم من أصابه طيب من الكعبة وهو محرم

حكم من أصابه طيب من الكعبة وهو محرم Q ما حكم من أصاب ثوبه من طيب الكعبة وهو محرم؟ A مادام أنه ما قصد ذلك فليس عليه شيء.

حكم شرب الأشربة المعطرة للمحرم

حكم شرب الأشربة المعطرة للمحرم Q هل يجوز شرب الأشربة المعطرة للمحرم كماء الزهر مثلاً؟ A يجوز.

دهن المحرم رأسه بغير الطيب

دهن المحرم رأسه بغير الطيب Q هل يجوز للمحرم دهن رأسه بغير الطيب الزيتي مثلاً؟ A يجوز مادام أنه لا طيب فيه.

نوع الفدية التي يفديها المحرم إذا قتل أو صاد

نوع الفدية التي يفديها المحرم إذا قتل أو صاد Q ما هي الفدية التي يفديها المحرم الذي قتل أو صاد؟ A الصيد الذي صاده يحكم رجلان عدلان في نوعية الفدية التي تجب عليه، فإذا اصطاد غزالاً -مثلاً- فقد يوجبون عليه كبشاً، أو صاد -مثلاً- حماماً يوجبون عليه شيئاً قريباً منه، وهذا له تفاصيل في كتب الحديث والفقه، والأصل في ذلك تحكيم عدلين مسلمين عالمين بذلك.

تحريم قطف الشجر مطلقا على المحرم

تحريم قطف الشجر مطلقاً على المحرم Q هل تحريم قطف الشجرة على المحرم يقتصر على ما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي، أو يشمل الاثنين؟ وكيف يكون الجزاء؟ A العلة هنا ليست كون النبات من إنبات الله أو من زرع الإنسان، وإنما العلة أن يكون النبات في أرض الحرم، فسواء كان من خلق الله عز وجل بدون واسطة البشر أو بواسطة البشر، فلا يجوز قطعه مطلقاً من هذا النوع أو من ذاك.

حكم الطواف بدون وضوء

حكم الطواف بدون وضوء Q هل يصح الطواف بدون وضوء؟ أو إذا توضأ ثم أحدث حدثاً أصغر أثناء الطواف فهل يبطل طوافه ويلزمه تجديد الوضوء؟ A هذه مسألة خلافية، والراجح أنه لابد من الطهارة، أولاً بدليل حديث عائشة السابق: (افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت ولا تصلي) ثانياً: قوله عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله تبارك وتعالى أحل لكم فيه الكلام فلا تكثروا فيه من الكلام) ، فعندما قال: الطواف بالبيت صلاة، هذا التشبيه يقتضي إيجاد الطهارة، فيكون هذا الحديث مدعماً لحديث عائشة، وحديث عائشة مدعماً له، من حيث أن كلاً منهما يوجب الطهارة للطواف بالكعبة.

تفسير قوله تعالى: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما)

تفسير قوله تعالى: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) Q قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] ما معنى (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) في الآية الكريمة؟ A هذه الآية استشكلها عروة بن الزبير حين قال ذات يوم للسيدة عائشة: [ما أرى إلا أن الرجل إذا حج وما طاف بالبيت ولا سعى بين الصفا والمروة إلا أن حجه صحيح، قالت له عائشة: ولم ذلك؟ فتلى هذه الآية: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فقالت له السيدة عائشة: لو كان الأمر كما تقول لكانت الآية: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما] فبينت رضي الله عنها القضية بياناً شافياً، فقالت ما خلاصته: أن هذه الآية نزلت بعد ما آمن الصحابة وأسلموا وعرفوا الإسلام، فصاروا يبتعدون عن جاهليتهم السابقة، حيث كانوا قبل الإسلام إذا جاءوا عند الكعبة وطافوا بين الصفا والمروة، كانوا يهلون لطاغوت من طواغيتهم هناك، ولصنم من أصنامهم، فلما هداهم الله تبارك وتعالى بالتوحيد والإسلام ترفعوا أن يضلوا، وأن يلبوا بالتلبية عند الكعبة وبين الصفا والمروة؛ لأنهم كانوا يعبدون هناك ذلك الصنم، فوجدوا أن من المناسب لتوحيدهم وإيمانهم بالله ألا يعودوا فيطوفوا في المكان الذي كانوا يهلون ويلبون فيه باسم الطاغوت سابقاً، فكانوا يتخوفون، فأنزل الله هذه الآية. فالآية نزلت لرفع الحرج الذي صار في نفوسهم، لا ليبين لهم أنهم ليس عليهم شيء؛ فهو يقول: الطواف أمرتكم به، ولا حرج عليكم أن تطوفوا؛ لأنكم كنتم سابقاً تطوفون هناك وتهلون باسم الصنم، فمادام أنكم كفرتم بهذا الصنم وآمنتم بالله وحده لا شريك له، فلا جناح عليكم أن تطوفوا الآن بالبيت العتيق. ولذلك أكد هذا الأمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب الله عليكم السعي فاسعوا) ، أي: فرض الله عليكم السعي فاسعوا.

حكم ركوب المرأة في الطواف ابتعادا عن الاختلاط بالرجال

حكم ركوب المرأة في الطواف ابتعاداً عن الاختلاط بالرجال Q هل يجوز للمرأة أن تركب عند طوافها، مع أنها قادرة على المشي، ولكن ابتعاداً عن الاختلاط بالرجال، ولا ينقص ذلك من ثوابها شيء؟ A السؤال بناءً على قاعدة الجواب على قدر النص، أنه يجوز لها ذلك، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف حول الكعبة في حجة الوداع وهو على بعيره، فإن كان جاز له ذلك وهو رجل فالأولى أن يجوز للنساء، لا سيما بالقصد المقصود في السؤال، لكن كيف تطوف المرأة وهي راكبة؟ إذا ركبت في دابة، تطوف هي بنفسها، كما طاف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتعمل المستطاع، فهذا جائز، أما أنها تركب على السرر التي توضع على رءوس الرجال كالنساء والرجال العاجزين عن الطواف، فهذا لا يجوز، وإنما يجوز للعاجز المريض.

قول ابن عمر: (ليس على النساء سعي)

قول ابن عمر: (ليس على النساء سعي) Q قال ابن عمر رضي الله عنهما: [ليس على النساء سعي] ، أي: ليس عليهم رمل بالبيت ولا بين الصفا والمروة، رواه البيهقي؟ فهل قول ابن عمر صحيح نستطيع أن نحتج به؟ A إذا كان المقصود من السؤال أنه إذا صح هل يحتج به؟ فالجواب: لا يحتج به، سواء صح سنده إلى ابن عمر أو لم يصح؛ لأنه ليس مرفوعاً، وأصل مشروعية الرمل -خاصة بين الصفا والمروة - هو رمل هاجر زوجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فهاجر عندما تركها إبراهيم عليه السلام، كانت تركض بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء -كما في قصة طويلة مروية في صحيح البخاري - فصار هذا الركض منها فيما بعد سنة تعبدية للرجال والنساء، فكيف يعقل أن يقال: ما كان أصل شرعيته من المرأة لا يشرع الآن للمرأة؟ هذا أبعد ما يكون عن الصواب. أما الرمل حول الكعبة فمن الممكن هنا أن يقال: إن هذا الرمل خاص بالرجال دون النساء؛ لأن أصل مشروعية الرمل حول الكعبة أن الرسول لما طاف هو وأصحابه في صلح الحديبية قال المشركون: هؤلاء قوم وهنتهم حمى يثرب، فالرسول علم ذلك فأمر الصحابة أن يرملوا ليظهروا قوتهم ويظهروا خلاف ما ظن المشركون بهم، ولا شك أن موطن إظهار القوة ليس للنساء وإنما هو للرجال، فمن هذه الناحية ممكن أن يقال: إن الرمل حول الكعبة خاص بالرجال، أقول: ممكن؛ لأنه في الحقيقة لا جواب عندي في هذه المسألة، فإني لا أستحضر دليلاً قاطعاً في الموضوع، ولعله يستجد في الاجتماع القادم الجواب القاطع حول الرمل حول البيت، أما بين الصفا والمروة فلا فرق في ذلك بين النساء والرجال.

رمل النساء في الطواف والسعي حكمه وشروطه

رمل النساء في الطواف والسعي حكمه وشروطه Q الرجاء أن تفيدونا عن موضوع رمل النساء في الطواف والسعي. A هناك شبه إجماع على أن النساء لا ترمل، لا في الطواف ولا في المسعى، إلا أن بعض علماء الشافعية ذهبوا إلى التفصيل الآتي -وهو معقول ومقبول عندي- قالوا: إذا رملت المرأة في فراغ من الرجال في الليل حيث لا يراها أحد، فيشرع لها الرمل في السعي بين الصفا والمروة ليس في الطواف، وهذا مقبول؛ لأنكم تعلمون أن أصل الرمل في المسعى هو رمل زوجة السيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فما دام أن الأصل من المرأة فيشرع للمرأة، لكن الشرط الذي قيده به علماء الشافعية شرط مقبول يتجاوب مع أصول الشريعة وقواعدها، وهو أن المرأة مفروض عليها الحجاب، ومفروض عليها السترة والحشمة، وإذا ركضت هكذا كما يركض الرجال، وعلى مرأى من الرجال، فذلك مما لا يليق بها، فهذا التفصيل الذي جاء به الشافعية هو الراجح من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فقلما يمكن تطبيقه؛ لأنه من النادر جداً أن يخلو المسعى من الرجال، وأن يعمر بالنساء.

الدفع من مزدلفة إلى منى قبل الفجر حكمه وشروطه

الدفع من مزدلفة إلى منى قبل الفجر حكمه وشروطه Q عن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تدفع قبله، وكانت سبطة -تعني: ثقيلة- فأذن لها) متفق عليه، هل كان هذا الدفع من مزدلفة قبل الفجر؟ وإذا كان هناك عذر للدفع من المزدلفة قبل الفجر، فهل هناك فدية؟ A الدفع قبل الفجر هذا من مناسك الحج، والبيات في مزدلفة واجب، والصحيح أنه ركن، ولكن النساء يختلفن في هذا الحكم عن الرجال، فالنساء والصبيان يجوز لهم أن ينطلقوا من مزدلفة إلى منى ليس فقط قبل الفجر، بل قبل الفجر بزمان ولكن بعد منتصف الليل، هذا حكم خاص بالنساء والصبيان، ويلحق بهم ضعاف الشيوخ من الرجال. وفي هذا أحاديث صريحة: أن الرسول رخص للنساء والضعفة من الصبيان في الانطلاق والدفع من مزدلفة إلى منى قبل الفجر، وحينئذٍ فلا كفارة ولا فدية. ولكن هنا نقطة يغفل عنها كثير من أهل العلم فضلاً عن غيرهم، وهي أن النساء والصبيان الذين أخذوا بهذه الرخصة واندفعوا من مزدلفة قبل الفجر، ووصلوا منى قبل طلوع الشمس، لا يجوز لهم أن يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس، فالدفع من مزدلفة قبل الفجر رخصة، لكن الرمي لا يجوز إلا بعد طلوع الشمس؛ لأن الرسول عليه السلام كما في حديث ابن عباس قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للضعفة والصبيان الدفع من مزدلفة قبل الفجر، وقال لهم: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) .

حكم رمي الجمرات قبل طلوع الشمس

حكم رمي الجمرات قبل طلوع الشمس Q هل يجوز الرمي قبل الفجر، استناداً لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت) رواه أبو داود، وإسناده على شرط مسلم؟ A الحديث صحيح إسناده على شرط مسلم، ولكن في رجاله من تُكُلِم في حفظه، ولذلك قال ابن القيم في زاد المعاد عن هذا الحديث: إنه حديث منكر، ثم على شرط صحته فليس صريحاً في أن الرسول عليه السلام أمرها أن ترمي الجمرة قبل الفجر، ولكن أمرها بما أمر كل النساء أن تدفع من مزدلفة قبل الفجر، لكن هي فهمت أنه يلزم الدفع قبل الفجر والرمي أيضاً قبل الفجر، وخفي عليها حديث ابن عباس السابق: (لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) .

أحاديث الآحاد في العقيدة

أحاديث الآحاد في العقيدة نزل القرآن باللغة العربية، واشتمل على نصوص واضحة الدلالة، ثم تأثرت عقول بعض المسلمين بعلم الكلام والفلسفة؛ فصعب على تلك العقول فهم الشرع على ظاهره، فجعلوا قواعد ومصطلحات تهدم الدين. وفي هذه المادة يتحدث الشيخ رحمه الله عن بعض هذه الانحرافات، ذاكراً منها در أحاديث الآحاد في العقيدة واشتراط التواتر في أخبارها، وتصدى لمناقشة هذه الفكرة والرد عليها وتزييفها وبيان بطلانها.

حكم بيع التقسيط وارتباطه ببيع العينة

حكم بيع التقسيط وارتباطه ببيع العينة Q. A لا يجوز في الإسلام، ولو أنكم تنبهتم لتعريفي لبيع العينة لعرفتم أن جواب هذا في نفس هذا التعريف؛ لأنه (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، و (ما لا تكون المعصية إلا به فهو معصية) . بيع العينة الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام مصيبة من مصائب الأمة، إذا أصابتهم ذلوا، وهو قائم على بيع التقسيط، ويحتاج إلى مزيد شرح وبيان. بيع التقسيط هو المقدمة الأولى والأخيرة لبيع العينة؛ لأن هذا الذي يريد ذاك القرض بالربا، لا أحد يقرضه قرضاً حسناً مع الأسف الشديد، وهذا من تفكك عرى الأمة الإسلامية؛ وذلك بسبب ابتعادها عن الشريعة المحمدية، ولأنه يحتاج المال ولا أحد يقرضه، وهو لا يريده عن طريق الحرام في حد زعمه، فالشيطان يسول له أن هذه طريقة تحصل فيها على القرض ولو بطريق الربا، ويزعمون أنهم يخلصونه من الربا بصورة بيع وشراء، فهذا المستقرض عندما يأتي إلى التاجر ويقول له: هذه السيارة بكم؟ فيقول له التاجر: تريدها نقداً أو بالتقسيط؟ والمشتري جاء وجيبه أفرغ من فؤاد أم موسى! ليس معه ريال، ولهذا يجيبه قائلاً: بل بالتقسيط، فيقول له: بالتقسيط بمائة دينار، بألف دينار، بألفي دينار، فيقول له: سأشتري إذاً! البائع لما سأله: بالنقد أو بالتقسيط؟ وضع سعر التقسيط زائداً (2%) أو (5%) طمعهم وجشعهم، فهذا لما وافق على التقسيط أعطاه السعر زيادة على النقد، ومن هنا جاء بيع العينة؛ لأنه سوف يرجع المشتري ويقول للبائع: هذا الذي اشتريته أنا منك بألف دينار، من الممكن أن تشتريه مني بأقل من السعر، ولأنه يعرف مدى حاجته للمال، فيقول صاحب السلعة الأولى: نعم، فكانت هذه صورة لبيع العينة. مثلما ذكرنا آنفاً، فبيع العينة المحذر عنه في هذا الحديث قائم على بيع التقسيط. فإذاً: لا يمكن إقامة هذا الربا المحرم الذي هو بيع العينة إلا في مقدمة بيع التقسيط، ومع ذلك فهناك أحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، تنهى نهياً صريحاً عن بيع التقسيط الذي ابتلي به المسلمون لسببين، وهما نفس السببين المذكورين في الحديث: أحدهما: التكالب على الدنيا، فتراه حريصاً على جمع المال، ولا يسأل أمن حلال أو حرام؟ وإنما يريد مصاريف يريد أن يشتري يريد أن يربح يريد يريد إلخ. السبب الثاني: يحتالون على الشرع، يقول لك أحدهم: هذا بيع يا أخي! بيع التقسيط. لكن الرسول يقول: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) ، وفي حديث آخر: (نهى عن بيعتين في بيعة) ، وفي لفظ: (عن صفقتين في صفقة) ، قيل لراوي الحديث وهو سماك بن حرب من التابعين: [ما معنى نهى عن بيعتين في بيعة؟ قال: أن أبيعك هذا نقداً بكذا ونسيئةً بكذا وكذا] ، هذا هو بيع التقسيط اليوم تماماً. والرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الأول، بين أن الزيادة التي يأخذها التاجر مقابل الشرط على أخيه المسلم في الوفاء، بسبب بيع التقسيط بيع ربا؛ لأنه قال: (من باع بيعتين في بيعة) أي: من عرض بيعتين، وفي النهاية لو قلب البيعتين إلى بيعة إما تقسيطاً وإما نقداً (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما -أي: أنقصهما سعراً وثمناً- أو الربا) إن أخذ الزيادة، أي أنه قال: هذا نقداً بمائة وتقسيطاً بمائة وعشرة، فإذا أخذ مائة وعشرة مقابل التقسيط فالعشرة ربا، هذا في نص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام. فيا أخي! إن مصيبتنا اليوم نحن المسلمين مصيبة لا يحلها أو لا يقدر عليها إلا الله عز وجل!! لكن: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105] .

توجيه حديث الجارية (.

توجيه حديث الجارية (. أين الله؟) Q حديث الجارية: (. أين الله؟ قالت: في السماء) . هل هو جواب عن فرضية مكان أو فرضية مكانة؟ A ليس هذا ولا هذا، أي: إن الجواب ليس عن سؤال مكانة ولا عن مكان. أما أنه ليس سؤالاً عن المكانة؛ فلأن مكانة الله المعنوية معروفة لدى كل المسلمين بل حتى الكافرين. وأما أنه ليس سؤالاً عن المكان فذلك؛ لأن الله عز وجل ليس له مكان. وفي الواقع أنا أشعر أن هذا السؤال من أخ مسلم يعتبر محاضرة، والسبب أنكم لا تسمعون هذه المحاضرات، وإنما تسمعون محاضرات في السياسة والاقتصاد، لدرجة أن كثيراً منكم ملَّ من تكرارها، أما محاضرات في صميم التوحيد، كالمحاضرة التي ستسمعونها الآن، مع أني مضطر إلى أن أختصر في الكلام؛ لأنه حان وقت الانصراف، لكن لابد مما لابد منه، فهذا السؤال يحتاج إلى محاضرة، لكن نقول: إن الله منزه عن المكان باتفاق جميع علماء الإسلام، لماذا؟ لأن الله كان ولا شيء معه، وهذا معروف في الحديث الذي في صحيح البخاري عن عمران بن حصين: (كان الله ولا شيء معه) ، ولا شك أن المكان هو شيء، أي: هو شيء وجد بعد أن لم يكن، وإذا قال الرسول: (كان الله ولا شيء معه) معناه: كان ولا مكان له؛ لأنه هو الغني عن العالمين، هذه الحقيقة متفق عليها.

إثبات علو الباري سبحانه وتعالى

إثبات علو الباري سبحانه وتعالى لكن مع الأسف الشديد، من جملة الانحرافات التي أصابت المسلمين، بسبب بُعدهم عن هدي الكتاب والسنة في العقيدة في ذات الله عز وجل، لو سألت اليوم جماهير المسلمين في كل بلاد الإسلام، علماءً وطلاب علم وعامة، إذا سألتهم هذا السؤال النبوي: أين الله؟ ستجد أن المسلمين مختلفون أشد الاختلاف في الجواب عن هذا السؤال، منهم من يكاد يتفتق غيظاً وغضباً بمجرد أن طرق سمعه هذا السؤال، ويقول: أعوذ بالله ما هذا السؤال؟! نقول له: رويداً يا أخي! هذا السؤال هل تعلم أول من قاله؟ يقول: لا ما سمعنا به إلا الآن، فنفتح له صحيح مسلم ونقول له: هذا صحيح مسلم، الكتاب الثاني بعد صحيح البخاري، والثالث بعد القرآن؛ لأن أصح كتاب هو القرآن، ثم صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم، وهو الذي روى هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للجارية يمتحنها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة) ، يسمع الحديث وكأنه ليس عايشاً في بلاد الإسلام، بل ليس عايشاً في بلاد العلم، أو يمكن لم يمسك صحيح مسلم في زمانه مطلقاً، هذا قسم من الناس، بل من أهل العلم من لم يسمع هذا السؤال قط! أي: ما طرق سمعه هذا الحديث، ولسان حاله يقول: أيعقل أن هناك أناساً يقولون: أين الله؟! ما هذا السؤال؟! هل يجوز لأحد أن يسأل أين الله؟! لا أعرف!! ما رأيك؟! ويأخذ البحث مجراه فتقول له: أنت تؤمن بوجود الله؟ سوف يقول: نعم، نقول له: أكيد أن الله موجود؟! فيجيب: نعم, إذاً أين هو؟ فيفكر ولا يستطيع الجواب!!! إن أقدس المقدسات هو الله، فإذا سألته: أين هو؟ فلا يعرف، وهو مسلم، ما معنى مسلم إذاً؟ نعم هو مسلم، وهذا أمر جميل، لكن هل هو حقيقة أم لا؟ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] صدق الله العظيم، لا يعلم هذا أن الله يقول: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16-17] كأنه ما قرأ هذه الآية أبداً، ويمكن أنه قرأها أكثر مني، لماذا؟ لأن هناك أناساً متعبدين، ربما يختم أحدهم القرآن في كل ليلة، أو في كل ليلتين على خلاف السنة، أما نحن فالواحد منا قد يختم ختمة واحدة في السنة؛ لأن الله فتح له باباً في العلم، أما ذاك المخالف للسنة فهو يقرأ كثيراً، لكن هل فهم ما قرأ؟ لا، إذاً: ربنا عندما يقول له في القرآن: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] معنى ذلك أنه من القسم الثاني (أم على قلوبٍ أقفالها) . ثم إنَّا نذكره بحديث فنقول له: يا أخي! هذا الحديث تعرفونه جميعاً لا ننفرد وحدنا بمعرفته، هذا الحديث يقول: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) هذا حديث بالتعبير العصري: حديث شعبي، أي: كل الناس يعرفون هذا الحديث. إذاً (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) من هو الذي في السماء؟ هل المقصود به غير الله؟ لا، إذاً لماذا تستنكر Q أين الله؟ وأنت تقر بهذا الحديث، أنا سألتك: هل الله موجود؟ فقلت: نعم، إذاً أين هو؟ أجبت أنك لا تعرف، لماذا لا تعرف؟ لا تقرأ القرآن ولا تسمع الحديث؟ إلخ.

سبب الانحراف في العقيدة

سبب الانحراف في العقيدة إن المشكلة هي دخول علم الكلام في الموضوع فأفسد العقول، كل من قرأ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ليس عنده شك أن الله عز وجل في السماء، كلنا سمع ذاك الحديث: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ، ليس هناك شك أن الله عز وجل في السماء، لكن دخل علم الكلام فصرفهم عن هذا الإيمان، ماذا قال لهم؟ قال لهم: لا يجوز أن نقول: الله في السماء، لماذا؟ لأن الله ليس له مكان، صحيح نحن نقول: ليس له مكان، ولعلكم ما نسيتم بأننا بدأنا الكلام عن هذا السؤال ببيان أن الله عز وجل غني عن المكان، وأن الله كان ولا مكان، فادعى الجهلة من الناس أن معنى الآية والحديث هو إثبات المكان لله عز وجل، وأن معنى حديث الجارية: (الله في السماء) أن الله له مكان في السماء، هذا الجهل أدى بهم إلى جهل مطبق، ولا يعني أن المسلم حينما يعتقد أن الله في السماء أن الله مثل إنسان في الغرفة، لماذا؟ لأن هذا تشبيه، وقد سمعتم من جملة خصال ومزايا الدعوة السلفية أنها وسط في كل شيء بين الإفراط والتفريط، بين المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، وبين المعطلة الذين ينكرون أشياء من صفات ربهم، فـ السلف وسط يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة، وينزهون الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . فحينما يعتقد المسلم أن الله في السماء كما هو في النص القرآني والأحاديث كثيرة، لا يعني أنه في السماء أنه كالإنسان في الغرفة، وكدودة القز في (الشرنقة) محصورة بهذا البيت الطويل، حاشاه عز وجل أن يكون كذلك!

معنى (في السماء)

معنى (في السماء) إذاً: ما المعنى الصحيح للفظة (في السماء) ؟ السماء لها معانٍ في اللغة لا نتفلسف كثيراً بذكرها، لكن من هذه المعاني: السماء الدنيا الأولى، والثانية، و. إلخ، ومن هذه المعاني: العلو المطلق، كل ما علاك فهو سماء، فالسماء الأولى والثانية هذه أجرام مخلوقة، فإذا قلنا: الله في السماء، معناه حصرناه في مكان، وقد قلنا: إنه منزه عن المكان، إذاً: كيف نفهم؟ الجواب من الناحية العلمية: (في) في اللغة ظرفية، فإذا أبقيناها على بابها وقلنا: الله في السماء، وجب تفسير السماء بالعلو المطلق، أي: الله فوق المخلوقات كلها حيث لا مكان، بهذه الطريقة آمنا بما وصف الله عز وجل به نفسه بدون تشبيه وبدون تعطيل. فإن التشبيه أن أقول: كما أنا في هذا المكان، وحاشاه! والتعطيل أن نقول كما تقول المعطلة: الله ليس في السماء، وإذا كان ربك يقول: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وأنت تقول: ليس في السماء، هذا هو الكفر. هذا معنى الآية فيما إذا تركنا (في) على بابها. أحياناً في اللغة العربية تقوم أحرف الجر بعضها مكان بعض، فـ (في) هنا ممكن أن تكون بمعنى (على) ، فحينئذً: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من على السماء، فتكون السماء في الآية بمعنى الأجرام التي خلقها ربنا تعالى، فهو عليها وفوقها، وليس في شيء منها؛ لأنه منزه عن المكان، هذه هي عقيدة السلف، ومن أجل ذلك نحن ندعو المسلمين إلى أن يرجعوا إلى عقيدة السلف وإلى منهج السلف حتى يستقيموا على الجادة، وحتى يصدق فيهم أنهم رجعوا إلى الوصفة الطبية النبوية، التي جعلها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وصفة لخلاص المسلمين من الذل الذي ران ونزل عليهم (. حتى ترجعوا إلى دينكم) ، فالرجوع الرجوع معشر المسلمين جميعاً إلى الله وإلى كتابه وإلى حديث نبيه وعلى منهج السلف الصالح! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مفهوم العقيدة ودلالة أحاديث الآحاد

مفهوم العقيدة ودلالة أحاديث الآحاد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. المقصود من العقيدة في اصطلاح العلماء هو: (كل خبر جاء عن الله أو رسوله، يتضمن خبراً غيبياً لا يتعلق به حكمٌ عمليٌ شرعاً) . هو كل خبر جاء عن الله أو رسوله، يتضمن خبراً غائباً عنا وعن عقولنا باعتبارنا بشراً لا نعلم الغيب، وليس معه حكمٌ شرعي عملي، أما إذا كان الخبر المشار إليه كتاباً أو سنة فيه حكم عملي، فهذا لا يَصُفّونَه في صَفّ العقائد، وإنما يحشرونه في صف الأحكام الشرعية، هذا هو الاصطلاح.

حكم الاصطلاح في العلوم الشرعية

حكم الاصطلاح في العلوم الشرعية والذي أريد أن أدير إليه الكلام الآن، هو أن نذكر بأن الاصطلاح في العلوم الشرعية لا بأس منه؛ لأن الغرض تيسير والفهم على الناس، ولكن ينبغي أن يراعى فيه ألا يؤدي إلى مخالفة شرعية أُوْرِدُ مثالاً من الأمثلة العصرية: لا بأس أن نسمي معاني بأسماء جديدة، لكن بشرط ألا تغير حقائق شرعية، فإذا لم يتوفر هذا الشرط فلا يصح ذاك الاصطلاح أو تلك التسمية. مثلاً: لا يصح أن نسمي ما حرم الله عز وجل من الملاهي وآلات الطرب بفنون جميلة؛ وذلك لما في هذه التسمية من تلطيف لمثل هذه المعاصي، وإيهام الناس بأنه لا شيء فيها لأنها من الفنون الجميلة، لكن لو أطلقنا هذا الاسم على رسوم ونقوش زاهية براقة جميلة، ليس فيها صور حيوانات محرمة في الإسلام، فلا بأس من هذه التسمية، هذا مثال من واقعنا في العصر الحاضر، والأمثلة في ذلك كثيرة؛ كتسمية الربا المحرم بالفائدة أي فائدة يجنيها الإنسان من وراء التعامل بالربا؟ فنحن لا يجوز أن نتجاوب مع هذه التسمية ومع هذا الاصطلاح، لا لكونه حادثاً، فلكل قوم أن يصطلحوا على ما يشاءون، وإنما لأن الاصطلاح يؤدي إلى مخالفة الشرع، فإن الشرع يطلق على من يتعاطى الربا بأنه يحارب الله ورسوله، ونحن نسمي هذا فائدة! هذا كله من وساوس الشيطان على بني الإنسان، لصرفه عن أوامر الله وإيقاعه فيما حرم الله.

مفهوم العقيدة اصطلاحا وحكم هذا الاصطلاح

مفهوم العقيدة اصطلاحاً وحكم هذا الاصطلاح أعود فأقول: لا بأس من ذلك التفريق الاصطلاحي، أن نسمي الخبر إذا كان فيه خبر غيبي وليس فيه حكم شرعي بأنه عقيدة، وأن نسمي خبراً آخر الذي يتضمن حكماً شرعياً عملياً بأنه حكم شرعي وليس بعقيدة، هذا الاصطلاح لا بأس به، ولكن بشرط ألا يؤدي إلى مخالفة الشرع، وقد تحققت المخالفة، وإليكم البيان: كل حكم شرعي لا يقترن معه عقيدة فلا قيمة له؛ لأن أي حكم سواء كان يتضمن -مثلاً- الفرض أو الوجوب والمعنى واحد، إذا لم تقم بهذا الواجب بنية واعتقاد أنه فرض لم يفدك هذا الحكم شيئاً، وهكذا قُرِّر في كل الأحكام أو بقية الأحكام الخمسة، فأنت إذا أتيت بعبادة غير الفريضة كسنة مؤكدة أو مستحبة، إذا جئت بها باعتقاد أنها فرض أثمت ولم تؤجر؛ ذلك لأنك خالفت العقيدة الإسلامية في هذا الحكم الشرعي، يكفي الآن على سبيل التمثيل والتوضيح هذان المثالان اللذان يبينان لك بوضوح أن كل حكم شرعي مقرون معه عقيدة، لكن نعكس؛ فليس كل عقيدة مقرون معها حكم وعمل شرعي، مثلاً: نعتقد بخروج الدجال الأكبر في آخر الزمان نعتقد بنزول النبي عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله للدجال الأكبر نعتقد بخروج المهدي محمد بن عبد الله في آخر الزمان نعتقد بعذاب القبر. إلى آخر ما هنالك من عقائد ثابتة في الكتاب والسنة، هذه كلها مجرد عقيدة لا يقترن معها عمل، فاقترح العلماء للتفريق بين هذا النوع من العقيدة وذاك النوع من العقيدة، بأن هذه عقيدة وهذه أحكام. ولكن إذا ألزمني هذا التفريق فلسفة عارضة طارئة دخيلة على الإسلام؛ حينذاك لا يجوز أن نصطلح هذا الاصطلاح، وإنما نقول: كل ذلك أحكام شرعية، وإنما الواقع أن هذا حكم ليس معه عمل، وذاك حكم معه عمل، مهما كانت نيته أنه عمل هذا حكم من الله تعتقد بكذا وكذا، وهذا حكم من الله تعتقد بكذا وكذا، لكن هذا النوع الثاني اقترن به القيام بعمل من نوع معين. التفريق هذا هو كما قلت: اصطلاح، ولا بأس باستعمال هذا الاصطلاح باشتراط الشرط السابق، أقول: اصطلاح؛ لأن السلف الصالح لا يعرفون هذا إطلاقاً، لا يعرفون التفريق بين خبر غيبي مجرد وخبر فيه حكم عملي ولابد من اعتقاد حكمه، فإذا ما وقفنا عند هذا الاصطلاح ولم نتعدَ إلى مخالفة أحكام شرعية أخرى، فلا بأس به.

حكم اشتراط التواتر في أحاديث العقيدة

حكم اشتراط التواتر في أحاديث العقيدة لكن الواقع أننا قد تورطنا من هذا الاصطلاح فجئنا بعقيدة باطلة مخالفة للشريعة الإسلامية، وهذه العقيدة بالتالي لا يعرفها السلف الصالح، ولا يعرفها الأئمة الأربعة الذين نحن ننتمي إليهم في اتباعهم في مذاهبهم، سواء ما كان منها مذهباً اعتقادياً بهذا الاصطلاح، أو كان مذهباً حكمياً شرعياً. أريد من هذا التذكير بما ابتلي به المسلمون اليوم من رأي اعتزاليّ قديم، قام بعض الناس بتبنيه وإشاعته بين الناس، فكان مثار فتنة ومثار بلاء أصيب به كثير من الناس؛ بسبب جهلهم بالسنة أولاً، وبالأولى بسبب جهلهم بما كان عليه سلفنا الصالح من تقبلهم الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على إطلاقها دون فلسفة عقيدة، وحكم، هكذا كان موقف السلف الصالح بالنسبة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتقبلوها على إطلاقها، سواءً كانت بالاصطلاح السابق الذكر (عقيدة) ، أو كان (حكماً شرعياً) ، لا يفرقون بين هذا وبين هذا، وإنما يكون موقفهم تجاه كل حديث يبلغهم عمن يثقون بخبره أن يسلموا تسليماً؛ لأن الله تبارك وتعالى حينما قال في مطلع هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] هذه الآية نص عام، اختلفنا -مثلاً- في قبول خبر الآحاد في الأحكام الشرعية، ماذا نفعل؟ نُحكم الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك هل أُمرنا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يأتينا به من أخبار فيها أحكام شرعية؟ A نعم، وهذا موضع اتفاق، ولكن اختلفنا اختلافاً من نوعية أخرى، ألا وهو: هل نأخذ بحديث الآحاد في الأخبار التي ليس فيها أحكام شرعية وإنما فيها محض عقيدة؟ قيل وقيل، إذاً لمن نرجع؟ إلى الحَكَم الذي ذكره الله تعالى في قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. } [النساء:65] إلى آخر الآية، فنحن حينذاك مادام أننا اختلفنا يجب أن نتحاكم إلى الله وإلى الرسول، وأن نسلم بعد ذلك إلى ما جاءنا عن الله والرسول ونسلم تسليماً، فهل تجدون في كتاب الله أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا التفريق الذي ابتلي به قديماً بعض الفرق الإسلامية وحديثاً بعض الشباب المسلم؟ هل تجدون هذا التفريق في كتاب الله أو في حديث رسول الله، أم تجدون هناك النصوص عامة مطلقة مثل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فهذا من حيث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مصدر الخبر المصدر الأول؟ ثم هل تجدون هناك في الكتاب أو في السنة تفريقاً من حيث وصول الخبر من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يؤخذ بالأحكام ولو كان الناقل للخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام فرداً، أما في العقائد -بالاصطلاح السابق- فلا يؤخذ إلا أن يكونوا جماعةً هم جماعة التواتر؟ هل تجدون شيئاً من هذا في الكتاب والسنة؟ أما نحن فلم نجد ولن نجد، ويستحيل أن نجد مثل هذا التفريق بين حديث الآحاد في العقيدة والأحكام، بحيث أنه في العقيدة لا يؤخذ به والراوي نفسه ثقة، هذا الراوي الذي إذا روى خبراً في الأحكام احتج به، وإذا روى خبراً في العقيدة ليس فيه حكم لا يحتج به، هذا التفريق قلت: لا نجده ولن نجده، ولكننا نجد العكس، وهذا أقوى لنا، نجد النصوص من الكتاب والسنة -أيضاً- أنها تأتي نصوصاً عامةً، كما جاءت فيما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه كالمصدر الأول لا فرق؛ سواءً جاءنا عن الله بخبر فيه غيب فيجب أن نسلم له تسليماً، أو جاء بخبر فيه حكم فيجب أن نسلم تسليماً، النصوص العامة تدل على هذا وأنه لا فرق، كذلك جاءت النصوص عامة فيما يتعلق بالواسطة الذي ينقل لنا الخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام، لا فرق أيضاً بين أن تكون هذه الواسطة هي الصحابي أو من بعد الصحابي.

أمثلة على حجية خبر الآحاد

أمثلة على حجية خبر الآحاد مثلاً: شيء من هذه الأخبار العامة، الآية المشهورة: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] لماذا هذا النفر؟ ليتفقهوا في الدين. فما هو التفقه في الدين؟ أيضاً يأتي هنا اصطلاح آخر نقول: لا بأس به إذا لم يتعارض أيضاً مع نصوص الشريعة، ما هو الاصطلاح؟ الاصطلاح: أن الفقه هو فهم الأحكام الشرعية حرام، حلال، فرض، واجب، مستحب، مندوب، مباح إلخ، لكن هذا بالمعنى الشرعي أوسع: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] أي: ليتعلموا الدين ويفهموه جيداً، الدين بمفهومه العام عقيدةً وأحكاماً، فهو يقول بهذه الآية: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] فرقة: جماعة أو قبيلة، طائفة: واحد فأكثر لغةً. والله عز وجل يحض المسلمين في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرةً، ثم الأمة الإسلامية جميعاً تبعاً لهم؛ يحض طائفة منهم على أن ينفروا، وأن يخرجوا، وأن ينطلقوا، ويسافروا إلى المركز أو إلى الشط الذي فيه من يعلم الناس دينهم ويفقههم فيه. الشاهد هنا من الاستدلال بالآية بلفظة (طائفة) فهذه الطائفة تشمل الفرد وما هو أكثر من ذلك، قال في تمام الآية: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122] أي: ليبلغوهم ما تلقوه من الفقه في الدين. إذا عرفنا أن الفقه بمعناه الشرعي أوسع منه في معناه الاصطلاحي أولاً، وعرفنا أن الطائفة تعني الواحد فأكثر؛ حينئذٍ يظهر لكم أن الآية دليل على عدم ذلك التفريق الحادث المحدث؛ ذلك لأن هذه الطائفة؛ الواحد، أو الاثنان، أو الثلاثة، أو أكثر؛ واجبهم بنص هذه الآية أن يتلقى الفقه من صاحب الفقه، وهو مباشرة في هذا الحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا واجبه الأول، ثم واجبه الآخر أن يرجع إلى قومه فينذرهم ويبشرهم ويعلمهم ويفقههم. إذاً: هل تقوم الحجة بخبر الواحد في الفقه في الدين كله بدون ذلك التفريق الحادث؟ A الآية صريحة في ذلك؛ لأنها لا تفرق، بل تطلق حكم التفقه في الدين، وذلك يشمل العقيدة والأحكام، بل نقول: يشمل العقيدة قبل الأحكام؛ لأن العقيدة أصل الأحكام كما شرحنا لكم آنفاً، سواءً على فهمنا أو على فهم غيرنا في اصطلاحهم، فإن العقيدة عندهم أهم الأحكام؛ لأن الأحكام إذا تجردت من العقيدة لم يبق لها قيمة مطلقاً. إذاً: على اصطلاحهم تبليغ العقيدة على هذه الطائفة أوجب عليهم من أن يبلغوا الأحكام الشرعية فقط، أما نحن فلا تفريق عندنا، فعليهم أن يبلغوا كل ما تفقهوا به من الدين؛ سواء كان عقيدةً أو كان حكماً شرعياً، وهو في الوقت نفسه كما شرحنا يتضمن عقيدة. أما في السنة فكذلك نجد الأحاديث تأتي مطلقة، مثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية) وهنا لا بد من لفت النظر؛ ففيها حضٌّ على نقل جملة عن الرسول عليه الصلاة والسلام سواءً قال لهم: هذه آية من القرآن أو لم يقل لهم ذلك، فتكون هذه الجملة من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي من الناحية العملية في الشريعة الإسلامية كالقرآن لا نفرق بين الله ورسوله؛ فإذاً: هنا نص عام لا نفرق بين جملة تتعلق بالعقيدة، أو جملة تتعلق بالأحكام الشرعية. ومن ذلك أيضاً حديث مشهور: (نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها كما سمعها، فرب حامل فقهٍ إلى غير فقيه، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه) . أيضاً هنا دعا الرسول عليه الصلاة والسلام بالمباركة والسلامة لمن يسمع من الرسول عليه الصلاة السلام مقالةً له ثم ينقلها إلى غيره، سواء كان في مرتبته في الطبقة والمعاصرة والعلم، أو كان دون ذلك في الطبقة والعلم. فالشاهد: نصوص الكتاب والسنة كلها على هذا النمط، لا تأتي بالتفريق في الحَضَّ والفرض في طلب العلم بين أحاديث تتعلق بالعقيدة أو أحاديث تتعلق بالأحكام الشرعية.

منشأ القول برد الآحاد في العقيدة

منشأ القول برد الآحاد في العقيدة فمن أين جاء هذا التفريق؟ جاء من الفلسفة جاء من علم الكلام الذي نتج منه ذلك الاصطلاح، أنه أحاديث تؤخذ منها الأحكام ولو كانت آحاداً، لكن لا تؤخذ منها العقيدة، جاءت من فلسفة أن العقيدة يجب أن تكون يقيناً، ويقابل هذا فلسفة أخرى: أن أحاديث الآحاد لا تفيد يقيناً، هذا ليس كلام علماء المسلمين الأولين، هذا كلام بعض فلاسفة المسلمين، حتى قال بعضهم شراً من ذلك، فقالوا: إن نصوص الشريعة كتاباً وسنة ظنية لا تعطي يقيناً مطلقاً، هذا قول الفخر الرازي وغيره، وإنما الذي يعطي اليقين إنما هو علم الكلام، أي: العلم الذي جاء به الناس من اجتهاداتهم وآرائهم منه نخرج بيقين، أما القرآن الذي هو {شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] بنص القرآن الكريم، وفيه {بَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] ففي دعواهم ليس هناك في القرآن حجة، وليس هناك في القرآن بينة يقينية، وإنما هي أمور ظنية هذا يقوله بعض الفلاسفة الإسلاميين أو علماء الكلام، يمزجون بهذا الكلام القرآن والسنة معاً، لا يفرقون بين القرآن والسنة، ولا بين السنة المتواترة أو غير المتواترة، كل ذلك لا يُعطي يقيناً عندهم، وأهون من هؤلاء شراً هم الذين خصوا هذا الكلام في حديث الآحاد، فقالوا: حديث الآحاد لا يعطي يقيناً، والعقيدة يجب أن تبنى على اليقين. ونحن نناقش هذه الدعوى من ناحيتين أو أكثر:

الرد على من رد حديث الآحاد في العقيدة

الرد على من رد حديث الآحاد في العقيدة نقول لهم: أولاً: قولكم: إن حديث الآحاد لا يعطي يقيناً؛ هذا لا دليل عليه إلا ظنهم، ليس عندهم دليل من الكتاب والسنة إطلاقاً بأن حديث الآحاد لا يعطي اليقين، وإنما يفيد الظن، فإن من أحاديث الآحاد في اصطلاح علماء الحديث الذي يرويه الرجلان والثلاثة، تتسلسل الرواية هكذا، بمعنى: إذا فرضنا حديثاً رواه ثلاثة من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أبو بكر وعمر وعثمان، أو غيرهم من الصحابة، ثم روى هذا الحديث عن هؤلاء الثلاثة ثلاثة من ثقات التابعين، كـ سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود بن يزيد وغيرهم، ثم عن هؤلاء الثلاثة ثلاثة من ثقات أتباع التابعين، من الذي يقول: إن هذا الحديث لا يفيد اليقين، وما الدليل على ذلك؟ وهو حديث آحاد، ثلاثة من الصحابة حفاظ لاشك عندنا في صدقهم أولاً، ولاشك عندنا في ضبطهم وحفظهم ثانياً، ثم ننتقل إلى الطبقة التي تلي هؤلاء من التابعين، ثم إلى الذين يلونهم، كلهم موصوفون بأنهم ثقات وحفاظ، من الذي يقول: إن هؤلاء إذا اتفقوا على رواية حديث بدون تمالؤٍ بينهم -أي: بدون تواطؤ- إنما مجرد تلاق، أي: أن فلاناً من الصحابة يقول: سمعت الرسول، وصحابي آخر يقول: وأنا سمعت الرسول، وصحابي آخر يقول: سمعت الرسول، ثم تابعي عن هذا وتابعي عن هذا وهكذا، فهذا الحديث عند علماء الاختصاص في الحديث يقولون: هذا الحديث يفيد اليقين؛ لأنه يستحيل عادةً مثل هؤلاء الثلاثة -وليس عددهم عدد التواتر- تواطؤهم عن الكذب، بل هناك حديث آحاد بالمعنى اللغوي، أي: ما رواه إلا فرد واحد، أما المثال السابق فهو حديث آحاد في الاصطلاح، وأما لغةً فقد رواه ثلاثة. الآن نأتي إلى حديث رواه فرد واحد من الصحابة وإسناده صحيح، لكنه اقترن به قرينة، وهي أن الأمة كلها تلقت هذا الحديث بالقبول، فلم يوجد فيهم -أولاً- من طعن فيه، ولم يوجد فيهم -ثانياً- من أعرض عنه ولو برد العمل به بعلة قادحة فيه، وإنما كلهم سلموا به، والذين لم يأخذوا به قالوا: عندنا ما هو أقوى منه، ولم يقولوا: حديث ضعيف، وإنما قالوا: عندنا ما هو أقوى منه دلالة من الناحية الأصولية، فمع أن هذا الحديث لم تجمع الأمة على الأخذ به، لكن الأمة مع ذلك تلقته بالقبول، حتى الذين لم يأخذوا به قدموا عذرهم في عدم الأخذ به. مثلاً: الأحناف لا يأخذون بحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، لكن لا يرفضونه بل يقولون: هذا حديث آحاد، وحديث الآحاد إذا عارض ظاهر القرآن لا يؤخذ به عندهم، ما قالوا: هذا حديث غير صحيح، فإذاً: هذا حديث يقال: تلقته الأمة بالقبول، وأنكر السلف بالعمل به، هذا النوع من الحديث وهو فرد غريب يقول علماء الحديث بأنه يفيد اليقين. إذاً: ليس هناك أدلة في الكتاب والسنة على أن الإنسان في حل من ألا يأخذ بالحديث الصحيح؛ لا لشيء إلا لأنه آحاد، وهذا بالإضافة إلى ما سبق من الأدلة العامة، فإنه يخالف أيضاً هدي الرسول عليه الصلاة والسلام وسلف الأمة، أما هديه عليه الصلاة والسلام فنعرف يقيناً أنه كان يرسل أفراداً إلى أشخاص من الملوك والرؤساء، أو إلى قبائل، كما فعل بالنسبة إلى علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل حينما أرسلهم إلى اليمن، وأرسل أفراداً آخرين كـ دحية -مثلاً- بكتابه إلى ملك الروم، ونحو ذلك، فكل هذه أدلة عملية من الرسول عليه الصلاة والسلام يصدق هذا المفهوم الصحيح، أنه لا فرق أبداً بين حديث عقيدة أو حديث أحكام؛ لأن الراوي فرد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل أولئك الرسل، نعلم بالضرورة أنه أرسلهم إلى أقوام ليفقهوهم في الدين، ويبلغوهم أيضاً ما تعلموه من الرسول عليه الصلاة والسلام، فنحن نعلم يقيناً أن معاذ بن جبل بلغهم العقائد، بلغهم بمعنى: أوضح الأحاديث التي سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي على القسمين السابقين: قسم منها فيها عقائد محضة، وقسم منها فيها أحكام مع عقائد. فهل قامت الحجة بإرسال الرسول عليه الصلاة والسلام لهؤلاء الأفراد ليعلموا أولئك الأقوام دينهم؟ نحن نقول جازمين: إن الحجة قد قامت عليهم، وأنه لا يمكن أن يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم فرداً لا يصلح لإقامة الحجة على أولئك الأقوام، الذين هم بحاجة إلى أن يقتنعوا بكلام الوسيط بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فـ معاذ وأبو موسى وغيرهم من الصحابة قد بلغوا أولئك الناس الإسلام الذي فهموه من الرسول عليه الصلاة والسلام وتلقوه عنه، وقامت الحجة بذلك؛ لأنه يستحيل أن يرسل الرسول عليه الصلاة والسلام من لا تقوم الحجة به، كما لو قيل: إن دحية لما ذهب إلى هرقل لا تقوم الحجة به؛ لأنه فرد، وخبر الفرد لا تقوم به الحجة إلا في الأحكام الشرعية، مع العلم بأن معاذاً وأمثاله إنما بلّغوا الشريعة بكاملها؛ عقيدة وأحكاماً شرعية. لذلك بالإضافة لتلك النصوص العامة لا يجوز للمسلم أن يفرق يبن حديث وحديث، وأن يجيز لنفسه رد حديث بمجرد أن فيه أمراً غريباً غيبياً. مثلاً: حديث عذاب القبر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول ... ) إلى آخر الحديث، الشاهد فيه: قال: (أما إنهما ليعذبان) وهم من هذه الأمة المكلفين وليسوا من الكفار، لكن ذنبهم أن أحدهما كان يسعى بالنميمة، والآخر كان لا يتحفظ من مساس البول، فكان يصيب بدنه وثوبه هذه النجاسة، فعذب على ذلك كل منهما في القبر هذا أمر غيبي هل يصدق بعذاب القبر أم لا؟ فلسفة سابقة تقول: لا؛ لأن هذا حديث آحاد، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما حدث بهذا الحديث سمعه ابن عباس، ماذا كان موقفه؟ آمن به بلا شك ولا ريب، فـ ابن عباس حينما حدث التابعي به ماذا كان موقف التابعي تجاهه؟ هو نفس موقف ابن عباس تجاه نبيه، وهكذا تسلسل العمل بالحديث بين الرواة بدون فلسفة التفريق بين العقيدة وبين الأحكام، ولذلك نحن ندعو دائماً وأبداً إلى أن نتفهم شريعتنا على طريقة السلف الصالح، فـ السلف الصالح من جملة طريقتهم وهديهم أن يتلقوا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يؤمنوا بها وأن يصدقوا بها؛ سواءً كانت في الأحكام أو في العقائد. ومن شاء أن يوجه سؤالاً حول هذا البحث، سواء كان سؤالاً توضيحياً أو سؤالاً استشكالياً؛ لأنه عندي لا فرق بين عقيدة وأخرى، سواءً كانت مفهومة عند البعض أو مجهولة عند الآخرين، فالآخرون يجب أن يتعلموا، والذين قد علموا يجب عليهم أن يبلغوا، ونحن نعتقد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا يحضرون مجالسه العلمية، لم يكونوا كلهم في نسبة واحدة في الثقافة الشرعية، ونعلم أن أبا بكر وأمثاله من كبار الصحابة كانوا يسمعون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام مراراً وتكراراً؛ لأنهم كانوا يحدثون أقواماً بما لم يسمعوا من قبل، فيكون حديث الرسول عليه الصلاة والسلام بالنسبة لبعض الناس تكراراً، وبالنسبة للآخرين ابتداءً، فيجب على الأولين أن يتحملوا هذا التكرار ثم لا يذهب ذلك عليهم سدى؛ لأن التكرار يركز بالمفاهيم في الأذهان، وأنا على يقين بأن الذين سمعوا هذا البحث مرة أو مرتين، لا يستطيعون أن يعلنوه إذا ابتلوا بأناس من علماء الكلام، من الذين تأثروا بهذه الفلسفة التي ليست من الإسلام في شيء، فإذاً: عليهم أن يصبروا إذا ما سمعوا التكرار في مثل هذا الموضوع، وأن هذا له علاقة بالعقيدة، والعقيدة يجب التثبت فيها ومعرفة أدلتها وطريقة مجادلة المخالفين فيها أكثر من الأحكام عند أولئك الناس الذين يفرقون بينها، أما نحن فالشريعة عندنا كلها عقيدة، وإذا لم تحمل ولم تقبل على العقيدة فلا فائدة من هذه الأحكام التي خلت من العقيدة، وهذا ما لا يقوله مسلم، لهذا أقول: من كان له سؤال فليتفضل.

حكم النية في تمييز العمل

حكم النية في تمييز العمل Q إذا أراد الإنسان أن يعمل عملاً فهل يستحضر حكم هذا العمل، كالسلام من صلاة الصبح أو من سنة الصبح، أم أنه يعتبر سنة لأنه من شعائر الإسلام؟ A يجب أن تعرف أنه كما لا يجوز أن تحط من الحكم، مثلاً: هو فرض فتنزل به إلى مرتبة السنة، وتعمل به على أنه سنة، كذلك لا يجوز أن ترفع من شأن الحكم، فإذا كان سنة وأنت ترفعه وتجعله في مقام الفريضة، فلا يجوز لا هذا ولا هذا أبداً، فالسلام عندما تسلم كالصلاة التي تصليها، عندما تصليها فأنت تستحضر في نفسك أن هذه الصلاة ليست فريضة، وإنما هي سنة الفجر كما قلت. وهذا يكفي. كذلك لما تقول لأخيك المسلم: السلام عليكم، أنت تؤسس في نفسك أن هذا السلام واجب، أو -لا سمح الله- إذا كنت تعتقد أنه سنة كما يظن البعض فتكون مخطئاً، فيكفي أن تقول: السلام عليكم، وأنت على علم بأن هذا من الواجب، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر به. السؤال: ألا يعد فعله هذا من شعائر الإسلام؟ الجواب: لا، لا يجوز، أليست الصلوات الخمس من شعائر الإسلام؟ أليس الأذان من شعائر الإسلام؟

مقتطفات من السيرة [3]

مقتطفات من السيرة [3] أمر الله تعالى المؤمنين بالاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، وجعله أسوة حسنة. ولذلك يجب على المسلم أن يتعرف على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله حتى يتسنى له اتباعه في كليات وجزئيات الشريعة. وهذه المادة تعد الفصل الثالث والأخير من (مقتطفات من السيرة النبوية العطرة) وقد تعرض الشيخ رحمه الله فيها لبعض المسائل المتعلقة بالسيرة والشمائل.

حال حديث: (أنا أول الأنبياء في الخلق)

حال حديث: (أنا أول الأنبياء في الخلق) Q يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث، وقد بعثت آخر الزمان لئلا تطلع الأمم على فضائح أمتي) أو كما قال، فنريد منكم شيخنا الحكم على هذا الحديث؟ A الشطر الأول من الحديث: (أنا أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث) حديث معروف، وهو من أحاديث الجامع الصغير، ومن معروفه أنه حديث ضعيف الإسناد لا تقوم الحجة به، ولا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ثبوته، هذا من حيث إسناده. وأما من حيث متنه، فلا يتصور أن يقول الرسول عليه السلام: إنه أول الأنبياء في الخلق، فأول الأنبياء كما نعلم آدم عليه الصلاة والسلام، وهو أبو البشر مطلقاً، فكيف يتصور أن يكون حفيده بعد مئات الأجيال محمد بن عبد الله قد خلق قبل جده الأول آدم عليه الصلاة والسلام؟! وقد يتأول بعض الناس مثل هذا الحديث بأن المقصود بالخلق الخلق المعنوي. فنقول: بهذا المعنى يخرج الحديث عن النكارة الظاهرة، ولكن هذا أيضاً يحتاج إلى إثبات، كون الرسول عليه السلام خلق من حيث المعنى قبل الأنبياء جميعاً، فهذا أمر غيبي يحتاج إلى إثبات، وليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا قوله عليه الصلاة والسلام الثابت عنه: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) وفي رواية: (كتبت نبياً) فهذا معنىً صحيح، أي: إن الله عز وجل كتب نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام قبل تمام خلق آدم عليه الصلاة والسلام، (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) هذا هو لفظ الحديث الصحيح المروي في مسند الإمام أحمد وغيره من كتب السنة المعروفة. وقد اشتهر الحديث عند الصوفية بمعنى: (كنت نبياً لا آدم ولا ماء ولا طين) الحديث بهذا اللفظ من الأحاديث الموضوعة المعروف وضعها عند العلماء. فإذاً حديث: (كنت نبياً -وفي اللفظ الآخر:- كتبت نبياً وآدم بين الروح والجسد) هذا صحيح، أما أنه كان أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث، فهذا حديث ضعيف. أما تمام الحديث وهو: (وقد بعثت آخر الزمان لئلا تطلع الأمم على فضائح أمتي) فهذا لا أعرفه حديثاً، وأظنه تعليلاً من بعض الشراح أو المعلقين على الحديث الضعيف.

حكم القول: بأن أول من خلق الله من البشر هو النبي صلى الله عليه وسلم

حكم القول: بأن أول من خلق الله من البشر هو النبي صلى الله عليه وسلم Q هل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول ما خلق الله من البشر؟ A ليس صحيحاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو أول ما خلق الله من البشر؛ لأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز للمسلم أن يتحدث فيها بالظن؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:36] . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) فإذا قال إنسان ما: إن الله عز وجل أول ما خلق -لا نقول: شخص محمد، وإنما كما يزعمون خلق- نور محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نقول: قال الله تبارك وتعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] . فمن أين علم هذا الزاعم الراجم بالغيب أن أول ما خلق الله خلق نور محمد عليه الصلاة والسلام، فسيقول في الحديث المعروف: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر!) فنقول: هذا حديث ليس له أصل في كتب الأمهات الست المشهورة، ولا السنن المعروفة عند أهل الحديث، ولا غيرها مما يبلغ المئات من الكتب، فهذا الحديث ليس له أصل إلا في أذهان الجهال، من الذين اتخذوا مديح النبي صلى الله عليه وسلم بالحق وبالباطل مهنة يعيشون من ورائها، فلا يجوز عند كثير من العلماء إثبات عقيدة بحديث صحيح، وإنما يشترطون في إثبات العقيدة بأن يكون الحديث متواتراً، ولا يكفي أن يكون صحيحاً فقط، ولو كان له طريقان أو ثلاثة، لا بد أن يكون جاء من عشرين طريقاً، أي: عن عشرين صحابياً؛ حتى تثبت العقيدة بذلك الحديث، ونحن وإن كنا لا نتبنى هذا الرأي؛ لأننا لا نفرق بين ما جاءنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم من عقيدة وما جاءنا عنه من حكم، فكل ذلك يجب اتباعه والاستسلام له، ولكننا نذكر بأن كثيراً من العلماء لما اشترطوا التواتر في الحديث الذي يراد إثبات العقيدة به، ما اشترطوا ذلك إلا حرصاً على ألا يعتقد المسلم ما قد يكون وَهِم فيه بعض الرواة، فمع الأسف نجد جماهير الناس اليوم يعتقدون عقائد قامت على أحاديث ضعيفة، بل وأحاديث موضوعة، كهذا الحديث: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر!) لذلك فلا يجوز للمسلم أن يعتقد مثل هذه العقيدة، لعدم ورودها في شيء من الأحاديث الصحيحة.

حكم إنشاد المديح في الرسول صلى الله عليه وسلم

حكم إنشاد المديح في الرسول صلى الله عليه وسلم Q هل صحيح ما يقال في الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أبصر الشيطان طلعة نوره في وجه آدم كان أول من سجد هذا سمعته من بعض المنشدين، فما حكم الإنشاد والمديح هذا؟ A البيت المذكور لا شك أنه ضلال، لا يجوز إنشاده، فضلاً عن مدح الرسول به؛ لأن مدحك للرجل بالباطل هو طعن في الواقع فيه، سواء شاء هذا المنشد أو أبى؛ لأنك إذا مدحت إنساناً بما ليس فيه، فكأنك تعني أن هذا ليس فيه من الممادح الحقيقية القائمة فيه حتى نمدحه بها؛ لذلك نحن نختلق من عند أنفسنا أشياء نمدحه بها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، فقد اصطفاه الله عز وجل لنبوته ورسالته، وخلَّقه بالأخلاق الكاملة، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . فليس هو عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى أن يمدح بمثل هذه الأباطيل، لا سيما وفي السنة الصحيحة -قسم منها متواتر، وقسم دون ذلك، وكله صحيح- ما يمكن للمسلم أن يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام به، أما أن يأتي إلى مثل هذا المديح الباطل، فهذا غلو في الدين، والله عز وجل قد حذرنا بتحذيره أهل الكتاب من الغلو في الذين فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171] . وقال عليه الصلاة والسلام موجهاً نفس هذا المعنى إلينا نحن معشر المسلمين مباشرة، وذلك حينما كان قريباً من منى، وأمر عبد الله بن عباس أن يلتقط له حصيات، وأشار إلى أن تكون الحصيات صغيرة بقدر حصى الخذف، وقال: (مثل هذه، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم غلوهم في دينهم) . فالغلو في الدين لا يجوز مطلقاً، وبخاصة ما كان منه متعلقاً بالعقيدة مثل الأمور الغيبية، فمثل هذا الزعم الذي زعمه هذا المنشد: لو أبصر الشيطان طلعة نوره في وجه آدم كان أول من سجد هذا من كلام الشعراء الذين يتبعهم الغاوون. إذاً: مثل هذا الإنشاد لا يجوز قطعاً؛ والكلام والنطق والتلفظ به لا يجوز؛ لأنه باطل، ولذلك حذر الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين من أن ينصاعوا في مدحه ولو في حدود الواقع، خشية أن يجرهم ذلك إلى مثل هذا الكلام الباطل، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) (لا تطروني) أي: لا تمدحوني، وبهذه المناسبة يجب التذكير بأنه ليس معنى هذا الحديث كما يذكر بعض الشراح: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، لا. وإنما لا تمدحوني مطلقاً؛ لأنه ليس بحاجة إلى أن يمدح، وذلك لأن اليهود النصارى إنما ضلوا ووصلوا إلى جعل عيسى ابن الله بسبب أنهم فتحوا لأنفسهم باب مدح عيسى عليه الصلاة والسلام. وكلنا يعلم أن معظم النار من مستصغر الشرر، فالشيطان من كيده لبني الإنسان، لا يفزعه بالموبقات وبالعظائم من الأمور المحرمة؛ لأن ذلك مما ينبه عدوه الإنسان فلا يتورط معه، وإنما يأتيه خطوة خطوة، فسداً للذريعة قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني) أي: لا تمدحوني مطلقاً (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) ومن الدليل على هذا الذي قلته: أن هذا الحديث أورده علماء الحديث ومنهم الإمام الترمذي في كتابه الشمائل النبوية، أورده تحت باب: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان الإمام الترمذي يفهم هذا الحديث: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، لم يتصل هذا المعنى بالباب، أو لم يكن الحديث مترجماً للباب؛ لأن هذا لا يدل على التواضع، وهو واجب على أي إنسان أن يقول للناس: لا تمدحوني بالباطل، هذا ليس تواضعاً، لكن التواضع هو إذا فهم الحديث على ظاهره، لا تمدحوني مطلقاً، هذا هو التواضع لماذا يا رسول الله وأنت أهل لأن تمدح؟ لأن فتح هذا الباب قد يؤدي بكم إلى الوقوع في مثل ما وقع فيه النصارى من الإسراف، وهذا في الواقع مشاهد اليوم بين المسلمين، وهذا بيت شعر أمامكم من أبيات كثيرة وكثيرة من قصيدة البوصيري وغيره: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم هذا مدح؛ لكنه كفر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع الجارية في زمنه وهي تقول: وفينا نبي الله يعلم ما في غد فقال: (لا يعلم الغيب إلا الله، دعي هذا) ، فكيف لو سمع الرسول عليه الصلاة والسلام قول البوصيري: ومن علومك علم اللوح والقلم ؟! لاشك أن هذا ضلال لا يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة. إذاً: فقطع دابر هذه المبالغات هو ألا يفتح المسلم باب المديح خاصة بالأناشيد هذه، ويكتفي بقراءة ما ثبت في السيرة من أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معجزاته وآدابه التي فتح بها هذه القلوب التي كانت عمياً. وإليك بعض الأمثلة الموضحة لهذا المعنى: عن عبد الله بن الشخير قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال عليه الصلاة والسلام: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) رواه أبو داود بسند جيد. ماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) ؟ أي: لما قالوا للرسول عليه السلام: أنت سيدنا، قال لهم عليه الصلاة والسلام: (السيد الله) أي: السيد الحقيقي هو الله، ولما قالوا له: (وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً) قال لهم عليه الصلاة والسلام: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) أي: لا تفتحوا على أنفسكم باب الانحراف عن الصراط المستقيم، بالغلو في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فيجركم الشيطان إلى الطرق المنحرفة عن الصراط المستقيم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) . كذلك يشير الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (ولا يستجرينكم الشيطان) إلى الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط على الأرض خطاً مستقيماً، ثم خط من حوله خطوطاً قصيرة، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يمد أصبعه على الخط المستقيم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ) . فالمبالغة في مدح الأنبياء والصالحين هي من الطرق التي يجر الشيطان المبالغين في المدح إلى طرق قصيرة، ويخرجهم بها عن الصراط المستقيم الذي هو طريق واحد لا ثانيَ له، هذا هو المقصود بقوله عليه السلام: (ولا يستجرينكم الشيطان) وبعبارة أصولية: إن الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (لا يستجرينكم الشيطان) وضع باب سد الذريعة، فهو ينهى عن المبالغة في المدح؛ خشية أن يؤدي إلى ما لا يجوز من الكلام كما فعل النصارى.

حكم إطلاق كلمة (سيد) على رسول الله

حكم إطلاق كلمة (سيد) على رسول الله Q نرجو البيان بالتفصيل في حكم استعمال كلمة (سيد) مثلاً: (سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) ، مع أنه ورد حديث: (السيد الله) . A (السيد الله) هو حديث صحيح بلا شك، وكذلك هناك أحاديث صحيحة أطلق فيها الرسول عليه الصلاة والسلام السيادة لنفسه بحق، وهو قوله في صحيح مسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة، أتدرون مما ذاك ... ) ثم ذكر حديث الشفاعة، وهو حديث طويل جداً، كذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، آدم فما دونه تحت لوائي يوم القيامة) . فالسيادة سيادتان: سيادة لا تليق إلا لله عز وجل، فهي التي عناها الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الأول حينما قال: (السيد الله) وهي السيادة المطلقة، والمناسبة التي ذكر هذا الحديث فيها تؤيد ذلك، فقد جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: (أنت سيدنا وابن سيدنا وأنت كذا وكذا ... ) -وذكروا ألفاظاً أخرى، فقال في الحديث هذا: (السيد الله) وفي حديث آخر قال لهم: (قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) ، أيضاً نفهم من مجموع الروايتين أن قوله عليه الصلاة والسلام: (السيد الله) هو تنبيه إلى أن السيادة الحقيقة إنما هي لله عز وجل، فخشي عليه الصلاة والسلام من مبالغتهم في وصفه، أن يؤدي بهم ذلك الوصف إلى الإشراك بالرسول صلى الله عليه وسلم مع الله ولو في اللفظ؛ لأنه من الفقه في التوحيد الذي يخفى على كثير من أهل العلم فضلاً عن غيرهم، أن الشرك له أقسام كثيرة، والذي يهمنا الآن هو التفصيل الآتي: شرك اعتقادي، وشرك لفظي، فحينما نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أولئك وقال لهم: (السيد الله) خشي عليهم أن يقعوا في الشرك اللفظي، أي: أن يقولوا لفظاً يمكن أن يطلق على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المعنى الحقيقي له إنما هو لله تبارك وتعالى، فبياناً لهذه الحقيقة قال: (السيد الله) وبياناً للسيادة اللائقة به عليه الصلاة والسلام، التي هي دون ودون ودون -أكرر ملايين (دون) - سيادة الله الحقيقية، هي هذه السيادة التي قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، أنا سيد ولد آدم) فبناء على هذا التفصيل: إذا قال المسلم في بعض الأحيان: سيدنا رسول الله، وهو إنما يعني السيادة اللائقة به، وهو نبي مصطفىً مخلوق، فهذا جائز بلا شك؛ لأنه سيد حقاً، لكن إذا قال: سيدنا، وضمن هذه اللفظة معنىً فوق مستوى البشر، فحين ذلك يقال له: السيد الله، السيادة الحقيقية هي لله عز وجل. ونجد أن الصحابة رضي الله عنهم نادراً ما كانوا يستعملون لفظة السيادة هذه؛ لأن الغالب عليهم أنهم يقولون: قال رسول الله، وإنما جاء في حديث موقوف في سنن ابن ماجة على ابن مسعود، أنه ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام لفظ: سيد المرسلين، ومع ذلك ففي السند ضعف، فإذا قال المسلم أحياناً: قال سيدنا رسول الله، من باب بيان أن للرسول عليه الصلاة والسلام هذه السيادة على جميع البشر، كما سمعتم آنفاً؛ فهذا حق، لكن الغالب أن يقول: قال رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام كما جرى عليه السلف الصالح، إلا في العبادات في الأوراد والأذكار التي جاءتنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم تعليماً منه لنا، فلا يجوز أن ندخل لفظة سيد في ورد من تلك الأوراد؛ وذلك لأن التعليم النبوي للمسلمين ليس فيه نقص حتى يأتي أحدنا فيستدرك هذا النقص عليه، فالله عز وجل حينما أنزل قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] قالوا: (يا رسول الله! هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال عليه الصلاة والسلام: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم. إلخ) لم يقل لهم: قولوا: اللهم صلِّ على سيدنا. وهنا أذكر وهماً شائعاً للتنبيه على خطئه، يقول بعضهم، ومع الأسف أنه من أهل العلم: كيف يأمر الرسول الناس أن يقولوا: سيدنا، وهو رسول الله وهو متواضع، ولا يليق بتواضعه أن يأمر الناس أن يسودوه، وأن يقولوا: اللهم صلِّ على سيدنا؟ هذه غفلة تشبه غفلة المستبيحين للتصوير الفوتوغرافي، بحجة أن الرسول لا يعرف ما يصير فيما بعد، ونسوا أن هذا الكلام: (كل مصور في النار) ليس من عنده، وإنما هو من الله، ونسوا أيضاً أن قول الرسول: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد) ليس من عنده، إنما هو من وحي السماء، فالله هو الذي أمر سيد الناس أن يأمر الصحابة أصالة وسائر الناس تبعاً بأن يقولوا: اللهم صلِّ على محمد، فلو أن الله عز وجل أراد أن يشرع للناس تسويد الرسول بالصلاة الإبراهيمية، لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس: قولوا: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، ويُقَرِّب هذا المعنى ما يأتي: تُرَى لما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام التحيات، وقال: (إذا جلس أحدكم في التشهد فليقل: التحيات لله) هل هذا تعظيم لنفسه أم تعظيم لربه؟ لا شك أنه تعظيم لربه، فهل يجوز لنا أن نقول: التحيات لله تعالى، التحيات لله عز وجل؟ هذا كله تعظيم لله عز وجل؟ ومع ذلك لا يجوز بهذه الصيغة؟ لأن هذا التعليم كامل أولاً، ثم هو من الله الذي أمرنا أن نعظمه ونبجله في صلاتنا بهذه الألفاظ: التحيات لله والصلوات والطيبات، فلو أراد الله زيادة التبجيل له لزاد هذه الألفاظ وعلمنا الرسول عليه السلام، وهذا كهذا، كما أنه لا يجوز للمصلي أن يقول: التحيات لله تبارك وتعالى، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وتحياته وسلامه. إلخ، كذلك لا يجوز أن يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد إلخ. والسر في هذا أن الأذكار توقيفية، أي: التعليم من الله للرسول والرسول بدوره للأمة، لذلك لا يجوز أن نقول: إن الرسول تواضعاً منه لم يقل: قولوا: اللهم صلِّ على سيدنا، وإنما نقول: إن كان الله أوحى إليه بلفظة (سيدنا) فما كان لرسول الله أن يكتم وحي السماء بحجة التواضع، وإن كان الله لم يوحِ إليه بذلك؛ فأحرى وأحرى ألا يجوز لنا أن نزيد شيئاً لم يوحَ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من السماء. فهذا جواب زيادة سيادة الرسول عليه الصلاة والسلام له سيادته اللائقة التي فضل بها على الناس جميعاً، ولكن نقول أحياناً: سيدنا رسول الله، تخصيصاً لهذه السيادة، ولكن لا نزيد هذه اللفظة في الأوراد التي علمناها الرسول عليه الصلاة والسلام.

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام Q رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام هل تحدث حقيقة؟ وما الدليل على ذلك؟ A إن كان الرائي رأى الرسول عليه السلام حقيقة فهي رؤية حقيقة، أي: إن رأى الرسول عليه السلام بأوصافه الثابتة في كتب السنة فقد رآه حقاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) . أما إن رأى صورة وقيل له: إن هذا رسول الله، كأن رآه مثلاً شيخاً فانياً، لحيته بيضاء كالقطن، فهذه ليست صفة الرسول عليه السلام، ونحو ذلك من الصفات، فمن رأى الرسول بأوصافه المطابقة للشمائل النبوية؛ فقد رآه حقاً وإلا فلا.

كيفية التحقق من رؤية النبي في المنام

كيفية التحقق من رؤية النبي في المنام Q من رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المنام هل يكون رآه على حقيقته؟ وما يدريه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريه أنه هو حيث لم يره في حياته؟ A إنه بعد أن يثبت أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام لا يكون هو في منامه متوهماً، وإنما هو على بصيرة بما يقول، فلا شك أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام. وسؤال السائل: ما يدريه وهو ما رأى الرسول في حياته؟ الجواب: إنه ليس كل من ادعى أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يقال: إنه رأى الرسول في المنام حقاً، وإنما إذا كانت الأوصاف التي رآها في المنام على الشخص الذي يدعي أنه رأى الرسول مطابقة لما ورد في كتب الحديث من شمائل الرسول؛ حينئذٍ نقول: رؤياه حق، أما إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأوصاف وشمائل تخالف الشمائل النبوية، فحينئذ يكون لم يرَ الرسول عليه الصلاة والسلام، فأظن أن السائل مستشكل أنه يسمع كل من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام فقد رآه حقاً. لا، إنما فيها تفصيل، من رآه مطابقاً لأوصافه وشمائله فقد رآه، وإلا فلا، وعلى هذا التفصيل يجب أن نفهم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) بعد ذلك تسأل الرائي وتقول له: من فضلك، صف لنا الرسول عليه الصلاة والسلام؟ مثلاً كيف كانت لحيته؟ سيقول لك: بيضاء مثل القطن، فهذا ما رأى الرسول عليه السلام؛ لأن الرسول ما شاب. وجاء في صحيح البخاري وغيره: (أنه كان في لحيته عشر شعرات أو إحدى عشرة شعرة بيضاء فقط) فإذا قال الرائي: أنا رأيت لحيته بيضاء بالمرة، نعرف يقيناً أنه ما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وإلا فما فائدة قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (فإن الشيطان لا يتمثل بي) هل هذا الشيطان الذي أوهم الرائي في المنام أنه الرسول وأنه شايب؟ والرسول غير شايب، إذاً: ما تشبه بالرسول عليه السلام. كذلك نسأله مثلاً: كيف رأيته، قاعداً أم ماشياً أم جالساً؟ فيجيب: رأيته ماشياً. ونسأله: كيف مشيته؟ يقول: مشي رافعاً عنقه. فهذا ليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن من شمائله وأوصافه أنه كان إذا مشى فكأنما ينصب من صبب عليه الصلاة والسلام، كان قوياً، وكان يسبق أقوى الرجال. إلخ، فإذا كان الرائي يصف أوصاف الرسول عليه السلام التي رآها في شخصه في المنام، فطابقت أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام التي رواها أصحابه الكرام، فتكون الرؤيا حق، وإلا فلا. ونستحضر بعض حالات للرائي: كل من ادعى بأنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإما أن يستطيع أن يصفه وأن يكون في ذهنه أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام، أو في ذهنه أنه هو فعلاً رأى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستطيع أن يصف أوصافه، أو ليس في ذهنه، كثير من الناس -وأنا منهم- يرى رؤيا، أي رؤيا، وفي الصباح تتبخر من ذهنه وكأنه ما رأى شيئاً، فأنا رأيت، لكن كيف؟ لا أدري، القضية ضائعة عليّ تماماً. فإذاً: الرائي للرسول عليه السلام هو بين حالة من حالتين: الحالة الأولى: وفيها حالتان: إما أن يستطيع أن يصف، أو لا يستطيع أن يصف، إما بنسيان، أو ما رأى في الحقيقة الصورة واضحة، مثلاً: قيل له في المنام: هذا الشخص الماشي أمامك هو الرسول عليه السلام، أو الواقف أمامك، ولم يرَ وجهه -مثلاً- فإذا كان لا يستطيع أن يصف فلا نقدر أن نقول له: أصبت أو أخطأت، الله أعلم، هذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: يستطيع أن يصف؛ لأنه رآه فعلاً كما تقدم في التفصيل السابق، فإذا وصفه أوصافاً مطابقة لأوصافه عليه السلام، وما هو معروف في كتب الحديث والسنة؛ فهي رؤيا حق (فإنه رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) وإذا جاءت الأوصاف مخالفة فهي -كما علمتم- ليست الرؤيا التي عناها الرسول عليه السلام.

كيفية رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لأهل الجنة والنار ولما يدخلها أحد

كيفية رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لأهل الجنة والنار ولمَّا يدخلها أحد Q كيف رأى النبي أهل الجنة وأهل النار قبل أن تقوم الساعة، حيث إن الجنة والنار لما يدخلها أحد؟ A هذا كما يقول الصوفية -تماماً-: كشف، لكن هذا كشف صحيح وخاص بالأنبياء والرسل، أما مثل هذا الكشف فلا يناله غير الرسول عليه الصلاة والسلام من بعده، هذا تمثيل يُمثَّل للرسول عليه السلام ما سيكون عليه أهل الجنة وأهل النار، وقد رأى ذلك في مناسبات شتى، منها في قصة كسوف الشمس، حين صلى الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف رأوه يتقدم كأنه يريد أن يقبض شيئاً، ثم رؤي يتقهقر، حتى تقهقرت الصفوف من خلفه فتداخلت الصفوف بعضها في بعض، ثم بعد الصلاة سألوه، فقال عليه الصلاة والسلام: (عرضت عليّ الجنة في جدار مسجدكم هذا، فرأيت نعيمها، ورأيت عنبها، فهممت أن أقتطف منها) ، ثم تذكر -فيما يبدو، وهذا ليس في الحديث- أنها محرمة إلا لمن دخلها، ثم عرضت النار فرأى لهيبها وأحس بحرارتها، فتقهقر عليه الصلاة والسلام فهذا تمثيل من رب العالمين القدير القادر على كل شيء للرسول عليه السلام ما سيكون عليه أهل الجنة في نعيمهم وأهل النار في جحيمهم.

الحكمة من زواجه عليه الصلاة والسلام بمارية القبطية

الحكمة من زواجه عليه الصلاة والسلام بمارية القبطية Q لماذا تزوج صلى الله عليه وسلم مارية القبطية مع توفر زوجات عنده في ذلك الوقت؟ وهل هناك سبب شرعي أو تفسير لعدم إعتاق الرسول صلى الله عليه وسلم لها وتزوجها؟ A هذا السؤال يتضمن سؤالين: السؤال الأول: لماذا تزوج الرسول عليه السلام مارية القبطية مع توفر زوجات عنده في ذلك الوقت؟ أقول بكل صراحة: لا أدري لماذا تزوجها، وإنما أدري يقيناً أنه فعل ما أباح الله له، فقد أباح الله له أن يتزوج ما شاء من النساء، أما لماذا تزوج المرأة الفلانية بالذات؟ فلا أدري ما هو السر، لكن أدري يقيناً أنه تزوجها لصالحها لا للإضرار بها، ولإحصانها لا لإفسادها إلى غير ذلك من المسائل التي لا نقدر الإحاطة بها، ولبعض الكتاب الإسلاميين كتابات لا بأس بها في تعليل أو فلسفة تزوج الرسول عليه الصلاة والسلام بنسائه الكثيرات، ويبينون ويعللون كل واحدة لماذا تزوجها فأم سلمة تزوجها لأن زوجها مات عنها، وخلف لها صبية، فتزوجها ليكون ولياً على هؤلاء الأولاد، وأن يقوم بتربيتهم والإنفاق عليهم، ونحو ذلك، وهذه السيدة عائشة تزوجها لأنها بنت صاحبه في الغار، وهذه حفصة. إلخ. فلكل زوجة أسباب وجيهة تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام من أجلها، لكن الأمر أوسع من ذلك، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يحيط بهذه الأسرار وبالحكم التي من أجلها تزوج الرسول عليه السلام بمن تزوج به منهن من النساء. أما الشطر الثاني من السؤال وهو قوله: هل هناك سبب شرعي لعدم إعتاق الرسول صلى الله عليه وسلم لها وتزوجها؟ كأن السائل يقول: لماذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل بزوجته مارية القبطية كما فعل بزوجته صفية؟ فـ صفية من الثابت أنه عليه السلام أعتقها، وجعل عتقها صداقها، وهي في صحيح البخاري ومسلم، والسائل يقول: هل هناك سبب يوضح ويبين لماذا لم يعاملها معاملته عليه السلام لـ صفية؟ لماذا لم يعتقها ويجعل عتقها صداقها؟ أقول أيضاً: لا أدري، ولكن من الأسباب الواضحة أن في ذلك بياناً لجواز التزوج بالأمة التي ليست بحرة، وأنه لا يجب على الحر أن يعتق الأمة إذا أراد أن يتزوجها، وإنما ذلك من فضائل الأعمال، فقد جمع الرسول عليه الصلاة والسلام حينما تزوج صفية وجعل عتقها صداقها، وحينما تزوج مارية القبطية على بقائها في رقها، قد جمع الرسول عليه الصلاة والسلام بهذين النقيضين بين بيان ما هو الأفضل، وبين بيان ما هو أمر جائز، هذا الذي يبدو لي من الإجابة على هذا السؤال.

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم Q خلاصته أن خطيباً ذكر قصة رجل أصيب بالشلل، وذهب إلى ألمانيا للعلاج ولم يشف، فذهب إلى المدينة إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام وطلب منه الشفاعة، فرأى في المنام أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: اذهب إلى العالم الفلاني يقرأ عليك بعض الآيات ليزول عنك المرض! فما رأيكم في ذلك؟ A ممكن أن يقع للإنسان كما في الرؤيا السابقة؛ لأنه من الممكن أن يرى الإنسان الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام حقيقة، وممكن أن يكون ذلك توهماً، ودعاء الرجل الصالح كثيراً ما يظهر كالشمس في رابعة النهار، نحن لا ننكر هذا. ولكن زماننا هذا فيه كذب كثير، وفيه خرافات، وفيه بدع ومبالغات، ثم يقولون: هذه الرواية صحيحة وصادقة وليس فيها أي شيء، إلا أنه جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم واستشفع به!! فإنه فعل شيئاً لا يجوز في الشرع.

مقتطفات من السيرة النبوية [2،1]

مقتطفات من السيرة النبوية [2،1] بدأ الشيخ هذه المادة بمواصلة القراءة في كتاب "الترغيب والترهيب" للمنذري، حيث وصل إلى كتاب "الترغيب في عيش السلف"، فأورد الأحاديث الدالة على صبره صلى الله عليه وسلم على الأذى في سبيل إتمام رسالته، وزهده في عرض الدنيا. ثم أجاب عن سؤال متعلق بحكم الاعتقاد بالأحاديث التي تتعلق بأمور الدين والعبادات دون الأحاديث المتعلقة بأمور الدنيا، ذاكراً بعض الأمثلة على ذلك. بعد ذلك تكلم عن حكم إدراج بعض الألفاظ في النصوص التوقيفية، مع إيراد بعض الأمثلة في هذا السياق.

صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على الأذى في سبيل الله

صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على الأذى في سبيل الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. نعود بعد توقفنا السابق إلى كتابنا الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، ونحن على شرطنا الذي طالما ذكرناه وذكرناكم به مراراً وتكراراً، وهو ألا نسمعكم من أحاديث هذا الكتاب إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على طريقة علماء الحديث، من حيث ثبوت السند، وثقة الرواة والرجال، وكان درسنا الأخير وصل إلى الحديث التاسع والعشرين من كتاب: الترغيب في عيش السلف التاسع والعشرين بالنسبة للطبعة المنيرية، فقال المصنف رحمه الله: وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لقد أُخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال) . الشاهد من هذا الحديث المناسب لهذا الباب الذي نحن فيه إنما هو طرفه الثاني، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال) يعني: إلا شيء من خبز يابس من الشعير كما علمتم من الأحاديث السابقة، وهذا الحديث سواءً بطرفه الثاني أو الأول إنما هو كناية، بل دليل واضح على شدة ما ابتلي به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سبيل دعوته دعوة الحق، دعوة التوحيد التي جاهد المشركين في سبيلها أكثر من عشرين سنة، ولاقى في سبيل ذلك المتاعب والمصاعب والجوع، وهذا ما يصف به نفسه عليه الصلاة والسلام بقوله أنه أوذي أذى لم يؤذ أحد بمثله، وأخيف أيضاً إخافة لم يخف مثله سواه عليه الصلاة والسلام، وكذلك لقي من الجوع ما لا يكاد يتصور؛ وذلك أنه مضى عليه صلوات الله وسلامه عليه ثلاثون يوماً بليلها ونهارها، ولا يجد من الطعام إلا ما يحمله بلال خادمه ومؤذنه تحت إبطه، وهذا كناية عن أن هذا الشيء الذي يحمله من الطعام هو شيء قليل؛ لأنه ما الذي يستطيع أن يحمله الإنسان في هذه المدة الطويلة تحت الإبط إلا أن يكون كسرات من خبز، أو تمرات من تمر تلك البلاد. فإذاً: يجب علينا أن نأخذ من هذا الحديث ومن أمثاله من أحاديث سبقت، وأخرى تأتي: أسوة لنا برسولنا صلى الله عليه وسلم، فنصبر في سبيل الدعوة، ولا نتكلف التعب، والنصب، والمشقة؛ لأن ذلك ليس أمراً مرغوباً في الشرع، ولكن علينا إذا أصبنا في سبيل دعوتنا بشيء من ذلك التعب والنصب أن نصبر على الجوع، والعطش، والأذى، والأمر كما قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فليست الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم محصورة بالاقتداء بصلاته وصيامه وسائر عباداته فحسب، وإنما الأسوة به صلوات الله وسلامه عليه تشمل كل نواحي الحياة فهي تشمل الأسوة به في عبادته، وكذلك في خلقه، وأيضاً في صبره وفي تحمله المشاق في سبيل دعوته، كل ذلك مما يجب علينا أن نتخذ فيه نبينا صلوات الله وسلامه عليه أسوة حسنة لنا. هذا الحديث صحيح، ويقول الحافظ المؤلف: رواه الترمذي، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال المؤلف: ومعنى هذا الحديث حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من مكة ومعه بلال، إنما كان ما مع بلال من الطعام ما يحمله تحت إبطه.

زهد الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا

زهد الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا الحديث الذي بعده وهو صحيح أيضاً قال: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً -يعني: شيئاً من الفراش من تحتك تدفع به أثر الحصير في جسدك، يكون لك شيء طري من تحتك- فقال عليه الصلاة والسلام: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) . وفي هذا الحديث كناية عن أن الذي يكون في سفر، وعلى عجل، فينزل تحت شجرة ولا يؤسس ولا يبني تحتها؛ لأنه عما قريب راحل، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه حينما شبه نفسه في هذه الحياة الدنيا، في هذه العاجلة الفانية، كالرجل المسافر ينزل تحت الشجرة يستظل بها، فهو سرعان ما يرحل عنها ويدعها، ففيه حض على ألا يتكلب وألا يتمسك المسلم بهذه الدنيا وبحطامها وزخرفها وزينتها، اللهم إلا بمقدار ما يساعده على القيام بحق العبادة لله عز وجل، هذه العبادة التي من أجلها خلقنا كما قال ربنا عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . هذا الحديث أيضاً صحيح، وقال المصنف في تخريجه: رواه ابن ماجة، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والطبراني ولفظه: هذا اللفظ طويل وفي سنده ضعف، ولذلك على الشرط السابق اجتنبته. الحديث الذي بعده وهو صحيح أيضاً، وهو قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: (يا رسول الله! لو اتخذت فراشاً أوفر من هذا، فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب سافر في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها) رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي. ومثلما تقدم قوله: وعنه -يعني: ابن عباس - قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره ... ) والإزار هو: الثوب الذي يغطي أسفل البدن، والرداء هو الذي يغطي أعلى البدن، وهذا أيضاً مما يصف فيه الراوي الرسول عليه الصلاة والسلام، أنه لما دخل عليه لم يكن عليه من الثياب إلا الإزار الذي يغطي به عورته عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك يصف البيت والغرفة التي كان فيها، والفراش الذي كان جالساً عليه قال: [فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقرض في ناحية في الغرفة] هذا كل الزاد الذي يوجد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس هو إلا الحصير، والقبضة من الشعير، وقليل من القرض الذي كانوا يدبغون به الإهاب، أي: الجلود قبل دبغها قال: [وقرض في ناحية في الغرفة، وإذا إهاب معلق -كأن هذا القرض هيئ لدبغ هذا الإهاب- وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي] بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا ابن الخطاب؟! فقال: يا نبي الله! وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى من الشعير والقرض، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك -لماذا لا أبكي وأنت سيد البشر، وأنت في هذا الفقر، وأولئك الكفار ملوك كسرى وقيصر يعيشون في النعيم، في الحرير وفي الأنهار- قال: يا ابن الخطاب! أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟) . هكذا الحديث ينتهي هنا في هذا الكتاب، ولكن يجب أن يستدرك عليه زيادة ابن ماجة، (قلت: بلى) هذه الزيادة لم ترد في الكتاب هنا في هذه النسخة، فتستدرك عند من كانت عنده نسخة كنسختي، قال: (يا ابن الخطاب! أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى) رواه ابن ماجة بإسناد صحيح، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. عندي هنا استدراك على هذا التخريج، قلت: وفي استدراكه على مسلم وهم، وفي عزو المصنف لـ ابن ماجة تقصير، فقد أخرجه مسلم في الجزء الرابع في الصفحة الثامنة والثمانين بعد المائة، إلى التاسعة والثمانين بعد المائة في قصة اعتزاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نساءه بلفظ ابن ماجة وإسناده. إلى آخر التعليق. فالمصنف عزاه فقط لـ ابن ماجة ثم للحاكم، وذكر أن الحاكم صححه على شرط مسلم. وهنا وهم من جهة الحاكم، وتقصير من جهة المؤلف، فالوهم من جهة الحاكم لأنه خرّج هذا الحديث في كتابه المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم، وإنما يخرج في كتابه المذكور ما لم يأت في صحيح البخاري أو صحيح مسلم، ويكون الحديث على شرطهما أو شرط أحدهما، ففي هذه الحالة يورد الحديث ويقول: صحيحٌ على شرط البخاري، أو صحيح على شرط مسلم، فهذا الحديث استدركه الحاكم وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم، وفاته أن الإمام مسلم رواه في صحيحه، كما رواه الحاكم في مستدركه، ومن هنا يتبين تقصير المصنف؛ حيث اقتصر في تخريج الحديث على عزوه لـ ابن ماجة والحاكم، وكان الأحق أن يعزى لـ صحيح مسلم، ولكن بُعد المخرج عن مظنة الإنسان أبعد المصنف عن أن يستحضر عزوه لـ صحيح مسلم؛ لأن مسلماً إنما روى هذه القطعة بمناسبة اعتزاله عليه الصلاة والسلام لنسائه، في قصة معروفة أخرجها مسلم بكاملها. وفي تضاعيفها لما بلغ عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه، جاء إليه ليواسيه عليه الصلاة والسلام، أو يساعده على ما هو فيه، فلما دخل عليه رأى ما جاء في هذه الرواية، وفي هذه القصة بتمامها جاء هذا المقدار منها في صحيح مسلم، فلم يتنبه لذلك الحاكم، ثم المؤلف، وهذا يقع لكل مؤلف؛ لأن العصمة لله وحده سبحانه وتعالى.

حكم التفريق بين الأحاديث المتعلقة بأمور الدين والمتعلقة بأمور الدنيا

حكم التفريق بين الأحاديث المتعلقة بأمور الدين والمتعلقة بأمور الدنيا Q هناك من يرى في الأيام الحاضرة، أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالعبادات ملزمة للمسلم أن يعتقد بها، في حين أنهم لا يرون ذلك بالنسبة للأحاديث المتعلقة بأمور الدنيا، ويرون أن العقل البشري يمكن له أن يحكم عليها بالصحة والبطلان، تبعاً لتطور الفكر ومكتشفات العلم، ويؤيدون ما يذهبون إليه بحادثة تأبير النخل، وحادثة تمركز جيش المسلمين في غزوة بدر عند الماء، كما أنهم يقولون في الصحابة: إنهم رجال، ونحن رجال، وإنهم خاضعون للنقد في سلوكهم وأقوالهم شأن أي من الرجال، فالرجاء بيان الرأي في ذلك مع الشكر. A هذا السؤال كما لاحظتم يتضمن سؤالين: أولهما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام وأقواله، والتفريق المزعوم بين ما له علاقة بالدين والعبادة، وما له علاقة بغير ذلك. والسؤال الثاني الذي يتعلق بالصحابة، ولست أدري ماذا أراد السائل من الربط بين السؤال الأول والآخر، إلا أن يكون يعني حكاية عن أولئك الناس: أن هذه الأحاديث التي ترد عن الرسول عليه الصلاة والسلام مرفوعة إليه، وفيها إشكال أو فيها مخالفة للعلم -زعموا-، كحديث الذباب مثلاً: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ... ) إلخ، فلعل السائل يعني بالسؤال الثاني: أن مثل هذه الأحاديث التي أشار إليها في سؤاله الأول، والتي ليست من أمور الدين في شيء -بزعمهم- إنما رواها هؤلاء الصحابة، وهؤلاء الصحابة إنما هم بشر مثلنا، فيجوز عليهم الخطأ، فكأن قصد السائل فيما يشرحه عن أولئك الناس في هذا الزمان أنهم يقولون: إن ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مما له علاقة بالدين والعبادة المحضة، فنحن له خاضعون ومستسلمون، أما ما جاءنا عنه من غير ذلك مما له علاقة بالكون، والفلك، والبحار، والجبال، وغير ذلك من أمور الطبيعة، فنحن لسنا مكلفين ولا متعبدين بالخضوع لها والاستسلام لها؛ لأمرين اثنين: الأمر الأول: أننا إذا سلمنا بصحة هذه الأحاديث ونسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول بشر ويجري عليه ما يجري على البشر؛ إلا فيما يتعلق بالدين، وهذه الأمور في زعمهم ليس لها علاقة بالدين، فإذا جاءت مخالفة لما ثبت في العلم التجريبي؛ فحينئذٍ نحكم بأن ذلك من أخطاء الرسول عليه الصلاة والسلام في الأمور الدنيوية، ومثال ذلك ما جاء في السؤال: حديث تأبير النخل، أو يقولون: إن الذي روى الحديث ونسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هو صحابي أو من دونه، فهو ليس بمعصوم فيكون قد أخطأ، فدلنا على كون هذا الحديث خطأً العلم التجريبي زعموا. وهو يقول: لا شك ولا نحابي نحن في دين الله أحداً، ولا نمشي فيما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام بعواطفنا، وإنما بعقولنا وعلمنا المستقى من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله، ونحن نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً في كل شيء، لكنه معصوم في كل شيء أن يقرَّ على شيء من هذه الأشياء وهو مخطئ في ذلك، فهنا شيئان يجب التمييز بينهما: الشيء الأول: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يخطئ، ولا حاجة بنا إلى الإكثار من الأدلة على ذلك؛ لأن القرآن يقول: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] من الذي لا يفهم من هذا أنه كان الأولى ألا يأذن لهم؟ فيكون هذا خطأ، كذلك قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1-2] إلى آخر الآيات، فهذه الآيات فيها أشياء كثيرة جداً. أخيراً: يأتي حديث تأبير النخل، حيث قال لهم: (لو تركتم النخل بدون تأبير -أي: بدون التطعيم الذي كانوا يعرفونه بالتجربة- لكان خرج خيراً مما تفعلونه) وشاء الله عز وجل أن يطبق في هذه الحادثة بعينها سنته عز وجل في النخل، فجاء النخل شيصاً، أي: عبارة عن بذرة وقشرة ليس فيها لب، ناشف، فجاءوا إليه يقولون: الأمر كذا وكذا، فقال: (إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من أمر الله عز وجل فأتوا منه ما استطعتم، وإذا أمرتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمور دنياكم) انتهى الحديث. فنحن نلاحظ أن قضية تأبير النخل قضية مهنية دنيوية محضة، لا ضير على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا عيب، ولا نقص ألا يكون مؤبراً، ولا مزارعاً، ولا حداداً، ولا نجاراً. إلخ، لماذا؟ لأن هذه أمور دنيوية، لكن فيما يتعلق بالدين، والدين ليس فقط عبادات كما يزعم هؤلاء الذين يحكي عنهم السائل، فالدين فيه أمور تتعلق بالعبادات، وفيه أمور تتعلق بالمغيبات، وفيه أمور تتعلق بنظم يسمونها اليوم في الاصطلاح الجديد بالاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتربوية إلى غير ذلك مما هو معلوم، فالإسلام جاء كاملاً وشاملاً لكل ما يحتاجه البشر من نظم {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] . ولذلك إذا جاء حديث ما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه من أمور الدنيا، وليس من أمور الدين، ومثاله حديث الذباب الذي ذكرناه آنفاً، ومثال ذلك: (الحبة السوداء شفاءٌ من كل داء إلا السام) أي: الموت، وهذا منه شيء كثير وكثير جداً، بعد أن يصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا يجوز أن نجعل هذا النوع من أمور الدنيا التي لنا الخيرة فيها، ولنا أن نأخذ بها أو لا نأخذ، أو نصوبها أو نخطئها، والسبب في ذلك من ناحيتين: الناحية الأولى: ما ذكرته آنفاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام إن أخطأ -وقليلاً ما يخطئ- فلا يقر على خطئه، فإذا جاء الحديث وقد تلقاه الصحابة، وتلقاه من بعدهم، وهكذا جيل عن جيل، حتى وصلتنا هذه الأحاديث على أنها حق وصدق من حيث الرواية، ومن حيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام تكلم بها، وأقره الله تبارك وتعالى عليها، فلا يمكن والحالة هذه أن نقول: إن هذه من أمور الدينا، هذا من ناحية. أنا أقول: عجباً من هؤلاء الناس! لو أن إنساناً عادياً ليس له من خلقه ومن كماله ما هو جزء من مليون جزء من كمال الرسول عليه الصلاة والسلام، لو قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، ثم ليخرجه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء) ماذا نقول عن هذا الإنسان؟ نقول كما قيل في بعض القضايا، أو في بعض العلماء، لما قيل لبعض الظرفاء والأدباء: فلان كذا وكذا في العلم، وفي حفظه للحديث، فذهب ليزوره، فلما خرج من عنده سألوه: كيف رأيته؟ قال: إما أنه أحفظ الناس، أو أكذب الناس، لماذا؟ لأنه سمع منه أشياء، وعلى الرغم من أنه يكاد يكون مقراً له من حيث الحفظ والرواية، ولكنه أسمعه أشياء ما سمعها في حياته كلها. إذاً إما أنه من أحفظ الناس أو أكذب الناس. كذلك يمكن أن نقول: إذا تحدث إنسان عادي في هذا الأمر الغريب، فقال: إن هذه الحشرة الصغيرة في أحد جناحيها داء، وفي الآخر دواء، ماذا نقول عنه؟ إما أنه دجال، وإما أنه أوتي من العلم ما لم يؤت الناس، لا مناص من أحد شيئين: إما أن يقال: يمكن أن يكون هذا باجتهاد من عنده، وهو لم يتعلم أي علم؛ لا طب، ولا جراحة، ولا تشريح، ولا أي شيء، مع هذا هل يقال: قال هذا برأيه؟ لا. هذا صنيع الدجالين. لذلك أنا أقول: هؤلاء الناس بسطاء العقول، فهم ينسبون إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يتحدث عن أمور غيبية دقيقة ودقيقة جداً، حتى هذا العلم الذي يفخرون به اليوم لم يدندن حول هذه الحقيقة بعد ولا استطاع، على الرغم من أن بعض المتحمسين يقولون: ثبت حديث الذباب علمياً، ونحن نقول: ثبت شيء منه، لكن التفصيل الذي تضمنه الحديث لم يتحدث عنه هذا العلم التجريبي التشريحي حتى الآن، ولعله يمكن أن يصل إليه يوماً ما؛ ذلك لأن العلم اليوم يقول: إن الذبابة تحمل في جناحيها وفي بدنها نوعاً من الجراثيم، وأظن أنهم يسمونها بالبكتيريا، وهذه الجراثيم تفتك وتقتل الجراثيم الضارة، هذا كل ما قاله الطب، وهذا فعلاً لم يكن معلوماً من قبل، لكن الحديث يأتي بتفصيل دقيق، يقول: الجرثوم القاتل في أحد جناحيه، والجرثوم القاتل للجرثوم القاتل في الجناح الآخر، هذا الطب لا يعرفه أبداً، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] . إذاً: كيف نقول: إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام هذا هو برأي من عنده؟! هذا لو قاله إنسان عني أنا، فسأقول: إنه يطعن فيّ؛ لأنه ينسب إلي أنني أقول رجماً بالغيب، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بمثل هذا الكلام! إذاً: ما دام أن الحديث صح فوجب الإيمان به، ووجب إدخاله في الدين، والدين ليس فقط عبادةً، وصلاةً، وحجاً، وإنما كل شيء جاء عن الله ورسوله، ورسوله قد أُقِّر على ما قاله ولو باجتهاد من عند نفسه فهو دين. كذلك من خلال حديث آخر، والأحاديث في هذا كثيرة جداً: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت) هل يقول هذا إنسان اجتهاداً من عند نفسه؟ الجواب: لا يقول هذا إلا الدجالون، الذين يريدون أن يسيطروا على عقول الناس، وأن يبتزوا منهم أموالهم بالباطل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن ذلك، فهو إذاً يقول ما سمع من الله تبارك وتعالى. لذلك فالأحاديث التي تصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد جاءت مقررة ولم تنسخ، ولا بخبر أن يقول: هذا رأي من عندي. كما سمعتم في تأبير النخل؛ فحكمها حكم الصلاة والزكاة، وكل الأحاديث التي لها علاقة بشريعة الله تبارك وتعالى. وهذه الأحاديث رواها أولئك الصحابة، والتابعون، والآخرون الذين جاءوا من بعدهم، الذين رووا لنا القسم الأول من الدين، والذي يريد هؤلاء الناس أن يجعلوه هو الدين كله، فنحن نقول لهؤلاء المحدثين المبتدعين في الدين كما قال سلفنا الأول للمبتدعين السابقين، حينما جاءوا ببدعة التفريق بين الحديث الذي له علاقة بالأحكام، وكان الراوي ثقة يحتج بهذا الحديث، وبين هذا الحديث أو مثل هذا الحديث الذي يأتي وليس له علاقة بالأحكام، وإنما له علاقة بالعقيدة، وله علاقة بالغيب، قال هؤلاء المبتدعة القدامى: لا نأخذ هذا الحديث حتى يبلغ مبلغ التواتر فرد

حكم إطلاق لفظة (السيد) على رسول الله صلى الله عليه وسلم

حكم إطلاق لفظة (السيد) على رسول الله صلى الله عليه وسلم Q يسأل السائل عن حديث يبدو منه أنه يخالف تقريرنا السابق في جواز إطلاق لفظة: (سيد) كما أطلقها الرسول عليه الصلاة والسلام على سعد بن معاذ، وهناك حديث آخر يبدو أنه ينافي هذا؟ A هو ليس كذلك عند إمعان النظر فيه، وذلك الحديث يقول: إن جماعة أتوا الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، فأجابهم بقوله عليه الصلاة والسلام: (السيد الله) فواضح أنه لم يرض منهم هذا الإطلاق للفظة السيادة على من هو سيد البشر جميعاً عليه الصلاة والسلام، مع ذلك فالظاهر من الحديث أنه لم يرتض منهم قولهم له: أنت سيدنا، بينما في حديث آخر فيما يشبه هذه القصة، قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال لهم: (قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم هذا، ولا يستجرينكم الشيطان) ، الحديث الذي قبل هذا يُفَسَّر على ضوء هذا، لما قال لهم: (السيد الله) كأنه عليه الصلاة والسلام أحس أن هؤلاء يقدسونه بهذه اللفظة تقديساً، ويرفعونه فوق المنزلة التي وضعه الله فيها، وهذا غير جائز شرعاً، كما جاء في الحديث صراحةً: (لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله فيها) ، فكأنه عليه الصلاة والسلام سمع من الطائفة الأولى هذه اللفظة مكسية بشيء من القداسة، التي يُخشى منها أن توصلهم إلى الشرك، أو على الأقل إلى شيء من الشرك، ولذلك سد عليهم الباب، وقال لهم مبيناً أن السيادة الحقيقة إنما هي لله تبارك وتعالى، فقال لهم: (السيد الله) لكن هذا لا يعني: أنه لا يجوز للمسلم أن يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه سيدنا، كيف وهو الذي أخبرنا في غير ما حديث أنه سيد الناس يوم القيامة! وآدم فمن دونه تحت لوائه عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، لكن يريد منا أننا إذا أطلقنا هذه اللفظة عليه وهو أهل لها، ألا نطعمها ولا نمزجها بشيء من الغلو فيه، مما حذرنا منه الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة، من ذلك الحديث المتفق عليه عند الشيخين: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) ، فهذا ما يخشاه عليه الصلاة والسلام حين يسمع من بعض الناس مثل تلك اللفظة، والناس ليسوا كلهم سواء في هذا المحذور، فإذا أحس الرسول عليه الصلاة والسلام من بعضهم شيئاً من هذا المحذور؛ قطع بينهم وبين هذا اللفظ، وألفتهم إلى ربهم عز وجل الذي هو له السيادة المطلقة، لهذا قال لهم: (السيد الله) . بينما الجماعة الأخرى عاملهم معاملة أخرى، فقد لفت نظرهم إلى ما قد يخشى من هذا الاستعمال، ولذلك قال لهم: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) ، بين هنا الرسول عليه الصلاة والسلام المحذور الذي قد يقع من مدحه عليه الصلاة والسلام ولو بشيء هو متلبس فيه، وهو صفة تامة له، فكأنه يقول لهم: قولوا: يا سيدنا، ولكن احذروا أن تجركم هذه الكلمة إلى أن تقولوا فيه عليه الصلاة والسلام ما لا يجوز فسبحان الله! إن النبي عليه الصلاة والسلام كما قال الله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] فالذي خشيه الرسول على أمته وقعت فيه الأمة إلا القليل منهم، وهم الذين يحرصون دائماً على التمسك بالسنة، وترك العواطف التي تجمح بصاحبها ولا تعرف حدوداً لها، فالعواطف هنا تفسد على الإنسان عقيدته وفكره، لذلك تجد بعض الناس اليوم يُسأل مثل هذا السؤال: هل الأفضل أن نقول في التشهد: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، أو أن نقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد إلى آخر الصلوات؟ والذي يدفع الناس إلى مثل هذا السؤال وهو سؤال مبتدع، ولم يخطر في بال السلف الصالح إطلاقاً، والسبب أنه لم يوجد موجبه، فلم يكن في الصحابة من يرى أن هناك هدياً أحسن وأهدى من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام. وقد يقول قائل: ولا أحد يقول ذلك اليوم، نقول: بل هناك أناس في واقع حياتهم يقولون: إن هناك أهدى من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لا يتجرءون على أن يتلفظوا بذلك؛ لأنه ضلال مبين ومكشوف، لماذا؟ لأنك تقول لأحدهم: يا أخي! لا تفعل كذا، فيقول: لماذا؟ فتقول له: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، فإن قال: فكيف أثبت ما فعله الرسول؟ نقول: إما أن تثبت أن الرسول فعل، أو تثبت أن الرسول أمر أو حض، وإلا فارجع عن كلمتك، وإلا فمعنى كلامك: أن هداك خير من هدى الرسول، وهديك خير من هدي الرسول، وهذا هو الكفر بعينه. فلم يكن في السلف من يقول في الصلاة: اللهم صلِّ على سيدنا؛ لأنهم تلقوا الأمر من الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا، وهم لا يخالفون الأمر بفلسفتهم وآرائهم الخاصة، بخلافنا نحن اليوم. أنا أقول دائماً وأبداً: لو فتح باب إلحاق مثل هذه الألفاظ بآراء الناس لتغيرت الشريعة، ولأصابها ما أصاب شريعة التوراة والإنجيل، لكن وقف الناس -وهذا من فضل الله علينا وعليهم جميعاً- عند بعض الألفاظ، وإلا لو اعتقدوا برأيهم وقدموه لخرجوا بالكلية عن الشريعة، فلما نزل قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] قالوا: (يا رسول الله! هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد) إلى آخر الصلاة المعروفة فهل يتصور عالم -الجاهل ما لنا وله- يسمع هذا الأمر من الرسول مباشرة يقول لهم: (قولوا اللهم صلِّ على محمد) وإذا به بينه وبين ربه في التشهد يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم إلخ، أما الصحابة، أما التابعون، أما أتباعهم، فهذا نعتبره مستحيلاً عليهم، أما المتأخرون فحدث ولا حرج. وكنت أقول: مثل هذا يجر بعض الناس إلى زيادات أخرى، ولكنهم لا يفعلونها، فمثلاً: التحيات لله، لماذا لا يقولون: لله سبحانه وتعالى؟ والله أحق بالتبجيل والتعظيم، لماذا لا يقولون: التحيات لله عز وجل؟ لماذا لا يقولون: التحيات لله مولانا وسيدنا وهو السيد الأصل؟ فكنت أطرح هذا الإشكال لأردهم عن تلك الزيادة للفظة (سيدنا) ، وإذا بي أنتبه من بعض المصلين عندنا في المسجد إلى أن أحدهم يأتي بزيادات في التشهد ما سمعتها طيلة حياتي؛ لأنه لا توجد عنده ضوابط، ولا يوجد عنده قيد أن خير الهدى هدى محمد، وأن تعليمه كامل وليس بقاصر، فليس عنده هذه الفكرة. وقد يكون -كما أشعر- عنده شيء من الدراسة الفقهية المتوارثة اليوم، لكنه ما سمع في حياته بأن خير الهدى هدى محمد معناه: ألا تزيد على ما جاء في السنة ولو حرفاً واحداً.

حكم الزيادة على التشهد ودعاء الأذان

حكم الزيادة على التشهد ودعاء الأذان لقد أعجبني -ورويت هذا من قبل- ما وقفت عليه حديثاً، حيث وجدت لأول مرة في حياتي وفي حجتي الأخيرة إلى البيت الحرام نسخة من كتاب: معجم الطبراني الأوسط، فانكببت على دراسته، فوجدت فيه فوائد بعضها ما وجدتها في ألوف المخطوطات التي قرأتها من كبير وصغير طبعاً، فقلت لصاحبي: اسمع هذا النص، فقد أنساه ولا تنساه. فما هو النص؟ يقول الطبراني بإسناده الصحيح: عن عبد الله بن مسعود أنه كان في مجلس يعلم أحد الناس صفة التشهد الذي نعرفه اليوم جميعاً، فلما جاء عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ماذا قال المتعلم؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فماذا أجابه ابن مسعود؟ أجابه بأسلوب لطيف جداً -ونحن -كما قلت لكم في غير ما مناسبة- بحاجة إلى أن نتعلم هذه الأساليب فقال: [إنه لكذلك] ، الرجل ماذا زاد؟ زاد جملة: (وحده لا شريك له) فقال ابن مسعود: [إنه لكذلك، ولكننا ننتهي إلى ما علمنا] . ووجدت عبارة أخرى -سبحان الله كلهم من مدرسة واحدة- وهي أن أحد تلامذة ابن مسعود سمع رجلاً يزيد زيادة أخرى في التشهد، فأكد له هذا المعنى على طريقة ابن مسعود، وقال له أيضاً-: [ننتهي إلى ما علِّمنا] ، فنحن المسلمين اليوم بحاجة إلى هذا الأدب؛ حتى نكون خاضعين فعلاً، ومستسلمين حقاً لله رب العالمين، فالتعليم في الصلاة كان: اللهم صلِّ على محمد، ثم الذين يزيدون هذه اللفظة لا يشعرون أن هذه الصلاة بما فيها من دعاء إلى الله ليصلي على الرسول كما صلى على إبراهيم، ويبارك عليه كما بارك على إبراهيم، فهذا يساوي هذه الفضيلة التي يريدها -إذا صح التعبير- المدخل لهذه اللفظة في الصلاة الإبراهيمية، أي: أن هذا الدعاء كله شرف وسيادة للرسول عليه الصلاة والسلام، والدعاء بالسيادة له في ذلك، فلماذا هذه اللفظة؟ وهذه الزيادة على الصلاة الإبراهيمية تشبه زيادة أخرى يقولها الناس اليوم إجابة للمؤذن، حيث يقولون: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة. فلفظة: (الدرجة الرفيعة) ليس لها أصل، وذكرها هنا مع كونها ليس لها أصل في الحديث هو من تحصيل الحاصل؛ لأنه جاء في الحديث الآخر: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة) إذاً: حين تقول: آت محمداً الوسيلة والفضيلة، ما هي؟ هي الدرجة الرفيعة في الجنة، فإذاً هذا حشوٌ في الكلام مع مخالفة النص، ولا تفهموا مني بطبيعة الحال أنه لو كان هناك زيادة فيها معنى حسن جميل أننا نستحسن الزيادة على تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ليس بعد تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام تعليم لأي إنسان. وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.

قراءة من الترغيب والترهيب

قراءة من الترغيب والترهيب في هذه المادة يواصل الشيخ قراءته في كتاب الترغيب والترهيب، شارحاً للأحاديث المقروءة، ومبيناً لمعانيها وألفاظها وبعض المسائل المتعلقة بها.

ما الفقر أخشى عليكم

ما الفقر أخشى عليكم درسنا في هذه الليلة في الحديث الثاني والستين، وهو قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم التكاثر، وما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم التعمد) رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. هذا الحديث في الطرف الأول منه جزء من الحديث السابق في الدرس الأخير، من حديث عمرو بن عوف الأنصاري، وفيه يقول الرسول عليه السلام بعدما جاءه مال الجزية من البحرين، وتعرَّض له أصحابه عليه الصلاة والسلام، يريدون أن ينالوا ما لهم من حق في ذلك المال الذي أتي به من البحرين، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (أبشروا وأملوا ما وصلكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) طرف من هذا الحديث حديث أبي هريرة: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم التكاثر) . وكأن هذا الحديث بفقرتيه مأخوذ من القرآن الكريم. أما الفقرة الأولى: (ما الفقر أخشى عليكم، إنما أخشى عليكم التكاثر) فذلك قوله تبارك وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] فهذا خطاب لعامة البشر، كأن الله عز وجل يشير إلى أن طبيعة البشر الذين لم يربَّوا على الإسلام، وعلى أخلاق الإسلام، ولم يتأثروا بأوامر الإسلام ووعي الإسلام؛ أنهم يحبون التكاثر في الأموال والأولاد، وأن ذلك ديدنهم وشغلهم، حتى يزوروا المقابر، أي: الموت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] هذا خطاب لعامة البشر، فلا ينجو من هذا الخطاب إلا المسلم الذي تربى بتربية الإسلام، وتأدب بآداب الإسلام. فيخشى الرسول صلوات الله وسلامه عليه على أصحابه أصلاً، وعلى من يأتون من بعدهم تبعاً، يخشى عليهم التكاثر في الأموال، ولا يخشى عليهم الفقر؛ لأن الله تبارك وتعالى قد أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بكثير من المغيبات، ومنها: أن الله عز وجل سيفتح له كسرى وقيصر، وقد تحقق ذلك كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة وأخبار السيرة. ولذلك قال لهم: (ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم التكاثر) كأنه يقول لهم: لا تكونوا من عامة الناس، الذين يلهيهم التكاثر حتى يزوروا المقابر -حتى يموتوا- فلا ينفعهم إن ماتوا مالهم، كما مر معنا في أحاديث كثيرة: إن المسلم أو المرء إذا مات يتبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى معه عمله. ولذلك فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الحديث والحديث السابق وأمثالهما كثير، يخشى على أمته المال، أي: الغنى والثروة، ولا يخشى عليهم الفقر، وهذا هو واقع الأمة الأولى والجيل الأول من المسلمين. وأما واقعنا اليوم، فنحن لا نكاد نرى فقيراً يشكو من الجوع أو من العري، هذا لا يمكن! فهذا الذي هو أفقر الناس تراه متظاهراً بأحسن اللباس، وقد يأكل أنواعاً من الطعام وألذه، ولذلك فلا ينبغي للمسلم أن يخشى الفقر. وقد سبق أن ذكرنا أن المال فتنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال) فهذا الشطر الأول من الحديث، وهو كما قلنا مشتق من هذه الآية الكريمة: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] .

ما أخشى عليكم الخطأ.

ما أخشى عليكم الخطأ. الشطر الثاني وهو قوله عليه السلام: (وما أخشى عليكم الخطأ، ولكن أخشى عليكم التعمد) هذا أيضاً مقتبس من القرآن الكريم، في غير ما آية في القرآن، من ذلك قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] فهذا نص القرآن اقتبس منه هذا الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أخشى عليكم الخطأ، ولكن أخشى عليكم التعمد) وهذا من لطف الله عز وجل ويسره بعباده، كما قال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ؛ ذلك لأن الخطأ لا يكاد ينجو منه إنسان، فلذلك ربنا عز وجل لا يؤاخذ عباده على ما يقع منهم من الخطأ، مهما كان هذا الخطأ كبيراً وعظيماً، وعلى العكس من ذلك يؤاخذ المرء إذا تعمَّد الإثم ولو كان صغيراً، فمجال المؤاخذة إنما هو على التعمد، ولا مؤاخذة إذا وقع من الإنسان الخطأ بغير قصد منه. لذلك هذه النصوص من قرآن وحديث وغير ذلك مما لا مجال لذكره الآن، يلفت نظرنا بقوة إلى أنه لا يمكن بوجه من الوجوه أن يكون الإنسان مجبوراً على أعماله التي تصدر منه باختياره، أي: ما يقوله عامة الناس اليوم وقد يتكلم فيه بعض خاصتهم من قولهم: إن الإنسان مسيَّر لا مخيَّر، ويزعمون أن الإنسان مسيَّر وليس مخيَّراً. هذا الكلام على إطلاقه باطل، وإنما هو كما شرحنا لكم من قبل ولا أريد الإطالة، وإنما إشارة سريعة.

أفعال العباد بين التخيير والتيسير

أفعال العباد بين التخيير والتيسير أعمال الإنسان على قسمين: القسم الأول: قسم يصدر منه بدون قصد منه، فهنا يصح أن يقال: إن الإنسان مسير. والقسم الثاني: قسم يصدر منه قصداً وعمداً وتوجهاً واختياراً، فهذا لا يصح أن يقال: إنه مسير، أي رغماً عنه، بل هو في ذلك مختار، والواقع الذي يلمسه كل إنسان عاقل يشهد بأن أعماله لا تتعدى هذين القسمين: إما مسير فيها لا قصد له فيها ولا اختيار، وإما مخيَّر، له فيها محض الاختيار. ومثال الأول: الطول والقصر واللون والحياة. إلخ، فهذا لا يملكه الإنسان، بل أقول: العمل الصالح والعمل الطالح، كأن تكتب جملة فيها خير، وجملة فيها شر، أو تنطق بكلمة خير أو شر، هذا كله يعود إلى القسم الثاني مما هو فيه مختار. وهذا التقسيم هو رأي أكثر عقلاء الناس، ولا أخص المسلمين، بل رأي عقلاء الناس، إلا من شذوا في عقلية فهمهم، من أولئك الذين يقولون: إن الإنسان مجبور، وعبَّر عن هذا الرأي الخاطئ شاعرهم حين قال واصفاً علاقة الإنسان مع الله، بحيث أنه كبَّله وغلله، فقال: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء هكذا يصفون الإنسان من حيث أنه لا إرادة له ولا اختيار مع الله عز وجل -حاشا لله- فالله عز وجل يقول في كثير من الآيات التي يذكر فيها العمل، ويبني عليه دخول الجنة: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:8] . أقول: إن أعمال الإنسان تنقسم إلى قسمين، وهذا الذي يحكم به العقل فضلاً عن الشرع، ولكن ههنا دقيقة يجب أن يتنبه لها هؤلاء الناس؛ لا سيما الذين ليس عندهم علم بالعقيدة الإسلامية، فليس معنى كون الإنسان في بعض أعماله مختاراً، وفي البعض الآخر ليس مختاراً، أنه في القسم الأول الذي هو فيه مختار، أن ذلك ليس مقدراً عليه وليس نصيباً عليه، وليس وارثاً إرادة الله ومشيئته لا، كل ذلك مقدر عليه، ومكتوب عليه، وهو بمشيئة الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:137] . فكل شيء مسجل، وكل أمر مسطر: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] هذا الجمع بين الإيمان بالقدر الإلهي، والإيمان باختيار الإنسان، في القسم الذي له فيه الاختيار، هذا الجمع هو من الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. فأناس يضلون يميناً أو يساراً، من الذين يحكِّمون عقولهم فقط، كما قلنا: معلوم عند الناس أن الإنسان مختار، لكن لا بد من التقسيم السابق- ثم يقولون: إن الأمر جلي، فلا علاقة لإرادة الله ولا لمشيئته ولا لقضائه ولا لقدره في شيء من ذلك. هؤلاء يقولون قولاً منكراً يخالف الكتاب والسنة، ويخالف إجماع الصحابة، الذين كان أحدهم إذا بلغه عن رجل يحكم عقله أنكر عليه، هكذا يقولون: الإنسان مختار، والأمر طرح جديد يستأنفه الآن، ولم يصبح في ذلك قضاء وقدر، هؤلاء هم المعتزلة قديماً وأشباههم حديثاً، الذين باعتمادهم على عقولهم ينكرون القدر. يقابل هؤلاء أناسٌ آخرون، إيماناً منهم بالقدر نفوا الاختيار للإنسان، وحينذاك نعود إلى أصل الحديث، ولا فرق عندهم بين العمد وبين الخطأ، ما دام الإنسان في كل شيء يصدر منه فهو مرغم ومجبور. إذاً: هذا تعطيل لعشرات إن لم نقل: لمئات النصوص من الكتاب والسنة، التي تفرق بين العمد وبين الخطأ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] . هل نقول: ربنا لا تؤاخذنا إن تعمدنا؟! فهناك نصوص تفرق بين التعمد -كما سمعتم- وبين الخطأ، وإذا كان الإنسان لا يملك وليس له إرادة، إذاً: هذا تفريط في الكلام، وحاشا! فهذا كلام الله عز وجل، بل وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، حاشا لكليهما أن يكون فيه شيء من اللغو أو الخطأ، إذاً: اللغو ممن؟ من هؤلاء الذين يقولون قولاً يسوي بين فعل الإنسان العمد وفعله الخطأ. فهؤلاء هم الجبرية، وأولئك هم المعتزلة، أولئك دعواهم أن الإنسان مختار، لكنهم جحدوا نصوص الكتاب والسنة التي فيها التصديق بأن كل شيء بقدر، وهؤلاء الجبريون إيماناً بما سطر، جحدوا ما هو واقع من اختيار الإنسان، وما هو أصل التكليف للإنسان، هو هذا الاختيار الذي يعبر عنه بعضهم تعبيراً لا للتحقير، يقولون عنه بالجبر الاختياري، هو مختار، إما اختياراً وإما اضطراراً، إما عمداً وإما خطأً، لذلك هذا التفريق هو من تمام الإيمان والإسلام، أما التسوية بين العمد والخطأ فهو إنكار لهذا الاختيار الذي به أمر الله عز وجل بتكليف عباده. والاعتقاد بأن الإنسان يفعل دون أن تسبق بذلك مشيئة الله وإرادته، هذا اعتزال، وهو انفراد -كما قلنا- عن الإيمان بالقدر، الذي هو ركن من أركان الإيمان.

عدم المؤاخذة بالخطأ تيسير إلهي

عدم المؤاخذة بالخطأ تيسير إلهي إذا عرفنا هذا التفريق الذي هو شرعيٌ وطبيعي بين الخطأ وبين التعمد؛ فمن الممكن أن نفهم هذا التيسير الإلهي الذي عبَّر عنه الرسول عليه السلام في هذا الشطر الثاني من الحديث، حين قال: (ما أخشى عليكم الخطأ، إنما أخشى عليكم التعمد) . فإذاً: علينا نحن أن نأخذ من هذا الحديث: ألاَّ نتعمد مخالفة الإسلام، أو مخالفة كتاب الله، أو مخالفة حديث رسول الله عمداً، أما إنسان تقع منه مخالفة بغير قصدٍ، فالله لا يؤاخذه، وأرى أن من الضروري التنبيه على هذا، أولاً: بياناً للناس. وثانياً: رداً على كثير ممن يتكلم بالبهت والكذب على الأبرياء، فيقولون: بأننا نحن نضلل ونكفر المسلمين عامة، وهذا كلام نتبرأ منه ومن قائله، ومن الذي ينسبه أيضاً إلينا زوراً وبهتانا، بل (نحن نفرق؛ فالمستحقون للمؤاخذة هم المتعمدون لمخالفة الكتاب والسنة، وهؤلاء طائفة أشربوا حب الدنيا في قلوبهم، حب المظاهر والمناصب والكراسي وما إلى ذلك، فيظهر لهم الحق ثم يعادون أهل الحق، ويعادون نفس الحق متجاهلينه، أما جماهير الناس فلا علم عندهم بهذا الحق، لذلك هؤلاء الذين يحاربون الحق -الدين- وهم يعلمون، هم الذين يؤاخذون، أما الجمهور فغير مؤاخذ؛ لأنه لم يتعمد الخطأ. خذ مثلاً بسيطاً: إنسان حنفي المذهب لا يرفع يديه عند الركوع -مسألة بسيطة جداً- هذا غير مؤاخذ؛ لأنه يظن أن هذا المذهب في هذه المسألة خاص، لكن ما بال ذلك الشيخ الذي يقرأ البخاري ومسلم وبعض كتب السنة، فلا بد أنه قرأ من مختصرات كتب السنة، مثلاً: بلوغ المرام من أحاديث الأحكام، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ولا بد أنه قرأ مثلاً: مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي، ولا بد أنه قرأ المنتقى من أخبار المصطفى لـ ابن تيمية الجد، لا بد أنه قرأ شيئاً من هذه الكتب، فوجد أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم، أن الرسول كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه، ويجد في حديث واحد في صحيح البخاري أن أحد الصحابة في مجلس فيه نحو عشرة منهم، يصف لهم صلاة الرسول عليه السلام، فبعد أن يبدأ بتكبيرة الإحرام ثم يركع ويرفع يديه. حتى يتم الصلاة فيقولون له جميعاً: صدقت. هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا الحديث لا بد أن هؤلاء قرءوه فأعرضوا عنه، لماذا؟ لأنه خلاف المذهب، والجمهور لا يعلمون هذه الحقيقة، فالجمهور خاصة عامة المسلمين لا يعرفون هذا الحديث، لكن خاصتهم -على الأقل بعضهم- عرفوا هذا الحديث، فلماذا تركوه؟ تعصباً للمذهب، بينما الواجب عليهم أن يتبعوا الرسول عليه السلام بصورة عامة، وفي الصلاة بصورة خاصة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] (صلوا كما رأيتموني أصلي) ما قال: صلوا كما صلى أبو حنيفة، ولا كما صلى مالك، ولا ولا إلخ، وتجدون هؤلاء قد عكسوا الأمر الآن تماماً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] تجد أحدهم قد أخلص في اتباع المذهب. تجد -مثلاً- بعض الحنفية إذا قام يصلي اعتمد على إحدى رجليه، ما قام هكذا كما خلقه الله وإنما يعتمد على رجله، لماذا تفعل هكذا؟ يقول: هكذا كان أبو حنيفة يصلي، فإذا قلت له: كيف كان رسول الله يصلي؟ لا يدري، إذاً: هذا الاتباع نُقل من اتباع الرسول عليه السلام إلى اتباع إمام، نحن إذا قلنا هذا الكلام فسروه وتأولوه بغير تأويل الحق، وقالوا: هذا طعن في الإمام، سبحان الله! إذا وجه الناس لاتباع سيد الأئمة وسيد الأنبياء والمرسلين وأن يخلصوا في الاتباع، يكون هذا طعناً في أولئك الأئمة الذين كان أحدهم أشد حرصاً على أن يكون مخلصاً في اتباعه للرسول عليه السلام! ولكن بعض الأشياء ربما أخطئوا فيها، وبعض الأشياء ربما نسبت إليهم، مثل هذه المراوحة بين رجل وأخرى، هذه لم تنقل عن أبي حنيفة في كتاب معتمد. والشاهد أن هذا الفعل يفعلونه؛ لأن أبا حنيفة -زعموا- هكذا فعل، والرسول رفع يديه فلماذا لا تفعل مثلما فعل؟ لأنه لم يفعل أبو حنيفة، فجعلنا الأصل فرعاً والفرع أصلاً، الأصل اتباع الرسول عليه السلام جعلناه فرعاً، والفرع أصلاً، عكس للحقائق. إذاً: المؤاخذة تأتي منهم بمعرفة الحق ثم يحيدون عنه. وجماهير المسلمين لا يعرفون الحق فيما اختلف فيه الناس، لكن بعض الخاصة منهم يعرفون، وهؤلاء قسمان: منهم من يعرف الحق ويصدع به، وهؤلاء عليهم أن يتحملوا نتيجة الصدع بالحق أن يقال فيهم ويتكلم فيهم، هذا إذا ما ضربوا وسجنوا وما هو مكتوب عليهم، وهذه سنة الله في خلقه، والبعض الآخر يعلم ثم يجادل بالباطل، فندعو الله عز وجل أن يجعلنا من الذين لا يتعمدون مخالفة الكتاب والسنة، وإنما إذا أخطأنا فالله عز وجل قد وعدنا بأنه لا يؤاخذنا فيما أخطأنا، ولكن فيما تعمدته قلوبنا. هذا الحديث الفقرة الأولى منه: (ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى عليكم الدنيا) . وهنا أحاديث ضعيفة متسلسلة رقم: (63-64-65-66) هذه كلها ضعيفة.

قول المحدث: رواته محتج بهم في الصحيح

قول المحدث: رواته محتج بهم في الصحيح الحديث الذي بعده صحيح، ولكن قبل أن أشرع فيه لا بد من التذكير بمسألة أصولية حديثية، وذلك لسببين اثنين: السبب الأول: غربة علم الحديث بين خاصة الناس فضلاً عن عامتهم. السبب الآخر: أن هذه العبارة حينما قال: رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح، تفهم هذه العبارة خطأً، بسبب إعراض الناس عن دراسة علم الحديث، فيفهمون من هذه العبارة تصحيح الحديث، وهذا لا يعني كذلك، فقول المؤلف أو المحدث في حديث ما: رجاله رجال الصحيح، أو رواته محتج بهم في الصحيح، أو رجاله ثقات، كل ذلك لا يعني أن إسناد هذا الحديث صحيح، بل ولا يعني أن إسناده حسن. إذاً: إذا مرت هذه العبارة في كتاب من الكتب التي تطالعونها، فلا يفهمنّ أحد منها تصحيح الحديث ولا تحسينه. إذاً: ماذا يعني؟ يعني: أن شروطاً من شروط صحة الحديث قد توفرت في إسناد هذا الحديث، ألا وهو ثقة الرواة وعدالتهم وضبطهم، هذا شرط من شروط الحديث الصحيح؛ لأن التعريف المتفق عليه: ما رواه عدل ضابط، هذا هو الثقة، عدل أي: غير فاسق، ضابط أي: ليس بسيئ الحفظ، هذا هو الثقة. وهذا هو الذي يحتج به في الصحيح -أي: في البخاري ومسلم - لكن ليس هذا هو فقط تعريف الحديث الصحيح: ما رواه عدل ضابط عن مثله فقط، إنما عن مثله عن مثله إلى منتهاه، ولم يشذ ولم يعل. ولم يعل: كلمة تدخل فيها عشرات العلل، فواحدنا يقول: رواته رواة الصحيح ولا يقول: وليس له علة، لو قال: وليس له علة؛ لصح الحديث حينذاك، ولو أرادوا وصول ذلك لأغناه عن قوله: ليس له علة، ولقال: إسناده صحيح، إذاً: الحديث صحيح. يأتي Q لماذا هؤلاء المؤلفون كـ المنذري والهيثمي وغيرهما، لماذا لا يقولون: إسناده صحيح بدلاً من سوء الفهم الذي يقع فيه جماهير الناس اليوم؟ A إن علم الحديث لم يهمل إلا من صعوبته، فهاهم علماء الحديث كـ المنذري وأمثاله، لا يقولون إلا ما ندر في إسناد حديث ما: إسناده صحيح، أو إسناده حسن، لماذا؟ لأنه عندما يريد أن يقول القائل في حديث ما: إسناده صحيح أو إسناده حسن، يجب أن يدرس ساعة بل ساعات وربما كان، وهذا فقط إسناد حديث واحد، ولو توخى الإنسان لمثل هذا التحقيق لقضى عمره كله وهو لا يستطيع أن يحقق إلا أقل من نصف الحديث المتداول اليوم في الكتب وغيرها؛ لأن هذا يتطلب دراسة السند الأول إلى آخره، من حيث الاتصال، وسلامته من الانقطاع، وسلامته من التدليس، وأخيراً سلامته من العلة الخفية، وهو أدق علوم الحديث، وهو الذي يسمى بالمرسل الخفي، لذلك علماء الحديث إلا ما ندر -ومن هؤلاء النادرين الحافظ ابن حجر - علماء الحديث لا يقولون: إسناده صحيح إلا إذا ظهر لهم بداهة بدون كلفة. وإذا ظهر لهم أن الأمر يتطلب بحثاً وذلك مما لا يتسع له وقتهم، لجئوا إلى هذا التعبير: (رجاله معروفون أنهم من رجال الصحيح) أي: البخاري ومسلم، لكن هل هناك علة أم لا؟ يحتاج إلى دراسة ولا يتسع له الوقت، لذلك يقتصرون على هذه الكلمة فلا تفيد هذا الكلمة تصحيح إسناد الحديث ولا تحسينه، وإنما كل ما تعطيه هذه الجملة أن شرطاً من شروط الصحة وجد في هذا الإسناد (موافقة الرجال) إذا قال: رجاله ثقات، وإذا قال: رجاله رجال الصحيح، معنى ذلك أنهم ثقات، أي: أنهم احتج بهم البخاري أو مسلم أو كلاهما معاً. هذا الذي أردت أن أنبه عليه من الناحية الحديثية، لكن هذا الحديث صحيح، ولذلك تعمدت إخراجه في كتابي سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقمه: (2216) .

شرح حديث: (إنما أهلك من قبلكم الدينار.

شرح حديث: (إنما أهلك من قبلكم الدينار ... ) الآن ننتقل إلى الحديث الثاني من أحاديث الباب في هذه الليلة، ألا وهو الحديث السابع والستون، وهو قوله: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يعطي الناس عطاءهم، فجاءه رجل فأعطاه ألف درهم، ثم قال: خذها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما أهلك من قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم) هذه السلعة التي نحن ندندن حولها في هذه الظروف، حيث قلنا: إن الإسلام لا ينهى عن جمع المال، وعن كسبه من طريق مشروع حلال، لكن المشكلة هذا الجمع، كم أولئك الناس الذين يتيسر لهم الجمع من طريق مشروع؟ ثم إن توفر لهم ذلك فكم هم أولئك الذين يصرفون هذا المال المكتسب من طريق مشروع في طريق مشروع؟! قليل جداً، كما سيأتي في بعض الأحاديث السريعة. الآن هؤلاء الذين أغناهم الله من فضله بالمال قليل من ينجو منهم من تبعاته في جمع المال؛ لذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه ينبه من يأتيه ليقبض عطاءه -أي: معاشه- وابن مسعود كان والياً على بعض البلاد، وأظن هذه البلاد الكوفة، فكان حينما يقسم العطاء للناس يقول له: [خذه ولا تغتر به] أي: لا يكن سبب إهلاكك، فإن الرسول عليه السلام قال: (إنما أهلك من قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم) . ليس المقصود بهذا الإخبار (وهما مهلكاكم) كل فرد من الأفراد، وإنما كمبدأ عام كما قلنا في آية: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] هذا هو الأصل، ولا ينجو من هذا إلا القليل، وذلك ما سيصرح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة له مع أبي ذر رضي الله عنه.

شرح حديث: (إن مما أخاف عليكم.

شرح حديث: (إن مما أخاف عليكم ... ) الحديث الذي بعده وهو صحيح أيضاً، وهو بعده بحديث، فإن الحديث الذي قرأناه عن ابن مسعود هو السابع والستون، والثامن والستون ضعيف أيضاً، والتاسع والستون صحيح، وهو قوله: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم ما يفتح الله عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) . هذا الذي يخشاه الرسول عليه السلام، ما سيفتحه الله عز وجل من مغانم ومكاسب تأتي بسبب اتساع الدعوة الإسلامية، وهذا ما وقع، ولذلك -كما مر معنا وسيأتي أيضاً- كان بعض الصحابة يخشون على أنفسهم أن يكونوا قد فتنوا بزهرة الدنيا وزينتها حينما جاءتهم الأموال، فكان الواحد منهم يعمل طيلة النهار ليحصل على قوت يومه. علي بن أبي طالب رضي الله عنه عمل ذات يوم عند يهودي على أن ينضح له من بئر بستانه، ومقابل كل دلو تمرة فقط، عمل علي بن أبي طالب الذي صار خليفة للمؤمنين أجيراً عند يهودي مقابل كل نضحة، أو سطل، أو دلو مقابل تمرة فقط، هؤلاء الصحابة الذين كانوا يعيشون في ضنك من العيش فتحت لهم الدنيا، وصار عندهم العبيد والجواري، منهم من تمتع كما شرع الله له، ومنهم من يبيع ويشتري، وأباح الله البيع والشراء وأباح الله له ذلك أيضاً، وكان بعضهم من الأثرياء يخافون على أنفسهم أن يكونوا فتنوا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه لا يخشى عليهم الفقر وإنما يخشى عليهم أن تفتح لهم الدنيا، ويخشى عليهم الدنيا وفتنتها.

هدي السلف في الجلوس في حلقات العلم

هدي السلف في الجلوس في حلقات العلم هذه الأحاديث الثلاثة التي بعد الحديث السابق ضعيفة أيضاً، لكني أيضاً ألفت النظر إلى أثر من آثار الصحابة حينما يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، لقد سمعتم أنهم جلسوا حوله. أنتم الآن لا يصح أن يقال: جلستم حولي، بل جلستم أمامي، فكيف الذي يتصور جلوسهم حوله، وفي المسجد وهو على المنبر؟ معنى هذا أن جماهير المصلين اليوم يخالفون هذه الآداب؛ لأنهم يظلون مستقبلين القبلة، بينما السنة أن يستقبلوا الإمام، وهو يخطبهم على المنبر، هكذا يقول أبو سعيد الخدري: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله) فهناك شبه نصف دائرة تحوط حول الرسول عليه السلام، باعتبار أن المسجد طوله أكثر من عرضه، بخلاف وضعنا الآن، فلذلك مع أن وضعنا الآن ليس كما كان مسجد الرسول، الطول صغير جداً والعرض هو الطويل، مع ذلك يلاحظ أن الفكرة تقتضي -كما يُشعر من ذلك أن المثل السائد عند العامة: (العين لغة الكلام) أني ألاحظ الآن أن بعض الناس غير مستقبلين القبلة برغم ضيق المكان، بل مستقبلين النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن هذه قضية نفسية، العامة حينما يقولون: (العين لغة الكلام) هذا ليس كلام عوام بل كلام حكماء؛ لأنه متقرر أو مستقر في العلم أن أي أمر تتوفر عليه حاستان، فتأثير ذلك الأمر فيمن توفرت فيه حاستان تجاهه أكثر ممن توفرت فيه حاسة واحدة، وكلما زادت الحواس كلما زاد التأثير، فالإنسان الذي يسمع يتأثر بهذا الكلام، ولكن الذي يسمع ويرى يتأثر أكثر وأكثر، ومن هنا تظهر لنا بعض حكم التشريع وبعض الحركات التي سنها الله، إما على لسان نبيه أو على شأنه وسلوكه. مثلاً: رفع الأيدي في الصلاة تحريك الإصبع في التشهد النظر إلى هذه الإصبع، وتوجيه هذه الإصبع إلى القبلة، هذه كلها لماذا؟ توجه قلب هذا المصلي إلى حقيقة واحدة هي الاستقلال لله رب العالمين، هو الذي أمره أن يتوجه بكل بدنه إلى القبلة، فيتوجه حتى بإصبعه وحتى بأصابع قدميه، وهو في السجود مثلاً، وهو في التشهد، فيوجه أصابع قدمه اليمنى إلى القبلة، كل هذا تأكيد إلى أن الإنسان يتوجه بكل جوارحه إلى طاعة ربه عز وجل، هذه الطاعة تغرس في قلبه المعاني المقصودة من هذه العبادة. كذلك حينما يجلس الناس لسماع الخطيب، لا يكفي أن يتوجه هو إلى القبلة فقط؛ لأنه الآن في صلاة في موعظة في ذكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أنت الآن في ذكر، فيجب أن تتوجه بكليتك إلى هذا الذكر، أمن هذه الكيفية أن تتوجه ببدنك، أن تتوجه ببصرك أن تتوجه بسمعك، ومن تتوفر فيه هذه الصفات يكون تأثره بما يسمع من الذكر أكثر من الذي يتوجه إلى هذا الخطيب أو هذا المذكر ببصره فقط أو بسمعه. هذا أدب نأخذه من هذا الحديث، وإن كان قد سيق في باب الزهد في الدنيا، لكن ههنا أدب من آداب الصحابة مع الرسول عليه السلام، كانوا يجلسون حوله وهو على المنبر. إذاً: يوم الجمعة ليست السنة أن يقف الناس صفوفاً؛ لأن معنى هذا: إذا قامت الصلاة كانوا متهيئين للصف، وإنما عليهم أن يتحلقوا حول الإمام دوائر، فإذا ما أقيمت الصلاة حينذاك يهتمون بترتيب الصفوف. هذا بمناسبة قول أبي سعيد الخدري: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله) .

شرح حديث: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا.

شرح حديث: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً ... ) أما الحديث الثالث والسبعون فهو قوله: وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حرة المدينة، فاستقبلنا أحداً، فقال: يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليه ثالثةٌ وعندي منه دينار إلا شيءٌ أرصده لديني، إلا أن أقول في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه ثم سار، ثم انطلق عليه الصلاة والسلام فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة) وفي حديث يأتي بعده: (إن الأكثرين -أي: مالاً- هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليلٌ ما هم. ثم قال لي: مكانك لا تبرح حتى آتيك) قال: رواه البخاري واللفظ له، ومسلم، وفي لفظ لـ مسلم قال -أي: أبو ذر -: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو جالس بيمين الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قلت: فقلت يا رسول الله! فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليلٌ ما هم ... ) ورواه ابن ماجة مختصراً: (الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وكسبه من طيب) هذه هامة جداً. ومكسبه حرام، لا، بل قال: (ومكسبه من طيب) أيضاً. نعود إلى شرح ما هو من الضروري شرحه، يقول أبو ذر وهو صحابي معروف، ومن المشهورين بالزهد والرغبة عن الدنيا، قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة) الحرة: هي الأرض التي يكثر فيها الحجارة السوداء الصغيرة، والمدينة تقريباً كُل ما حولها هي حرة، وإن كان بعض العلماء يحصرون الحرة بالجهة الشمالية فقط، لكن الأعم هو الأصح؛ لأن هناك بعض الأحاديث تدل على أن الحرة ليست محصورة فقط في المدينة الشمالية، ويؤكد هذا أنه لا فرق بين الأرض الشمالية والشرقية والغربية؛ لأن كلها فيها هذه الحجارة السوداء. قال: (فاستقبلنا أحداً) وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (جبل أحد يحبنا ... ) ، فهنا أثبت ل أحد إحساساً وذلك بأنه يحبهم، وقد يقول قائل: كيف ذلك وهو جماد؟ فنقول: هذا مثل إحساس الكلب الذي إذا رأى صاحبه فإنه يبدي حركة خاصة، فهو يفرح بقدوم صاحبه بتحريك خاص، وهذا حيوان لا يفهم، له فهمه، لكنه فهم حيواني في حدوده، وهذا الفهم الحيواني خاص بهذا الحيوان الذي هو الكلب، وهناك حيوانات عديدة كما نعلم، وكل حيوان له فهم خاص به، فما الذي يمنع ورحمة الله واسعة أن يكون الله عز وجل خلق حتى في الجمادات نوعاً من الإحساس، ليس من النوع الخشن. إذا ذاع الخبر وجب الإيمان والتسليم. الكثير لا يتوقع مثل هذه الحادثة، ولكن أذكر من باب الاستشهاد قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] أي: الجدار يريد أن ينقض، نسب هنا إلى الجدار إرادة، فيأتي المعطلون يقولون: هذا مجاز وليس حقيقة، ونحن مع القاعدة الشرعية اللغوية: أن الأصل في كل عبارة الحقيقة، وأنه لا يجوز الخروج عنها إلى المجاز إلا بدليل اضطرنا إلى هذا الخروج إذا لم يكن هناك دليل، فالقاعدة تقول: يجب أن نبقى على الحقيقة، الآن في مثل هذا الحديث (جبل أحد يحبنا ... ) . ما هو الدليل لمن يضطر إلى هذا التأويل؟ جهلنا أن يكون هناك في هذا الجبل إحساس خاص بالحب، هل هذا الجهل دليل؟ A لا. لذلك نقول: الإيمان بالإسلام كتاباً وسنةً هو الذي يوفق أفق المؤمن وعقله وتفكيره، والعكس بالعكس تماماً، لهذا نحن ندعو دائماً وأبداً إلى اتباع الكتاب والسنة، ليس على طريقة التأويل -هذه الطريقة التي ابتدعها الخلف- وإنما على طريقة التسليم التي سلكها السلف، ولذلك نكرر دائماً وأبداً: نحن لا ندعو إلى الكتاب والسنة فقط، بل إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح. وإلا لا فرق بين هؤلاء المسلمين الذين بلغوا ثلاثاً وسبعين فرقة، أو كادوا أو زادوا، الله أعلم بذلك، لكن المهم أن التفرق كثير وكثير جداً، كلهم يقولون: كتاب وسنة، حتى القاديانية الذين يقولون بنبوة الغلام بن أحمد القادياني، يقولون: الكتاب والسنة، لكن يفسرون النصوص هكذا بطريق التأويل، وإنكار المعاني الحقيقية من نصوص الكتاب والسنة. يقول: (فاستقبلنا أحداً، فقال -أي: الرسول عليه السلام- يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله!) هنا ملاحظة، لماذا يناديه وهو معه؟ هذا من باب تهيئة النفس لتلقي ما سيلقى عليه من العلم: (قال: يا أبا ذر! قال: لبيك يا رسول الله!) وهذا جواب معروف لغة، ومعروف استعماله من الصحابة كثيراً وكثيراً جداً مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولعله ألفت من كلمة (نعم) وانظروا خير البشر، المعصوم عن أن يتلاعب به الشيطان ويفتنه بالمال، فقال-: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليه ثالثة) الرسول لا يحب أن له جبل ذهب مثل جبل أحد - (تمضي عليه) أي: على هذا الذهب الكثير الموجود عند الرسول عليه السلام (ثالثة) أي: ليلة ثالثة من بعد ما حصل الرسول عليه السلام هذا المال الكثير، ولو كان كـ جبل أحد، لا يسره أن يبقى هذا المال عنده أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة، تدخل والمال لا يزال عنده، لا يسر النبي عليه السلام هذا- (لا يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار واحد) أي: أن الرسول لا يُبقي معه مالاً إطلاقاً، ما الذي يفعله؟ يفرقه كما أشار في الحديث، يميناً ويساراً وخلفاً وليس أماماً فقط، أي: ينفقه على من حوله من المسلمين.

الحث على الإنفاق وعدم الادخار إلا للضرورة

الحث على الإنفاق وعدم الادخار إلا للضرورة هنا استثناء، يقول: (إلا شيء أرصده لديني) يعني هو لم يدخر من ماله شيئاً إطلاقاً، إلا مالاً عليه دين يريد أن يقضيه وقد جاءه مال كثير، فيقتطع منه هذا الدين ويدخره عنده حتى إذا جاء صاحبه أعطاه إياه، حتى لا يرده؛ لأنه قد جاءه المال، وادخار هذا الدين هو الذي فقط يريد أن يحبسه عليه السلام، أما ما سوى ذلك فهو يفرقه وينفقه كما قال: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يميني وعن شمالي وعن خلفي) هكذا يحض الرسول عليه السلام أمته أنهم إذا جاءهم مال ألا يدخروه، وأن ينفقوه في سُبل الخير، ولكن هذا الإنفاق وترك هذا الادخار الذي أشار إليه الرسول عليه السلام، أنه لا يدخر المال مهما كان كثيراً إلا ما كان عليه دين، ما حكمه في الإسلام؟ هذا الإنفاق أهو واجب؟ وهذا الادخار أهو حرام؟ هنا يجب أن نفهم الموضوع الذي يثار في العصر الحاضر؛ استغلالاً للإسلام في خدمة بعض المذاهب المخالفة للإسلام، ألا وهو المذهب الاشتراكي أو الشيوعي، وكثير من الكتاب المغرضين- وبعض الكتاب المخلصين، استغلوا مثل هذا الحديث، فجعلوا الإسلام يحرم على الأغنياء أن يدَّخروا مالهم، وزعموا أن الإسلام يوجب ويفترض عليهم أن ينفقوا كل مالهم، كما هو حديث أبي ذر هذا. من أجل ذلك نحن نقول: أي حكم في الإسلام لا يجوز أن يؤخذ من نص واحد، إلا من مجموعة نصوص، هذا الحديث بلا شك فيه حث بالغ جداً على الإنفاق، والتحذير من الادخار، ولكن الحكم الدقيق والحكم الفقهي لا يؤخذ من هذا الحديث وحده، فكل المسلمين أجمعوا أن الله عز وجل فرض على أنواع معينة من الأموال زكاة أيضاً، محدودة في كل سنة، في كل موسم، ونسبة معلومة، فحينما فرض هذه الزكاة مثلاً (2. 5%) على النقد؛ وعشرة أو أقل من ذلك في المحاصيل الزراعية، معنى ذلك أن ما سوى ذلك جائز للمسلم أن يتمتع به، وجائز أن يدخره، ولذلك فكل مال أُخرجت زكاته فليس بكنز يعذب عليه صاحبه يوم القيامة، وكما مرت معنا أحاديث في كتاب الترغيب والترهيب في تحذير الأغنياء الذي يكنزون الذهب والفضة، وأنها تكوى بها جباههم يوم القيامة، فما معنى يكنزونها؟ أي: لا يخرجون ما فرض الله عليهم فيها من حق. إذاً: ليس من الواجب أن يخرج المسلم ماله كله وألا يبيت وعنده أي مال، لكن هذا من فضائل الأعمال، ومن مكارم الأخلاق؛ أن المسلم إذا أغناه الله من فضله أن ينفقه، ومع ذلك فهنا شيء آخر يجب أن يذكر، لا يعني أن يدع عياله وأهله وأطفاله فقراء، جاءه هذا المال فأنفقه بكليته، ولم يعبث به وإنما على المسلمين، ولكن أحق المسلمين بشيء من هذا المال هم الأقربون، ولذلك فلا يتناقض هذا مع حديث مضى معنا في كتاب الزكاة، أن الرسول عليه الصلاة السلام كان يدخر لأهله قوت سنة، فهذا جمع بين الحقوق، فهو من ناحية لا ينسى حقوق أهله، ومن ناحية لا يدخر المال الذي زاد عنده على حقوق أهله وينفقه على المسلمين. خلاصة القول: المال الواجب إخراجه ليس هو كل مال، وإنما هي نسبة معروفة في كتب الفقه وبإجماع المسلمين، أما الخروج عن كل ذلك أو نصف المال فهذه أمور من فضائل ومكارم الأخلاق، والناس يختلفون في ذلك أشد الاختلاف، وقد كنا ذكرنا في بعض الدروس السابقة أن البخل بخلان: بخل يعذب عليه الإنسان وهو إذا بخل بما فرض الله عليه، والبخل الآخر يذم عليه، ولكن لا يعاقب عليه، وهو الذي لا ينفق يميناً ولا يساراً ولا أمامه ولا خلفه. فمن هنا نفرق بين ما هو واجب وبين ما هو مستحب، والناس في هذا متفاوتون، ولعله مر في كتابنا هذا أو في درسنا حديث مسابقة عمر لـ أبي بكر، قال عمر بعد تجربة أخيرة بينه وبين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أن أبا بكر سمع -بمناسبة ما- حضاً على الإنفاق في سبيل الله، فجاء بكل ماله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله) فجاء عمر وقدم نصف ماله، فلما علم ما فعل صاحبه، قال: [ما سابقته إلا سبقني] ولم يسابقه، ف أبو بكر خرج عن كل ماله، وعمر خرج عن نصف ماله، والناس درجات، ومن النادر جداً أن مسلماً عاقلاً يخرج عن جميع ماله، ولذلك أنا أكاد أعتبر خروج أبي بكر عن كل ماله هذه مزية كمزية الرسول عليه السلام ههنا، حيث يقول: إنه لا يسره أن تمضي عليه ثلاث ليالٍ وعنده مثل جبل أحد ذهباً أن يبقى عنده. وذلك لأن العدل في الحقوق صعب جداً، إنسان يخرج عن ماله ويؤدي كل الحقوق بالنسبة لأولاده وإلى أقاربه، فالموازين الدقيقة لا يحسنها إلا أفراد قليلون جداً، ومنهم أبو بكر الصديق، أو هو أولهم وآخرهم. لذلك ينقم على الصوفية الذين جعلوا الخروج عن المال مبدأ لهم، بدون هذا التفصيل الذي يجب أن يراعى فيه الخارج عن ماله ألا ينسى حقوق الآخرين، ولذلك هم يروون القصة المزعومة التي وقعت بين الإمام الشافعي وبين شيبان الراعي، وأهل العلم يقولون: هذه قصة مختلقة؛ لأن الإمام الشافعي ما أدرك شيبان الراعي، فبينهما مسافة، وإنما وضعتها بعض الطوائف الصوفية للدعوة إلى مذهبهم. زعموا بأن شيبان الراعي كان وصفه بأنه رجل أميّ ومع ذلك هو فقيه، أي: عنده العلم اللدني المزعوم، فسأله عن رجل يسهو في الصلاة ماذا عليه؟ -السائل الإمام الشافعي والمسئول شيبان الراعي - فقال شيبان للشافعي: عندنا أم عندكم؟ قال: كيف عندنا أم عندكم هل هناك فرق؟ قال: نعم. قال الشافعي: لا أجيزه. ماذا عندنا وماذا عندكم، قال: أما عندكم فالذي يسهو في الصلاة يسجد سجود السهو وانتهى الأمر، قال: وعندكم. قال: هذا الذي يسهو في الصلاة ينبغي أن تقطع رقبته، فسأله سؤال آخر: ما الذي يجب على المسلم من الزكاة؟ فقال له: عندنا أم عندكم؟ قال له: وأيضاً فيها عندنا وعندكم، قال: نعم. قال: عندنا وعندكم فصِّل، قال: عندكم يخرج (2. 5%) وإذا به قد أدى الواجب، قال: وعندكم؟ قال: عندنا يخرج عن جميع ماله، هذه هي القاعدة، وهذا خطأ؛ لأن الخروج عن جميع المال قد يؤدي إلى أمور مخالفة للإسلام. وفعلاً إذا قرأت حكايات الصوفية في هذا المجال ستجد العجب العجاب، وحتى بعض المحدثين ابتلوا بالتصوف، فكان قد ضيَّع قسماً من حياته في علم الحديث، فلما تصوف أخذ كتب الحديث وحرّقها، وآخر أخذها ودفنها في الأرض، وآخر عنده مال رماه في البحر، هذا كله خروجاً عن المال، كأن الخروج عن المال صار هدفاً، بينما الخروج عن المال هدفه تطهير النفس وتزكيتها وليس خراباً لبيوت الآخرين، بل تساعد نفسك وتنفع إخوانك المسلمين. لعلي أطلت الآن، وهذا الحديث في الواقع عليه تعليقات كثيرة، فلعلنا نؤجل ذلك إلى الدرس الآتي؛ لنتوجه إلى الإجابة عن بقية الأسئلة، علماً أننا لا نستطيع الإجابة عنها كلها، ولذلك اعفونا عن أسئلتكم الليلة.

الأسئلة

الأسئلة

درء التعارض الموهوم بين قوله تعالى: (وقال الظالمون.

درء التعارض الموهوم بين قوله تعالى: (وقال الظالمون ... ) وحديث عائشة أن النبي سُحِر Q هل هناك تعارض بين حديث الآحاد الذي يبين أن الرسول عليه السلام قد سُحر، وبين الآية التي تقول: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] ؟ وإذا كان قد سُحر فهل يعني أنه قطع الذهاب إلى المسجد وتبليغ الرسالة، والرسول معصوم عن أذى الناس؟ A المسألة تطرقنا لها كثيراً، ولذلك أحاول الإجابة عنها باختصار بقدر الإمكان. نحن نقول: ليس هناك تعارض بين حديث الرسول عليه السلام، وبين الآية التي تقول: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] ؛ لأن الذي يعنيه الكفار الذين قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] غير ذلك الذي يعنيه حديث عائشة بأن الرسول عليه السلام سحره رجل يهودي. فالذي يعنيه الكفار القائلون للمؤمنين: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] إن تتبعون إلا رجلاً سُحر، وأثَّر فيه السحر حتى لا يشعر بما يخرج من فيه من خلطٍ في الكلام واضطراب، ونحو ذلك مما ليس من طبيعة العقلاء. ولذلك بعض المفسرين فسروا (مسحوراً) أي: (مجنوناً) بمعنى أن السحر الذي زعموه فيه أثَّر فيه حتى جعله مجنوناً غائباً عن وعيه، هذا هو المعنى الذي ألصقه الكفار الظالمون بالرسول عليه السلام، وليس منه لا قليل ولا كثير في حديث السحر الذي يصفه السائل بأنه حديث آحاد، ولو كان هذا الحديث حسناً فقط، فلا تعارض بينه وبين الآية السابقة، للسبب الذي ذكرناه آنفاً: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] مجنوناً: أي: لا يعي ما يقول، والحديث لا يقول هذا الشيء إطلاقاً. وكل شيء في الحديث هو أن الرسول عليه السلام أثَّر فيه السحر من الناحية الجنسية، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه كان قوياً في كل شيء، حتى في بدنه، وما قصة مصارعته ل ركانة وصرعه إياه بغريب عنكم، ومن أجل ذلك جاء في صحيح البخاري أن الصحابة كانوا يتحدثون بأن الرسول عليه السلام أعطي قوة أربعين رجلاً وليتناسب تماماً مع هذه القوة التي خصه الله بها أن استطاع أن يضم وأن يجعل تحت عصمته تسعاً من النساء أو أكثر أحياناً، وكان يطوف على النساء كلهن في ليلة واحدة، ولا حياء في الدين، ولا عيب في رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقاً في هذا، وإن كان الكفار من المستشرقين وأمثالهم من المتوردين من المسلمين، يجعلون ذلك طعناً في الرسول عليه السلام، ولا مطعن في هذا، والحكمة البالغة من جمع الرسول عليه السلام لهذا العدد من النساء معروفة لديكم أو لدى الكثير منكم. فهذه القوة التي كان يتمتع بها الرسول عليه السلام كأنها أغارت اليهود، وحق لهم ذلك؛ لأن هذه القوة كانت حجراً في أعينهم، قذى في أعينهم، ولذلك سلطوا لبيداً اليهودي فسحر الرسول عليه السلام، فوهن وذهبت تلك القوة، فكان يأتي أو يحاول أن يأتي نساءه وإذا به لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ليس كعادته، بل كان يخيَّل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيها، هكذا في رواية صحيح البخاري، وهي رواية مفسرة تأتي على الشبه التي يتشبث بها كثير من كتاب العصر الحاضر، من الذين لا يتعمقون في دراسة الآية أولاً، ثم في دراسة الحديث ثانياً، ولذلك يظهر التعارض بين الآية والحديث ولا تعارض إطلاقاً. ومما يؤكد لكم ذلك: قول هذا السائل المتشبع بما يقرأ من كتابات العصر الحاضر، يقول في آخر سؤاله: والرسول معصوم عن أذى الناس. هذا كلام من الناحية الإسلامية خطأ، فإذا كان الرسول معصوماً عن أذى الناس، فهذه السيرة التي نقرؤها أنه جرح في غزوة أحد، وكسرت رباعيته، وو إلخ، ووضعت سلا الجزور وما فيها من قذر على ظهره وهو يصلي في الكعبة، كيف يقول مسلم: إن الرسول عليه السلام معصوم من أذى الناس؟ ذلك لأنه شبه عليه الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] . فهو فهم (والله يعصمك من الناس) أي: من أذاهم، وهذا تفسير خاطئ، والتاريخ الإسلامي، وتاريخ الحديث النبوي، كل هذا وهذا يبطل هذا التفسير، وذلك مما أشرنا إليه آنفاً أن الرسول أوذي أشد الأذى، بل جاء في الحديث أن الرسول عليه السلام قال: (لم يؤذ أحد مثلما أوذيت أنا) ويقول كرد عام: (نحن معاشر الأنبياء أشد ابتلاءً ثم الأمثل فالأمثل) . إذاً: كيف يقول هذا القائل تبعاً لأولئك الكتاب: أن الله قال للرسول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] أي: من أذاهم، كيف يقولون هذا؟! هذا خطأ. إذاً: ما المقصود بقوله: {يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ؟ أي: يعصمك منهم أن يتمكنوا من قتلك ومن القضاء عليك، فيحولون بذلك بينك وبين تبليغ الرسالة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] كن مطمئناً، فلن يستطيع أحدٌ مطلقاً أن يصل إليك فيقتلك ويمنعك من أن تبلغ رسالة ربك. هذا هو معنى الآية، فلما أساءوا الفهم لهذه الآية أساءوا فهم حديث السحر، أن هذا فيه إيذاء من ذلك اليهودي الخبيث لهذه النفس الطاهرة، فقالوا: إن هذا الرسول معصوم؛ والرسول معصوم بين أن يحول بينه وبين تبليغ الرسالة أحد، أما عن الأذى فليس معصوماً أبداً، وهذا -كما قلنا- خلاف الآية وخلاف الحديث النبوي. إذاً: حديث السحر في جانب والآية ونحوها أيضاً من آيات أخرى في جانب آخر، ولا تعارض بينها وبين الحديث الصحيح، أما وصف السائل تبعاً -أيضاً- لبعض الكتاب المعاصرين لهذا الحديث بأنه حديث آحاد، فهذه فتنة بثتها المعتزلة منذ عشرة قرون وأكثر، وتمكنوا -مع الأسف- من دسها في أذهان بعض أهل السنة الذين يزعمون أنهم يحاربون المعتزلة في أفكارهم وعقائدهم، ولا يحسون ولا يشعرون أنهم معهم في كثير من عقائدهم، ومن ذلك فلسفة حديث الآحاد وحديث التواتر. وهذه فلسفة دخيلة في الإسلام، ليس هناك إلا حديث ثابت أو غير ثابت، وبعد أن يثبت الحديث يجب الأخذ به سواءً كان في العقيدة، أو في الأحكام، أو في الأخلاق، أو في الأخبار، أو في أي شيء كان، ما دام أنه ثبت أن الرسول قاله وجب التسليم. وهذا الحديث لأي صنف من هذه الأصناف؟ هل هو في العقيدة؟ لا. هذا له علاقة بالواقع والتاريخ. إذاً: مرض الرسول عليه السلام أم لا؟ نريد حديث تواتر، ولا يوجد حديث تواترٍ، فكل إنسان يمرض والرسول بشر ويمرض، والرسول سحر أم لم يسحر؟ الحديث أنه سحر، ولا نقول: إنه سحر لأنه لا يجوز أن ننسب للرسول ما لم يثبت. وهاتان المعوذتان مكيتان، وليس عندهم دليل إطلاقاً في ذلك، بينما هناك حديث صحيح أنهما نزلتا بمناسبة سحر الرسول عليه الصلاة والسلام. إذاً: ادعاء أن هذا حديث آحاد من أجل التقليل والتضعيف منه؛ هذا لا ينبغي أن يذكره المسلم× لأنها فلسفة اعتزالية. وثانياً: هذا الحديث ليس معارضاً للآية، كما ذكرنا أن الآية تعني (مسحوراً) بمعنى (مجنوناً) أي: لا يعي ما يقول، أما الرسول فعلى خلاف ما جاء في كلام السائل في الأخير، من أنه ما استطاع أن يخرج إلى المسجد ولا أن يجلس مع المسلمين، وهذا ليس كذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام ظل كما كان من قبل، ونحن نعلم أيضاً من تاريخ الإسلام الصحيح والسيرة النبوية الصحيحة أن الرسول عليه السلام لما مَرِض مَرَض موته، وكَّل أبا بكر أن يصلي بالناس، وكَّل فقط في آخر حياته أبا بكر أن يصلي بالناس، وفي غير ذلك استمر هو دائماً وأبداً إلا إذا سافر من المدينة فكان غيره يصلي. أما وهو حادث فما أناب أحداً أن يصلي عنه إلا في مرض موته. إذاً: في هذه الحادثة كان يصلي هو، ولو تأخر يوماً واحداً لنقل ذلك، كيف وهذا المرض استمر في الرسول عليه السلام ستة أشهر؟ فلو كان كما قال الظالمون قديماً والكفار، وكما يقول الظالمون حديثاً والمسلمون لكنهم جاهلون، يظنون أن الحديث يعني ما تعني الآية، لو كان الأمر كذلك لكان التاريخ نقل إلينا ذلك، لكن التاريخ ما نقل شيئاً من ذلك. فنقول لهم: إذاً: افهموا الحديث في حدود وقته، وفي حدود تاريخ حياة الرسول عليه السلام من أولها إلى آخرها، حيث أنه ما ثبت أن النبي تأخر عن القيام في واجباته خلافاً لقول السائل: وإذا كان قد سُحر فهذا يعني أنه قطع الذهاب إلى المسجد وتبليغ الرسالة. نحن نعرف -كما عند العامة- أن فلاناً إذا تزوج ومرت عليه أول ليلة وثاني ليلة وشهر وأكثر ولم يستطع أن يؤدي واجبه يسمونه (مربوطاً) ، فهل هذا المربوط لا يذهب إلى عمله وينقطع عن شغله؟ لا. هو مثلكم لكنه عاجز عن تلك المواهب لسبب ما، فهل يعني هذا أنه تغير عقله وتغير تفكيره؟ أبداً. كذلك قوته أيضاً، أي: ليس عنده قوة، فهذا إما مرضاً وإما سحراً، فإذا كان مرضاً فالأطباء يكتشفونه، وإذا كان سحراً فلا يستطيع الأطباء أبداً أن يكتشفوه؛ لأن هذا مرض روحي والأطباء يعالجون الأمراض المادية، ومن هنا يجب على المسلمين أن يتعالجوا بالطب النبوي ومنه قراءة المعوذتين، وقراءة بعض الأوراد الخاصة المختصرة: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق صباحاً ومساءً، إلى آخره، فلن يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر) . وهذه الحادثة تأكيد لخلاف ما تقوله المعتزلة وأذنابهم في العصر الحاضر: أن السحر لا تأثير له، كيف يقول هؤلاء هذا الكلام والرسول يأمرنا بأن نتعوذ وأن من فعل ذلك لم يؤثر فيه سم ولا سحر؟ فقرن السحر من حيث التأثير مع السم، فهل يقال: إن السم لا يؤثر؟ لا؛ لأن تأثيره مادي، فهو ملموس، فهؤلاء الماديون يؤمنون بالمادة، أما هذا السحر ا

الفرق بين المتبع والمقلد والمجتهد

الفرق بين المتبع والمقلد والمجتهد Q قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] هل يعني اتباعه التقليد الأعمى هنا؟ إذا كان كذلك فما الفرق بين المتبع والمقلد والمجتهد؟ وهل المجتهد يلزم الناس باتباعه، أم أنه لنفسه فقط؟ وهل بمقدورنا أن نجتهد حتى نستغني عن المذاهب ونكتفي بهذا؟ A أولاً: الاتباع من حيث اللغة أعم من أن يكون في الخير أو في الشر، فيأتي في الخير ويأتي في الشر، وهنا كما ترون جاء بمعنى الشر: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] لكن كون الاتباع هنا جاء في الشر لا يعني أنه يأتي دائماً في الشر، فهناك آيات كثيرة أتى فيها الاتباع بمعنى الاتباع في الخير، وأشهر آية وأقرب تناولاً لأفكارنا قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] . إذاً: الاتباع من حيث اللغة ليس خاصاً لا في الخير ولا في الشر، فالاتباع يفسر بالنظر إلى الموضع الذي جاءت فيه اللفظة، ففي الآية التي تخالف هذا العمل من الواضح أن الاتباع كان في الشر، والآية التي تلوتها عليكم من الواضح أن الاتباع في الخير؛ لأن الله عز وجل يجعل دليل محبة نبيه ومحبة الله لنا اتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الاتباع في الخير. إذاً: القضية من حيث اللغة ليست دلالة خاصة في الخير أو في الشر، لذلك لما قال السائل: هل يعني اتباعه التقليد الأعمى هنا؟ إذا كان كذلك فما الفرق بين المتبع والمقلد والمجتهد؟ نقول: الفرق هنا اصطلاحي، بعد أن عرفنا أن الاتباع في اللغة أعم من أن يكون في الخير أو في الشر، فحينما يقال مجتهد، وحينما يقال متبع، وحينما يقال مقلد، هذا اصطلاح، فما معنى كلمة (مقلد) من حيث اللغة؟ المقلد هو الذي قلد غيره القلادة، لكن استعير هذا المعنى إلى المسلم الجاهل الذي يقلد بدينه غيره. كذلك الاتباع أو المتبع، فميز في هذا العلماء المحققون الذين يدعون إلى تنوير الأذهان بإبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً لأهله، وليكذب بعد ذلك من شاء، وليفتر عليهم من يقول: إن الاجتهاد مفتوح حتى للعوام، هذا كذب وبهت ومحض افتراء، نقول: أولئك العلماء الذين يرون بأنه من الخير بل من الواجب بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً لأهله، هؤلاء باجتهادهم وفهمهم وجدوا أن الناس ليس بمثابة واحدة من غير المجتهدين، بمعنى أنهم رأوا من الظلم جعل غير المجتهدين مقلدين؛ لأن التقليد معناه في الاصطلاح العلمي هو الذي يدل عليه في الأصل الاشتقاق اللغوي، هو التقليد الأعمى دون أن تعرف وجهة نظر هذا العالم الذي يقول هذا حرام، أو هذا حلال، أو هذا فرض، أو هذا سنة، هو يقول لك كذا وأنت تقول له بلسان الحال: آمين، صدقت. هذا هو التقليد الأعمى، وليس كل الناس هكذا، فأناس عندهم شيء من العلم، وشيء من الفهم والإدراك، بحيث أنه إذا عرض عليه قولان لعالمين جليلين من علماء المسلمين دليل هذا كذا ودليل هذا كذا، يعي العقل ويفهم دون أن يبحث في بطون الكتب والآيات والأحاديث، وصحيح وضعيف، ومؤول وغير مؤول، إنما يسمع ليرى بعد ذلك رأيين أو أكثر بأدلة كل رأي، فيميز هذا على هذا، ويرجح هذا على هذا. لكن إذا عرضت مثل هذا العرض على عامة الناس، فماذا يعرفون عن السنن؟ يكونون حيارى؛ كما سيأتي إن شاء الله في الدرس الآتي أو الذي بعده، لو ناقشنا مسألة ما وكل واحد يرى أن الحق معه، هو معذور تماماً، لكن الذين عاشوا في الدعوة السلفية قدراً من الزمن، وعرفوا كيف ينبغي أن يعيش العامي السلفي لا يقع في هذه الحيرة الخلاصة: هل يستوي عندنا مثلاً بعض إخواننا الأفاضل؟ هل هذا الإنسان نعامله كمعاملة رجل من عامة المسلمين لا يعرف الألف المطوية -كما يقول العامة هنا- بينما هذا قد درس علم اللغة وعلم الحديث، وأخذ شهادة كلية الشريعة، هل هذا كهذا؟ لا يستويان مثلاً؛ لذلك هذا الواقع حمل هؤلاء الأئمة المحققين أن ينصفوا الذي هم فوق مستوى عوام المسلمين وجهلتهم ومقلدتهم، فأطلقوا عليهم متبعين، كي يفرق بين المقلد الذي لا يعرف إلا قال الشيخ فقط، لكن الثاني يقول لك: قال الشيخ وعلته كذا، ورد عليه فلان وعلته كذا، لكنه حديث ضعيف، لكن هذا تأويل، وهذا خلاف الأمر. إلخ، فيميز هذا الإنسان، وننزله بالمنزلة التي وضعه الله فيها، لا نجعله مع عوام المسلمين، فهذا ظلم مبين. لذلك اقترح العلماء فجعلوا مراتب العلم ثلاثة: المرتبة الأولى: الاجتهاد، وهو أرقى المراتب، وهو الذي يتمكن من فهم المسألة مباشرة من الكتاب والسنة. المرتبة الثانية: الاتباع، يتمكن من فهم كلام المصيبين وأدلتهم بعد عرضها والاطلاع عليها واتباع الدليل الأقوى ممن دونه. المرتبة الثالثة: المقلد، مثل العوام تماماً، فهذا تقول له: هذا حرام، يقول: آمين، تقول: حلال، يقول: آمين. ولذلك فمن الجهل بل من الغباوة أن نسوي بين متخرج من كلية الشريعة، فضلاً عن مدرس في كلية الشريعة، وبين الرجل الجاهل الذي لا يعرف من العلم ولا من الفقه ولا من الحديث شيئاً، الذي يقول هذا يظلم نفسه قبل أن يظلم غيره، وذلك هو الظلم المبين. هنا سؤال مهم: هل المجتهد يلزم الناس باتباعه أم أنه يجتهد لنفسه فقط؟ الجواب: مثل هذا السؤال يدفع إليه أمران متناقضان في هذا الزمان: الأمر الأول: أن المقلد اليوم والمتمذهب جميعهم يتوهمون أن الأئمة الأربعة دعوا الناس إلى اتباع مذاهبهم، وهذا خطأ وافتراء عليهم، وما ثبت عن إمام من أئمة المسلمين أبداً، لا هؤلاء الأربعة ولا من قبلهم ولا من بعدهم، أنهم دعوا الناس جميعاً إلى اتباعهم في الحرف الواحد، حاشاهم من ذلك! كيف وابن مسعود كان يقول: [هذا رأيي فمن كان عنده خير منه فليأتنا به] . كيف يقال أن الإمام المجتهد ألزم أتباعه باتباعه، أليسوا يقرءون: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] ؟! ولا يقولنّ منحرف عن السنة: هذه الآية نزلت في الكفار. نعم، الله أنزلها في الكفار، ونحن لا نعمل عمل الكفار، لا نتبع أئمتنا على عمى وإنما على بصيرة، ومن هذا العمى أن ننسب إلى الأئمة شيئاً ما قالوه، هم ما قالوا على أحد من أتباعهم الأولين ما لم يقولوه، وأيضاً إذا زعمنا هذا، إذاً هم -لا سمح الله لا سمح الله لا سمح الله- طواغيت، يدعون الناس إلى اتباعهم من دون اتباع الإسلام، فهل يظن المسلم شيئاً من هذا في أئمة المسلمين؟! لا أعرف! لكن لازم هؤلاء عندما يقولون: دعوا أتباعهم لاتباعهم، لازمهم أن هؤلاء طواغيت، ونحن نبرئهم من ذلك، وهذا الفهم الخاطئ نتج منه فهم خاطئ جديد، وهو أن هؤلاء المتبعون أمثالنا يدعون المسلمين إلى الكتاب والسنة، وعلى منهج سلف الأمة، يقولون عنا بأننا مجتهدون، ونحن لا ننكر ولا نهاب ولا نخاف، نحن نجتهد في كثير من المسائل التي تحدث اليوم حيث لا يستطيع المقلدون أن يجتهدوا فيها، ونحن نقول على عين بصيرة: لا ترد المسائل التي اختلفوا فيها، وكل إمام وكل أتباعه مع الزمن يبين ما عندهم من أدلة صحيحة وغير صحيحة، هذه تعرض أمامنا ونحن ليس لنا إلا الاختيار.

الأجوبة الألبانية على الأسئلة الكويتية [1، 2]

الأجوبة الألبانية على الأسئلة الكويتية [1، 2] في هذه المادة يستضيف الشيخ رحمه الله مجموعة من طلاب العلم من الكويت، جاءوا لزيارته والاستفادة منه، فبدأ بنصيحة حول الاعتماد على الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة تعلماً وتعليماً وتحكيماً واتباعاً، ثم أجاب عن جمع من أسئلتهم المفيدة حول مسائل عقدية وفقهية ودعوية.

أهمية التمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف علما وعملا

أهمية التمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف علماً وعملاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فالواجب على كل مسلم أن يعبد الله تبارك وتعالى على العلم النافع والعمل الصالح، ولعلكم جميعاً أو أكثركم يعلم أن العلم النافع لا يكون إلا إذا كان مستقىً ومستنبطاً من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ما جاءنا عن السلف الصالح؛ لأنهم هم القوم لا يشقى جليسهم، وقد جاء الأمر باتباع الكتاب والسنة والسلف الصالح في غير ما حديث واحد، لعلنا نقتصر على التذكير منها بحديث واحد؛ ألا وهو حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! أوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن ولي عليكم عبدٌ حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ، في هذا الحديث -كما سمعتم- الأمر بشيء زائد عن الكتاب والسنة، ألا وهو اتباع سنة الخلفاء الراشدين من بعد النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؛ وما ذاك إلا لأن الخلفاء الراشدين تلقوا العلم والكتاب والسنة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة دون واسطة ما، وفهموا هذه السنة والقرآن الكريم كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك فينبغي على كل طالب للعلم ألا ينسى هذا الأمر النبوي الكريم في اتباع الخلفاء الراشدين، ويلحق بهم من كان من أهل العلم من الصحابة الآخرين. فإذا كان الأمر كذلك؛ فعلينا أن تكون دعوتنا وعلمنا مستنبطاً من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، من أجل ذلك يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيهِ كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشبيه هذا ما يتعلق بالعلم النافع الذي يجب أن يكون هدف كل طالب علم، وليس أن يكون هدفه طلب العلم التقليدي القائم على التعصب المذهبي فهذا حنفي! وذاك مالكي! والثالث شافعي! والرابع حنبلي! هؤلاء الأئمة -لا شك ولا ريب- أننا نجلهم ونقدرهم حق قدرهم، ولذلك فنحن نتبع سبيلهم الذي انطلقوا وساروا عليه، وما هو إلا سبيل السلف الصالح كما ذكرنا آنفاً، ولكننا لا نتعصب لواحد منهم على الآخر، هذا هو العلم النافع، أي: المستقى من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح. أما العمل فيجب أن يكون المسلم فيه مخلصاً لله عز وجل، لا يبتغي من وراء ذلك جزاءً ولا شكوراً، ولا أجراً ولا ظهوراً ولا وظيفة، ولا ما شابه ذلك، وإنما يعمل العمل الصالح لله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] قال علماء التفسير والفقه في هذه الجملة الأخيرة من الآية الكريمة: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] قالوا: لا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان موافقاً للسنة، ولا يكون مقبولاً عند الله ولو كان موافقاً للسنة إلا إذا كان خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا، ً فحسبنا بين يدي هذه الأسئلة هذه الكلمة الوجيزة، فهي تتلخص بأنه يجب على كل مسلم أن يحسن طلب العلم على ضوء الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، وألا يبتغي من أعماله الصالحة إلا وجه الله تبارك وتعالى، هذا ما يسر الله عز وجل بناءً على هذا الطلب.

الأسئلة

الأسئلة

طريقة الانطلاق والترقي في سبيل الدعوة

طريقة الانطلاق والترقي في سبيل الدعوة Q كيف يرتقي المسلم بنفسه في مجال الدعوة إلى الله عز وجل؟ A الحقيقة كان في نفسي آنفاً لما ألقيت تلك الكلمة الوجيزة في العلم النافع والعمل الصالح، أن أتحدث عن شيء يتعلق بالدعوة، فجاء هذا السؤال الآن ليفتح لي الطريق للخوض فيما كنت فكرت فيه ثم لم أفعله. أما كيف يرقي الإنسان نفسه في سبيل الدعوة؟ فذلك بلا شك يحتاج إلى أمرين اثنين فيما يبدو لي: الأمر الأول: أن تظل علاقته مع أهل العلم سواءً من كان منهم حياً في كتابه أو كان حياً في دعوته، أي: أن يكون ذا صلة قصوى بكتب أهل العلم الذين عُرِفوا باستقامتهم في عقيدتهم، فلا ينقطع عن المراجعة والمطالعة والاستزادة من علمهم؛ لأن ذلك يساعده على أن يترقى وعلى أن ينطلق في دعوته إلى الله تبارك وتعالى. الأمر الثاني: أن يكثر صلته بأهل العلم الأحياء منهم، وبخاصة من كان منهم معروفاً أن عقيدته صالحة، وأخلاقه كريمة طيبة؛ لأننا نعلم أن القدوة الحسنة لها أثر كبير جداً في الناس المقتدين بهم، إذا كان الرجل أو العالم أو الشيخ المقتدى به فيه شيء من الانحراف الفكري أو الخلقي، فلا يبعد أن يؤثر ذلك الشخص أو الشيخ في الذين يتصلون به أو يتلقون العلم عنه، ومعلوم أحاديث كثيرة معروفة عن الرسول عليه السلام فيها الحض على مصاحبة الصالحين ومرافقتهم، كمثل قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) فوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأن نصاحب المسلم التقي؛ ما ذلك إلا لأن عدوى الصالح تسري بالخير إلى المصاحب له، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله: (مثل الجليس الصالح كمثل بائع المسك؛ إما أن يحذيك -أي: يعطيك-، وإما أن تشتري منه، وإما أن تشم منه رائحة طيبة، ومثل الجليس السوء كمثل نافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تشم منه رائحة كريهة) ولذلك من كان يريد الانطلاق والترقي في سبيل الدعوة فلا بد أن يحافظ على هذين الأمرين: الأمر الأول: أن يكون كثير الصلة بكتب أهل العلم الماضيين المعروفين بالعلم النافع والعقيدة الصحيحة. والأمر الثاني: إذا تيسر له أيضاً في مجتمعه الذي يعيش فيه بعض أهل العلم والصلاح، فعليه أيضاً أن يتصل بهم ما أمكنه ذلك، حتى يتأثر بمسراهم، ويستفيد من أخلاقهم وسلوكهم، هذا الذي يبدو لي أنه جواب عن هذا السؤال.

علاج ظاهرة الفتور والضعف الإيماني لدى الدعاة

علاج ظاهرة الفتور والضعف الإيماني لدى الدعاة Q ما علاج ظاهرة الفتور أو الضعف الإيماني لدى بعض الدعاة؟ A هذا في الحقيقة يعود إلى شيء سبق أن أشرت إليه، وهو علة العلل في هذا العصر في كثير من الدعاة؛ ألا وهو: عدم الإخلاص في الدعوة. هناك ظاهرة تلفت نظر المفكر الذي يحاول أن يتعرف على ما يصيب المسلمين من أدواء، وأن يقدم -في حدود ما يعلم وما عنده من علم- الدواء، الظاهرة هي أن كلمة الدعوة أصبحت اليوم مهنة، وأصبحت يتبناها كل من يشعر أن لديه شيئاً من العلم، وهو ليس -كما يقال-: في العير ولا النفير، في العلم. وذلك كما ترون من زاوية أخرى أن كلمة (السلفية) الآن أصبحت متبناة من كثير من المسلمين، الذين قد يكون بعضهم على الأقل كان يظهر عِداءه الشديد لهذه الدعوة، فلما انتشرت هذه الدعوة وأخذت مكانها اللائق بها في العالم الإسلامي، أخذ أكثر الناس من الدعاة ولو لم يكن لهم أي صلة بالدعوة السلفية الصحيحة يدعون السلفية، ومن هنا يدخل في هذا المنهج العلمي السلفي من ليس له صلة مطلقاً بهذا المنهج. ولذلك فأنا أعتقد أن السبب هو فقدان الإخلاص للدعوة؛ لأني أعتقد -كما أشرت آنفاً، ولعله في السؤال الأول- أن الداعية حقاً يجب أن يكون وثيق الصلة ومستمر الصلة بالعلماء أمواتاً وأحياءً؛ ذلك لكي ينمي في نفسه الفقه والفهم للعلم وأسلوب الدعوة إلى هذا العلم الصحيح. وهذا بلا شك يحتاج إلى جهود جبارة وصبر على الدعوة، وهذا لا يستطيعه في الواقع إلا من كان مخلصاً لله عز وجل كل الإخلاص، فانصراف بعض من ينتمون إلى الدعوة عن القيام بحقها وبواجبها، هو دليل على أنهم لم يكونوا مخلصين في الدعوة، وإلا لماذا هذا التأخر في ذلك والانصراف عن مقتضيات الدعوة ولوازمها؟! هذا باعتقادي هو سبب ما جاء في هذا السؤال. وباختصار: هذا هو عدم الإخلاص، وهذا ليس له علاج إلا باللجوء إلى الله تبارك وتعالى، وتذكيرهم ممن له قدم راسخ في العلم بهذا الواجب الذي يجب عليهم أن يتمسكوا به، وأن يموتوا عليه، وإلا كان عملهم هباءً منثوراً. السائل: يا شيخ! المقصود ليس فقط الفتور عن الدعوة نفسها، وإنما في إيمان الشخص نفسه فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، بعد أن يكون في بداية تدينه وبداية التوبة متحمساً، وعظيم الإخلاص لله سبحانه وتعالى، ومجتهداً في أداء العبادات، بعد ذلك يجد عزوفاً وانغماساً في الدنيا، أو اللهو أو في تجارة معينة، أو مع النساء. الشيخ: هذا لا نستطيع أن نجيب عليه؛ لأن الأسباب كبيرة، وهي مثبطات عن الاستمرار في السبيل القويم، وأشدها تأثيراً فساد الأجواء التي يعيش فيها هؤلاء الناس، وآنفاً ذكرت قوله عليه الصلاة والسلام: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء ... ) ومما يتعلق بهذا أن المجتمع الفاسد له تأثير كبير جداً في الأفراد الذين يعيشون فيه، ولذلك جاءت أحاديث كثيرة تحض المسلم بأن يكون مع الصالحين -كما ذكرنا آنفاً- لكن أذكر شيئاً آخر، منها قوله عليه السلام: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقوله أيضاً في الحديث الآخر: (من جامع المشرك فهو مثله) . وأوضح من ذلك تبياناً لأثر البيئة الفاسدة للناس المقيمين فيها، الحديث المعروف في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم أراد أن يتوب، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فجاء إليه وقال: أنا قتلت تسعة وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ قال: لا، قتلت تسعة وتسعين نفساً فلا توبة لك، فقتله وأتم به المائة) ولكنه فيما يبدو من تمام القصة كان مخلصاً في قصده للتوبة، ولذلك فقد استمر يسأل عن أعلم أهل الأرض حتى دُلَّ على عالم، هو من قبل سأل نفس السؤال، لكن الدالَّ كان جاهلاً، فبدلاً من أن يدله على عالم دله على راهب، والراهب كناية عن عبادته مع جهله، وظهر جهله هذا في جوابه، حيث قال له: لا توبة لك، فقتله. أما في المرة الثانية فقد كان حظه طيباً (فدُلَّ على عالم، فقال له: أنا قتلت مائة نفس، وأريد أن أتوب إلى الله عز وجل، فهل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكنك بأرض سوءٍ -هنا الشاهد- فاخرج منها إلى القرية الفلانية الصالح أهلها) فانطلق يمشي إليها؛ لأنه كان مخلصاً في السؤال، وكان مستسلماً لجواب العالم، فلما أفهمه العالم أنك ما شقيت هذه الشقوة حتى قتلت مائة نفس بغير حق إلا لأنك تعيش في جو موبوء فاسد، فاخرج من هذه البلدة إلى البلدة الصالح أهلها، وعينها له، فانطلق يمشي. (وفي الطريق جاءه الموت، فتنازعته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كل يدعي بأنه من حقه أن يتولى نزع روحه، فأرسل الله إليهم حكماً أن قيسوا ما بينه وبين كل من القريتين؛ القرية التي خرج منها والتي خرج قاصداً إياها، فقاسوا فوجدوه أقرب إلى القرية الصالح أهلها بمقدار ميل الإنسان في مشيته، فتولته ملائكة الرحمة) . الشاهد من هذا الحديث: أن هذا العالم حقاً قد عرف سبب شقاوة هذا الإنسان وإقدامه على قتل مائة نفس، وهو أنه في جو فاسد. فهذا الحديث وما سبق ذكره يدل على أن المسلم يجب أن يحيط نفسه ببيئة صالحة، وبرفقاء صالحين، وأن يبتعد عن رفقاء السوء وعن البيئة السيئة حتى لا يتأثر بها. فهذا هو السبب في انحراف بعض الناس، سواءً كانوا من الدعاة أو من عامتهم.

تأملات عميقة في الدعوة السلفية

تأملات عميقة في الدعوة السلفية Q ما رأي فضيلتكم في أوضاع الدعوة السلفية عموماً، في الكويت ومصر والسعودية خصوصاً؟ A أنا أقول: إن الدعوة السلفية الآن -مع الأسف- في اضطراب، وأعزو السبب في ذلك إلى تسرع كثير من الشباب المسلم في ادعاء العلم، فهو يتجرأ على الإفتاء والتحريم والتحليل قبل أن يُعرف، بعضهم -كما سمعنا كثيراً- لا يحسن أن يقرأ آية من القرآن، ولو أنها أمامه في المصحف الكريم، فضلاً عن أنه كثيراً ما يلحن في قراءة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فيصدق فيه المثل المعروف في بعض البلاد: "تزبب قبل أن يتحصرم" أي: العنب حينما يبدأ يصير حباً أخضر، وهذا هو الحصرم، ويكون حامضاً جداً، فهو قبل أن يتحصرم جعل نفسه كالزبيب، أي: كالعنب الذي نضج وصُيِّرَ زبيباً، ولذلك فركوب كثير من هؤلاء الناس رءوسهم وتسرعهم في ادعاء العلم والكتابة، وهم لَمْ يمشوا بعد إلى منتصف طريق العلم، هو الذي جعل الذين ينتمون للدعوة السلفية الآن -مع الأسف- شيعاً وأحزاباً. ولذلك علاجه الوحيد بأن يتقي هؤلاء المسلمون ربهم عز وجل، وأن يعرفوا أنه ليس لكل من بدأ في طلب العلم أن يتصدر في الإفتاء في التحريم والتحليل، وفي تصحيح الحديث وتضعيفه، إلا بعد عمر طويل، يتمرس في هذا العمر على معرفة كيف يكون الإفتاء، وكيف يكون الاستنباط من الكتاب ومن السنة. وفي هذا الصدد لا بد أن يتقيد هؤلاء الدعاة السلفيون بالقيد الثالث، الذي سبق أن ذكرته في أثناء الكلام عن العلم النافع والعمل الصالح، فقد قلنا: إن العلم النافع يجب أن يكون على منهج السلف الصالح، فحينما يحيد كثير من الدعاة الإسلاميين اليوم عن التقيد بهذا القيد الثابت، الذي أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله في شعره السابق حين قال: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه فعدم الالتفات إلى ما كان عليه السلف الصالح يعود بالناس بعد أن اتفقوا إلى الفُرقة التي تُبَاعِدُ بينهم، كما باعدت من قبل بين كثير من المسلمين، فجعلتهم شيعاً وأحزاباً: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] . هذا رأيي في هذا الواقع، فعليهم إذا كانوا مخلصين -كما نرجو- أن يتمسكوا بالمبادئ العلمية الصحيحة، وألا يتجرأ من لم يكن قد وصل إلى مرتبة العلم وصولاً صحيحاً أن يتورع عن ذلك، وأن يكل العلم إلى عالميه. ويعجبني في هذا الصدد بعض الروايات التي وردت في كتب الحديث -وأنا أظن أنها عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله، وهو من كبار علماء السلف الصالح - قال: [لقد أدركت في هذا المسجد -ولعله يشير إلى مسجد المدينة المنورة - سبعين من الصحابة، كان أحدهم إذا سُئل عن مسألة أو استفتي عن فتوى، يتمنى أن يتولى ذلك غيره من علماء الصحابة الحاضرين] . والسبب في ذلك هو أنهم يخشون أن يقعوا في خطأ، فيوقعون غيرهم في الخطأ، فيتمنى أحدهم ألا يتحمل هذه المسئولية ويتحملها غيره. أما الآن فالظاهرة معاكسة تماماً مع الأسف الشديد، وذلك يعود إلى سبب واضح، وأنا أذكره دائماً وأبداً، وهو أن التفتح الذي نشعر به الآن للكتاب والسنة والدعوة السلفية هو أمر حادث، ولم يمض على هذا التفتح الذي يسمونه بالصحوة، لم يمض زمن طويل حتى يجني هؤلاء الناس ثمرة هذه الدعوة والصحوة والتفتح في أنفسهم، أي: أن يتربوا على أساس الكتاب السنة، ثم هم بالتالي يفيضون بهذه التربية الصحيحة القائمة على الكتاب والسنة على غيرهم ممن حولهم الأدنى فالأدنى، فالسبب أن هذه الدعوة لم يظهر أثرها؛ لأنها حديثة العهد بهذا العصر الذي نحن نعيش فيه؛ ولذلك نجد الظاهرة المعاكسة لما ذكرناه آنفاً، مما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أولئك الصحابة الذين كانوا يتورعون عن أن يسألوا، ويتمنون أن يُسأل غيرهم، وما كانوا يجيبون عن السؤال إلا لعلمهم بأنه لا يجوز لهم أن يكتموا العلم، لكن في قرارة قلوبهم كانوا يتمنون أن يتولى ذلك غيرهم. أما الآن فتجد في كثير من المجتمعات السلفية -فضلاً عن غيرها- يُسأل أحد ممن يظن فيه أنه أكثر من الحاضرين علماً، وإذا بك تجد فلاناً بدأ يتكلم وهو غير مسئول، وفلاناً بدأ يتكلم وهو غير مسئول، ما الذي يدفع هؤلاء؟ إنه حب الظهور، والأنانية، ولسان حاله يقول: أنا هنا، أي: أنا عندي علم، وما شاء الله عليه! هذا على ماذا يدل؟ يدل على أننا لم نترب التربية السلفية، نحن نشأنا على العلم السلفي، وكل بحسب اجتهاده وسعيه إلى هذا العلم، أما التربية فما حصلناها بعدُ كمجتمع إسلامي سلفي، ولذلك هذه الجماعات والتكتلات والأحزاب، في كل حزب نجد مثل هذا التفرق وما سببه إلا عدم التربية الإسلامية الصحيحة. أقول: علاج هذه الأمة ليعود إليها مجدها، ولتتحقق لها دولتها، ليس لذلك سبيلٌ إلا البدء بما ألخصه بكلمتين اثنتين: بالتصفية والتربية، خلافاً لجماعات كثيرة يسعون إلى إقامة الدولة المسلمة -بزعمهم- بوضع أيديهم على الحكم؛ سواءً كان ذلك بطريق سلمي كما يقولون: بالانتخابات، أو كان ذلك بطريق دموي، كانقلابات عسكرية وثورات دموية، ونحو ذلك، نقول: هذا ليس هو السبيل لإقامة دولة الإسلام على أرض الإسلام، وإنما السبيل هو سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي دعا في مكة -كما تعلمون- ثلاث عشرة سنة، ثم أتم الدعوة في المدينة، وهناك بدأ بعد أن استصفى له ممن اتبعه وآمن به رجالاً لا تأخذهم في الله لومة لائم، فبدأ بوضع أسس الدولة المسلمة. والتاريخ -كما يقولون- يعيد نفسه، فلا سبيل أبداً، وأنا على يقين مما أقول، والتجربة الواقعية منذ نحو قرن من الزمان تدل على أنه لا مجال إطلاقاً، لتحقيق نهضة إسلامية صحيحة، ومن ورائها إقامة الدولة المسلمة إلا بتحقيق هذين الهدفين: التصفية: وهو كناية عن العلم الصحيح، والتربية: وهو أن يكون الإنسان مربىً على هذا العلم الصحيح على الكتاب والسنة. نحن الآن في صحوة علمية ولسنا في صحوة تربوية، ولذلك نجد كثيراً من الأفراد من بعض الدعاة يستفاد منه العلم، لكن لا يستفاد منه الخُلُق، لماذا؟ لأنه هو نشَّأ نفسه على العلم، ولكنه لم يكن في بيئة صالحة رُبِّيَ فيها منذ نعومة أظفاره؛ فلذلك فهو يحيا ويعيش وهو يحمل الأخلاق التي ورثها من ذاك المجتمع الذي عاش فيه وولد فيه، وهو مجتمع بلا شك ليس مجتمعاً إسلامياً، لكنه استطاع بشخصه أو بدلالة بعض أهل العلم أن ينحو منحىً علمياً صحيحاً، لكن هذا العلم ما ظهر أثره في خلقه وسلوكه وأعماله، فهذه الظاهرة التي نحن الآن في صدد الكلام عنها سببها هو: أولاً: أننا لم ننضج علمياً إلا أفراداً قليلين. وثانياً: الأفراد أكثر من ذلك لم يربوا تربية إسلامية صحيحة، ولذلك فتجد كثيراً من المبتدئين في طلب العلم ينصب نفسه رئيساً رئيساً لجماعة أو لحزبٍ، وهنا تأتي حكمة قديمة لتعبر عن أثر هذا الظهور، وهي التي تقول: (حب الظهور يقطع الظهور) . فهذا أسبابه يعود إلى عدم التربية الصحيحة على هذا العلم الصحيح.

سلفية سيد قطب

سلفية سيد قطب Q ظهرت في بعض الدول العربية جماعة يدعون أنهم أتباع سيد قطب، وأنهم هم السلفيون حقاً، فما رأيكم؟ A رأيي أن المشكلة هي هي، وجوابي عليها: والدعاوى ما لم تقيموا عليـ ـها بينات أصحابها أدعياءُ نحن نعتقد أن سيد قطب رحمه الله لم يكن سلفي المنهج في عامة حياته، ولكن ظهر له اتجاهٌ قوي إلى المنهج السلفي في آخر حياته وهو يعيش في سجنه، فالسلفية ليست مجرد دعوة، السلفية تتطلب معرفة بالكتاب والسنة الصحيحة والآثار السلفية، نحن نعلم من هؤلاء وأمثالهم الذين يدعون أن دعوتهم قائمة على الكتاب والسنة؛ أنهم لا يعرفون أصول فهم الكتاب أولاً، وهذه الأصول معروفة من كلام ابن تيمية في رسالته في أصول الفقه، وكلمات أئمة التفسير كـ ابن جرير وابن كثير وغيرهم؛ أن القرآن يفسر بالقرآن، وإلا فبالحديث، وإلا فبأقوال الصحابة، ومن دونهم من السلف الصالح، فالذين يدعون السلفية لا يسلكون في سبيل تفسير القرآن هذا السبيل العلمي المتفق عليه بين علماء المسلمين. السائل: هل هذا موجود عند القطبية؟ الشيخ: نعم. هو موجود؛ ولذلك تجد في تفسير سيد قطب بعض التفاسير التي تنحو منحى الخلفيين الذين يخالفون السلف الصالح. ثم أريد أن أقول: إن هؤلاء لا يُعْنَوْنَ بتمييز السنة الصحيحة من الضعيفة؛ فضلاً عن أنهم لا يعنون بتتبع الآثار عن الصحابة والسلف الصالح؛ لأن هذه الآثار هي التي تعين العالم على فهم الكتاب والسنة كما أشرنا إليه آنفاً. من أين تأتيهم السلفية إذا كانوا هم بعيدين عن فهم الأصل الأول للإسلام وهو القرآن على الأصول العلمية الصحيحة، وبعيدين عن تمييز الصحيح من الضعيف من الحديث، وأبعد من ذلك عن أن يتتبعوا آثار السلف الصالح حتى يهتدوا بهديها ويستنيروا بنورها؟ إذاً: القضية ليست مجرد ادعاء، ولماذا هؤلاء يدعون أنهم سلفيون؟ للأمر الذي ذكرته في بعض أجوبتي السابقة؛ أن الدعوة السلفية الآن -والفضل لله عز وجل- غطت الساحة الإسلامية تقريباً، وظهر لأكثر من كان يعاديها -ولو في الجملة- أن هذه الدعوة هي دعوة الحق؛ ولذلك فهم ينتمون إليها ولو كانوا في عملهم بعيدين كل البعد عنها.

وقوع صغائر الذنوب من الأنبياء

وقوع صغائر الذنوب من الأنبياء Q هل الرسل يأتون صغائر الذنوب؟ A أنا أعتقد قبل الإجابة مباشرة عن هذا السؤال، بأنه سؤال كما يقال اليوم: (غير ذي موضوع) ؛ لأن الأمر لا يتعلق بمنهج لنا، وبإصلاح عقائدنا وأعمالنا، وإنما هو أمر يتعلق بمن تقدم النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء والرسل، فما أجد أن مثل هذا السؤال ينبغي الاهتمام بتوجيهه، ولكن لا بد من الإجابة عنه؛ حتى نبين ما عندنا من علم في هذه المسألة. نحن نعتقد أن العصمة المقطوع بها للأنبياء أو الرسل؟ إنما هي: أولاً: العصمة في تبليغ الدعوة. وثانياً: العصمة عن الوقوع في الذنوب الكبائر وهم يعلمونها. أما أن يقعوا في صغيرة من الصغائر التي لا يترتب من ورائها إلا انتفاء الكمال المطلق؛ فهذا لا بأس أن يقع شيء من ذلك من الأنبياء والرسل، وذلك ليبقى مستقراً في قلوب المؤمنين أن الكمال المطلق لله رب العالمين وحده لا شريك له. والقرآن فيه كثير من النصوص والأدلة في إثبات هذه الحقيقة في غير ما نبي أو رسول، فقصة آدم عليه السلام في نهي رب العالمين إياه عن أكل الشجرة، وقول رب العالمين: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] ، وقول القرآن الكريم أيضاً في نبينا عليه الصلاة والسلام: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] هذا كله يدل على أن النبي ممكن أن يتعرض لما لا يليق بمقام نبوته من هذه الصغائر، لكن هل هذا يعيبهم؟ الجواب: لا؛ لأن هذا مقتضى البشرية. كما نقول: هل يعيب النبي والرسول أن يتعرض لما يتعرض له الناس عامةً من مثل السهو والنسيان؟ نقول: لا مانع من أن يتعرض أحد الرسل والأنبياء لمثل هذا؛ لأنه لا يمس بمقام الدعوة التي أرسل بها إلى الناس كافة. فقوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حينما صلى بهم صلاة الظهر خمس ركعات، فلما سلم قالوا له: صليت خمساً، فسجد سجدتي السهو، ثم قال عليه السلام: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) فلا يضر مقام النبوة والرسالة أن يقع منهم مما الأكمل ألا يقع، لكن الكمال المطلق لله عز وجل، الأكمل ألا ينسى الرسول عليه السلام، لكن حكمة الله عز وجل اقتضت أن ينسى الرسول، لكن هذا النسيان لا يمس الدعوة؛ لأنه لا ينسى ما يتعلق بالدعوة، ولذلك يشير ربنا عز وجل إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7] من أن تنسى آية قد بلغتها الناس، أي: أديت الرسالة، وبلغت الأمانة، فممكن أن يعرض للرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذا التبليغ الواجب عليه أن ينسى شيئاً مما بلغوه، كما جاء في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دخل المسجد يوماً فسمع رجلاً يتلو القرآن، فقال: رحم الله فلاناً، لقد ذكرني آية كنت أُنسيتها) فنسيان الرسول عليه السلام لهذه الآية لا يضره فيما يتعلق بدعوته؛ لأنه قد بلغها، ولذلك استطاع ذلك الرجل أن يقرأها، فلما قرأها الرجل تذكرها الرسول عليه السلام، فمثل هذا النسيان لا يضره. كذلك وقوع بعض الأنبياء والرسل في شيء من الصغائر لا يضرهم؛ لأنه لا ينفر المدعويين عن دعوته، بخلاف الوقوع في الكبائر، ولذلك فهم منزهون عنها دون الصغائر.

صفة الحجز لله تعالى

صفة الحجز لله تعالى Q هل نثبت صفة الحَجُز لله عز وجل استدلالاً بحديث الرحم؟ A لا نستطيع أن نتكلم في هذا الحديث بأكثر مما جاء فيه، فنقول إنه عز وجل قد أخبر بذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ومجال التأويل واسع، لكننا نسلم تسليماً ولا نتأول.

حكم القول بمماسة الرب عز وجل للعرش

حكم القول بمماسة الرب عز وجل للعرش Q هل هناك دليلٌ من الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة ينفي أو يثبت مماسة الرب عز وجل لعرشه؟ A لا يوجد دليل في ذلك إطلاقاً، وإثبات مثل هذه الأمور ونفيها في اعتقادي خروج عن منهج السلف الصالح؛ لأن كلاً من الإثبات والنفي يترتب عليه محذور، أما الإثبات فقد يلزم منه محذورات: أحدهما: نسبة شيء إلى الله عز وجل لم يثبت في الكتاب ولا في السنة، وهذا لا يجوز. الشيء الآخر: أننا إذا أثبتنا أو ادعينا شيئاً من ذلك؛ فتحنا طريقاً للمعطلين المؤولين لنصوص الكتاب والسنة المتعلقة بصفات الرب تبارك وتعالى، فتحنا لهم طريقاً ليتهمونا بالتجسيم؛ لأنهم يفسرون هذه بالأمور التي قد يدعيها بعض من سبقنا، يفسرونها على ظاهرها التي تليق بالبشر ولا تليق بالله عز وجل؛ ولذلك فلا يجوز إثبات مثل هذه الأمور. كما أنه لا يجوز نفيها؛ لأنه قد يلزم من نفيها نفي ما جاء في الكتاب والسنة، من ذلك مثلاً: أن الله عز وجل ليس حالاً في المخلوقات، أي: ليس كما يقول المعطلة والقائلون بوحدة الوجود، أن الله عز وجل في كل مكان، وأن الله عز وجل موجود في كل الوجود، وغلاة الصوفية في تصريحهم بهذه الضلالة حينما قال قائلهم في شعر لا أذكره الآن: أن مثل رب العالمين ومخلوقاته كمثل الماء والثلج، هل يمكن فصل الماء عن الثلج حال كونه ثلجاً؟ الجواب: لا. كذلك عندهم أن رب العالمين -تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً- حالٌّ في المخلوقات، والعقيدة السلفية: أن الله عز وجل غنيٌ عن العالمين، وهو ليس بحاجة إلى العرش ولا إلى الجلوس عليه والتمكن منه، وقد صرح بذلك بعض العلماء المعتدلين من الماتريدية، أقول: المعتدلين؛ لأن الماتريدية كـ الأشاعرة في كثير من الأمور المخالفة لعقيدة السلف الصالح، أما هذا البعض الذي أشير إليه فقد قال مثبتاً لصفة علو الله على عرشه، دون إيهام أنه بحاجة إليه، قال: ورب العرش فوق العرش لكن بلا وصف التمكن واتصال لأن وصف رب العالمين بهذا الوصف معناه أنه بحاجة إلى العرش، (وكان الله ولا شيء معه) كما نعلم من حديث عمران بن حصين، ثم خلق العرش والسماوات كما جاء التصريح بذلك في السنة. فإذاً باختصار: لا يوجد في الكتاب ولا في السنة شيءٌ يثبت هذا الذي جاء في السؤال أو ينفيه، فلا نقر ولا ننفي.

حكم القول بفناء نار العصاة

حكم القول بفناء نار العصاة Q ابن القيم في الوابل الصيب يقرر فناء نار عصاة الموحدين، وبقاء نار المشركين، فهل له قولان في المسألة؟ A نعم؛ ذلك مما كنت فصلته في مقدمتي لكتاب: رفع الأستار عن بطلان قول من قال بفناء النار: فهو في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح يبحث هذا البحث بصورة مفصلة، وشيخ الإسلام ابن تيمية كذلك -وقد نشرنا بعض المصورات- يقولان بفناء النار مطلقاً، لكن قول ابن القيم في الوابل الصيب هو كأنه ارتداد عن ذلك القول إلى ما هو صوابه، فنار المشركين لا تفنى؛ لأن الله يقول: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] فنار المشركين وعذابهم فيها إلى أبد الآبدين ولا نهاية لذلك، وهذه كلمة لا ينبغي أن يغتر بها المسلمون الذين يقدرون علم الشيخين ابن تيمية وابن قيم الجوزية وبخاصة حينما وجدنا هذه الكلمة التي تدفع الإشكال والشبهة من أنه يفرق بين نار العصاة وبين نار المشركين، فنار العصاة هي التي تفنى، أما نار المشركين فهي تبقى كما يبقى نعيم المؤمنين. السائل: إذاً: هذا القول صواب بأن نار العصاة الموحدين تفنى؟ الشيخ: نعم، ولابد؛ لأنه لا يخلد في النار موحد أبداً.

حكم سؤال الجن عن أمور الغيب

حكم سؤال الجن عن أمور الغيب Q ما حكم سؤال الجن عن أمور الغيب النسبي؟ A لا نرى التوجه إلى الجن في أسئلة تتعلق بأمور غيبية؛ لأن ذلك من بواعث ضلال البشر، والله عز وجل ذكر في القرآن الكريم شيئاً من ضلال المشركين السابقين، حيث قال رب العالمين تبارك وتعالى حكاية عن الجن الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، فقد كان من قولهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] . الاستعانة بالجن في معرفة الغيب هو كما يقول بعض المتقدمين حينما يستنكرون استغاثة المخلوق بالمخلوق: إنه كاستغاثة السجين بالسجين، فاستعانة البشر بالجن على معرفة الغيب، هذا كاستعانة البشر بالبشر، فإن الجنسين من الإنس والجن يشتركان في عدم معرفة الغيب، أما حينما يكون المقصود بالغيب هو أمر واقع ولكنه غائبٌ عن البشر بسبب أن طاقاتهم وقدراتهم محدودة، وطاقات الجن أوسع، فكذلك نقول: لا ينبغي؛ لأن الأمر مع الاستمرار في الاستعانة بهم سيتوسع، ويتسع الخرق على الراقع، فيقع الناس في الإشراك بالله عز وجل في شرك الصفات؛ لأنكم تعلمون جميعاً أن الله عز وجل واحدٌ في ذاته واحدٌ في عبادته واحدٌ في صفاته، فلا يشاركه أحد من المخلوقات مطلقاً في معرفة الغيب، كما قال تبارك وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] فالأنبياء والرسل أنفسهم لا يعلمون الغيب، ولكن الله عز وجل بطريق الإيحاء إليهم يعلمهم عن بعض المغيبات، ولا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك فطريق معرفة الغيب طريق مسدود؛ سواء كان من الغيب الذي لم يقع أو من الغيب الذي وقع، وهو غير داخل في طوق البشر، فالاستعانة بالجن في هذا النوع بلا شك مزلة وضلالة، وقد يؤدي -كما قلت آنفاً- إلى الإشراك بالله عز وجل. ولعلَّ من الشواهد الحديثة ما بلغنا عن بلدكم خاصة الكويت: أن هناك شيخاً يدعي العلم بالغيب، ومن ذلك أنه أمر أتباعه بأن يهاجروا من الكويت إلى الأردن هنا، وأنه سيقع في الأردن ثلج وبرد شديد، ولذلك أمرهم بأن يشتروا البطانيات وأشياء للتدفئة، وبالعكس أنه ستكون هناك في الكويت -لا سمح الله- نار شديدة، أو ما شابه ذلك من الدعاوى الباطلة هل من شيء من ذلك عندكم؟ السائل: جاءتنا أخبار من ذلك -يا شيخ- أنه في سوريا وآخر بـ مصر من الصوفية. الشيخ: لكن أتباعهم هنا يقولون أن شيخهم في الكويت. السائل: صحيح؛ لهم أتباع موزعون رحلوا إلى الكويت، ويوم الأحد الماضي أعلنوا في الجرائد أنهم كانوا البارحة ينتظرون الجميع، وكان الشيخ موجوداً في سوريا وآخر في مصر أعلنوا لأتباعهم أن القيامة ستقوم؛ فخرجوا من المدارس -وهذه حقيقة- فأفراد منهم باعوا أراضيهم ورحلوا. الشيخ: جاء كثير منهم إلى هنا. مداخلة: مقر شيخ الطريقة في الكويت فريد حمدان، وابنه وأخوه هنا. السائل: في كثير من الصحف يوم الأحد والإثنين الماضيين أن شيخهم في سوريا وآخر بـ مصر الشيخ: يجوز على كل حال أن يكون هناك تنقلات أو تفضيلات. الشاهد: أن فتح باب الاتصال بالجن يورث البشر في الوقوع في الضلال المنهي عنه.

حكم التعبيد لغير الله في الأسماء

حكم التعبيد لغير الله في الأسماء Q ما الفهم الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التعبيد لغير الله عز وجل؟ A ليس في هذا الكلام الذي صح عن الرسول عليه السلام أي تعارض بينه وبين نهيه أو أمره المستفاد منه النهي عن التعبيد لغير الله؛ ذلك لأنه هو ينتسب إلى جده عبد المطلب، حيث أن هذا هو اسمه العلم المعروف عند الناس، فهو لم ينشئ اسماً عَبَّدَ فيه شخصاً لغير الله عز وجل، وإنما عَرَّف الناس بأنه ابن عبد المطلب، فهو لا يستطيع أن يعرّف الناس بانتسابه إلى عبد المطلب إذا غيّر اسمه، وأنا أضرب لكم مثلاً: كثير من الشيعة -كما تعلمون- يسمون بعبد الحسين وعبد الحسن، ونحو ذلك، فنحن نقول: قال عبد الحسين في كتاب المراجعات كذا وكذا، ونحن الذين نقرر في كتبنا بأنه لا يجوز التعبيد لغير الله تبارك وتعالى، فلا يتبادر لذهن من يقرأ قولي: قال عبد الحسين في كتاب كذا، أنني عبدت إنساناً لغير الله عز وجل؛ لأنه كما يقول العلماء: ناقل الكفر أو حاكي الكفر ليس بكافر، فإذاً: هذا الحديث: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) لا يتعارض مطلقاً مع المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحرم التعبيد لغير الله عز وجل، فهو ناقل وليس بمؤسس.

علة اختيار رسول البريد الحسن الوجه

علة اختيار رسول البريد الحسن الوجه Q ما الفهم الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أبردتم إليَّ بريداً فابعثوه حسن الوجه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم؟ وما الحكمة من اختيار الوجه الحسن؟ وهل لذلك علاقة بالتفاؤل أو التشاؤم؟ A نعم. كون الرسول الذي يرسل بريداً وأحب الرسول عليه السلام أن يكون حسن الوجه هو من باب التفاؤل، وليس معنى ذلك تفضيل من كان حسن الوجه عند الله عز وجل على من كان قبيحه، وإنما هذا من باب التفاؤل، وكما قيل: (تفاءلوا بالخير تجدوه) . والتفاؤل أمر مرغوب فيه، بخلاف التشاؤم فهو من هذا القبيل، ولا يعني تفضيل حسن الوجه على قبيحه؛ لأن التفاضل عند الله تبارك وتعالى إنما يكون بالعلم النافع والعمل الصالح، وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وما نطيل الآن لنخرج عن السؤال، فباختصار هذا جواب السؤال.

صفة العينين لله تبارك وتعالى

صفة العينين لله تبارك وتعالى Q هل يجوز وصف الرب سبحانه وتعالى بأن له عينين كما نُقل عن بعض السلف؟ A أعتقد ذلك؛ لأن النصوص واضحة في ذلك بعد القرآن الكريم: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] وحكاية الرسول عليه السلام قصة الدجال وخروجه في آخر الزمان، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا وقد حذر أمته الدجال، وإني محذركموه؛ إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور) وأشار عليه السلام في بعض الروايات إلى عينه، وكون الرسول يصف الدجال بهذا العيب وهو العور يستلزم أن الله عز وجل الذي نزهه عن العور أن له عينين، ومن هنا وأمثاله قال من قال من السلف: بأن له عينين، والآية التي ذكرناها آنفاً: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] هي بلا شك، وإن كان ليس المقصود (في أعيننا) كما يظن بعض المعطلة والمؤولة، وإنما أنت تحت مرآنا وتحت بصرنا وتحت عنايتنا، وإن كان هذا المعنى هو المقصود، لكن ذلك يستلزم إثبات هذه الصفة لله عز جل، فأنا أعتقد بما جاء به بعض السلف كما ذكرت. السائل: نقل عنك أنك التقيت في المرة الأخيرة مع بعض المشايخ وسئلت هذا السؤال فأجبت: بأن الله سبحانه وتعالى له عين، فهل هذا كذب أم خطأ؟ الشيخ: ما هو الفرق بين ما ذكرت الآن وما قيل لكم؟ السائل نفسه: بلغنا أنك تقول: إن لله سبحانه عيناً واحدة؟ الشيخ: الآن بكلمة (واحدة) ظهرت الكذبة؛ هذا كذب.

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم

حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم Q ينقل عن الإمام أحمد أنه يجيز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فما صحة ذلك؟ وما رأيكم؟ A أما صحة ذلك على الطريقة الحديثية فلا نستطيع إثباتها، وليس كل قول ينقل عن إمام من أئمة المسلمين بإمكاننا أن نثبته على طريقة علماء الحديث، ولكن لا يسعنا إلا أن نعتمد على العلماء الذين سبقونا زمناً وعلماً، ولا يسعنا إلا أن نعتمد عليهم فيما ينقلونه من أقوال وروايات؛ حتى يتبين لنا خطؤهم في ذاك النقل، كون الإمام أحمد رحمه الله أجاز التوسل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أذكر أنني قرأت ذلك قديماً في رسالة التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهو ينقل ذلك كقول عن الإمام أحمد، ومستنده في ذلك حديث الأعمى. وكما قلت آنفاً: ما دام أن ابن تيمية ينقل ذلك وهو موضع للثقة، والاعتماد عليه فيما ينقل، فنحن نقول بما نقل حتى يثبت عندنا ضعف ما نقل، هذا بالنسبة لجواب السؤال. لكني أريد أن أذكر شيئاً مهماً -في اعتقادي- بالنسبة لمثل هذا القول: لا ضرر علينا أن يثبت عن الإمام أحمد هذا القول أو لا يثبت، كلاهما بالنسبة إلينا سواء؛ ذلك لأننا لسنا أحمديين، وإنما كما سبق أن قلت آنفاً: نحن نقدر هؤلاء الأئمة ونجلهم ونستفيد من علمهم ومناهجهم، لكننا لا نُسَلِّم قيادة عقيدتنا وأركاننا لهم، إلا من تبين لنا أن الحق معه، فإذاً: إذا كان هذا النقل من ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه كان يجيز ذلك، وأن دليله في ذلك هو حديث الأعمى، وحين دراسة حديث الأعمى يتبين أنه لا يفيد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، بعد موته؛ لأن الأعمى إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مشهور في نفس كتاب ابن تيمية المذكور آنفاً، وكما زدت بياناً في رسالتي التوسل أنواعه وأحكامه، وحديث الأعمى كله يدور على التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذاً: لا يجوز لنا أن نقول بأنه يجوز التوسل الآن بالرسول؛ لأنه لا يمكن أن نبلغه ما الذي نحن نريد منه أن يدعو لنا ربه، ولا نحن نستطيع إذا هو دعا -مثلاً- في حالة البرزخ أن نعرف أنه دعا، فالقضية في حديث الأعمى لها علاقة بحياته عليه السلام، ولا علاقة لها بوفاته.

نقل الذهبي الثناء على بعض الصالحين وأنه يتوسل بهم

نقل الذهبي الثناء على بعض الصالحين وأنه يتوسل بهم Q ما هو توجيهكم لكلام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء عندما ترجم لبعض الصالحين، ونقل عن حال قبورهم أنه يتوسل بها، وأنها ترياق، ولم يتعقب ذلك؟ A لعل هذا كان قبل أن ينضج في علم العقيدة والتوحيد، ممكن أن يكون الأمر كذلك، وممكن أن يكون من سرعة الكتابة والتأليف ألا يتنبه للمحذور الذي يترتب من حكاية الواقع، والجواب أيضاً كما قلنا مما قيل عن أحمد، أيضاً نقول عن الإمام الذهبي.

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ... ) Q ما تأويل الآية الكريمة: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} [البقرة:102] ؟ A لا شك أن الآية فيها خلاف عند علماء التفسير، لكن الذي ترجح لدي أنا شخصياً بأن (ما) في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] ليست نافية، بل هي موصولة، أي: إن الله عز وجل أنزل الملكين ليعلموا الناس السحر، حيث كان السحر انتشر في ذلك الزمان، واختلط أمره ببعض المعجزات، التي كان يأتي بها بعض الأنبياء كمثل قصة السحرة مع موسى عليه الصلاة والسلام، حيث أراد فرعون على يدي السحرة أن يضلل الشعب عن دعوة موسى إلى الحق؛ لأن ما جاء به إنما هو السحر، ثم كما نعلم أن الله عز وجل قضى على عمل السحرة وأسلموا وآمنوا بالله رب العالمين، فكان علمهم بالسحر سبباً لهم ليميزوا بين ما كان خيالاً وسحراً وبين ما كان حقيقة، {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45] هذه حقيقة آمن بها السحرة قبل الناس كلهم؛ لأنهم يعرفون من علمهم بالسحر أنه تمويه وتضليل لا حقيقة له؛ لكنهم حينما فوجئوا بمعجزة موسى عليه السلام ظهر لهم الفرق بين الحقيقة وبين السحر: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:47] . فحكمة الله عز وجل اقتضت أن ينزل الملكان: هاروت وماروت؛ لكي يعلموا الناس السحر لا للسحر، وإنما ليتمكنوا به من تمييز السحر الذي كان يتخذه كثير من الدجالين يومئذٍ للتمويه على الناس واستعبادهم، كما جاء في قصة الغلام والساحر، ولعلكم تذكرون قصته، وخلاصتها ولابد من هذه الخلاصة: أن ملك ذلك الزمان الذي هو صاحب الأخدود المذكور في القرآن، كان يستغل ساحراً لكي يستعبد الناس، ولما شعر الساحر أنه قد أسنَّ وشاب وكبر قال له: اختر لي غلاماً من الشعب حتى يكون عوناً لك من بعدي، لماذا؟ لكي يظل مستمراً في استعباده للشعب بالسحر، هكذا كان الملوك في الزمن القديم يستغلون الناس بالسحر، فالله عز وجل أرسل الملكين ليعلما الناس كلهم، وليس كما فعل ساحر الملك ملك الأخدود حيث قال له: اختر لي غلاماً، لا يناسبه أن ينشر علم السحر بين الناس كلهم؛ لأنهم سيعلمون أن الملك يضلل عليهم بالسحر الذي هم عرفوه. فاقتضت حكمة الله عز وجل أن يرسل الملكين ليعلموا الناس السحر؛ لكي يفرقوا بين السحر وبين المعجزة؛ ولأن السحر بلا شك أداة إفساد، قال في نفس سياق القصة: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] فهم جاءوا بتعليم السحر لغاية، لكن هذا التعليم قد ينقلب إلى فتنة؛ فيتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، وما يفرقون به بين المرء وزوجه. هذا الذي أراه في تفسير هذه الآية، والله أعلم.

السحر بين الحقيقة والتخييل

السحر بين الحقيقة والتخييل السائل: سؤال آخر يتعلق -أيضاً- بالسحر. الشيخ: تفضل. Q ما حد قدرة الساحر؟ أي: هل يستطيع قلب الأشياء، كأن يقلب قطاً إلى كلب أو كذا؟ A الساحر يستطيع التوهيم والتخييل؛ قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] أما في الحقيقة فلا، كما جاء في قصة الدجال في آخر الزمان أنه يقطع الشخص نصفين، ويرى الناس أنه فعلاً قطعه نصفين ثم يعيده، فبعد أن يعيده يسأله: هل آمنت بي؟ فيقول: ما ازددت إلا إيماناً بأنك الدجال الأكبر الذي أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم. فالسحر في الغالب هو تخييل، لكن له تأثير، وهذا التأثير لا يُنْكِرْ الواقع، ومن ذلك قصة اليهودي لبيد بن الأعصم، حيث سحر الرسول عليه السلام، وظل الرسول صلى الله عليه وسلم متأثراً بسحره في ضعفه في بدنه نحو ستة أشهر، مثل هذا التأثير ممكن، أما قلب الحقائق توهيماً وتخييلاً، وهذا النوع يستعمله الكثير من الذين يسمون بـ (الحُوّات) ، وهم مشعوذون، خاصة في مصر يوجد من هذا النوع الكثير، وكان بعض الناس يأتون منهم إلى دمشق ورأينا منهم العجب! يأخذ المائة ليرة ورقة ويشعلها أمام الناس ثم يعيدها كما كانت، والخاتم يسحبه من يدك وتراه في كف غيرك، وهكذا فإذاً: للسحر تأثيرٌ لكن لا يبلغ الأمر إلى قلب حقائق الحيوانات التي خلقها الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها.

تفسير قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ... ) Q قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] فما هو تأويل هذه الآية؟ A تأويلها كما جاء في الحديث: (مستقرها حين تطلع الشمس من مغربها) لكن الآية ليس لها علاقة بموضوع كروية الأرض، وهل هي ساكنة أم متحركة؟ فالآية خبر عن غيب سيقع فيما يأتي من الزمن. السائل: إذاً: المستقر وقته يوم القيامة، وحديث: (كل يوم تستأذن تحت العرش وتسجد) . الشيخ: هذا حديث صحيح، لكن ذهابها إلى تحت العرش لا يتعارض مع الحقائق الشرعية؛ لأنها هي دائماً تحت العرش، ولكن بالنسبة لبلد معين وهي المدينة، حيث كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد تكلم فيها عندما قال لـ أبي ذر: (أتدري أين تذهب؟) فأخبره الرسول عليه السلام بأنها تذهب وتسجد تحت العرش حينما تغرب بالنسبة للمدينة، هذا هو المعنى الذي يزيل الإشكال، بأنها هي دائماً تغرب في كل لحظة عند بلد، لكن هذا المقصود غروباً خاصاً بـ المدينة المنورة، فسجودها -إذاً- هو في ذلك الوقت الذي يتناسب مع توقيت المدينة، وليس مع كل بلد في الدنيا. تابع للسؤال: هل يفهم من هذا الحديث توقف الشمس حال السجود؟ الجواب: ليس بالضروري؛ لأن الإنسان العاجز قد يسجد وهو ماشي، صح أو لا؟ نستحضر -الآن- صلاة الخوف لها صورتان: صلاة الخوف، وصلاة الخوف الشديد؛ صلاة الخوف الشديد ليس فيها ركوع وسجود كما هو المعهود، وإنما هو الإيماء بالرأس، فالمسلم يقاتل ويسايف الكافر وقد أدركه الوقت، فهو يصلي ويمشي إلى عدوه، هذا بالنسبة للإنسان، فما بالك بالنسبة لكوكب ربنا أعلم بحقيقته؟ فلا منافاة بين الأمرين.

تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب)

تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) Q يقول الله عز وجل: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] ما تأويل هذه الآية، فقد قرأت في أكثر من تفسير ولم أفهم تفسيرها؟ A صراحة أنا الآن لا أستحضر جواباً عن هذا السؤال، الذي أذكره -الآن- أن في بعض الروايات أن السجل هو كاتب الرسول عليه السلام، فكما هو يطوي الكتاب فالله عز وجل يطوي السماوات، لكن لا يوجد عندي شرح لهذا السؤال.

تفسير الورود في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)

تفسير الورود في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) Q قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] ما أصح الأقوال في تفسير الورود؟ A أصح الأقوال هو الدخول، كما جاء في بعض النصوص الصحيحة، من ذلك ما جاء في صحيح مسلم من قوله عليه السلام: (لا يدخل النار أحد من أهل الشجرة. قالت حفصة: كيف ذلك يا رسول الله والله عز وجل يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] ؟ قال عليه السلام: اقرئي ما بعدها: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ) الشاهد من الحديث واضح جداً: حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أنه لا يدخل النار أحد من أهل الحديبية أشكل الأمر على السيدة حفصة رضي الله عنها، والإشكال كان قائماً عندها بناءً على فهمها للآية السابقة على ظاهرها: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] أي: داخلها، فلم يلتقِِ فهمها للآية مع تصريح الرسول عليه السلام بأن أهل الشجرة -أهل بيعة الرضوان- لا يدخل أحد منهم النار، فاختلف حديث الرسول عليه السلام مع فهم السيدة حفصة للآية، وفهمها كان صحيحاً للشطر الأول منها؛ لأنها فهمت أن الآية تعني: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] أي: داخلها، إذاً كيف يمكن التوفيق بين هذا وبين قوله عليه السلام: (لا يدخل النار أحد من أهل الشجرة) . فنجد هنا أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقر السيدة حفصة على فهمها للورود بمعنى الدخول، لكنه أزال الإشكال عنها بتمام الآية: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] فإذاً: الدخول حقيقة لا بد من أن يقع بالنسبة لجميع الناس صالحيهم وطالحيهم، إلا أن هناك فرقاً جوهرياً بين الصالح والطالح، فالصالح يدخلها مروراً، أما الطالح فيدخلها سقوطاً وعذاباً. ويؤكد هذا المعنى -الذي هو واضح جداً من حديث حفصة رضي الله عنها- الحديث المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من مسلمين -أي: زوجين- يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا لن تمسهما النار إلا تحِلَّة القسم) القسم هي الآية السابقة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فالرسول عليه السلام يشهد في هذا الحديث أن من فضائل الزوجين الصابرين على قضاء الله عز وجل، الذي اصطفى إليه ثلاثة من أولاد الزوجين لم يبلغوا سن التكليف؛ إذا رضوا بذلك فلن تمسهما النار إلا تحلة القسم، أي: مروراً؛ كما هو في حديث السيدة حفصة رضي الله عنها، هذا هو القول الصحيح الذي لا ينبغي التردد في تَبَنِّيْهِ في تفسير الآية الكريمة. وهناك حديث صريح جداً لكن إسناده ضعيف، وإن كان رواه الحاكم في المستدرك -، فهو معروف بالتساهل في روايته في هذا الكتاب، عن جابر بن عبد الله الأنصاري: أن رجلاً لقيه في الطريق، فقال له: حضرنا مجلساً فمررنا بهذه الآية: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] فاختلف أهل المجلس في تفسيرها على ثلاثة أقوال، ولما سمع جابر منه ذلك، وهو يسأله عن معنى الآية باعتباره صحابي الرسول ما كان منه -هذا إن صحت الرواية- إلا أن وضع إصبعيه في أذنيه وقال: (صُمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: لا يبقى بر ولا فاجر إلا ويدخلها، ثم تكون برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم) هذا الحديث ضعيف المبنى، لكنه صحيح المعنى بشهادة الحديثين السابقين.

حكم تحية العلم والنشيد الوطني

حكم تحية العَلَم والنشيد الوطني Q ما حكم الوقوف أمام العلم؟ وما حكم الكف عن الحركة والانتصاب للعلم عند النشيد الوطني؟ A هذه -لا شك- من التقاليد الأوروبية الكافرة، وقد نهينا عن تقليدهم بمناهي عامة وخاصة، ولا يجوز لأي دولة مسلمة حقاً أن تتبنى شيئاً من تقاليد الكفار، لكن الأمر يعود إلى من كان له الخيرة في ألا يسمح بذلك، ولا شك أن الحاكم المسلم الذي ليس فوقه حاكم في الدنيا، هو الذي يستطيع أن يغير ويبدل هذه التقاليد والعادات الكافرة بتقاليد وعادات إسلامية، أما من كان موظفاً أو كان جندياً، ولا يستطيع إلا أن يتبع هذا النظام المنحرف عن الإسلام، فهذا يُظْهِرُ مراتبَ الناسِ، على حد قوله عليه السلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فنحن نعلم أن مثل هذه المشاكل يقع الشيء الكثير منها في بعض البلاد الإسلامية؛ لأنها أمور -كما قلنا- تقاليد أجنبية. مثلاً: في بعض الدول العربية الإسلامية لا يسمح للجندي أن يلتحي، فالناس على هذه المراتب التي جاء ذكرها في الحديث، أكثر الناس اليوم عندما يدخلون الجندية يحلقون لحاهم هكذا النظام، وبعضهم لا يحلقها وإنما هم يحلقونها رغم أنفه، وبعض آخر -وهذا قليل جداً، وله أمثلة هنا في الأردن وفي سوريا - يصمد ويصبر ويلقى العذاب والسجن إلخ، ثم ينصره الله عز وجل، فتراه جندياً ملتحياً، بينما الألوف المؤلفة بدون لحى، فإذاً القضية لها علاقة بقوة الإيمان في المكلف، هذا الذي يكلف بأن يحييّ العَلَم هذه التحية غير الإسلامية بلا شك أنه يستطيع ألا يحيي، لكنه يعلم أن أمامه السجن والتعذيب، وربما أشياء أخرى لا نعرفها، فالمؤمن القوي الإيمان يصبر، ثم ما يكون بعد الصبر إلا النصر كما وعد الله عز وجل المؤمنين، ولا يسع آخرين -لا يصبرون هذا الصبر- إلا أن يحيوا العلم وقلوبهم منكرة لهذه التحية، وهكذا يجب أن نعلم أن هذا منكر، وأن الذي يضطر إلى القيام به على الأقلَّ ينكره بقلبه؛ لأنه (ليس وراء ذلك ذرة من إيمان) كما هو معلوم في بعض روايات الحديث الصحيحة. السائل: وهل مجرد الانتصاب أمام العلم يخل بالتوحيد؟ الجواب: نعم، يخل بالإسلام والشريعة والآداب الإسلامية {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] هذا تعظيم أشبه بتعظيم الأصنام؛ لأن هذا العلم عبارة عن قطعة قماش، لكن هو التقليد الأوروبي الأعمى مع الأسف الشديد!!

العبرة بدخول وقت الصلاة هو العلم لا الأذان

العبرة بدخول وقت الصلاة هو العلم لا الأذان Q ما حكم صلاة الجماعة عندما لا يُسمع الأذان من المؤذن، ولكن يعلم عن طريق التلفاز، مثلاً نحن موجودون في هذه الجلسة نعلم عن طريق الراديو أو التلفاز أنه قد أذن لكنا لا نسمع أذان المسجد؟ A المهم أن يكون المسلم على علم بحضور وقت الصلاة في المسجد، وبلا شك أن هنا أمرين اثنين ينبغي التنبيه عليهما: الأمر الأول: أنه ليس من الضروري أن يعلم ذلك بطريقة الأذان، فلو هو لم يسمع الأذان وقال له أهل بيته: أُذن للصلاة؛ فقد حصل ذلك. الأمر الثاني: لا يوجب العِلم -حتى ولو بالطريقة الشرعية أي: سمع الأذان بأذنه- الحضور عليه إلى المسجد؛ لأن حضور المسجد لا يجب على كل إنسان مكلف، فهناك قبل كل شيء أن المسجد يجب أن يكون قريباً؛ بحيث أنه يسمع أذانه بطريقة عادية طبيعية ليس بهذه الوسائل العصرية، فإذا كان المسجد بعيداً بحيث لا يمكن سماع أذانه السماع الطبيعي هذا ليس بالواجب عليه حضوره، ولو أنه سمعه بواسطة مكبر الصوت، لكن بلا شك أن الأفضل بالنسبة له أن يحضر، لكننا نقول: إن حضور الصلوات الخمس في المساجد الأصل فيها الوجوب، أي: أن صلاة الجماعة واجبة كالصلاة نفسها، فلا يجوز للمسلم أن يصلي الفريضة في بيته بدون عذر شرعي، فإذا كان المسجد قريباً من المكلف فعليه الحضور، لكن هناك أعذار معروفة أنه لا تجب عليك، كمن كان -مثلاً- مسافراً، أو كان مريضاً، لا يجب على هذا وذاك أن يصلي في المسجد، لكن يستحب في الوقت نفسه أن يصلي في المسجد ولو كان ذلك غير واجب عليه، كما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود: [أن الرجل كان يهادى بين الرجل لشدة مرضه ويذهب به إلى المسجد] . هذا في بيان اهتمام السلف في أداء الصلاة في المسجد، لكن في هذه الحالة الصلاة ليست واجبة عليه في المسجد.

حكم صلاة الرجل حاسر الرأس

حكم صلاة الرجل حاسر الرأس Q ما حكم صلاة الرجل مكشوف الرأس؟ A الذي أعتقده الكراهة؛ لأمور منها: أولاً: لأن كشف الرأس هو -أيضاً- من العادات والتقاليد التي تسربت إلى بلاد المسلمين بسبب ممارسة الكافرين لها في بلادنا، وهم أذاعوا عاداتهم وتقاليدهم فيها، وتأثر كثير من المسلمين في تلك البلاد بعد خروج الكافر منها ببعض عاداتهم ومنها حسر الرأس، وإن كانت البلاد تختلف في هذه العادة، فعادة حسر الرأس في سوريا والأردن ومصر أكثر بكثير من البلاد العربية الأخرى، كـ السعودية واليمن والكويت إلخ، فلما كانت هذه العادة ليست عادة إسلامية، فالمفروض أن المسلم يدخل في الصلاة في أحسن زينة؛ لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] والزينة هنا وإن كانت من حيث سبب نزول الآية تعني ستر العورة، لكن العبرة بعموم اللفظ ولا بخصوص السبب. وثانياً: قد جاء في السنة الصحيحة ما يؤيد هذا العموم من الآية ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان له إزار ورداء فليتزر وليرتد، فإن الله أحق أن يتزين له) ففي هذا الحديث أن المسلم يؤمر أن يدخل الصلاة في أكمل حالة، في الوقت الذي سئل الرسول عليه الصلاة والسلام: (أيصلي الرجل في ثوب واحد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أوكلكم يجد ثوبين؟) هذا الحديث يفيد جواز الصلاة في ثوب واحد، وهو الإزار الذي يستر العورة، لكن أيضاً يلمح ويشير إلى أن من يجد ثوبين لا ينبغي له أن يصلي في ثوب واحد، مقتصراً بهذا الثوب على ستر العورة المعروفة أنها عورة في الصلاة وخارج الصلاة؛ بل عليه أن يستر العورة المتعلقة بالصلاة إذا صح تعبيري، وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء) ولذلك صرح الإمام أحمد أن من صلى مكشوف المنكبين فصلاته باطلة، وهذا حق ندين الله به، لهذا الحديث الصحيح: (لا يصلين أحدكم -نهي عن الصلاة- وليس على عاتقيه من ثوبه شيء) . وإذا ثبت عموم الأمر بالتزين للصلاة، وثبت أن من عادات المسلمين ستر الرأس وليس الحسر؛ فحينئذٍ نعتقد أن الصلاة بحسر الرأس مكروهة، لا لأن هناك نهياً خاصاً، وإنما لأن فيه مخالفة للعادات التي جرى عليها المسلمون. ويعجبني بهذه المناسبة وهو نهاية الجواب، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حجاب المرأة ولباسها في الصلاة، رسالة صغيرة لعلكم وقفتم عليها، ذكر هناك رواية أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى مولاه نافعاً يصلي حاسر الرأس، فقال له: [أرأيت لو أنك ذهبت لمقابلة أحد هؤلاء الأمراء أكنت تقابله وأنت حاسر الرأس؟ قال: لا، قال: فالله أحق أن يتزين له]

منهج الشيخ الألباني في التأليف في الفقه

منهج الشيخ الألباني في التأليف في الفقه Q نرى في بعض مؤلفات الشيخ حفظه الله الفقهية عدم التركيز على التقسيم الذي كان يسير عليه الفقهاء من قبل، أي: من جهة تقسيم العبادة إلى شروط وأركان وسنن، فهل للشيخ سياسة خاصة في ذلك؟ A لا، أنا ما نهجت هذا المنهج؛ لأن هذه الأمور فيها خلاف كثير وكثير جداً، ولا يتحمله التأليف الذي أنا جريت عليه إلا في كتاب كنت ولجت فيه ثم صُرِفْتُ عنه، وهو -الذي لا بد أنكم سمعتم باسمه- الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب، هذا الكتاب كان على هذا النهج، أي: من العناية بالتمييز بين ما هو شرط وما هو ركن وما هو فرض. إلخ؛ لأن تمييز هذه الأمور بعضها من بعض يحتاج إلى بحث موسع جداً، ولذلك فأنا لا أسلك هذا؛ لأن مجاله كان في ذلك الكتاب الذي لم يُيَسَّرْ لي متابعة العمل فيه.

التثويب في أذان الفجر

التثويب في أذان الفجر Q اختلف اثنان من الإخوة في مسألة التثويب في أذان الفجر، هل هو في الأول أم في الثاني، واستدلَّ على أنه في الأذان الأول بحديث: (إن بلالاً يؤذن بليل) واستُدِلّ على أنه في الأذان الثاني بحديث ابن أم مكتوم: (إن ابن مكتوم يؤذن بليل) فما رأيكم؟ وكذلك بالنسبة للأذان الأول هل هو خاص برمضان أم هو عام؟ A التثويب -بلا شك- هو في الأذان الأول، وهو عام بالنسبة لأيام السنة كلها، أما كونه جاء في الحديث ذكر بلال في الأذان الأول، وفي رواية أخرى ذكر ابن أم مكتوم، فذلك باختلاف الأحوال، تارة كانت وظيفة بلال الأذان الأول، وبالعكس الأذان الثاني لـ ابن أم مكتوم، وتارة كان الأمر خلاف ذلك، الأذان الأول لـ ابن أم مكتوم والأذان الثاني لـ بلال هذا هو الذي جمع به علماء الحديث بين الحديثين، لكن هذا الاختلاف في كون الأذان الأول يؤذن فلان والأذان الثاني فلان، هذا لا يغير من حقيقة السنة التي هي: أن جملة (الصلاة خير من النوم) هي خاصة بالأذان الأول؛ لأن هذا صريح في حديث ابن عمر الذي رواه النسائي وغيره (أنه كان في الأذان الأول زيادة: الصلاة خير من النوم) وكذلك في حديث أبي محذورة، هذا هو الثابت في الأذان الأول لا خلاف في ذلك إطلاقاً. أما اختلاف المؤذن في الأذان الأول عن الثاني والعكس بالعكس، فلا يغير من حقيقة هذه السنة شيئاً. السائل: الأذان الأول هل هو خاص برمضان أم هو عام؟ الشيخ: أجبت عنه أنه عام في كل أيام السنة.

السبب في عدم رد الشيخ الألباني على الكتب المؤلفة ضده

السبب في عدم رد الشيخ الألباني على الكتب المؤلفة ضده Q ظهرت بعض الكتب ترد وتغالط الشيخ حفظه الله ولم يرد الشيخ عليها، فما السبب؟ مثل الكتاب الأخير الذي خرج وهو قديم، وهو (تنبيه المسلم) وبعض الكتب؟ A أولاً -يا أخي- ليس في الإمكان أنه كلما توجه ناقد ينقدني بحق أو بباطل، بعلم أو بجهل؛ أن أتفرغ له، هذا أمر غير طبيعي إطلاقاً، وبخاصة وأنا أشعر بأنني أشرفت على حافة القبر، (فمهما طال العمر فلا أستطيع أن أتدارك ما أنا في صدده منذ نعومة أظفاري) كما يقال. لكن مع ذلك أحاول أن أقتنص الفرص، وأن أرد على بعض هؤلاء حينما تأتي المناسبة، وأجدها فرصة لا بد من الرد، ومن ذلك هذا الرجل في تنبيه المسلم، اغتنمتها فرصة في كتابي آداب الزفاف، حيث سيطبع الآن طبعة جديدة، وفيها زوائد عديدة، فكتبت مقدمة فيها شيء من الطول؛ لأنني رددت على هذا الإنسان في بعض ما انحرف قلمه عن الصواب في هذا الكتاب، وأشرت إلى منهجه، وأنه قائم على الجهل بهذا العلم، ورددت عليه بعض الأجزاء التي انتقدني فيها، وبخاصة حديث يتعلق بآداب الزفاف، وهو مما كنت أشرت إلى أنه ضعيف مع كونه في صحيح مسلم، وهو كان مما انتقدني في هذا الحديث، فانتهزتها فرصة ورددت عليه، وسترون ذلك -إن شاء الله- قريباً، هذا المقدار هو الذي أستطيع أن أقوم به، أما أن أتوجه إلى رد الكتاب كله فهذا لا يتيسر لي، ولعلَّ بعض إخواننا المقبلين على هذا العلم بنشاط وفراغ -لا أجده أنا- يقومون بهذا الواجب إن شاء الله.

حكم التحايل على القوانين الوضعية

حكم التحايل على القوانين الوضعية Q ما حكم التحايل على القوانين الوضعية، وخاصة في المعاملات التجارية للحصول على مصلحة خاصة لا يتأذى بها الغير؟ A هذا سؤال لا يجوز الإجابة عليه بجواب عام؛ لأنه قد يكون الأمر متعلقاً بشيء من الخيانة، لكن إذا لم يكن هناك شيء من الخيانة، وكان فيه تحقيق مصلحة لا تخالف الشريعة، فحينئذٍ نقول: لا يوجد مانع، بشرط: أنه إذا كان ضامناً بألا يُكتشف عمله المخالف للقانون، فإذا اكتُشف مس الدين والشرع الذي يتمسك به فيشار إليه ويقال: هذا الذي فعل تلك الفعلة. ! مثلاً: قضية الجمارك والتهريب، هذه الجمارك هي بلا شك مكوس غير شرعية خاصة بين بلد إسلامي وبلد آخر، فكثيراً ما نُسأل: هل يجوز أن يهرب مسلم بضاعة ولا يدفع عليها مكوساً؟ نقول: إذا كان رجلاً يمثل التمسك بالدين وبالإسلام، ويخشى أن ينكشف فيهان الإسلام، فلا يجوز في هذه الحالة، أما إذا كان رجلاً عادياً وتعاطى وسائل تهريب، بحيث لو ألقي القبض عليه لا ينصرف ذهن القابضين عليه إلى الطعن في المتمسكين بالشريعة، في مثل هذه الحالة ممكن أن يُقال بجواز ذلك.

حكم إكثار المرأة من الخروج للدعوة

حكم إكثار المرأة من الخروج للدعوة Q تقوم بعض النسوة بالخروج لدعوة النساء، حيث يقمن بزيارتهن في بيوتهن ودعوتهن لدروس خاصة، وقد يكثر ذلك منهن، فهل يخالف ذلك ما أمرهن الله به من القرار في البيوت؛ لأنها تذهب وتتنقل، وخاصة عندنا -يا شيخ- مأذون للمرأة أن تسوق السيارة، فتذهب لهذه وتذهب لهذه فهل هذا مخالف؟ A أعتقد أن هذا العمل أيضاً من مشاكل العصر الحاضر، ومن ذلك أننا أصبحنا اليوم نقول: إن هناك دعاة وداعيات، وهذه -بلا شك- من محدثات الأمور، فما ينبغي أن يكون هناك نساء يتسمين بالداعيات، لا بأس، بل هذا واجب أن يكون هناك نساء متعلمات العلم الشرعي، بحيث أنهن يُقصدن من النساء بسؤال؛ لأن كثيراً من النساء يتحرجن من أن يتوجهن بأسئلتهن الخاصة بهن إلى أفاضل العلماء، وإذا وجدت في النساء عالمات حقاً على الشرط الذي سبق بيانه آنفاً، أي: بالكتاب والسنة، فينبغي على النساء أن يأتينهن وليس هو العكس؛ لأننا نعتقد بحق قول من قال من أهل العلم: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف. وقد وصل الأمر ببعض النساء هنا وربما في بلاد أخرى أنها تصعد المنبر في المسجد وتلقي الدروس على النساء، وقد يكون هناك في باحة المسجد رجال فاتتهم الصلاة مع الجماعة فيدخلون ويصلون، أنا -بلا شك- لا أتورع أن أقول: إن هذه من البدع، فالأمر -كما ذكرت في سؤالك- أن واجب المرأة أن تقر في بيتها، فإذا كانت مميزة على غيرها بالعلم بشرع الله عز وجل فذلك لا يؤهلها أن تنطلق هكذا كالرجال، وتساويهم في الخروج، كأنَّ ربنا عز وجل ما قال في كتابه الكريم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] . فالأصل في المرأة ألا تخرج إلا لحاجة لا يمكنها أن تحققها إلا بالخروج، وهنا يظهر الأمر بين المرأة العالمة، فلا يجوز لها أن تخرج وتنطلق -كما يقولون- كداعية، وبين المرأة التي تريد أن تتعلم العلم فهي تخرج؛ لأنه يجوز لها أن تخرج إلى المسجد كما هو معلوم، وكما كان الأمر في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، مع العلم أن الرسول عليه السلام قد قال لهن: (وبيوتهن خير لهن) ومع ذلك فقد أقرهن عليه الصلاة والسلام في خروجهن إلى المساجد حتى في صلاة العشاء، وجاء النهي الصريح: (لا يمنعنَّ أحدكم زوجته أن تخرج لصلاة العشاء) وكانت المرأة تنصرف من صلاة الفجر كما جاء في صحيح مسلم (وهن متلفعات بمروطهن) . فإقرار الرسول عليه السلام لخروج النساء لأداء الصلوات الخمس في المساجد مع بيان أن صلاتهن في بيوتهن خير لهن؛ ما ذلك إلا لأنهن كن يخرجن لطلب العلم، فإذا كان هناك امرأة تجلس في بيتها، ولا مانع من أن تحضر النساء إليها كل على حسب ظرفها وطاقتها إلخ، أما هي فلا تخرج خروج الرجال؛ لأن هذا من التشبه بالرجال.

حكم الأخذ بأقوال العلماء في تصحيح الحديث وتضعيفه

حكم الأخذ بأقوال العلماء في تصحيح الحديث وتضعيفه Q هل يجوز لطالب العلم أن يكتفي بتصحيح أو تضعيف الحفاظ السابقين، مثلاً يقرأ للعراقي في تخريجه، فيقرأ أن العراقي قال في حديث ما: هذا الحديث صحيح، فهل يجوز له أن يكتفي بذلك، وهكذا الإمام أحمد وغيره؟ A هذه المسألة تشبه التقليد في الفقه، فيكفي طالب العلم أن يسمع رأياً لإمام من الأئمة المتبوعين -ولا أعني الأربعة فقط، فهم أكثر بفضل الله عز وجل- ويعمل به، نقول: لا يمكن لكل طلاب العلم أن يكونوا في نسبة واحدة من التمكن في معرفة الحق مما اختلف فيه الناس، فحسب طالب العلم أن يحقق الآية الكريمة: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] ، فإذا كان هناك من أهل الذكر من الأحياء يسألهم ويتبنى جوابهم، أو ليس هناك عالم حي يسأله، فيعلم بأن أحد العلماء المُتَّبَعِيْنَ له رأي كذا فيتبعه، فهو سالم من المؤاخذة، ولو كان الرأي الذي تبناه من ذاك العالم خطأً في واقع الأمر؛ لأنه قام بما يجب عليه في الآية السابقة: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] . لكن هذا مشروط فيه شرط واحد، وهو: ألا يتبين له أن هذا الرأي خطأ. وهذا البيان قد يكون ببحث شخصي منه إذا كان عنده استعداد، أو بدلالة عالم آخر يثق به وبعلمه، المهم يجوز لطالب العلم أن يقلد العالم إذا لم يتبين له خطؤه، ولم يستطع هو أن يتبين أصواب كان أم خطأ. كذلك -تماماً- الجواب عن السؤال بالنسبة لطالب العلم، يجد إماماً من أئمة المسلمين وحافظاً من حفاظهم يصحح حديثاً أو يضعف آخر، فهذا يكفيه أن يتبع هذا المصحح أو المضعف بشرطين كما ذكرنا في المسألة الفقهية، والشرطان هما: الشرط الأول: ألا يعلم خطأه؛ لأن المقصود بهذا الشرط -سواءً في الحديث أو في الفقه- ألا يتبع هواه، فيقول: فلان أفتاني. وانتهى الأمر، وفي نفسه شيء، والرسول يقول: (استفت قلبك وإن أفتاك المفتون) هذا هو الشرط الأول، ألا يكون عالماً بأن هذا الرأي -سواءً في تصحيح حديث أو تضعيفه، أو في إباحة شيء أو تحريمه- خطأ. الشرط الثاني: ألا يستطيع هو التحقيق في صحة هذا الحديث أو ضعفه، فهذا أمر جائز؛ لأننا لا نستطيع أن نكلف الناس كلهم أن يصيروا مجتهدين وعلماء. السائل: متى يعلم المرء من نفسه أنه يستطيع أن يصل إلى القدرة على الحكم على الحديث؟ الشيخ: هذا سؤال مهم؛ يعلم ذلك حينما يعرض بحوثه وأقواله الشخصية على أهل العلم القدامى المسطرة أقوالهم في كتبهم، فيجد أن الغالب عليه أنه يوافقهم، هذا من جهة. من جهة أخرى: يجد أهل العلم يقدرون علمه واجتهاده، ولا يعتبرونه -كما قلنا آنفاً- غير مؤهل بَعْدُ لأن ينصب نفسه منصب المصحح والمضعف، بمعنى آخر: ينبغي أن يكون الإنسان بعيداً عن أن يغتر بعلمه، ومن طبيعة كثير من الناس ألا يروا عيبوهم ويرون عيوب الناس، ولذلك فيجب أن يستعين بغيره ممن هم عنده من أهل العلم، فيرى عيبه بواسطتهم، كما أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله في الحديث المعروف: (المؤمن مرآة أخيه) المؤمن حقاً هو يرى أخطاءه وعيوبه بواسطة غيره، وينبغي أن يستعين بأهل العلم؛ ليعرف هل صار أهلاً للبحث والاجتهاد أم لا؟! سواءً في التصحيح والتضعيف في العلم، أو في الإفتاء في المسائل الفقهية.

حكم الاستشهاد بالحديث المرسل

حكم الاستشهاد بالحديث المرسل Q كما عرف عن بعض المحدثين: أن الحديث إذا جاء من طريق مرسل بإسناد صحيح، وطريق متصل فيه ضعف ينجبر، فيكون الحديث بذلك حسناً، وقد أنكر بعض الإخوان هذه القاعدة فما رأيكم؟ أي: بعض الإخوة لم يعترف بهذه القاعدة وقال: هذه القاعدة غير مُسلَّم بها. الشيخ: ما هي حجته؟ السائل: يقول أنه لا يجد دليلاً؛ لأنه في بعض ما نقل أن بعض أهل الحديث لا يعمل بهذه القاعدة. الشيخ: لا بأس، البعض من أهل الحديث يعمل بها والبعض الآخر لا يعمل. السائل: يقول: فما الدليل على صحة هذه القاعدة؟ A الدليل: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص:35] والدليل: أن شهادة المرأتين بشهادة رجل، ولذلك قال الشاعر: لا تحارب بناظريك فؤادي فضعيفان يغلبان قويا السائل: هو يقول: إن المرسل سقط منه الراوي، ويقول: إن الضعيف الذي ينجبر متصل، فيقول: كيف يعضد متصل منقطعاً. الشيخ: هذا من الجماعة الذي لا يجوز لهم أن يجتهدوا، لا يجوز له أن يصحح ويضعف، كيف -يا أخي- إذا اختلف المخرج النفس تطمئن إلى صحة الخبر. أولاً: بخصوص هذا المثال كثير من كبار العلماء يذهبون إلى تصحيح الحديث المرسل لوحده، أظن أنكم تعرفون هذا، فالإمام مالك وأبو حنيفة وأحمد -في رواية عنه-؛ يحتجون بالحديث المرسل لوحده، وليس هناك ما يعضده من متصل. ونحن لا نتبنى هذا، نحن نقول بما هو الراجح عند علماء الحديث، وبما يشهد الواقع العلمي: أن الحديث المرسل لا ينبغي أن يحتج به، ما دام أننا لا نعلم الواسطة بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، أهو الصحابي وحده أم صحابي وتابعي؟ ولذلك أنت فيما نقلته عن الرجل -إذا كان النقل دقيقاً- جاء في بعض كتب المصطلح كـ البيقونية مثلاً، يقول في تعريف المرسل: ومرسل منه الصحابي سقط هذا التعريف خطأ، لو كان هذا التعريف صحيحاً لكان كل مرسل صحيحاً؛ لأن قول (ما منه الصحابي سقط) سقوط الصحابي وجهالته لا يعل الحديث؛ سواء كان مسمىً باسم لا نعرفه في الصحابة، أو كان غير مسمىً، كأن يقول كما جاء في كثير من الأحاديث في مسند أحمد وغيره: حدثني رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون الحديث في هذه الحالة صحيحاً؛ لأن كل الصحابة عند أهل السنة عدول، فسواء علينا سمي أم لم يسم. كذلك سواء علينا ذكر أو لم يذكر مطلقاً، وهذا هو الحديث المرسل عند البيقوني هذا، لكن هذا خطأ. المرسل: هو قول التابعي قال رسول الله وهناك فرق كبير جداً بين تعريف البيقوني وبين هذا التعريف الذي تبناه أهل الحديث المحققون منهم، الحديث المرسل: هو قول الراوي أو التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو ما سقط منه اسم الصحابي، ما هو الفرق؟ قول التابعي: قال رسول الله يحتمل أن يكون الساقط هو الصحابي، وعلى هذا الاحتمال يكون الحديث صحيحاً، ويحتمل أن يكون الساقط صحابي وتابعي، ويحتمل أن يكون زائداً عليه تابع تابعي وهكذا، كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله -وهو من أهل التتبع والاستقراء- أنه وجد في بعض المراسيل سقط الصحابي والتابعي وتابع التابعي، أربعة أشخاص أو خمسة على التوالي، فحينئذٍ المرسل لا يصح أن يقال: هو سقوط الصحابي، وإنما قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفترض حينئذٍ أن الساقط هو الصحابي، لأنه وإن كان محتملاً، لكن المحتمل أيضاً أن يكون السقط أكثر وأكثر الشاهد من هذا كله: بعض العلماء ممن سمينا آنفاً ذهبوا إلى تصحيح الحديث المرسل ونحن وإن كنا لسنا معهم في هذا، وقد قال بعض أهل العلم كلاماً قيماً، قال: لو جاز لنا أن نحتج بقول التابعي قال رسول الله، من باب حسن الظن به، أنه لو كان بينه وبين الرسول غير الصحابي كان ذكره -من باب حسن الظن- يقول: إذا استرسلنا مع هذا الحسن للظن لوصل إلى زماننا مثلاً لو أن فلاناً في القرن الثالث أو الرابع قال: قال رسول الله، فمن باب حسن الظن- نقول: لو كان هذا العالم لم يثبت الحديث عنده بالطريقة العلمية فلن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك نبطل أهم وسيلة عند المسلمين تفردوا بها دون العالمين جميعاً لمعرفة رواية الصحيح، حينئذٍ لا قيمة للإسلام إذا ما اعتمدنا على قول الراوي، سواءً كان تابعياً أو تابع تابعي أو ما دون ذلك من باب حسن الظن بالناس، فحينما يأتي الحديث المرسل بسند صحيح إلى مرسله، نحن نتوقف في هذا ولا نقبله؛ لأن هناك احتمالاً ما ذكرناه آنفاً، لكن عندما يأتي الحديث بإسناد من طريق غير الطريق السابقة، غير طريق المرسل، وهذا السند وحده ضعيف، لكن ضعيف وضعيف يتعاضدان، وهذا أمر مشاهد. وكما تعرفون في وصايا بعض الحكماء لأولادهم لما حضره الموت، وكان له عشرة من الولد، قال لكل واحد منهم: هات عصا، فلما كثرت جعلها حزمة وأمر كل واحد أن يكسرها، فما استطاع أحد منهم أن يكسرها، فضرب لهم مثلاً بأنه هكذا إن كنتم جميعاً متفقين فلا يستطيع أحد أن يعتدي عليكم، أما إذا كان كل واحد منفرداً لوحده فمن الممكن كسره والاعتداء عليه، كسر قضيب واحد سهل، لكن إذا ضُمَّ إليه مثله يأخذ قوة، وكذلك إذا ضُمَّ إليه ثالث ورابع وخامس يزداد قوة. نحن نقول لطالب العلم هذا: هل تعتقد بأن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق؟ ما تظنه يقول أو ماذا تعلم؟ السائل: يقول: إذا كان الضعف في راوٍ واجتمعت الطرق يصح الحديث. الشيخ: كيف ذلك؟ السائل: إذا كان في السند راوٍ ضعيف وتعددت الطرق، لكن الرواية التي فيها انقطاع كيف يستشهد بها؟ الشيخ: هل يقول بأن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق؟ لا أسأله التفصيل. السائل: نعم هو يقول بهذا. الشيخ: لماذا يقول، لا أقول: بماذا يقول؟ وإنما أقول: لماذا يقول ذلك؟ السائل: يقول: لي سلف من قبل من المحدثين يقولون بهذا. الشيخ: صاحبك هذا قناعته من أين جاءت؟ السائل: من التعاضد. الشيخ: أي أنه لاحظ معنى التعاضد هنا يأتيه سؤال ثانٍ: وهو أن حديثاً جاء من طريقين موصولين ليس فيهما انقطاع، لكنّ كليهما ضعيف يتقوى عنده أم يتطلب ثالثاً ورابعاً؟ السائل: يتقوى. الشيخ: المعنى الذي لاحظه هو الذي يلاحظه من يقوي الحديث المرسل بالحديث المتصل، فإن كون هذا ضعيفاً للإرسال، وكون الآخر ضعيفاً لسوء الحفظ، كلاهما يشتركان في الضعف، فلماذا يقول: بأن إسنادين علتهما ضعف الحفظ فهذا يقوي هذا، ولا يقول بأن ذاك المرسل لا يتقوى بمثل ما تقوى به الضعيف الآخر؟ السائل: لأنه يقول: هنا عرفنا العلة في السند هذا وهو ضعف الراوي الذي ينجبر ضعفه، أما الثاني فلم نعرف التابعي، وربما يكون الضعف فيه شديد جداً بحيث أنه لا يعتضد بهذا، فيقول مثلاً: ربما بين الصحابي والتابعي راوٍ شديد الضعف لا ينجبر بالطريق ذاك، فكيف تجيرون برجل مبهم لا يعرف؟ الشيخ: ما هو الذي يلقى في النفس، أهو شديد الضعف أم ليس شديد الضعف؟ السائل: بالنسبة له يا شيخ؟! الشيخ: بالنسبة للمُرْسِل. السائل: هو بالنسبة له يقول: الله أعلم، ربما يكون كذا أو كذا الشيخ: يقول: هذا الضعيف الذي قوينا به الضعيف الآخر يمكن أن يكون وَهِم وهماً لا يتقوى، وباب الإنكار واسع، ولكن البحث العلمي يوحي بأن الإنسان يأخذ ما يغلب على الظن، الآن نعود نحن إلى العلماء الذين احتجوا بالحديث المرسل، ماذا كان ملحظهم؟ السائل: شروطهم. الشيخ: لا، كان ملحظهم أن هؤلاء -أي: العلماء الذين صححوا المرسل- لو غلب عليهم احتمال أن يكون المرسل أخذه من شديد الضعف ما صححوه، لكن هم غلب على بالهم وعلى خاطرهم أنه لو كانت هذه الواسطة التي نحن افترضناها شديدة الضعف -حاشاهم- ما كانوا ليرووا الحديث وينسبوه للرسول عليه السلام، فالذي يلقى في النفس في هذه الحالة -مع الاعتراف أن احتمال ضعف الراوي ضعفاً شديداً احتمال قائم- لكن هناك احتمال يقابله وهو الأكثر طمأنينة للنفس وأنه ليس شديد الضعف، ولذلك صحح من صحح الحديث المرسل، فنحن على الأقل نعتبره شاهداً فقط وليس محتجاً به.

القول العدل في كتاب (تقريب التهذيب)

القول العدل في كتاب (تقريب التهذيب) Q أشيع في الآونة الأخيرة عن كتاب تقريب التهذيب أنه كتاب غير معتمد في الجرح والتعديل؛ لكثرة الأخطاء المطبعية التي وقعت في ألفاظ الجرح والتعديل، فما رأيكم؟ ومتى يؤخذ بكلام الحافظ إذا تعارض مع بعض علماء الجرح والتعديل كـ الذهبي وغيره؟ A هذه المسألة تعود إلى الباحثين المتخصصين، لا تعود إلى طلاب العلم المبتدئين، على هؤلاء المبتدئين أن يعتمدوا ما في كتب الحافظ ابن حجر العسقلاني تماماً، كما قلنا إجابةً عن سؤال من يعتمد على تصحيح الحافظ العراقي وأمثاله، قلنا: يعتمد إلا إذا تبين له خطؤه، فكون كتاب التقريب -مثلاً- تبين أن فيه أخطاءً كثيرة، لكن هذه الأخطاء الكثيرة لا تساوي الصواب الأكثر، فهي أقل بكثير من صوابه، فلا يجوز لنا أن نُعْرِضَ عن الاستفادة من هذا الكتاب لوقوع أخطاء فيه، فنحن نتبنى ما فيه حتى يتبين لنا أنه أخطأ فيه، أما أن نجعل الخطأ قاعدة في الكتاب فبهذا نهدر الكتاب، ومعنى ذلك: أن نهدر كل كتاب من كتب العلم، وأن نهدر كتبنا التي نحن نؤلفها بأيدينا؛ لأننا لا ندعي العصمة، ولذلك نحن نغير ونبدل بين كل مدة ومدة فيما يبدو لنا من خطأ أو وهم وقع فيه أحدنا، وليس أحدنا أبداً بالذي يكون وضعه من حيث الخطأ والصواب بأحسن من الذين سبقونا إلى هذا العلم، كالحافظ ابن حجر.

الترجيح عند التعارض بين الجرح والتعديل

الترجيح عند التعارض بين الجرح والتعديل Q إذا تعارض كلام الحافظ رحمه الله -مثلاً- في رجل وثقه وتكلم عليه الذهبي أو العكس، فأيهما يرجح؟ A يستعمل قاعدة علماء الحديث: أن الجرح مقدم على التعديل، بشرط معروف عند العلماء، وأقول هنا: لا بد من تطبيق العلم ممن يستطيع تطبيقه.

سكوت الحافظ ابن حجر عن حديث ما في فتح الباري

سكوت الحافظ ابن حجر عن حديث ما في فتح الباري Q هل سكوت الحافظ عن حديث إذا أورده في كتاب فتح الباري يعتبر تحسيناً له؟ A هذه قاعدته لكنها غير مطردة، فقد وجدنا كثيراً من الضعاف في كثير من الأحاديث التي سكت عنها.

الترجيح عند اختلاف الحكم على الحديث من قبل الشيخ الألباني وغيره

الترجيح عند اختلاف الحكم على الحديث من قبل الشيخ الألباني وغيره Q إذا صحح أحد المحدثين السابقين حديثاً، ويرى الشيخ حفظه الله خلاف ما ذهب إليه هذا المحدث بأن ضعفه، دون أن نحصل على المصدر الذي عزى إليه الشيخ، كأن يكون مخطوطاً أو غير ذلك، ولم يكن فيه التوسع في تخريجه، فما وضع طالب العلم في هذه الحالة؛ علماً بأنه قد صارت إشكالات كثيرة في مثل هذا؟ A أظن أنه سبق شيء من الجواب، لكن لا بد من جواب جديد إذا كان هذا الطالب يستطيع التمييز والتتبع فيعتمد ما وصل إليه بحثه واجتهاده، أما إذا كان ليس أهلاً لذلك فهو يعتمد على من ثقته به أكثر من الآخر. والسلام عليكم، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

لا عز إلا بالعودة إلى الدين

لا عز إلا بالعودة إلى الدين إن الذل الذي حل بالمسلمين اليوم أمر لا يخفى على كل ذي عقل، ويكفي تذكيراً ما أصاب المسلمين في احتلال اليهود لفلسطين، فضلاً عن البلاد الشامية الأخرى التي لا تزال الفتن فيها تترى، ولم يك هذا إلا بظلم منا، لأننا ارتكبنا ثلاثة أشياء هي السبب في هذا الذل وهي: التبايع بما حرم الله، والتكالب على حطام الدنيا، وترك الجهاد في سبيل الله، ولا عزة لنا ولا قوة إلا بالرجوع إلى دين الله عز وجل، فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.

أسباب تسلط الذل على المسلمين

أسباب تسلط الذل على المسلمين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فقد روى الإمام أبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده وغيرهما بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) . في هذا الحديث الصحيح بيان للعلاج والدواء لهذا الذي حل بالمسلمين من الذل الذي سيطر عليهم أجمعين، إلا أفراداً قليلين منهم لا يزالون يتمسكون بالعروة الوثقى لا انفصام لها. لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المرض الذي إذا حل بالمسلمين أذلهم الله، ثم وصف لهم الدواء والخلاص من هذا الداء، فقد قال عليه الصلاة والسلام في مطلع هذا الحديث: (إذا تبايعتم بالعينة) بيع العينة لا نريد الكلام عنه إلا بإيجاز، هو: بيع من البيوع الربوية التي ابتلي بها كثير من الناس في العصر الحاضر، وهو إنما ذكره الرسول صلوات الله وسلامه عليه على سبيل التمثيل وليس على سبيل التحديد، مما يقع فيه المسلمون فيستحقون به وبسببه أن يذلهم الله تبارك وتعالى، ذكر بعض الأمثلة في نص هذا الحديث: أولها: بيع العينة، ثم ثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع) وهذا كناية عن تكالب المسلمين على جمع الدنيا وعلى الاهتمام بزخارفها، ذلك الذي يصرفهم عن القيام بكثير من الواجبات الشرعية، وضرب على ذلك مثلاً واحداً أيضاً، فقال عليه الصلاة والسلام في تمام الحديث: (وتركتم الجهاد في سبيل الله) . (إذا تبايعتم بالعينة) أي: تعاملتم بالمعاملات المحرمة ومنها العينة (وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع) أي: انصرفتم عن القيام بواجباتكم الدينية إلى الاهتمام بالأمور الدنيوية، وكسب المال بأي طريق كان، وأدى ذلك بكم إلى ترك الجهاد في سبيل الله ماذا يكون عقاب هذه الأمة حينما تقع في هذه الأمور التي لم يشرع ربنا عز وجل شيئاً منها؟ قال عليه الصلاة والسلام من باب التحذير: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) ، وهذا الذل المسلط على المسلمين أمرٌ لا يخفى على كل ذي عقل، وهنا يحتاج الأمر إلى كثير من البيان، وحسبنا تذكيراً ما أصاب المسلمين في احتلال اليهود لـ فلسطين فضلاً عن البلاد الشامية الأخرى التي لا تزال الفتن فيها تترى، ولا يزال الحكام غير المسلمين أو الحكام المسلمون جغرافيون يعيثون فيها فساداً، كل ذلك ذلٌ سلطه الله تبارك وتعالى على المسلمين، وليس ذلك ظلم منه، وحاشاه! فإن ربنا عز وجل لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ربنا عز وجل يقول: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] فالله عز وجل لما سلط الذل علينا فبظلمٍ منا، فهو ظلم واضح في كثير من الأمور، وقد ضرب الرسول عليه السلام لنا هذه الأمثلة الثلاثة: التبايع بما حرم الله التكالب على حطام الدنيا ترك الجهاد في سبيل الله. فكانت النتيجة أن يسلط الله علينا ذلك الذل المخيم بصورة مجسدة مجسمة في بلادنا العزيزة فلسطين، وإذا كان هذا الذل فما الخلاص منه؟ وما النجاة منه؟

الدواء الناجع للخروج من الذل والمهانة

الدواء الناجع للخروج من الذل والمهانة يقول الرسول عليه الصلاة والسلام الذي وصفه ربنا في القرآن بحق حين قال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] قال عليه السلام في تمام الحديث: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) ، فهذا هو العلاج، قد وصفه الرسول عليه السلام واضحاً مبيناً في خاتمة هذا الحديث حيث قال: حتى ترجعوا إلى دينكم) . وحينما أروي لكم هذا الحديث وأعلق بعض هذه التعليقات عليه لا آتيكم بشيء جديد؛ لأن المسلمين جميعاً على ما بينهم من اختلافات في العقائد وفي الفروع كما يقولون، كلهم مجمعون على أن سبب الذل الذي حل بالمسلمين إنما هو تركهم لدينهم، وكلهم يقولون: إن العلاج هو الرجوع إلى الدين، هذا كله أمر معروف لديهم أجمعين. لكن الشيء الذي أريد أن نذكِّر به، وقد يكون أمراً جديداً بالنسبة لبعض الناس، ولكنه هو الحق مثلما أنكم تنطقون، هذا الشيء هو: لِمَ وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الدواء لهؤلاء المسلمين المستذلين بسبب ما ارتكبوا من مخالفات لدينهم، وصف لهم الدواء بأن يرجعوا إلى دينهم؟ فما هو هذا الدين -هنا بيت القصيد في كلمتي هذه- ما هو هذا الدين الذي هو علاج المسلمين بنص هذا الحديث، والمسلمون -كما ذكرنا- كلهم يقولون: على المسلمين أن يعملوا بدينهم، لكن ما هو هذا الدين؟ إن الشيء المؤسف أن هذا الدين الإسلامي قد أخذ مفاهيم عديدة جداً في مسألة التاريخ الطويل من بعد السلف الصالح رضي الله عنهم، ليس فقط في الأمور الفقهية التي يصفونها بأنها فرعية؛ بل حتى في المسائل الاعتقادية، وكلنا يعلم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بافتراق المسلمين إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، حين قال: (تفرقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الجماعة) هذه هي الرواية الصحيحة، وهناك رواية أخرى في سندها شيء من الضعف، ولكن يوجد ما يشهد لها، ألا وهي قوله عليه السلام: (هي ما أنا عليه وأصحابي) . وفي الواقع هذه الرواية ليس فيها شيءٌ جديد بالنسبة للرواية الأولى إلا التوضيح والترتيب، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه حين قال في وصف الفرقة الناجية: (هي الجماعة) فسرها في الرواية الأخرى بأنها هي التي تكون على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. إذاً: فالرسول عليه السلام يخبرنا في هذا الحديث أن المسلمين سيتفرقون إلى ثلاث وسبعين فرقة، وهذه الفرق كلها ضالة إلا فرقة واحدة، صفتها: ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، نحن اليوم نعيش في خضم هذا الاختلاف الكثير والكثير جداً، الذي ورثناه طيلة هذه السنين الطويلة المديدة، وكل من هذه الفرق ليس فيها طائفة تتبرأ من الإسلام، ليس فيها طائفة تقول: ديننا غير الإسلام، كلهم يقولون: ديننا الإسلام، ومع ذلك -أيضاً- يقولون كلهم: علاج المسلمين هو تمسكهم بالدين. إذاً: هذا الدين الذي تفرق فيه المسلمون إلى ثلاث وسبعين فرقة -أي: تفرقوا في فهمه هذا التفرق الشديد- إذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد جعل العلاج إنما هو بالرجوع إلى هذا الدين، فبأي مفهوم ينبغي أن يفهم هذا الدين حتى يكون هو العلاج كما قال عليه الصلاة والسلام: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) ؟ لا نذهب بكم بعيداً في ضرب الأمثلة، فها نحن في المثال الأول الذي نصبه الرسول عليه الصلاة والسلام أول هذا الحديث، حيث قال: (إذا تبايعتم بالعينة) ، بيع العينة المذاهب اليوم مختلفة فيه، فمنهم من يبيحه، ومنهم من يحرمه، والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يجعل من أسباب مرض المسلمين واستحقاقهم الذل أنهم يتبايعون بالعينة، فإذاً بأي منهج وبأي مفهوم للدين يجب أن نفهم هذا الدين حتى يكون عبادة وسبباً لخلاصنا من هذا الذل الذي سيطر علينا؟ إن بيع العينة الذي ذكره الرسول عليه السلام في شرح هذا الحديث قد استباحه بعض المسلمين، ولا أعني الجهلة والعامة، وإنما أعني الخاصة وبعض المؤلفين والمصنفين من القدامى والمحدَثين، ذكروا أن بيع العينة بيع حلال، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] لكن هذا الحديث يبين لنا أن بيع العينة ليس مشروعاً بل هو محرم، ولذلك جعله سبباً من أسباب استحقاق المسلمين للذل. إذاً: معنى هذا الحديث أنه لا يجوز بيع العينة، فإذا أردنا أن نرجع إلى ديننا ليعزنا ربنا عز وجل، ويرفع الذل الذي سيطر علينا، فنبيح بيع العينة أم نحرمه؟ لابد أن نحرمه، وهذا التحريم جاء في حديث، لكن تحليله جاء في بعض الروايات وبعض الأقوال. إذاً: حينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (حتى ترجعوا إلى دينكم) ، إنما يعني الدين المذكور في القرآن والمفصل في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، الدين كما قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] إلى آخر الآيات. إذاً: الدين الذي هو العلاج هو الاستسلام، لكن الإسلام قد فهم على وجوه شتى في الأصول -في العقائد- فضلاً عن الفروع.

من أسباب تسلط الذل: محاولة الاحتيال على الشريعة

من أسباب تسلط الذل: محاولة الاحتيال على الشريعة قلت في مطلع كلمتي هذه: إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ذكر في طرف الحديث الأول بيع العينة على سبيل المثال لا التحديد؛ وذلك لأن بيع العينة إنما يستباح بشيء من الاحتيال، وبشيء من تغيير الأسماء، كما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا في الحديث الصحيح حين قال: (ليكونن من أمتي أقوامٌ يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) ، فبيع العينة يسمونه بيعاً، لكن هذه تسمية غير شرعية؛ لأن البيوع منها ما هو محرم ومنها ما هو مباح، فكون هذا بيعاً لا يستلزم أن يكون مباحاً، ما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكره سبباً من الأسباب التي إذا أخذ بها المسلمون ذلوا. نأتي بمثال آخر مما يسمونه بمثل هذه التسمية، وهو -أيضاً- محرم في الإسلام، ومع ذلك فهو مسطور في بطون الكتب حتى اليوم، ألا وهو ما يسمى بلغة الشرع بنكاح التحليل لقد قال الرسول عليه السلام، ولعلكم على علمٍ بهذا الحديث جميعاً: (لعن الله المحلل والمحلل له) ، فكان نكاحاً باطلاً؛ لأن اللعنة في خصوص الشيء نهي عنه وزيادة، لذلك يقول العلماء: إن من الأدلة التي تدل على كون الشيء من الكبائر أن يكون صاحبه ملعوناً في الكتاب أو في السنة، أما النهي عن الشيء فيستلزم التحريم وليس دائماً، ولكن ليس نصاً في أن هذا الشيء من الكبائر، بخلاف ما إذا لعن فاعله فذلك يكون دليلاً واضحاً على أن هذا الفعل من الكبائر، فعندما قال الرسول عليه السلام: (لعن الله المحلل والمحلل له) ، معنى ذلك أن نكاح التحليل منهي عنه نهياً شديداً بليغاً، بحيث أنه جعله من الكبائر، حيث لعن المحلل والمحلل له، ومع ذلك فلا يزال اليوم كثيرٌ من علماء المسلمين يبيحون نكاح التحليل ويصرحون بصحة عقده، ولا يأمرون بإبطال هذا النكاح مع هذا الوعيد الشديد الذي سمعتموه من الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا أمر واقع، ونكاح التحليل واقع، وغير ذلك كثير وكثير جداً مما لا أريد أن أطيل عليكم؛ لأن الوقت ضيق.

اختلاف المسلمين في الأصول والفروع

اختلاف المسلمين في الأصول والفروع ننتقل إلى مسألة أخرى، أو بعض المسائل الأخرى التي تتعلق بالعقيدة، فالمسلمون مختلفون حتى في العقيدة، وليس كما يقول جماهير المشايخ اليوم: إن الخلاف بين المسلمين إنما هو في الفروع وليس في الأصول، (هذه شنشنة نعرفها من أخزم) ولا تكاد تقرأ مجلة دينية إلا وتجد الضرب على هذه الوتيرة وعلى هذه النغمة فيها، وهي أن الخلاف بين المسلمين إنما هو في الفروع وليس في الأصول، ثم يزيدون على ذلك فيقولون: والاختلاف في الفروع رحمة، وهذا كله خطأ من ناحيتين: الناحية الأولى: أن الاختلاف يتعدى الفروع إلى الأصول، بل إن الخلاف وقع في أس الأصول كلها، ألا وهو الإيمان بالله تبارك وتعالى، فما أظنكم يخفى عليكم الخلاف بين الماتريدية -مثلاً- وأهل السنة جميعاً في الإيمان، هل يقبل الزيادة والنقص أم لا؟ وهل من مسماه الأعمال الصالحة أم لا؟ فالجمهور ونصوص الكتاب والسنة تثبت أن الإيمان يزيد وينقص، وأن العمل الصالح من الإيمان، أما الماتريدية فلا يزالون يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكل إيمان يقبل الزيادة فهو كفر؛ لأنهم يعتقدون أن الإيمان شيء لا يقبل الزيادة والنقص أبداً، وهذا المذهب حتى اليوم مسيطر وربما يكون مسيطراً على أكبر رقعة من العالم الإسلامي.

المفهوم الصحيح للدين

المفهوم الصحيح للدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى ترجعوا إلى دينكم) فمعنى الرجوع إلى الدين ليس الرجوع إلى الخلافات القائمة منذ القديم بين المسلمين، مع وجود شيء من الاتفاق بين المسلمين اليوم، وإنما الرجوع إلى الدين بالمفهوم الصحيح، أقول هذه الكلمة: (بالمفهوم الصحيح) فما هو المفهوم الصحيح للدين؟ الأمر كما قيل: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك هؤلاء مثل الماتريدية حينما يفهمون أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقص، ويعتقدون أن هذا هو الصواب، فإذاً هم يدعون المسلمين اليوم جميعاً إلى أن يشاركوهم في هذه العقيدة، وهم يعتقدون بصحة نكاح التحليل، فهم إذاً يدعون المسلمين إلى اعتقاد اعتقادهم، مع أن هذه العقيدة وهذا الفقه يخالف الكتاب والسنة، قلت: لا أريد أن أكثر من الأمثلة، وإنما هي ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، إنما غرضي فقط أن أنبه إلى أن الدين الذي جعله الرسول عليه الصلاة والسلام علاجاً للمسلمين، لا يمكن أبداً أن يكون هو هذا الدين بالمفاهيم المتعددة حتى في الأصول وليس في الفروع فقط. إذاً: ما هو المفهوم الصحيح؟ وما هو الطريق لمعرفة هذا المفهوم الصحيح للدين؟ حتى إذا عزمنا أن نهتدي بهدي الله وأن نتعظ بموعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجع إلى الدين، فما هو المفهوم الصحيح؟ هذا هو بيت القصيد -كما يقال- من هذه الكلمة.

فهم الدين على طريقة السلف الصالح

فهم الدين على طريقة السلف الصالح المفهوم الصحيح للدين لا يمكن أخذه من واقع المسلمين اليوم؛ لأنهم مختلفون أشد الاختلاف، وإنما يجب أن نأخذ المفهوم الصحيح للدين مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة، وما كان عليه السلف الصالح، لقد أشار الرسول عليه السلام إلى هذه الحقيقة في الحديث السابق، لكن مع الأسف قل من يتنبه لهذه الإشارة، وهي في الواقع أن تسمى: صريح العبارة، أولى من أن يقال: إنها إشارة، حين قال جواباً للسائل: من هي الفرق الناجية؟ قال: (هي الجماعة) (هي ما أنا عليه وأصحابي) كذلك تأكيداً لهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام في حديث العرباض بن سارية المعروف -فيما أظن- لديكم، وفيه يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) . إلى آخر الحديث. نجد في هذا الحديث وفي ذاك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على أن يقول: عليكم بسنتي فقط بل قال: (تمسكوا بسنتي وعضوا عليها بالنواجذ) ، ولكننا نجده يضم شيئاً آخر إلى هذا الأمر بالتمسك بما كان عليه الصلاة والسلام، هذا الشيء الآخر هو التمسك بالجماعة، وبما كان عليه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وبما كان عليه الخلفاء الراشدون، وهذا الذي ذكره الرسول عليه السلام في الحديثين كليهما معاً، من الحض على التمسك بشيء -ولو من الناحية التعبيرية- غير ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم -شيء زائد- حيث قال: (ما أنا عليه وأصحابي) وحيث قال أيضاً: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ، وهذا التعبير وهذا الذكر في الشيء الآخر مع الرسول عليه الصلاة والسلام هو أسلوب قرآني، فالله عز وجل يقول في صريح القرآن: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] الشاهد أن الله عز وجل ذكر هنا في الآية بالإضافة إلى قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} قال بعد ذلك: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، لماذا جاء بهذه الجملة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ؟ لماذا لم تكن الآية على النحو الآتي: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى)) إلى آخر الآية؟ لماذا جاء بجملة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ؟ إن في ذلك لعبرة بالغة جداً؛ ذلك لأن كل فرقة وكل طائفة على وجه الأرض اليوم، والتي بلغ عددها ثلاثاً وسبعين أو أكثر أو أقل، لا يهمنا، لكن الطوائف كثيرة وكثيرة جداً، كل طائفة من هذه الطوائف تدعي أنها على الكتاب والسنة، حتى آخر طائفة جديدة كمذهب يدعون أنهم على الإسلام وعلى الكتاب والسنة، مع أنهم من الذين يقولون بأن النبي عليه الصلاة السلام ليس خاتم الأنبياء، وإنما هناك أنبياء كثر، حتى هؤلاء يقولون: نحن على الكتاب والسنة، وقس على ذلك سائر الفرق قديماً وحديثاً، فما هو الحكم بين هذه الفرق كلها وكلها تدعي أنها على الكتاب والسنة؟ الجواب في الآية وفي الحديثين السابقين: الآية تقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] أي: إن أية طائفة تتبع غير سبيل المؤمنين الأولين الذين كانوا على هدى وعلى بصيرة من دينهم، وإن زعمت هذه الطائفة أنها على الكتاب والسنة، فمادام أنها تخالف طريق المسلمين وجماعة المسلمين فهذا دليل على أنها من الفرق الضالة. كذلك الحديث: (ما أنا عليه وأصحابي) ، فكل عقيدة تأتي من طائفة لا يستطيعون إثبات أنها عقيدة الجماعة، أو عقيدة الصحابة، أو عقيدة السلف الصالح؛ فذلك دليل على أن هذه الطائفة هي من الفرق الاثنتين والسبعين من فرق الضلالة التي هي من فرق النار، وحينئذٍ حين قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: (لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) إذاً: يجب أن يُفهم أن الدين ليس فقط كما هو الشائع عند إخواننا أهل الحديث في كل بلاد الدنيا، سواءً الذين يسمون بـ أهل الحديث أو يسمون بـ أنصار السنة، أو يسمون بالسلفيين أو غير ذلك من أسماء كلها تدل على حقيقة واحدة ليس الأمر كما هو الشائع عند كثير من إخواننا هؤلاء أن دعوتنا تنحصر في الاعتماد على الكتاب والسنة فقط، ليس هذا فقط، لابد من ضميمة ثالثة قد سبق ذكرها في الحديثين السابقين وأخيراً في الآية المذكورة، هذه الضميمة الثالثة بعد الكتاب والسنة هي عمل السلف الصالح أو منهج السلف الصالح ثالثاً وأخيراً، وإن لم تتمسك طائفة تدعي الاعتماد على الكتاب والسنة بهذه الضميمة الثالثة، فذلك دليل على انحرافها مهما زعمت أنها على الكتاب والسنة، من هنا جاء قول ابن قيم الجوزية رحمه الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه لم يقتصر ابن القيم تبعاً لما أشرنا إليه من نصوص على قوله: أن العلم الصحيح هو قال الله قال رسول الله -الكتاب والسنة- لم يقتصر على هذا، بل عطف على ذلك، فقال: (قال الصحابة) وهذا أمر لابد منه، وعدم التمسك بهذه الضميمة الثالثة باعتقادي هو سبب دمار كل الفرق القديمة والفرق التي تَجِدُّ في كل يوم، فكل يوم نسمع أقوالاً عن طائفة تدعي أنها على الكتاب والسنة، وفعلاً إذا رأيتها رأيتها تصلي على الكتاب والسنة، لا تعرف تعصباً لحنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي، ولكن عندما لم يتقيدوا في فهمهم لنصوص الكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح، خرجوا عن دائرة أهل السنة والجماعة، وهم يزعمون أنهم على الكتاب والسنة.

الفرق الضالة وعدم التزامهم منهج السلف

الفرق الضالة وعدم التزامهم منهج السلف ومن ذلك الخوارج قديماً، وأمثالهم حديثاً الذين يكفرون المسلمين بمجرد انتسابهم للمعاصي وليس للكبائر فقط، إن الخوارج القدامى كان ضلالهم محصوراً على أنهم يكفرون المصرين على الكبائر، أما اليوم فقد نبتت نابتة جديدة يكفرون المصر على المعصية الذي مات عليها ولم يتب لماذا وهم يعتمدون على الكتاب والسنة وأيضاً يحرصون معنا على التمسك بالسنة الصحيحة؟ ولكنهم شذوا عن هذا القيد الثالث: (قال الصحابة) ولذلك ركبوا عقولهم وخلطوا مفاهيمهم على نصوص الكتاب والسنة، فجاءوا بعقيدة جديدة: أن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلي ويصوم، ما دام أنه مرتكب لمعصية لم يتب منها فهو خالد في النار أبداً، لماذا هذا الانحراف؟ لعدم تمسكهم بما كان عليه سبيل المؤمنين: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] لم يقل ربنا هذه الجملة عبثاً، وإنما ليدل على أن فهم الكتاب والسنة يجب أن يكون على ما كان عليه السلف الصالح. المعتزلة قديماً لما جاءوا بعقائد خالفت الكتاب والسنة، هل خالفوا الكتاب والسنة في نفوسهم وفي عقيدتهم؟ لا. بل يقولون: الكتاب والسنة كما يفهمون هم، لا يوجد أحد على وجه الأرض يقول: نحن نرفض الكتاب والسنة ونرفض الحديث الصحيح، كلهم يقولون: الكتاب والسنة، ولكن يفسرون النصوص حسب ما يشتهون، دون أن يلتزموا بالفهم الأصيل الذي تلقاه الجيل الأول، ألا وهم الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقلوه إلى من بعدهم من التابعين وأتباعهم، فاتبعوا الصحابة بإحسان، ونرجو الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين. هذا الذي أردت أن أذكر الطلبة الحاضرين بأنه يعز ويندر جداً التنبيه على حقيقة وعلى سبب ضلال كل الفرق قديماً وحديثاً، مع أنها كلها تدعي العمل بالكتاب والسنة، وسبب الضلال هو عدم الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح، لذلك قال ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشبيه بلغني في هذه الفترة وأنا في المدينة أنه طبع حديثاً في مصر كتاب في عشرين مجلداً لـ عبد الجبار القاضي المعتزلي، يؤيد فيه عقيدة الاعتزال، وليس فيه إلا قال الله قال رسول الله إذاً ما سبب هذا الضلال؟ وفي مثل هذه العارضة أمثال كثيرة وكثيرة جداً، إن السبب هو عدم التزامهم التمسك بما كان عليه السلف الصالح، من ههنا رأيت أنا أن أهل السنة الذين يريدون أن يتمسكوا بالكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، رأيت أن يسموا بالسلفيين؛ لأنهم ينتمون إلى السلف الصالح، لا ينتمون إلى الغرب، كما ينقد بعض الناس اليوم من الحزبيين على السلفيين أنهم ينتسبون هذه النسبة، أنا أقولها كلمة صريحة: لا يوجد على وجه الأرض مسلم يفهم معنى السلف الصالح ومعنى هذه النسبة السلفية، ثم يستطيع التبرؤ منها، ولا يوجد مسلم -أيضاً- على وجه الأرض يعرف منهج السلف الصالح، وأن على رأسهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فيستطيع بعد ذلك أن يتبرأ، ولكن أي مسلم تبرأ من أي مذهب نسب إلى شخص أو جماعة فهو ليس في خطر؛ لأنها ليست معصومة، ولكن السلفيين حينما ينتسبون إلى السلف الصالح فهم معصومون؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ، وقد أجمع أصحاب الرسول عليه السلام على اتباع الكتاب والسنة كما فهموه وتلقوه عن الرسول عليه السلام، بينما الذين جاءوا من بعدهم، خاصة من أصحاب الفرق التي أشرنا إلى بعضها، فقد اختلفوا اختلافاً كبيراً، ولا مخرج لنا ولا خلاص من هذا الاختلاف إلا بأن نرجع إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، هذه الضميمة لابد منها، ومن لم يأخذ بها لم ينفعه الانتساب إلى الكتاب والسنة، أقول: الطوائف والفرق الضالة تنسب إلى الكتاب والسنة، ومع ذلك فهي على ضلال، وهي فرقة من الفرق الاثنتين والسبعين، فلا جرم أن الرسول عليه السلام نبهنا في ذلك الحديث أن الفرقة الناجية علامتها أنها تتمسك بما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، وما كانت عليه جماعته من الصحابة، هذه ذكرى تنفع المؤمنين، ولعلنا أطلنا عليكم كثيراً، وحسبنا بهذا المقدار، ولعلنا نستمع إلى بعض الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول الصحابي

حكم قول الصحابي Q ما حكم اجتهاد الصحابة، مثلاً: عندما اجتهد أبو هريرة في مسألة إطالة الغرة في الوضوء حين قال: [أطيلوا الغرة] ، هل يؤخذ بهذا الاجتهاد أم لا يؤخذ؟ A في اعتقادي أن هذا سؤال مهم، وله صلة وثقى بالبحث الشرعي أقوال الصحابة يمكن أن نقسمها إلى أقسام: أولاً: أن يكونوا اتفقوا على قول واحد، ولست أعني من الاتفاق الإجماع، وإنما أعني أنه ورد إلينا عن جماعة من الصحابة نقول صحيحة، إما يفسرون نصاً من القرآن، أو من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، أو يثبتون حكماً لا يعلمون له مخالفاً في الكتاب والسنة، هذا النوع من أقوال الصحابة حجة، ويجب الأخذ به، وهو داخل في كلام السائل. النوع الثاني: تأتي عن الصحابة أقوال مختلفة، مثل فعل أبو هريرة هذا، فهل هذا الفعل من أبي هريرة حجة أم لا؟ في نظري أن السؤال لا يعني تحرير القول في هذه المسألة، وإنما يعني: ما هو موقف المسلم من مثل هذه المسألة هل يجوز الأخذ بقول هذا الصحابي وأمثاله إذا لم يكن هناك أقوال من صحابة آخرين تدعم قوله؟ فالذي أعتقده أن قول الصحابي في حد ذاته ليس حجة، والمسلم يخير بين أن يأخذ به أو لا يأخذ، لكن إذا اطمأن إلى أنه رأي لصحابي جليل وليس لديه ما يخالفه فأخذ به فلا بأس عليه، وإن تركه -أيضاً- فلا بأس عليه؛ لأنه ليس ملزماً بأن يأخذ بقول صحابي واحد ليس هناك في الشرع ما يدل على صحته، لكن إن أراد السائل بسؤاله تحديد موقفنا بالنسبة لـ أبي هريرة وما ذهب إليه من إطالة الغرة، فنحن نقول: إن هذا مذهب ندعه لـ أبي هريرة، ولسنا مكلفين بالأخذ به؛ لأسباب كثيرة منها: أنه ثبت في سنن أبي داود وغيره من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ قال بعد وضوئه: (فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم) ، ونحن نعلم حتى من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يشرع في العضد، إنما كان يغسل الذراعين مع المرفقين، كذلك ما كان يغسل شيئاً من ساقه، وإنما يغسل قدميه وكعبيه هذا شيء. الشيء الثاني: نجده في عمل أبي هريرة، وهو أنه ما كان يدعو الناس إلى إطالة الغرة، فقد جاء في رواية في صحيح مسلم أن رجلاً من التابعين لاحظه حينما يتوضأ وأبو هريرة لا يحس به، فلما رآه توضأ وأطال غرته سأله: (أهكذا الوضوء؟ فقال له أبو هريرة: أنتم ههنا يا بني فروخ؟) ما كان يعلم أن هناك رجلاً يراقبه، ففي هذا إشعار بأن هذا الفعل الذي كان يفعله أبو هريرة وهو إطالة الغرة شيء خاص به وهو مقتنع به، ولا يريد جعله شرعاً عاماً يستمر إلى يوم القيامة، فبهذا وهذا، وتفرد أبي هريرة بذلك كتفرد ابن عمر بإيصال الماء إلى شحمة العين، هذا من المبالغات التي تزيد بطبيعة الحال على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في وضوئه. فلذلك نحن لا نلزم بأخذ مثل هذه الأقوال الغريبة، وندع أمرها إلى أصحابها، ولسنا مكلفين بها، فباختصار: يجب أن نفرق بين قول تواردت عليه أقوال جماعة من الصحابة منهم وليس لهم مخالف، وبطبيعة الحال ليس في الكتاب والسنة ما يخالفه، فهذا القول يجب أن نتمسك به. الشيء الثالث: قول متعارض، صحابي يقول هكذا وصحابي يقول هكذا، فنحن لسنا ملزمين لا بهذا ولا بهذا، وإنما نحكم القرآن الكريم كما سمعتم، ثم يأتي قول شاذ عن فرد من أفراد الصحابة، فالأولى ألا نتكلف بالأخذ به، ومثاله: إطالة الغرة من أبي هريرة. أما الزيادة التي في آخر الحديث: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) فهي ليست من الحديث، هذا كما يقول الحافظ ابن حجر، ومن قبله ابن تيمية، ومن قبلهم جميعاً الحافظ المنذري: هذه زيادة مدرجة في الحديث وليست من الحديث، فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز الاعتماد عليها.

رأي الشيخ فيمن يعتقد العقيدة السلفية ومع ذلك يدعو إلى جماعة أخرى

رأي الشيخ فيمن يعتقد العقيدة السلفية ومع ذلك يدعو إلى جماعة أخرى Q هناك شخص يقول: أنا عقيدتي سلفية، وهو يدعو إلى طائفة فيها بعض الشبهات والإهمال للسنة، فما رأيكم في هذا الشخص؟ A في الواقع أنني أستغربته جداً؛ لأنني لم أتصور وجوده في واقع حياتنا اليوم، أن تتصور رجلاً سلفياً عقيدةً ومذهباً، ثم هو يدعو إلى مذهب آخر، كيف تتصور ذلك؟ السائل: هذا الرجل يرى أن الجماعة التي يدعو إليها تنتمي إلى الإسلام ظاهراً، ولكن فيها شيء من إهمال السنة، وفيها بعض التشويش، وهو إنما يدعو مع هذه الجماعة؛ لأن لها مكانة في الدولة، فيستطيع من خلال انضمامه إلى هذه الجماعة أن يدعو إلى الله بقوة دون أي خوف، وعقيدته كما هي سلفية، وإنما ينتمي ظاهراً إلى هذه الدعوة. الشيخ: الآن ظهرت المسألة، بينما من قبل كان فيها شيء من الغموض، الآن نورد سؤالاً توضيحياً: هل هذا السلفي حينما يدعو إلى تلك الجماعة في تلك الجماعة ما يخالف السلفية في اعتقادهم؟ السائل: الجماعة فيها بعض الشبهات. الشيخ: أنا لا أتكلم في الشبهات، أنا قلت: في تلك الجماعة التي يدعو هذا السلفي إليها، أيعتقد أن في تلك الدعوة ما يخالف دعوته؟ أي: الدعوة السلفية. السائل: نعم. الشيخ: إن كان الأمر كذلك فهذا ليس سلفياً؛ لأن السلفية مثل الإيمان قابلة للزيادة والنقصان؛ لأنه كما شرحنا آنفاً أن السلفية فهم الكتاب والسنة فهماً صحيحاً على منهج السلف الصالح، لكن لا نفهم هل هو شيء محدود لا يقبل الزيادة والنقصان؟ لا. ثم بعد أن يفهم المسلم الدعوة الصحيحة للدعوة السلفية فهماً صحيحاً بقدر الإمكان، هل يطبقه كل سلفي مائة في المائة أم بنسبة متفاوتة؟ بنسبة متفاوتة، فإذا كان هناك رجل سلفي ثم هو يدعو إلى جماعة أخرى، في أفكارها وفي دعوتها ما يخالف الدعوة السلفية، فهو كالذي يجمع بين نقيضين في أمرٍ واحد، لكن هذا ينكر عليه؛ لأني أعتقد أن هذا السلفي لا يعلم أن في تلك الجماعة ما يخالف الدعوة السلفية، فإذا علم وبين له، ففي اعتقادي أنه بعد ذلك لا يستطيع أن يتبنى تلك الدعوة إطلاقاً، كل ما يمكن أن يفعله أن يخالفهم، وأن يعاشرهم ويبث الدعوة السلفية بينهم، لا أن يتبنى هو دعوتهم، ويلتزمها كما يلتزم الدعوة السلفية. خلاصة القول: لا يمكن الجمع بين الدعوة السلفية وغيرها من الدعوات بالكلية؛ لأن في تلك الدعوات أشياء تخالف الدعوة السلفية قطعاً.

نوع الاختلاف بين الصحابة

نوع الاختلاف بين الصحابة Q قول الصحابة لابد ألا يكون مخالفاً لقول الله وقول رسوله، فإذا كان كذلك فإن اختلاف الصحابة إنما هو اختلاف تنوع وليس تضاد. A كيف اختلاف تنوع؟ أضرب لك مثلاً: بعضهم يقول: إن مس المرأة ينقض الوضوء، وبعضهم يقول: لا ينقض الوضوء، هل هذا اختلاف تنوع؟ ونحن نعرف أن هناك قولاً بأن قول الصحابي حجة، لكن هذا القول على إطلاقه لا يأخذ به أحد من أهل العلم إطلاقاً، كلما قال الصحابي قولاً كان حجةً، هذا لا يقوله إنسان على وجه الأرض إطلاقاً، إنما قول الصحابي أحياناً يكون حجة، وأنا أضرب لك مثلاً: إذا قال الصحابي قولاً ليس من موارد الاجتهاد، أو كما يقول بعض الفقهاء: لا يقال بالرأي، وإنما هو توقيفي، هذا القول يؤخذ به لا لأن الصحابي قاله؛ وإنما لأنه يحمل في طواياه أنه لم يكن من اجتهاد من عنده، وإنما تلقاه من النبي عليه الصلاة والسلام، أو يتحدث بأمر غيبي مما كان أو مما سيكون، فإذا كان مما سيكون يؤخذ بقوله؛ لأنه أمر غيبي لا يمكن أن يتحدث به الإنسان برأيه واجتهاده، فيكون قد تلقاه من الرسول عليه السلام، هذا بما يتعلق بالمستقبل من الزمان، وإذا كان هذا الأمر الغيبي يتعلق بما مضى من الزمان فلا يؤخذ على إطلاقه، وإنما ينظر إذا كان من المحتمل أن يكون من الإسرائيليات فلا يقال به. السائل: وإذا كان قول الصحابي مخالفاً لقول الله ورسوله. الشيخ: أنا سأذكر لك تفاصيل أقوال العلماء في قول الصحابي هل هو حجة أم ليس بحجة؟ فأنا أتيتك بأمثلة، وآخر مثال نريد أن نذكره ما ثبت عن ابن عباس من قوله: [إن القرآن نزل جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا] هذا قول ابن عباس، ما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن العلماء يعتبرونه في حكم حديث مرفوع للرسول عليه السلام، لماذا؟ لأنه أولاً: يتحدث في أمر غيبي. وثانياً: لأنه لا يمكن أن يكون من الإسرائيليات، فإنه يتحدث عما يتعلق بالقرآن ونزوله، وأنه نزل إلى مكان اسمه بيت العزة، وهذا البيت هو في السماء الدنيا وليس في الثانية أو ما فوقها، فقالوا: هذا في حكم المرفوع. أما الصحابي يقول قولاً برأيه وباجتهاده، فهذا ليس موضع اتفاق أنه ينبغي أن نأخذ به، فمنهم من يأخذ ومنهم من لا يأخذ، وحينذاك نرجع إلى أصل الآية السابقة: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، فليس عندنا دليل في السنة فضلاً عن القرآن أن الصحابي يرى رأياً فيجب علينا أن نتبعه، هذا غير موجود، ولا على ذلك إجماع -أيضاً- من المسلمين حتى يقال: نتبعهم ولا نخالف سبيلهم، هذا ما عندي بالنسبة للسؤال، وجزاكم الله خيراً.

قول ابن عباس: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الله

قول ابن عباس: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الله Q قلتم بأن الأشياء التوقيفية يؤخذ قول الصحابي فيها، قال ابن عباس: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الله، فما تقولون؟ A هذا الحديث عن ابن عباس فيه عدة روايات، ولذلك حكم علماء الحديث عليه بالاضطراب، في الرواية الأولى قال: رأى ربه، والثانية: رآه بقلبه، والثالثة: رآه بعينه، والرابعة: رآه فهذا الاضطراب هو الذي يمنع أن نحتج به وندخله في صلب أنه لا يقال بمجرد الرأي، أما المسألة المعروفة في الخلاف بين ابن عباس من جهة وبين السيدة عائشة من جهة أخرى، فقد صح عنها في حديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مسروق أنه جاء إلى السيدة عائشة فقال لها: (يا أم المؤمنين! هل رأى محمدٌ ربه؟ قالت: لقد قف شعري لما قلته، قال: يا أم المؤمنين! أليس يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] ؟ قالت: أنا أعلم الناس بذلك، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت جبريل في صورته التي خلق فيها مرتين وله ستمائة جناح، ثم قالت -وهذا الشاهد-: ثلاث من حدثكموهن فقد أعظم على الله الفرية: من حدثكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله فرية، ثم تلت قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} [الشورى:51] ومن حدثكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، ثم تلت قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ومن حدثكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً أمر بتبليغه فقد أعظم على الله فرية، ثم تلت قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ) فإذاً: قول ابن عباس لا ينطبق في الحالة السابقة عليه من ناحيتين: أولاً: أن المسألة سياسية بينه وبين السيدة عائشة، وهي كما قلنا من أعرف الناس فيما يتعلق بشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنها زوجته. ثانياً: أن ابن عباس اضطربت الرواية عنه، ففي بعضها كما سمعتم أنه رآه بقلبه، وهذا ليس موضع اختلاف.

معنى بيع العينة وحكمه

معنى بيع العينة وحكمه Q ما معنى بيع العينة وما حكمه؟ A بيع العينة مثله: كأن تريد أن تشتري براداً، والحقيقة أنك لا تريد أن تشتري براداً، إنما تريد قروشاً، فتأتي إلى التاجر فتشتري براداً -مثلاً- بمائة جنيه، وقبل أن يسمي لك الثمن -تأتي معاملة نعتقدها أيضاً غير مشروعة- يقول لك: تريد أن تشتري نقداً أم تقسيطاً؟ وأنت كما قلنا في صورة بيع العينة لا تريد أن تشتري أصلاً، فتقول له: أنا أريد أن أشتري بالتقسيط، فهذا البراد لو قلت له: أريده نقداً ربما قال لك: بثمانين أو بتسعين وتقسيطاً يقول لك: مائة، فتقول: سجل عليَّ مائة، انتهى كل شيء وما انتهى أي شيء. لماذا؟ ستعود أنت وقد اشتريت البراد بائعاً ويعود التاجر البائع لك شارياً، فتقول له: اشتر أنت مني هذا البراد نقداً، هو كان يبيعه لك بالتقسيط -مثلاً- بثمانين، فالآن يريد أن يشتريه منك بخمسة وسبعين أو دون ذلك، بحسب ما يناسبه ويناسب جشعه وطمعه، فأنت تأخذ الخمسة والسبعين ديناراً وتنطلق، وقد سجل عليك بذلك مائة دينار، هذه هي صورة بيع العينة. والعينة مشتقة من عين الشيء وذاته، أي: هذا البراد عينه وذاته بيع واشتري بمجلس واحد، ودون أن يتزحزح من مكانه، وبثمنين مختلفين، ثمن باهظ وهو ثمن البيع الأول، وثمن ناقص وهو ثمن البيع الثاني، كل ذلك لف ودوران واحتيال، كاحتيال اليهود على استحلال ما حرم الله من الربا، فبدل أن يأتي شاري البراد عن طريقة بيع العينة إلى التاجر وهو لا يريد أن يشتري، يقول: يا أخي! أنا بحاجة إلى خمسة وسبعين ديناراً، أعطني اليوم، وأعطيك بعد كذا شهر مائة دينار، هذا ربا مكشوف اليهود ما فعلوها، يدفع بدل خمسة وسبعين مائة! هذا ربا مكشوف، لذلك زين لهم الشيطان سوء أعمالهم وقال لهم: هذا ربا مكشوف، لكن ابحث عن الحكم الشرعي وتوصل إلى مأربك الذي هو أخذ الدين بربا بواسطة بيع العينة، تماماً كما صح عن الرسول عليه السلام أنه قال: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم أكل شي حرم ثمنه) ما هو معنى الحديث؟ حرم الله على اليهود الشحوم، كما قال مشيراً إلى ذلك: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] ومنها: شحوم الدابة الذبيحة، فكان محرماً عليهم أن ينتفعوا بالشحم، يرمونه أرضاً كما يرمون القاذورات ونحوها مما لا يستفاد منه، فصبر اليهود على ذلك مدة، ثم وسوس لهم الشيطان فقال لهم: كيف تضيعون هذه الشحوم هكذا أرضاً؟ خذوها وضعوها في الأواني الضخمة -الحلل- وأوقدوا النار من تحتها حتى تذوب هذه الشحوم وتعطي شكلاً جديداً، فتستطيعون أن تبيعوها وتنتفعوا بأثمانها، وكذلك فعلوا، فاستحقوا بهذا السبب كغيره من الأسباب لعنة الله عز وجل عليهم ما الفرق بين الشحم قبل أن يذوب وبين الشحم بعد ما يذوب؟ هو شحم من قبل وهو شحم من بعد، هذا لا يشك فيه عاقل إطلاقاً، لكن هكذا الشيطان زين لهم هذا التغيير لاستحلال ما حرم الله عز وجل ما الفرق بين أن يعطي التاجر الرجل المحتاج للمال خمسة وسبعين ليوفيها بعد ذلك مائة، وبين إدخال الوسيط بينهما والنتيجة واحدة لا تختلف؟ أخذ خمسة وسبعين وسيوفيها مائة، هل هذا حلال؟ حاشا لله! ولذلك جاء في حديث في سنده عندي شيء من الضعف، وقد جود إسناده الحافظ ابن كثير رحمه الله أن الرسول عليه السلام قال: (لا ترتكبوا الحيل كما فعلت يهود) ، وقد وقع المسلمون في مثل هذا الاحتيال في كثير من الأمور، هناك أناس عندنا كانوا تجاراً، وأعرف أحدهم وهو تاجر في السوق، يأتي الفقير فيحمله كيس سكر وفيه عشرات الجنيهات الذهبية، يقول: خذ هذا الكيس زكاة مالي، فيهتم الرجل؛ لأنه لا يستطيع أن يحمل الكيس، يحاول أن يبحث عن حمال، فيقول له: أنا أشتري منك الكيس بدلاً من أن تحمله إلى البيت، فيدفع له ثمن الكيس وفيه ما يساوي مائة كيس، هذا بظنه أنه أدى زكاة ماله وطهر نفسه، وهو بالعكس خبثها، ولو أبقى هذه الجنيهات في صندوقه كان أقل شراً له، لا أقول خيراً له من هذه الحيلة الشيطانية. فبيع العينة: هو بيع الشيء في مجلس واحد مرتين بثمنين متباينين، كوسيط لاستحلال الربا المكشوف.

موقف أهل السنة من المذاهب ومدى اعتبارها من الفرق

موقف أهل السنة من المذاهب ومدى اعتبارها من الفرق Q ما موقفنا من المذاهب؟ وهل نعتبرها من الفرق أم لا؟ A نحن نعتبر كل طائفة وكل جماعة تصر على مخالفة الكتاب والسنة بالمفهوم السلفي، وأقول: تصر على ذلك بالتعبير الشامي (عيني عينك) أي: عناداً وإصراراً، فهي تعتبر طائفة من الطوائف وفرقة من الفرق الضالة، لكن الأئمة الأربعة وأتباعهم الأولين، لا يمكن جعلهم في شيء من هذه الطوائف إطلاقاً؛ لأن منهجهم كان معتمداً على الكتاب والسنة واتباع ما كان عليه السلف الصالح، ومع الأسف أقول: إن أكثر الأئمة الأربعة اشتهاراً بأنه يؤيد بعض الشيعة على السنة هو الإمام أبو حنيفة، وأنا أعترف بهذا، ولكن لم يكن ذلك في اعتقادي عناداً منه ومعاندةً منه للسنة؛ وإنما لأن السنة كانت إحاطته بها في دائرة ضيقة جداً، بسبب انشغاله وانكبابه على تفريع واستنباط الأحكام من نصوص الكتاب أو الأحاديث التي وصلت إليه، لذلك تكثر عنه الآراء التي تخالف السنة، أما من حيث موقفه من هذا القيد وهو التمسك بما كان عليه السلف والصحابة بصفة خاصة فهو مشهور عنه، فإ، هـ يقول: إذا جاء القول عن الصحابة. لكن إذا اختلفوا فنحن بشر وهم بشر، فنأخذ من حيث أخذوا، فهو إذاً أقرب الأئمة الذين يمكن أن يقال فيهم، مع ذلك لا يمكن أن يقال فيه شيء إطلاقاً؛ لأن منهجه لا يخالف منهج السلف الصالح، لكن من أتباعه المتأخرين من تعصبوا له، كما أن الأئمة الآخرين -أيضاً- تعصبوا لهم أتباعهم. الخلاصة: يمكن نحن أن نضم بكل صراحة المتعصبين من المذهبيين الذين يؤثرون التقليد للمذهب، وليته كان مذهب الإمام الأول؛ لأنهم يتبعون قول المتأخرين منهم، وكثير منهم يصرح حينما نعارضهم بأقوال الأئمة أنفسهم، يقولون: نحن لا نأخذ بأقوال الأئمة المتقدمين، نحن نأخذ بأقوال المشايخ المتأخرين؛ لأن هؤلاء درسوا أفكار الأمة وفيها راجح ومرجوح، ولذلك هم لا يتبعون الأئمة أنفسهم وإنما المتأخرين منهم، فهؤلاء المتعصبون لأقوال أئمتهم المتأخرين مخالفون في ذلك نصوص الكتاب والسنة، ويمكن أن نعتبرهم من الفرق، أما نفس الأئمة فحاشاهم من ذلك حاشاهم! لعل في هذا القدر كفاية، والحمد لله رب العالمين.

صلاح الظاهر والباطن [1]

صلاح الظاهر والباطن [1] إن من أهم مساوئ تعدد الجماعات والأحزاب: أنها لا تنهض إلا على مبدأ المساواة بين جميع الأحزاب بمختلف نحلها ومللها، وأن بعضها قد سلكت بدعوتها مسلك التجرد عن بعض متطلبات الشريعة واستبدلتها ببدع ما أنزل الله بها من سلطان. وإذا لم يكن اجتماعنا تحت راية الكتاب والسنة فلن يكون على تحزب يساوي بين الحق والباطل أو بدعة تحل محل دين الله!

علاقة صلاح الظاهر بصلاح الباطن

علاقة صلاح الظاهر بصلاح الباطن كنا ونحن في دمشق حينما نحضر بعض المساجد، وبخاصة المسجد الكبير -مسجد بني أمية- الذي تقام فيه دروس من أنواع مختلفة، ومنها درس في الحديث، وكان يلقيه في شباب حياتي الشيخ/ بدر الدين الحسيني، الذي هو والد الشيخ/ تاج، الذي كان في بعض مراحل الحكومات السورية رئيس جمهوريتها، الشيخ/ تاج هو ابن الشيخ بدر الدين، والشيخ/ بدر الدين الحسيني كان يلقي درسه في الحديث في وسط المسجد، ويعرف هناك في دمشق تحت قبة النسر، هذه القبة أكبر قبة في وسط المسجد في أعلى المسجد، فكانت تقام هناك الحلقة والشيخ يحدث بالحديث، وكان يجري في تحديثه على الطريقة المتبعة عند علماء الحديث قديماً، وهو أن يحدث بالحديث بالسند، إما أن يكون الحديث مما تلقاه عن بعض مشايخه بالسند، وحين ذاك يكون السند أطول من المتن بكثير جداً، ثم لا يستفيد أحد من الحاضرين منه شيئاً مطلقاً، وأحياناً ينقل الحديث مع السند من بعض كتب الأمهات الست وغيرها. والشاهد: أن الحلقة واسعة جداً، يمكن قطرها أكثر من ستة أمتار في ستة أمتار، فهل يلام هؤلاء حينما يتفرقون هذا التفرق؟ ومدرس الحديث لا يروي لهم مثل هذا الحديث وهو في صحيح مسلم: (ما لي أراكم عزين) والحديث الذي في مسند الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه قال: (كنا إذا سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلاً تفرقنا في الوديان والشعاب، فقال لنا عليه الصلاة والسلام ذات يوم: إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان) ، أين يتفرقون؟ هل في المسجد؟ لا. بل في الصحراء في البرية! كل طائفة أو جماعة ينتحون ناحية يتظللون بأشجارها وبسدرها ونحو ذلك، ومع ذلك أنكر ذلك عليهم وقال: (إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان) ، قال أبو ثعلبة: (فكنا بعد ذلك إذا نزلنا منزلاً اجتمعنا حتى لو جلسنا على بساط لوسعنا) أين هذا؟ في الصحراء، فما بالكم في مجالس العلم. ولذلك فخلاف السنة تكبير الحلقة، وإنما تصغيرها ما أمكن ذلك، ولذلك فجلوسهم هكذا صفين فقط ويبقى هناك فراغ يمكن إملاؤه هذا خلاف السنة. فنحن نذكر في هذه المناسبة دائماً وأبداً أن مثل هذا التوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الاهتمام بتجميع المسلمين في أبدانهم وفي أشخاصهم، لم يكن ذلك من باب الاهتمام بالظاهر فقط دون إصلاح الباطن، ذلك لأنه من المقرر شرعاً أن إصلاح الظاهر يساعد على إصلاح الباطن، وهذا صريح في قوله عليه الصلاة والسلام المعروف: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) . ونحن نقول بمثل هذه المناسبة: كما أن صلاح الجسم من الناحية المادية والصحة البدنية يتعلق بصلاح القلب وصحته، فإذا كان القلب في جسد صاحبه سليماً، فلا يمكن أن يكون الجسد إلا سليماً، والعكس بالعكس؛ إذا فسد القلب مرض الجسد، هكذا يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه، مذكراً لنا بوجوب الاهتمام في إصلاح الظاهر؛ لأن هذا الإصلاح يكون -أولاً- دليلاً على صلاح الباطن، ثم يكون هناك تعاون بين الظاهر والباطن، وكما أقول دائماً وأبداً: هذا الحديث يعطينا عن خاطرة أو فكرة سبقت في أذهان بعض الفلاسفة قديماً، ولم يستطيعوا حتى اليوم أن يحققوها فعلاً، وهي ما يسمونها بالحركة الدائمة، مثلاً: مجرد أن تضغط زر التيار يستمر مرور التيار إلى ما شاء الله بدون أن ينقطع إلا إذا أحببت، أو سيارة -مثلاً- إذا حركتها تستمر بدون أي قوة! حركة دائمة منها من ذاتها، هذا خيال! لكنه حقيقة فيما يتعلق بصلاح الباطن والظاهر، فصلاح الباطن يؤثر في صلاح الظاهر، وصلاح الظاهر يؤثر في صلاح الباطن، والدليل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتماع في حلقات الذكر -كما قلنا آنفاً- في قوله عليه السلام: (ما لي أراكم عزين) وفي قوله الآخر: (إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان) وأكثر من ذلك قوله عليه السلام حينما كانت تقام الصلاة فلا يكبر حتى يأمر بتسوية الصفوف، ويقول لهم: (لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم) إذاًَ: الاختلاف في الصفوف يؤدي إلى الاختلاف في القلوب، والاستواء في الصفوف يؤدي إلى استواء القلوب وتحببها وتجمعها ونحو ذلك، لهذا كان عليه الصلاة والسلام يهتم بإصلاح الظاهر وإصلاح البدن، وقديماً قالوا: صلاح الأبدان كصلاح الأديان، فكل منهما مرتبط مع الآخر. أنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر المسلم الذي أصابه مرض ما أن يتداوى، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله، فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواء) زاد في حديث آخر: (علمه من علمه وجهله من جهله) فإذاًَ: يجب العناية بالأمرين معاً، وليس كما يزعم بعض الجهلة: يا أخي! العبرة بما في القلوب، إذا قيل له: لماذا لا تصلي؟ لماذا لا تقوم بواجبك الشرعي؟ يقول لك: العبرة بما في القلوب، أنا والحمد لله لا أضر أحداً، ولا أغش أحداً، ولا، ولا إلخ، وهذا كذاب، الشيطان دلس عليه، هو يقول: لا يغش أحداً، وأول من غش هو نفسه؛ لأنه عصى ربه، فكيف يمكن أن يكون سليم القلب وهو لا يطيع الله عز وجل على الأقل فيما فرضه الله عليه. هذه كلمة بين يدي التضام في حلقات العلم، لابد منها أن تكون على بال منكم، حتى تأتمروا أولاً بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى تتذكروا هذه الحقيقة: أن صلاح الباطن لا يغني عن صلاح الظاهر، صلاح الأبدان لا يغني عن صلاح الأديان، وصلاح الأديان -إذا صح الجمع- لا يغني عن صلاح الأبدان.

حكم الجلوس وسط الحلقة

حكم الجلوس وسط الحلقة Q هل ورد شيء في مسألة الجلوس في وسط الجلسة، الرجل يجلس وسط الجلسة؟ A نعم، هناك حديث يقول: (ملعون من جلس وسط الجلسة) ولكن والحمد لله هو حديث لا يصح هذا أولاً. ثانياً: لو كان يصح لكان المقصود منه الجلوس وسط الجلسة لقصد لفت أنظار الناس، كأن يقول بلسان الحال: أنا هنا، أما والحديث لم يصح فالحمد لله، وهو من حصة كتابي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة.

موقف الشيخ من الجماعات والأحزاب ومنها جماعة التبليغ

موقف الشيخ من الجماعات والأحزاب ومنها جماعة التبليغ هذه أسئلة ذكرها الإخوة وجمعوها متعلقة ببعض الجماعات وشيء من أحوالهم. السؤال الأول: ما هو رأي شيخنا حفظه الله تعالى في كتاب حياة الصحابة؟ وبماذا تنصحون قراء هذا الكتاب والمعتنين به والمشتغلين بتداوله؟

مخالفة بعض الجماعات لمبدأ الاجتماع وعدم الفرقة

مخالفة بعض الجماعات لمبدأ الاجتماع وعدم الفرقة A لا إله إلا الله! هذا السؤال يلتقي مع سهرة قريبة جداً قضيناها في مأدبة، لابد أنكم تعرفونها، واستمرت السهرة إلى بعد نصف الليل، وكان فيها من كل الجماعات أو الأحزاب، فمن حزب التحرير، ومن حزب -وإن كانوا هم لا يريدون أن يقولوا: حزب، فلنقل ما يحبون- ومن جماعة الإخوان المسلمين، ومن جماعة التبليغ، كل أولئك كانوا حاضرين في الجلسة، واضطررنا إلى التحدث عن هذه الجماعات وعن بعض هذه الأحزاب، وقلنا كلمة الحق لا نداهن فيها أحداً إن شاء الله: إن هذه الأحزاب أولاً: تخالف مبدءاً إسلامياً مصرحاً به تصريحاً ما بعده تصريح في كتاب الله، ووضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث واحد، وحسبنا الآن أن نذكر بقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] .

مخالفة بعض الجماعات للسنة النبوية

مخالفة بعض الجماعات للسنة النبوية ومضينا في هذا الموضوع وقلنا: إن هذه الجماعات الموجودة الآن بعض أفرادها ينطلقون في تكتلهم، وفي تحزبهم، ليس على علم مطلقاً، على أننا لا نحبذ العلم المطلق، وإنما نحض على العلم المقيد بكتاب الله وبسنة رسول الله، وعلى منهج السلف الصالح، كما جاء في كثير من الآيات والأحاديث، ولا أريد أن أعيد الجلسة التي كانت هناك، فلا بد أن أخانا أبا أحمد عنده شريط في ذلك. ولكن قدمت يومئذ مثالاً من واقع حياة هذه الجماعة جماعة التبليغ، وكان بجانبي أحدهم من الذين يدل سمتهم وهيئتهم على التمسك بالسنة، فهو تقدم بعد صلاة المغرب بالكلمة التقليدية التي تسمعونها دائماً وأبداً من المقدم لمن سيلقي الدرس بعد الصلاة، يقول: إنما فلاحنا ونجاحنا باتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو ما يشبه هذا الكلام، فأنا قلت: ما الذي جعل هؤلاء الإخوان الطيبين التبليغيين يحرصون على هذه الكلمة وهي من إنشاء أحدهم، ويعرضون عن السنة؟ وهنا الشاهد، قلت لهم: فتحنا لكم هذه الجلسة بخطبة الحاجة (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وكان عليه الصلاة والسلام يزيد عليها في كثير من الأحيان: أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) لماذا أعرض جماعة التبليغ عن افتتاح جلساتهم العلمية بمثل هذه السنة المحمدية؟ ذلك لأنهم لا يدرسون السنة، هم جماعة طيبون يرغبون في التقرب إلى الله، ولذلك يخرجون ذلك الخروج المعهود منهم غير المعهود من -سلفنا الصالح- يخرجون، في ظنهم أنهم يحسنون صنعاً، فقلت للشيخ الذي كان بجانبي: لماذا لا تحيون هذه السنة (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عملها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء) ، أنا لا أخص جماعة التبليغ بمخالفتهم هذه للسنة، بل هي مخالفة عامة، فكل الأحزاب وكل الجماعات تخالف هذه السنة، لماذا؟ سبق A لأنهم لا يدندنون حول دراسة السنة أولاً؛ لأن هذه الدراسة تعلم الناس وتوقظهم من سباتهم ونومهم العميق، ولذلك فكيف يحيون السنة وهم يجهلونها! ومن فضائل هذا الخطبة كما شرحت هناك، وأوجز هنا ما استطعت إلى ذلك سبيلاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم هذه الخطبة التي تعرف عند العلماء جميعاً بخطبة الحاجة، كان يقدمها بين يدي كل كلمة، محاضرة، أو درس، أو موعظة، أو ما شابه ذلك، وكان يذكر فيها: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ما هو السر في إعراض الجماعات الإسلامية كلها عن هذه الخطبة؟

أسباب مخالفتهم للسنة النبوية

أسباب مخالفتهم للسنة النبوية أنا أقول: الأمر يعود لشيئين: الشيء الأول: أنه يصدق عليهم قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] ، لكن لا أستطيع أن أقول: إنه ما طرق سمع أحدهم مطلقاً، ولا قرأ هذا الحديث في كتاب ما، وهو في صحيح مسلم أصح كتاب بعد كتاب الله، وصحيح البخاري موجود هذا الحديث فيه، فلا أتصور أن أحداً مطلقاً من هؤلاء لا علم عنده بهذا الحديث، إذاً: ما الذي يصرفهم أو يصدهم عن التمسك بهذه السنة؟ أقول: لأنها تخالف منهجهم كيف؟ هذا الحديث يؤسس قاعدة لا يتبناها إلا الذين ينتسبون إلى السلف الصالح من أمثالنا، ما هي هذه القاعدة؟ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلا تجد الإخوان المسلمين، ولا حزب التحرير، ولا جماعة التبليغ، وإن كان هناك جماعات أخرى في بلاد أخرى، لا تجد منهم أحداً يدندن حول هذه القاعدة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولو أنهم اعتادوا إحياء هذه السنة لاستيقظ جماهيرهم من سباتهم، ولقالوا لهم: كيف تواضبون على هذه الخطبة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ونحن نسمعكم دائماً تقولون: هناك بدعة حسنة، والرسول يرسخ في أذهان أصحابه هذه القاعدة العظيمة الجليلة، وأمرها كما يقول ابن تيمية رحمه في كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، رداً على بعض الناس الذين يقولون: إن هذا العموم غير مقصود: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، يزعم بعض المتأخرين أن هذا العموم المصرح به في هذا الحديث هو من العام المخصوص، ثم يأتون ببعض الأشياء من الروايات منها ما يصح ومنها ما لا يصح، يزعمون أن هذه روايات مخصصة لهذا العموم، ومعنى كلامهم: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) لا. أي: ليس كل بدعة ضلالة. يقول ابن تيمية، وهذا الشاهد، وأنا أقرب ذلك بمثل: لا يمكن أن يكون هذا النص من رسول الله من العام المخصوص وهو يكرره دائماً وأبداً على مسامع أصحابه في كل مناسبة يريد أن يتكلم فيها بين أصحابه يقول: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) يستحيل أن يكون هذا من العام المخصوص؛ لأن المفروض على النبي صلى الله عليه وسلم الذي خوطب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} [المائدة:67] ، ربك يعصمك من الناس الذين قد يقصدون القضاء عليك فيحولون -لو وصلوا إلى هدفهم- بينك وبين تبليغ الرسالة وتوضيحها وبيانها {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} [المائدة:67] . ولابد لي من التذكير بأن تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] . الذي أمر به يكون على وجهين: تبليغ اللفظ، وتبليغ المعنى. تبليغ اللفظ يعني: اللفظ القرآني كما أنزله الله على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، فهو مأمور بتبليغه، هذا هو النوع الأول. الأمر الثاني الذي أمر بتبليغه، معنى هذه الألفاظ لهذه الآيات الكريمات، وهذا هو المقصود من قوله تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، هذه الآية غير الآية السابقة، الآية السابقة تعني تبليغ اللفظ وتبليغ المعنى؛ أما هذه الآية الأخرى فإنما تعني: تبليغ المعنى بدليل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} [النحل:44] أي: القرآن، لماذا؟ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل:44] أي: بيانه عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يحتاج الآن إلى تفصيل كل الأقسام: قوله وفعله وتقريره. فإذاً: ابن تيمية رحمه الله يقول: استمرار الرسول عليه الصلاة والسلام في تكرار هذه القاعدة: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) على مسامع أصحابه، يستحيل أن يكون من العام المخصوص؛ لأن المفروض عليه ولو مرة واحدة أن يبين -بحكم ما ذكرنا من الآيات- أن هذا النص العام ليس على عمومه وشموله، ولم يفعل ذلك إطلاقاً، بل هو عليه الصلاة والسلام من تمام تبليغه لما أمره الله به كان يؤكد هذه القاعدة العامة فيقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، إلى آخر ما هنالك من أحاديث أخرى، ولسنا أيضاً في صددها. أما المثال: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) مثاله: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، لا يمكن أن نقول: ليس كل مسكر خمراً وليس كل خمر حراماً، هذا لا يقوله مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر هذه الكلية على مسامع أصحابه، تحذيراً لهم من أن يشربوا مسكراً، أي مسكر كان، سواء سمي خمراً، أو سمي نبيذاً، أو سمي وسكاً، أو (شمبانيا) أو أو إلخ، كل هذه الأسماء تدل على مسمىً واحد وهو الخمر في اللغة العربية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، كيف يمكن أن نقول: ليس كل مسكر خمراً؟ وبالتالي كيف يمكن أن نقول: ليس كل بدعة ضلالة، وهو يقول في كل منهما: (كل مسكر خمر) (كل بدعة ضلالة) ؟ هذا هو المثال تأكيداً لما سمعتم آنفاً مما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن هذه الكلية التي كان النبي يذكرها دائماً في خطبة الحاجة لا يمكن أن تكون مخصصة. الآن آتيكم بمثال عكسي، أي: لكلية خصصها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ حتى تعرفوا أن كلام الرسول عليه الصلاة والسلام جمع فأوعى سمعتم: (كل مسكر خمر) (كل بدعة ضلالة) اسمعوا الآن التقييد كيف يكون قال: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى) ، دخل استثناء هنا، كان يمكنه أن يقول: كل بدعة ضلالة إلا ما كان موافقاً للعبادة أو للحسنة، أو ما شابه ذلك مما تسمعونه من المؤولين إن لم نقل من المعطلين، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى) ، هل يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: كلكم يدخل الجنة ويسكت وهو في نفسه استثناء؟ لا يمكن هذا، فإذاً: كيف يتصور هؤلاء الذين يقولون: كل بدعة ضلالة، هذا ليس على عمومه، معنى ذلك أنهم ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في باله إطلاقاً، ولو كان ذلك في باله لكان من الواجب عليه ديانة أن يسارع ولو مرة واحدة إلى التصريح بالاستثناء، كما قال في هذه الكلية الأخيرة: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟) معقول أن شخصاً يأبى دخول الجنة؟! معقول وليس معقولاً، وتأملوا معي الحديث، فهو كما يقال في لغة العصر الحاضر: يضع النقاط على الحروف (قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) . فإذاً: كل كلية تأتي في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن الآيات القرآنية، ولم يأت ما يخصصها، فيجب إبقاؤها على إطلاقها، وبخاصة إذا كانت مثل كلية: (كل بدعة ضلالة) التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكررها على مسامع أصحابه في كل مناسبة. نعود لماذا لا يحافظ جمهور الدعاة الإسلاميين اليوم على هذه الخطبة المباركة التي سماها العلماء بخطبة الحاجة؟ أي: من أراد أن تقضى حاجته العلمية فليقدم بين يدي العلم خطبة الحاجة النبوية، لماذا يعرضون عنها؟ لأنها تخالف منهجهم، فليس من منهجهم ما نهجه الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الخطبة، خطبة الحاجة، وهي ذم عموم البدعة وذلك في الدين والعبادة. فلذلك قلنا في تلك الجلسة هناك -كما ذكرنا لكم آنفاً- في مأدبة: لا يكفي أن تتحمس كل جماعة وكل حزب لجماعتها، وتنطلق بدون علم وبدون وعي، فننصح هؤلاء الذين يخرجون، وأولئك الذين لا يخرجون ولكنهم يتكتلون، وأولئك الذين يشتغلون دهرهم بالسياسية، وكثير منهم لا يعرفون أن يحجوا وأن يصلوا وأن يصوموا على السنة، نأمرهم جميعاً بأمر الله ورسوله، أن يتعلموا: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] كلا! لا يستوون.

نقد كتاب حياة الصحابة

نقد كتاب حياة الصحابة فعلى هذا نقول: بالنسبة لهذا Q كتاب حياة الصحابة هو دليل لما نقول نحن، فالذي ألف هذا الكتاب ليس فرداً من أفراد جماعة التبليغ، بل إن لم يكن من رءوسهم فهو رأس الرءوس، ألف هذا الكتاب، والجماعة ينطلقون على هداه، ولكن هذا الكتاب جمع ما هب ودب، أي: أولاً: لم يخصص هذا الكتاب لأنْ يذكر فيه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ككلام غيره من الناس، ولو كانوا أولياء وصالحين. ثانياً: ذكر روايات كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم، فإذا كانت الأحاديث التي نسبها إلى الرسول فيها أشياء لا تصح نسبتها إلى الرسول عند أهل العلم بطريق معرفة الحديث، ومعرفة الأسانيد، وتراجم رجال الأسانيد ونحو ذلك، فمن باب أولى أن يذكر في هذا الكتاب روايات كثيرة وكثيرة جداً عن الصحابة من أقوالهم، ومن أفعالهم، ومن منهجهم، ومن سلوكهم، وكثيرٌ منها لا يصح. ويعجبني في هذه المناسبة قول لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا من نفيس كلامه ودقيق منهجه العلمي، حيث قال ما معناه: إن على كل باحث أن يتثبت فيما يرويه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما يتثبت فيما يرويه عن الله ورسوله. هذه كلمة جماهير العلماء قديماً وليس حديثاً فقط، قديماً وحديثاً قد أخلوا بها، فما تعود إلى كتاب إلا ما ندر جداً، مثل كتاب نيل الأوطار للشوكاني، هذا من الكتب التي نحن نحض طلاب العلم على الاعتناء بدراسته والاستفادة منه، مع ذلك تجده يحشد فيه أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم بمناسبة الكلام مع الآية أو الحديث، لكنه لا يسلك هذا السبيل وهو سبيل التثبت مما ينسب إلى الصحابة، كما يجب التثبت مما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلَّ من يفعل هذا! ومن هنا يصيب المجتمع الإسلامي شيء من الانحراف، لماذا؟ وهذه نقطة في الحقيقة مهمة جداً. نحن قلنا دائماً وأبداً: إن منهجنا كتاب الله وسنة رسول الله، وعلى ما كان عليه سلفنا الصالح، لا يكفي اليوم أبداً أن ندعو الناس إلى الكتاب والسنة فقط؛ لأنك لن تجد في كل هذه الجماعات المختلفة حديثاً وقديماً، لن تجد جماعة منهم ولو كانوا من المرجئة أو كانوا من المعتزلة يقولون: نحن لسنا على الكتاب والسنة، كلهم يقولون هكذا، إذاًَ: ما الفارق بين هذه الجماعات التي كلها تقول، وهي صادقة فيما تقول، لا نستطيع أن نتهمها فيما تقول، تقول: نحن على الكتاب والسنة، لكنها غير صادقة في تطبيقهما على ما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله تعالى عنهم. من هنا نقول: لابد من معرفة ما كان عليه السلف لنستعين به على فهم الكتاب والسنة، فإذا جاءتنا رواية عن بعض الصحابة وهي غير صحيحة، وأخذنا بها على أساس أنها بيان للكتاب والسنة، انحرفنا كما لو أخذنا بحديث ضعيف أو موضوع، لهذا ابن تيمية يقول: يجب التثبت فيما نرويه عن الصحابة كما نتثبت فيما نرويه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. هذا الكتاب كتاب حياة الصحابة خالف هذا النهج العلمي، فهو جمع ما هب ودب، وأنا أضرب لكم مثلاً مجملاً: هو ينقل مثلاً حديثاً عن كتاب مجمع الزوائد، يقول: رواه أحمد والطبراني، وقال في مجمع الزوائد: رجاله ثقات. الذين يتداولون هذا الكتاب عندما يقرءون: قال في مجمع الزوائد: رجاله ثقات، ما الذي يفهمون منه؟ كما يقولون عندنا في بعض الأعراف في سوريا: (خش حديث) ما دام رجاله ثقات صار حديثاً ثابتاً، لا. عند أهل العلم أي حديث يقول فيه أحد المحدثين: رجاله ثقات، فلا يعني هذا المحدث أنه حديث صحيح، بل أي حديث يقول فيه مؤلف الكتاب: رجاله رجال الصحيح فلا يعني أنه صحيح؛ وهذا أشد إيهاماً لصحة الحديث من قوله الأول، فإذا قال: رجاله ثقات، قد يتوهم بعض الناس أنه صحيح، لكن الإيهام بالتعبير الثاني: رجاله رجال الصحيح، أكثر، مع ذلك لا هذا ولا هذا في علم الحديث يعني صحة الحديث. إذاً: كان ينبغي على مؤلف هذا الكتاب أن يختار، لا نقول: أن يصحح كل هذه الروايات ويدقق القول فيها؛ لأنه في الحقيقة -أنا أعتقد- لو أراد رجل عالم متثبت أن يصحح وأن يضعف وأن يؤلف كتاباً مثل كتاب الصحابة لأخذ منه سنين عديدة؛ لأن الحديث الواحد التحقيق فيه قد يأخذ منه ساعات، بل قد يأخذ منه يوماً وأياماً، وهذا نحن نعرفه بالتجربة، فإذاً: لو أراد أن يؤلف مثل هذا الكتاب وعلى هذه الطريقة فسيأخذ منه عمره أو بعض عمره على الأقل، لكن كنا نرجو منه أن يختار ما صح عنده بأقرب طريق، بدون أن يخصص الكلام في كل حديث من هذه الأحاديث. إذاً: هذا هو الجواب عن كتاب حياة الصحابة، أنه لا ينبغي الاعتماد عليه إلا بشيء من التحفظ كأكثر الكتب. وأنا أضع الآن بين أيديكم قاعدة لكي لا تحرموا الاستفادة من مثل هذا الكتاب، فأقول: كلما رأيتم حديثاً معزواً -أولاً- لأحد الصحيحين في هذا الكتاب أو في غيره يقول: رواه البخاري ومسلم، رواه البخاري، رواه مسلم، فعضوا عليه بالنواجذ هذا أولاً. ثانياً: إذا رأيتموه نقل عن أحد المحدثين أنه قال: هذا حديث إسناده صحيح، أو قال: إسناده حسن، أيضاً تمسكوا به، وما سوى ذلك فعرجوا عنه ولا تعرجوا عليه. السائل: هل القاعدة على هذا الكتاب أو على العموم؟ الشيخ: كل الكتب.

وقفات مع جماعة التبليغ

وقفات مع جماعة التبليغ Q الذي سألناه في الأول كان متعلقاً بمسألة واحدة، فجزاكم الله خيراً، فقد أوعبتم القول في كثير من المسائل المتعلقة بـ جماعة التبليغ، ولكن هنا بعض مسائل أخرى قد تتعلق بجوانب أخرى نريد الإجابة عنها ولو بشكل مختصر بعد ذلك التفصيل بارك الله فيكم: يقول السائل: ما رأيكم بأصل من أصول جماعة التبليغ، وهو أنهم يقولون: لا نتكلم في أربعة أشياء أثناء الخروج، لما يترتب على الكلام في هذه الأشياء من المفاسد، وهي: السياسات، والفقهيات، والخلافيات، والجماعات؟

عدم اهتمامهم بالسياسات

عدم اهتمامهم بالسياسات A نسأل الله لنا ولهم الهداية! السياسات نحن نوافقهم على هذا الشيء الأول، ولكن ليس على الإطلاق، نحن نرى كما حكيت هذا أكثر من مرة، لقد امتحنا هناك في سوريا، واستنطقنا هناك من المخابرات، كما يفعلون -مع الأسف- في كل بلاد إسلامية: أنت تشكل تجمعاً وتكتلاً ونحو ذلك، وأنا أقول: أنا تكتلي هذا للإصلاح وليس للسياسة، وبعد مناقشة طويلة جداً ربما تجاوزت ساعة، ولما لم يجد المستنطق هذا البعثي مجالاً لأن يأخذ علي شيئاً من الناحية القانونية، قال: إذاً اذهب وابق على دروسك، ولكن لا تتكلم في السياسة، مع أني قلت له بتفصيل: نحن دعوتنا دعوة إصلاحية، الرجوع إلى الكتاب والسنة كما تسمعون دائماً وأبداً، وأنا ذكرت لك آنفاً شيئاً من التفصيل، لكن رجوعك الآن للقول: لكن لا تشتغل بالسياسة، يدفعني أن أبين لك شيئاً، نحن صحيح لا نشتغل بالسياسة؛ لأن الاشتغال بالسياسة ليس من الإسلام، لا. فالسياسة من الإسلام، وبعض علماء الإسلام ألفوا في السياسة الشرعية قديماً وحديثاً، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فالدولة الإسلامية لا تستغني عن السياسة، وما معنى السياسة؟ أي: سياسة الناس وتثبيت أمورهم على ما يوافق مصالحهم في الدنيا والأخرى، فنحن لا ننكر وجوب الاشتغال بالسياسة، لكننا رأينا -وهنا الشاهد- أن من السياسة ترك السياسة، رأينا في هذا الزمان أن من السياسة ترك السياسة، والغرض الآن أننا نوافق الجماعة على عدم الاشتغال بالسياسة وقتياً، لكن لا يمكن الاستغناء عنها، وإلا كيف يمكن إقامة الدولة المسلمة إلا بمثل هذه السياسة، ولكن الذين ينبغي أن يشتغلوا بالسياسة يجب أن يكونوا علماء، أن يكونوا علماء بالمعنى الصحيح بالكتاب والسنة وبفهم السلف الصالح إلخ، ولذلك نحن نوافقهم على هذا الشرط الأول، نوافقهم إجمالاً، ولا نوافقهم تفصيلاً، فنقول الآن: من السياسة ترك السياسة.

عدم اهتمامهم بالفقهيات

عدم اهتمامهم بالفقهيات أما الفقرة الثانية فلا نوافقهم عليها، وهي الفقهيات، كيف هذا؟ كيف يتصور في جماعة يسمون أنفسهم بـ جماعة التبليغ، ماذا يريدون أن يبلغوا الناس؟ إما أن يبلغوا العقيدة وهم مع الأسف لا يفعلون، ولا أدري هذا لماذا لا يذكرونه؛ ولعلهم يعنون بالفقهيات ما هو أعم وأشمل. إلى ماذا يدعون هم إذاً؟ أنا لا أريد أن أقول: إنهم يدعون إلى ما يمكن أن تدعو إليه كل طائفة متدينة على وجه الأرض، مهما كان نوع دينها، إلا اليهود، فأنتم تعلمون -مثلاً- أن جماعة التبشير من النصارى هم يدعون إلى الوصايا العشر: لا تسرق، لا تزن، لا تكذب إلخ، أيضاً هذه الأشياء يدعو إليها الإسلام، فإذا كان الجماعة لا يريدون أن يبحثوا في السياسة قلنا لهم: لا بأس مؤقتاً، لكن في الفقهيات يقول رسول الله: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) . أنا أعتقد جازماً أن هذه الفقرة سبب وضعها وتركها، هو نفس السبب الذي يحملهم على ترك خطبة الحاجة، ولعلكم لم تنسوا بعد ما هو السبب؟ هل لأنهم لا يؤمنون بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ؟ هذه القاعدة التي أسسها عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا لكم آنفاً، ولذلك فإنهم لا يعرجون على هذه السنة المتروكة ولا يحيونها، كذلك لماذا أعرضوا عن الفقهيات؟ لأنهم لا فقه عندهم؛ لأن الفقه كما قال ابن القيم رحمه الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشويه فهم لا يبحثون في الفقهيات بزعم أنه يثير الخلاف، وهذا زعم يتسترون خلفه، والحقيقة أنهم لا يحسنون الفقه، كل واحد كما يقولون عندنا في الشام: جماعة التبليغ مثل الإخوان المسلمين، مثل حزب التحرير، لا فرق بينهم في نقطة واحدة، وهي: جماعة الإخوان المسلمين يجمعون بين السلفي والصوفي بين الحنفي والشافعي، والمالكي والحنبلي، وفي بعض الظروف بين السني وبين الشيعي، هكذا السياسة تقتضي. حزب التحرير كذلك لا يهمهم، حتى لقد صرحوا أن من منهجهم أنهم لا يتبنون رأياً في العقيدة، هذا من حسناتهم، لكنها في نفسها سيئة، أما جماعة التبليغ فلم يصرحوا بهذا، لكن واقعهم أنهم لا يتبنون رأياً في العقيدة، كما أنهم من باب أولى لا يتبنون رأياً في الفقه، لماذا؟ لأن الفقه أُلف هناك من جماعة الأزهر الشريف كتاب اسمه: الفقه على المذاهب الأربعة، إذا أردت أن تضيع في غمرة الخلاف بين المذاهب الأربعة فاقرأ هذا الكتاب، حينئذ لا تخرج منه إلا وأنت مدوخ، لا تعرف إلى أي قول تذهب إليه وتتمسك به، كذلك دكاترة الجامعات اليوم يدرسون الفقه الذي يسمونه بالفقه المقارن على طريقة الفقه على المذاهب الأربعة، يقول لك: أبو حنيفة قال كذا وحجته كذا، والشافعي قال كذا، وحجته كذا إلخ، وبعد ذلك أين الحق الذي قال الله عز وجل فيه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} [يونس:32] ؟ ما المسئول عنها بأعلم من السائل! فإذاً: الذين لا يشتغلون بالفقهيات ليس السبب أنه يوقع الخلاف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد البشر قاطبة، وأرجو أن تفهموا هذا وتحفظوه، من أسمائه: الفارق أو المفرق، كالقرآن، فإن القرآن من أسمائه الفرقان، لماذا رسول الله مفرق؟ لأنه فرق بدعوته بين المؤمن والكافر، وكان من نتائج ذلك أن فرَّق بين الوالد وولده، هذا كافر مشرك وهذا مؤمن مسلم، إذاً لماذا نحن نخاف أن نفرق؟ نخاف أن نفرق بالباطل، ولا ينبغي أن نخاف أن نفرق بالحق؛ لأن ربنا يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} [يونس:32] لكن الحقيقة أنهم لا يعرفون الحق من الباطل، لا يعرفون الصواب من الخطأ، ولذلك تمثلوا بالمثل العامي: (الهريبي نصف الشجاعة) المقصود فهم عرفوا أنهم كما يقال أيضاً: (ليسوا حشو الكبدة) يأتون ويقولون مثلاً: قال أبو حنيفة: خروج الدم مهما قل فهو ناقض للوضوء، والإمام الشافعي يقول: مهما كثر فهو غير ناقض للوضوء، والإمام أحمد يقول، ومالك أيضاً معه من قبل: إن كان كثيراً نقض وإلا فلا ينقض، ماذا يريدون من هذه الدوشة؟ هذا الأمر يحتاج إلى اطلاع على أدلة المذاهب أولاًَ، ثم إجراء معادلة ومراجحة بين هذه الأدلة ثانياً، وهذا يتطلب -إضافة على وجوب معرفة أقوال العلماء- أن يعرف علم الحديث في مصطلحه، وعلم الجرح والتعديل في توثيقه وتجريحه، وهذا أكثر الدكاترة، ليس العامة من جماعة التبليغ وأمثالهم الذين يخرجون للدعوة وأمثالهم، هؤلاء لا يستطيعون، لكني كنت أستحسن منهم أن يقولوا كما يقولون، بالأمس القريب -كما ذكرنا لكم- كنا في مأدبة، وتكلمنا حول جماعات منها جماعة التبليغ فقال لي أحدهم ممن نحسن الظن به -لأنني حضضتهم على العلم- قال: لذلك مشايخنا يقولون لنا: اذهبوا إلى العلماء، فقلت لهم: نحن نريد أن تكونوا أنتم العلماء، أنتم الذين تهتمون بدعوة الأمة، ليس أنتم تذهبون إلى العلماء ثم تخرجون ولستم علماء.

عدم اهتمامهم بالدعوة إلى التوحيد

عدم اهتمامهم بالدعوة إلى التوحيد إذاً: تركهم الفقهيات لأنها تفرق، أنا أقولها صراحة وأرجو عدم المؤاخذة؛ لأن الحق أحق أن يقال: هذا عذر أقبح من ذنب، لماذا؟ لأنه أولاً: لا يعبر عن السبب الحقيقي، وثانياً: لابد من التفريق بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ، وبخاصة ما كان من ذلك متعلقاً بالعقيدة، وهم كما تسمعون -كما في الفقرة الثانية- يعدونها خلافيات هل هناك خلاف في التوحيد؟ كثير من الدكاترة يقولون: لا يوجد خلاف يا أخي، كل المسلمين يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله، هذا صحيح، ولكن القول شيء والفهم والإيمان شيء آخر، الكافر حينما تقوم قائمة الدولة المسلمة إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، خلص رأسه من خطفه عن بدنه، لكن هل نجا بذلك من الخلود في النار؟ A الشرط الأول: أن فهم المعنى الصحيح لهذه الكلمة أولاً، ثم آمن بهذا الفهم الصحيح ثانياً؛ نجا من الخلود في النار يوم القيامة. فهل المسلمون اليوم كل المسلمين الذين يبلغون ألف مليون أو يزيدون، هل الألف مليون يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله؟ يمكن يكون منهم الدروز، هل هؤلاء اتفقوا على فهم هذه الكلمة فهماً صحيحاً ينجيهم من الخلود في النار يوم القيامة؟ الجواب: مع الأسف الشديد لم يتفقوا، ولذلك هم لما قالوا هذه الكلمة يعنون ما يقولون؛ لأننا إذا دخلنا في موضوع: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] فرقنا الصفوف، ونحن جماعة جمع، ولسنا جماعة تفريق، هذا لسان حالهم ومقالهم. أما نحن معشر السلف فنقولها صراحة، ولكن قبل أن نقولها ندعم مذهبنا بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن مفرقون نفرق بين الحق والباطل، بين المحقين وبين المبطلين، ولا نساوي بين المحقين والمبطلين كما يفعل غيرنا من الآخرين. لما كنت في دمشق كان هناك رسالة ألفها أحد شيوخ الطريقة الشاذلية، وأصله مغربي، عنوان الرسالة: لا إله إلا الله، ليس هناك أجمل من هذا، وتدخل في الداخل: لا إله إلا الله، أي: لا رب إلا الله، هكذا فسر الآية الكريمة، ولو أن كافراً قال: لا إله إلا الله بهذا المعنى الذي شرحه هذا الشاذلي ما أفاده شيئاً لا في الدنيا ولا في الأخرى، لماذا؟ لأن المشركين كانوا يقولون: لا رب إلا الله، لكنهم إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون، إذاً: هم بعروبتهم الأصيلة كانوا يعرفون معنى كلمة التوحيد على الوجه الصحيح، ولكن معرفتهم هذه لم تغنهم شيئاً؛ لأنهم كفروا بهذا المعنى الصحيح، وعلى العكس من ذلك؛ فبعض المسلمين حينما يقولون: لا إله إلا الله، المشركون لا يقولون: لا إله إلا الله؛ لأنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله، نافقوا وهم يريدون أن يعلنوا، فهم يعلمون معنى (لا إله إلا الله) لذلك لا يقولون. المسلمون لا يعلمون معنى: (لا إله إلا الله) إلا القليل منهم، ولذلك هم يقولون كلهم: لا إله إلا الله، ولكن إذا أردت أن تبين لهم أن ما يفعلونه من الإتيان إلى الأولياء والصالحين، والذبح عندهم، والنذر لهم، والحلف بهم، والصلاة عند مقابرهم إلخ، فهذا كافر بلا إله إلا الله؛ لأن معنى (لا إله إلا الله) ليس المعنى الذي ذكرناه عن الشاذلي: لا رب إلا الله، وإنما معناه: لا معبود بحق في الوجود إلا الله تبارك وتعالى، وحينما يفهم المسلم كلمة الشهادة هذه الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله) فهماً صحيحاً؛ فيجب أن يطبقه تطبيقاً صحيحاً كما فهمه فهماً صحيحاً، ومن هنا يظهر الفرق بين الذين يؤمنون بلا إله إلا الله بالمفهوم الصحيح، وبين الذين يؤمنون بلا إله إلا الله بالمفهوم غير الصحيح، تختلف تصرفاتهم في هذه الحياة. لن تجد مؤمناً بهذه الكلمة الطيبة على المعنى الصحيح يذبح لغير الله، وينذر لغير الله، ويحلف بغير الله، ويصلي لغير الله عند قبور الأولياء والصالحين، لن تجد عند هؤلاء شيئاً من ذلك، بينما الآخرون الله أكبر!! يذهبون عند من يسمى بسيدي شعيب، وانظروا إلى النذور هناك! ومن نذر لغير الله فهو ملعون، كما قال عليه السلام: (من ذبح لغير الله فهو ملعون) كيف ملعون وهو يقول: لا إله إلا الله؟! لم يفهم لا إله إلا الله. ولذلك فالدعوة إلى الإسلام بصورة غير مفهومة للأنام، هذه ليست دعوة الإسلام، وإنما هي دعوة إلى جانب من جوانب الإسلام.

نصائح لجماعة التبليغ

نصائح لجماعة التبليغ وخير لهؤلاء الإخوان الطيبين من جماعة التبليغ شيئان اثنان: الأول: ننصحهم دائماً أن يتفرغوا لطلب العلم ولا يتفرغوا للدعوة؛ لأن للدعوة رجالاً، وقد قلت لهم هناك وفي كل مكان: هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بالعشرات والعشرينات من الدعاة إلى المشركين، أو أرسل أفراداً من نخبة الصحابة كـ علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، ودحية الكلبي، هؤلاء الدعاة هم الذي كان الرسول عليه السلام يرسلهم، ومرة واحدة وقعت أن أرسل سبعين من قراء الصحابة، وبهذه المناسبة يجب أن تعلموا أن معنى قراء الصحابة هم علماؤهم؛ لأننا لا نتصور يومئذ قارئاً كقرائنا اليوم يحسنون القراءة والتجويد والترتيل، لكن لا يفقهون ما يقرءون من القرآن شيئاً، الصحابة لم يكونوا هكذا. فذهبوا إلى قبيلة مشركة، وطلبوا منهم أن ينزلوا ليدعوا إلى الله عز وجل، فأعطوهم الأمان ثم غدروا بهم فقتلوهم، قتلوا سبعين من قراء أصحاب الرسول عليه السلام، ولما بلغه خبر قتلهم قال أنس بن مالك: (فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على ناس كما وجد على هؤلاء القراء! فكان يدعو عليهم ويقول في صلاة الفجر وغيرها: اللهم اللعن رعلاً وذكوان) وقبائل أخرى سماها عليه السلام؛ لأنهم قتلوا هؤلاء الصحابة من القراء الكبار. هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل علماء، فما بال هؤلاء المسئولين من جماعة التبليغ ورئيسهم هناك في باكستان أو في الهند يرسل دعاة لا علم عندهم؛ لأنه لو كان عندهم علم لعلموا أنه يجب أن يقتدوا بالرسول عليه السلام، وماذا فعل الرسول؟ إلى ماذا دعا الرسول حينما أنزل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1-3] ؟ دعا كما دعت الرسل من قبل إلى أن يعبدوا الله ويجتنبوا الطاغوت، فما لهؤلاء الناس لا يدعون إلى ما دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلى ما دعا إليه الصحابة الكرام بتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: (ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) فهؤلاء جميعاً من كل الجماعات التي ذكرناها آنفاً، من الإخوان المسلمين، من حزب التحرير، من جماعة التبليغ، لا يكون أول ما يدعون إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا له سبب سبق أن ذكرته وأجمله الآن:

أسباب إهمالهم الدعوة إلى التوحيد

أسباب إهمالهم الدعوة إلى التوحيد أولاً: لظنهم أن المسلمين ليسوا بحاجة؛ لأن كل مسلم يقول: لا إله إلا الله، إذاًَ ندعوهم إلى ماذا؟! هذا اسمه: تحصيل حاصل، لكن الواقع أن المقصود: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله أول ما تدعوهم؛ لأنهم كانوا عرباً، ولذلك -كما شرحت آنفاً- كانوا إذا قيل: (لا إله إلا الله) يستكبرون؛ لأنهم يفهمون أن معنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، أما الرب فما كانوا ينكرونه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] اليوم المسلمون لا يفهمون شهادة التوحيد كما فهمها العرب، لكن هم يؤمنون بلفظها ويكفرون بمعناها، فلماذا لا تشتغل هذه الجماعات بدعوة المسلمين للتوحيد الصحيح؟ السبب أنهم لا يعلمون واقع المسلمين اليوم أنهم منحرفون عن التوحيد الصحيح. السبب الثاني وهو أهم بالنسبة إليهم: هم أنفسهم لا يعلمون حقيقة معنى (لا إله إلا الله) ولذلك لا يدعون الناس إلى معنى: (لا إله إلا الله) كما أنهم لا يدعون الناس إلى أن يشهدوا أن محمداً رسول الله، لماذا؟ لنفس السببين: السبب الأول: أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله، وأنا أعتقد أنهم كذلك، لكن يخالفون هذه الشهادة؛ لأنه يلزم من التصديق بأن محمداً رسول الله ألا يتقدم المسلمون بين يدي رسول الله برأي أو باجتهاد أو بنظام إلخ، وهذا مع الأسف موجود وواقع، وأوضح مثال قضية الاستحسان، الاستحسان في بعض المذاهب قيل بأنه دليل شرعي، وفي المجتمع الإسلامي هو قائم على قدم؛ لأنهم يقولون: هذه بدعة حسنة، وماذا فيها يا أخي! إلخ. أيضاً: يجب على الدعاة الإسلاميين أن يبدءوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بياناً وشرحاً وليس لفظاً فقط. إذاً: لا يجوز أن نقول: ندع الفقهيات وندع الخلافيات؛ لأن معنى ذلك: أن ندع الدعوة إلى شهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أيضاً: لا ينقدون الجماعات الإسلامية أنا سلفي وأنت خلفي، لا تنتقدني لماذا؟ لأني على حق أم على باطل؟ قالوا: لا. هذا يفرق ما الفائدة إذاً من دعوتك إذا تركتني في ضلالي؟ وما الفائدة من دعوتي إذا تركتك في ضلالك؟ وهكذا يجب أن نقول كلمة الحق، ولهذا لم يقرءوا في كتاب حياة الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر بعدة وصايا ومنها: (ألا تأخذه في الله لومة لائم) هذه فقرة ووصية من وصايا الرسول عليه السلام لـ أبي ذر، فيجب إذاً أن نتعلم وأن نعمل بما نعلم، والإعراض عن التمسك بهذه الفقرات الأربع معناها: إعراض عن التمسك بالإسلام الذي جاء به عليه الصلاة والسلام.

العلم النافع هو علم الكتاب والسنة

العلم النافع هو علم الكتاب والسنة Q بالنسبة إلى النقطة الثانية: أن ندعوهم إلى العلم، فهم عن عمد أو غير عمد يفهمون عنا هذه الكلمة خطأ، فيقولون ويظنون أننا نريد بالعلم أن يحفظوا الكتب الستة حفظاً، وأن يحيطوا بالعلوم كلها صغيرها وكبيرها، فمثل هذا نريد له توضيحاً A نحن نعني بالعلم العلم المستقى من الكتاب والسنة، ونعني ثانياً: بأنه يجب على المسلمين أن يتعلموا لينجوا من هذه المسائل الأربع، أي: لينجوا من أن يقعوا في الخلاف، والخلاف قائم، فهم يرجون إبقاء هذا الخلاف بسبب بعدهم عن العلم، وكلما تعلم المسلم وزاد علمه كلما كان ناهياً عن الاختلاف، يقول الله تعالى في القرآن الكريم فضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: {مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] وهذا واقع الجماعات الإسلامية، فبماذا نقضي على هذا؟ نقضي على هذا بالعلم الصحيح، ثم نحن نريد من عامة المسلمين أن يتعلموا شيئين اثنين: ما يصححون به عقيدتهم، وما يصححون به عبادتهم، لا نريد من كل مسلم أن يكون علاَّمة في التفسير، والحديث، والفقه، واللغة، فهذا له علماء يتخصصون فيه، وهذا فرض كفاية. فالعلم علمان كما يذكره العلماء جميعاً لا خلاف بينهم: علم فرض عين، وعلم فرض كفاية. فرض العين هو: ما يجب على كل مسلم أن يتعلمه، وأنا أضرب مثلين اثنين فقط: كل مسلم بالغ واجب عليه أن يصلي، لا يستثنى من هذه الصلاة أحد منهم، إذاً، كل مسلم فرض عليه أن يتعلم ما تصح به الصلاة شروط الصلاة، وأركانها، وواجباتها، هذا فرض على كل مسلم، فهل يقوم أفراد جماعة التبليغ في أنفسهم بهذا فضلاً أن يبلغوه الآخرين؟ الجواب: لا. فإذاً: هم تاركوا فرض عين فهم مؤاخذون. مثال آخر يقابل هذا: الحج إلى بيت الله الحرام، لا يجب الحج إلى بيت الله الحرام على كل مسلم بالغ مكلف، ذلك لأن الله عز وجل قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] فقد لا يستطيع المسلم، إما لفقره، أو لمرضه، أو لأي سبب آخر، لا يستطيع أن يحج، فنقول له: لا يجب عليك أن تتعلم أحكام الحج، وهناك حجاج إلى بيت الله الحرام، لكنهم يخلون بهذا الفرض فلا يتعلمون أحكام الحج هؤلاء الذين يستطيعون الذهاب صار فرض عين عليهم أن يتعلموا أحكام الحج، أما الآخرون وهم الجمهور الذين لم يجب عليهم الحج فلا يجب عليهم تعلم الحج، من الذي يجب عليهم أن يتعلموا أحكام الحج؟ أولئك الفقهاء والعلماء الذين يتوجه الناس إليهم بالأسئلة؛ عليهم أن يكونوا على علم بما يتعرضون للسؤال عنه. فإذاً: نحن لا نريد من كل فرد من أي جماعة كانت أن يصير عالماً، وكما يقول المثل السوري: فلان عالم مثل الصحن الصيني، أي: من أي جزء منه يقرع يجيب فنحن نريد من كل فرد أن يقوم بالواجب الذي يجب عليه الصلاة تجب على كل شخص إذا بلغ سن التكليف، لكن الزكاة ليست كذلك، والحج ليس كذلك. فإذاً بعض هذه الأحكام فرض عين، ومن لم يفعل فهو آثم عند الله، ولذلك نرى جماعة التبليغ والإخوان المسلمين وحزب التحرير كجماعة، لا أقول: كل فرد منهم؛ لأني أعرف أن في الإخوان وفي كل الجماعات هذه أفراداً يمشون معنا على الخط السلفي؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يجادلنا بأن هذا الخط الذي نحن ماضون فيه هو الذي قال عنه ربنا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يجادلنا في هذا، ولذلك فنحن نعلم بالتجربة أن في كل هذه الجماعات أفراداً معنا على هذا الخط علماً وعملاً، لكن كجماعة كلهم لا يقومون بالفرض العيني، أقل شيء أن يعرفوا صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم كيف كان يصلي؛ لأنهم يعرفون، فهم إذاً لا يقومون بفرض العين، هذا الذي نريده منهم، لكن بالإضافة إلى هذا -كما ذكرت آنفاً- نريد منهم أن يكون فيهم علماء أحاطوا بقدر ممكن من العلم، بما يجب وجوباً عينياً وبما يجب وجوباً كفائياً، فإذا سأله السائل: أنا ذاهب إلى بيت الله الحرام، هل أحج -مثلاً- مفرداً، أم أحج قارناً، أم أحج متمتعاً؟ ربما يجيب مثل ما أجاب ذاك التركي الذي نصبه أبوه مفتياً، يمكن بعض إخواننا ما سمعوا النكتة، وبخاصة أنه طال الدرس، ويقولون: إن العلم جاف، فدعونا نبلها قليلاً بهذه النكتة: زعموا أن مفتياً عرض له سفر فقال لابنه: اخلفني من بعدي، فقال: يا أبي كيف أخلف من بعدك وأنا رجل لا أعلم؟ قال: لا عليك، أنا أدلك على طريقة يمشي بها حالك ريثما أعود، قال: هات طريقتك، قال: أنت تجلس على الكرسي في مكاني، وكلما جاءك سائل سألك أي سؤال فقل له: في المسألة قولان، وقال لابنه: جزاك الله خيراً، وسافر المفتي وجلس ابنه مكانه، والناس كالعادة المفتي هو الذي يعطيهم الجواب في مشاكلهم، وهذا لا يوجد عنده جواب إلا في المسألة قولان، كان السؤال -مثلاً-: أنا قلت لزوجتي: اذهبي أنت طالق، وكلما أحل لك شيخ حرم عليك شيخ إلخ، هذه طلقت مني أم لا؟ يا ابني في المسألة قولان: منهم من يقول: طلقت، ومنهم من يقول: ما طلقت أنا عملت كذا وكذا وجب علي الزكاة أم لا؟ المسألة فيها قولان: منهم من يقول: يجب، ومنهم من يقول: لا يجب! وعلى ذلك قيسوا أنتم؛ الأمر لا يحتاج إلى شرح كثير، أحد الأذكياء انتبه إلى المسألة أن عند هذا الشيخ روتيناً مثل المسجلة، لا يجيب بشيء جديد أبداً، إنما في المسألة قولان، في المسألة قولان، فقال لرجل بجانبه: اسأل الشيخ وقل له: أفي الله شك؟ فقال له: يا سيدي الشيخ! أفي الله شك؟ قال: في المسألة قولان!! الآن قد يأتي حاج قاصد للحج يسأل أحد المشايخ ممن لا علم عندهم من هذا العلم القائم على الكتاب والسنة: أيها أفضل: أحج يا شيخ مفرداً أم قارناً أم متمتعاً؟ فيقول له: هناك ثلاثة أقوال فأيها فعلت صح حجك، ويزيدها: من قلد عالماً لقي الله سالماً، وإن شاء الله ما يقول: قال رسول الله؛ لأن هذا لا أصل له، أما أنها كفقه فهي فقه، من قلد عالماً لقي الله سالماً، هذا يجب أن يكون في الأمة من يرفع عنها الحيرة ثلاثة أقوال في حجه! الرسول حج في زمانه حجة واحدة، كما تريد، إن شئت مفرداً، وإن شئت قارناً، وإن شئت معتمراً، لابد أن يكون الحق واحداً؛ لأن الحق لا يتعدد، ولذلك قال الرسول عليه السلام في الحديث الذي تسمعونه دائماً، لكن قل من ينتبه لانحراف الناس عنه: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد) . إذاً: المسألة إما أن تكون خطأً وإما أن تكون صواباً، فهناك ثلاثة أقوال في مسألة الحج، الرسول ما حج في حياته المباركة إلا حجة واحدة في آخر حياته؛ لأنهم لا يعلمون، أو يعلمون لكن يحيدون، وكما يقال: أحلاهما مر. إن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على الصفا، فقال له رجل من الصحابة: يا رسول الله! عمرتنا هذه. لأن الرسول كان قارناً جامعاً بين الحج والعمرة، ومع أنه قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، فأحلوا أيها الناس!) أي: اجعلوا حجكم تمتعاً، قال ذلك السائل وهو في أسفل جبل الصفا، (يا رسول الله! عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد) عمرتنا هذه لعامنا، أي: خصوصية لنا أصحاب الرسول أم هي للأبد، فقال: (بل هي لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه عليه السلام) ماذا يريد المسلمون أوضح بياناً من هذا الكلام الممثل عملياً بتشبيك الأصابع؟ دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وإلى الآن تجد مشايخ كباراً يخيرون الحجاج أن تحج مفرداً، أو تحج قارناً، أو تحج متمتعاً الرسول صلى الله عليه وسلم ألغى هذه الحجج كلها إلا حج القران، بشرط أن يسوق الهدي من ذي الحليفة وبالنسبة لنا هنا لا يوجد سوق الهدي، واحد يشتري الأغنام ويركبها معه في السيارة، وتجده مهتماً بمظهره ومتزيناً، ويمكن حالقاً لحيته من أجل العيد!! المقصود هذا غير واقع. إذاً: لم يبق عندهم؛ لأن الذي يحج قارناً ويسوق الهدي يكون جمع بين الحج والعمرة، يكون صدق عليه هذا الحديث، لكن نسي قول الرسول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي -أي: من ذي الحليفة - ولجعلتها عمرة، فأحلوا أيها الناس!) الذين ما ساقوا الهدي معناه أنهم يريدون القران فأمرهم بأن يتحللوا، حتى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان في اليمن مبعوثاً من الرسول عليه السلام كما ذكرنا آنفاً، فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة حاج، فيمم شطر المسجد الحرام، لكنه لا يعرف ما نواه الرسول، فلبى بأنه حج كحجة الرسول عليه السلام، ولما جاء إلى مكة وطاف طواف القدوم دخل على زوجته فاطمة، فرآها حالة متهيئة لاستقبال زوجها، والبخور يعمل عمله في خيمتها، فقال لها: ما هذا؟! منكراً عليها، فأخبرته بأن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: (أهل بيتي -عليه السلام- جمعوا بين الحج والعمرة وتحللوا) فلما سمع ذلك منها ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في إحرامه، أما زوجته فتحللت، فذكر علي للرسول عليه السلام ما رأى من فاطمة، فقال له عليه السلام: (بماذا أهللت يا علي؟ قال: أهللت بإهلال النبي، قال: فأنا أهللت بالحج قارناً) وكان علي قد ساق الهدي معه، فقال له: (إذاً أمسك على إحرامك) فضل قارناً بينما زوجته متحللة. فإذاً: قول الرسول عليه السلام: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) لا يجوز للمسلم أن يحج حجاً مفرداً. ولماذا يلجأ كثير من الناس اليوم إلى حج ا

العلم الواجب هو ما تصح به العقائد والعبادات

العلم الواجب هو ما تصح به العقائد والعبادات العلم العلم! عليكم بطلب العلم على التفصيل السابق، لا نريدكم أن تكونوا جميعاً علماء، لكن نريدكم أن تكونوا علماء لما يجب عليكم من العلم أن تكونوا علماء بصلاتكم أن تكونوا علماء بصيامكم؛ لأن الصوم كالصلاة، أما أن تكونوا علماء بالزكاة ولم تجب عليكم الزكاة، أو أن تكونوا علماء في الحج ولم يجب عليكم الحج، فلا نكلفكم بهذا، دعوا هذا الجانب من العلم وهو العلم الكفائي للعلماء المتخصصين، أما العلم الأول فنلزمكم به إلزاماً؛ لأن الله عز وجل أمركم بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) يعني: العلم العيني، أما زيادة (ومسلمة) فهي غير صحيحة روايةً، ولسنا بحاجة إليها دراية؛ لأنها من حيث المعنى تدخل في عموم لفظة (مسلم) ، ولذلك فالرسول ما نطق بلفظة: (ومسلمة) ، وهذا من جهل الناس بلغتهم العربية، أكثرهم يروون الحديث بهذه الزيادة (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) هذه الزيادة باطلة في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إليها لغةً؛ لأنها تدخل في عموم قوله عليه السلام: (مسلم) وكفى الله المؤمنين القتال، وجعل لنا في القدر كفاية.

الدعاء الجماعي الذي تفعله جماعة التبليغ

الدعاء الجماعي الذي تفعله جماعة التبليغ Q هناك أمور تخصصها جماعة التبليغ مثل الدعاء بعد الدرس بشكل جماعي، والدعاء قبل الخروج في الجولة، ووضع إنسان على الذكر أثناء الجولة يسمونه (الدينمو) إذا غفل تفسد الجولة؟ فما حكم ذلك؟ A نقول: هذه الأمور كلها من الحوادث ومن البدع، ويكفي المسلم السني المتمسك بالسنة البحث السابق، أن هذا ليس من عمل السلف، واسترحنا منه، وإلا فكل من جاءنا بشيء اتبعناه فيه؛ ومن هنا جاءت البدع. عندنا في الشام طريقة من طرق الصوفية اسمها النقشبندية، هذه الطريقة تختلف عن الطرق الأخرى بضلالة تفوق الطرق الأخرى كلها، وهي ما يسمونها بالمراقبة، وأنا أظن أن هؤلاء أقاموا مقام المراقبة هذه الضلالة، ما هي المراقبة في الطريقة النقشبندية؟ يفرضون على المريد إذا جاء يريد أن يأخذ الطريق من الشيخ، فيبايعه على الطريق، ويشترط عليه أنه إذا جلس يذكر الله فلا يجوز له أن يراقب الله، وإنما يراقب الشيخ؛ لأن هذا المريد لا يستطيع أن يصل إلى الله إلا بطريق هذا الشيخ، أما اتباع سنة رسول الله فهذه لا توصله إلى الله، إنما الشيخ هو الذي يوصله، ويذكرون -وهذا في رسائل مطبوعة- أن أحد المشايخ كان يمشي مع مريد له بعد أن أخذ منه البيعة أن يطيعه، قياساً على أخذ الخضر عليه السلام البيعة من موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:66-67] . ومشى الشيخ والمريد حتى وصلا إلى شط البحر، فأخذ الشيخ بيد المريد يريد أن يخوض في البحر، وتعرفون أن البحر يتدرج، تقول القصة -وهم مؤمنون بأن هذه القصة صحيحة ومطبوعة-: لما أحس المريد بالغرق جاء يريد أن يستغيث بالله عز وجل، فقال له الشيطان: كيف تستغيث بالله وتترك الشيخ؟ فقام الشيخ وكاشف المريد -بزعمه- وعرف ما هي وسوسة الشيطان: أنه لا يجوز أن تستغيث بالشيخ وتترك رب العالمين، فقال له الشيخ: بماذا أوصيتك أنا؟ لا بد أن تتبعني، فاستغاث بالشيخ ومشى معه في البحر إلى أن وصلوا إلى الشط الثاني!! كفر بالله وأنقذه الشيخ من الشيطان! وكان الشيطان الذي لا ينصح هو الناصح! الشاهد: هذا مما يقولون هناك هو من فوائد ربط المريد قلبه بقلب الشيخ، فيقولون: إذا جلست تذكر الله لا تراقب رب العالمين؛ لأنك لا تستطيع، وإنما راقب الشيخ. وظهرت في الآونة الأخيرة قبل أن آتي هنا بأكثر من أحد عشر سنة ظاهرة في بيوت هؤلاء النقشبنديين، مثل هذه الغرفة إذا كانت القبلة هكذا -مثلاً- فصورة الشيخ في صدر المكان، وحولها لمبات نور، بحيث أن المريد تتجلى له هذه الصورة التي ينبغي أن يراقبها ولا يراقب رب العالمين تبارك وتعالى، هذه يسمونها رابطة، وباللغة الأعجمية يسمونها رابطة شريفة، هكذا يلقنون مريديهم، من أين جاءت هذه الرابطة؟ استحسنوها لربط قلب المريد بقلب الشيخ. من أين جاءوا بهذا الذي يجلس في المسجد يذكر الله (الدينمو) ويمد الجماعة هناك بمدده؟ هذا أولاً: يفترض أن يكون من الصالحين، هذا المفروض حتى يكون مخلصاً في ذكره، وارتباطه مع ربه إلخ، ومعنى هذا أن الرجل ورطوه، أعطوه صفة رجل صالح، وأنه هو الذي يمدهم بالتوفيق في خروجهم في دعوتهم، فلا شك أن هذا من البدع الكثيرة وما قبلها كذلك. السائل: الدعاء بعد البيان والدرس بشكل جماعي؛ أحدهم يدعو والبقية يؤمنون، وكذلك الدعاء قبل الخروج إلى الجولة، بعد تشكيل الجولات يخرجون فيقف على باب المسجد فيدعون بدعاء متعلق بالجولة، ما حكم هذا؟ الشيخ: كل هذا يأتي من الجهل بالسنة، ونسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا.

جهل جماعة التبليغ بالتفريق بين السنة التعبدية والعادية

جهل جماعة التبليغ بالتفريق بين السنة التعبدية والعادية Q تقول جماعة التبليغ: إن السنة للمدرس أن يلقي درسه جالساً، أما الداعي فالسنة أن يدعو إلى الله وهو قائم على رجليه ممسكاً بعصا فهل هذا صحيح؟ A مجال للتوسع أنهم لا يفرقون بين السنة التعبدية والسنة العادية الرسول عليه الصلاة والسلام كان له عصا تسمى بالمحجم لها عكفة، وكانت تنصب له في العراء إذا صلى، خاصة في المصلى كانت تنصب له ليصلي إليها، فهذه كان يستعملها الرسول عليه السلام للحاجة، كما جاء في قصة موسى عليه السلام حينما سأله ربنا عز وجل: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17-18] يدفع عن نفسه الوحوش من الحيوانات، من البشر إلخ، لكن إذا خرج من بيته إلى المسجد، وهو قوي البنية شاب، فلماذا يتكئ عليها؟! لكن أنا أدري ما هو السبب: إنهم أولاً: لا يعرفون هذه القاعدة: التفريق بين سنة العادة وسنة العبادة، سنة العبادة: هي التي نقتدي فيها بالرسول عليه السلام، أما سنة العادة فلم نكلف باتباع الرسول عليه السلام فيها، مثلاً: أنا هنا أنظر أشكالاً وألواناً من العمائم، واحد وضع عمامة بيضاء وفوقها عقالاً، فهذا خالف السنة بزعمهم، وآخر وضع بيضاء ليس فيها عقال، هذا وافق السنة بزعمهم، وثالث وضع حمراء أو نقاطاً حمراء إلخ، هذا خالف السنة، أو وضع قلنسوة مزخرفة فيها نقوش جميلة، أيضاً خالف السنة! كل هذه القضايا ليس لها علاقة بالسنة التعبدية، هذه سنة العادات سنة العادات تختلف عن سنة العبادات، فهذا هو السبب الأول في أنهم جعلوا الداعية يدعو وهو قائم متكئ على عصا. السبب الثاني: وهذا يجب أن تحفظوه جيداً؛ لأنه منهج علمي، أنهم يقرءون في الأحاديث: (العصا سنة الأنبياء) وهذا حديث موضوع، فهم لا يفرقون بين حديث صحيح وحديث ضعيف، فيعتمدون على الحديث الموضوع كما يعتمدون على العصا، وكل هذا الاعتماد ليس بالذي يحسن من مسلم أن يعتمد عليه. والبحث في الحقيقة طويل وطويل جداً، لكنني أريد أن أقول: على هؤلاء أن يعنوا بدراسة السنة، فهي كما قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) وأخونا أبو الحارث يبشرنا بأن الخصلة الأخيرة هذه -ما يسمونه بالدينمو- بدأت تقل، وأنا أرجو أن يكون هذا من أثر الدعوة السلفية التي تبصر الناس جميعاً بدينهم، وإن كانوا هم أحزاباً متفرقين، لكنهم من الناحية العلمية لا يستغنون عن التثقف بالثقافة السلفية، أنا أعلم من القديم -وأنا أظن أن هذا نسياً منسياً- عن جماعة التبليغ أنهم كانوا إذا جلسوا على مائدة الطعام أو سفرة الطعام بدءوا بالملح، ولو بشيء بسيط، لماذا؟ لأنه هناك حديث: (من بدأ طعامه بالملح كُفي شر سبعين داء) وكذلك حديث: (العصا سنة الأنبياء) حديث لا أصل له؛ ولأنهم يعيشون هكذا سبهللاً بين التراث من الأحاديث التي فيها ما هب ودب مما صح وما لم يصح، فهم يعملون بكل ما يسمعون، ليس عندهم علم، لا أقول بالنسبة للعامة الآن، أنا أعني خاصتهم؛ لأننا قدمنا مثالاً آنفاً حينما تكلمنا عن كتاب حياة الصحابة، وأن فيه ما هب ودب، فهم يستقون من هذا المعين، وفيه الشيء العكر الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وبهذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين.

ما يجب على جماعة التبليغ أن تفعله

ما يجب على جماعة التبليغ أن تفعله Q خلاصة للأجوبة التي سمعناها: هل أنتم تدعون إلى حل جماعة التبليغ حلاً مطلقاً، على الرغم من النفع العظيم الذي حصل عليه كثير من العوام، أم أنكم تدعون إلى إبقائها ولكن مع إجراء تصحيحات لما يفعلونه من مخالفات شرعية وأصول بدعية؟ A سبق الجواب عن هذا السؤال ضمناً حينما قلنا هناك وهنا: عليكم أن تتعلموا قبل أن تخرجوا، هذا هو الجواب. مداخلة: بمعنى تصحيح؟ الشيخ: تصحيح الطريق الذي يسلكونه. مداخلة: سمعنا عنك تخريجاً للأحاديث ومختصرات كثيرة، كذلك لابد من جهدك -إن شاء الله- في هذا الكتاب أن توليه العناية. الشيخ: أنا أقول: أرجو الله أن يوفقني لتحقيق هذا الاقتراح، وادعوا لنا في ظهر الغيب. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الفرقة الناجية

الفرقة الناجية الفرقة الناجية هي المتبعة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهي بقية السلف، والمتفردة باتباع الكتاب والسنة بين بقية الفرق التي عصفت بها الأهواء، وذهب بها الرأي والشبهات كل مذهب. وقد بين شيخ الإسلام في رسالة تناولت هذا الموضوع: أن أهل الحديث هم الفرقة الناجية، وأورد الأدلة على ما ذهب إليه في هذا الشأن، وهنا ذكر الشيخ الألباني هذه الرسالة لبيان مذهب أهل السنة، وهو المذهب الذي ورثه الصحابة عن نبيهم وورثوه لمن بعدهم.

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقة الناجية

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقة الناجية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وقفتُ على مقالٍ لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، فيه بيان فضل أهل الحديث، وأن أهل الحديث هم الفرقة الناجية، وأنهم هم الذين ينبغي أن يتدين المسلم وأن يتمذهب بمذهبهم. وكل من كان عنده شيء من الثقافة الإسلامية الصحيحة يعلم من هو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، وبأوجز عبارة يمكن لمن لم يكن له ثقافة ما، أو معرفة ما بفضل هذا الرجل العالم، أن يعرف حقيقة علمه وفضله، إذا ما عرف أنه قد تيسر لبعض طلاب العلم في هذا الزمن، أن يجمع من فتاواه ورسائله التي ألفها جواباً على أسئلة السائلين له من مختلف البلاد الإسلامية في زمانه خمسة وثلاثين مجلداً من هذا القياس المعروف. فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وجزاه عن الإسلام والسنة خيراً، هو في الواقع من نوادر العلماء الذين رفعوا راية السنة عالية، وقضى بها على مختلف البدع الدخيلة في الإسلام، سواءً ما كان منها من بدع فلسفية، أو اعتقادية، أو فقهية، أو صوفية، أو أي بدعة كانت يتبرأ الإسلام منها، فـ شيخ الإسلام كان هو الإمام الوحيد الذي انبرى لمخالفة كل أصحاب البدع على اختلاف أنواعهم، وطرقهم، ومذاهبهم. لذلك رأيتُ من الواجب عليَّ أن أذكر لكم شيئاً من كلام هذا الرجل، وخاصة أن هذا الكلام هو فيما ندعو إليه منذ أكثر من ثلث قرن من الزمان، ألا وهو: اتباع الكتاب والسنة، وعدم التمذهب بسوى هذا المذهب، ألا وهو مذهب أهل الحديث؛ لذلك أرى أن أذكر لكم فصلاً من كلامه؛ لتتبينوا أهمية مذهب أهل السنة، وهو المذهب الذي ورثه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهؤلاء بدورهم ورَّثوه مَن بعدَهم ثم لم يزل كلُّ مَن جاء مِن بعدِهم، وكان يهتدى بهديهم، لا يرضى بسوى السنة له مذهباً.

أهل العلم والدين ورثة رسول رب العالمين

أهل العلم والدين ورثة رسول رب العالمين يقول شيخ الإسلام: بسم الله الرحمن الرحيم " {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] ، العالم بما كان، وما هو كائن، وما سيكون، الذي {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . الذي {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] . {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70] . الذي دلَّ على وحدانيته في إلَهِيَّته أجناسُ الآيات، وأبانَ علمُه لخليقتِه ما فيها من إحكام المخلوقات، وأظهر قدرتَه على بريته ما أبدعه من أصناف المخلوقات، وأرشد إلى فعله بسنته تنوُّع الأحوال المختلفات، وأهدى برحمته لعباده نعمَه التي لا يحصيها إلا رب السماوات، وأعلم بحكمته البالغة دلائلُ حمده وثنائه الذي يستحقه من جميع الحالات، لا يحصي العباد ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه بما له من الأسماء والصفات، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يماثله فيها شيءٌ من الموجودات، وهو القدوس السلام المتنزه أن يماثله شيءٌ في نعوت الكمال أو يلحقه شيء من الآفات. فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] . أرسل الرسل {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165] ، مبشرين لمن أطاعهم بغاية المراد من كل ما تحبه النفوس وتراه نعيماً، ومنذرين لمن عصاهم باللعن والإبعاد وأن يعذَّبوا عذاباً أليماً. وأمرهم بدعاء الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، مخلصين له الدين، ولو كره المشركون، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51-52] . وجعل لكلٍ منهم شرعة ومنهاجاً؛ ليستقيموا إليه ولا يبغوا عنه اعوجاجاً، وختمهم بمحمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أفضل الأولين والآخرين، وصفوة رب العالمين، الشاهد البشير النذير، الهادي السراج المنير، الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم:1-2] . بعثه بأفضل المناهج والشرع، وأحبط به أصناف الكفر والبدع، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء، وجعله مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء. وجعل أمته {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، يوفُون سبعين أمة، هم خيرها وأكرمها على الله هو شهيد عليهم، وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة، بما أسبغه عليهم من النعم الباطنة والظاهرة، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة، إذْ لم يبقَ بعده نبي يبين ما بُدِّل من الرسالة، وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمه، ورضي لهم الإسلام ديناً، وأظهره على الدين كله، إظهاراً بالنصرة والتمكين، وإظهاراً بالحجة والتبيين. وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء، يقومون مقامهم في تبليغ ما أُنزل من الكتاب، وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم إلى حين الحساب. وحفظ لهم الذكر الذي أنزله من الكتاب المكنون، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، فلا يقع في كتابه من التحريف والتبديل، كما وقع في أصحاب التوراة والإنجيل. وخصَّهم بالرواية والإسناد، الذي يُمَيِّز به بين الصدق والكذب جهابذة النُّقَّاد، وجعل هذا الميراث يحمله مِن كل خلفٍ عدوله؛ أهل العلم والدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ لتدوم بهم النعمة على الأمة، ويظهر بهم النور من الظلمة، ويحيا بهم دين الله الذي بعث به رسوله، وبيَّن الله به للناس سبيله، فأفضلُ الخلق أتبعُهم لهذا النبي الكريم، المنعوت في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المرسلين، ومالك يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس أجمعين، أرسله والناس من الكفر والجهل والضلال في أقبح خيبة وأسوأ حال، فلم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في تبليغ الدين، وهدي العالمين، وجهاد الكفار والمنافقين، حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل البهتان، وعزَّ جند الرحمان، وذلَّ حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، واشتهرت تلاوة القرآن، وأُعلن بدعوة الأذان، واستنار بنور الله أهل البوادي والبلدان، وقامت حجة الله على الإنس والجان، لَمَّا قام المستجيب من المعد بن عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، صلاةً يرضى بها الملك الديان، وسلَّم تسلماً مقروناً بالرضوان.

صلاح التعبد بصلاح الطاعة والاتباع

صلاح التعبد بصلاح الطاعة والاتباع أما بعد: فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد؛ إلا باتباع رسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13-14] . فطاعة اللهِ ورسولِه قطبُ السعادة التي عليها تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور، فإن الله خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، وإنما تعبدهم بطاعته وطاعة رسوله، فلا عبادة إلا ما هو واجب أو مستحب في دين الله، وما سوى ذلك فضلال عن سبيله، ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدُّ) ، أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث العرباض بن سارية، الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره، أنه كان يقول في خطبته: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) . وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحوٍ من أربعين موضعاً من القرآن، كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] . وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:64-65] . وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] . وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] . فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سبباً لمحبة الله عبدَه، وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] . فما أوحاه الله إليه يهدي الله به من يشاء من عباده، كما أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك هداه الله تعالى، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] . وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16] . فبمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم تبين الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، والنجاة من الوبال، والغي من الرشاد، والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقون من الفجار، وإيثار سبيل مَن {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] مِن سبيل المغضوب عليهم والضالين. فالنفوس أحوج إلى معرفةِ ما جاء به واتباعِه منها إلى الطعام والشراب، فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب.

تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام

تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام فحقٌ على كل أحدٍ بَذْلُ جُهْدِه واستطاعتِه، في معرفة ما جاء به وطاعتِه؛ إذْ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم، والسعادة في دار النعيم، والطريق إلى ذلك الرواية والنقل، إذْ لا يكفي من ذلك مجرد العقل، بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نورٍ قُدَّامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة. فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام، وكان معرفة ما أمر الله به رسولَه واجباً على جميع الأنام، والله سبحانه بعث محمداً بالكتاب والسنة، وبهما أتَمَّ على أمته المنة، قال تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:150-152] . وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] . وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231] . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] . وقال تعالى عن الخليل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] . وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] . وقد قال غير واحدٍ من العلماء، منهم: يحيى بن أبي كثير، وقتادة، والشافعي، وغيرهم: الحكمة هي السنة - {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] ، الحكمة هي السنة، لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يُتْلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب: القرآن، وما سوى ذلك مما كان الرسول يتلوه هو السنة. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عدة أوجه من حديث أبي رافع، وأبي ثعلبة، وغيرهما أنه قال: (لا أُلفيَنَّ أحدَكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرمناه! ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) وفي رواية: (ألا وإنه مثل الكتاب) .

اجتهاد أهل الحديث في طلب الحديث وحفظ الدين

اجتهاد أهل الحديث في طلب الحديث وحفظ الدين ولما كان القرآن متميزاً بنفسه، بما خصه الله به من الإعجاز الذي بايَنَ به كلام الناس، كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ، وكان منقولاً بالتواتر، لَمْ يسمع أحدٌ في تغيير شيءٍ من ألفاظه وحروفه؛ ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يُدْخِل في الأحاديث من النقص والازدياد، ما يَضِلُّ به بعضُ العباد، فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق من البهتان، وانتَدَبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن، من الزيادة في ذلك والنقصان. وقام كلٌّ من علماء الدين بما أُنْعِم به عليهم وعلى المسلمين، مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث، بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول. وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتِّلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، ولِمَن طلب معرفته معروفٌ مرسوم، بِتَوَسُّدِ أحدِهم التراب، وتركِهم لذيذ الطعام والشراب، وتركِ معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبُّر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمرٌ حببه الله إليهم وحلاه؛ ليحفظ بذلك دين الله، كما جعل البيت مثابة للناس وأمناً، يقصدونه من كل فجٍ عميق، ويتحملون فيه أموراً مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبَّب إلى أهله القتال؛ الجهاد بالنفس والمال، حكمة من الله يحفظ بها الدين ليهدي المهتدون، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون. فمن كان مخلصاً في أعمال الدين، يعملها لله كان من أولياء الله المتقين، وأهل النعيم المقيم، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس62-64] . وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المسلمين عليه. الثاني: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له، فقيل: (يا رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن) . وقال البراء بن عازب: سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:64] ، فقال: (هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له) . والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الرّبان، الحافظون له من الزيادة والنقصان، هم مِن أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] .

علم الإسناد والرواية من خصائص الأمة المحمدية

علم الإسناد والرواية من خصائص الأمة المحمدية وعلم الإسناد والرواية، مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجعله سُلَّماً إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدِعون من هذه الأمة أهلُ الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة؛ أهلِ الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعْوَج والقويم. وغيرهم من أهل البدع والكفار، إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد، وعليها مِن دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل. وأما هذه الأمة المرحومة، وأصحاب هذه الأمة المعصومة، فإن أهل العلم منهم والدين، هم من أمرهم على يقين، فظَهَر لهم الصدق من المين؛ كما يظهر الصبح لذي عينين عصمهم الله أن يُجْمِعوا على خطأ في دين الله معقولٍ أو منقولٍ، وأمَرَهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] . فإذا اجتمع أهل الفقه على القول بحكمٍ لم يكن إلا حقاً، وإذا اجتمع أهل الحديث على تصحيح حديثٍ لم يكن إلا صدقاً. ولكلٍ من الطائفتين من الاستدلال على مطلوبهم بالجَلِيِّ والخَفِيّ، ما يُعْرَف به مَن هو بهذا الأمر حَفِيّ، والله تعالى يلهمهم الصواب في هذه القضية، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، وكما عرف ذلك بالتجربة الوجودية، فإن الله {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] لَمَّا صدقوا في موالاة الله ورسوله، ومعاداة مَن عَدَل عنه، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] .

فضل علماء الحديث على سائر أهل العلم

فضل علماء الحديث على سائر أهل العلم وأهل العلم المأثور عن الرسول، أعظم الناس قياماً بهذه الأصول لا تأخذ أحدَهم في الله لومةُ لائم، ولا يصدُّهم عن سبيل الله العظائم، بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه، ويتكلم في أحب الناس إليه؛ عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135] . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] . ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح، مِن السعي المشكور، والعمل المبرور، ما كان من أسباب حفظ الدين، وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات: - منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية. - ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية. - ومنهم أهل الفقه فيه، والمعرفة بمعانيه. وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأمة أن يبلِّغ عنه مَن شَهِد لِمَن غاب، ودعا للمبلِّغين بالدعاء المستجاب، فقال في الحديث الصحيح: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) . وقال أيضاً في خطبته في حجة الوداع: (ألا ليبلغ الشاهد الغائب) . وقال: (نضَّر الله امرءاً سمع منا حديثاً فبلغه إلى مَن لَمْ يسمعه، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط مَن وراءهم) . وفي هذا دعاءٌ منه لِمَن بلَّغ حديثه وإن لم يكن فقيهاً، ودعاءٌ لِمَن بلَّغه وإن كان المستمع أفقه من المبلِّغ؛ لِمَا أُعطي المبلِّغون من النضرة؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة: لا تجد أحداً من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة، لدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقال: نَضِرَ ونَضَرَ، والفتح أفصح. ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث، يعظمون نَقَلَةَ الحديث، حتى قال الشافعي رضي الله عنه: إذا رأيتُ رجلاً من أهل الحديث، فكأني رأيتُ رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإنما قال الشافعي هذا لأنهم في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقال الشافعي أيضاً: أهل الحديث حَفِظوا، فلهم علينا الفضل؛ لأنهم حفظوا لنا ". انتهى ما وجده هذا الباحث من هذه الخطبة الرائعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وله كلمات أخرى كثيرة وكثيرة جداً، مبثوثة في تضاعيف هذه المجلدات الكثيرة -كما ذكرنا لكم آنفاً- من الممكن أن يجمع منها المتتبع رسالةً خاصة في فضل أهل الحديث، وأنهم هم الفرقة الناجية، ويأتي على ذلك بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة الصحيحة.

الرؤيا في المنام

الرؤيا في المنام تعد الرؤيا من المظاهر الطبيعية، وقد قسمها الشرع إلى ثلاثة أقسام: (رؤيا من الله حلم من الشيطان حديث نفس) وبعض الناس يهتم بالرؤى، حى يبالغون في شيء من مظاهرها. وفي هذه المادة يوضح الشيخ رحمه الله مسائل تتعلق بالرؤى وتعبيرها وتعلقها بعلم الغيب.

من أحكام الرؤيا

من أحكام الرؤيا Q كثير من إخواننا يرون بعض العلماء في المنام على هيئة حلِّيقين -قد حلقوا اللحى- فهل هنالك تأويل من فضيلة الشيخ؟ A أولاً: نذكِّر إخواننا جميعاً بأننا لا ننصحهم أن يهتموا بالرؤى إلا إذا كانت رؤىً يشعر الرائي لها بأنها من القسم الذي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله سلم في الحديث الصحيح: (الرؤى ثلاثة: فرؤيا من الرحمن، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا من تحديث النفس) ، فإذا كانت الرؤى ثلاثة أقسام، فواحدة إذاً من الثلاث تكون رؤيا رحمانية، واثنتان منها لا وزن لهما؛ لأنها قد تكون من تلاعب الشيطان، أو في أحسن الأحوال من تحديث النفس، أي: أن الإنسان يفكر في أمر يهمه من خير أو شر، فيتصوَّر شيئاً في المنام يتعلق بما يفكر فيه أثناء النهار، فهذا إذا رآه لا قيمة له، كذلك إذا كان من النوع الذي هو من تلاعب الشيطان بعدوه الإنسان. فحينما تكون الرؤيا فيها أنه رأى عالماً حليقاً، بمعنى أنه رأى عالماً يعصي الله عز وجل، فهذه الرؤيا ما دام أن فيها رؤية عالم حليق، فهذا العالم المرئي في المنام بأنه حليق: - إما أن يكون واقعه كذلك في اليقظة. - أو أن يكون ليس كذلك. فحينئذٍ إن كان العالم الذي رؤي حليقاً ليس حليقاً في واقع حياته، فهذه رؤيا تبشر بشر، وتنذر به، وإن كان حليقاً في اليقظة وليس في المنام فهو عاصٍ، فلا تبشر الرؤيا بخير. وكلا الأمرين ما داما يلتقيان في رؤية إنسان يتلبس بمعصية، لكن رؤيا عن رؤيا تختلف، وإذا كانت الرؤيا تمثل حياة حقيقية، بمعنى أنه حليق دائماً فهي شر، وإن لم يكن كذلك؛ لكنه في المنام رُئي حليقاً فهي شر، فحينئذٍ ننصح في مثل هذه المناسبة بالأمر الآتي: أن يتأدب بآداب الرائي للمنام، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن مَن رأى رؤيا تسره فليحدِّث بها عالماً ناصحاً، وإن رأى رؤيا تحزنه -توقظه وظواهرها تدل على الشر- فلا يحدِّث بها أحداً، وليتفل عن يساره ثلاثاً، فإنها لن تضره) ، هذا الذي يمكن أن يقال بمثل هذه المناسبة. وخلاصته: أن الرؤيا التي ظاهرها شر: أولاً: يتفل صحابها عن يساره ثلاثاً فإنها لن تضره. وثانياً: لا يقصها على أحد.

الاعتداد بالرؤيا وتنزيلها على الواقع

الاعتداد بالرؤيا وتنزيلها على الواقع Q هذا الأمر حصل من أكثر من ستة أشخاص، رأوا أكثر من أربعة علماء من علمائنا الذين نحسبهم -إن شاء الله- على خير، فهل هذا يعني أنه يكون فيه شر لذات العالم نفسه، أم لصاحب الرؤيا؟ A أنا أجبت عن هذا -بارك الله فيك- أنه لا تعتدُّوا بالرؤى؛ لأن الرؤى ثلاث: فواحدة من الثلاث تكون رحمانية، ثم إن هذه التي تكون رحمانية -وأجيب عنها بناء على تكرارك للسؤال- تحتاج إلى تأويل، ولن تكون على ظاهرها، وهذه مشكلة أخرى، أن الذين يستطيعون أن يؤوِّلوا الرؤى عليهم أن يعلموا: أولاً: أنهم بحاجة إلى أن يَفْصِلوا هذه الرؤى عن القسمين الآخرَين. ثانياً: أن يحسنوا التأويل، مع أن تأويل المنامات ليس علماً، وإنما هو هبة من الله تبارك وتعالى. لذلك فأنا أقول عما شاهدتُه في غيري، ثم ما وقع لي بنفسي:

علم تعبير الرؤيا

علم تعبير الرؤيا لما كنت أطلب العلم التقليدي وهو المذهب الحنفي من بعض المشايخ، كنا نصلي الصبح ونقرأ درساً في الفقه الحنفي إلى الضحوة، وذات يوم أتت امرأة عجوز، فدخلت المسجد، وجلسَتْ بجانب الشيخ، فسارَّته بكلام لا نسمعه نحن لكن نسمع جواب الشيخ ونفهم أنها تقص عليه رؤيا، فسبحان الله! كان جواب الشيخ كأنه مثل ما يقال اليوم: (روتين) ، أي: لا يتغير، كلما جاءت امرأة تسره بشيء نفهم أنها تقص عليه رؤيا، ويكون جواب الشيخ على وتيرة واحدة. بقي في ذهني الخلاصة التالية، وهي قوله: يبدو أن المرحوم بحاجة إلى صدقة، فتصدقي عنه، أو بحاجة إلى قراءة قرآن، فاقرئي عنه، ونحو هذا تكون الأجوبة. هذا ما شاهدته عن بعض المشايخ، وأنا نفسي كنت شغوفاً بالعلم منذ أن تخرجت من المدرسة الابتدائية، فقد سمعت بكتاب: تعطير الأنام في تفسير المنام، للشيخ عبد الغني النابلسي، في مجلدين، وعلى الهامش تفسير ابن سيرين، ومحمد بن سيرين رجل فاضل من كبار علماء التابعين والمكثرين من رواية الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنتُ طالب علم متميزاً قليلاً عن الآخرين، فكل واحد من الإخوان إذا رأى رؤيا جاءني لأعبرها له -وأنا ما عندي علم فطري كما كان عليه ابن سيرين - فكنت أرجع إلى كتابه، أرجع إلى تعطير الأنام للنابلسي. فمثلاً: إذا رأى الرائي مطراً غزيراً نازلاً، فإني أرجع إلى كلمة مطر، وهنا يَتَيْهُ الإنسان من كثرة التفاصيل، فما يظهر لي شيء، وكثيراً ما تكرر معي هذا، فتركتُ الكتاب حتى عشش عليه العنكبوت، وما استفدتُ منه شيئاً. وفيما بعد لما تعمقت في العلم، وخاصة عندما تنوَّر قلبي بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، علمتُ أن هذا العلم ليس علماً يُكْتَسَب كأكثر العلوم، وإنما هو هبة من الله تبارك وتعالى. لذلك أقول: من رأى رؤيا فليضع في باله أنها واحدة من ثلاث، تُرَى أي الثلاث هي؟! لا يعرف. وعندما يريد أن يقصها فإني أقول: إذا كانت خيراً فليقصها على عالم ناصح كما ذكرنا، وإلا فلا يقصها على أحد؛ لأنها كما جاء في الحديث الصحيح: (الرؤيا على رِجْل طائرٍ، فإذا فُسِّرَت وَقَعَت) تشبيه خطير جداً، فلو رأى إنسانٌ رؤيا ظاهرها جيد، لكن المؤوِّلَ للمنام أوَّلَها وفسَّرها على نقيض ظاهرها، فستقع، وهذه سنة من سنن الله عز وجل الغيبية التي لا تدخل في السنن الكونية الطبيعية التي تخضع للمادة، فإذا فُسِّرَت وَقَعَت. لذلك لا ينبغي لإخواننا الحريصين على الانتفاع بالسنة إذا رأوا رؤيا، ولو كانت حسنةَ الظاهر، أن يقصوها إلا على عالم ناصح، وإذا كانت على العكس، فليستعذ بالله، ولا يقصها على أحد. أما إذا تكاثرت الرؤى بهذه الصورة، فهل يجوز أن يكون الشيطان كما يلعب بالناس في اليقظة يلعب بهم في المنام؟! نعم يجوز. فإذاً: لا نلقي بالاً لمثل هذه الرؤى إطلاقاً.

علاقة الرؤيا بالغيب

علاقة الرؤيا بالغيب Q هل الرؤيا الصالحة من الغيب؟ A نعم. الرؤى غيب، وقال عليه السلام: (الرؤيا الصالحة جزءٌ من ست وثلاثين جزءاً من النبوة) أو كما قال عليه السلام، فهي غيبٌ. السائل: هل هناك أحدٌ يعلم بالغيب إلا مَن علَّمه الله سبحانه وتعالى من الأنبياء؟ وكما قلتَ أن العلماء يعلمون هذه الرؤيا هبةًَ! الجواب: أنا ما قلت يعلمون الغيب، ولكن نعم يعلمون كإلهام من الله عز وجل. نفس السائل: أي: يلهمهم ببعض الغيب؟ الجواب: لا. هذا ليس غيباً -بارك الله فيك- وهذا سؤال -في الحقيقة- مهم جداً. لنعرف ما هو الفرق بين العلم بالغيب والفراسة التي يصيب بها أحياناً، وتتحدث بها بعض كتب السنة الصحيحة من جهة، ويغالي فيها الذين ينتمون إلى التصوف من جهة أخرى. أظنكم جميعاً تعلمون قوله عليه الصلاة والسلام: (لقد كان فيمن قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي، فـ عمر) ومعنى (محدَّثون) أي: مُلْهَمون، والإلْهام ليس هو الوحي لكنه يلتقي مع الوحي أحياناً من حيث اكتشاف ما سيقع ظناً وليس يقيناً، أي أن الذي أُلْهِم بشيء لا يستطيع أن يقول: إن هذا سيكون حتماً، إلا ما ندر جداً جداً، وهو يعترف بأنه ليس معصوماً، أما الوحي فهو يقطع به كما هو حي تماماً، يقطع بأن هذا الذي أوحاه الله إليه هو من وحي السماء، لا يدخله شك ولا لبس ولا ريب. فالآن: (لقد كان فيمن قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي فـ عمر) ما معنى محدَّثون؟ أي: مُلْهَمون، فما هو الإلهام؟ أنتم تعرفون أن عمر بن الخطاب تحدث بأمور نزل القرآن على وفق ما تحدث به، كقوله للرسول عليه الصلاة والسلام: [لو حجبتَ نساءك!] فأنزل الله آية الحجاب. وقوله: [لو اتخذنا من مقام إبراهيم مُصَلَّىً!] . إلى آخر ما قال. فمن هذا القبيل: ما رواه الإمام مالك في الموطأ بالسند الصحيح عن أبي بكر الصديق، أنه قال لابنته عائشة في أرض تتعلق بإرث أولاد أبي بكر رضي الله عنه قال -فيما أذكر الآن-: [إن هذه لأختك -والأخت كانت لا تزال جنيناً في بطن زوج أبي بكر الصديق - قالت: وأين أختي؟ قال: هي التي في بطن فلانة] ، وفعلاً رُزِقَت زوجته بنتاً، فكانت عائشة ترث مع أختها تلك الأرض بوصية من أبي بكر الصديق في هذا الإلهام. وهذه القصة في الموطأ وبالسند الصحيح الذي لا إشكال فيه؛ لأنه في الموطأ توجد روايات مقطوعات وبلاغات كثيرٌ منها لا يصح، وإن كانت موصولة بعضها في كتبٍ أخرى، أما هذه القصة فهي صحيحة. فإذا عرفنا هذه الحقيقة، وهي: الفرق بين الوحي وبين الإلهام، يمكننا أن ندخل في صلب الإجابة. إذا كان هناك رجل عالم مثل ابن سيرين فسر الرؤيا التي قصها عليه قاصٌ ما أو راءٍ ما، فهو لا يستطيع أن يقول: إنها ستكون كذلك. إذاً: فهذا ليس من باب الاطلاع على الغيب إطلاقاً، وإنما هو الظن، والظن قد يصيب وقد يخطئ، وهذا يقع من العلماء في مناسبات كثيرة وكثيرة جداً، حتى إن بعض مشايخ الطرق يستغلون هذه الوقائع ويوهمون الناس أنها كشوفات، وأنهم يطلعون على ما في صدور الناس، والحقيقة أنها ليست شيئاً من ذلك، وإنما هي الفراسة. وسأقص بعض ما وقع لي أنا شخصياً مع كشف السر؛ لكي لا تُغَشُّوا بما قد تسمعون من بعض الناس. إذا تبين أن ابن سيرين وأمثاله هم ممن قد وُهِبوا علم تأويل الرؤيا، فذلك ليس من باب الاطلاع على الغيب؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله بنص القرآن الكريم، ثم كما قال في القرآن الكريم أيضاً: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] ، فالغيب هو الأمر الذي يقطع به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قد أوحى به إليه. أما العالم ذو الفراسة أو مفسر المنام، فهذا لم يطَّلع على الغيب، فقد يصيب وقد يخطئ.

بين الفراسة والمكاشفة

بين الفراسة والمكاشفة فأنا أقص لكم بعض القصص التي وقعت لي، وهي قبل كل شيء لا تدل على صلاح، ولا تدل على طلاح، وإنما تدل على أن هذا المسئول عنده شيء من العلم، وعنده شيء من اليقظة، فأصاب الهدف، فلو أراد أن يغش هؤلاء الناس سيقول لهم: هذه كشوفات وأنتم تنكرونها. أنا أذكر جيداً أنني كنت في دكاني أصلح الساعات، فدخل عليَّ أحد إخواننا الفلسطينيين الذين كانوا قد فروا من ظلم اليهود إلى دمشق، وتعرفوا على الدعوة السلفية -والحمد لله-، حيث جاءني ومعه رجل فلاح، وأنا أعلم مسبقاً -وهنا يبدأ موضوع الفراسة- أن هذا أستاذ في بعض القرى التي حول بلدة حمص هناك في الطريق إلى حلب، وأراني ساعة اسمها الأجنبي: (ردكو) ، وقال: انظر هذه الساعة، إنها تقف، ونريد أن نصلحها لأخينا هذا، ففهمت أن أخاه هذا من تلك القرية، فرأساً قلت له: إنه اشتراها من هنا من دمشق، من المحل الفلاني؟ قال: نعم. ولم يهتم بهذا لكني لفتُّ نظره لأنه سلفي معنا، فقلت: إذا كنتم تنكرون الكشف فهذا كشف، وأنا عرفت أن هذه الساعة التي هي لرجل ساكن في قرية بعيدة عن دمشق نحو مائة وخمسين أو مائتي كيلو متراً، وقريبة من حمص، قد اشتراها صاحبها من دمشق، فأصبتُ. هذه فراسة؛ لأنني ربطت بين هذه الماركة التي لا يُعرف تاجرها إلا في دمشق، والذي يريد أن يشتريها لا بد أن يأتي إلى هنا؛ لأنها ليست موجودة في بلادٍ أخرى، فأصبتُ الهدف تماماً، فلَفَتُّ نظره إلى هذه النكتة، وقلت: هذا كشف، وأنتم تنكرون الكشف. وفي نفس الوقت حصلت نكتة أبلغ من هذه بكثير: دخل عليَّ طالب علم قوي فيما يسمى بعلوم الآلة في النحو والصرف،. إلخ، فقال: يا شيخ! -بعدما سلَّم طبعاً- آية أشكل عليَّ مرجع الضمير فيها. فقلت له: لعلك انظروا! قلتُ: لعلَّ، ما قلت له: هي كذا؛ لأنني أحتاط، قلت لعلك تعني قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190] ! قال: والله هي هذه. ورجعتُ وقلتُ له: أما زلتم تنكرون الكشف؟! فهذا كشف. ماذا صار معي أنا؟! صار معي -إذا صحَّ التعبير- (كمبيوتر إلهي) ، فرجل طالب علم أقوى مني في علوم الآلة أَشْكَلَ عليه الضمير في آيه إلى أين يرجع؟! فعلى حدود ما علمت استحضرتُ الآية، وقلت له: لعلها هي! فقال: هي هي. فإذاً: هذا ليس كشفاًَ، بل هو عبارة عن فراسة، وعن مقدمات تقوم في نفس المتفرس، فيصيب الهدف أحياناً، يُخطئ أحياناً، كذلك المفسِّر أو المؤوِّل للرؤى، قد يصيب أحياناً، وقد يخطئ أحياناً، فهذا ليس له أي علاقة إطلاقاً بقضية اطِّلاعه على الغيب. هذا جواب ما سألتَه. مداخلة: أعرف من هذا النوع طالباً كان في الجامعة الإسلامية إبَّان كنتُ هناك، وكان هذا الطالب له تفرس صادق جداً، وأظن أن الحديث يشمله: (إن المؤمن يَعْرِف بالتوسم) ، فكان هذا الطالب وهو من الهند، يقول لي: أنا صرت أدعو الله عز وجل أن يباعد بيني وبين الفراسة، -أي: أن يخفي عني هذه الفراسة-. فقلت له: لماذا؟ قال: كنتُ إذا سرت في الشارع ونظرتُ في وجوه الناس عرفتُ أن هذا الإنسان قد يكون من وطء الحرام، إلى هذا الحد! قال: وكنتُ إذا سألتُ وأنتهي نهاية المطاف إلى نتيجة أعرف بها أنني أصبت في فراستي. ومن هذا ما جاء في السنة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام -وكان هذا أمراً معروفاً- أنه عندما مر بـ زيد بن حارثة وابنه أسامة وكانا مختلفين في اللون فقال: (أشهد أن هاتين القدمين من هاتين القدمين) أو معنى الحديث. فالفراسة تتعلق بالأشياء المرئية، وتتعلق بالأشياء غير المرئية، وهذا علمٌ موهوبٌ، وليس علماً يلتمس في صحائف الكتب.

فقه حديث: (لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون)

فقه حديث: (لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون) Q ما فقه الحديث: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم، يقاتل آخرهم الدجال) ؟ A الحديث ليس المقصود منه استمرارية الطائفة المنصورة في مباشرة القتال الذي هو القتال المادي؛ لأن هذا إنما يتعلق بهذا الزمن الطويل من بعد قوله عليه الصلاة والسلام لهذا الحديث الصحيح، وإنما المقصود به أن هذا القتال لا ينقطع عن هذه الطائفة المنصورة بالمرة، بحيث أنهم يبقون مغلوبين على أمرهم، فلا يستطيعون أن يقاتلوا مَن عاداهم لكن هذا الاستمرار لا ينفي أن يكون هناك انقطاع ما بين زمنٍ وزمن، هذا تماماً مثل الذي يخطر في بالي، وهو قوله عليه السلام: (إذا وضع السيف في أمتي فلا يرفع عنهم حتى تقوم الساعة) فلا يعني أن السيف ماضٍ مثل اللحَّام الذي يضع اللحم ويظل يقطع فيها خمس دقائق أو ربع ساعة فقط؛ بل معناه: لا ينقطع، ويمشي في زمن الفتنة كناية عن الفتنة والقتل الذي يقع بينهم، فهو يستمر لكن هذا لا يعني أنه لا ينقطع بسبب أن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أمتي كالمطر، لا يُدْرَى الخير في أوله أم في آخره) . خلاصة الجواب: أن القتال المذكور في الحديث إذا فُسِّر بالقتال المادي، فلا يعني أنَّهم يستمرون في القتال في كل لحظة من لحظات الحياة، وإنما المراد بالقتال منهم للكفار بأنه لا ينقطع إلى يوم القيامة، أي: يستمر، ولا يؤثر في ذلك حال التقطع ما بين قتال وقتال. وإذا كان المقصود بالقتال هو القتال المعنوي، وهو الحجة، فهذه -والحمد لله- مستمرة دائماً وأبداً حتى تقوم الساعة.

من فقه حديث: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)

من فقه حديث: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) Q ما فقه حديث: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، قيل: يا أبا هريرة! كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً) ؟ A هذا الحديث واضح جداً، ولا أدري ما هو السبب في السؤال عن هذا الأمر الواضح! النبي صلى الله عليه وآله سلم ينهى عن الانغماس في الماء الراكد إذا كان الإنسان جنباً، ولكنه يأمر بأن يغترف منه اغترافاً، فالأمر واضح جداً أن الانغماس يعرِّض هذا الماء الراكد لأحد شيئين ولا بد منهما: - إما للنجاسة. - وإما للقذارة. فإذاً: في سبيل المحافظة على طهارة الماء أو -على الأقل- على نقاوة الماء، النقاوة التي تلازمها الطهارة، فقد يكون الماء طاهراً لكنه قذر، حيث أن هذا الذي ينغمس في الماء إما أن يلوثه، وإما أن ينجسه، ففي سبيل المحافظة على ذلك كان من تأديب الرسول عليه السلام لأمته أن ينهى هذا أن ينغمس في الماء، فيأمره أن يغترف منه اغترافاً كما بيَّن ذلك راوي الحديث، وهو أبو هريرة رضي الله تعالى عنه. وبعد هذا البيان أريد أن ألفت النظر إلى أمرٍ نحن بحاجة إلى أن نلاحظه حينما ندرس السنة، وهو أن قول هذا الصحابي هنا يُشْبِه تماماً -في رأيي- قول صحابي آخر: فهنا سئل أبو هريرة، وهو راوي الحديث: ماذا يفعل هذا الذي نُهي أن ينغمس في الماء؟ قال: يغترف اغترافاً. فهنا نقول: الراوي أدرى بِمَرْوِيِّهِ من غيره. هنا نستفيد هذه الفائدة ونقعِّد هذه القاعدة في هذا الحديث، فنقول: راوي الحديث هذا ما دام أنه أجاب عن السؤال حينما رَوَى الحديث بقوله: (يغترف اغترافاً) فيكون هو أدرى بمعنى الحديث ممن قد يأتي بعده، ويتأوله بتأويلٍ آخر. فهذا يشبه تماماً جواب صحابي آخر، وأعني به أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، حينما روى: (أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يشرب الرجل وهو قائم، فسأل سائل: فالأكلُ؟ قال: شرٌّ) فليس في الحديث حكم الأكل قائماً، وإنما في الحديث حكم الشرب قائماً، فهو روى عن الرسول عليه السلام أنه نهى عن الشرب قائماً، فحينما سُئِل عن الأكل قائماً، أجاب بقوله: هو شرٌّ، أي: من الشرب قائماً. فحينئذٍ هذا الجواب يجب أن نتبناه؛ لأنه أعلم بِمَرْوِيِّهِ من غيره، وهذا بلا شك مقيد فيما إذا لم يكن هناك نصٌّ من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام ينافي جواب هذا الصحابي أو ذاك. بهذا ينتهي الجواب عن هذين الحديثين، وينتهي المجلس. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

أخذ الأجرة على القرآن

أخذ الأجرة على القرآن أجاب الشيخ على سؤال حول حكم أخذ الأجر على تعليم القرآن، فأجاب مفصلاً ومبيناً حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وكذلك العلوم المشتقة منه، وحكم تعليم السنة، ثم بين حكم أخذ الأجر على الرقية بالقرآن، كما تحدث في معرض ذلك عن ضوابط فهم السنة النبوية. بعد ذلك تحدث الشيخ عن مفهوم السنة الحسنة والسنة السيئة والتفريق بين السنة والبدعة، ثم بين حكم أخذ الهبة أو الأعطية على تعليم القرآن.

حكم أخذ الأجرة على العبادات

حكم أخذ الأجرة على العبادات بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. Q بالنسبة لتحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، نريد أن نستوضح عن تعليم القرآن، هل يدخل في ذلك، أو تعليم تفسير القرآن، أو تعليم تجويد القرآن؟ A كل العبادات لا يجوز أن يؤخذ عليها أجر، وكل العبادات أي: كل ما يدخل في النص العام (كل عبادة) ، وكل ما كان ديناً، كمثل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ، وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] . الآية الأولى صريحة الدلالة في الموضوع: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ، أما الآية الأخرى فتحتاج إلى شيء من الشرح والبيان، مما ذكره علماء التفسير. فقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [الكهف:110] قالوا: العمل الصالح هو الموافق للسنة، أي: فما كان مخالفاً للسنة فليس عملاً صالحاً، وهذا قد جاءت فيه أحاديث كثيرة تترى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كمثل قوله في الحديث المشهور والمعروف في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، والأحاديث في هذا المعنى معروفة إن شاء الله، فلا حاجة لإطالة الكلام بذكرها. وقوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [الكهف:110] أي: موافقاً للسنة: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] أي: لا يطلب أجر تلك العبادة من غيره تبارك وتعالى. والأحاديث التي تأمر بإخلاص النية في الطاعة والعبادة هي أيضاً كثيرة ومشهورة، فهذا النص القرآني بعد شرحه مع النص الأول، كلاهما نص عام على أن العبادة لا تكون عبادة إلا بشرطين اثنين: الشرط الأول: أن يكون على وجه السنة. الشرط الثاني: أن يكون خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى.

حكم أخذ الأجرة على القرآن

حكم أخذ الأجرة على القرآن فهذه النصوص عامة تشمل كل عبادة، أما بالنسبة للقرآن فهناك نصوص خاصة، من أشهرها وأصحها قوله صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا هذا القرآن، وتغنوا به، قبل أن يأتي أقوام يتعجلونه، ولا يتأجلونه) (يتعجلونه) أي: يطلبون أجره العاجل، ولا (يتأجلونه) أي: لا يطلبون الأجر الآجل في الآخرة، فلهذا كله لا يجوز لمسلم أن يبتغي أجراً من وراء عبادة يقوم بها إلا من الله تبارك وتعالى، وعلى هذا فليست القضية متعلقة بتلاوة القرآن فقط، وبصورة خاصة على الحالة التي وصل إليها بعض القراء اليوم، حيث صدق فيهم نبأ الرسول الكريم المذكور آنفاً: (قبل أن يأتي أقوام يتعجلونه، ولا يتأجلونه) . المسألة أعم وأوسع من ذلك بكثير، فلا فرق بين من يتلو القرآن للتلاوة فقط ويأخذ عليه أجراً، وبين من يعلم القرآن ويأخذ عليه أجراً، وبين من يفسر القرآن ويأخذ عليه أجراً، وبين من يعلم الحديث ويأخذ عليه أجراً، وبين من يؤم، ويؤذن، ويخدم المسجد، كل هذه عبادات لا يجوز لأي مسلم أن يبتغي من وراء الإتيان بها أجراً، إلا من عند الله تبارك وتعالى. فإذا عرفت هذه الحقيقة، وهي حقيقة كدت أن أقول: إنه لا خلاف فيها، ثم لم أقل؛ لأنني تذكرت خلافاً في جزئية واحدة ألا وهي القرآن الكريم، فإن بعض المذاهب المتبعة اليوم تقول: يجوز أخذ الأجر على القرآن، ولهم في ذلك حجة صحيحة روايةً، وليست صحيحة درايةً، أما أنها صحيحة رواية؛ فلأنها في صحيح البخاري، أما أنها ليست صحيحة درايةً، أي: لا يصح الاستدلال بهذه الرواية مع صحتها للاحتجاج على ما يناقض تلك الأدلة القاطعة بخاصة وبعامة، أنه لا يجوز أخذ الأجر على أي عبادة، وبخاصة منها القرآن الكريم.

نقض استدلال من يقول بجواز أخذ الأجرة على القرآن

نقض استدلال من يقول بجواز أخذ الأجرة على القرآن ذلك الحديث هو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) هذا الحديث في صحيح البخاري كما ذكرنا، وإنما قلنا: إنه لا يجوز الاستدلال به دراية مع صحته رواية؛ لأن لهذا الحديث مناسبة جاءت مقرونة مع الرواية نفسها، وهو في صحيح البخاري -كما قلنا- من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنه كان في سرية مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمروا بقبيلة من القبائل العربية، فطلبوا منهم أن ينزلوا عليهم ضيوفاً، فأبوا، فنزلوا بعيداً عنهم، فقدر الله تبارك وتعالى أن أرسل عقرباً فلدغت أمير القبيلة، فأرسل أحد أتباعه إلى هؤلاء الذين أرادوا أن ينزلوا عليهم فأبوا، وقال: انظروا لعل عندهم شيء؛ لأنهم من أهل الحضر، فجاء الرسول من قبل ذلك الأمير، فعرض عليه أحد الصحابة أن يعالجه، ولكن اشترط عليه رءوساً من الغنم -أنا نسيت الآن، إما عشراً وإما مائة- وهو رئيس قبيلة وغني، فقبل ذلك، فما كان منه إلا أن رقاه بالفاتحة بعد أن مسح بالبصاق مكان اللدغ، فكأنما نشط من عقال هكذا يقول في الحديث، فأخذ الجعل وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محتاطاً لعله لا يجوز أن يستفيد منه، فقال له عليه الصلاة والسلام الحديث السابق: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) . فاختلف العلماء هنا، فالجمهور أخذ بالحديث مفسراً بالسبب، والشافعية أخذوا بالحديث دون ربطه بالسبب، وهذا هو السبب في الخلاف، وينبغي أن يكون معلوماً لدى كل طالب للعلم، أن من الضروري جداً لمن أراد التفقه ليس في السنة فقط، بل وفي القرآن أيضاً، أن يعرف أسباب نزول الآيات، وأسباب ورود الأحاديث. فقد ذكر علماء التفسير أن معرفة سبب نزول الآية يساعد الباحث على معرفة نصف معنى الآية، والنصف الثاني يؤخذ من علم اللغة، وما يتعلق بها من معرفة الشريعة.

ربط الحديث بسبب وروده مما يعين على فهمه

ربط الحديث بسبب وروده مما يعين على فهمه كذلك نقتبس من هذا فنقول: كثير من الأحاديث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا مع ربطها بأسباب ورودها، منها هذا الحديث، وهناك أحاديث كثيرة، أيضاً، لا يمكن أن تفهم فهماً صحيحاً إلا بربط الرواية مع سببها، فحينما فصل الحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) عن سبب وروده؛ أعطى الإباحة العامة: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) فسواء كان الأجر مقابل التلاوة، أو كان مقابل تعليم القرآن، أو تفسير القرآن، وهكذا، فالحديث عام. ولكننا إذا ربطناه بسبب الورود؛ تخصص هذا العموم للوارد، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، وبخاصة منهم علماء الحنفية، حينما فسروا هذا الحديث: (أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) في الرقية، فأضافوا هذه الجملة (في الرقية) أخذاً لها منهم من سبب ورود الحديث. وهذا الأخذ لا بد منه؛ لكي لا يصطدم التفسير -إذا كان من النوع الأول- بقواعد إسلامية عامة ذكرناها آنفاً من بعض الآيات وبعض الأحاديث، وهذا من القواعد الأصولية الفقهية: أنه إذا جاء نص، سواءً كان قرآناً أو كان سنة، فلا يجوز أن يؤخذ على عمومه إلا منظوراً إليه في حدود النصوص الأخرى، التي قد تقيد دلالته، أو تخصصه فهذه كقاعدة لا خلاف فيها عند علماء الفقه والحديث، بل علماء المسلمين جميعاً. وإنما الخلاف ينشأ من سببين اثنين: إما ألا يرد الحديث مطلقاً إلى بعضهم، أو أن يرجع إليه مطلقاً دون السبب الذي يوضح معناه، كما نحن في هذا الحديث بالذات.

حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) مثال لما سبق

حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) مثال لما سبق ولعله يحسن أن نضرب مثلاً آخر؛ لأن له علاقة بكثير مما يثار اليوم ويجري النقاش حوله، ويستدل عليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء) إلى آخر الحديث. فإن جماهير العلماء اليوم وقبل اليوم ببضع قرون، يفسرون هذا الحديث تفسيراً على خلاف ما يدل عليه سبب وروده، فيقولون: معنى الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وعلى ذلك يضطرون إلى أن يخصصوا عموم قوله عليه السلام في الحديث السابق ذكره: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وكذلك يفعلون بالحديث الذي هو أوضح في الدلالة على عموم وشمول الذم لكل بدعة، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) . فحينما وقعوا في تأويل الحديث السابق: (من سن في الإسلام سنة حسنة) بمن ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، اضطروا توفيقاً بين ذاك الحديث وهذا المفهوم للحديث، ولا أقول بين ذاك الحديث وهذا الحديث؛ لأنه في الحقيقة لا تنافر ولا تنافي بينهما، وإنما جاء التنافر والتنافي بين ذلك الحديث العام الذي لا إشكال فيه: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) ، وبين الفهم الخاص لقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة) ، أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، فقالوا: إذاً قوله كل بدعة ضلالة من العام المخصوص، وحينئذٍ يكون معنى الحديث: ليس كل بدعة ضلالة. فما هو معنى الحديث الذي تأولوه بالبدعة؟ الحقيقة أننا نستطيع أن نفهم الحديث فهماً لا يتنافى مع العموم المذكور (كل بدعة ضلالة) من نفس المتن أولاً، ثم نبتغي دعماً لهذا الفهم من سبب وروده ثانياً. ذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما قال في الحديث: (من سن في الإسلام سنة) وصفها في الطرف الأول من الحديث بحسنة، وفي الطرف الثاني الذي استغنيت عن ذكره لشهرته بقوله: (سنة سيئة) فإذاً هذا الحديث يدلنا على أن في الإسلام سنة حسنة، وفي الإسلام سنة سيئة.

الشرع أساس التحسين والتقبيح

الشرع أساس التحسين والتقبيح هنا يأتي Q ما هو سبيل معرفة السنة الحسنة والسنة السيئة؟ أهو العقل والرأي المحض أم هو الشرع؟ A ما أظن أن قائلاً يقول: هو العقل والرأي، وإلا ألحق نفسه -ولا أقول نلحقه- بـ المعتزلة الذين يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين! هؤلاء المعتزلة هم الذين عرفوا منذ أن ذروا قرنهم وأشاعوا فتنتهم بقولهم: إن العقل هو الحكم، فما استحسنه العقل فهو الحسن، وما استقبحه العقل فهو القبيح. أما رد أهل السنة والجماعة بحق فإنما هو على النقيض من ذلك، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع. إذاً حينما قال عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: شرعاً، (ومن سن في الإسلام سنة سيئة) أي: شرعاً، فالشرع هو الحكم في أن نعرف أن هذه سنة حسنة، وهذه سنة سيئة، إذا كان الأمر كذلك حينئذٍ لم يبق مجال للقول بأن معنى الحديث: من سن في الإسلام سنة حسنة، أن المعنى: بدعة حسنة، فنقول: هذه بدعة لكنها حسنة، ما يدريك أنها حسنة؟ إن جئت بالدليل الشرعي، فعلى الرأس والعين، والتحسين ليس منك وإنما من الشرع، كذلك إن جئت بالدليل الشرعي على سوء تلك البدعة؛ فالشرع هو الذي حكم بأنها سيئة وليس هو الرأي. فهذا الحديث إذاً من نفس كلمة (حسنة وسيئة) نأخذ أنه لا يجوز تفسير الحديث بالبدعة الحسنة، والبدعة السيئة، التي مرجعها الرأي والعقل، ثم يندعم هذا الفهم الصحيح لهذا المتن الصحيح، بالعودة إلى سبب ورود الحديث، وهنا الشاهد. الحديث جاء في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد وغيرهما من دواوين السنة، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجاءه أعراب مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تمعر وجهه -أي تغيرت ملامح وجهه عليه الصلاة والسلام، حزناً وأسفاً على فقرهم الذي دل عليه ظاهر أمرهم- فخطب في الصحابة وذكر قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدق رجل بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره) (تصدق) : هو فعل ماض، لكن هذا من بلاغة اللغة العربية، أي: ليتصدق، فأقام الفعل الماضي مقام فعل الأمر، إشارة إلى أنه ينبغي أن يقع ويصبح ماضياً. ليتصدق أحدكم بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره، وبعد أن انتهى عليه الصلاة والسلام من خطبته قام رجلٌ ليعود وقد حمل بطرف ثوبه ما تيسر له من الصدقة، من طعام، أو دراهم، أو دنانير، ووضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما رأى أصحابه الآخرون ما فعل صاحبهم، قام كل منهم ليعودوا أيضاًَ بما تيسر لهم من الصدقة، قال جرير: (فاجتمع أمام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الصدقة كأمثال الجبال، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تنور وجهه كأنه مذهبة) قالوا في تفسير هذا التشبيه، (كأنه مذهبة) : أي: كالفضة المطلية بالذهب. في أول الأمر لما رآهم عليه الصلاة والسلام قال: تمعر وجهه أسفاً وحزناً لكن لما استجاب أصحابه لموعظته عليه الصلاة والسلام تنور وجهه كأنه مذهبة، وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة ... ) إلى آخر الحديث. الآن نقول: لا يصح بوجه من الوجوه أن يفسر الحديث بالتفسير الأول: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؛ لأننا سنقول: أين البدعة التي وقعت في هذه الحادثة، وقال عليه الصلاة والسلام بمناسبتها من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؟ لا نرى هناك شيئاً من هذا القبيل إطلاقاً، بل نجد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطبهم آمراً لهم بالصدقة، مذكراً لهم بآية في القرآن الكريم، كانت نزلت عليه مسبقاً، وهي: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون:10] وأكد ذلك ببعض حديث: (تصدق رجل بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره) إذاً ليس هناك إلا الصدقة، والصدقة عبادة، تارة تكون فريضة، وتارة تكون نافلة. فإذاً: لا يجوز أن نقول: معنى الحديث من ابتدع؛ لأنه لم يقع هنا بدعة، ولكن لو رجعنا إلى لفظة (سنَّ) في اللغة العربية، للمسنا منها شيئاً جديداً في هذه الحادثة، لكن ليست هي البدعة، الشيء الجديد هو قيام هذا الرجل أول كل شيء وانطلاقه إلى داره ليعود بما تيسر له من صدقة، فأصحابه الآخرون فعلوا مثل فعله، فسن لهم سنة حسنة، لكن هو ما سن بدعة، سن لهم صدقة، والصدقة كانت مأمور بها من قبل، كما ذكرت آنفاً. قد أكون أطلت قليلاً أو كثيراً، ولكن أرى أن هذا البيان لا بد منه لكل طالب علم؛ ليفهم النصوص الشرعية فهماً صحيحاً حتى لا يضرب بعضها ببعض. فقوله عليه الصلاة والسلام الذي أخذ بظاهره بعض العلماء فأباحوا أخذ الأجر على القرآن مطلقاً، لا يصح فهمه على هذا الإطلاق، بل ينبغي أن نربطه بالسبب وهو: الرقية، فلا يكون في ذلك أخذ الأجر المنصوص في الحديث لمجرد تلاوة قرآن أو تعليمه، بل للرقية بالقرآن الكريم، ويؤكد هذا أخيراً -ولعلي أكتفي بهذا الذي سأذكره- أن رجلاً علَّم صاحباً له في عهد النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فأهدى إليه قوساً ولكنه توقف حتى يسأل النبي. عوداً إلى حديث أبي سعيد، لماذا توقف أبو سعيد من الاستفادة من الأجر الذي أخذه من أمير القبيلة، وهذا الرجل الثاني لما أهديت له القوس توقف حتى سأل الرسول عليه السلام، لماذا توقف هذا وذاك؟ لأنهم كانوا فقهاء حقاً، وكانوا يفهمون مثل الآية السابقة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ف أبو سعيد قرأ القرآن ولو أنها مقرونة بالرقية، وهذا الآخر علم صاحبه القرآن، فخشي أن يكون ذلك منافياً للإخلاص في عبادة الله عز وجل. فكان من ذلك أن أبا سعيد تورع عن الانتفاع بالأجر الذي أخذه مقابل الرقية، حتى قال له عليه السلام ما سمعتم، أما هذا الرجل الثاني الذي علم صاحبه القرآن، لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له بأنه علمه فأهدى إليه قوساً، قال: (إن أخذتها طوقت بها ناراً يوم القيامة) فإذاً أخذ الأجرة على تعليم القرآن بهذا الحديث والحديث الآخر: (يتعجلونه ولا يتأجلونه) لا يجوز إطلاقاً.

حكم أخذ العطاء الذي لا يسمى أجرا على تعليم القرآن

حكم أخذ العطاء الذي لا يسمى أجراً على تعليم القرآن إلى هنا أكتفي بما سبق من بيان أن القرآن تعليماً وقراءة لا يجوز أخذ الأجر عليه ككل العبادات، ولكن هنا ملاحظة لا بد من ذكرها ولو بإيجاز، فالأجر كما تعلمون حقٌ مقابل عمل يقوم به الإنسان، هذا النوع من الأخذ المسمى لغة وشرعاً: أجراً، هو الذي يحرم شرعاً، ولكن إذا كان هناك نوع من المال يعطى لمن يقوم ببعض -لنقل الآن بالعرف الحاضر- الوظائف الدينية، من قبل الدولة، أو من قبل بعض الأثرياء والأغنياء -وما أقلهم في هذا الزمان- الذين يشعرون بأن عليهم أن يمدوا يد العون والمساعدة لبعض الفقراء، بل والأقوياء الذين تفرغوا لخدمة الإسلام بعمل ما، خدمة للإسلام، فتعطي لهم الدولة، فلا يجوز، أولاً: للدولة أن تسمي هذا أجراً، ولا يجوز للآخذين لهذا الشيء أن يأخذوه أجراً، وإنما يأخذونه بمعنى آخر هو مثلاً: الهبة، أو الجُعالة، أو العطاء، كما كانوا في السلف الأول، حينما كان الإسلام قوياً، وكان الجهاد في سبيل الله قائماً ومنشوراً، وكانت المغانم تملأ خزائن الدولة، حتى كانت الدولة توزع عطاءً على الناس حتى من لم يكن موظفاً منهم فيها. فهذا هو المخرج ممن كان إماماً، أو مؤذناً، أو خطيباً، أو مدرساً في مدارس، وكان علمه علماً شرعياً دينياً، فلا يجوز له أن يأخذ عليه أجراً، وعليه أن يأخذه بغير معنى الأجر، لما ذكرناه من الأدلة القاطعة، التي توجب على كل مسلم أن تكون عبادته خالصة لوجه الله تبارك وتعالى. ولكن الحق والحق أقول: أن مثل هذا الأمر يحتاج إلى نفس مؤمنة قوية جداً، بمعنى أنه لا فرق عند المؤمن عندما يقوم بواجبه الديني في أي علم كان، ابتغاء لوجه الله حقاً، فلا فرق عنده أعطي المال أم لم يعطه؛ لأنه إنما يعمل لوجه الله تبارك وتعالى. وبهذا أنهي الجواب عن سؤالك، والإضافة التي ألحقتها لإزالة حرج قد يجده بعض الناس في نفوسهم، وقد لا يشعر به الآخرون، فيقعون في إثم الأكل للمال أجراً على عبادة لا يجوز لهم أن يأخذوا مقابلها أجراً.

عدم تقليد الكفرة والتشبه بهم

عدم تقليد الكفرة والتشبه بهم ي هذه المادة يتحدث الشيخ عن حكم التشبه بالكفار مبيناً آثاره السلبية على الشخصية المسلمة، وقد ضرب لذلك بعض الأمثلة كلبس (البرنيطة) و (الكرفتة) وغيرها من ملابس الكفار الخاصة بهم، ثم تلكم عن حكم التعظيم بالقيام في المجالس.

النهي عن التشبه بالكفار

النهي عن التشبه بالكفار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. Q نرجو التفصيل في بيان المشابهة المقصودة في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في النهي عن مشابهة الكفار، وإيضاح الطائفة، وجزاكم الله خيراً. A كل شيء هو من خصائص الكفار ومن عاداتهم التي يتميزون بها على غيرهم، فالمسلم لا يجوز له أن يتزيا بشيء من تلك الخصائص والأشياء، ولاشك أن المسألة لا يمكن بسطها بدقة كما يبدو أن السائل يريد ذلك؛ وذلك لأن التشبه مراتب، وأنا أضرب لكم على ذلك بعض الأمثلة للتوضيح. ولا يزال المسلمون اليوم -والحمد لله- في أكثر بلادهم يستهزئون بأن يلبس المسلم ويضع على رأسه القبعة (البرنيطة) ، فالقبعة هذه هي شعار للكفار، فإذا وضعها المسلم على رأسه يكون قد تشبه في أبرز صفة أو زي خاص بالكفار، فلا يبقى هنا شك عند من كان على علم بهذا الحديث وأمثاله، أن هذا التزين وهذا اللباس لا يجوز؛ لأن هذا المسلم الذي نفترضه تقبع -إذا صح التعبير- بهذه القبعة، وأخذ يمشي بين المسلمين وهي عليه، لا شك أنه بذلك قد ضيع شخصيته المسلمة، ولازم ذلك أنه فك الرباط الوثيق الذي بينه وبين إخوانه المسلمين، ويستلزم من ذلك أن له حقوقاً عليهم كما أن لهم حقوقاً عليه قد ضيعها بفعله هذا، فنحن نذكر جيداً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس) فذكر أول ما ذكر فقال: (إذا لقيته فسلم عليه) فهذا حينما تلقاه في الطريق وقد تزيا بهذا الزي، لا يتبادر ولا يخطر في بالك إطلاقاً أن هذا الذي مر بك أو مررت به هو رجل مسلم له هذه الحقوق، وإنما تظنه من أولئك الكفار (جورج) أو نحو ذلك، ولا تندفع بإلقاء السلام عليه، وذلك من واجبه عليك؛ لأنك مسلم وهو مسلم، لكن الفرق أنه ضيع شخصيته المسلمة بلباسه هذا -لباس الكفار- فمنع رحمة الله عنه. أقول هذا؛ لأنكم تذكرون أني شرحت لكم أن السلام الذي اختص الله به المسلمين هو اسم من أسماء الله، كما جاء في الأحاديث الصحيحة: (وضعه في الأرض فأفشوه بينكم) فحينما يقول المسلم لأخيه المسلم: السلام عليكم، فهو كأنه يقول بالتعبير الثاني: (اسم الله عليك) أي: أنت محاط باسم الله السلام، فهو بسبب إضاعته لشخصيته المسلمة؛ حُرِم وافتقد هذه النعمة التي خص الله بها عباده المسلمين، وهذا يستلزم أموراً أخرى من التباعد والتقاطع والتدابر.

تأثير الظواهر في البواطن

تأثير الظواهر في البواطن إن هذا اللباس ليس كما يتوهم الكثير من الناس قاصري العلم والنظر، أنه لا تأثير له في أخلاق الناس، ولا تأثير له في طباعهم بل وفي قلوبهم ليس الأمر كذلك، بل الظواهر لها تأثير في البواطن، وهذا ثابت في نصوص شرعية كثيرة جداً، كنت ألممت بشيءٍ منها في دروس مضت. وحسبي أن أذكركم الآن بقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث النعمان الذي يقول في آخره: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فلباس الكفار هذا ليس صلاحاً إنما هو فساد، وهذا اللباس يؤثر في قلب لابسه، ويطبعه بطابع أولئك الناس الذين لبس لباسهم، وهنا أريد أن أستغلها فرصة قبل أن أتوسع في الموضوع أكثر، أريد أن ألفت النظر الآن كيف أن المسلمين شخصيتهم في زوال مستمر، في اضمحلال وانحلال، لقد ظهرت -الآن- ظاهرة غريبة جداً عمت كثيراً من الشباب: وهي أنهم يلبسون أقمشة بيضاء، إما أن تكون مطبوعة عليها هنا في الصدر، ما يشبه الهلال أو غيرها مما يكتب بالأحرف الإفرنجية، وكثير منها مصور عليها صور بشر، وبعض هذه الصور تمثل بعض الأبطال -زعموا- من الملاكمين أو المصارعين أو ما شابه ذلك، وشاهدت قريباً في بعض المساجد وأنا قائم أصلي بين يدي شاب، وهذا الشاب أعرفه يصلي ويحافظ على الصلاة، رأيت في قميصه صوراً من الأمام والخلف والجانبين، هكذا الثوب طبع بهذا الطابع، وما هذه الصور؟ صور رجل يسبح، وهذا السابح اليوم صار من الطبيعي أن يكون لباسه هو التبّان باللغة العربية، وهو (الشورت) هو الذي لا يستر إلا السوأتين بل لا يسترهما، لأنه يجسمهما، فأنا أصلي وبين يدي هذه الصورة! هذه غفلة شديدة جداً من هؤلاء المسلمين الجهلة بإسلامهم، وهذا معناه أن المسلمين كلما مضى عليهم عهد وزمن غير قصير، كلما ابتعدوا عن الإسلام رويداً رويداً، فأين الاعتزاز بالعزة الإسلامية والشخصية المسلمة، والمحافظة على عاداتنا التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا؟! إنسان يلبس قميصاً فيه زنجي مصور، فما حلاوة هذه الصورة؟! أصبح كل شيء غريباً علينا نتأسى ونقتدي به، وهذا معناه أن المسلمين لم يعودوا يعرفون قيمة التشبه بالكفار، لذلك كان من رحمة ربنا عز وجل بنا أن أرسل إلينا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع وصفه ربنا في قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] وزاد ذلك بياناً قوله عليه السلام: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يباعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه) ومما نهانا عنه النبي صلى الله عليه وسلم محافظةً على ديننا وعلى شخصيتنا المسلمة، ألا نتشبه بالكفار مطلق التشبه، لكني ضربت لكم مثلاً لا يمكن أن يشك فيه إنسان متجرد عن اتباع الهوى، أن وضع القبعة هذه على الرأس هو إضاعة لهذا المسلم وشخصيته، وانخلاع منه من هذا المجتمع الإسلامي، إذا كان بقي لهذا المجتمع ما يستحق أن يسمى بأنه مجتمع إسلامي.

أثر التشبه بالكفار

أثر التشبه بالكفار ولعل من المفيد أن أذكر لكم خلاصة قصة لتعرفوا أثر التشبه بالكفار، فبالأحرى نحن المسلمين أن نعرف ذلك ركبت مرة في قطار فاجتمعت مع قسيس ماروني لبناني، وجرى بيني وبينه نقاش طويل لست الآن في صدده، لكنه رجل أنكر على المسلمين تشددهم في مسألة اللباس وتحريم (البرنيطة) ، وكان أن ذكر من تشددهم أن أنكروا على مصطفى كمال ذلك الذي لم يرض لنفسه اسم المصطفى، فوضع له اسم أتاتورك، هذا القسيس ينكر على المسلمين لماذا أنكروا عليه وضع (البرنيطة) وفرضه على الشعب التركي (البرنيطة) وإلى الآن يعيش كثير من الأشخاص في هذا الزي التافه، فناقشته في هذه المسألة، وكما قلت: أريد أن أقدم إليكم العبرة من هذه المناقشة، هو يقول: إن هذا اللباس عالمي فما الذي يضر المسلمين أن يلبسوا هذا اللباس؟ وهو كما تفهمون من وصفي إياه بأنه قسيس ماروني، والماروني يلبس هذا الذي يسمونه (الطربوش) ، هذا الطويل الأسود، وهو طربوش خاص بالمارونيين، قلت له: إذاً لا بأس عليك من أن تنزع هذه القلنسوة السوداء وتضع بدلها العمامة البيضاء على (الطربوش) الأحمر، وهو لابس جبة سوداء بطبيعة الحال، فأول ما قلت له هذا قال: لا، ونفر من هذا، وهنا يأتي الشاهد، قلت له: لِمَ؟ قال: نحن لا يجوز لنا ذلك، نحن رجال دين، فأخذته من هذه الكلمة وقلت: هذا هو الفرق بيننا نحن معشر المسلمين وبينكم معشر النصارى، أنتم جعلتم أنفسكم طائفتين: رجال دين، ورجال لا دين، فرجال الدين لهم أحكام خاصة، منها: أن لهم لباسهم الخاص، فأنت ما فررت من أن تتشبه بالإسلام إلا لأنك تريد أن تحافظ على شخصيتك النصرانية، ونحن كل مسلم منا، أصغر مسلم منا كأكبر مسلم، ويجب عليه ما يجب على أكبر شيخ عندنا، ويجوز له ما يجوز على أكبر شيخ عندنا، فكما لا يجوز لك أن تتشبه بالمسلم كذلك لا يجوز عندنا لأي مسلم وليس لشيخ، وإنما أي مسلم لا يجوز له أن يتشبه بالكافر. إذاً: موضوع التشبه ليس موضوعاً تعبدياً، بل هو موضوع علمي نفسي دقيق جداً، وعلماء الفلسفة والاجتماع -كما يسمون اليوم- يقولون: الأمم بقاؤها بمحافظتها على عاداتها، وبمحافظتها على لغتها وتاريخها. والمسلمون -مع الأسف- رويداً رويداً يخسرون ويضيعون هذه الأسس التي بها تكون شخصيتهم.

صورة أخرى من التشبه

صورة أخرى من التشبه لقد أصبح التشبه بالكفار أمراً سهلاً جداً، فضربت لكم مثلاً: (البرنيطة) ولننزل درجة، فنأخذ وضع العقدة هذه التي يسمونها (الكرفتة) ، هذه ما المقصود منها يا ترى؟ لا شيء أبداً إلا أن هذا زي كافر نقله الكفار حينما استحلوا بلادنا، فزين الشيطان لنا ذلك الزي فقلدناهم وتشبهنا بهم، وإلا يكفي أن يستحضر العاقل الوقت الذي يضيعه -هذا إن صح التعبير- عندما يقف أمام المرآة ويضيع كذا من الدقائق بل الساعات حتى يزينها، ثم هو يتضايق فعلاً كما يتضايق كل واحد منكم مبتلى بلباس هذا البنطلون وأمثاله. فالخلاصة: هذا أيضاً لا يراد به إلا التشبه فقط، وإن هذا الذي يلبس (الكرفتة) تشبهه بالكفار ليس كالذي تشبه بوضع (البرنيطة) ، وكما كنا نسمع بعض المشايخ هنا من بني قومي كانوا يقولون: إن هذا الذي وضع (البرنيطة) على رأسه معناه وضع الغطاء وانتهى الأمر، أي: أعلن أنه ليس مسلماً. ثم ننزل إلى مراتب أخرى، هذا اللباس الذي ابتلي به جماهير الشباب اليوم في لبس البنطلون والقميص، لا سيما البنطلون كالمنخدعين بالموضات كما يسمونها، وقد ذكرت نكتة كانت تقال في النساء فأصبحت تقال في الرجال قرأت ذات مرة: أن رجلاً رأى صديقه يحمل في ذراعه شيئاً وهو يركض، فقال له: إلى أين؟ لماذا تستعجل؟ قال: هذا فستان أهديه لزوجتي، وأنا ذاهب لأسلمها إياه قبل أن تطلع موضة جديدة وسأضطر أن أشتري لها غيره! أصبحت الموضة وتجددها أمراً ليس خاصاً بالنساء فقط، بل تعدى حتى إلى الشباب، وهذا كله يدل ويؤكد لنا أن المسلمين أصبحت عقولهم مع غيرهم، وليس هناك مسلمون أمثالهم.

أهمية مخالفة الكفار

أهمية مخالفة الكفار أخيراً: المراتب لا تنحصر إطلاقاً، لكن على المسلم أن يحاسب نفسه ليعلم أن التشبه هو كل شيء جاءنا من الكفار، ولا فائدة فيه مطلقاً سوى التقليد أو التشبه، على أن هناك مرتبة أخرى إذا ما تذكرها المسلم، أنه حينذاك لم يبق هناك ضرورة لذكر ذاك الطلب الذي يطلب تفصيل التشبه ومراتبه ودرجاته، وذلك هو تقصد مخالفة الكافر، والتشبه أن تفعل فعل الكافر، وهذا كما رأيتم مراتب ودرجات، لكن هناك شيء في الشرع يطالبك أن تتعاطى أعمالاً تصدر منك تقصد بها مخالفة الكفار، حتى في شيء ليس من ملكك ولا من طوعك، ذلك ما أفادنا إياه الرسول صلوات الله وسلامه عليه، في حديث البخاري: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون شعورهم فخالفوهم) إن اليهود والنصارى لا يصبغون شعورهم إذا ما شابت، فاقصدوا أنتم مخالفتهم في صبغكم لشعوركم. والإنسان يشيب، وهذه سنة الله في خلقه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23] لا فرق بين مسلم وكافر، بين صالح وطالح، كلهم لابد أن يمروا في هذا الطريق، وهو الشيب، والرسول صلى الله عليه وسلم قد شاب كما نعلم، مع هذا كله يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا شاب أحدكم فليصبغ شعره) لماذا؟ ليخالف اليهود والنصارى الذين لا يصبغون شعورهم. إذاً: نحن لسنا منهيين فقط عن التشبه بالكفار، بل نحن مأمورون بأن نقصد مخالفتهم، أي: إذا لبسوا لباساً فعلينا أن نتحفظ أن نلبس غير لباسهم، وأن نجعل حياتنا كلها جملةً وتفصيلاً غير حياة الكفار، وهذا -كما قلت لكم آنفاً- ليس أمراً عبثاً، فالظواهر تؤثر في البواطن، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر. ولعل بهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين. السائل: ما حكم الصلاة (بالبرنيطة) ؟ الشيخ: لا يستطيع أحدهم أن يسجد وعليه (البرنيطة) ، لكنهم إذا دخلوا المساجد يخلعون ما على رءوسهم كما يخلعون ما على أرجلهم.

حكم لبس العمائم

حكم لبس العمائم Q ما هي العمائم؟ A العمائم: هو لباس من لباس العرب، فمن لبسه كعادة عربية فذلك أمر حسن، لكنها ليست سنة تعبدية، وليس كما جاء في بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة: (إن الصلاة بالعمامة بسبعين صلاة بغير عمامة) فهو من زي العرب ولا يزالون يستعملونها، ولكن لا يظنن ظانٌ أن العمامة هي هذه التي تكور على الرأس طبقات ودرجات، ولكل درجة علو في الجنة درجة، هذا شيء لا أصل له، فالعمامة هي هذه الحطة التي نضعها على رءوسنا نكورها أحياناً من البرد أو من الحر وهكذا. والسلام عليكم.

التحذير من تقليد الكفار والتشبه بهم

التحذير من تقليد الكفار والتشبه بهم إن تشبه المسلم بالكافر خلل في العقيدة وجريمة نكراء حذرت منها الشريعة، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن حكم التعظيم بالقيام في المجالس أو الركوع والسجود، مبيناً نهي النبي صلى الله عليه وسلم وكراهيته الشديدة لهذه الفعلة الشنيعة.

حكم القيام في المجالس

حكم القيام في المجالس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. لم يكن بودي في هذه الليلة أن أتكلم بشيء؛ لأننا رغبنا أن نسمعكم صوتاً جديداً من أخٍ لنا قديم، من إخواننا السلفيين الذين استجابوا لله وللرسول، حين دعاه وإخوانه إلى اتباع الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح. أردنا أن نعطيه هذا الوقت ليتكلم بما يبدو له مما ينفع الناس جميعاً والسلفيين خاصة، وكنت أرى أنه إن بقي عندنا شيء من الوقت المعتاد أن نجيب عن الأسئلة التي يوجهها إخواننا عادة، ولكن بدا لي وأنا داخل إلى هذا المكان أن أتكلم بكلمة على الرغم من ذلك، وذلك لأنه جاءت أيضاً مناسبة، وهي أن أخاً لنا في الغيب -لا نعرفه من قبل- زارنا قبل أيام ثم زارنا في هذه الليلة، ولاحظ في مجلسنا شيئاً من الحرية من إخواننا معي، باعتباري شيخاً لهم عند هذا الزائر الكريم، فحدثته بأننا لسنا مع إخواننا كما تعلم من المشايخ مع مريديهم وتلامذتهم، وأردت أن ألفت نظره بأننا سندخل الآن إلى المجلس، فقلت: قد ترى شيئاً أيضاً لا يعجبك، قال: ماذا؟ قلت: ستراني أدخل المجلس ولا أحد يتحرك إطلاقاً، فأجاب كما هو مستوى أي متعلم وعاش على ذلك مدة من الزمن، أجاب: لهم ألا يقوموا ولهم أن يقوموا، وباعتباره زائراً وقد لا تتاح لي هذه الفرصة أن أتكلم معه بهذه المسألة في جلسة خاصة من جهة، فخشية أن تفوتني هذه الفرصة وأن يفوتني هذا الصيد الثمين المهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: أنني أعلم أنه يحضر جلستنا هذه كثير من الإخوان الطيبين، والذين تثقفوا بثقافة يظنون أنها من الإسلام وهي ليست من الإسلام في شيء، إنما هي تقاليد تسربت إلينا منذ القديم، من تقاليد فارس والروم. ولقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم صلاة الظهر بهم جالساً، فصلى أصحابه خلفه قياماً، فأشار إليهم وهو في صلاته أن اجلسوا، فجلسوا، وحينما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال لهم: إن كدتم لتفعلن آنفاً فعل فارس بعظمائها، يقومون على رءوس ملوكهم، إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين) . الشاهد من هذا الحديث هو: أن من عادة الأمم أن يأخذ بعضها عن بعض، وأن يقلد بعضها بعضاً، وإنما يأخذ الضعيف من القوي، وإنما يقلد الضعيف القوي، كما هو واقعنا اليوم تماماً، فقد أصبحنا على الرغم من ديننا وإسلامنا -بسبب بعدنا عن إسلامنا- أصبحنا أمة ضعيفة تقلد الأقوياء في المادة، وليتهم كانوا أقوياء في الدين وفي العقيدة وفي الخلق، أصبحنا نقلدهم؛ لأننا ننظر إليهم بعين الإجلال والإكبار والتعظيم، هذه هي عادة الأمم، ضعيفها مع قويها، وحقيرها مع عظيمها، لذلك جاء الإسلام في جملة ما جاء به من المقاصد والقواعد، أن نهى المسلمين أن يتشبهوا بالكافرين؛ وذلك لأن التشبه هو مدعاة لإضاعة شخصية الأمة، ولتمييعها في شخصية أمة أخرى، فطالما جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تترى بعبارات متنوعة شتى، كلها تؤدي إلى حقيقة واحدة، ألا وهي حافظوا على شخصيتكم المسلمة، ولا تقلدوا الكفار في شيء من تقاليدهم ومن عاداتهم. ولست أريد الخوض في شيءٍ من التفصيل في هذا، أو على أصل من تلك الأصول التي ألمحت إليها آنفاً، وقد كنت تحدثت بشيء من التفصيل عن ذلك في كتاب: حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة، وإنما أردت أو عزمت على الكلام على جزئية من الجزئيات التي فشت اليوم في مجالس المسلمين، وبناءً على كلمة الأخ المشار إليه سابقاً، أن الشيخ إذا دخل المجلس فللناس الجالسين أن يظلوا جالسين وأن يقوموا؛ فنحن نقول: إذا دخل الشيخ مجلساً فليس لأحد أن يقوم له؛ لأن هذا الشيخ مهما سما وعلا فلن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مذكوراً، وقد علمنا من السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد البشر، وأن أصحابه عليه الصلاة والسلام هم أفضل البشر بعد الأنبياء والرسل، فإذاً: هم أعرف الناس بما يستحقه أعظم الناس وسيد الناس وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، من التبجيل والإكرام والتعظيم كيف لا وقد سمعوه عليه الصلاة والسلام يقول لهم مراراً وتكراراً: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه) هذا حديث رواه إمام الأئمة محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه الأدب المفرد، من طرق عديدة وعن جماعة من الصحابة، ومما روى أيضاً: (إن من إجلال الله- من تعظيم الله- إجلال ذي الشيبة المسلم) . هؤلاء الصحابة الذين تأدبوا بأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخرجوا من مدرسته، وصاحبوه ما شاء الله عز وجل من سنين كلٌ بحسبه، ما كان لهم إلا أن يعظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم التعظيم الذي يستحقه، فهل كان من ذلك أنه إذا دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس كهذا -وبدون تشويه كما يقولون-. هل كان أحدٌ منهم يقوم له؟ إذا رجعنا إلى السنة الصحيحة وجدنا الجواب صريحاً بالنفي.

كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم للقيام له

كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم للقيام له وذلك أيضاً مما رواه إمام الأئمة في الكتاب السابق الذكر: الأدب المفرد:، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك] إذاً: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقومون لسيدهم، بل سيد الناس جميعاً تُرى أهذا استهتار منهم وعدم مبالاة بتعظيم الرسول عليه السلام، وإكرامه الإكرام الذي يليق ويجوز شرعاً، أم هو تجاوب منهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي أفهمهم بأن هذا القيام هو من عادة الأعاجم، وقد نهوا -كما أشرنا في مطلع هذه الكلمة- في أحاديث جمة عن التشبه بالكفار؟ فلاشك أن عدم قيامهم للرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان من احترامهم له وتعظيمهم له؛ لأن الله عز وجل يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم حق الاتباع يستلزم أن يعرض الإنسان عن أهوائه وعن عواطفه تجاه أمر نبيه صلى الله عليه وآله سلم وسنته، لذلك كان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقومون له، لماذا؟ الجواب في نفس الحديث: لما يعلمون من كراهيته لذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره من أصحابه أن يقوموا له، تُرى لماذا؟ بعض الناس ممن اعتادوا مخالفة هذه السنة ممن يقومون لغيرهم، وممن يقام لهم، يتأولون هذا الحديث بغير تأويله، ومع ذلك فتأويلهم هذا يعود عليهم لا لهم، يقولون: لما يعلمون من كراهيته لذلك، أي: الرسول عليه الصلاة والسلام كان متواضعاً، كان أشد الناس -بلا شك- تواضعاً، فمن تواضعه أنه لا يحب أن يقوم الصحابة له. نحن لا نسلِّم بهذه العلة، نحن نسلِّم أن الرسول عليه الصلاة والسلام -بلا شك- أشد الناس تواضعاً، لكن لا نسلم أبداً بأن هذه هي العلة، وسنذكر ما هي العلة، لكن نقول لهؤلاء المتأولين بهذا التأويل: فما بالكم أنتم لا تتواضعون تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ألستم أنتم أولى بأن تتواضعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال للناس: (صلوا عليّ) وكما يقولون: كلام يجر كلام (صلوا عليَّ) أتدون ما المعنى؟ يعني: ادعوا لي بأن الله يزيدني شرفاً ومجداً، وعلواً ومنزلةً، هذا قد يخالف التواضع، لكننا نحن نقول: حينما يأمر الناس بأن يصلوا عليه، إنما يأمرهم بأمر الله له أن يأمرهم بأن يصلوا عليه؛ لأن ذلك أقل ما يستحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بسبب أنه كان هداية للناس، كما قال تعالى في القرآن: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتواضع هذا التواضع فلا ضير عليه، لكن أنتم عليكم الضير كله؛ لأنه يخشى عليكم الفتنة، يخشى عليكم أنكم إذا اعتدتم من الناس أن يقوموا لكم أن يدخل الشيطان فيكم -الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم- أن يدخل الشيطان دخولاً خاصاً، فيغير من أخلاقكم ومن عاداتكم وطباعكم، فيصبح أحدكم إذا دخل المجلس وقاموا له، ورأى واحداً في المجلس لم يقم له فكأنما كفر بالله ورسوله. ماذا فعل هذا الإنسان؟ أقل ما يقال كما تقدم آنفاً: إن له أن يقوم وله ألا يقوم، فهذا لم يقم، فلماذا قامت عليه القيامة؟ لأنهم فهموا أن هذا القيام دليل احترام، وتركه دليل إهانة وعدم إكرام، فيا ترى هل كان الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام لا يكرمونه؟! أكانوا يهينونه بترك القيام؟! حاشا وكلا! لكن لما انحرف الفهم الصحيح لهذا الحديث: (لما يعلمون من كراهيته لذلك) انحرف بهم الأمر فقالوا: الإكرام بالقيام لا بأس به ولماذا كان أصحاب الرسول لا يقومون للرسول؟ تواضعاً منه، هكذا يقولون، نقول: تشبهوا برسول الله واقتدوا به، وتواضعوا تواضعه، ولا تطلبوا من أصحابكم أن يقوموا لكم، بل أشيعوا بينهم أنكم تكرهون القيام، وماذا تكون النتيجة والعاقبة؟ كما كان الأمر بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين الصحابة، يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام المجلس ولا أحد يقوم له، فهل هذا إهانة له؟ حاشا! وإنما هو إكرام له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان يأمرهم بذلك، فلو أننا نحن الذين ننتمي إلى العلم، وننتمي إلى التمسك بهذا الدين، وسلكنا سبيل الرسول عليه الصلاة والسلام في كل شيء، ومن ذلك: أن نكره ما كرهه عليه السلام خاصة، من مثل هذه الآداب الاجتماعية التي تفسد القلوب وتفسد الأخلاق، لكنا في مجتمع ليس كهذا المجتمع، ولكنا في مجتمع ليس فيه تقاليد الأعاجم الكفار. أما الجواب الصحيح لقول أنس بن مالك السابق الذكر: [لما يعلمون من كراهيته لذلك] فهي كراهية شرعية، فالرسول يكره هذا القيام، لأنه من عادة الأعاجم، وقد سمعتم آنفاً حديث جابر، وعندما وقفوا خلف الرسول عليه السلام قياماً لمن؟ ولماذا؟ تحقيقاً لنص القرآن الكريم: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] إذاً: هم لم يقوموا لمحمد عليه الصلاة والسلام القاعد في صلاته مضطراً، وإنما قاموا لله رب العالمين، فنيتهم تعظيم الله عز وجل لا غير، ماذا فعل معهم الرسول عليه السلام؟ ما صبر حتى انتهى من صلاته، وإنما عجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأشار إليهم في الصلاة بيده أن اجلسوا، وبعد الصلاة شرح لهم بلسانه وبيانه فقال: (إن كدتم لتفعلن آنفاً فعل فارس بعظمائها، يقومون على رءوس ملوكهم) . وهناك فرق كبير كما يبدو لكل إنسان يسمع بهذا الحديث بين ملوك فارس، كسرى يجلس على عرشه (المطنطن المفخم) ، وحوله حاشيته ووزراؤه قياماً، وهو يجلس تعاظماً، وهم يقومون تعظيماً له أين هذه الظاهرة من جلوس الرسول عليه السلام في الصلاة وليس خارج الصلاة، ومضطراً وليس اختياراً، وقيام الصحابة أيضاً في الصلاة وليس في المجلس أيضاً هم مضطرون طاعة لله رب العالمين، يقومون لله قانتين أين هذه الظاهرة من تلك؟ شتان ما بينهما، ومع ذلك قال لهم عليه الصلاة والسلام: (إن كدتم لتفعلن فعل الأعاجم مع ملوكم، يقومون على رءوس ملوكهم) ، فلم يقولوا: يا رسول الله! هم يقومون تعظيماً لملكهم؛ لأنهم يفهمون أن هناك أموراً محرمة لذاتها وأموراً أخرى محرمة لغيرها؛ لأنها تؤدي إلى شيء محرم، من ذلك: تبني المسلمين عادات الأجانب والأعاجم، فمن هذه العادات: هذا القيام الذي ابتلي به جماهير المسلمين اليوم، والسبب تعرفونه جميعاً وهو الابتعاد عن السنة وعن الاهتداء بهدي السلف الصالح، وهذا بحث طويل، وأنا لا أريد الاستمرار فيه، لنفرغ المجال لضيفنا الكريم ليلقي ما شاء الله عز وجل أن يلقي عليكم من الفوائد، وإنما أختم هذه الكلمة بقصة فيها علل وفيها طرافة وفائدة:

قصة أبي عبد الله بن بطة مع أحد العلماء

قصة أبي عبد الله بن بطة مع أحد العلماء يذكر أهل التاريخ في ترجمة أبي عبد الله بن بطة وهو من كبار علماء الحديث عند الحنابلة، أنه كان يكره أشد الكراهة هذا القيام الذي اعتاده الناس اليوم وقبل اليوم بمئات السنين، فخرج ذات يوم مع صديق له شاعر إلى السوق، فمرا برجل عالم جالساً في محله، وهذا من أدب العلماء قديماً، أنهم كانوا يعتمدون في تحصيلهم لرزقهم على كد يمينهم وعرق جبينهم، فمرا بهذا العالم مسلِّمَينَ، فقام هذا العالم لـ ابن بطة، وهو يعلم أن ابن بطة يكره هذا القيام على نحو ما تسمعون ذلك، فاعتذر إليه ببيتين من الشعر، وقال له: لا تلمني على القيام فحقي حين تبدو ألا أمل القياما أنت من أكرم البرية عندي ومن الحق أن أجل الكراما كلام العالم بعضه صحيح: فمن حقه أن يجل الكرام، وقد ذكرنا حديثاً بل حديثين آنفاً، أن من حق المسلم إجلال الرجل الكبير، ولكن هل يكون الإجلال بمخالفة السنة؟ هل -مثلاً- يكون الإجلال بالسجود؟ لا. كل الناس يقولون: لا. هذا سجود لغير الله لا يجوز -عفواً لقد قلت: كل المشايخ يقولون: بأنه لا يجوز السجود لغير الله، وكنت أتمنى أن أكون موفقاً للصواب حينما قلت: كل المشايخ، لكن آسف ومضطر أن أقول: ليس كلهم يقولون كذلك، فهناك في بعض الطرق من تقاليدهم أن المريد حينما يريد أن يأخذ الإذن من الشيخ أن يطوف في المجلس فيسجد للشيخ، ويقولون: هذا سجود تعظيم وليس سجود عبادة. قد تكلمنا عن هذا في كثير من الرسائل هل يعظم المسلم بالسجود؟ الجواب والحمد لله: لا. على الأقل عند الجمهور، أما أولئك فهم شواذ، وعندنا حديث معاذ بن جبل لما جاء إلى هذه البلاد قبل فتحها بالإسلام ورجع إلى المدينة، فأول ما وقع بصره على النبي صلى الله عليه وسلم هوى ليسجد له، فقال له: (مه يا معاذ! قال: يا رسول الله! إني أتيت الشام فرأيت النصارى يسجدون لقسيسيهم وعظمائهم، ورأيتك أنت أحق بالسجود منهم) هذا كلام صحيح، لو كان السجود لغير الله جائزاً، فهو أحق أن يسجد له ممن يسجد للقساوسة والرهبان. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها) وذلك لعظم حقه عليها، وفي حديث: (لكن لا يصلح السجود إلا لله تبارك وتعالى) . إذاً: لا يجوز تعظيم المسلم بالسجود؛ لأن هذه خصوصية لله عز وجل. ومن إجلال المسلم أن أركع له؟ الجواب أيضاً: لا. إلا في بعض الطرق، أو الذين استجازوا السجود فمن باب أولى يستجيزون الركوع. وجاء في حديث أنس بن مالك أيضاً في سنن الترمذي وغيره، قال سائل: (يا رسول الله! أحدنا يلقى أخاه أفيلتزمه؟ قال: لا. قال: أفينحني له؟ قال: لا، قال: أفيصافحه؟ قال: نعم) إذاً: الانحناء أيضاً كتحية أجنبية لا تصح من مسلم لمسلم، فذاك العالم لما قال: ومن الحق أن أجل الكرام هذا كلام صحيح، لكن عمله ليس صحيحاً؛ لأنه ليس وسيلة مشروعة لتعظيم الرجل للعالم؛ لذلك قال ابن بطة لصاحبه الشاعر، ويبدو أن هذا الشاعر كان يعرف رأي ابن بطة بدقة، وكان فيما يبدو أيضاً شاعراً بالفطرة أو بالسليقة، فعلى الفور وعلى القافية أجابه بقوله: أنت إن كنت لا عزمتك ترى ليَ حقاً وتظهر الإعظاما فلك الفضل في التقدم والعلم ولسنا نريد منك احتشاما الشاهد هنا: فاعفني الآن من قيامك أولا فسأجزيك بالقيام قياما وأنا كارهٌ لذلك جداً إن فيه تملقاً وأثاما لا تكلف أخاك أن يتلقاك بما يستحل به حراما كلنا واثقٌ بود أخيه ففيم انزعالنا وعلاما لذلك فواجب الدعاة المسلمين المخلصين حقاً، أن يرجعوا بهذا المجتمع الإسلامي الضخم إلى العهد الأول في كل شيء، ليس فقط في العقيدة، وليس فقط في العبادة، وإنما إلى الإسلام كله، ومن ذلك العادات والتقاليد، نحافظ عليها كما ورثناها عن سلفنا الصالح، وهذا واضح جداً، فلو أن المجتمع الإسلامي اليوم كان متربياً على ما ربى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه لم يكن لهذا القيام محل من الإعراب -كما يقولون- لماذا؟ قال هذا الشاعر المتفقه من العالم الفقيه: وإذا صحت الضمائر منا اكتفينا من أن نتعب الأجساما كلنا واثقٌ بود أخيه ففيم انزعالنا وعلام لذلك نسعى بما عندنا من علم، ونتعاون مع إخواننا المسلمين جميعاً، على أن نعود إلى هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو كما سمعتم آنفاً وتسمعون بين كل كلمة نقولها: فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

بيع التقسيط

بيع التقسيط بيع التقسيط حكم التصوير رسم الصليب على الملبوسات غوامض من مصطلح الحديث، مواضيع مهمة ومفيدة تحدث عنها الشيخ عليه رحمة الله في هذا اللقاء العظيم.

ضابط تقديم فهم الراوي للحديث على غيره

ضابط تقديم فهم الراوي للحديث على غيره Q إذا كان فهم الراوي للحديث الذي يرويه حسب القاعدة القائلة: أنه يُقَدَّم على فهم غيره، فهل هذه تكون مطردة دائماً، أما أن لها ضوابط تقيدها؟ A لا يوجد شيءٌ مُطَّرِد، هذا نادر جداً، بل لا بد من التقييد، مثلاً: إذا كان فهمه يخالف نصاً، أو يخالف رواية أخرى يرويها ثقة؛ فحينئذ لا يُعْتَد بهذا الفهم، وإذا كان رأياً انفرد به، وهناك اجتهادات قائمة على استنباطات سليمة عند العالِم من الكتاب والسنة، فليس مُكَلَّفاً -والحالة هذه- بأن يتَبَنَّى رأي الراوي. لكن أين ثمرة تَبَنِّي رأي الراوي، وأن الراوي أدرى بمَرْوِيِّه من غيره؟! هذه تكون في حالة ما إذا فهم الراوي من الحديث كذا، وأنا أفهم كذا، فلا يقال: أولئك رجال ونحن رجال، لا. فهذا الفهم الخاص هنا ليس له علاقة، أما إذا جاء الراوي بدليل من الشرع يؤيد رأيه الخاص؛ فحينئذ ليس مكلفاً أن يَتَبَنَّى رأي ذاك الراوي. انظر -مثلاً- المثال الذي نحن نذكره بمناسبة الكلام على بيع التقسيط، هناك حديث في مسند الإمام أحمد من رواية سماك بن حرب، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) . الآن توجد أقوال كثيرة في تفسير بيعتين في بيعة، منها: قول سماك هذا الراوي للحديث، لما قيل له: [ما بيعتين في بيعة؟ قال: هو أن تقول: أبيعك هذا بكذا نقداً، وبكذا وكذا نسيئةً] ، هذا الرأي لا مبرر ولا مسوغ لنا مطلقاً أن نعرض عنه؛ لأنه: أولاً: داخل في القاعدة. ثانياً: لا يوجد ما ينقضه. ثالثاً: بل يوجد ما يؤيده، وهو حديث أبي هريرة باللفظ الآخر: (من باع بيعتين في بيعة فله أَوْكَسُهُما أو رباً) ، فهذا الوَكس لا يظهر معناه إلا في هذه الصورة التي فسرها سماك بن حرب.

حكم البيع الآجل بشرط زيادة ثمن السلعة

حكم البيع الآجل بشرط زيادة ثمن السلعة Q بالنسبة لبيع الآجل، هل هو منهي عنه؛ لأنه نقد وآجل في وقت واحد؟ فعندنا رجل في اليمن يبيع بيعاً آجلاً فقط، لا يبيع نقداً، ويزيد في ثمن السلعة، فهل هذا داخل في هذا النهي، علماً بأنه لا يبيع نقداً مطلقاً؟ A لماذا؟! بعد أن نعرف جواب (لماذا؟) نستطيع أن نجيبك؛ لأني أخشى أن يكون يَمَنِيُّكم ككُوَيْتِيِّنا! هل تعرف ماذا فعل؟! كان يبيع بسعرين؛ سعر النقد، وسعر التقسيط، فلما بلغه النهي عن الرسول عليه السلام عن بيعتين في بيعة، وأنه لا يجوز أن يأخذ الزيادة مقابل التقسيط؛ لأنه سيصير هناك سعران، حينئذٍ وحَّد السعر، فجعل البيع كله -كما تقول عن صاحبك- بيعاً نقدياً؛ لكن بسعر التقسيط، فهل فهمت؟! السائل: لا. الشيخ: هذه المسجلة، يبيعها أحد التجار نقداً بمائة دينار، وآجلاً -أي: بالتقسيط كما يقولون اليوم- بمائة وعشرين ديناراً. فهذا التاجر الكويتي عنده وكالة سيارات ضخمة، وأنت تعرف الكويت قبل حدوث هذه المشكلة، فكان يبيع بسعرين، فالسيارة التي ثمنها مثلاً عشرين ألف دينار نقداً، يبيعها بخمسة وعشرين ألف دينار بالتقسيط إلى سنة، أو ما شابه ذلك، فهو صار يبيع السيارة التي كان يبيعها نقداً بعشرين ألف دينار. صار يبيعها بخمسة وعشرين ألف دينار، إلى هنا وضح. السائل: نعم. الشيخ: حسناً! فهو مثلاً له زبائن، نصف الزبائن كانوا يشترون بسعر العشرين، والنصف الآخر بسعر الخمسة وعشرين، والآن أصبح الزبائن كلهم يشترون بالخمسة وعشرين، فهو كان يظلم النصف، ثم صار يظلم الكل هل وضحت لك الصورة؟ السائل: وضحت. الشيخ: إذاً: نحن الآن نريد أن نفهم من هذا الأخ: لماذا لا يبيع سعر التقسيط بسعر النقد؟ لماذا وحَّد البيع ببيع النقد؟ لماذا لا يبيع بسعر التقسيط؟! إن كان تحاشياً كما فعل الكويتيون فقد زاد ظلماً على ظلم! وإلا فنحن نريد أن نعرف لماذا؟ لأنني أنا حينما أتكلم عن هذا البيع أقول: إن التجار كما قال عليه الصلاة والسلام: (هم الفجار إلا من بر وصبر) ، فهؤلاء التجار مِن جَورهم وفجورهم أنهم يستغلون حاجة المحتاج، فيزيدون على الذي لا يجد السعر نقداً يزيدون عليه في الوفاء آجلاً، هؤلاء التجار الفجار لو كانوا من المستثمرين كأن يستغلوا تجارتهم في الخير، فإنهم يربحون من الأجر والثواب عند الله أكثر من قائم الليل وصائم النهار، أفهمتَ؟ لو كانوا كذلك لكسبوا عند الله عز وجل أكثر من ثواب قائم الليل وصائم النهار. كيف ذلك؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الثابتة: (قرض درهمين صدقة درهم) أي: أنت إذا أقرضت أخاك المسلم درهمين؛ كأنك تصدقت بدرهم لوجه الله، فإذا أقرضت صاحبك المسلم مائة دينار، كأنك تصدقت بخمسين، وعلى ذلك فقِس. الآن هذا التاجر كلما باع بيعاً بسعر واحد وهو سعر النقد -لكن ليس سعر النقد الكويتي، انتبه! - فكلما ربح تكون أضعافاً مضاعفة؛ لأن هذا التاجر يبيع بعشرة آلاف ويبيع بعشرين ألفاً فإذا أقرض الشاري للسيارة عشرين ألفاً فكأنه تصدق بعشرة آلاف الله أكبر! تجارة رابحة جداً؛ لكن حب الدنيا وكراهية الموت -الذي جاء في الحديث المعروف لديكم جميعاً- هو علة الأمراض القائمة اليوم في المجتمع الإسلامي: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) . والحديث الآخر: (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمِن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا. أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولَيَنْزعن الله الرهبة من صدور عدوكم، ولَيَقْذِفن في قلوبكم الوَهْن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) . فإذاً: حب الدنيا، وحب المال -مِن أي طريق جاء- هو المسيطر الآن على أغلب تجار المسلمين؛ إلا من عصم الله، وقليلٌ ما هُم. فإذاً: هذا التاجر عندكم ما عرفنا لماذا لا يبيع بسعر التقسيط، وهو ربح له؟ السائل: هو يشتري بآجل، مثلاً: يشتري السلعة -سيارةً- وسعرُها في السوق -مثلاً- مائة ألف ريال يمني، فهو يشتريها بمائة وعشرين ألف ريال يمني لمدة ثلاثة أشهر، وبعد أن تنتهي المدة يدفعها كاملة -مائة وعشرين ألفاً- فما حكم صورة هذا البيع؟ الشيخ: هو نفسه. السائل: هو شارٍ وليس بائعاً! الشيخ: سواء كان في البائع أو الشاري يا أخي: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) . السائل: تعني: أنه رباً؟ الشيخ: لا يجوز. فالمجتمع الإسلامي مترابط بعضه مع بعض، جزاك الله خيراً.

المقصود بعدالة الراوي

المقصود بعدالة الراوي Q كما تعرفون -حفظكم الله- أن الحفاظ أخذوا في رسم الصحيح والحسن عدالةَ الراوي، وكثير من الحفاظ ومنهم الحافظ ابن حجر عرَّف العدالة فقال: هي مَلَكَة تحمل الرواي على التقوى وملازمة المروءة، وفسَّر -أيضاً- التقوى في نفس الكتاب؛ كتاب النخبة فقال: هي اجتناب الأعمال السيئة من بدعة، أو فسق، أو شرك. هنا طرأ عندي إشكال: ففي الصحيحين وُجِد رجال من المبتدعة؛ كأن يكون الرجل خارجياً، أو رافضياً، أو مرجئياً، فما توافقا مع كتاب النخبة، فهنا حصل تناقض بين تعريف الحافظ ابن حجر لرسم العدالة، وبين المثال الواقعي في الصحيحين، فما هو التوفيق بين تعريفي ابن حجر وبين ما وجد في الصحيحين -أفتنا بارك الله فيك-؟ A أنا أظن أن الإشكال جاء من جهة الوقوف عند بعض الألفاظ في تعريف العدالة دون شرحٍ لها من واضعها -أي: واضع هذه الألفاظ- في مكان آخر، فمثلاً: البدعة عند الحافظ وعند غيره من حيث تعلقها بالمبتدع، أن هذا المبتدع له حالة من حالتين: - إما أن يكون داعية لها. - أو ليس داعية لها. فإذا كان غير داعٍ لها فلا يكون منافياً لتعريفه الذي ذكرتَه آنفاً، من أنه يعني بالبدعة أي: التي يُدْعَى لها مِن قِبَل العدل، واضح. السائل: أي: كان عليه أن يقيِّد البدعة؟ الشيخ: نعم؛ لكن المشكلة ماذا يصير؟ عندما يضع شخصٌ تعريفاً، فإذا أراد أن يقيد كل عبارة فإن هذا التقييد يصير محاضرة، فهو يضطر إلى أن يختصر ما استطاع، ويشرح فيما بعد في أماكن أخرى. أنا أقول هذا باعتبار أن هناك قولين بالنسبة للمبتدع، إما أن يكون داعية، أو ألا يكون داعية، فإذا كان غير داعية فهو عدل، فإذا انضم إليه الصدق والحفظ فهو حجة. السائل: قرأت قديماً؛ لكن لا أحفظ اسم الراوي: أنه وُجد في الصحيحين مَن هو داعية إلى بدعته! الشيخ: أنا آتيك بالكلام -الله يهديك-! أنا أتكلم عمَّا وُجِد في المصطلح كعلمٍ يتبناه جماهير العلماء، أنهم يقسمون البدعة إلى قسمين، وقد عرفتَها! لكن هناك رأي آخر، وابن حجر نفسه يتبناه، وهو: العبرة في الرواية أول شيء: الإسلام والعدالة، ثم الحفظ والضبط، فإذا كان هناك رجل مبتدع، وداعية إلى بدعته؛ لكن من الثابت عندنا أنه من حيث إسلامه فهو مسلم، ثم من حيث ضبطه فهو ضابط، ومن حيث صدقه فهو صادق، فهو حجة ولو كان مبتدعاً داعيةً. وعلى هذا يُحْمَل صنيع الشيخين - البخاري ومسلم - إذا رويا عن مبتدع، فمثلاً الإمام البخاري، من أشهر الأمثلة أنه يروي عن عمران بن حطان، وهو الذي شارك في قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فإذاً: نرجع ونفصل تفصيلاً آخر ونقول: في المسألة قولان: أحدهما: أن المبتدع لا يُحْتَجُّ بحديثه ولو كان ثقة ضابطاً صدوقاً. إلخ. وقولٍ ثانٍ: أنه تُقْبل روايتُه ما دام أنه صادق، ويقْرُب من ذلك: الخوارج؛ لأن الخوارج رغم أنهم يعتقدون بأن مرتكب الكبيرة كافر، إلا أنهم أبعد الناس عن الكذب! وهنا تفصيل: يقول بعض العلماء: هذا الوصف يصدق في الخوارج القُدامى، أما فيما بعد فقد صاروا يكذبون دعماً لمذهبهم. فالقصد في الرواية هو شيئان: - الإسلام. - ثم الصدق، مع الحفظ. السائل: هل ثَمَّ فارق بين التوثيق والتعديل؟ الجواب: نعم. السائل: ما هو؟ الشيخ: التعديل هو: الذي تُقْبَل شهادته باعتباره عدلاً؛ لكن مجرد العدالة لا تكفي في الرواية إلا أن يقترن معه الضبط؛ أن يكون معروفاً بالضبط والحفظ. السائل: وهو المقصود بالتوثيق؟ الشيخ: نعم. أي أن هناك عموماً وخصوصاً بين العدل في الحديث الذي يشترط فيه أن يكون حافظاً ضابطاً، وبين العدل في الشهادة الذي يكفي فيه ألا يكون فاسقاً.

الفرق بين عدالة الراوي وعدالة الشاهد

الفرق بين عدالة الراوي وعدالة الشاهد Q ما رأيك في تعريف العدالة بالآتي: هي صفة تحمل صاحبها على التقوى، واجتناب الأدناس، وما يخل بالمروءة عند الناس؟ A لا نقول: إنها صفة؛ لأن صاحبها قد يكون متكلفاً ومطيعاً لله عز وجل حتى صار عدلاً، أما أن يقال صفة؛ فمعنى هذا أنها طبيعة وغريزة، فما أعتقد في هذا! السؤال: لو قلنا: إن العدالة هي مظنة صدق الراوي، فمتى يدخل تحتها المبتدع وغيره مما ذكرتَ الآن؟ الجواب: الصدق -أيضاً- لا يكفي يا أخي؛ لأن الشاهد يجب أن يكون صادقاً، وإلاَّ لا يكون عدلاً، المهم في الموضوع في التفريق بين الرواية والشهادة هو: الحفظ، والضبط، وليس الصدق، فالصدق واجب في الأمرين، أم أن الكلام ليس واضحاً؟ مثلاً: شخص جاء وشهد أنه رأى فلاناً يفعل كذا، ألا يُشترط أن يكون صادقاً؟ السائل: لا يشترط فيه العدالة. الشيخ: اتركنا من العدالة الآن! أنا أسأل عن الشاهد، الشاهد يريد أن يقول: أنا رأيت فلاناً يضرب فلاناً، أو يأخذ مال فلان، ألا يشترط فيه أن يكون صادقاً؟ السائل: إذا أردنا قبول خبره فيشترط أن يكون صادقاً؟ الشيخ: سبحان الله! أنا لا أحكي عن الخبر -يا أخي- أنا قلت لك: شخصٌ شهد أن فلاناً ضرب فلاناً، أو فلاناً أخذ مال فلان، ألا يشترط فيه أن يكون صادقاً؟ السائل: لا يشترط. الشيخ: الله أكبر! إذاً ضاعت الحقوق -بارك الله فيك-. السائل: آسفٌ! آسفٌ! نعم واضح الشيخ: الصدق يُشترط في الشاهد وفي الراوي؛ لكن الفرق من حيث أن يُعْرَف بأنه ضابط حافظ؛ لأن مخ هذا الراوي الضابط الحافظ يمتلئ بالعديد من العشرات والمئات والألوف من الروايات، فهذا لا بد أن يكون متيناً في الضبط، بينما هذا الشاهد رأى حادثة، فيكون من السهل أن يؤديها كما رآها؛ ويشترط فيه أن يكون صادقاً، لا أن يكون كاذباً؛ لكن لا يشترط فيه ما يشترط في الرواي الذي يحفظ المرويات الكثيرة والكثيرة جداً، فكما يقولون مثلاً: فلان ضعيف، لماذا؟ لأنه كان يوصِل المنقطع، أو كان يرفع الموقوف، أو يوقف المرفوع، أو أو إلخ، لماذا يفعل هكذا؟ لأنه تختلط عليه كثرة الروايات التي امتلأ مخه بها، وما كان عنده ذلك الضبط والحفظ المتين، فيُلْحَق بالضعفاء الذين لا يُحْتَج بهم، ثم إن هؤلاء ينقسمون إلى قسمين: - منهم مَن يصدر منه الخطأ، فيقال: إنه ضعيف جداً، لا يُسْتَشْهد به. - ومنهم مَن لا يصدر منه الخطأ، فيقال: يستشهد به. لكنهم أحياناً يقولون: فلان يكذب، أو فلان كذا؛ لكن القسم الأول يقولون عنه: إنه صدوق، لا يكذب؛ وكما يقول ابن حبان في كثير من تراجمه: إن هذا الراوي كان رجلاً صالحاً؛ ولكن حدَّث بالمنكرات عن الثقات، وجاء بالأباطيل عن كذا، إلخ، غير متعَمِّد؛ لأنه كان صالحاً، أي: كان صدوقاً في نفسه.

مسألة مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه

مسألة مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه Q هل هناك مانع أن يروي الراوي الحديث بالإسناد النازل والإسناد العالي؟ هل يصير هذا؟ الشيخ: أنت تقول: هل يصير؟ كل شيء يصير؛ لكن أنا لستُ فاهماً ما هذا السؤال! السائل: أعطيك مثالاً. الشيخ: أعطني مثالاً، ما الهدف من سؤالك: يصير أو لا يصير؟ السائل: الهدف من ذلك: أن هناك حديثاً نحن ندرسه، فوجدنا سماحتك انتقدت طريقاً له، فإذا كان يحدث ذلك فنحن نريد أن نعرف رأي سماحتك في هذا الموضوع. الشيخ: وهو؟ السائل: متابعة جُلاح أبي كثير. الشيخ: متابعة ماذا؟ السائل: حديث: (البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، لل جُلاح أبي كثير، في أحد طرق الحديث هو تابَعَ صفوان بن سليم، أتذكر يا شيخ؟ الشيخ: لا أذكر، أنت فقط بيِّن مرادك من السؤال! السائل: جُلاح أبو كثير روى الحديث مرتين: - مرة عن سعيد بن سلمة. - ومرة عن المغيرة بن أبي بردة. فسماحتك اعتبرتَ رواية جُلاح هنا أن فيها اضطراباً من الراوي الأول وهو يحيى بن بكير. فالسؤال كما يلي: لماذا لا يكون جُلاح أبو كثير قد روى الحديث مرة بالإسناد العالي، ومرة بالإسناد النازل؟ الشيخ: حسناً، لماذا لا تضع الكتاب أو الورقة أمامي، هاتِه، ثم إن كلمة (جُناح) أنت أتيت بها بضم الجيم؟ السائل: أي نعم، الحافظ أبو كثير. الشيخ: جُناح! السائل: جُلاح. باللام. الشيخ: نعم جُلاح، نحن سمعناها: جُناح. السائل: لا. اسمه جُلاح أبو كثير. ما دمت لا تحفظ نهاية الموضوع، ومع ذلك فإن في ثبوت هذا السياق عن يحيى بن بكير نَظَرٌ، فإن الراوي عنه وهو عبيد بن عبد الواحد بن شريك فيه كلام أيضاً. السائل: يا شيخ! أنت تقول: الأول إنه أدخل بين الليث والجُلاح؟ الشيخ: نعم يا أخي! هذا عندما يصح السند إليه يَرِد كلامك، أما أنت فانظر إلى الخاتمة تطبيقاً لحديث: (إنما الأعمال بالخواتيم) فلا. السائل: يا شيخ! هاتِ الحديث. الشيخ: كيف تترك أول الكتاب ولا ترجع إلى آخره؟ السائل: حسناً حسناً! بالنسبة لحديث قتيبة أليس صحيحاً؟ معذرة! هوِّن عليَّ! الشيخ: لا. ارجع واقرأ وابحث عندك في الدار، انظر النهاية. السائل: اسمح لي. الشيخ: بماذا أسمح لك؟! هل عندك هنا راويان اختلفا؟ السائل: نعم. عندي راويان اختلفا يا شيخ. الشيخ: اختلفا في الإسناد؟ السائل: نعم. الشيخ: وأحدهما أوثق من الآخر؟ السائل: نعم. الشيخ: إذاً: في مثل هذا الاختلاف ماذا يقال؟ السائل: يقال بتقديم كلام الأوثق. الشيخ: جميل جداً، وعلى هذا دار البحث أولاً، ثم في الأخير هذه يمكن أن نجعلها رواية -كما تريد أنت أن تقول- وقلنا: إن الراوي عن هذا الشخص الذي اختلف عليه الثقتان فيه كلام في ضعفه. فإذاًَ: انتهى الموضوع؛ أن الرواية واحدة، وهي الراجحة. السائل: لا بأس أن نعود قليلاً لمسألة المخالفة يا شيخ. الشيخ: نعم. السائل: هل أعتبر أنا شخصياً الآن أن هذا قانون بالنسبة لكم، في أن الراوي في الحديث الذي هو من رواية واحدة جاء من طريقين؛ أحدهما أوثق من الآخر -هل أعتبر أنا أنه إذا كان في السياق راوٍ يروي الحديث بالعالي والنازل، علماً بأن المحدثين أثبتوا له السماع من الاثنين، من العالي ومن النازل، هل بمجرد أن تكون هذه المخالفة، وكان هناك طريق آخر رواه مَن هو أوثق منه، هل أعتبر ذلك قدحاً في الرواية؟ A سامحك الله! ما هو تعريف الحديث الشاذ؟ السائل: الشاذ هو: مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو مخالفته للإجماع. الشيخ: هذا التعريف ألا ينطبق هنا؟! السائل: هذا رأي حضرتك؟ الشيخ: هذا ليس رأي حضرتي، هذا رأي علماء الحديث في فمك: إذا اختلف ثقتان، سواءًَ كان وقفاً، أو رفعاً، أو إرسالاًَ، أو إيصالاً إلخ، فإن استويا قُدِّم الزائد، وإن اختلفا قُدِّمت رواية الأوثق، هذه مسألة واضحة. السائل: هنا المخالفة؛ لأننا وجدنا الحاكم يعتبر هذه الرواية، ولا يعتبر ذلك مخالفة، ووجدنا الزيلعي -أيضاً- في نصب الراية لا يعتبر ذلك مخالفة. الشيخ: دعني من الزيلعي -الله يهديك- طبق القاعدة التي أنت تؤمن بها. السائل: أنا إلى الآن لم يتضح عندي أنه خالف، من أجل هذا أنا سألتك، ولو اتضح بأنه خالف فلماذا سألتك أصلاً؟! الشيخ: أنت ما قلتَ هذا، أنا الآن أقول لك: أي رواية أرجح عندك؟ السائل: رواية قتيبة. الشيخ: قتيبة، والمرجوحة؟ السائل: أرجوك يا شيخ! أنت الآن تسألني؟ الله يبارك فيك. مداخلة: لماذا أجَبْتَ هناك ولم تُجِبْ هنا؟! السائل: يا شيخنا! كيف تكون مرجوحة؟ الشيخ: هل لا بد أن نقول: اللهم أعطنا طول البال؟! السائل: أنا يا شيخ! ما اعتبرت بَعْدُ أن الرواية مرجوحة -بارك الله فيك-، لو اعتبرتُ أنها مرجوحة ما سألتك. الشيخ: إذاً: لماذا ما زلت تتكلم؟! (كلمةٌ وغطاؤها) ! السائل: نعم. الشيخ: هل عندك راجح ومرجوح هنا أم لا؟ السائل: لا. مداخلة: أنت أجبتَ قبل قليل، وذكرتَ الراجح. الشيخ: كيف لا؟! السائل: نعم، ممتاز! الشيخ: ما هو الممتاز؟! الله يهديك، الرجل هو ضيف، وغداً سوف نخسره، غداً سيسافر. السائل: الله يحييك. الشيخ: ولذلك بدون أن نفسح له مجالاً لأنْ ينتقدنا ونضيع وقته، نقول له: أنت ما شاء الله مقيمٌ هنا، وإن شاء الله نراك كل هلال. السائل: لن تراني.

حكم التصوير

حكم التصوير Q ما حكم التصوير؟ مع الدليل -بارك الله فيكم- وما حكم المصوِّر والمصوَّر؟ الشيخ: هذا السؤال مختصر، فهل تريد الجواب على هذا النمط أم كيف؟ السائل: بشيء بسيط يا شيخنا إذا تكرمت. الشيخ: هذا يحتاج إلى محاضرة -بارك الله فيك- سنحاول أن نجعل جوابنا مختصراً وتقديراً منا لك على اختصارك لسؤالك. أما فيما يتعلق بالمصوِّر فحسبه حديثان اثنان: الحديث الأول: (لعن الله المصورين! يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) . والحديث الثاني والأخير: (من صوَّر صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وما هو بنافخ) . أما الذين يستعملون الصور فلهم حالتان: الحالة الأولى، وهي العامة: أنه لا يجوز لهم أن يستعملوا الصور بكل أنواعها وأشكالها ما دامت من ذوات الأرواح. أما الكلية التي ذكرتُها، فهي سواء كانت يدوية، أو كانت فوتوغرافية، أو كانت بالفيديو، هذه الصور كلها لا يجوز للمسلم أن يستعملها. هذه الصورة الأولى والعامة. الصورة الأخرى: هي التي يضطر إليها المسلم. والاضطرار له أنواع وأشكال: فبالنسبة لعامة الناس فإن الاضطرار يتمثل في صور الهويات والجوازات ونحو ذلك. وبالنسبة لخاصة الناس، كالأطباء -مثلاً- فإنهم قد يضطرون لتصوير صورة شخص لتشخيص مرضه مثلاً، وكتصوير بعض الفئات الحكومية لبعض الأشخاص المعروفين بالإجرام؛ بالسرقة، أو بالنهب، أو بالسلب، أو بنحو ذلك؛ لاتخاذ ذلك وسيلة للقضاء على الجريمة. فما دار حول هذا النوع من الصور جاز استعمالها، وإلاَّ لم يجز، وكانت الصورة محرمة؛ لأنها تمنع دخول الملائكة، كما تعلمون من الحديث الصحيح: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة أو كلب) . وإنني -من فضل الله عز وجل- أرى أمامي بعض الصور التي لوحظ فيها أنها لم تكن من النوع المحرم؛ لأنها -فيما يبدو لي- ليس فيها صور من ذوات الأرواح، وإنما تمثل الطبيعة والغابة ونحو ذلك، وإذا كان المسلم له هوىً في التصوير وفيما يسمى اليوم بالفن، فليصرف فنَّه إلى ما أباح الله له من الصور غير ذوات الأرواح. هذا هو الذي يساعد الوقت على اختصار الكلام فيه.

حكم شراء سيارة بالتقسيط لعدم توفر المال النقدي

حكم شراء سيارة بالتقسيط لعدم توفر المال النقدي Q ما حكم من اشترى سيارة من الشركة بالتقسيط، وذلك لعدم توفر المال النقدي، والسيارة كما تعلمون هي حاجة ضرورية في هذا الزمان؟ A إذا كان السائل يعتقد معنا أن بيع التقسيط الذي يأخذ زيادة في الثمن على الحاجة رباً؛ فلا أعتقد أن هناك ضرورة لاستباحة هذا المحرم، إذا كان السائل يعتقد معنا أن هذه الزيادة رباً، -كما قال عليه السلام: (مَن باع بيعتين في بيعة فله أَوْكَسُهُما، أو رباً) فليس هناك ضرورة مطلقاً في أن يستحل المسلم أكل المال الحرام، إلا في حالة واحدة، قد لا أتصور وجودها في هذه البلاد، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، وهي أن يموت جوعاً! ما سمعنا به في هذه البلاد، وإن كنا نسمع في بلاد أخرى، كـ أفريقيا، وتلك النواحي المشهورة بالمجاعات، وما ندري هل هي حقائق أم مبالغات؟ الله أعلم، لكن المهم: الضرورة التي تبيح أكل الحرام هي الضرورة التي لولاها، أو لو لم يتخذ صاحبها السبب للقضاء على لازمها، لتعرض للهلاك. فما أعتقد أن الإنسان يضطر لأنْ يستعمل السيارة؛ سواء كانت سيارة لركوب الشخص أو العائلة، أو كانت لاستعمالها في البيع والشراء، والنقل، والحمل عليها، وما شابه ذلك. والمسلم يجب عليه أن يضع أمام عينيه دائماً وأبداً قوله تبارك وتعالى، وأن ينطلق منه دائماً، لا يغيب عن باله وعن قلبه، وهو قوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] . أنا أعتقد أن من مصائب العالم الإسلامي ككل: غياب الإيمان الصحيح من قلوبهم؛ لأن هذا الإيمان إذا حل في قلب أي إنسان قنع بأي عيش صعب ضنك؛ لأنه يعتقد أن الله عز وجل في تقديره على الناس الضنكَ والفقرَ، إنما هو بعدلٍ وعلمٍ، بل وبحكمةٍ. فإذا آمن المسلم بهذه الحقيقة إيماناً جازماً فحينئذ تطيب له الحياة مهما كانت حياته صعبة؛ سواء من جهة المال، أو من قلة الصحة، أو من ضغط الطغاة والحكام الظالمين، أو من نحو ذلك، فهو يصبر ويتدرَّع بالصبر، ويتذكر قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] يتذكر معها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) . وبناء على ما سمعتم من بعض كلمات الأستاذ أبي مالك -جزاه الله خيراً- فقد خطر في بالي حديث والآن جاءت مناسبته، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس الغنى غِنى العَرَض؛ ولكن الغنى غِنى النفس) فمتى ما كان المسلم غني النفس فلن يجد ضرورةً إلى أن يتعامل بالربا، والتعامل بالربا لا يكون فقط أن يأكل هو الربا، بل وأن يُطْعِم غيره الرباً، ولذلك قال عليه السلام: (لعن الله آكل الربا، ومُوْكِله، وكاتبه، وشاهديه) .

حكم شراء الأسهم من الجمعيات الاستهلاكية وغيرها

حكم شراء الأسهم من الجمعيات الاستهلاكية وغيرها Q ما حكم من يشتري أسهماً من الجمعيات الاستهلاكية وغيرها، مما فيه مصلحة الشعب، مثل شركة الكهرباء والمياه؟ A الشركات اليوم -فيما أعلم- كلها تتعامل بالربا، وليس هناك شركة لا تتعامل بالربا، وعلى ذلك فلا يجوز لمسلم أن يتعامل مع شركة، بل أنا أنصح إن وُجِد رجلٌ مسلم غني وحوله -أيضاً- أغنياء مثله، ويتبنون العمل بأحكام الإسلام، أنصح أن يؤلِّفوا شركة ضد البنوك، أي: أن الأموال التي يجمعونها لإقامة شركة -مثلاً- توضع في صندوق خاص، لا تمتد يد الربا إلى هذا الصندوق، هذا بلا شك عمل يحتاج إلى إعمال العقل والذهن، لوضع خطة إيجاد صندوق لا يدخل إليه الربا مطلقاً، وعليه تقوم الشركة، فحينئذ إذا طُرِحَت أسهم، وتحولت إلى بضاعة أو إلى شركة أو عمل؛ جاز حينئذ بيعها وشراؤها، أما قبل ذلك فلا يجوز، كما تفعل الشركات اليوم.

حكم إزالة الصلبان المرسومة على الثياب والفراش

حكم إزالة الصلبان المرسومة على الثياب والفراش Q إن المشركين غزوا بلاد المسلمين، بل وغزوا بيوتهم بوضع الصلبان على الستائر والسجاد ونحوها، فما حكم وجود هذه السجاجيد أو الأشياء كلباس الأطفال؟ ويُخَصُّ السؤال عن السجاد في البيت، وخصوصاً عندما تكون هذه السجادة ثمنها مبلغ معين، هل يقذفها ويرميها أم يجعلها ممتهنة، أم ماذا؟ علماً بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا رأى صليباً نَبَشَه؟ A كلمة (نَبَشَه) أتيت بها من جيبك! ما معنى (نَبَشَه) ؟! الصحيح: (قَبَضَه) . السائل: أعني: (نَبَشَه) بمعنى: (قَبَضَه) . الشيخ: (نَبَشَه) هذه رواية عندكم أم ماذا؟! السائل: مأخوذة من نبش التراب. الشيخ: هذا يكون في التراب. السائل: أعني: نُبِشَ لأنه صليب. الشيخ: أولاً: نحن قبل كل شيء ننصح كل مسلم، خاصة إذا كانت له ذرية، وأراد أن ينَشِّئها تنشئة إسلامية، أنه إذا أراد أن يشتري بساطاً، أو سجاداً، أو ثوباً، أو قميصاً، أن يفلِّيَه كما يفلي الفقير قميصه من القمل ولعلكم تعلمون أن السجاد والبساط لباس، أم أنكم لا تعلمون؟ السائل: لا والله يا شيخ! لا نعلم. الشيخ: هذا أكيد! السجاد والبساط هو لباس، وهذا من فضل الحديث على الألباني الأعجمي، فقد تعلَّم العربية من حديث النبي العربي، حيث يقول أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زاره في بيته، فصلى في حصير قد اسودَّ مِن طول ما لُبِسَ) ، وأنا لو قلتُ لك: لماذا أنت لابسٌ البساط ستستغرب مِنِّي. السائل: سأقول عنك أنك ألباني. الشيخ: ستقول: ألباني، وفعلاً أنا ألباني. يقول أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم زاره في داره، فصلى على حصير قد اسودَّ من طول ما لُبِس) . الشاهد: أن أي لباس؛ سواء كان بساطاً، أو سروالاً، أو قميصاً، أو أي شيء، يجب على ولي الأمر؛ على الأب، والعم، والخال، ونحو أولئك، أن يدقِّق -كما قلنا- في ألا يكون هناك شيء يخالف الشرع من صور أو صلبان؛ لأنه -في الحقيقة- يوجد الآن نوع غريب جداً من غزو الكفار إلى بلاد الإسلام في عقر دارهم! فيتسلل إليهم الداء كالسل في جسم الإنسان، لا يحس به المسلمون ولا يشعرون به، بدليل أنك تجلس يوم الجمعة والمسجد غاص بالمصلين، فتجد عن يمنيك وعن يسارك وأمامك صور النساء العاريات في أظهُر قمصان الشباب الذين يصلون بين يديك! من الذي اشترى له هذا القميص؟ والده، وهو ربما يصلي معه في المسجد؛ لكنهم في غفلةٍ ساهون. ولذلك قبل كل شيء يجب الانتباه! ألا يشتري المسلم ثوباً مصوراً، أو لباساً مصوراً. ثانياً، وهذا كان موضع سؤالك: أنه لغفلة، أو لسهوة، أو لإهمال، أو لضلال قديم، كثيراً ما نُسأل-مثلاً-: واللهِ إن زوجي كذا وكذا! - إذاً: كيف تزوجتيه؟! - والله أنا كنت غافلةً عنه، والآن هداني الله. فهي في الصيف ضيَّعَتِ اللبن، فكيف يمكنها أن تعالج الموضوع؟! فربما أن الإنسان كان راقداً، أو كان ضالاً، لا يلتزم بالأحكام الشرعية، فاشترى بساطاً فيه صورة مثلاً، أو اشترى بساطاً فيه صليب، فعليه حينئذ أن يتقي الله عز وجل بعد أن كان ضالاً فهداه. فأقول: عليه أن يخضب الصليب أو الصورة، فقد يَفْسُد البساط أو السجاد بهذا القَبْض؛ لكننا نقول: إن الله عز وجل من حكمته في خلقه: أنه كما أَلْهَمَ نبيَّه عليه السلام أن يقول بلسانه: (ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواءً، أو شفاءً، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه) . فما من علة إلا وخَلَقَ الله لها ضدها، وذلك لتكون حجة الله قائمة عليه. فإذا ابتُلي هذا الإنسان واشترى ذلك الثوب أو ذلك البساط في زمن ضلاله، ثم هداه الله، فماذا يفعل؟ يستعمل بعض الدهانات التي تطمس الصورة وتُبْقِي الثوب سليماً كما هو، أو على الأقل -إن كانت صورة- يَقْضِي على الرأس فقط، فهذا يكفي لإزالة المحظور المخالف للشرع، والصليب أيضاً يمكن أن تُحاك دائرة حوله. أنا -مثلاً- كنت ساعاتياً في الشام، بعض الساعات من مكر هؤلاء النصارى السويسريين أنهم يطبعون الصليب على ميناء الساعة، فأنا كنتُ حينما تأتينا هذه الساعة -لأنها مادة فسفورية دقيقة جداً- كنتُ أنقُط عليها نقطة، وإذا بها تضيء في الليل؛ لكنها لا تضيء على الصليب، بل تطمسه. فلا توجد علة إلا ويمكن القضاء عليها؛ لكن تحتاج إلى إعمال المخ والفكر بعد الإيمان بالله ورسوله. هذا هو جواب السؤال الذي وصفتَه بأنه أخير، والآن الساعة تشير إلى الثانية عشرة إلا عشر دقائق، فهاتِ لنرى ماذا عندك. السؤال: أبو فارس فهم أن الدائرة على الصليب هكذا. الشيخ: لا تُفْهَم أنها شخبطة. السائل: أعني: الطمس على الصليب يكون بدائرة هكذا، أم بنقطة هنا. الشيخ: لا، ليس نقطة هنا، هذا كله يصير مَحِيْكاً عليك، بحيث يُطمس عليها. السائل: كل الرسمة! الشيخ: كل الرسمة. السائل: ولا يكون بعمل دائرة عليها. الشيخ: لا. السائل: الحاصل في هذا الأمر: أن سجادة عليها حوالَي مائتا صليب! فهل يَلُفها أم ماذا يفعل؟ مداخلة: يقلبها على الظهر. الشيخ: لا يا أخي! ليس هناك شيء إلا وله علاج كم ثمن هذه السجادة؟ السائل: حوالَي مائة وخمسون ديناراً. الشيخ: أنا أظن أنه بخمسة وعشرين ديناراً يمكن أن تحاك عليها حياكة يُطْمَس بها على الصليب. السائل: يا شيخ! هذه حصلت عندي أنا، فجئتُ بنوع من الدهان وطمستُ على كل واحدة من رسمة الصليب. الشيخ: قد حللنا المسألة الآن.

أدلة الرجم وحكم من يحاول إسقاط حكمه باعتباره منسوخا ونحو ذلك

أدلة الرجم وحكم من يحاول إسقاط حكمه باعتباره منسوخاً ونحو ذلك Q هناك كتاب صدر حديثاً اسمه: الرأي الصواب في منسوخ الكتاب، وكاتبه ليس مِن حَمَلة العلم الشرعي، ومما كتبه في هذا الكتاب عن قضية الرجم للزاني المحصن، فقد حاول جاهداً أن ينسخ هذا الحكم، وردَّ حديثاً عند الإمام مسلم الذي هو حديث: (خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً) وكذلك -أيضاً- حاول جاهداً أن يثبت أن سورة النور نزلت في السنة التاسعة للهجرة، حتى يكون بذلك نزولُ السورة قد أتى بعد حوادث الرجم التي حصلت أيام النبي صلى الله عليه وسلم! الحقيقة: أن المفسرين لهم أقوال في هذه الآيات؛ لكنها في نهايتها لا تُثْبِتُ -في حدود علمي- الرجم، الآن نحن بحاجة إلى أن نثبت الرجم. الشيخ: تريد أن تثبت الرد! ردُّ ماذا؟! السائل: الرجم! الشيخ: كيف لا تثبت الرجم، أنت ما قلتَ أنه ثبت في الحديث؟! السائل: نعم. ثبت في الحديث؛ لكن قصدي أنا بالنسبة للرد على هذا الكاتب، نحن بحاجة إلى إثبات وقائع أو بعض المرويات بعد نزول سورة النور، وهناك كتاب صدر في الجامعة الإسلامية، وهو عبارة عن رسالة جامعية -في حدود علمي- في السعودية، والتي هي عن مرويات غزوة بني المصطلق، يثبت فيه صاحبه أن الراجح في سورة النور أنها نزلت في السنة الخامسة للهجرة، وبالتالي يكون رَجْمُ الغامدية وماعز قد حدث بعدها، فنحن بحاجة إلى إثبات بعض المرويات التي تثبت بعض وقائع الرجم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان في علمكم فأفيدونا وجزاكم الله خيراً. الشيخ: قبل أن أجيبك: لماذا اهتممت بهذا الرجل، وأنت نفسك وصفته بأنه ليس من أهل العلم؟! لماذا اهتممت به؟! السائل: تريد الجواب؟ الشيخ: نعم. أنا أسأل، أنت لماذا تسأل؟! السائل: أنا سألتُ بالتأكيد حتى أحصل على جواب. الشيخ: وأنا كذلك مثلك. السائل: نعم. الحقيقة: لكثرة ما دار حوله من بعض الردود، وقد نُشِرَت في بعض الصحف منها: صحيفة اللواء، وأيضاً في الجامعة عندنا في كلية الشريعة تناولوا هذا الموضوع في بعض الدراسات. الشيخ: أنت -بارك الله فيك- ينبغي أن تذكر حجة مَن يُنْكِر الرجم؛ لِنُبْطِلها، أمَا وأنت ذكرتَ بلسانك حجة مَن يُثْبِت الرجم في الحديث الصحيح! السائل: نعم. الشيخ: إذاً ماذا تريد مني؟ السائل: أنا أريد فقط بعض المرويات عن حوادثَ للرجم. الشيخ: لا بأس، لماذا؟ السائل: فقط للرد العلمي عليه؛ لأن بعض المزاعم في الكتاب لا تقوم على دليل. الشيخ: أنا أنصحك أنت وغيرك ألا تهتموا بالرد على كل ناعق، هذا باب واسع لا نهاية له، اليوم أصبح العلم فوضى، كل مَن شَعَرَ بأنه يحسن أن يكتب عبارة، ولو كانت مُكَسَّرة من الناحية العربية تكسيراً، فهو يكتب ولا يبالي؛ لأنه لا رقيب ولا عتيد. ولذلك فليس من العلم ولا من الحكمة في شيء أن يهتم الناس بكتابة أي كاتب إذا كان ليس له قدم، لا أقول راسخة، ليس له قدم في العلم، فضلاً عن أن أقول: ليس له قدم راسخة في العلم. أما الجواب عن سؤالك فأنا أقول: يوجد في الصحيح عن علي رضي الله تعالى عنه [أنه جمع على امرأة زانية بين جلدها ورجمها] ، جمع فيها الحدين، وهذا الحديث يحارب صاحبك المبطل بسَيفَين؛ لأنه هو ينكر أصل الرجم، وسينكر من باب أولى الجمع بين الحدين، فسيدنا علي رضي الله عنه رجم امرأة بعد أن جلدها، وقال: [جلدتُها بكتاب الله، ورجمتُها بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] هذا بعد وفاة الرسول بزمان. هذا شيء. الشيء الثاني: أنه صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال محذِّراً المسلمين: [سيأتي زمان يُنْكِر قومٌ الرجم، ولقد قرأناه في كتاب الله -وهو: ما يسمى عند العلماء بمنسوخ التلاوة- قرأنا: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إِذا زَنَيا فَارْجُمُوْهُما البَتَّة نَكالاً مِنَ اللهِ) ] هذا عمر بن الخطاب وكأنه يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، ولكن هناك أحاديث يقول فيها علماء الحديث -في أحدها مثلاً-: هذا حديث موقوف في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال مِن قِبَل الرأي. وحقيقةً: وُجِد ناس بعد أن انتشر مذهب أهل الاعتزال يعتقدون الضلال القائل بالتحسين والتقبيح العقليين، فقد أنكروا الرجم بالكلية، وأتْبَعوا هذا الإنكار بإنكار آخر، وهو أنه لا توجد آيات منسوخة التلاوة! لماذا ينكرون؟! لأنه غير مستساغ في عقولهم أن الله عز وجل يبتلي عباده بما يشاء، فعقلهم الذي جعلوه حَكَماً على الله، يقولون: ما حسَّنه العقل فهو الحسن عند الله، وما استقبحه العقل فهو القبيح عند الله، فهؤلاء ينكرون مثل هذه النصوص الصحيحة الثابتة بعقولهم المقيتة. فـ عمر حينما قال: [سيأتي زمان يُنْكِر قومٌ الرجم، ولقد قرأناه في كتاب الله] فهي من منسوخ التلاوة. وهناك أحاديث أخرى غير قليلة فيها نصٌ -أيضاً- على أنها كانت مما يُتلى، من ذلك: أن الرضاع المحرم كان عشراً، وكان مما يُتْلى، ثم نُسِخَ وجُعِل الحكم أن الخمس رضعات هن المحرِّمات. هذا ما يحضرني الآن من بعض النصوص تحقيقاً وجواباً لطلبك. ثم قبل أن أُنْهِي الجواب عن هذا السؤال ألفت النظر؛ لأن كثيراً من الكتَّاب اليوم يقلبون الحقائق الشرعية، فالأحاديث التي تروَى بالأسانيد الصحيحة يرفضونها، والتواريخ التي تروَى بالأسانيد المنقطعة يجعلونها أصلاً، فالكاتب منهم لا يستطيع أن يثبت تاريخ هذه الوقعة، أو غيرها، إلا أن يقول فلان من المؤرخين: وقعت سنة كذا، ومَن كانت له دراسة في السيرة سيجد اختلافاً كثيراً جداً في تحديد كثير من الوقائع والحوادث وبخاصة من الغزوات. ولذلك فطالب العلم يجب أن يتنبه لهذه الدقيقة، فإذا كان هناك تاريخ يحدد حادثة، وهناك حديث ظاهره أنه يختلف مع تاريخ الحادثة، فلا تقِمْ وزناً للتاريخ؛ لأنه لم يروَ بالسند، وإنما أقِمْ وزناً للحديث الذي روي بالسند. وأنا يحضرني الآن مثال في هذا: هناك حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن نصلي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، إذْ برسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَلِّم على رأس ركعتين -والعصر أربعاً، وقد صلاها ركعتين-، ثم انتحى ناحية من المسجد -حتى إن الراوي يصف أن الرسول عليه السلام وضع إحدى رجليه على الأخرى ليستريح- فقال رجل يُعْرَف بـ ذي اليدين: يا رسول الله! أقَصُرَت الصلاةُ أم نسيتَ؟ قال عليه السلام: كل ذلك لم يكن، قال: بلى يا رسول الله، قد كان، فنظر في الصحابة وفيهم أبو بكر وعمر أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم. فرجع إلى مصلاه -ولا أقول: إلى محرابه؛ لأنه لم يكن في مسجده محراب، وهذه فائدة على الماشي- فعاد إلى مصلاه وجاء بالركعتين، وسجد سجدتين وسَلَّم) انتهت القصة. في هذه القصة خلاف بين الفقهاء قديماً وحديثاً: ذو اليدين تحدث مع الرسول، والرسول تحدث مع الصحابة: (أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم) ، فكيف -مع هذا الحديث- يرجعون فيصلون مع الرسول ركعتين أخرَيَين، والسلام عليكم، وانتهت الصلاة بسجدتي السهو؟! إذاً: هذا الحديث يؤخذ منه: أن الكلام لا يُبْطِل الصلاة! لا. بل اتفق العلماء جميعاً أن الكلام في الصلاة عامداً متعمداً يبطلها، واختلفوا فيما إذا تكلم المتكلم في الصلاة ناسياً، أو جاهلاً، أو مصلحاً للصلاة: فالمذهب الشافعي يقول: لا تبطل الصلاة بمثل هذا الكلام. والحنفية يقولون: تبطل. هنا الشاهد: ماذا يقول الحنفية في حديث أبي هريرة هذا؟ يقولون: كان هذا قبل نسخ الكلام في الصلاة، أي: كانت هذه الواقعة قبل نسخ جواز الكلام في الصلاة، والدليل أن ذا اليدين هذا مات في وقعة بدر، هنا الشاهد! وأبو هريرة أسلم في وقعة خيبر، فوقعة خيبر هذه إذاً متأخرة عن وقعة بدر، فعلى ماذا استندوا في كون ذي اليدين مات في وقعة بدر؟ استندوا على تاريخ. هنا تجد بعض المؤرخين يقولون: لا. هذا القول رواه الزهري هكذا مرسَلاً معضَلاً، أي: إن القول بموت ذي اليدين في وقعة بدر رواه الزهري بدون سند، وأبو هريرة يقول صراحة: (بينما أنا أصلي وراء الرسول ... ) ، وأبو هريرة أسلم بعد أو في حادثة خيبر؟ إذاً: هذه الحادثة متأخرة عن النهي عن الكلام. فإذاً: النهي عن الكلام المقصود به الكلام الذي ليس عن عذر الجهل، أو عذر النسيان، أو عذر إصلاح الصلاة، فإذا كان الكلام بسبب من هذه الأسباب الثلاثة فلا يبطلها. أما الكلام كقولك: هات الكتاب، وخذ الغرض إلخ، وأنت تصلي، فهذا هو الذي يبطل الصلاة. هذا مثال لاختلاف الرواية ذات السند الصحيح عن التاريخ المرسَل المعضَل؛ لذلك عندما تقرأ كتاباً يجب أن تنتبه إلى أن هذا التاريخ -يا أخي- لا يُروى بالأسانيد الصحيحة، ولا أنه يجري مثل إن كان هناك تعارض بين التاريخ وبين حديث بإسناد صحيح. خلاصة القول: الرجم ثابتٌ -أولاً- بالقرآن الذي نُسِخَت تلاوته وبقي حكمه، وثابتٌ بالسنة العملية التي نفَّذها الصحابة بعد وفاة الرسول عليه السلام، وجرى العمل -أيضاً- على ذلك من المسلمين الذين يقيمون الأحكام الشرعية حتى اليوم. والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] . لذلك هذا الكاتب وأمثاله لا ينبغي للمسلم أبداً أن يقرأ لهم كتاباً؛ لأنهم ليسوا بعلماء، وإنما هم من أهل الأهواء،

توجيه قولهم: (على شرط الشيخين)

توجيه قولهم: (على شرط الشيخين) Q عندنا يا شيخ أسئلة في مصطلح الحديث: ما المقصود بقولهم: حديث على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما؟ هل المقصود أن يكون الشيخان قد أخرجا السند نفسه؟ أو أن الشيخين قد احتجا برجال السند كلٌّ على حدة؟ A هناك مرتبتان: المرتبة الأولى: هي التي جاءت في السؤال؛ أنهما أخرجا من نفس السند، البخاري أو مسلم أو كلاهما معاً؛ لكن هذا عزيز جداً، ونادر جداً، ولذلك فإن الغالب من المقصود بقولهم: على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما: أن رجال ذلك الحديث على شرط الشيخين، وليس في السلسلة كلها. هذا يلاحَظ كجواب على ذاك السؤال. لكن هناك ملاحظة أخرى ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها، وهي: المرتبة الثانية: وهي أن هناك تسامحاً في إطلاق هذه العبارة في بعض الأسانيد التي تكثر سلسلة الرواة فيها، أو يكثر عدد الرواة في سند ذلك الحديث. ومن أشهر الذين عُرفوا بإطلاق هذه العبارة على الأحاديث التي يُخْرِجها في كتابه هو: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، فهو -كما تعلمون- يقول: صحيح على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، بينما هو يعني إلى ما قبل شيخ شيخه هو، بمعنى: أن بين شيخ الشيخين والحاكم رجلين على الغالب، وهذان الرجلان جاءا بعد الإمامين البخاري ومسلم، فإنهما لا يدخلان في قوله: على شرط البخاري ومسلم بداهةً. ولذلك فهذا الإسناد هنا إذا لم يستحضر طالب العلم هذه الملاحظة لا يصح أن يقال: إنه على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما، لا يصح؛ لأن شيخ الحاكم جاء بعد وفاة الشيخين، بل وربما شيخ شيخه كذلك، وكل إسناد يقال فيه: على شرط مسلم، أو البخاري، أو كليهما معاً، ويكون المؤلف جاء من بعد البخاري وبينه وبين البخاري واسطة، فإذا قيل: إسناده صحيح -على ما ذكرنا آنفاً- يكون هناك تسامح في التعبير، فمثلاً: أعلى طبقة من الحاكم: أبو حاتم بن حبان، فهو يروي كثيراً من الأحاديث أسانيدها على شرط الشيخين دون شيخه هو؛ لأن شيخه ليس من شيوخ الشيخين. فلا بد من ملاحظة هذه الدقيقة فيما إذا وقفنا على تعبير: إنه إسناد صحيح على شرط الشيخين. ومتى يصح مثل هذا التعبير دون هذا التسامح؟ إذا قيل في إسنادٍ مثل إسناد مسند أحمد لأن أحمد من شيوخ الشيخين، فإذا قيل فيه في حديث ما: إنه على شرط الشيخين، ويكون القائل مصيباً؛ فإنه لا يكون في الأمر -في التعبير- تسامح إطلاقاً. وثمرة هذه الملاحظة مهمة جداً بالنسبة لـ ابن حبان، وبخاصة بالنسبة للحاكم؛ ذلك لأننا نلاحظ أن في شيوخ الحاكم أحياناً شيئاً من الضعف، فلا يصح السند إطلاقاً فضلاً عن إن يقال: إنه على شرط أحد الشيخين.

حكم عدم تصريح المدلس بالسماع عن أحد أقاربه أو أحد مشايخه

حكم عدم تصريح المدلس بالسماع عن أحد أقاربه أو أحد مشايخه Q ما رأيك في عدم تصريح المدلِّس بالسماع عن أحد أقاربه، كابنه، أو أبيه، أو أمه، أو عن أحد مشايخه المُكْثِر عنهم، هل يُحمل على السماع، أو يعُلُّ بالتدليس؟ A إذا لم يكن هناك وضوح في نوع تدليسه، أو كان واضحاً في غير أبيه، أو ابنه، فيُحْمَل على الاتصال، ولا يحمل على الانقطاع، أو التدليس، وكذلك بالنسبة لبعض الرواة المشهورين بالضبط والحفظ والعدالة؛ ولكنهم رُمُوا بشيء من التدليس، فالذي اطمأنت إليه نفسي وانشرح له صدري: أن عَنْعَنَتَهُم تُمَشَّى، إلا إذا وَضَح للباحث أن في المتن علةً، ولا يجد في السند ما يمكن أن يُعْتَبر علة، فيقف عند العَنْعَنَة هناك، ويحاول أن يتخلص منها بطريقة أو بأخرى.

حكم من يشترط المعاصرة فقط لصحة السند

حكم من يشترط المعاصرة فقط لصحة السند Q مَن يقول بالمعاصرة فقط لصحة السند، هل يَشْتَرِط شروطاً أخرى، أم يكتَفِي فقط بمطلق المعاصرة حتى لو كانت اللقيا بعيدة جداً، كأن يكون الشيخ في المشرق، والتلميذ في المغرب؟ A هذه مسألة لا يمكن -في اعتقادي- إعطاء جوابٍ قاطعٍ فيها؛ لأن العلة التي ذكرتَها هي ليست علة ضرورية التحقق؛ لأننا نعرف أن علماء المسلمين وحفاظهم كانوا يسافرون من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، فإذا وُجِد هناك ما يدل على أنه لم يخرج من بلده، أو على الأقل من إقليمه من الغرب إلى الشرق، أو من الشرق إلى الغرب، إذا لم يحدث شيء من ذلك فيُحْمَل على الاتصال لمجرد المعاصرة مع ثبوت الثقة والعدالة. السائل: قد يكون سن التحمل -مثلاً- خمس عشرة سنة بين وفاة الشيخ وولادة التلميذ، فيكون هذا التلميذ لا يخرج عادة مثل من عادة الحفاظ! الجواب: إذاًَ: يُنْظَر للقرائن، أما إذا كان لا يوجد مثل هذه القرينة التي ذكرتها الآن، فالجواب ما علمتَ.

هل يشترط في أسانيد الكتب ما يشترط في الحديث أم يتساهل فيها

هل يشترط في أسانيد الكتب ما يشترط في الحديث أم يتساهل فيها Q ما رأيك في أسانيد الكتب؟ هل يشترط فيها ما يشترط في رواية الأحاديث أم يتساهل فيها؟ A رأيي يختلف من كتاب إلى آخر: فإذا كان كتاباً مشهوراً متداوَلاً بين أيدي العلماء ووثقوا به، فلا يشترط. أما إذا كان غير ذلك فإنه يُشتَرط.

حكم مرسل التابعي الصغير إذا ورد من طريق آخر ضعيف

حكم مرسل التابعي الصغير إذا ورد من طريق آخر ضعيف Q مرسل التابعي الصغير، كـ الزهري وقتادة، إذا ورد من طريق آخر ضعيف، هل يقوي أحدهما الآخر؟ A لا فرق عندنا بين التابعي الصغير أو الكبير، فالمرسَل مرسَل وإن كان يحتمل أن يكون منقطعاً، فإذا وُجِد ما يُسْنِده مسنداً ولو كان ضعيفاً فالقاعدة ماشية على إطلاقها.

معنى قولهم: (فلان لا يروي إلا عن ثقة)

معنى قولهم: (فلان لا يروي إلا عن ثقة) Q قولهم: فلان لا يروي إلا عن ثقة، هل هو على الغالب أو مطلقاً؟ وهل يُفهم من عبارات التوثيق: كلُّ مَن روى عنه، فلانٌ مثلاً، كالإمام مالك ويحيى بن أبي كثير؟ A إذا كان العلماء لا يأخذون بتوثيق رجل لا تُعْرَف عينُه، فالأولى ألا يؤخذ بهذه القاعدة، فهي أبعد عن التوثيق لشخص معلوم، بمعنى: إذا قال العالِم أو الإمام: حدثني ثقة، فلا يصح السند، حتى ينكشف مَن هذا الثقة الذي عَنَاه، كذلك مجرد رواية إمام عن شخص لا نعلم عنه أنه وثَّقه أحد، وإنما نعلم هذا الإطلاق أنه لا يروي إلا عن ثقة، فهذا لا يُعْتَمد عليه؛ لأنه اعتماد على كلام مُجْمَل، وكثيراً ما انتقض هذا الإجمال ببعض الروايات.

حجية قول الصحابي

حجية قول الصحابي Q ما قولكم في قول الصحابي: هل هو حجة أم لا؟ أم أن هناك تفصيلاً معيناً؟ A لا بد من التفصيل: قول الصحابي إذا كان قالَه في وجود بعض الصحابة ولم يخالفه أحدٌ، فهذا نطمئن إليه، ونحتج به. أما إذا لم تكن مثل هذه القرينة، ثم لم يكن هناك في النص من الكتاب أو السنة ما يخالِفُه، فنحن نطمئن إليه أيضاً؛ ولكننا لا نستطيع أن ننزله منزلة الكتاب والسنة، إلا إذا كان معه ناس آخرون.

الفرق بين تفسير الصحابي للآية وقوله في المسألة

الفرق بين تفسير الصحابي للآية وقوله في المسألة Q ما الفرق بين تفسير الصحابي للآية وقوله في المسألة؟ A هذه تدخل في موضوع تفسير الصحابي، فتفسير الصحابي له علاقة برأي الصحابي -أيضاً- إذا كان متعلقاً بأمر غيبي -خبر غيبي- لأنه في هذه الحالة، وفي الحالة الأولى التي سألتَ عنها -أي: في التفسير- يغلب على الظن أن هذا ليس باجتهاده، وإنما بتوقيف من الرسول عليه السلام له عليه. ولذلك فيشترط في مثل هذا القول الذي يقول بأن قول الصحابي حجة: إذا كان رواية عن أمر، لا يمكن أن يقال بمجرد الرأي، وهذا -أيضاً- ليس على إطلاقه، وإنما نرى -وهذا أمر ضروري جداً- أن يقيد بما إذا لم يكن هناك احتمال أن يكون من الإسرائيليات؛ لأن كثيراً من الإسرائيليات تتحدث -أيضاً- عن أمور غيبية، ومعلومٌ أن الصحابة كانوا يتلقون كثيراً من الإسرائيليات عن بعض الذين أسلموا من أهل الكتاب، فإذا جاء خبر من صحابي يتعلق بأمر غيبي، ولا يحتمل أن يكون من الإسرائيليات، فهنا يقال: إنه في حكم المرفوع. من هذا القبيل قيل في تفسير الآيات: إنه في حكم المرفوع؛ لأن التفسير لا يمكن أن يقال بمجرد الرأي، وبخاصة من الصحابة الأولين الذين سمعوا القرآنَ من الرسول عليه السلام، وبيانَه للقرآن مباشرة.

حكم الأخذ بقول الصحابي

حكم الأخذ بقول الصحابي Q قول الصحابي يا شيخ، ذكرتَ أننا نطمئن إليه ولا يُحتج به، فهل الأَولى الأخذ به؟ A نعم. لا شك. مداخلة: أنت قلتَ: ويُحتج به. الشيخ: نعم؛ ولكن لا نلزم الناس به. مداخلة: ولكنه قال: إنه لا يحتج به. السائل: لا بأس! أعيد السؤال يا شيخ: ذكرتَ أن قول الصحابي رضي الله عنه إذا قال قولاً ولا يوجد هناك دليل على أنه قاله في جمع من الصحابة، ذكرتَ أنه نطمئن إليه؛ ولكن لا يُحتج به، أي: لا نستطيع أن نلزم الناس به. الشيخ: هذا هو، لا نستطيع أن نلزم الناس. السائل: لكن الأولى أن نأخذ به، ولا نأخذ مِن رأينا، أو رأي مَن بعدَه من العلماء. الشيخ: هو كذلك، ونحن على سبيل المثال دائماً نتحدث عن مسألة الشرب قائماً، ومع أن المسألة فيها خلاف معروف بين العلماء قديماً وحديثاً، إلا أننا نحن نتبنى تحريم الشرب قائماً إلا لعذر، فنُسأل عن الأكل قائماً: ما حكمه؟ فنذكر بهذه المناسبة أن هذا السؤال وُجِّه إلى راوي حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم عن الشرب قائماً - ألا وهو أنس بن مالك - فقيل له: فالأكل؟ قال: شر) ، فنحن نقول بقوله؛ لكن لا نستطيع أن نلزم الناس بأن يأخذوا بهذا القول؛ لأن هناك علماء مختلفين في مثل هذا.

طريقة تمييز صحيح وضعيف قول الصحابي

طريقة تمييز صحيح وضعيف قول الصحابي Q كيف يستطيع طالب العلم مثلاًَ التميز بين أقوال الصحابة، من حيث الآثار الصحيحة والضعيفة؟ أعني: ما هي الكتب التي تنصحوننا بها؟ الشيخ: ما يميز الحديث؟ السائل: بالنسبة للحديث هناك كتب تميز الصحيح من الضعيف؛ لكن الآثار كأقوال الصحابة كيف نميزها؟ الشيخ: نفس الجواب! أليس هناك أحاديث ليس لها أسانيد؟! ماذا يفعل فيها؟! لا يعلم، كذلك هناك آثار ليس لها أسانيد، فلا يستطيع أن يقوم بالتصحيح والتضعيف؛ لكن هناك آثار لها أسانيد، فيعالجها كما يعالج الأحاديث. السائل: لأن كثيراً من المؤلفين لا يعتنون بالآثار كما يعتنون بالأحاديث. A هذا شيءٌ آخر، أنا أجبتك عن سؤلك.

الوحدة والاتفاق

الوحدة والاتفاق إن وحدة الأمة الإسلامية مبدأ حث ورغب فيه الشرع الحنيف، ولا يمكن لهذه الأمة أن تجتمع اإلا تحت منهج قويم يمنعها من التفرق والتشتت والتشرذم، وهذا المنهج القويم لابد أن يكون نابعاً من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، هذا ما كشف الشيخ الحجاب عن أهميته في هذه المادة.

الحث على سلوك الطريق المستقيم

الحث على سلوك الطريق المستقيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فإننا نحمد الله تبارك وتعالى على أن هدانا لما اختلف فيه الناس من الحق بإذنه سبحانه وتعالى، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، هدانا إلى أن نتبنى الكتاب والسنة عقيدة لنا ومنهجاً في حياتنا، بينما نجد المسلمين الآخرين قد رضيت كل طائفة منهم بمذهب يلتزمونه التزام المسلم للكتاب والسنة، فهذه نعمة ليس بعدها نعمة؛ ذلك لأن التمسك بالكتاب والسنة هو الضمان الوحيد الذي يعصم الإنسان من أن يقع في ضلال مبين، كما جاء في الحديث الصحيح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) . التمسك بالكتاب والسنة هو السلوك على الطريق المستقيم، الذي أخبرنا به رب العالمين في كتابه الكريم حين قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] وقد أخرج أبو عبد الله الحاكم في مستدركه بإسنادٍ جيد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً على الأرض مستقيماً، ثم خط خطوطاً أخرى على جنبتي الخط الأول -خط خطوطاً قصيرة حوالي الخط المستقيم- ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ثم زاد بياناً لهذه الصورة البديعة الجميلة التي صورها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده الكريمة على الأرض؛ لينطبع في أذهان السامعين لكلامه والرائين لصورته أثرها في قلوبهم فقال: هذا صراط الله، وهذه طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه) . ولقد كانت هذه الصورة من بالغ حجة الله على لسان نبيه على أولئك المسلمين الذين انحرفوا عن صراط ربهم المستقيم؛ لأن هذه الصورة توضح وتؤكد ما جاء في الآية السابقة، أن الطريق الموصل إلى الله تبارك وتعالى ليس إلا طريقاً واحداً، وأن الطرق الأخرى -التي تخرج من الطريق المستقيم وتبعد عنه- كلما سار السائر فيها ابتعد عن الصراط المستقيم وضل ضلالاً مبيناً. وإني لأرى في هذه الصورة تنبيهاً لطيفاً ناعماً جداً، إلى ما يقع فيه كثير من الناس من الانحراف عن الخط المستقيم، بدعوى أن هذا الطريق بعيد المدى، نحن نسمع هذا الكلام في هذه الأيام، ونجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وكأنما أوحى الله تبارك وتعالى إليه بما سيقع وبما سيأتي من الزمان؛ فأشار إليه بهذه الصورة البديعة الجميلة نحن حينما نتحاجج مع بعض المخالفين للنهج السلفي، وحينما ندعو الناس إلى هذا النهج السوي وهو اتباع الكتاب والسنة، ونفصل لهم شيئاً من التفصيل، ونقول لهم: لا بد من تعليم الناس دينهم على الوجه الصحيح المطابق للكتاب والسنة، والموافق لما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم؛ نجد كثيرين من هؤلاء يعترفون بأن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه؛ ولكن يقولون: يا أخي! هذه شغلة طويلة، وهي تحتاج إلى مدى طويل، ونحن نريد أن نقيم الدولة المسلمة بأقرب طريق. فنقول لهم: إن هذا الطريق قد صوره الرسول عليه السلام فعلاً أنه طريق ممتد وطويل؛ ولكنه مستقيم. ومن لطائف هذه الصورة البديعة الجميلة: أنه صور الطرق المنعرجة المنبعثة منه والخارجة عنه طرقاً قصيرة، وذلك من تمام ما يسوله الشيطان لبني الإنسان بأن يقول لهم: إلى متى تمشون؟ ومتى تصلون؟ اذهبوا من هذا الطريق، انظروا ما أقربه وما أيسر الوصول إلى منتهاه! وهذا هو ما غر الناس اليوم، وهو واقع الطوائف الإسلامية الذين يريدون العمل للإسلام، ويريدون خدمة الإسلام وإقامة الدولة المسلمة، تجدهم يتحمسون لإقامة الدولة المسلمة ولكن بغير علم، وإن كان هناك علم ما فليس هو العلم النافع؛ لأن العلم النافع إنما هو ما كان كتاباً وسنة، ثم ما كان من عمل السلف الصالح من عمل الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان، هذا هو العلم النافع، وإلى هذا أشار ابن القيم بقوله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشبيه فـ ابن القيم يشير إلى هذه الحقيقة: أن العلم النافع إنما هو قول الله وقول رسول الله، بفهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فهؤلاء الدعاة الذين يريدون الوصول إلى تحقيق الغاية العظمى، وهي إقامة حكم الله في الأرض، وإيجاد الخلافة الراشدة بعد تلك الخلافة الماضية، التي يتفق جميع المسلمين على وجوب تحقيقها، ولكنهم يختلفون في الوسيلة وفي الطريق، ونحن السلفيين معهم في هذه الغاية، لكننا لسنا معهم في الوسيلة، نحن وسيلتنا أنه لا بد من العلم النافع والعمل الصالح، والعلم النافع هو ما كان مبنياً على كتاب الله وحديث رسول الله، الحديث الصحيح فقط، وعلى فهم السلف الصالح، والعمل بهذا العلم. ولو اجتمع المسلمون اليوم جميعاً على العلم النافع ثم لم يعملوا بذلك؛ فلن يصلوا إلى هدفهم المنشود وهو إقامة حكم الله في الأرض؛ ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فنحن مع كل الذين يدعون إلى إقامة حكم الله في الأرض، وتحقيق -ما يسمونه اليوم- الحاكمية لله عز وجل وحده لا شريك له، ولكننا نختلف عنهم كل الاختلاف في الطريق، طريقنا طويل ومديد، وطريقهم قصير ولكنه منحرف عن الصراط المستقيم، وذلك ما أشار إليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه في هذه الصورة الجميلة البديعة، حينما خط الصراط المستقيم خطاً طويلاً مستقيماً، وخط الطرق المتعرجة عنه طرقاً قصيرة؛ إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الطرق الشيطانية، والتي يزعم دعاتها أنها تؤدي بهم إلى تحقيق الإسلام وإقامة حكمه في الأرض، أنها ليست من الطرق التي تؤدي إلى الخير؛ ذلك لأن الطريق المؤدي إلى الخير هو طريق واحد يجوز لي أن أقول: لا شريك له؛ لأنه وحي السماء، وحي من الله على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لا يقبل التعدد كالموحي به وهو الله تبارك وتعالى. من عجائب ما انحرف به المسلمون عن نصوص الكتاب والسنة، وخاصة هذا الحديث؛ أنهم يصدمونه صدماً، فهو مع تصريحه بأن الطريق واحد يقولون: الطرق الموصلة إلى الله بعدد أنفاس الخلائق!!

الواجب على من وفقه الله لسلوك الطريق المستقيم

الواجب على من وفقه الله لسلوك الطريق المستقيم فإذا كان ربنا عز وجل قد تفضل علينا وهدانا إلى أن وفقنا للسلوك في هذا الطريق المستقيم؛ فيجب علينا أمران اثنان: الأمر الأول: أن نقدر هذه النعمة، وأن نقوم بشكرها لربنا تبارك وتعالى، فأنتم تعلمون قوله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فإننا إذا شكرنا ربنا عز وجل على ما هدانا إلى هذا الطريق المستقيم؛ زادنا هدى وبصيرة في السير في هذا الطريق، وصبَّرنا أمام المشاق التي تعترض سبيلنا من الدعاة إلى هذه الطرق المنحرفة عن الصراط المستقيم، ويجعلنا من أولئك الغرباء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (فطوبى للغرباء) وذلك في قوله: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء) . وقد جاء في تفسير الغرباء روايات؛ وكلها تنطبق على كثير من الدعاة إلى اتباع الكتاب والسنة، وذلك من فضل الله، من تلك الروايات: (قيل: يا رسول الله! من هم الغرباء؟ قال: هم ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وهذا هو الواقع كما تشهدون، وما له من دافع، ولذلك كانوا غرباء حتى بين أقاربهم، وحتى بين آبائهم وأمهاتهم؛ ذلك لأن القرابة الدينية هي أقوى صلة وربطاً من القرابة النسبية، فهؤلاء الغرباء الصالحون إنما هم غرباء من ناحية العقيدة، ومن ناحية اتباع الكتاب والسنة، ولو كانوا يعيشون بين أقاربهم وقبيلتهم فهم مع ذلك غرباء؛ لأنهم صالحون والذين حولهم طالحون. والرواية الأخرى، وهي أبدع وأحفز لنا في أن نثابر على طريقنا وأن نصبر في ذلك، هي قوله عليه الصلاة والسلام: (الغرباء هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي) فهذه الصفة هي صفة الدعاة إلى الكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح جعلنا الله تبارك وتعالى منهم.

الابتعاد عن الاختلاف الذي يفرق الصف ويشتت الشمل

الابتعاد عن الاختلاف الذي يفرق الصف ويشتت الشمل قلت: يجب أن نشكر ربنا عز وجل على أن هدانا إلى هذا الطريق الذي لا ثاني له، ومن شُكرِه عز وجل أن نبتعد عن الاختلاف الذي يفرق الصف ويشتت الشمل؛ ذلك لأننا نعلم جميعاً أن الاختلاف في الدين ليس من شيم المسلمين، ولا من نهجهم ولا من طريقتهم، بل هو من شأن الكافرين المشركين، كما قال رب العالمين تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] . الواقع المؤسف شديد الأسف أن هذه الآية تنطبق، أو على الأقل تكاد تنطبق على كثير من المسلمين اليوم، الذين يختلفون بعضهم مع بعض أشد الاختلاف؛ بحيث أنهم انقسموا إلى مذاهب شتى وأحزاب كثيرة، وصدق فيهم قول ربنا عز وجل: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] فيجب أن نبتعد عن الاختلاف مع بعضنا البعض خشية أن نقع في هذه الفرقة التي ليست من طبيعة المسلمين، وإنما هي من سجية الكافرين المشركين. أقول هذا وأنا أعلم أن الخلاف أمر لا منجاة منه؛ ذلك لأن الله عز وجل خلق الناس متفاوتين في أفهامهم، وفي مداركهم، وفي قدراتهم، وفي فهم نصوص الكتاب والسنة، فلا بد من أن يقع شيء من الاختلاف بين أفراد الاتجاه الواحد والخط المستقيم، ومثاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانوا متفقين في عقائدهم وفي جميع مسائلهم الفقهية، ولكن من جهة أخرى كانوا مختلفين في بعض المسائل الفرعية؛ إلا أن هذا الاختلاف لم يؤد بهم إلى أن ينقسموا إلى أحزاب وإلى مذاهب متفرقة، وهذا التفرق هو الذي يحمل المتفرقين على أن يعادي بعضهم بعضاً، وأن يشتغل بعضهم بالجهاد في البعض الآخر، فيصرفهم ذلك عن أن يتوجهوا جميعاً صفاً واحداً إلى محاربة أعداء الله، من الكفار والمشركين والمرتدين عن الدين. لقد كان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يختلفون في بعض المسائل، لكن ذلك لم يوصلهم إلى التباغض وإلى التدابر الذي نهى عنه الرسول عليه السلام في الأحاديث الصحيحة (لا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً) هكذا كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك فلا بد أن نجعل من جملة الخط الذي نمشي عليه، هو ما يمكن التعبير عنه أن نتسامح بعضنا مع بعض فيما إذا اختلفنا في فهم نص من كتاب الله أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فينبغي أن يعذر بعضنا بعضاً في ذلك؛ لأنه من المستحيل، ويجب أن تكون هذه الفكرة قائمة في عقيدة كل فرد منا؛ لأن الإصلاح لا يقوم على تجاهل الواقع وعلى تجاهل الحقائق، يجب أن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم الذين هم خير القرون، كما قال عليه السلام في الحديث الصحيح: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لم يستطيعوا إلا أن يختلفوا في بعض المسائل، وأنتم على ذكر لكثير من هذه المسائل. وحسبكم ما يبتلى به كثير من الناس اليوم مما يقال: إنه مفسد للوضوء أو مبطل للصلاة، وهل مس المرأة ينقض الوضوء أو لا ينقض؟ وهل خروج الدم يفسد الوضوء أو لا يفسد؟ ونحو ذلك، فهل وصل بهم الأمر إلى أن يمتنع أحدهم من الصلاة وراء أخيه المسلم لأنه يخالفه في رأيه؟!

الواجب على المسلمين أمام الاختلاف

الواجب على المسلمين أمام الاختلاف إن من سنة الله عز وجل في عباده أنهم قد يختلفون في بعض المسائل تفاهماً لها، فينبغي علينا أمران اثنان: الأمر الأول: أن نتعاون على فهم النص من الكتاب والسنة فهماً صحيحاً، بحيث أنه لو كان من المستطاع عادة ألا يكون بيننا أي خلاف لوجب ذلك علينا، وإذا كان من غير الممكن القضاء على الخلاف -كما تدل على ذلك سنة الله في خلقه وفي أصحاب نبيه- فلا أقل من أن نسعى إلى تقليل الخلاف. وإننا لا نعتقد ما يعتقده جماهير المسلمين اليوم من إطلاقهم القول بأن: الاختلاف رحمة، فإن هذا القول لم يرد إلا في حديث منكر، بل موضوع، ألا وهو: (اختلاف أمتي رحمة) كما أنه لم يرد إلا في مثل هذا الحديث، فهو مصادم لنصوص الكتاب والسنة التي تدعو جميع الأمة إلى ألا يتفرقوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولكن إذا قال قائل: إذا كان من غير الممكن إزالة الخلاف من أصله وجذره، كما تعترف أنه كان واقعاً في أصحاب الرسول عليه السلام؛ فليس لنا أن نقلب الحقيقة فنجعل الاختلاف رحمة. نحن نقول: الاختلاف الذي لا بد منه، والذي إنما يكون بعد أن أنفذنا وبذلنا كل جهودنا في سبيل الاتفاق على فهم النص على وجه معين؛ فإذا بقي شيء من الاختلاف فنقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا بد مما لا بد منه، أما أن نصف هذا الاختلاف الذي بقي رغماً عنا بأنه رحمة؛ فهذا ليس له وجه من الوجوه إطلاقاً، حسبنا أن نقنع برحمة ربنا بنا حينما قال على لسان نبينا: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد) فقد أثبت الحديث الصواب وأثبت مقابله الخطأ، أما أن نَصِف الخطأ بأنه رحمة فهذا لا يمكن أن يكون. لذلك فنحن وسط بين أولئك الناس، وهم جماهير المسلمين اليوم -مع الأسف الشديد- الذين يرضون بهذا الواقع من الاختلاف الكثير، الذي لم يقف عند حدود الاختلاف في الفروع كما يزعمون، بل تعدى ذلك إلى الاختلاف في الأصول، أي: في العقيدة. نحن لسنا مع هؤلاء الذين يقولون: اختلافهم رحمة، ولسنا -أيضاً- مع أولئك الذين قد يخيل إليهم أنهم يستطيعون أن يوجدوا ويحققوا مجتمعاً هو أكمل وأهدى سبيلاً من مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نحن إذا كنا نجتهد وبإمكاننا ألا نكون من أولئك الذين يقولون: اختلافهم رحمة، فلن نستطيع أبداً أن نكون خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما نحن كما قال الشاعر تماماً: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح فنحن نسعى أن نستن ونهتدي بهدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اهتدوا مباشرة بهديه دون أن يدخل بينهم وبينه أي واسطة. فإذاً: الحق وسط بين الجماهير الذين يقولون: الاختلاف رحمة، وبين القليل من الناس الذين بتحركهم على وحدة الكلمة وعلى توحيد الصف، يتوهمون أنه بالإمكان أن نجعل كل فرد مطابقاً في فهمه للجمهور، هذا أمر مستحيل! إذاً: يجب أن نتوسع قليلاً إذا ما ضيق غيرنا، وأن نضيق إذا ما وسع غيرنا؛ لأن هذا التوسع الذي لا حدود له خلاف الكتاب والسنة كيف يكون الاختلاف رحمة وربنا عز وجل يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] ؟ فإذا كان الاختلاف رحمة فيا ترى هل يكون الاتفاق نقمة؟ والله يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] ؟ البشر لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فالمرحومون لا يختلفون.

الجمع بين أن المرحومين لا يختلفون مع وجود الاختلاف بين الصحابة

الجمع بين أن المرحومين لا يختلفون مع وجود الاختلاف بين الصحابة أعود لأؤكد على النقطة التي أريد التنبيه إليها إن المرحومين لا يختلفون، لكن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا بلا شك مرحومين، فكيف يلتقي هذا مع ذاك الاختلاف الذي أشرنا إليه؟ نقول: الاختلاف قسمان: اختلاف هوى، واختلاف فهم اختلاف تعصب، واختلاف تطلب للهدى. فإذا اختلف اثنان وكل منهما يسعى لمعرفة حكم الله ورسوله ثم لم يتفقا فهذا لا ضير فيه، ولا شك أن الاتفاق خير من الاختلاف، مهما كان الاختلاف يسيراً وسهلاً وسمحاً، ولكن لا يمكن الاتفاق في كل مسألة بين عالمين، أو بين شقيقين، أو بين سلفيين، فهذا أمر مستحيل! لذلك يجب ألا نضيع وقتنا في تحقيق المستحيل، وإنما نصرف وقتنا في القضاء ما يمكن على الاختلاف، هذا هو واجبنا، وهذا هو تميزنا عن جماهير الناس الذين رضوا بالاختلاف وطبعوه بطابع الرحمة؛ ولذلك فهم لا يزالون مختلفين، ولم لا وهم يظنون أن الاختلاف رحمة، وأن الإنسان مخير بين أن يأخذ بهذا القول أو بهذا القول، أو بذاك أو بذاك؟ وكثير منهم يُصرحون بأن المذاهب الأربعة كشرائع أربع، فلكل شريعة وزنها، والإنسان مخير أن يأخذ بهذا أو بهذا أو بهذا، فأين ذهبوا بقول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ؟ فهذا الاختلاف مرفوض مردود مخالف للكتاب والسنة؛ لأنه اختلاف لا يرد إلى الكتاب والسنة كما في الآية السابقة {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، فالرضا بهذا التنازع خلاف الكتاب والسنة. وهناك اختلافٌ لا بد منه، وسببه اختلاف نسبة العلم والفهم من زيد إلى عمرو؛ فلهذه الأسباب التي لا إمكان للإنسان أن ينجو منها وقع شيء من الخلاف بين الصحابة في فهمهم لبعض النصوص، ولكنهم إذا ما نُقِل إليهم أو عرض عليهم قول الله أو قول رسول الله، كان موقفهم كما قال تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ، هذا هو الفرق بين المهتدين وبين الضالين، الذين يرضون بالخلاف وهم مأمورون برفع الخلاف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

الفرق بين الاختلاف الجائز والمذموم

الفرق بين الاختلاف الجائز والمذموم نحن بحاجة إلى التنبيه ألا يتعصب كل منا لرأيه في فهم نص من كتاب الله، أو حديث رسول الله، تعصباً يؤدي بنا إلى شيء من التنازع والتنافر، وقد يؤدي هذا بعد ذلك إلى التدابر وإلى التباغض، وهذا كله منهي عنه. فإذاً: نستطيع أن نقول باختصار: إن الفرق بين الاختلاف الجائز والاختلاف المحرم، يظهر من بقاء هؤلاء المختلفين على وحدتهم وعلى تناصحهم وتوادهم، أو خرجوا من ذلك إلى التناحر وإلى التباغض، فهذا ما أردت التنبيه عليه فيما إذا وقع الخلاف بين بعضنا بعضاً في مسألة ما فينبغي أن نتسامح. وأنا أُذكِّر بكلمة لبعض الدعاة الإسلاميين فيها شيء من هذا المعنى، ولكن يمكن تفسيرها بشيء يخالف بعض التوجيه السابق، تلك الكلمة تقول: نتعاون على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. هذا الكلام يمكن تفسيره تفسيراً صحيحاً، ويمكن تفسيره تفسيراً أعوجاً، وهذا التفسير الأعوج هو الذي يطبقه المنتمون إلى قائل هذه الكلمة؛ لأنهم ينتهون إلى الرضا بالاختلاف وترك السعي للقضاء عليه بقدر الإمكان؛ ولذلك تجدهم يجتمعون ويعيش بعضهم مع بعض على أشد الاختلاف في قلوبهم هذا حنفي، وهذا شافعي، وذاك مالكي، وآخر حنبلي، ومع ذلك فهم جماعة واحدة -زعموا- وهذا ماتريدي، وهذا أشعري، وذاك سلفي، ومع ذلك جماعتهم جماعة واحدة، كيف كان هذا؟ كان هذا لأنهم تبنوا هذا التوجيه (يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) هذا لا يجوز في الإسلام؛ لأنه يجب على المسلمين أن يتناصحوا، ولا شك أن التكتل والتجمع مما أمر الله به ورسوله، لكن يجب أن يكون التكتل على أساس الإسلام وعلى أساس النصيحة، وقد قال عليه السلام كما تعلمون: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم) . فإذا عشت أنا معك عشرين سنة ولم تنصحني، وأنا -مثلاً- ماتريدي وأنت أشعري وآخر سلفي، فهذا ليس من الإسلام في شيء إطلاقاً. وأنا في الواقع أشعر أن هذه الجملة الأخيرة: (ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) أننا نحن السلفيين بحاجة إلى هذا التوجيه مع القيد السابق: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه بعد التعاون والتناصح، ومحاولة إقناع كلٌ منا الآخر بالوجهة والصواب الذي يراه، أما أن يترك بعضنا بعضاً على خطئه وعلى ضلاله؛ وقد يكون ضلاله كفراً؛ فهذا ليس من الإسلام في شيء إطلاقاً. ولهذا نقول: الصواب ما بين الإفراط وما بين التفريط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] فالوسط هو التمسك بالكتاب والسنة، والسلف الصالح تمسكوا بالكتاب والسنة، فكان يجادل بعضهم بعضاً، ويناظر بعضهم بعضاً، وذلك من باب التناصح في أقل مسألة، ولا يرضون بالواقع ولو كان خطأً، بل كان بعضهم يصدع بالحق صدعاً يكاد كثيرون منا اليوم لا يتحملونه؛ والسبب في ذلك أننا نشأنا على المداراة، وهي في الحقيقة المداهنة والنفاق بعينه. ولعلكم تذكرون كلمة ابن عمر لما جاءه رجل وقال له: [يا عبد الله! إني أحبك في الله، قال: أما أنا فأبغضك في الله. قال: كيف؟ قال: لأنك تلحن في أذانك وتأخذ عليه أجراً] هذا النوع من النصح اليوم لا نكاد نراه إلا نادراً ونادراً جداً، بل لو رُئي هذا النوع لنسب صاحبه إلى القسوة وإلى الشدة وإلى ترك الحكمة. كذلك تعرفون حديث ابن عمر نفسه، حينما حدث أمام جمع وفيهم أحد أولاده بما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (ائذنوا للنساء بالخروج إلى المساجد بالليل) أو نحو هذا الحديث، فقال ابن له: والله لا نأذن لهن. فما كان منه إلا أن هدده وقال له: [أقول لك: قال رسول الله كذا وكذا وتقول: لا نأذن لهن؟ والله لا كلمتك أبداً] فمات الولد وأبوه مقاطع له هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كاد أن يكون نسياً منسياً، فهذا التناصح يجب ألا ننساه، وبه يمكن القضاء على القسم الأكبر من الاختلاف الذي ورثناه في هذه القرون الطويلة المديدة. أما أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه على الإطلاق؛ فهذا ليس من الإسلام في شيء. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من المهتدين الهادين المعتدلين السالكين على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول الإمام المسافر عند خروجه من الصلاة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر

حكم قول الإمام المسافر عند خروجه من الصلاة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر Q ما حكم قول الإمام المسافر عند خروجه من الصلاة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر؟ A هذه الكلمة صحت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخرجها الإمام مالك في موطئه، ورويت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف من قبل حفظه، ولكن صدع عمر بن الخطاب بهذه الكلمة في المسجد الحرام وهو يؤم جمعاً غفيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كبار التابعين، ولا أحد ينكر عليه، فمثل هذا القول يكون حجة عند جماهير الأئمة إذا لم يخالف السنة. والواقع أنه ليس لدينا سنة تعارض قول عمر بن الخطاب، بل هناك حديث تأيد معناه بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لذلك فتبني هذا القول بالنسبة للإمام المسافر إنما هو اهتداء واقتداء بـ السلف الصالح الذين أقروا هذا القول، واللازم من ذلك أنهم تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه لا معارض له. هذا من جانب. ومن جانب آخر: ليس في شيء من الأحاديث، ولا في شيء من الآثار السلفية التي وقفت عليها أن الإمام المسافر كان يرفع صوته بالسلام قبل تلك الكلمة، ومن المعلوم أن السلام ركن من أركان الصلاة على أصح أقوال العلماء؛ لحديث: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) . فإذاً: لا بد للخروج من الصلاة أن يسلم الإمام، لكن البحث الآن: هل يسلم هذا الإمام المسافر جهراً أم سراً؟ لو وجدنا نصاً في أن الرسول عليه السلام، أو أحد الصحابة الكرام كان يجهر بالسلام؛ لوجب أن نتبناه، كما فعلنا بقول عمر: أتموا صلاتكم. إلخ، لكن في حدود ما اطلعت وعلمت لم أجد شيئاً من هذا، وعلى ذلك فنجمع بين وجوب التسليم فنسلم سراً، ونقول جهراً: أتموا صلاتكم؛ لتنبيه الناس إلى وجوب إتمامهم للصلاة؛ لأنهم مقيمون. هذا من حيث الفقه والرواية، لكن من حيث النظر والاعتبار أقول، والتجربة أكبر شاهد: إن الإمام المسافر الذي قصر إذا رفع صوته بالسلام عرض الذين خلفه للتسليم معه؛ ذلك أن العادة غالبة متحكمة ومسيطرة على الناس، إلا من شاء الله وقليل ما هم، فالمقتدي لا يكاد يسمع قول الإمام: السلام عليكم ورحمة الله، إلا نسي حاله ونسي أن الإمام مسافر وأن عليه القصر وهو مقتدي وعليه التمام، فما يكاد يسمع سلام الإمام إلا ويتابعه بالسلام، فيخرج من الصلاة، فكأنه من الحكمة حين نُقِل إلينا جهر عمر بقوله: أتموا صلاتكم، ولم ينقل أنه جهر بالسلام كأن الحكمة أن يسد الطريق على المبتدعين أن يقعوا في مثل هذا الخطأ، وهو أن يسلموا مع الإمام، ولا يجوز لهم السلام مع الإمام؛ لأن عليهم تمام الصلاة، هكذا أنا فهمت المسألة مما وقفت عليه من الأدلة. وعلى سبيل التذكير، ومن جهة بيان شدة تأثر الناس بالعادات، ومن باب التسلية في أثناء البحث العلمي، أورد لكم القصة الطريفة الآتية: كنت منذ نحو عشرين سنة أو أكثر في قرية تعتبر من مصايف سوريا، تسمى بـ مضايا، نزلت إلى المسجد لصلاة الفجر فلم يحضر إمام المسجد، وكان يوم جمعة، فقدموني لأصلي بهم إماماً، وأنا أعرف أن من السنة أن يقرأ الإمام في صبح الجمعة سورة السجدة في الركعة الأولى، وسورة الدهر في الركعة الأخرى، لكني لا أُتقن حفظ السورتين؛ لذلك رأيت أن أقرأ من سورة أخرى أحفظها، وكان ذلك من سورة مريم، فقرأت نحو صفحة أو أكثر قليلاً، فلما كبرت تكبيرة الركوع وركعت إذا بالناس جميعاً يهوون ساجدين، فالذين خلفي أحسوا بأني لست ساجداً وإنما أنا راكع، فتداركوا أمرهم وقاموا وشاركوني في الركوع، أما الذين وراء المنبر ولا يرون الإمام -ومن البدع الموجودة في بلادنا وفي بلادكم -أيضاً- هذا المنبر الطويل الذي يقطع الصف الأول والثاني- ما زالوا ساجدين إلى أن سمعوا قولي: سمع الله لمن حمده، حين ذاك بدأت الضوضاء والغوغاء في صفهم، وما أدري ماذا تكلموا، ولا شك أنهم نالوا من عرضي. بعد أن أتممت الصلاة توجهت إليهم أعظهم فقلت لهم: يا جماعة! هل أنتم عجم أو عرب؟ والله لو أن هذه القصة وقعت من الأعاجم الذين لا يعرفون كلمة من اللغة العربية لكان عاراً عليهم، ألا تفرقون بين قول الإمام: (الم) وبين قوله: (كهيعص) ؟ أم أن قلوبكم وعقولكم وراء البقر والزرع والضرع؟ الشاهد: كيف أن العادات تؤثر في الناس، وتجعلهم يغفلون ما يسمعون من القرآن، كذلك إذا قال الإمام: السلام عليكم ورحمة الله سلموا معه، فأنا وجدت أنه من الحكمة أنه لم ينقل إلينا لا عن الرسول عليه السلام، ولا عن الصحابة جهرهم بالسلام حينما يصلون بالناس، لكنه نقل إلينا عن عمر بن الخطاب جهره بقوله: [أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر] .

رأي الشيخ في الجماعات التي تسعى لإقامة دولة إسلامية دون الأخذ بالأسباب

رأي الشيخ في الجماعات التي تسعى لإقامة دولة إسلامية دون الأخذ بالأسباب هناك الآن ظاهرة في العالم الإسلامي يجب أن نأخذ حذرنا منها، فالعالم الإسلامي الآن في اضطراب شديد، وذلك بسبب المصائب التي تنزل على المسلمين بأنواع وأشكال شتى، فنتج عن ذلك طائفة من الناس يريدون أن يقيموا دولة الإسلام بالقوة والبطش، بدون أي اتخاذ للوسائل الشرعية والوسائل الكونية التي يأذن بها الله تبارك وتعالى. ولعلكم سمعتم بالطائفة التي يصفهم أعداؤهم ويسمونهم بـ جماعة التكفير والهجرة، ونحن لا ندري بماذا يسمون أنفسهم، لكنهم ينتسبون إلى الكتاب والسنة، وقد التقيت بأفراد وجماعات منهم، وتناقشت معهم كثيراً، فوجدت في قلوبهم إيماناً، وفي نفوسهم حرارة الإسلام، ينظرون إلى واقع المسلمين فلا يعجبهم ولا يرضيهم؛ فيندفعون بطريقة غير واعية وغير حكيمة. وقد نقلت بعض الإذاعات منذ يومين خبراً أن هذه الطائفة في مصر قبضت على أحد المشايخ الأزهريين بطريقة أشبه بالطريقة البوليسية، فأخذوه وأودعوه في السيارة ثم نقلوه إلى مكان، ثم قيل أنهم قتلوه، ومن قبل حبسوه وطلبوا فداءه كذا وكذا من المال. إلخ، فهذه الظاهرة إنما هي تنفيس لهذا الضيق الذي يجده المسلمون في بلادهم، ولكنهم لا يحسنون الطريق. كذلك هناك رجل اسمه الدكتور أحمد عيد، زعم أنه قد ألهم بأن المهدي سيخرج قريباً، وأن عليه أن يهيئ له المجلس الاستشاري، فأخذ يستقطب بعض الأفراد من كل الجماعات والأحزاب، حتى وصل إلى بعض إخواننا السلفيين فأخذ اثنين منهم، فوظفهم عنده في المجلس الاستشاري، لكنهم ما خرجوا عن الدعوة السلفية؛ لا سيما بعدما اتصلوا بي وأخبروني خبره. حتى إنه استقطب بعض الأفراد من الناصريين، وهذا يدل للبصير في دينه أنه رجل ليس على هدى من ربه؛ لأنه يجمع بين الصالح وبين الطالح، فقد جمع بعض السلفيين، وبعض الإخوان المسلمين، وبعض الناصريين، وبعض النقشبنديين، ثم صور للناس بأن لديه غلاماً لم يبلغ بعد سن التكليف، وأن هذا الغلام يتصل بالرسول عليه السلام مباشرةً؛ فكلما أراد شيئاً من وراء الغيب سأل ذلك الغلام، مثلاً: زيد من الناس يصلح للمجلس الاستشاري أم لا؟ فهو يعرض هذا الطلب على ذاك الغلام الذي عنده، فما يكون من الغلام إلا أن يضع يده على جبهته ويفكر، وإذا به يرى الرسول عليه السلام يقظة فيكلمه ويسأله، ويقول له: يا رسول الله! فلان بن فلان ماذا تقول فيه؟ أيصلح للمجلس الاستشاري أو لعمل ثان أو غيره؟ فإذا قال له: يصلح. أدخله في جماعته، وإذا قال له: لا يصلح. لم يدخله في جماعته. ثم أرسلنا إليه أحد إخواننا واسمه عيد عباسي -صاحب كتاب بدعة التعصب المذهبي، وهذا من أحسن ما ألف في العصر الحاضر في هذا الموضوع- فناظره وجادله وسجلت مناظرة بينهما. الخلاصة: الرجل أخيراً فضح أمره فولى هارباً من دمشق، لكنه بذر بذوره في عمَّان، وأسمع ما بين آونة وأخرى بأن فلاناً صار من جماعته وفلاناً صار من جماعته. فما الذي يجعل الناس يتقبلون مثل هذه الضلالات؟ لأنهم يريدون أن ينفسوا عن هذا الضيق الذي أصاب المسلمين بسبب ضغط الكفار والمستعمرين من هؤلاء الكفار، فيريدون مخرجاً، ولكنهم لا يحسنون الطريق. ويتمسك هؤلاء بالأحاديث التي وردت في حق المهدي محمد بن عبد الله. ويجب أن نعلم أن الأحاديث الواردة في المهدي فيها قسم كبير صحيح، وفيها قسم حسن، وفيها قسم كثير ضعيف، بعضه مما يأخذ بعضد بعض، وبعضه منكر لا يحتج به، فعقيدة خروج المهدي عقيدة صحيحة، ولكن هذه العقيدة فيها شيء من البيانات التي تجعل المسلم لا يميل يميناً ولا يساراً، ولا يكون ذيلاً لكل من يدعي المهدوية، كما وقع ذلك كثيراً في التاريخ الإسلامي. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المهدي بعلامات، فمنها قوله: (المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة) فأول شرط في المهدي: أن يكون من أهل البيت، لا يكون أعجمياً، ولا يكون عربياً ليس من أهل البيت، ولا يكون من قبيلة كذا وليس له صلة ببيت النبوة والرسالة، إذاً هو من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. العلامة الثانية: أن اسمه محمد بن عبد الله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تنقضي الدنيا -وفي رواية: لا تذهب الدنيا- حتى يبعث الله رجلاً يوافق اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت جوراً وظلماً) فإذاً هو محمد بن عبد الله، ويجب أن يكون هذا اسمه منذ ولد، لا أن يكون مخترعاً من جديد، فالدجالون يعلمون هذا الحديث، ويعلمون أن المسلمين يؤمنون به؛ لذلك فهم يتسمون من جديد بهذا الاسم. القادياني الذي ادعى النبوة اسمه: ميرزا غلام أحمد القادياني، هذا الرجل من كبار الدجاجلة في هذا القرن الأخير، سمي على طريقة الهنود: ميرزا غلام أحمد، ميرزا: لقب بمعنى السيد أو الباشا أو البيه. إلخ، لكن اسمه غلام أحمد، ومعنى غلام أحمد: خادم أحمد، فهو ليس اسمه أحمد، إنما اسمه مضاف ومضاف إليه، مثل عبد الله، فهو عبد الله وليس الله، فالعبد مضاف إلى الله، كذلك هنا غلام أحمد، يعني هو: خادم محمد، يتشرف الهنود أن ينسب أحدهم بأنه خادم الرسول عليه السلام، وبعضهم يسمى بنور أحمد، فحذف النور يخرج أنه أحمد وهو ليس اسمه أحمد. هذا الدجال لما بدأ ينشر كتبه باللغة العربية حذف كلمة غلام ووضع اسمه أحمد، لكي يحمل آية: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] يعني: هو، هو ليس اسمه أحمد بل هو غلام أحمد، لكن من باب التضليل على الناس حذف هذا الاسم الأول الذي أضيف إلى أحمد؛ لكي يسلك استدلاله على جماهير الناس. الآن عندنا صفتان واضحتان للمهدي: الأولى: أنه من أهل بيت النبوة والرسالة، الثانية: أن اسمه محمد بن عبد الله، وأنه يجب أن يعرف منذ ولادته بهذا الاسم حتى يبلغ سن التكليف والرشد، وسن تولي هداية الأمة إلى سعادتها في الدنيا قبل الآخرة. العلامة الثالثة: نأخذها من الحديث الأول: (يصلحه الله في ليلة) وهذا يمكن أن يفسر في الواقع على وجه من وجهين: الوجه الأول: أنه لا يكون صالحاً لقيادة الأمة، يكون منطلقاً في دينه وفي استقامته، لكن لا يخطر في بال أحد أنه يصلح أن يكون قائداً للأمة، فيصلحه الله في ليلة، أي: يلهمه أن يقوم لقيادة المسلمين الذين يلتقون حوله إلى تحقيق الحلم الذي ينشده المسلمون اليوم، وهو الحكم بما أنزل الله. الوجه الآخر: يكون الرجل غير صالح في نفسه، يعيش ما شاء الله من سنين وهو مفرط على نفسه، مضيع في شيء من دينه، فالله عز وجل يلهمه في ليلة واحدة أن يعود إلى الله تائباً مهتدياً فيصلحه الله في ليلة. العلامة الرابعة -وهي هامة جداً-: أنه يخرج في دمشق، وهي عاصمة بلاد الشام قديماً وسوريا حديثاً، وهذا مصرح به في الحديث الصحيح. العلامة الخامسة: أنه يلتقي مع عيسى عليه الصلاة والسلام في دمشق، حيث ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق في وقت صلاة الفجر، وقد أقيمت الصلاة للمهدي، فلما يرى عيسى قد جاء يقدمه ليصلي بالناس، فيأبى ويقول له: لا. تقدم أنت؛ تكرمة الله لهذه الأمة فعيسى حينما ينزل لا ينزل بصفة كونه نبياً؛ لأنه كان نبياً إلى بني إسرائيل ورسولاً، وإنما يأتي تابعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام. هذه علامات يجب أن تبقى في أذهاننا؛ حتى لا نغتر بدعوى بعض الناس أنه المهدي. ومن جهة أخرى يجب ألا نتظنن وألا نرجم بالغيب فنقول: هذا زمن خروج المهدي؛ لأن هذا غيب ولا يعلم الغيب إلا الله، في كل عصر يوجد أناس يقولون: اشتد الفساد في الأرض، ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، إذاً هذا زمان خروج المهدي، وتمضي السنون والسنون والسنون ولا يخرج المهدي؛ لأن المهدي خروجه وزمانه ما أعطي علمه لأحد إطلاقاً، وكذلك نزول عيسى عليه الصلاة والسلام. فعلينا أمران اثنان: أولاً من ناحية العقيدة: يجب أن نؤمن بكل ما صح في المهدي، وقد ذكرت لكم بعض النتف من هذه العقيدة، ثانياً: ألا نربط أنفسنا بوقت نزعمه وندعي أنه وقت خروج المهدي؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، وعلينا أن نعمل بما أمرنا الله عز وجل، وما أمرنا به رسوله عليه الصلاة والسلام. وكما أقول دائماً وأبداً بمثل هذه المناسبة: يجب أن نعمل سواء خرج المهدي في زماننا أو لا؛ لأنه إن خرج فسيجد الناس الذين هم بحاجة إلى قائد يقودهم، وإن لم يخرج فنكون قد قمنا بالواجب الذي فرضه الله علينا، وبهذا نرد على طائفتين متباينتين ونحن وسط بينهما: طائفة تنكر أحاديث المهدي وأحاديث نزول عيسى، وطائفة تثبت هذه الأحاديث ولا تعمل؛ بدعوى أنه لا توجد فائدة من العمل حتى يخرج المهدي وينزل عيسى عليه السلام. نحن نقول كما قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105] ولا ننتظر خروج المهدي؛ لأن هذا ليس من شأننا، إن خرج وجدنا على الخط، وإن لم يخرج فما يضرنا، وإنما علينا أن نعمل بما أمرنا الله تبارك وتعالى. السائل: أنت قلت: يخرج المهدي من دمشق؟ الشيخ: نعم. السائل: نحن نعرف أنه يلجأ رجل للحرم فيبايع مكرهاً. الشيخ: هل تعلم أن الحديث صحيح؟ أنا لا أعلم صحته، نح

المؤمن بين الرجاء والخوف

المؤمن بين الرجاء والخوف إن الخوف ولارجاء للمؤمن بمثابة الجناحين للطائر، فلابد أن يجتمع كل من الخوف والرجاء في قلب المؤمن حتى يحلق في سماء الإيمان، ومن المعلوم أن الخوف من الله سياط للقلوب تمنع العبد من مواقعة الذنوب، وتجعله يقبل على طاعة علام الغيوب، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف.

الخوف من الله حقيقته وفضله

الخوف من الله حقيقته وفضله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. يقول المصنف رحمه الله: الترغيب بالخوف وفضله. هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله في الترغيب في أن يعيش المسلم خائفاً من الله تبارك وتعالى خاشياً له، ويذكر تحته ما جاء من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان هذا الخوف من الله عز وجل. وعلى ما ستسمعون من أحاديث كثيرة تشهد لهذا الباب، ففي ذلك دلالة قاطعة على أن المسلم كلما كان إسلامه أقوى وأتم؛ كلما كان خوفه من الله تبارك وتعالى وخشيته له أعظم، ونحن إذا نظرنا إلى بعض الآيات التي جاءت في كتاب الله عز وجل، فضلاً عن الأحاديث التي ستأتي في هذا الباب؛ لوجدناها دائماً وأبداً تذكر عباد الله الأتقياء الصلحاء بالخوف من الله تبارك وتعالى، وكلما كان أحدهم أقرب إلى الله عز وجل وأعلى منزلةً عنده؛ كلما كان أتقى وأخشى لربه عز وجل، فهؤلاء رسل الله صلى الله عليهم وسلم قد وصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم: {يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب:39] كذلك وصف الله العلماء بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] . وجاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرهط وغيرهم أنه قال: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له) . هذا في البشر، وهناك وصفٌ من الله تبارك وتعالى لخلقٍ من خلقه اصطفاه على كثير من عباده ألا وهم الملائكة المقربون، وصفهم ربنا عز وجل بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] هؤلاء الملائكة الموصوفون في القرآن الكريم بأنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] مع ذلك هم موصوفون -أيضاً- بأنهم يخافون ربهم من فوقهم، فإذا كان الأمر هكذا؛ فإن الملائكة والرسل والعلماء، كل هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء يخشون الله تبارك وتعالى، وكما ذكرت آنفاً كلما كان أتقى كان أخشى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له) . لذلك فمن العبث ومن الكلام الباطل المعسول أن يُنقل عن بعض المتصوفة، سواء كانوا نساءً أو رجالاً، أن أحدهم كان يقول في مناجاته لربه تبارك وتعالى: "ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك " إلى آخر الخرافة المزعومة، لا يتصور من إنسان عرف الله حق معرفته ألا يخشى من ربه تبارك وتعالى، بل -كما ذكرنا- كلما كان مقرباً إلى الله كلما كان أخوف من الله وأخشى لله عز وجل، وما المقصود من مثل هذه الخرافة الصوفية إلا أن يُحمل الناس أن يعيشوا هكذا، ليس هناك خوف منهم لله يحملهم على تقواه، ولا -أيضاً- عندهم رغبة فيما عند الله يطمعهم في أن يزدادوا تقىً من الله.

الخوف من الله سبب للابتعاد عن المعاصي

الخوف من الله سبب للابتعاد عن المعاصي فهذا الفصل ستسمعون فيه أحاديث كثيرة، فيه بيان أن المؤمن من طبيعته أنه يخشى الله، وأن هذه الخشية تكون سبباً لمغفرة ذنوبه، وأمانه من عذاب ربه عز وجل، حتى ولو حصلت منه هذه الخشية في لحظة من حياته، بينما كانت حياته كلها يحياها ويعيشها في بعد من الله تبارك وتعالى. الحديث الأول في هذا الباب حديث صحيح، وهو قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ) فذكرهم إلى أن قال: (ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) رواه البخاري ومسلم، وتقدم بتمامه. هذا الحديث حديث معروف الصحة، ومخرج في الصحيحين، وكان قد تقدم معنا في موطن واحد أو أكثر في كتاب الزكاة؛ لأن فيه جملة: (ورجل تصدق بيمينه فأخفاها ... ) إلى آخره، فهناك ساق المؤلف هذا الحديث بتمامه، والآن اقتبس منه هذه الجملة التي يترجم بها في هذا الباب الذي ذكرناه، ذلك أن من أولئك السبعة رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجلاً -أيضاً- دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، فذاك الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه إنما بكى خوفاً من الله، وهذا الرجل الذي دعته المرأة الجميلة ذات المنصب، لما دعته قال: إني أخاف الله، فخوفه من الله عز وجل عصمه، وخوف ذاك من الله عز وجل حينما ذكره فبكى خشيةً منه، جعل كلاً منهما من أولئك السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. والحديث الذي بعده حديث ضعيف، أما الحديث الثالث فهو صحيح أيضاً وكان قد تقدم معنا في أول هذا الكتاب، فذاك الحديث هو من حديث ابن عمر، وأما هذا فهو من حديث أبي هريرة، ومخرجه غير مخرج ذاك، فستسمعون بعض الاختلاف بين هذا وذاك، فلا يشكلن الأمر عليكم؛ لأن الرواة يزيد بعضهم على بعض، يحفظ هذا شيئاً لا يحفظه ذاك، والعكس بالعكس. يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خرج ثلاثة فيمن كان قبلكم يرتادون لأهلهم) .

شرح حديث الثلاثة النفر الذين سدت عليهم الصخرة فم الغار

شرح حديث الثلاثة النفر الذين سدت عليهم الصخرة فم الغار أول جملة نفاجأ بها في هذه الرواية هذه الزيادة: (يرتادون لأهلهم) ، لأن الحديث الذي سبقت الإشارة إليه وكان تقدم معنا في أول الكتاب، ليس فيه هذه الجملة (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يتمشون إذ أصابهم مطر) إلى آخر الحديث، لم يذكر في ذاك الحديث حديث ابن عمر ما الذي أخرج هؤلاء في الطريق وفي الصحراء حتى أصابهم المطر فلجئوا إلى الغار، وهنا يبين لنا السبب فيقول: (يرتادون لأهلهم) أي: يطلبون الرزق والمعاش، يضربون في الأرض كما أمر الله عز وجل، فهذا هو الذي خرج بهم ذلك المخرج. (فأصابتهم السماء، فلجئوا إلى جبل فوقعت عليهم صخرة، فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر، ووقع الحجر) هذا أيضاً تعبير لم يرد هناك: (عفا الأثر، ووقع الحجر، ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم، فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت امرأة تعجبني فطلبتها فأبت عليَّ، فجعلت لها جعلاً، فلما قربت نفسها تركتها، فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال ثلث الحجر، وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي والدان، فكنت أحلب لهما في إنائهما، فإذا أتيتهما وهما نائمان قمت حتى يستيقظا، فإذا استيقظا شربا، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال ثلث الحجر، وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيراً يوماً، فعمل إلى نصف النهار، فأعطيته أجره فسخطه ولم يأخذه، فوفرتها عليه حتى صارت ذلك المال، ثم جاء يطلب أجره فقلت: خذ هذا كله، ولو شئت لم أعطه إلا أجره الأول، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال الحجر وخرجوا يتماشون) رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمر، هكذا في نسختي، فمن كانت عنده كذلك فليصححها وليجعلها من حديث ابن عمر، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر بنحوه، وتقدم -أي: في أول الكتاب- في الإخلاص في العمل لله عز وجل. نعود إلى الحديث ونتفقه في بعض فقراته ونشرح ما قد يغمض منها (خرج ثلاثة فيمن كان قبلكم) أي: من أهل الكتاب (يرتادون لأهلهم فأصابتهم السماء) هذا من أسلوب العرب، أن يطلق السماء على اعتبار أنها موضع المطر على المطر (فأصابتهم السماء) أي: أصابهم مطر، على حد قول الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قومٍ رعيناه وإن كانوا غضابا إذا نزل السماء بأرض قوم، أي: قامت الساعة، وإنما المقصود بالسماء هنا المطر. فأصابتهم السماء، أي: المطر فلجئوا إلى جبل، أي: إلى غار في جبل، هذا من الاختصار الذي جاء في هذا الحديث، وبيانه في حديث ابن عمر المشار إليه والمتقدم في أول الكتاب. (فلجئوا إلى جبل فوقعت عليهم صخرة) أي: سدت عليهم الغار كما في ذاك الحديث: (فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر) أي: بسبب نزول الأمطار لو فقدهم أهلهم لم يستطيعوا أن يتتبعوا أثرهم؛ لأن الأثر انمحى بسبب الأمطار والسيول، فكأن أحدهم يقول: إننا انقطعنا عن الدنيا، فلا أحد يعرف أين صرنا (عفا الأثر ووقع الحجر) أي: الصخرة التي سدت عليهم الغار (ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم) ولا يعلم بمكانكم هنا إلا الله، وأنا مررت عليها ولم أنتبه لها، وهكذا يقع فيه القارئ أو المصحح؛ لأنه يقرأ أحياناً من ذهنه.

مشروغية التوسل بالعمل الصالح

مشروغية التوسل بالعمل الصالح قال: (ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم) كما كنا شرحنا هناك يومئذٍ فيه شرعية التوسل بالعمل الصالح (ادعوا الله بأوثق أعمالكم) هناك يقول ابن عمر: إن الرسول عليه السلام قال: (انظروا أعمالاً عملتموها صالحةً لله فادعوا الله بها) على وزان قول الله تبارك وتعالى في القرآن: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [لأعراف:180] . ففي هذا الحديث حديث أبي هريرة زائد حديث ابن عمر نص على شرعية توسل العبد إلى الله تبارك وتعالى بعمل صالح له، وكما تعلمون جميعاً -إن شاء الله- لا يكون العمل صالحاً إلا بشرطين اثنين: الشرط الأول: أن يكون خالصاً لوجه الله عز وجل، فلو أن مسلماً صام وقام وصلى في الليل والناس نيام، وهو لا يقصد بذلك وجه الله، وإنما ليقال عنه: إنه متعبد زاهد صالح، كان عمله هباءً منثوراً؛ لأنه لم يخلص فيه لله عز وجل. الشرط الثاني: أن يكون العمل الذي أخلص فيه لله عز وجل مشروعاً، ولا يكون مشروعاً إلا إذا كان قد ورد في الكتاب والسنة، وهذا له أدلة كثيرة، ومن الأدلة الجامعة للشرطين قول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] . {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [الكهف:110] أي: على وجه الكتاب والسنة، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] أي: لا يقصد بهذا العمل الصالح غير وجه الله عز وجل، وإلا فيكون قد أشرك فيه مع الله، وحينئذٍ يرد عليه، بل ويضرب به وجهه. فحينما يقول أحدهم وهم في الغار: (فادعوا الله بأوثق أعمالكم) أي: بأخلص عمل صالح فعلتموه، وشعرتم بأنكم فعلتموه وأنتم راغبون به ما عند الله عز وجل. فإذاً: هذا الحديث فيه شرعية التوسل بالعمل الصالح، والآية السابقة فيها شرعية التوسل باسم من أسماء الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [لأعراف:180] وهنا ادعوه بعمل صالح لكم.

مشروعية توسل المسلم بدعاء أخيه الصالح

مشروعية توسل المسلم بدعاء أخيه الصالح وهناك توسل آخر مشروع ثابت في الكتاب والسنة، ألا وهو توسل المسلم بدعاء أخيه الصالح الذي يظن فيه الصلاح، ويأمل أن يستجاب منه الدعاء، فهذا أيضاً مشروع، وما سوى ذلك من التوسلات التي اشتهرت في القرون المتأخرة بتأخرهم عن الكتاب والسنة علماً وعملاً، فليس لها أصل إطلاقاً، ولم يقل بشيء منها أحدٌ من الأئمة المجتهدين، وقد فصّلت القول على هذه التوسلات المشروعة وغيرها من الغير مشروع في رسالتي الخاصة في التوسل، ويمكن الرجوع إليها لمن شاء التوسع.

استجماع القصة من مجموع الروايات الواردة فيها

استجماع القصة من مجموع الروايات الواردة فيها (فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت امرأة تعجبني فطلبتها) في حديث ابن عمر أنها كانت قريبة له: (كان لي ابنة عم) يقول هناك: (أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء) وهذا أوضح من حديث: (تعجبني) ما مبلغ هذا الاستحسان والعجب؟ قال: (أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء) وسيظهر أثر هذا الحب الشديد في خوفه من الله عز وجل حينما أمسك نفسه عنها: (فطلبتها فأبت عليَّ، فجعلت لها جعلاً) أي: تعويضاً في تسليمها نفسها له، فيعطيها مقابل ذلك مالاً، وكان هذا المال مائة دينار كما جاء في بعض طرق حديث ابن عمر. (فلما قربت نفسها) يقول هناك: (فلما وقعت بين رجليها، قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها) وهنا يقول: (فلما قربت نفسها تركتها) هنا فيه إجمال وهناك تفصيل، وهكذا يمكن استجماع القصة بأكمل وجه من مجموع الروايات التي وردت فيها، قال هذا الداعي الأول يخاطب ربه: (فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك، فافرج عنا) أي: إن كنت تعلم أني أعرضت على هذه الفتاة وزيادة عن ذلك أنني تركت لها المال الذي قدمته إليها في سبيل أن أحظى منها بشهوتي، فتركت ذلك كله لوجهك وخوفاً منك، ولكنه يخشى أن يكون واهماً في أن يكون ترك ذلك خوفاً من الله، ولذلك يقول: (فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك، فافرج عنا، فزالت ثلث الحجر) أي: تزحزحت الصخرة التي سدت عليهم فم الغار بمقدار ثلث المسافة التي فيها يمكنهم أن يخرجوا من الغار. (وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي والدان فكنت أحلب لهما في إنائهما، فإذا أتيتهما وهما نائمان قمت حتى يستيقظا، فإذا استيقظا شربا) يصف هنا مدى خدمته لأبويه مهما تطلَّب ذلك صبراً منه، حتى كان يأتي بالإناء الذي فيه الحليب، فإذا وجدهما نائمين لا يوقظهما محافظةً على راحتهما ونومهما، وإنما يظل قائماً حتى يستيقظا فيجمعا بين راحة النوم والشرب من الحليب. في حديث ابن عمر يفصل هذه الفقرة من هذا الحديث فيقول: (فنأى بي ذات يوم الشجر) أي: خرج في طلب المرعى والكلأ والحشيش، فأبعد عن القرية كثيراً، وهذا خلاف عادته، فما رجع إلا وقد أمسى، قال: (فحلبت كما كنت أحلب، وجئت بالحلاب فوجدتهما قد ناما) ، فهذا وصف دقيق جداً لحالته النفسية بين حق أبويه وحق أولاده، قال: (فوجدتهما قد ناما، فقمت عند رءوسهما أخشى أن أوقظهما من نومهما والصبية يتضاغون من الجوع عند قدمي) فهو متردد بين إيقاظهم من أجل أن يبدأ بإسقائهما قبل الصبيان، وفي هذا إزعاج لهم إذا ما أيقظهم، ومن جهة أخرى فالصبية يصيحون جوعاً، فكأنه يقول: ماذا أفعل؟ أوقظهما؟ لا. لا بد أن يتقدموا على الأولاد، أترك الأولاد؟ الأولاد يصيحون ويبكون، قال في حديث ابن عمر: (فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر) هذا هو جهاد في سبيل إرضاء الوالدين. يقول في تضرعه وفي مناجاته لربه: (اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي والدان فكنت أحلب لهما في إنائهما، فإذا أتيتهما وهما نائمان قمت حتى يستيقظا، فإذا استيقظا شربا، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزالت ثلث الحجر) أي: الثاني. وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيراً يوماً فعمل إلى نصف النهار) في هذا الحديث هذه الفائدة، وهناك في حديث ابن عمر ليس فيه بيان مقدار العمل، هنا يوجد تحديد أنه عمل إلى نصف النهار (فأعطيته أجراً، فسخطه ولم يأخذه، فوفرتها عليه حتى صارت ذلك المال) هنا أيضاً إيجاز واختصار (حتى صارت ذلك المال) ما هو هذا المال؟ جاء بيانه في حديث ابن عمر أنه قال: (فلم أزل أزرعه) أي: أجر ذلك الرجل الذي كان فرقاً من أرز، وعاء صغير اسمه الفرق، كان أجره هذا الفرق من أرز، فلما لم يقبل هذا العامل هذا الأجر وانصرف مغضباً، قال هذا السيد صاحب الأرض: (فلم أزل أزرعه) أي: ذلك الفرق من الأرز (حتى جمعت منه بقراً ورعاءها) هذا هو الذي وفره الرجل من ذلك الفرق، وفر وجمع بقراً ورعياناً معه، فيقول في حديث ابن عمر: (ثم جاءني فقال: يا عبد الله! أعطني حقي -وحقه الفرق من الأرز- فقلت له: انظر إلى تلك البقر، فاذهب وخذها، قال: يا عبد الله! لا تستهزئ بي، إنما لي عندك فرق من أرز) أنت تقولي لي: خذ فرقاً من البقر!: (قال: اذهب وخذها فإنما تلك البقر من ذاك الفرق) يقول هنا في دعائه: (فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا) . قبل ذلك يقول: (فقلت: خذ هذا كله، ولو شئت لم أعطه إلا أجره الأول) هذه نكتة مهمة جداً، الرجل ترك عنده أجره الذي هو الفرق من أرز، ولم يتفق معه على أن ينميه له ويزرعه له، لكن هو كرم منه وسخاء، فزرع هذا الفرق من الأرز، والله بارك، فحصد وزرع واشترى بقراً، الله أعلم بالمدة، مع بركة الله عز وجل في هذا المال، ثم جاء هذا يطلب حقه، ما هو الحق؟ فرق من أرز، يقول: فأعطيته كل الذي وفرته بسبب هذا الفرق، ولو شئت لم أعطه إلا حقه، أي: هذا الفرق، أي: إنه قادر على ألا يعطيه ما وفره إياه في هذه المدة الطويلة، ولكنه رأى من كرم نفسه أن يقدم له كل ذلك الحاصل من المال الأول، فيقول: (فإن كنت تعلم أنني فعلت ذلك هناك يقول: ابتغاء مرضاتك، وهنا يقول: رجاء رحمتك وخشية عذابك- فافرج عنا، فزالت الحجر وخرجوا يتماشون) رواه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ، وفيه كما رأيتم بعض الفوائد التي لا تذكر في حديث ابن عمر، وفي الدرس الآتي -إن شاء الله- أحاديث أخرى في هذا الباب، فنكتفي بهذا المقدار، والحمد لله رب العالمين.

شرح حديث: (.

شرح حديث: (. إذا أنا مت فأحرقوني) حديثنا في هذه الليلة يبدأ بالحديث الرابع من باب الترغيب في الخوف وفضله، والحديث صحيح كما سيدلكم تخريجه. قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك. ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغُفر له) . وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مت فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له) رواه البخاري ومسلم، ورواه مالك والنسائي بنحوه. هذا الحديث يتضمن من غرائب الحوادث والوصايا التي كانت تقع في الزمن السابق ما قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يقع فيه من الغرائب والعجائب التي إما أنه لم يعد يقع مثلها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لحكمةٍ أرادها الله، وإما أنه قد يقع شيء منها ولكن لا يبلغنا خبرها؛ لأنه ليس لنا هناك من يستقصي هذه الأخبار إلا الخالق لأصحابها وأصحاب العلاقات بها، ثم هو يوحي بها إلى نبينا المعصوم عليه الصلاة والسلام، ثم هو يبلغها أمته موعظةً وذكرى. من أجل ذلك أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) . الشاهد هو الفقرة الوسطى من هذا الحديث، ألا وهي قوله عليه السلام: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) وإن من خير ما يحدث به أحدنا اليوم عن بني إسرائيل هو ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما صحت الأسانيد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام. فهذا الحديث -كما سمعتم- فيه عجيبة من تلك العجائب، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت) في رواية أخرى: (لم يعمل خيراً قط) وفي هذه الرواية الأولى استمر في إسرافه على نفسه، وظلمه لها، حتى حضره الموت، أي: لم يكن من أولئك الذين يقضون شطراً من حياتهم في الإسراف في الفسق والفجور، ثم قبيل وفاتهم يرجعون إلى الله تبارك وتعالى ويتوبون إليه، هذا الإنسان لم يكن كذلك، وإنما استمر في إسرافه وفي ظلمه لنفسه ومعصيته لربه حتى حضره الموت، لكنه لم يكن من أولئك الناس المغرورين الذين يسيئون العمل ثم يرجون من الله تبارك وتعالى المغفرة، هكذا كثير من المسلمين اليوم مع الأسف الشديد، يتواكلون على مغفرة الله عز وجل، ولا يتعاطون من الأعمال الصالحات ما بها يستحقون مغفرة الله تبارك وتعالى، فهذا الرجل كان معترفاً بتقصيره وبجنايته على نفسه، ومع ذلك فيبدو من هذه القصة العجيبة أنه كان إيمانه لا يزال حياً في قلبه، وكان لا يزال فيه شيء استحق به أن ينال مغفرة الله تبارك وتعالى، مع أنه سلك سبيلاً ربما لم يسلكه أحدٌ قبله ولا أحدٌ بعده، ذلك أنه أوصى بهذه الوصية الجائرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني) ولم يقنع بهذا، ثم قال: (اطحنوني) تصوراً منه أن الحرق قد لا يأتي على عظامه كلها، فيبقى هناك شيء قائم من هذه العظام، فتأكيداً لما خيل له من وسيلة للنجاة من عذاب الله عز وجل، قال لهم: (اطحنوني) وهذا باعتبار ما كان، كان إنساناً قوياً، فمات فأمرهم بأن يحرقوه بالنار، ثم أكد لهم ذلك بأن يطحنوه، ثم يأخذوا الحاصل من ذلك الحرق والطحن وهو أن يصبح رميماً، قال: (ثم ذروني في الريح) . وفي رواية أخرى فيها توضيح كما سمعتم وسيأتي أيضاً: أنه أمر بأن يذَرُّوا، أو يذْروا -روايتان- نصف الرماد هذا في البر ونصفه في البحر، مبالغة في أن يضيع على الله عز وجل في زعمه الضال، قال: (ثم ذروني في الريح) لماذا أوصى بهذه الوصية الجائرة الغريبة؟ حلف وبين فقال: (فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً) أي: من المسرفين على أنفسهم، (فلما مات فعل به) وهنا يظهر نوع من الطاعة من الأولاد للآباء، طاعة متناهية، ولكن يظهر أنه لم يكن عندهم في شرعهم أن مثل هذه الوصية هي وصيةٌ جائرة لا يجوز الإيصاء بها، وإذا ما أوصى بها جائرٌ كهذا فلا يجوز للموصى له أن ينفذها؛ لأنها مخالفة لشريعة الله عز وجل، فتنفيذ هؤلاء الأبناء لوصية أبيهم هذا يحمل على وجه من وجهين: الأول: أنه ربما لم يكن في شرعهم أن هذا لا يجوز. الوجه الآخر: أنه إذا كان ذلك في شرعهم فهؤلاء لم يكونوا على علم بذلك، ولذلك بادروا فنفذوا وصية أبيهم هذه. قال عليه الصلاة والسلام في تمام الحديث: (فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك) بعد أن تفرقت ذرات هذا الإنسان المحرق بالنار والمذرو في الريح وفي البحر، قال لكل من البحر والأرض اليابسة: اجمعي ذرات فلان، وقال لها: كوني فلاناً، فكانت بشراً سوياً، فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لهذا الإنسان بعد أن أعاده كما كان: (ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له) وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مت فحرقوه) انتقل من الخطاب إلى الغائب، قال: (إذا مت فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له) .

درء التعارض بين حديث: (إذا أنا مت فحرقوني) وقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)

درء التعارض بين حديث: (إذا أنا مت فحرقوني) وقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) في هذا الحديث مثل رائع وعظيم جداً كتفسير لبعض النصوص من الكتاب والسنة كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [لأعراف:156] وكقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: (سبقت رحمتي غضبي) مثل هذا الإنسان إذا ما سُئل أي عالم في الدنيا -عالم حقيقي- عن إنسان أوصى بمثل هذه الوصية ونفذت فيه، هل يكون مسلماً أم كافراً؟ لابد أن يكون A هو كافر، والحجة واضحة بينة؛ ذلك لأن هذا الإنسان في هذه الوصية يذكرنا بذاك الذي ذكره الله عز وجل في القرآن مشيراً إليه بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. } [يس:78-79] إلى آخر الآيات، فهذا الإنسان كأنه لا يؤمن، كأنه من هذا الجنس الذي قال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] مع ذلك نجد أن الله عز وجل قد غفر لهذا الإنسان، فإذا سُئل عالم عن مثل هذا الإنسان يوصي بمثل هذه الوصية فلا يسعه إلا أن يحكم عليه بأنه كافر كفراً يخلد صاحبه في النار لا يخرج منها أبداً، وإذا الأمر كذلك فكيف يمكن أن نتلقى هذا الحديث بالقبول، وظاهره يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه منصوص هذا المعلوم في القرآن الكريم حين قال رب العالمين: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فهذه الآية صريحة الدلالة، أي: بتعبير علماء الأصول هي قطعية الثبوت قطعية الدلالة، ودلالتها أن الله عز وجل يمكن أن يغفر أي ذنب مهما كان عظيماً، إلا الشرك بالله تبارك وتعالى فإن الله لا يغفره {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ؟ قد يقول قائل كتوفيق بين هذا النص القرآني القطعي الثبوت والدلالة: التوفيق بينه وبين هذا الحديث من ناحيتين: الناحية الأولى: إن الآية قالت: إن الله لا يغفر الشرك، والكفر غير الشرك. وبمعنى آخر: إن ما جاء في هذا الحديث ليس فيه شرك، وإنما هو الكفر؛ لأن هذا الإنسان مؤمن بالله عز وجل، وإيمانه بالله حمله على هذه الوصية الجائرة؛ لأنه شعر بأنه يستحق هذا العذاب، فخلاصاً من عذاب الله عز وجل له أوصى بها، فهو يخاف الله وليس يؤمن به فقط، بل ويخاف الله، فكان من أثر خوفه من الله أن أوصى بهذه الوصية. فإذاً: هو مؤمن بالله ولم يشرك مع الله أحداً، فالتوفيق بين الحديث وبين الآية بأن تبقى الآية على ظاهرها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] ، أما الكفر الذي ليس شركاً فيمكن أن يقال: إن الله يغفره، والدليل على ذلك هذا الحديث. قد يقول قائل هذا، ويبدو لأول وهلة بأن هذا التوفيق مقبول ومعقول، لكن الأمر ليس كذلك؛ لأن هناك حقيقة شرعية يجب أن نكون على علم بها: أولاً: لأنه شرع يجب أن يفهم على وجهه وعلى حقيقته. ثانياً: لأن هذا الفهم يساعدنا على التوفيق بين كثيرٍ من النصوص التي يبدو بينها تعارض وتضارب، ما هي هذه الحقيقة الشرعية؟ هي: أن كل كفر شرك، ومعلوم لدى جميع الناس على الأقل الفقهاء أو طلاب العلم أن كل شرك كفر، لكن العكس ليس معلوماً عندهم، المعلوم عندهم أن كل شرك كفر، لكن أن كل كفر شرك فهذا غير معلوم عند جماهير الناس، مع أن هذا حق مثلما أنكم تنطقون، أي: كل كفر شرك كما أن كل شرك كفر، لا فرق بينهما إطلاقاً. ومن الأدلة على ذلك: المحاورة التي ذكرها الله عز وجل في سورة الكهف بين المؤمن والمشرك، قال الله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} [الكهف:32-34] قال صاحب الجنتين وهو كافر مشرك كما ستسمعون لصاحبه المؤمن: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:34-36] هذا بالتعبير العام أو بالعرف العام أشرك أم كفر؟ هذا كفر؛ لأنه أنكر البعث والنشور: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:35-37] صاحبه المؤمن: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:38] ختم موعظته ومحاورته لصحابه بأنه لا يشرك كشركه: {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:38] ففي هذا بيان أن الرجل صاحب الجنتين -أي: البستانين- حينما شك في البعث والنشور أشرك بالله عز وجل، لذلك قال له صاحبه المؤمن: أنت كفرت وأشركت، أما أنا فلا أشرك بربي أحداً، وتمام القصة -أيضاً- تؤكد هذا؛ لأن في نهاية الآيات: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:42] ما الذي أشرك؟ الظاهر أنه أنكر البعث والنشور، فأين الشرك؟ هنا النكتة، الشرك أن كل كافر بأي سبب كان كفره فقد اتخذ إلهه هواه، فمن هنا جاء الشرك بالنسبة لكل نوع كفر به صاحبه، من هنا قلنا: إن هناك حقيقة شرعية وهي: أن كل كفر فهو شرك، وهذا في السياق الذي ذكرناه لكم أكبر دليل على ذلك. وعلى هذا فلا يصح التوفيق بين الآية السابقة الذكر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] وبين هذا الحديث على الوجه الذي حكيناه آنفاً؛ ذلك لأن معنى الآية بعد هذا الشرح هو: إن الله لا يغفر أن يكفر به، أي: سواء كان الكفر شركاً لغةً أو لم يكن، فالله عز وجل لا يغفر الكفر مطلقاً؛ سواء كان شركاً أو ليس بشرك، وهذا البيان -كما قلت لكم- يفتح لنا حل مشاكل كثيرة، فإذا ما عرفنا أن الشرك في لغة الشرع هو الكفر والكفر هو الشرك؛ فحينئذٍ تعود الآية دلالة صريحة على أن الله عز وجل لا يغفر الشرك بكل أنواعه، اللهم إلا إذا كان شركاً عملياً وليس شركاً قلبياً. الحديث الذي هو كالحديث السابق هو قول المؤلف الحافظ المنذري رحمه الله: وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً) أي: وهبه الله أعطاه مالاً (فقال لبنيه لما حضر: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنني لم أعمل خيراً قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته) رواه البخاري ومسلم أيضاً. يفسر تلك اللفظة الغريبة فيقول: (رغسه) بفتح الراء والغين المعجمة بعد سين مهملة (رَغَسه) قال أبو عبيدة: معناه: أكثر له منه، أي: من المال وبارك له فيه. فهذا الحديث كالحديث السابق، وكان من رواية أبي هريرة فيما أذكر، وهذا مما يدل على أن الحديث مع صحة إسناده من طريقه الأولى فهو ليس حديثاً غريباً فرداً، بل قد اشترك في روايته جماعة من الصحابة، ذكر منهم المؤلف اثنين، الأول: أبو هريرة، والآخر: أبو سعيد هنا. وكنا تساءلنا: ما الجواب عن هذا الحديث الذي ظاهره أن هذا الموصي بالوصية المذكورة فيه وهي وصية جائرة، ظاهر هذا أن الرجل كفر بالله عز وجل، وشك في قدرة الله تعالى على أن يبعثه وأن يحييه وأن يحاسبه ذلك الحساب الذي يستحقه؟ ولقد أوردنا جواباً في الدرس الماضي ولا نرتضيه بطبيعة الحال، ووعدنا أن نأتي بالجواب الصحيح المقنع إن شاء الله هذا الرجل لما أوصى بهذه الوصية أن يحرق وأن توزع ذرات جسده بعد أن احترقت في البحر وفي الهواء، لاشك أن هذا الفعل يدل على الكفر، فكيف أن الله عز وجل لم يعامله بمقتضى كفره، بل غفر له؟ وقد قلنا في الدرس السابق: إن الكفر لا يغفر، بدليل الآية السابقة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فكيف غفر لهذا؟ قلنا: قد يقول البعض: إن الآية تنفي أن يغفر الله الشرك، فهذا ما أشرك وإنما كفر، فوضحنا لكم بأنه لا فرق شرعاً بين الكفر والشرك، فكل كفر شرك وكل شرك كفر، خلافاً لما يذهب إليه بعض العلماء قديماً وحديثاً، وعلى هذا فالآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] أي: أن يكفر به، سواءً كان نوع الشرك من الناحية اللغوية شركاً فعلاً أن يتخذ مع الله شريكاً، أو كان كفراً بأن يجحد شيئاً مما شرعه الله أو أخبر الله به، ومن لم يرتض ذلك الجواب، فما هو الجواب الصحيح؟ هو ما أجاب به الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهما من الشراح والحفاظ، قالوا: إن هذا الرجل.

الحكمة من خلق الإنسان

الحكمة من خلق الإنسان خلق الله تعالى الثقلين لحكمة جليلة وغاية نبيلة؛ وهي عبادته سبحانه وتعالى. وفي هذه المادة بين الشيخ الحكمة التي من أجلها خلق الله عز وجل الجن والإنس، وأشار إلى أهمية التوفيق بين العبادة وطلب الرزق، ثم أجاب فضيلته على أسئلة الحضور.

الغاية من خلق الملائكة والإنس والجن

الغاية من خلق الملائكة والإنس والجن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فكلمتي الآن جواب عن سؤال لم يعتد الناس أن يطرحوه، وهم في الواقع في حاجة إلى أن يذكروا بجوابه، ألا وهو: لماذا خلق الله الخلق من الملائكة والإنس والجن؟ الجواب في القرآن الكريم، وبطبيعة الواقع لا أقدم إليكم شيئاً مجهولاً في ظن لدى كافة المسلمين، وإنما هي: أولاً: الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين. وثانياً: أريد أن أربط بهذا التذكير أمراً قد يكون كثير من الناس عنه غافلين. فجواب ذاك السؤال في قوله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] إذاً: هذه الآية تعطينا الغاية والحكمة التي من أجلها خلق الله عز وجل الإنس والجن، ومن باب أولى الملائكة الذين وصفهم ربهم عز وجل في القرآن الكريم بقوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] هذه الحكمة هي: أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، خلق الجن والإنس ليعبدوه وحده لا شريك له.

كيفية التوفيق بين العبادة وطلب الرزق

كيفية التوفيق بين العبادة وطلب الرزق ثم ذكر الله عز وجل بعد الحكمة التي بينها قوله تبارك وتعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57-58] . لماذا ذكر ربنا عز وجل: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات:57] ؟ أي: لكي لا يهتم المسلم برزقه اهتمامه بعبادة ربه، أي: يجب عليه أن يهتم بما من أجله خلق، وليس أن يهتم بالرزق؛ لأن الرزق قد تكفله الله عز وجل لعباده وقدره منذ أن كان جنيناً في بطن أمه، كما تعلمون من الأحاديث الصحيحة، التي جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أن الله تبارك وتعالى يرسل ملكاً إلى الجنين وهو في بطن أمه، فينفخ فيه الروح بعد أن جاوز الأربعة الأشهر، ويسأل ربه عن عمره، وعن رزقه، وعن أجله، وعن سعادته أو شقاوته، كل هذا قد سجل، كما جاء في قوله تبارك وتعالى على قولٍ من أقوال المفسرين في قوله عز وجل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] فالله عز وجل قد قدر الرزق منذ القديم، ولذلك فلا ينبغي للمسلم أن يهتم برزقه -وأرجو الانتباه! - لا أقول: ألا يهتم بالسعي وراء رزقه، لا. وإنما أعني وأصرح فأقول: لا ينبغي أن يهتم المسلم بتحصيل رزقه بقدر ما يهتم بعبادة ربه تبارك وتعالى؛ لأن الرزق مقطوعٌ مضمون، وإن كان هذا الكلام لا نعني به ألا يسعى المسلم وراء رزقه، لكن إنما نعني ألا يجعل الغاية من حياته هو أن يسعى وراء رزقه؛ لأن الغاية -كما علمتم- إنما هي عبادة الله وحده لا شريك. ولكي لا يتبادر إلى ذهن أحدٍ -حينما نلفت النظر إلى الاهتمام بتحقيق الغاية الشرعية التي من أجلها خلق الله عز وجل الإنس والجن- لكي لا يتبادر إلى ذهن أحدٍ أننا نأمر بما يظنه بعض الناس أنه توكل على الله حينما لا يسعى وراء الرزق، فأقول: ليس الإعراض عن السعي وراء الرزق توكلاً على الله تبارك وتعالى؛ وإنما هو تواكل واعتمادٌ على العبد أو على العبيد الذين لا ينبغي أن يعتمد المسلم في تحصيله لرزقه على غير ربه تبارك وتعالى؛ ذلك لأن السعي وراء الرزق بالحد المطلوب شرعاً، وبقدر ألا يبالغ في طلب الرزق، ومن المبالغة في طلب الرزق ما سأدندن حوله، وهو أن يطلب الرزق من أي طريقٍ كان، لا يهمه أجاءه الرزق بسببٍ حرامٍ أو حلالٍ، فالذي نريده أن السعي وراء تحصيل الرزق بالوسائل المشروعة، وبالقدر المشروع الذي لا يجعله غايته من حياته كما ألمحت إلى ذلك آنفاً، هذا السعي وراء الرزق يعتبره الشارع الحكيم من الجهاد في سبيل الله عز وجل. فقد جاء في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً يوماً وحوله أصحابه، حينما مر رجلٌ شابٌ جلدٌ قويٌ عليه آثار النشاط والشباب، فقال أحد الحاضرين: لو كان هذا في سبيل الله) أي: لو كانت هذه الفتوة وهذا الشباب والقوة في سبيل الله عز وجل، يتمنى أحد الحاضرين أن يكون هذا الشاب المار بهذه القوة والفتوة يجاهد في سبيل الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم ملفتاً نظر من حوله أولاً، ثم من سيبلغهم هذا الحديث ثانياً، إلى أن السعي وراء الرزق -كما قلت آنفاً- هو من الجهاد في سبيل الله عز وجل، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم مجيباً ذلك الصحابي الذي تمنى أن يكون شباب ذلك الرجل المار وقوته في سبيل الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان هذا خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أهله وأولاده الصغار فهو في سبيل الله) . إذاً: السعي وراء الرزق هو من الأمور المرغوب فيها، والتي حظ الشارع الحكيم عليها، ولكن على اعتبار أنها وسيلة وليست غاية المسلم في هذه الحياة، إنما غايته أن يعبد الله عز وجل وحده لا شريك له، وسعيه وراء الرزق ليتمتع بالقدرة والقوة على القيام بما فرض الله عز وجل عليه من الجهاد، ليس فقط في قتال الأعداء الذين حرمنا -مع الأسف الشديد- في عصرنا هذا من هذا الجهاد، وإنما على الأقل في الجهاد جهاد النفس الأمارة بالسوء، التي تتطلب القيام بكثيرٍ من الفروض والواجبات، ومنها -مثلاً- الصلاة التي هي الركن الثاني بعد الشهادتين في الإسلام. فمن كان هزيلاً، ومن كان مريضاً لا يسعى لتقوية بدنه بما أنعم الله عليه من رزقٍ؛ فقد لا يستطيع أن يقوم بما فرض الله عز وجل من عليه الجهاد النفسي العام، الذي عبر عنه الرسول عليه السلام في الحديث الصحيح حين قال: (المجاهد من جاهد نفسه لله) وفي رواية: (هواه لله عز وجل) هذا الجهاد يتطلب -كما ألمحت آنفاً- إلى أن يكون المسلم قوياً في جسده، كما هو قويٌ في عقيدته وفي معانيه الإيمانية الإسلامية.

اهتمام الإسلام بصحة المسلم

اهتمام الإسلام بصحة المسلم قد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وجوب محافظة المسلم على نشاطه وقوته في بدنه، حينما بلغه أن رجلاً من أصحابه يبالغ في طاعة الله تبارك وتعالى؛ حيث كان يصلي الليل كله، ويصوم الدهر كله، ولا يأتي نساءه، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه -وهذه قصة فيها بعض الطول لا مجال الآن لذكرها بتمامها، إنما الغرض الآن أن أذكِّر باهتمام الإسلام بصحة المسلم، وضرورة محافظته على بدنه- فدعاه وقال له عليه السلام: (إن لجسدك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولزورك -أي: من يزورك- عليك حقاً) ، زاد في حديث آخر أو في قصة أخرى: (فأعط كل ذي حق حقه) . وكان في هذه القصة أن هذا الرجل العابد الزاهد في الدنيا والذي كان من زهده أنه لما زوجه أبوه كأنه لم يتزوج، لم يقرب زوجته لانشغاله واستغراقه في وقته كله على عبادة الله عز وجل طلب هذا الزاهد العابد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصوم أكثر مما رخص له في أول الأمر، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيده في أيامٍ يصومها أكثر مما رخص له في أول الأمر، إلى أن قال له في نهاية المطاف: (صم يوماً وأفطر يوماً، فإنه أفضل الصيام، وهو صوم داود عليه الصلاة والسلام، وكان لا يفر -هنا الشاهد- إذا لاقى) ، أي: عدوه، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعظ ذلك الصحابي الزاهد بألا يزيد على الصيام نصف الدهر، يصوم يوماً ويفطر يوماً، وعلل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: (فإنه أفضل الصيام، وهو صوم داود عليه السلام) لماذا قال عليه الصلاة والسلام: (وهو صوم داود) ؟ لأنه جاء في حديثٍ في صحيح البخاري: (كان داود عليه السلام أعبد البشر) أعبد البشر هو داود نبي الله، وهو والد سليمان، كان أعبد البشر، ومع ذلك كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وما هي الحكمة من هذا الصيام؟ قال: (وكان لا يفر إذا لاقى) أي: كان يجمع بين أن يعطي لنفسه حقها من عبادة ربها من جهة، وبين أن يعطي لجسده قوته من جهة أخرى؛ ليتمكن بهذه القوة من مقاتلة أعداء الله عز وجل، ولذلك جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251] لو كان داود عليه السلام يصوم الدهر كله لما استطاع أن يقضي على ذلك الكافر الجاحد المنكر. فإذاً: السعي وراء تقوية الجسم لطلب الرزق الحلال هذا أمرٌ مرغوبٌ فيه، واعتبر ذلك الشارع الحكيم -كما سمعتم في قصة الشاب الجلد- جهاداً في سبيل الله عز وجل.

أهمية مراعاة أحكام الشريعة في طلب الرزق

أهمية مراعاة أحكام الشريعة في طلب الرزق الذي أريد الآن الدندنة حوله: أنه ليس من الجهاد في سبيل الله أن يطلب المسلم الرزق دون أن يلتزم في طلبه أحكام شريعة ربه عز وجل، أي: لا يسأل إن كان السعي الذي يسعاه أو العمل الذي يعمله في سبيل تحصيله لرزقه جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً، هذا -أولاً ليس مجاهداً ذلك الجهاد الذي وسَّع رسول الله معناه، فجعل السعي وراء الرزق في سبيل الله، هذا الذي يسعى وراء الرزق ولا يسأل أحرام هو أم حلال؟ فهو ليس فقط مجاهداً وخارجاً في سبيل الله، بل هو -ثانياً- عاصٍ لله عز وجل، غير متذكرٍ عملاً قول الله عز وجل المذكور آنفاً: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فعلى كل مسلم إذا سعى وراء الرزق ألا يطلبه إلا من طريقٍ أباحه الله عز وجل، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأمر المسلم بأن يطلب الرزق من الطريق الحلال، وتحذره أن يكون مكسبه من طريق حرام فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) يدعو المسلمون اليوم دعاءً طويلاً عريضاً، ثم لا يستجاب لهم أن ينصرهم الله عز وجل على عدوهم، لماذا؟ لأن أكثر المسلمين اليوم لا يسألون الحلال، ولا يبالون من أي طريقٍ جاءهم هذا الكسب، أمن طريقٍ حلال أم حرام، فهذا الحديث يقول: إن الله عز وجل جعل من سنته الشرعية أنه لا يستجيب دعاء من كان طالباً للرزق بطريقٍ محرم، بل قد أوعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيعاداً مخيفاً جداً، حينما قال عليه الصلاة والسلام: (كل لحمٍ نبت من السحت فالنار أولى به) أي: من الكسب الحرام. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أمته بأن استحلالهم السعي وراء الرزق بالطرق المحرمة يكون سبباً لأن يذلهم الكفار، ويستعبدوهم الكفار، وهذا أمرٌ مشاهد -مع الأسف- في كثيرٍ من الديار الإسلامية، ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أسباب تسلط الأعداء على المسلمين وإذلالهم إياهم، إنما هو انكبابهم على الدنيا وانصرافهم -بسبب هذا الانكباب- إلى طلب الرزق بطريق الربا، ومن أنواع الربا ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الطرف الأول من هذا الحديث، ألا وهو قوله: (إذا تبايعتم بالعينة) نوع من المبايعات الربوية (وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) . والرجوع إلى الدين معناه واسعٌ جداً جداً، ولكن فيما يتعلق بهذه الكلمة يجب على كل مسلم أن يرجع في طلبه للرزق إلى الكسب الحلال، حتى يكون هذا الكسب شفيعاً له فيما إذا دعا ربه أن يستجيب له أو منه دعوته. نسأل الله عز وجل أن يلهمنا التعرف على ديننا، وأن نعمل بأحكامه، ومن ذلك أن يوفقنا للسعي وراء طلب الرزق الحلال، وأن يبعدنا عن الوسائل المحرمة التي كثرت في هذه الأيام، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم عمل أشياء مباحة الجهات محرمة

حكم عمل أشياء مباحة الجهات محرمة Q جزاك الله خيراً، ذكرت أن السعي وراء الرزق الحلال من الأمور الواجبة على المسلم، وهناك أمر مهم، كثير من المسلمين يجهله، يقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فبعض المسلمين يعمل عملاً حلالاً لكن يكون فيه معاونة على الحرام، فالبع ض -مثلاً- يعمل في الحديد -يفصل أبواب- فيكون المحل الذي يريد أن يعمل له حراماً، فهل إذا صنع باباً لذلك المحل يكون عليه إثم؟ A في الآية التي ذكرتها، وهذا ما تعرضنا لبيانه في مناسبات كثيرة وكثيرة جداً، من يحمل الخمر فقط في سيارته فهو ملعون؛ بنص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول: (لعن الله في الخمرة عشرة. وذكر منهم: حاملها والمحمولة إليه) ، وهذا الحديث من أحاديث كثيرة وكثيرة جداً، تفسر الشطر الثاني من الآية التي ذكرها السائل آنفاً ألا وهو قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فالذي يحمل الخمر إلى الخمارة قد أعان المدمن للخمر على شرب الخمر، كما أعان الخمار على بيع الخمر، وهكذا، ولذلك فالعمل الذي أصله مباح كما جاء في السؤال وفي الجواب، وهذا الحمل على السيارة أو على الدابة من حيث هو حمل بعينه فهو جائز، لكن العبرة كما قال عليه الصلاة والسلام، في غير هذه المناسبة: (إنما الأعمال بالخواتيم) فالمحمول هذا على هذه الجاهلة وهي السيارة -مثلاً- ما مصيرها؟ مصيرها أن تصل إلى الخمارة مساعدة للمدمنين للخمر على شربها، كذلك من يحمل أشخاصاً، نساءً أو رجالاً، إلى السينمات أو البارات، أو الملاهي المحرمة، كل هذا لا يجوز؛ لأنه يخالف الآية الكريمة: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] والبحث في هذا كثير وكثير جداً، ولعله من المهم لوقوع جماهير الناس اليوم -وبخاصة التجار منهم- في مخالفة الحديث التالي، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه وشاهديه) لعن الله آكل الربا، لكن ما بال موكله؟ وما بال الشاهد والكاتب؟ الجواب في الآية: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] . لذلك يتوهم كثير من التجار الذين يظنون أنفسهم أنهم من عباد الله الصالحين، أنهم حينما يودعون أموالهم في البنوك ولا يأخذون الربا، أنهم أحسنوا بذلك الصنع، كلا ثم كلا! لقد أساءوا بذلك صنعاً؛ لأنهم أعانوا البنك على أن يأكل الربا، والرسول عليه الصلاة والسلام كما سمعتم يقول: (لعن الله آكل الربا وموكله) أي: مطعمه لغيره، فهذا التاجر أو هؤلاء التجار الذين يودعون أموالهم في البنوك، ولو كانوا صادقين في قولهم أنهم لا يأخذون الربا، حسبهم إثماً أنهم يُؤكِلون الربا أولئك الذين يعملون في البنك، ومعنى هذا الكلام -أيضاً- أنه لا يجوز للمسلم أن يكون موظفاً في البنك، ولو كان القمام، أو الكناس، أو الزبال -مفهوم الكلام هذا! - أي: أقل موظف، فلذلك أي موظف في البنك من المدير إلى الكناس يشملهم هذا النص القرآني، ثم الحديث النبوي: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه) . والآن يوجد في البنك أنواع من التعاون، فليست الأنواع محصورة بالكاتب والشاهد، فالآن ليس هناك حاجة للشهود أبداً؛ لأن الجماعة نظموا أمورهم على القانون الغربي الذي لا يحرم ولا يحلل، كما قال الله عز وجل في القرآن الكريم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] . والبحث في هذا طويل جداً، وهناك أنواع من الأحاديث رهيبة جداً، كلها تلتقي على نقطة هامة جداً، وهي أنه لا يجوز للمسلم أن يكون عوناً لغيره على ارتكاب منكر، وبهذا القدر الكفاية.

حكم بيع التورق (العينة)

حكم بيع التورق (العينة) Q ما حكم بيع التورق، وهو أن يشتري الرجل بضاعة من غير نقد من التاجر وهو يريد النقد ثم يبيعها لغير التاجر نقداً بثمنٍ أقل؟ A الحقيقة هذه التسمية هي كتسمية الربا بالفائدة، التورق اسم مبتدع، أما الذي سماه الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق فهو العينة، والصورة كما سمعتم: رجل يريد مالاً، ولتفكك عرى المودة والمحبة بين المسلمين فلا يجد هذا المسلم من يقرضه قرضاً حسناً، فيذهب لا يريد أن يذهب إلى البنك؛ لأن هذا ربا مكشوف، أن يأخذ -مثلاً- ألفاً على أساس أن يوفيها بعد مدة مسماة ألفاً ومائة أو أقل أو أكثر، وإنما يذهب عند التاجر فيشتري منه حاجة بألف ليس بالنقد، وإنما كما يقولون اليوم: بالتقسيط، ثم بعد أن يشتريها بألف يعود فيبيعها للبائع له بثمانمائة، فيسجل عليه المقدار الذي اشتراه من قبل بألف وزيادة، ويأخذ مقابل الألف وزيادة ثمانمائة، هذا ربا، ويصح لي أن أقول: ألعن من الربا، لماذا؟ لأن الفرق شاسع جداً، ففي البنك تأخذ مائة على أن توفي مائة وخمسة أو مائة وعشرة، أما هنا فالفرق باهظ جداً، فهذا النوع من الاحتيال على ما حرم الله عز وجل، ولذلك فبيع العينة أو التورق هذا أشد حرمة من الربا المكشوف، لا نريد أن نبيح الربا المكشوف فهو ملعون كما سمعتم وحسبه إثماً، لكن الاحتيال على أكل الربا تلحق بصاحبه لعنة أخرى؛ لأنه: أولاً: يأكل الربا، فهو ملعون بنص الحديث السابق. ثانياً: يحتال على أكل الربا، وهذه لعنة أخرى، من أين جاءت هذه اللعنة؟ من قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه) الحديث أولاً: يشير إلى عقوبة كان الله عز وجل فرضها على اليهود بسبب ظلمهم لأنفسهم، وتعديهم على شريعة ربهم، من ذلك كما قال عز وجل: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] حرم الله على اليهود بسبب ظلمهم، وقتلهم الأنبياء بغير حق، حرم عليهم أشياء هي في أصلها حلال، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] ، منها الشحوم، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها) ما معنى جملوها؟ أي: أذابوها، وضعوها في القدور وأوقدوا النار من تحتها فساخت وذابت، فصارت في شكل آخر غير الشكل الأول، زين لهم الشيطان بأن تغيير الشكل يخرج المحرم إلى دائرة الحلال، وهذا لعب على الأحكام الشرعية واحتيال عليها، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها -أي أذابوها- ثم باعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه) . إذاً: أكل الربا محرم، والاحتيال على أكل الربا محرم مرة أخرى، وآكل الربا ملعون، والمحتال على أكل الربا ملعون مرة أخرى، لذلك فالتورق هذا أو بيع العينة لا يجوز مضاعفةً أولاً: لأنه يطعم الربا، وذلك البائع يأكل الربا. وثانياً: لأنهما تواطأا واتفقا على استحلال ما حرم الله، فوقعا في نفس الحيلة التي وقعت اليهود فيها من قبل.

حكم بيع الإيشار

حكم بيع الإيشار Q ما حكم من يبيع الإيشار -الذي يوضع على الرأس يا شيخ- مع العلم أن الإيشار بيعه ليس محرماً للنساء اللاتي يخرجن فيه كاسيات عاريات، وكذلك الملابس الأخرى، وهو يرى المرأة التي تشتريه كاسية عارية؟ A أظن أن جواب هذا السؤال يفهم مما سبق بوضوح، ولكن قد يتطلب الأمر شيئاً من التوضيح، الشيء الذي يباع كالإيشار الوارد في السؤال، قد يستعمل فيما هو مباح وقد يستعمل فيما هو محرم، فهنا ينظر إلى الأمر بمنظارين اثنين: الأول: إذا كان الغالب على استعمال المبيوع هذا؛ سواءً كان الإيشار أو غيره، إذا كان استعماله فيما حرم الله فبيعه حرام، وإذا كان الغالب استعماله فيما أباح الله فبيعه حلال. هذا المنظار الأول. المنظار الثاني: ينظر إلى المبيوع له -إلى الشخص الذي يباع له- بنفس النظام السابق، فإذا كان يغلب على البائع أن هذا الشاري لهذه الحاجة يستعملها فيما حرمها الله، فبيعه إياها حرام وإلا فحلال، لا بد من هذا التفصيل؛ حتى لا يكون الإنسان واقعاً فيما حرم الله باسم أنه حلال أو على العكس تماماً.

معنى حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

معنى حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) Q ما ترجمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ؟ A أولاً: (لا يؤمن أحدكم) هذا النفي ليس نفياً للإيمان المطلق، بحيث أنه يعني: يكون كافراً إذا كان لا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، وإنما المعنى: لا يؤمن إيماناً كاملاً، وبلا شك لا بد من أن يقيد الحديث لفظاً؛ لأنه ورد، ومعنىً؛ لأنه هو المعنى المقصود من هذه الرواية المشهورة، والرواية المشهورة في الحديث هي كما سمعتم آنفاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) هكذا الحديث في الصحيحين. لكن جاء الحديث بزيادة موضحة للمعنى الذي لا ثاني له، وهو: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير) ، لأن الحديث على إطلاقه قد يشمل ما ليس خيراً، فمثلاً: رجل يشتهي أن يدخل السينما، فهو يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، لا. هذا المعنى لا يرد في بال المسلم، لكن القيد الذي جاء في آخر الحديث وفي رواية صحيحة، كما يقال اليوم: هذه الرواية تضع النقاط على الحروف، تبين أن المقصود بهذه المحبة التي إذا لم تتوفر في قلب المسلم يكون إيمانه ناقصاً، وهو أن يحب لأخيه المسلم من الخير ما يحب لنفسه. مثلاً: أنت عندك علم نافع، كالعلم بالكتاب والسنة، وبالتلاوة، وباللغة العربية، أي علم نافع، فأنت لا يجوز أن تتمنى أن تظل وحيداً في علمك هذا؛ بل يجب عليك أن تتمنى ذلك لكل مسلم؛ لأنه خير، فإن لم تفعل فإيمانك ناقص، وعلى ذلك فقس. فمعنى إذاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير) إذا افترضنا مسلماً يرى جاراً له فقيراً، ثم يتمنى له أن يظل فقيراً معدماً، ولا يتمنى له من المال الذي أعطاه الله إياه، وهذا من طبيعة الإنسان كما قال رب الأنام في القرآن: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] ، الخير هنا هو المال، هذا الجار الغني حينما يرى جاره الفقير فقراً مدقعاً؛ عليه أن يتمنى له من المال مثل ما له، ولكن عطفاً على بحثٍ سبق: إذا كان كسبه من حرام فإياه أن يتمناه لجاره الفقير، وإنما قبل كل شيء يجب أن يتمنى لنفسه المال الحلال، ثم يتمناه للمسلم؛ حتى يصدق عليه هذا الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير) .

حكم العمل في مصانع الألعاب البلاستيكية المجسمة

حكم العمل في مصانع الألعاب البلاستيكية المجسمة Q بارك الله فيكم: ما حكم العمل في شركة لصناعة الألعاب البلاستيكية وهي أشكال الحيوانات؟ A سبق الجواب عن هذا -بارك الله فيكم- لا توجهوا أسئلة متكررة، الألفاظ متغيرة والمعاني متحدة، هذا السؤال والذي قبله بقليل كله يلتقي مع مخالفة الآية الكريمة: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] صنع الدمى وألعاب الأطفال هذه لا يجوز صنعها إلا في بيت المسلم، فلا مانع من صنع ذلك؛ انطلاقاً أو تمسكاً بحديث عائشة. أما صنعها والمتاجرة بها، وتعميمها في بيوت المسلمين، وبخاصة إذا كان صنعها فيه تقليد للكفار ولأذواقهم ولعاداتهم وتقاليدهم، فهذا بلا شك من أشد المحرمات في الإسلام، فلا يجوز أن يعمل في مثل هذه الشركة مؤمن يؤمن بالله ورسوله.

التوفيق بين العمل والقدر

التوفيق بين العمل والقدر Q هل الزواج من الأمور المقدرة على الإنسان جبراً؟ A هذا سؤال قديم لكنه حديث في التعبير، هذا كمن يقول: هل السعادة والشقاوة مقدرة للعبد أم لا؟ أما الجواب العقلي والشرعي في آن واحد، فهو أن كل شيء بقدر، والزواج إما أن يكون زواجاً شرعياً أو أن يكون زواجاً بدعياً، فإن كان زواجاً شرعياً فهو خير، وإن كان زواجاً بدعياً فهو شرٌ، فهل الخير والشر مقدر على الإنسان؟ الجواب: نعم. كل شيء بقدر، كما جاء في الحديث الصحيح: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) ولكن إذا كان كل شيء بقدر حتى السعادة والشقاوة فلم العمل؟ لقد ذكروا للرسول هذا السؤال حينما أخبرهم بأن كل شيء مستطر، كل شيء مسجل، قالوا له: ففيم العمل؟ فأجابهم عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الجواب الحكم الفصل الذي لا جواب بعده ولكن لمن فهمه، قال عليه الصلاة والسلام: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان من أهل الجنة فسيعمل بعمل أهل الجنة، ومن كان من أهل النار فسيعمل بعمل أهل النار، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) إذاً كل ميسر لما خلق له. بالنسبة للسؤال السابق: من كان يريد الخير فيسعى إليه ويتزوج الزواج المشروع، ومن كان يريد الشر يسعى -أيضاً- إليه ويتزوج بزواج غير مشروع، كلٌ ميسر لما خلق له، لذلك لا يقولن أحدكم: إذا كانت السعادة مكتوبة لي فإذاً لماذا أنا أتعب نفسي وأصلي وأصوم وأنا سعيد؟ أو إذا كنت كتبت شقياً -لا سمح الله- لماذا -أيضاً- لا أتمتع بملاذ الحياة كلها ولا أتعب نفسي بصلاة وعبادة وصيام. إلخ؟ الجواب: إن كنت صادقاً مع نفسك فقل كل شيء مثل السعادة والشقاوة، وسابقاً ذكرنا أن الرزق سيأتي، فلماذا تسعى وراء الرزق؟! والرزق -أيضاً- مما سجل كالسعادة والشقاوة، كل شيء مسطر، فلماذا تسعى وراء الرزق؟! لأنك تعلم أنك إن لم تسع لم يأتك، فهنا أنت معتزلي، أي: تؤمن بالأسباب، أما هناك فأنت جبري فيما يتعلق بالسعادة؛ لأنك لا تعمل؛ لأنه إن كان مكتوباً سعيد فأنت سعيد، وإن كان مكتوباً شقي فأنت شقي، وإن كان مكتوباً فقير فأنت فقير، فلماذا تسعى؟ لا بد من السعي، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18-19] لذلك لا بد من السعي وراء الخير، ولا بد من الابتعاد عن الشر، والله عز وجل بحكمته قدر أن يعطي لكل إنسان ما يسعى إليه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] .

الإسلام وحكم المعازف والغناء

الإسلام وحكم المعازف والغناء في هذه المادة أجوبة مفيدة لكلا الشيخين الجليلين الشيخ الألباني والشيخ ابن باز رحمهما الله عن حكم سماع الموسيقى، مع بيان أنها تدخل تحت لفظة المعازف التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) . كما تضمنت أيضاً إجابات عن أسئلة أخرى منها ما يتعلق بهذا الموضوع، ومنها ما يتعلق بمواضيع أخرى.

حكم سماع الموسيقى

حكم سماع الموسيقى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. Q ما هو حكم سماع الموسيقى في الإسلام؟ وهل جاءت الأحاديث تحرم بعض الآلات الموسيقية؟ A هذا السؤال يتكرر كثيراً وحق له أن يتكرر؛ لأن المسلمين اليوم قد ابتلوا ببلاءين اثنين: بلاءٌ مادي، وبلاءٌ علمي. أما البلاء المادي: فهو الذي أحياه اليوم جماهير المسلمين في بيوتهم، حيث لا يخلو بيت تقريباً إلا وفيه المذياع -الراديو- ويذاع بواسطة هذه الآلة ألوان وأشكال من أغانٍ ومن آلات موسيقية. وأما البلاء العلمي: فهو أخطر، وذلك أنه يحاول كثير من الكُتّاب الإسلاميين أو المفتين أن يذللوا كل هذه المصائب والبلايا التي تنزل بالمسلمين، فيقولون: (يسروا ولا تعسروا) فيجب أن نعلم أن التيسير على الناس لا يكون على حساب الدين ومخالفة نصوصه، وإنما التيسير على الناس هو بتطبيق الإسلام؛ لأن الإسلام هو في أصوله وفي أسسه بني على اليسر، فإذا حرم الله تبارك وتعالى شيئاً فليس معنى ذلك أنه عسر علينا؛ لأنه حينما يحرم علينا أمراً ما فذلك لصالحنا في الدنيا قبل الأخرى. فلما حرم علينا الآلات الموسيقية حرمها كلها على اختلاف أشكالها وأنواعها؛ سواءٌ ما كان منها معروفاً، أو ما جد اليوم مما لم يكن معروفاً؛ لأن هذه الآلات كلها: أولاً: تدخل تحت لفظة المعازف، وقد ذكرنا لكم مراراً حديث البخاري: (ليكونن في أمتي أقوامٌ يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، يمسون في لهوٍ ولعب، ويصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير) فهذا الحديث يفيد تحريم المعازف، وهي آلات الطرب -كما قلنا- كلها من ناحيتين: الناحية الأولى: قوله عليه السلام: (يستحلون) لأن معنى هذا اللفظ أن هذه الأشياء محرمة فهم يستحلونها، فيكون عقاب بعضهم في آخر الدنيا أن يمسخوا قردة وخنازير، كما مسخ اليهود من قبل، فقوله عليه السلام: (يستحلون) هذا يفيدنا تحريم كل هذه الأشياء التي ذكرت على نسقٍ واحد. الحر: وهو الفرج، أي: الزنا. الحرير: أي: الطبيعي. الخمر: بأنواعه وأشكاله. المعازف: كذلك بأنواعها وأشكالها. كل هذه الأشياء محرمة، ويكون عقوبة من يستحلها أن يمسخوا، ولا يقال: ما سمعنا أنه وقع مسخ؛ لأن الحديث لا يعني أن كل من فعل ذلك مسخ، وإنما قال: ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون كذا وكذا يمسخون، ولا يعني أن كل من فعل ذلك مسخ. وقد اتفقت الأئمة الأربعة وأتباعهم ممن بعدهم على تحريم آلات الطرب، وأجمع كتاب في ذلك لأحد علماء الشافعية وهو أحمد بن حجر الهيتمي، كتاب سماه: كف الرعاع عن السماع، جمع هناك كل ما ورد في هذا الباب، وفيه الصحيح والحسن والضعيف، فلذلك أنصح كل مسلم غيور على دينه ألا يستمع لآلات الطرب إطلاقاً. وأنه إذا كان في داره عليه أن يمرن أهله كلما فتح الراديو فسمع موسيقى أنه إما أن يغلقه فوراً، أو يخفض صوته حتى لا يفوته من الأخبار إذا كان له برامج في الأخبار، وإلا فيحق فيهم قول أبي بكر الصديق لما دخل على بيت الرسول عليه السلام وفيه جاريتان تغنيان غير هذا الغناء، تغنيان بغناء يوم بُعاث الذي وقع في الجاهلية بين الأوس والخزرج، ولأنهما كانتا تضربان عليه بدفٍ قال أبو بكر: [أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟] . فماذا يقول أبو بكر لو سمع بهذه المعازف، التي لا يستطيع أن يذكر الآلات التي تجتمع لتطريب الناس -زعموا- إلا من كان خبيراً بهذا اللغو. لذلك اتقوا الله عز وجل، ولا تفتنوا أنتم وأهلكم بسماع مثل هذه الآلات فكلها محرمة.

حكم سماع الأخبار إذا كان يتخللها شيء من الموسيقى

حكم سماع الأخبار إذا كان يتخللها شيء من الموسيقى Q أثناء نشرات الأخبار يتخللها أحياناً موسيقى، فهل يجوز سماع نشرة الأخبار؟ A يجوز سماع النشرات ولا يجوز سماع الأغنيات، فإذا كان يعرف الإنسان أو سمع صوت موسيقى فيجب أن يظل على الراديو قائماً، دائماً يطالبه بأن ينطق بالحق فقط، فكلما نطق بالباطل أسكته، المسلم هكذا يجب أن يعيش، أنا أعلم أن هذا أمرٌ صعب، ولذلك إذا دار الأمر بين القيام على هذا الأمر الصعب أو أن يخرج الراديو من بيته فيخرجه، كما كان يقول بعض الناس قديماً: إن هذا شيطان يجب إخراجه من البيت، فكنا نضحك منهم؛ لأنهم كانوا يطلقون الكلام، لكن الحقيقة أن الراديو ليس فيه شيطان واحد بل شياطين. ولذلك إذا لم يتمكن المسلم التحرز من مثل هذه الشياطين، فكان عدم وجود الراديو في الدار أولى، وأولى منه بأن تخلو الدار من مثله هو التلفزيون؛ التلفزيون أثره وإضلاله للمبتلين برؤيته أكثر وأكثر بكثير، يكفي أنهم يأخذون الهجيع الأول من الليل في السهر أمام هذه المعروضات، وليس فيها شيء ينفع الناس، إلا ما ندر جداً والنادر لا حكم له، إنما العبرة بالغالب دائماً وأبداً، فلما كان الغالب اليوم على التلفزيون هو المنكر، وإضاعة الوقت والسهر؛ فلا يجوز إدخال التلفزيون في البيت، فهذا في اعتقادي جازماً. أما الراديو فممكن التصرف فيه لكن بالشرط السابق، فإذا سمعت موسيقى فأوقفها مباشرة، واصبر إلى أن يأتي وقت نشرة الأخبار، فإذا جاءت فاسمع الأخبار، ولا بد من سماع الأخبار في اعتقادي حتى يعرف المسلم الجو والمحيط والزمن الذي يعيش فيه. وقد لاحظ هذا علماؤنا القدامى رحمهم الله، فذكروا في شروط المفتي أنه لا يجوز أن يكون مفتياً إلا أن يكون عارفاً بأحوال زمانه -انظروا مقدار دقتهم- (واليوم الأحوال التي تقع في الدنيا لا يمكن إحصاؤها ولا الاطلاع عليها إطلاقاً وأنت جالس في عملك، أو في مكتبتك، لا تتصل بالعالم إطلاقاً بوسيلة من هذه الوسائل المباح استعمالها، لذلك فالراديو إذا استعمله المسلم بهذا، مع القيام عليه -كما ذكرنا- فهذا أمر جائز، بل قد يكون أكثر من ذلك.

حكم سماع الأغاني وبيان أضرارها للشيخ ابن باز

حكم سماع الأغاني وبيان أضرارها للشيخ ابن باز كلام الشيخ/ عبد العزيز بن باز: هذا هو الواقع الآن! هذه الأغاني ضارة، وهي في التلفاز وفي الإذاعة وفي المسجلات وفي غير ذلك، هذا هو شأنها إلا ما شاء الله، فخطرها كبير وبلاؤها عظيم، فالواجب العلاج بأنجع وسيلة وبأنجع أسلوب، حتى يسلم الناس من شرها، وحتى يحل محلها ما أباح الله من الأشعار الطيبة الناشئة، والقصائد النافعة في لحون الرجال العرب لا في لحون النساء. فيجب منع النساء منعاً باتاً، وأن تكون قصائد مفيدة في ألحان الرجال، وبلغة العرب، وبالألفاظ الواضحة البعيدة عن كل شر، وهي تحل محل الأغاني المنكرة، والأغاني الخليعة الفاسدة المفسدة. وأما آلات الملاهي فكلها شر وكلها بلاء، وكلها محرمة بلا شك، وسمعتم ما أجاب به شيخنا عن العرضة النجدية، وأنها بالاسم المحلي حقيقتها تدرب على حمل السلاح والكر والفر، وهي من جنس ما فعل الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم لعبوا في المسجد بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام وبإقراره لهم، وكانوا يلعبون بحرابهم وهي رماحٌ قصيرة، وبالفئوس كراً وفراً؛ حتى يتدرب الناظر والعامل معهم على مثل هذا في الحروب، فكانت الحبشة لها رمي بالحربة، لها رجل شديد يؤثر في الجهاد. فتدرب مثل هذا في الكر والفر وحمل السلاح كالبندقية والسيف والرماح والحراب، كراً وفراً، وتنوعاً في الرمي وتنوعاً في الكر والفر، هذا له وجهه وله أسلوبه، وله وجه شرعي، ولا حرج فيه ما لم يكن فيه اختلاط بالنساء، ولا فيه منكر آخر، فالحاصل أن ما يؤيد الله به الإسلام ويؤيد به المجاهدين فهو مطلوب بشرط ألا يكون من طريق الحرام، وبشرط ألا يكون فيه آلات محرمة، وبشرط ألا يكون فيه عمل محرم، فتستعمل الآلات الشرعية والآلات الحربية بالطرق الإسلامية، لا بالطرق الشيطانية، ولا بالطرق النسائية، ولا بالطرق المحرمة. وما يقع من استعمال الرباب والعود والكمان والطبول وأشباه ذلك مع الأغاني كلها من المحرمات، وهي من المنكرات التي تشيع الشر والفساد في القلوب، ولهذا سمعتم قول ابن مسعود رضي الله عنه: [إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع] أي: ينبت بغض الحق وكراهيته، والتلذذ بالباطل، والتلذذ بالفواحش والمنكرات، ينبت في القلب هذا الشر، لأن النفاق أن تبطن خلاف ما تظهر، هذا ما يحدث، المنافق باطنه خراب وظاهره مع المسلمين. وهذا حال المنافق الذي يكذب الله ورسوله، ويبغض الحق ويؤيد الباطل، وهو في الظاهر مع المسلمين؛ تقية أو لحظٍ عاجل أو لأسبابٍ أخرى يبتغي بذلك ما عند المسلمين، فيتظاهر بالإسلام وهو مع الكفار في الباطن، فالأغاني والملاهي تنبت هذا النفاق والعياذ بالله! تنبت في القلوب كراهية الحق، وكراهية القرآن، ومجالس الذكر ومجالس العلم، وكراهية العبادات والصلوات، والرضا بكل فسقٍ وكل بلاء، هذا من آثارها في القلوب، حتى يقسو القلب ويسود، وحتى ينحرف عن الهدى، نسأل الله السلامة والعافية. فالواجب عليك - أيها المسلم- أن تتقي الله أينما كنت، وأن تحذر أسباب الهلاك، وأن تحذر ذلك من حولك من أهلٍ وأولادٍ وجيرانٍ وغيرهم، وأن تعين على الحق أينما كنت، وأن تعين على ترك الباطل أينما كنت، وأن تكون صادقاً في ذلك، لا تخف في الله لومة لائم، وعليك أن تحمل السلاح دائماً، وعليك بالجهاد، أي: أن تنكر المنكر، وأن تدعو إلى الحق، وأن تكون أبداً في جهاد وفي صبر ومصابرة لإقرار الحق والدعوة إليه، بكلامك الطيب وأسلوبك الحسن، لا بالعنف والشدة، بل تكون مجاهداً في قولك وجهادك ودعوتك إلى الله وأمرك بالمعروف وإنكارك المنكر؛ فإن الدعوة إلى الله جهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهاد، وهذا سلاح المؤمن الذي ينفع الله به العباد، ليس السلاح السيف والبندق فقط، لا الدعوة سلاح ينفع الله به العباد، بالحكمة، والكلام الطيب، والأسلوب الحسن، وإقامة الأدلة، كما قال الله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] . فلا تيأس، ولا ينبغي اليأس، بل ينبغي للمؤمن أن يكون دائماً حريصاً على الحق، طالباً له، داعياً إليه، راغباً فيه، معجباً به، لا يقول: هذا قد فرط وانتهى الأمر وهلك الناس، لا. الناس فيهم خير وفيهم بقية محبة للخير، وبقية رغبة في الحق، فعليك أن تشارك في الخير، وأن تحذر الباطل، وأن تحذر من الباطل، وألا تيأس من إقامة الحق، ومن القضاء على الباطل منك ومن إخوانك ومن دولتك، ومن سائر إخوانك المسلمين، بالتعاون على البر والتقوى، وبالتواصي بالحق والصبر عليه. وإذا يئس الناس وأخذوا بالبطالة، وأخذوا باليأس؛ ساد المنكر وانتشر، وقل الخير ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولكن ما داموا يشعرون بواجب، وما داموا يعملون ويكافحون فإن الشر ينقص، ولا يخفى ما وجد الآن -بحمد الله- من الحركات الإسلامية الكثيرة في الشباب وغير الشباب، وهذا يبشر بخيرٍ كثير، وهناك حركاتٌ أخرى شيطانية خبيثة تدعو للشر، فالواجب الكفاح، والواجب تأييد الحق ومن قام به، والحرص على كف الباطل ومن قام به، والقضاء عليه حسب الطاقة والإمكان، بالتعاون على البر والتقوى، وبالتواصي بالحق والصبر عليه. وهكذا مناصحة ولاة الأمور، ومناصحة أعيان البلاد، ومناصحة من تستطيع أن تنصحه؛ لأن الدين النصيحة، لا تيأس ولا تقل: هذا أمر قد انتهى، بل عليك بالنصيحة والتوجيه إلى الخير، والله جل وعلا يقول: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87] . فعلينا أن ننصح لله ولعباد الله، يقول الله سبحانه في أوصاف الرابحين وفي أوصاف الناجين: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] . هذه صفات الرابحين، وهذه العناصر الأربعة هي أصول النجاة، وهي أسباب السعادة، وهي أصول صلاح المجتمع، وكل مجتمع مستقيم على هذه الأصول الأربعة: الإيمان بالله ورسوله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر؛ فهو مجتمع صالح ومجتمع سعيد ورابح، وإذا تخلى المجتمع عن هذه الأصول الأربعة أو بعضها؛ تأتي إليه الخسارة من كل جانب، ولا حول ولا قوة إلا بالله! نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، وجزى الله أصحاب الفضيلة عنا خيراً، ونفعنا جميعاً بما سمعنا وعلِمنا، ورزقنا جميعاً وإياكم صلاح القلوب وصلاح الأعمال والهداية إلى خير طريق، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا إلى رضاه، وأن يعينهم على قمع الباطل، وعلى إظهار الحق، وعلى إصلاح الأوضاع، ويصلح لهم البطانة، ويوفقهم لكل خير ويعينهم عليه، وأن يعيذهم من كل شر، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

التحذير من الرسائل البريدية الداعية إلى الفجور والدعارة

التحذير من الرسائل البريدية الداعية إلى الفجور والدعارة Q سماحة الشيخ! يصلكم مع هذه الورقة رقم تليفون مدرس للموسيقى الغربية، يوجد له إعلانات خاصة موجودة في البقالات في منطقة السليمانية والعليا بـ الرياض، نرجو اتخاذ اللازم خوفاً من أن يكون هذا المدرس له اتجاهات ونشاطات أخرى، وعنوان البقالة موجودٌ خلف هذه الورقة، وصندوق البريد والتليفون موجود بها هذا شيء، والشيء الآخر: هنا رسالة في مظروف مكتوب عليه بالإنجليزي: إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، هذه الرسائل ترد بالبريد إلى شباب المسلمين، ويقوم بفرزها مسئول البريد، وهذه الرسائل تدعو إلى الاشتراك بنوادي الفجور والدعارة، وأنتم تعرفون مدى هذه الرسائل، فهل نجد عندكم لها حلاً يحمي أبناء المسلمين؟ جزاكم الله خيراً. A هذه الرسائل من النصارى وغيرهم لها مدة طويلة، وقد أُبلغ المسئولون بها غير مرة، ولهم بها جهود نسأل الله أن يعينهم في محاربتها والقضاء عليها، ولا شك أن النصارى واليهود وسائر الكفرة لهم نشاط متواصل في إضلال الناس اتباعاً للشيطان، وهم من شياطين الإنس، وشياطين الإنس قد يكونون في بعض الأحيان أقوى وأشد خطراً من شياطين الجن، نسأل الله العافية. فينبغي لكل مؤمن أن يحذر شر شياطين الإنس، كما يحذر شياطين الجن أو أكثر، وأن يستعين بالله من شر الجميع، وأن يبذل وسعه في محاربة دعوتهم الباطلة، والتعاون مع إخوانه في مضادتها ومحاربتها، أكثر مما يتعاون أهل الباطل على نشر باطلهم؛ فإن النصارى وغيرهم عندهم تعاون كبير على نشر باطلهم والدعوة إليه، فالواجب على أهل الإسلام أينما كانوا أن يكون نشاطهم أكبر في محاربة الباطل والقضاء عليه، ومحاربة أسبابه ووسائله، نسأل الله للجميع العون والتوفيق والهداية.

معنى حديث: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)

معنى حديث: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) Q نرجو إيضاح وبيان معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وما المقصود بذلك؟ A قد بيّن العلماء ذلك ومعناه: أن يحسن القارئ صوته بالقرآن ويجهر به، أما كونه يقرأ قراءة ليس فيها تحزن ولا تخشع، وما لها أثر في القلوب فلا يصح، فينبغي للقارئ أن يحسن صوته ويتلذذ بالقراءة ويجهر بها إذا كان حوله من يستمع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (زينوا أصواتكم بالقرآن) هكذا جاء الحديث. فتحسين الصوت بالقراءة، وتجويد القراءة، والتلذذ بالقراءة، والتخشع فيها، مما يؤثر على القارئ ويؤثر على غيره في سماعه كتاب الله، وقد مر النبي ذات ليلة على أبي موسى الأشعري وهو يقرأ، وكان الأشعريون لهم صوت حسن في القرآن رضي الله عنهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبي موسى وهو يقرأ سمع له فقال عند ذلك: (لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود) فلما أصبح وجاء أبو موسى أخبره النبي بذلك، فقال: (يا رسول الله! لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً) . فالمقصود بأن تحسين الصوت بالقراءة له أثر عظيم، فينبغي للقارئ أن يلاحظ هذا، ولهذا جاء في الحديث: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) قال العلماء: يحسن صوته به، ويزين صوته، ويتلذذ ويتخشع جاهراً به، إذا كان عنده من يسمع ويستمع له، أو كان يتلذذ بذلك ويتأثر به.

حكم تصوير ما لا روح فيه

حكم تصوير ما لا روح فيه Q هل يجوز تصوير ما لا روح له، كتصوير الأشجار والمباني والمياه؟ وهل على المصور ذنب في ذلك؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. A هذا يذكِّر بما ذكره الإخوان في ندوة عن التصوير، ينبغي لأهل الأعراس أن يحذروا أن يمكنوا أحداً من تصوير النساء، وقد بلغني أن بعض الناس قد يصور النساء في الأعراس، فهذا منكر عظيم -نعوذ بالله- أن يسجل في الأفلام وغير الأفلام وقد ينشر هنا وهنا، وهذا شره عظيم، فلا يجوز أن يمكن من تصوير النساء لا امرأة ولا رجل، يجب الحذر من هذا، وإذا كان في العرس من تصور فيجب أن تخرج، وأن تمنع من الحضور؛ لأن هذا شرٌ كبير، قد تندس بين النساء امرأة تصور حتى تبيع الأفلام بمبالغ كبيرة، نعوذ بالله من ذلك! فيجب الحذر من هذا، ولا يجوز تصوير العروس والزوج أيضاً؛ لأن هذا منكر عظيم، وفساده كبير، فالتصوير نفسه محرم، وإذا كانت العروس والنساء في زينة كان أشد وأخطر وأعظم، نسأل الله العافية! فيجب الحذر من هذا البلاء غاية الحذر، سواء من النساء أو من الرجال، أما تصوير جبل وشجرة فلا يضر، وهذه من الجمادات، وقد قال ابن عباس: [إن كنت لا بد فاعلاً فالشجر والحجر] .

التحذير من مقولة: إن الكافر أحسن من المسلم

التحذير من مقولة: إن الكافر أحسن من المسلم Q لقد شاع بين الناس في هذا الزمان وخاصة أصحاب الأعمال كلمة: إن الكافر أحسن من المسلم. وهذا غير صحيح، حتى إن معظم الشركات أصبحت تقتصر على الكافرين دون المسلمين، وهذا شيء خطير، نرجو من سماحتكم تعميم خطبة جمعة؛ حتى تكون كافية للرد على مثل هؤلاء الجهلاء، الذين يعتنقون الإسلام اسماً، وحتى يعلم الجميع خطر هذه الكلمة، خاصة أن خطبة الجمعة يحضرها كل الناس. A هذا تقدم في المحاضرة الماضية للشيخ/ صالح الفوزان، وقد نبه على هذا الأمر، وأن ما يقول بعض الناس: إن الكافر أحسن من المسلم، أو إن النصارى أحسن من المسلمين، هذا ردة عن الإسلام -والعياذ بالله- وشره عظيم. من قال: إن الكفار أحسن من المسلمين، فقد شابه اليهود في قولهم للكفرة: أنتم أهدى سبيلاً من محمدٍ وأصحابه، هذا منكر كبير، وإن كان الكافر قد يجتهد في تجديد بضاعته، وتسويق سوقه، لكن عنده من الكفر والضلال والفساد العظيم ما يزيد على خبثه وضلاله وفساده، وأنه من أنجس العباد ومن شرهم. فالمسلم وإن كان عنده شيء من المعاصي فهو أفضل بكثير من الكافر؛ لأن عنده إيماناً بالله ورسوله، وعنده توحيد الله، فهو خير من الكافر من وجوه كثيرة، وإن كان عنده بعض المعاصي، فالإسلام ينهاه عن المعاصي، وينهاه عن الخيانة، وينهاه عن الكذب، لكن ليس الكفار أحسن منه! بل هو أحسن وأهدى سبيلاً من الكفار، وإن كان عنده ما عنده من المعاصي، والواجب على المسلم أن يتقي الله، وأن يحذر من المعاصي والكذب والخيانة. وإذا كان الكافر قد يجتهد في الصدق، أو في تحسين البضاعة، أو في جودة الصنعة، لحظه العاجل ولدنياه العاجلة، فأنت -أيها المسلم- يجب عليك أن تجتهد في هذه الصنعة بالأمانة وعدم الخيانة، وبالصدق وعدم الكذب، حتى لا تفتح باباً للشر على المسلمين، بل يجب عليك أن تحذر غاية الحذر من كل ما حرم الله عز وجل، لكن لا يجوز لأحدٍ من المسلمين أن يقول: إن الكفار أحسن من المسلمين، أو أهدى من المسلمين، أو أصدق، هذا كله باطل ومنكرٌ عظيم، ومن قال هذا بإطلاق فقد كفر نسأل الله العافية، هذا بلاء عظيم أعوذ بالله! ثم لا يجوز توريد الكفار لهذه الجزيرة، ولا يجوز استخدامهم للخدمة، سواء كانوا نساء أو رجالاً؛ لأن هذه الجزيرة يجب أن تتطهر من الكفرة، يبعد عنها الكفار، ولا يستورد لها ولا يستخدم لها إلا مسلمون، مع التحري -أيضاً- في المسلمين والحذر، حتى لا يستخدم إلا مسلمٌ طيب ومسلمة طيبة عند الحاجة إلى ذلك. أما استخدام اليهود أو النصارى أو البوذيين أو غيرهم من الكفرة، فهذا كله منكر لا يجوز في هذه الجزيرة، الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى بإخراج المشركين من الجزيرة، وقال: (لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى منها حتى لا أدع إلا مسلماً) . ثم أوصى بذلك عند موته عليه الصلاة والسلام، فالمقصود أن هذه الجزيرة هي حمى الإسلام، وهي مهد الإسلام، لا يجوز أن يكون فيها دينٌ ثانٍ، بل لا يبقى فيها إلا دينٌ واحد، ولا يجوز استقدام الكفرة إليها، اللهم إلا عند الضرورة من طريق ولاة الأمور في شيء ينفع المسلمين، وفي ضرورة للمسلمين كمهندس يحتاج إليه أو طبيب بصورة قليلة نادرة عند الضرورة، كما أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليهود في خيبر لحاجة، ثم أجلاهم عمر بعدما أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بإخراجهم. المقصود أن هذا أمرٌ خطير جداً يجب الحذر منه، ولا يجوز أن تبنى فيها الكنائس، ولا أن تفتح فيها مدارس للنصارى، وإن فعل هؤلاء المقصرون وتساهل بعض الأمراء، فعملهم ليس بحجة.

ضرورة الإنكار بشدة على المنكرات والتحذير من التساهل

ضرورة الإنكار بشدة على المنكرات والتحذير من التساهل Q يا شيخ! غفر الله لك، بالنسبة للشيخ الطنطاوي سأله سائل في برنامج نور على الدرب: أنهم أتوا بمغنية ودفعوا لها مبلغاً من المال وقدره خمسون ألفاً، هل هذا حلال أم حرام؟ فما كان الجواب منه إلا أن قال: لو أن أم كلثوم جاءت وغنت ما ربحت هذا المبلغ في ليلة واحدة، فهل هذه إجابة كافية؟ A هذا في الحقيقة فيه نوع من التساهل، ويجب إنكار ذلك الأمر؛ لأنه عمل قبيح شنيع.

بيان حقيقة الإسلام

بيان حقيقة الإسلام Q الصحابة رضوان الله عليهم عندما اعتنقوا الإسلام قولاً وعملاً كانوا أسياد العالم، وبعض المسلمين اليوم يتكلمون في أشياء لا تتعلق بالإسلام؛ لأنهم في حقيقتهم لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، فما تعليقكم على هذا؟ A أرى أنه لا بد من الوقوف عند هذه الكلمة: الإسلام، وأسلم فإن كثيراً من الناس اليوم ممن ينتمون إلى الإسلام ويسمون بالمسلمين، كثيرون منهم لا يعرفون حتى اليوم حقيقة إسلامهم، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يهنئ من هدي للإسلام، فمعنى هذا أنه يشير إلى أنه قد هدي إلى أكبر نعمة معنوية روحية، فما هو هذا الإسلام؟ لا بأس أن أروي لكم حديثاً هو معروف عند بعضكم، ومجهول أو -على الأقل- غير معروف كثيراً عند آخرين منكم، وفيه عبرة، وفيه موعظة، وفيه بيان لهذا الذي نحن في صدده ألا وهو الإسلام. ذلك الحديث هو المعروف عند علماء الحديث بحديث جبريل عليه الصلاة والسلام الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، الذي لما يرويه عن أبيه حيث قال: حدثني عمر (أنه كان في مجلسٍ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال السائل: صدقت، قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال عمر: ثم لبثنا ملياً -أي: طويلاً، وفي رواية: ثلاثة أيام- ثم قال عليه الصلاة والسلام: أتدرون من السائل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال عليه الصلاة والسلام: ذاك جبريل جاءكم يعلمكم دينكم) . التعليق على هذا الحديث يطول في الكلام، فهو شيء هام جداً، ولكننا لسنا بهذا الصدد، وإنما سقناه لأمرين اثنين: الأول: تذكيراً لكم به. والثاني: ربطاً للجواب على السؤال الأول، لما جاء في هذا الحديث ذكر من أسلم ومن هدي للإسلام، حيث سأل جبريل عليه الصلاة والسلام، وهو قد تصور بصورة إنسان، جاء إلى مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام، ويبدو أنه كان في المجلس شيءٌ من الوجوم وعدم الانطلاق في البحث والعلم؛ ذلك لأن قوله عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث من الرواية السابقة: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم) . وقد جاء في رواية أخرى في صحيح مسلم أيضاً، ولكن من رواية أبي هريرة وليس من رواية عمر قال: (هذا جبريل أتاكم يريد أن تعلموا إذ لم تسألوا) الشاهد هنا (أتاكم يريد أن تعلموا -أي: أن تتعلموا- إذ لم تسألوا) فما دام أنكم واجمون وساكتون ولا تسألون، فقد بعث الله عز وجل رسوله جبريل عليه السلام إليكم ليعلمكم طريقة السؤال والجواب. وهذا الحديث الصحيح من أدلة كثيرة على أن من طرق تعليم العلم في الإسلام طريقة السؤال والجواب، وليس كما يتوهم الكثيرون اليوم الذين لا علم عندهم بالإسلام، أن هذه الطريقة من السؤال والجواب هي طريقة ورقية أجنبية، بل هي طريقة إسلامية شرعها الله عز وجل بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام، حين أرسله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويجلس بين يديه جلوس المتعلم أمام المعلم، قد ألصق ركبتيه بركبتيه، ووضع كفيه على فخذي الرسول، يظهر للناس الحاضرين اهتمامه بالعلم، وما به من حاجة إلى العلم، ولكنه يريد أن يعلم أولئك الذين لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما هم بحاجة إليه من علم، فقال عليه الصلاة والسلام -وهو الشاهد من هذا الحديث- في بيان الإسلام الذي سأل جبريل عنه: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وهذا بمعنى الحديث المشهور المتفق عليه بين الشيخين من حديث ابن عمر نفسه: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) إلى آخر الحديث. فقد بين الرسول صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث أن الإسلام هو: أن تشهد أن لا إله إلا الله، ومعنى أن تشهد أن لا إله إلا الله، هو كما جاء -أيضاً- في رواية أخرى: أن تعبد الله وحده لا شريك له. (لا إله إلا الله) معناها: أن تعبد الله وحده لا شريك له، هذا المعنى مأخوذ من الرواية الأخرى التي أشرت إليها آنفاً، إنما المعنى المتوارث التقليدي المعروف عند علماء المسلمين قاطبة هو قولهم، وقولهم حق: معنى (لا إله إلا الله) : لا معبود بحقٍ في الوجود إلا الله، هذا المعنى صحيح، ونحوه الرواية الأخرى لما سئل عن الإسلام أجاب عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله وحده لا شريك له) . ومعنى هذا وذاك: أن الذي أسلم قديماً أو حديثاً أو وراثة، وهو من جهة أخرى يعبد غير الله عز وجل بأي عبادة من العبادات المعروفة للإسلام فليس مسلماً، ولم يُهدَ للإسلام، فلا طوبى له، كل من عبد سوى الله عز وجل فليس مسلماً، ولو قال: لا إله إلا الله، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ لأنه قد أخل بالركن الأول من أركان الإسلام الخمسة، وهي: أن تشهد أن لا إله إلا الله، أي: ألا تعبد إلا الله، ولا تشرك به شيئاً. ولخطورة هذا الموضوع؛ لأنه من العقيدة بل هو أس العقيدة، لاسيما أني أرى في كل يوم وجوهاً جديدة، وأفترض بل أقطع بأن هناك من لم يسمع مطلقاً بحثاً في مثل هذا الموضوع الهام، الذي يجب على كل مسلم قبل أن يقلد أباه وجده في الصلاة والصيام أن يعرف ما هو الإسلام، ثم بعد أن يعرف أن يؤمن به إيماناً جازماً، وبعد ذلك ينطلق إلى العمل لبقية أركان الإسلام. قد يظن بعض الناس بل قد يتساءل: ما فائدة هذا الكلام؟ وهل هناك من المسلمين من لا يعبدون الله وحده؟ هل فيهم من يشرك بالله شيئاً، والحديث يفسر الإسلام: أن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئاً؟ نقول: مع الأسف الشديد هناك كثيرون وكثيرون جداً يعبدون مع الله غيره، ويشركون به أشياء، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يظن هؤلاء الناس بأن الشرك الذي حذر منه الرسول عليه السلام في هذا الحديث، وجعله مبايناً للتوحيد ولشهادة لا إله إلا الله، هو: أن يعبد إلهاً مع الله كما يعبد الله تماماً، وذلك بأن يصلي له، وأن يصوم له، وأن يحج له، وأن يعبده بكل شيء هو لله وحده! هكذا يتوهمون، وليس الأمر كذلك، إن الشرك أخطر من هذه الدائرة الواسعة. إن إنساناً إذا عبد الله عز وجل حياة نوحٍ عليه الصلاة والسلام، ثم نادى غير الله يوماً ما، في ساعة ما، دعاه دون الله، بل دعاه مع الله؛ فقد أشرك مع الله وحبط عمله، كما قال عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] . دعاه من دون الله كأن يقول كما تسمعون كثيراً: يا باز! هذا دعاء من دون الله، دعاه مع الله فقال له: يا باز! هذا دعاء مع الله، ولو كان الأمر بالذوق فقط لقلت: إن مناداة غير الله مع الله أقبح، وانتبهوا لما أقول: لو كان الأمر بالذوق -والآن الأمر واحد؛ لأنه كله شرك- لقلت: إن مناداة عبد من عباد الله لا يسمع ولو سمع لا يستجيب، مناداته مع الله أقبح من أن ينادى من دون الله؛ لأن ذكر هذا العبد مع الرب قد يشعر بأن الله وحده لا يكفيه ولا يغنيه، بينما لو نادى العبد وحده فهذا المفهوم الخاطئ لا يخطر في البال، وهو لا شك أشرك حينما نادى الباز، لكن حينما قال: يا الله! يا باز! كأنه يشعر أو يؤكد بأن الله غير كافٍ عبده، فهو يقول: وكأنه يستدرك، يا الله! يا باز! كأن مناداة الله لا تكفي، فيستغيث بعبد الله عز وجل الملقب عندهم بالباز. فهؤلاء الذين ينادون غير الله عز وجل لم يفقهوا الإسلام الذي ينبغي أن يكونوا عليه، فإذا ما رزقوا كفافاً كان لهم طوبى وحسن مئاب. لذلك يجب عليكم جميعاً أن تهتموا بفهم كلمة التوحيد التي ينبني عليها علم التوحيد كله، على أساس ما كان عليه السلف الصالح من الكتاب والسنة، حتى إذا ما جاءت بشرى لنا كهذه التي بين أيدينا الآن كنا أهلاً لها. أما من كان في قلبه شيءٌ من الشرك -والعياذ بالله- فلا تفيده هذه البشرى، بل لا تفيده كل أعماله الصالحة، كما قال ربنا عز وجل في القرآن، في حق المشركين، ولا محاباة عند رب العالمين، لا فرق بين مشرك يقول (لا إله إلا الله) بلسانه، ولما يدخل الإيمان إلى قلبه، وبين نصراني أو يهودي أو مجوسي أو ملحد، وكل هؤلاء مشركون، وكلهم يدخلون في عموم قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] . لذلك نحن نحمد الله أن جعلنا مسلمين ولو بالوراثة، ولكن الحمد الكامل أن نسعى إلى أن نتفقه في الدين، وأول ذلك وأصله وأسَّه أن نعرف هذا الإسلام الذي أصبح مجهولاً عند جماهير المسلمين اليوم، فلا غرابة أن يصبحوا أذلاء، يخشون من كانوا من قبل أذل الأمم، فلا يستطيعون أن يخرجوهم من بلادنا، لا نقول: من بلادهم؛ ذلك لأن هذا العدد الضخم من المسلمين الذي يبلغ ثمانمائة مليوناً أو يزيد، هم كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل) . لماذا هذا

حكم تعدد الجماعات الحزبية

حكم تعدد الجماعات الحزبية إن التحزب والتكتل في جماعات مختلفة الأفكار ومختلفة المناهج والأساليب ليس من الإسلام في شيء، بل ذلك مما نهى عنه ربنا عز وجل في أكثر من آية في القرآن الكريم قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) . لذلك فالواجب على كل مسلم أن يحرص على أن يكون من الفرقة الناجية، وليس هناك حزب فالح إلا حزب الله تبارك وتعالى.

حكم الشرع في تعدد الجماعات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية

حكم الشرع في تعدد الجماعات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا سؤال لشيخنا العلامة الشيخ/ ناصر: Q ما هو حكم الشرع في تعدد الجماعات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية، مع أنها مختلفة فيما بينها، في مناهجها، وأساليبها، ودعواتها، وعقائدها، والأسس التي قامت عليها، وخاصة أن جماعة الحق واحدة كما دل الحديث على ذلك؟ A لنا كلمات كثيرة وعديدة حول الجواب عن هذا السؤال، ولذلك نوجز الكلام فيه ونقول: لا يخفى على كل مسلم عارف بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، أن التحزب والتكتل في جماعات مختلفة الأفكار أولاً، والمناهج والأساليب ثانياً، ليس من الإسلام في شيء، بل ذلك مما نهى عنه ربنا عز وجل في أكثر من آية في القرآن الكريم، منها قوله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] وربنا عز وجل يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] . فاستثنى الله تبارك وتعالى من هذا الاقتباس -الذي لا بد منه كونياً وليس شرعياً- الطائفة المرحومة حين قال: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:119] . ولا شك ولا ريب أن أي جماعة تريد بحرص وإخلاص لله عز وجل أن تكون من الأمة المرحومة المستثناة من هذا الخلاف الكوني، فلا سبيل للوصول إلى ذلك وتحقيقه عملياً في المجتمع الإسلامي إلا بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم.

سلوك الطريق المستقيم طريق الفرقة الناجية

سلوك الطريق المستقيم طريق الفرقة الناجية ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنهج والطريق السليم في غير ما حديث صحيح، فقد جاء في حديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم (أنه خط ذات يوم على الأرض خطاً مستقيماً، وخط حوله خطوطاً قصيرة عن جانبي الخط المستقيم، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ومر بإصبعه على الخط المستقيم وقال: هذا صراط الله، وهذه طرق عن جوانب الخط المستقيم، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه) ولا شك أن هذه الطرق القصيرة هي التي تمثل الأحزاب والجماعات العديدة. ولذلك فالواجب على كل مسلم حريص على أن يكون حقاً من الفرقة الناجية أن ينطلق سالكاً الطريق المستقيم، وألا يأخذ يميناً ويساراً، وليس هناك حزبٌ ناجح إلا حزب الله تبارك وتعالى، الذي حدثنا عنه القرآن الكريم: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] فإذاً كل حزب ليس هو حزب الله فإنما هو من حزب الشيطان وليس من حزب الرحمن. ولا شك ولا ريب أن السلوك على الصراط المستقيم يتطلب معرفة هذا الصراط المستقيم معرفةً صحيحة، ولا يكون ذلك بمجرد التكتل والتحزب الأعمى على كلمة هي كلمة الإسلام الحق؛ لكنهم لا يفقهون من الإسلام إلا شيئاً قليلاً، فلا يكون التحزب الصحيح الفالح إلا بمعرفة هذا الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلب محمد عليه الصلاة والسلام.

اتباع الصحابة من علامات الفرقة الناجية

اتباع الصحابة من علامات الفرقة الناجية لهذا كان من علامة الفرقة الناجية التي صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها حينما سُئل عنها فقال: (هي ما أنا عليه وأصحابي) فإذاً هذا الحديث يشعر الباحث الحريص على معرفة صراط الله المستقيم، أنه يجب أن يكون على علم بأمرين اثنين هامين جداً جداً: الأول: ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر: ما كان عليه أصحابه عليه الصلاة والسلام؛ ذلك لأن الصحابة الكرام هم الذين نقلوا إلينا -أولاً- هديه صلى الله عليه وآله وسلم وسنته، وثانياً: هم الذين أحسنوا تطبيق هذه السنة تطبيقاً عملياً، فلا يمكننا أن نعرف معرفة صحيحة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بطريق أصحابه. ومعلوم لدى أهل العلم أن السنة تنقسم إلى: سنة قولية، وفعلية، وتقريرية، فالسنة القولية تعريفها هو: ما نقله الصحابي من قوله عليه السلام، والسنة الفعلية: ما نقلوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم فعلاً، أما السنة التقريرية فهي: ما نقلوه عن بعضهم وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن رسول الله رأى ذلك الفعل وسكت عنه، هذا السكوت ليس من قوله عليه السلام وليس من فعله وإنما من إقراره.

لا سبيل إلى فهم الإسلام إلا بمعرفة سير الصحابة

لا سبيل إلى فهم الإسلام إلا بمعرفة سير الصحابة ومن هنا ينبعث في نفسي أن أُلفت النظر إلى أهمية هذه الضميمة التي نحن ندندن حولها في مثل هذه المناسبة وهي أنه لا يكفي لأي جماعة إسلامية تنتمي بحق إلى العمل بالكتاب والسنة، أن يقتصروا على فهم الإسلام بناءً على الكتاب والسنة فقط، بل لا بد -أيضاً- من معرفة تطبيق أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة. وهناك أمثلة كثيرة وكثيرة جداً يمكن بها تقريب أهمية هذه الضميمة، وقد ذكرت في بعض المحاضرات أو الأجوبة نماذج منها، والآن يحضرني مثال آخر، وهو ما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما من أكثر من طريق واحد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر أصحابه أن يسووا الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة، قال النعمان بن بشير: كان أحدنا يلصق قدمه بقدم صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه) . هذا فعل وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، تطبيقاً منهم لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية الصفوف، ومما لا شك ولا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يخفى عليه ما فعله أصحابه من خلفه وهم يصلون مقتدين به وتنفيذاً لأمره بتسوية الصفوف وتراص الصفوف؛ ذلك لأن من خصوصياته عليه السلام ومعجزاته أنه كان وهو في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه، فلو أن هذه التسوية لهذا التراص -رص الأقدام ورص المناكب- لم يكن مشروعاً لكان تكلفاً، ولو كان تكلفاً لنهاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنه؛ لأن هناك حديثاً صحيحاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التكلف) . وإن قيل: إنه من الممكن أن يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول: باب الإمكان واسع جداً، لكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب لسببين اثنين ذكرت أحدهما آنفاً، وهو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه. السبب الثاني وهو الأهم: أنه إن فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشهد هذا الأمر الذي فعله أصحابه خلفه في الصلاة، فرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فما قلناه آنفاً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -وليس له من الوظيفة إلا التبليغ عن الله عز وجل- فبالأولى والأحرى أن يقال ذلك عن رب الرسول تبارك وتعالى، فيقال: إذا كان ربنا عز وجل -كما أشرنا إليه آنفاً اقتباساً من القرآن- لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وكان الله عز وجل لا يريد أن يشرع لعباده المؤمنين هذا التراص في الصفوف لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينهاهم عن هذا التكلف، إذاً لا ينبغي أن يتصور المسلم سكوته عليه السلام عن شيء إلا وربنا عز وجل مطلع عليه، وبالتالي إقرار الله لنبيه على هذا هو تشريع. من هنا نتوصل إلى الإشارة إلى بعض المسائل التي جرى الخلاف فيها قديماً في بعض الأحكام الفقهية بين الحنفية والشافعية، حيث إن أحد الفريقين يحتج بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيرد الآخر بأن هذا الذي وقع ليس فيه بيان أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع عليه حتى يقال: إنه اطلع فأقره. بما سبق من الكلام يرد على هذا الرد من بعض المذهبيين: أضرب لكم مثلاً أو أكثر، جاء في صحيح البخاري: (أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان يصلي صلاة العشاء الآخرة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، ثم ينطلق إلى قبيلته فيصلي بهم الصلاة نفسها، يقول راوي الحديث وهو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: هي له نافلة ولهم فريضة) . استدل بعض الأئمة المتقدمين بهذا الحديث على جواز صلاة المفترض وراء المتنفل، فرد ذلك بعض المذهبيين بأن هذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أن معاذاً بعد أن يصلي خلفه يعود إلى قبيلته فيصلي بهم نفس الصلاة، فتكون له نافلة ولهم فريضة. والجواب عليهم أن نقول: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم حقيقة أن معاذاً كان يعيد هذه الصلاة تنفلاً، فربنا عز وجل يعلم السر وأخفى، فلو كان فعل معاذ غير مشروع لجاء الحكم من السماء لبيان عدم شرعيته. ومثال آخر ونكتفي به -وأعدد الأمثلة لأهمية هذه الملاحظة التي قلما نجدها فصيحة مبينة في كتب العلماء-: جاء في مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، وغيرها من كتب السنة، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة، أصبنا فيها امرأة من المشركين) أي: قتلناها، ولا يخالف هذا الحديث الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان؛ لأن النهي محله في مكان وهذا القتل الذي ذكر في حديث جابر له محل آخر، فالنهي ينصب على قتل النساء اللاتي لم يشتركن في قتال المسلمين، والقرينة على ذلك قوله: (والصبيان) فإن الصبيان ليسوا من المقاتلة، فعلى هذا فقول جابر رضي الله تعالى عنه: أصبنا في تلك الغزوة امرأة من المشركين، يعني: أنها كانت من المقاتلة قال: (وكان زوجها غائباً، فلما رجع وأخبر الخبر، حلف ألا يدخل القرية إلا بعد أن يثأر لها ثأراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتتبع آثار الصحابة) . ومعلوم أن العرب كانت تستعمل هذه المعرفة، فبتتبع الآثار وصلوا إلى اكتشاف مأوى الرسول في الغار يوم عزم على الهجرة من مكة إلى المدينة، فالأثر دلهم على أن الرسول عليه السلام وصل إلى هذا المكان؛ لأن الأثر انقطع هناك، لكن أعمى الله بصرهم فلم يروا الرسول عليه السلام وصاحبه في الغار، بينما صاحبه رأى أقدام المشركين، فخشي ليس على نفسه بل على نبيه، فقال: (لا تحزن إن الله معنا) . وهنا لا بد من التذكير بأن ما يذكر في بعض كتب الحديث وفي كتب السير، أن الذي صرف كفار قريش بعد أن هداهم تتبعهم للأثر إلى أن المطلوبين هما في الغار، زعموا بأنهم رأوا الحمامة قد عششت وباضت، وأن العنكبوت -أيضاً- نسج خيوطه، وقالوا: لا يمكن أن يكون في الغار أحد، فانصرفوا، هذا لم يصح على طريقة أهل الحديث، ثم هناك رواية قوية بأن الله عز وجل أمر ملكاً بأن يغطي بجناحه فم الغار ولذلك لم يروه. فالشاهد أن ذلك المشرك تتبع آثار الجيش الغازي لتلك القرية، حتى وصل إلى مكان كان قد أدركهم فيه المساء، فنزلوا في وادٍ، وحسب النظام العسكري النبوي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (من يكلؤنا الليلة؟ فقام رجلان من الأنصار، أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج، فقالا: نحن يا رسول الله! فقال لهما: كونا على فم الشعب، فانطلقا، والمشرك يراقبهما يريد أن يستغل الفرصة للوفاء بنذره ويأخذ بثأر زوجه، ولما وصلا إلى المكان الذي هو موضع حراسة الجيش النائم اتفقا على أن يتناوبا الحراسة، فأحدهما يحرس نصف الليل بينما الآخر ينام، ثم يتبادلان، ثم بدا للحارس الذي قام منتصباً أن يجمع بين عبادتين في وقت واحد: عبادة الحراسة، وعبادة الصلاة في الليل الهادئ، فقام يصلي، وهنا اغتنم المشرك الفرصة، حيث كان مختبئاَ وراء صخرة، فرماه بحربة فوضعها في ساقه، فما كان منه إلا أن رماها أرضاً والدماء تسيل منه، ولما رأى المشرك أن هدفه ما زال منتصباً رماه بالحربة الثانية فوضعها في ساقه، وهكذا ثلاث حراب ويصيب الهدف، ومن دقة تعبيره يقول: وضعها، والوضع عادة يكون باليد، لكن هذا من دقة الإصابة للهدف فكأنه يضع الحربة وضعاً بيده، ومع ذلك كان الصحابي الجليل مستمراً في صلاته لا يقطعها والدماء تسيل منه، حتى صلى ركعتين، ثم إما أنه أيقض صاحبه وإما أنه استيقظ، فلما رأى ما في صاحبه من الدماء هاله الأمر، وسأله عن السبب فقال: والذي نفسي بيده لقد كنت في سورة أقرؤها، ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً وضعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حراسته لكانت نفسي فيها) . أي: تذكر وهو يصلي بأنه في وظيفة أمره الرسول أن يقوم بها، وهي حراسة الجيش النائم، وقد راق له الاستمرار في هذه الصلاة؛ لحلاوة المناجاة بين يدي الله عز وجل، ولولا أنه خشي أنه إن استمر في الصلاة، واستمر المشرك في رميه أن يكون هلاكه في هذه الصلاة فربما يهاجم العدو المسلمين، ولذلك هو قنع من الصلاة بركعتين، ولم يقنع بذلك خوفاً من الهلاك، وإنما خوفاً من هلاك الصحابة، فيما إذا هو مات وغدر بهم العدو. إلى هنا تنتهي القصة، والشاهد منها: أن بعض الأئمة يحتجون بأن الدم لا ينقض الوضوء؛ لأنه لو كان ناقضاً لما استمر هذا الرجل في الصلاة، فيرد المخالف ويقول: هذا تصرف شخصي منه، فيقول المردود عليهم: نعم، لكن هذا هو من أصحاب الرسول عليه السلام، فيجيب المخالف ويقول: ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك. نحن نجيب بجوابين اثنين، ولكن هنا شيء أقوى في أحد الجوابين مما سبق، وذلك أن هذا موظف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيصاب بهذه الجراحات وهو في حالة من العبادة والصفاء النفسي، فهل يمكن أن يخفى هذا على قائد الجيش لو كان قائداً عادياً؟ فكيف وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! مستبعد جداً جداً جداً أن يخفى وضع هذا الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: الراجح أنه عليه السلام اطلع على واقع هذا الحدث، وبناءً على ذلك لو كان خروج الدم ناقضاً لبين ذلك، لما هو معلوم من أصول الفقه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استمر المخالف في المكابرة وقال: إنه لا يوجد نص أن الرسول صلى الله عليه وسلم اطلع، نقول له: حسبك أن رب الرسول اطلع، وهذا لا يمكن إنكاره، فإذا لم ينزل شرع يبين أن خروج الدم ناقض الوضوء، كانت القصة حجة لمن يحتج بها على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء. الشاهد من هذا ومن ذاك: أن فهم الإسلام فهماً صحيحاً لا س

دفاع الشيخ الألباني عن الشيخ محمد شقرة

دفاع الشيخ الألباني عن الشيخ محمد شقرة Q قرأنا على صفحات مجلة الفرقان التي تصدرها جمعية إحياء التراث الإسلامي في دولة الكويت، وهي مجلة ناطقة باسم الحركة السلفية، وهم -كما أعلم وسمعت منهم وكما تعلمون- يحبونك في الله، بل أنت أستاذهم وشيخهم، وهم يقولون هذا بكل عمق ويقين، لكن عندما قرأنا المقالات التي نشرها أخونا في الله عز وجل عبد الرحمن عبد الخالق بعنوان: حوار مع أستاذنا وشيخنا الألباني، فاتصلت بالشيخ عبد الرحمن بالهاتف من جدة، وبنفس الوقت اتصلت بشيخي وأستاذي أبي مالك محمد شقرة، وقلت للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: إذا وصلك رد على ما نشرت من هذا الحوار في مجلة الفرقان من الشيخ محمد شقرة هل أنت مستعد أن تنشره على نفس صفحات الفرقان؟ فقال: نعم. كيف لا نعطي الحرية وغيرنا من غير الإسلاميين يعطي الحرية في ذلك، ثم قال: لكن إذا جاء منه رد على المذكرة التي خرجت من عندي بيد بعض الإخوان ووصلت إلى يد الأخ أبي مالك، فنحن لا ننشرها في مجلة الفرقان؛ لأنني ما كتبتها للنشر. وهذه المذكرة ربما بلغكم عنها وتعرفونها أكثر مني، وأبو مالك يعرفها؛ فإن لم تبلغكم فـ أبو مالك يبلغها لكم، فنحن نحبكم في الله. ثم أقول لكم بكل صراحة: إن إخوانكم من علماء السعودية يدعون لكم، وقد قابلت منهم سماحة الوالد الشيخ ابن باز الذي ما تحرج في كثير من محاضراته عندما يسأل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها) فيعدكم سماحته من المجددين في الدين في إحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحبكم في الله، وأرجو أن يكون هذا من باب عاجل بشرى المؤمن، ولا نزكيك على الله، بل نحسبك منهم. الشيخ: جزاه الله خيراً، ونسأل الله عز وجل ألا يؤاخذنا بما يقولون، وأن يجعلنا خيراً مما يظنون، وأن يغفر لنا ما لا يعلمون. السؤال: بعض الإخوان من أهل العلم في المملكة ينتظرون ردكم على ما كتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في حواره بعنوان: حوار مع الشيخ الألباني، فهل ننتظر منكم الرد؛ لأن الإسلام علمنا أدباً ألا نأخذ بحكم أو برأي إلا بعد أن نسمع رأي الطرف الآخر الذي له صلة بهذا الموضوع؟ A في الواقع الحوار أنا قرأته، ولم أجد في نفسي دافعاً للرد على أخينا عبد الرحمن عبد الخالق؛ لأن المسألة التي عرّض لها فيما يتعلق بشخصي ليست خلافية جوهرية، ولكن الشيء المهم جداً جداً هو ما نسبه إلى أخينا الشيخ محمد شقرة من أنه أنكر فرضية الجهاد، ونحو ذلك من العبارات التي يصعب علي الآن أن أستحضرها، مثل: معنى قوله: أنه جاء بسلفية جديدة، أو ما شابه ذلك، ثم أشار بأنه قد أكون أنا موافقاً له على ذلك، فنحن نرى بأن أخانا عبد الرحمن -نسأل الله أن يهدينا وإياه إلى الحق مما اختلف فيه الناس- قد اشتط به القلم، ليس في النشرة التي هو يقول: إنه ما عدها لتنشر في مجلة، وإنما في نفس المقال الذي نشره في المجلة، فقد نسب إلى أخينا محمد شقرة ما صرح هو بخلافه في كتابه الذي سماه بـ السلفية هي السلفية. لذلك فأنا أرى أن الخلاف الذي ينبغي أن يزال وألا يكون، هو الخلاف بين شخصين كلاهما يعمل في الدعوة السلفية وعلى الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، وهما أخونا عبد الرحمن وأخونا محمد شقرة، وقد علمت -والظاهر أنك لم تعلم بهذا الخبر- بأن محمد شقرة اتصل بأخينا عبد الرحمن، وعتِب عليه فيما ذكره، ليس في النشرة فقط بل وفي المجلة، وعلى ما نقل أخونا الشيخ محمد شقرة أن أخانا عبد الرحمن عبد الخالق اعتذر بأنه كتب المقالة على عجل، فالآن إذا كان الأمر كما حدثك أخونا عبد الرحمن عبد الخالق، أنه مستعد أن ينشر ما يصله من الرد على ما نشره هو في المجلة، فأنا في اعتقادي أن الرد حاضر لدى الأخ محمد. ولذلك فالقضية من هذه الحيثية منتهية كما علمت، فعليك أن تراجع أخانا أبا مالك وتأخذ منه الرد وترسله إلى عبد الرحمن، أو أن أخانا محمد شقرة يرسله بالطريقة التي هو يرضاها، وأسأل الله عز وجل أن يلهمنا حسن الأسلوب في الرد والعدل مع المخالفين لنا في الرأي، ونحن لا ننكر أن الخلاف أمر طبيعي؛ لأن هذا النوع من الخلاف أو نوعاً من أنواع الخلاف قد كان موجودا ًفي عهد السلف الصالح بين الصحابة، فضلاً عمن بعدهم من الأئمة، ولكن ما عهدنا من أحدهم أن يفتري على أخيه المسلم، وأن يقول عليه ما لم يقل. وفي اعتقادي بعد أن قرأنا ما في الفرقان، وقرأنا ما في كتاب محمد شقرة، وجدنا هناك تنافراً تاماً، حيث عقد فصلاً خاصاً بفرضية الجهاد، ولكنه دندن حول ما دندنت أنا آنفاً، من أنه لا بد من أخذ العدة للجهاد، وأن يكون الجهاد تحت راية إسلامية وأمير مطاع، وهذا لا يعني أنه أنكر الجهاد، وإنما أقر بالجهاد، ولكن الجهاد ليس فوضى، وليس ثورة نفسية وعواطف جامحة، ينطلق من ورائها أفراد كثيرون من المسلمين، ثم لا يريدون إلا الهلاك دون أن يفيدوا لهذا شيئاً مذكوراً. فإذاً: بارك الله فيك، جوابك عند الأستاذ/ محمد شقرة إن شاء الله. السائل: التفصيل التام عن الموضوع موجود في شريطكم الذي تحدثتم فيه، وكان في وجود شيخنا أبي مالك. الشيخ: هناك شيء آخر، نحن اقترحنا على أخينا عبد الرحمن عبد الخالق أن يزورنا، وأن ينزل ضيفاً عندي في داري المتواضعة؛ لكي نتباحث عن قرب؛ لأنه في الحقيقة الرد كتابة يأخذ وقتاً طويلاً ومسافات طويلة جداً، بينما في جلسة واحدة قد يقول قائل كلمة فيقال له: هذا خطأ، وأنا ما أردت كذا، وما قصدت كذا، وإنما أردت كذا، فيمكن الحل وجاهياً، لذلك نحن نرجو أن نحظى بزيارة من أخينا عبد الرحمن، لاسيما أنه مضى علينا عشر سنوات أو أكثر ولم نره. السائل: علمتمونا -فضيلة الشيخ- الدقة في المسائل العلمية، وأنتم ذكرتم الآن -ولعلي وهمت- أن الشيخ محمد شقرة هو الذي اتصل بالشيخ عبد الرحمن عبد الخالق. الشيخ: المقصود أنه حدث اتصال بينهما، أما من الذي بدأ الاتصال؟ أنا أعرف أن أخانا أبا مالك كان حريصاً على الاتصال بـ عبد الرحمن عبد الخالق، وأعلم أنه طلبه أكثر من مرة، فقيل له: كان مسافراً إلى الإمارات وبعد ذلك اتصل عبد الرحمن عبد الخالق بـ أبي مالك وجرى النقاش. السائل: أخبرني أستاذي الشيخ أبو مالك أنه هو الذي بدأ بالاتصال بـ عبد الرحمن، وهذا ما جعلني أؤكد أن النية طيبة عند الشيخ، وأن الشيخ عبد الرحمن لم يفهم تماماً وتسرع في فهم مقصوده. الشيخ: وهذا ما صرح به على حسب ما نقل أخونا أبو مالك، وعلى كل حال -إن شاء الله- لا يكون إلا خيراً. السائل: نطلب من الأخ الفاضل الشيخ نظام سكجها أن يوصل رد الشيخ أبي مالك على الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق؛ لأن الشيخ أبا مالك الآن مسافر في العقبة، واتصلت به حتى آخذه فلم أجده. السائل: الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وطلبة العلم والدعاة إلى الله في الكويت وفي المملكة العربية السعودية بلغوني هذه الأمانة، وهي أن ألقي عليك هذه الأسئلة التي أجبت عنها، فجزاك الله كل خير، وعندي شعور أن الله تعالى شرح صدري لما تحدثت به سماحة الشيخ، وما عهدنا منك إلا سلامة النية وحبك لإخوانك ولعلماء المسلمين، ولا نزكي على الله أحداً، ومما زادنا يقيناً في هذا الأمر عندما سمعنا آخر حديثك وأنت تخاطب تلاميذك بإخواني، وهذا من تواضعك، فكم يفرح ويفخر هؤلاء الإخوة أمثال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وغيره عندما يسمعون أن سماحة الشيخ الألباني يقول: بلغ سلامي للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق. في هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الرابع من شوال، ونحن أمام سماحة الوالد الشيخ الألباني، نسأل الله عز وجل أن يبارك في عمره، وأن يديم نفعه للإسلام والمسلمين اللهم آمين اللهم آمين. الشيخ: جزاك الله خيراً، وعسى الله أن يهديك.

التصفية والتربية قبل الخوض في السياسة

التصفية والتربية قبل الخوض في السياسة Q سمعنا في الكويت أن في الأردن كلاماً كثيراً يدور عن سلفية الكويت، وأنها تمر بحزبية، وأنا أريد منك -فضيلة الشيخ- توضيح ما هي مظاهر الحزبية التي قلتموها على سلفية الكويت؟ A هذه المسألة لا نريد الخوض فيها؛ لأنها تزيد النار ضراماً، فالسلفية في الأردن لا تزال قائمة على أساسين اثنين: التصفية والتربية، دون تكتل، ودون تحزب، ودون الاشتغال بالعمل السياسي، ولا نعني نحن أن العمل السياسي لا يجب شرعاً، بل هو فرض من فروض الكفاية، لكننا نعلم أن الاشتغال اليوم بالسياسة اشتغال يصرف القائمين على الدعوة عن هاتين الركيزتين، ألا وهما التصفية والتربية، فالاشتغال بالسياسة يصرف القائمين على هذه الدعوة مقرونة بهذه التصفية والتربية عما هم في صدده. أما الدعوة السلفية في الكويت فهم لا يمرون في دور تحزب، لا. فقد دخلوا وانتهى الأمر، منذ أجازوا لأنفسهم كـ الإخوان المسلمين دائماً وأبداً، وكـ حزب التحرير في بعض أدوارهم، حينما صوروا لأنفسهم باسم الإصلاح أن يدخلوا في البرلمانات القائمة لا نقول: على الكفر بالله ورسوله وبالإسلام جملة وتفصيلاً، وإنما على الأقل نقول: هذه البرلمانات القائمة على مخالفة الشريعة في جوانب كثيرة وكثيرة جداً، فحينما أباحوا لإخوانهم أن ينتخبوا وأن يدخلوا في البرلمان الذي لا يحكم بما أنزل الله، حتى أن بعضهم أصبح من الوزراء في الدولة. لهذا نحن نقول: إن الدعوة السلفية هناك أخذت طوراً سياسياً آخر، فنحن ماضون على الدعوة على هذا الأساس: التصفية بناءً على الكتاب والسنة الصحيحة، وتربية المسلمين على هذا الأساس، فمن اشتغل كجماعة من السلفيين بالسياسة، وأباحوا لأنفسهم فضلاً عن غيرهم أن يدخلوا في البرلمانات، وأن يختاروا سبيلاً للانتخابات هو السبيل الذي انتخبه ما يسمى بالنظام الديمقراطي، وهو الذي يسمح للمسلم والكافر أن يرشح نفسه، وأن يرشح من غيره -أيضاً- في البرلمان الذي يفترض أن يحكم بما أنزل الله، بل قد أباح هذا النظام المسمى بالنظام الديمقراطي أن يرشح المسلم الطالح والمسلم الجاهل والمسلم الفاسق، هؤلاء يرشحون غيرهم ويرشحون أنفسهم، وحينئذ تؤخذ القضية التي تطرح في البرلمان بالأكثرية، وليس على أساس الكتاب والسنة. ولذلك فنحن نريد من إخواننا الذين يشتركون معنا في الدعوة إلى الكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح في كل الأراضي الإسلامية، أن يؤسسوا قبل أن يشتغلوا بالسياسة. أسألك أنت شخصياً: هل اطلعت على العدد الذي صدر أخيراً أو قبل الأخير بوصف الحركة السلفية واتهام رجل من إخواننا بأنه أسقط فرضية الجهاد؟ وهناك أخ من إخواننا بل هو تلميذ من تلامذتي القدامى كما يشهد هو بذلك، ينتقد كتاباً لأخينا أبي مالك، له ملاحظات على دعوات قائمة على الجهاد، وهو في ذلك دقيق النظر بعيد الفكر، اتهم بأنه أسقط فرضية الجهاد، مع أنه له فصل خاص يصادم هذه النسبة التي نسب إليها. ما الذي حمل أخانا وحبيبنا وصديقنا في الدعوة سنين كثيرة على مثل هذه الكراهية؟ إنه التحزب، لا نريد أن نبحث في مثل هذه القضايا؛ لأنه يكفي ما وقع من الأخ عبد الرحمن، فقد كتب يتهم أخانا أبا مالك، وربما مسني أنا شيء من اتهامه، ولكن من طرف بعيد، فلا نريد أن نوسع الخرق. وينبغي أن نتناصح، لذلك أنا سجلت كلمة، ولا بد أن تكون قد وصلت إليه، ندعوه إلى أن يحضر هنا، ونعقد جلسة خاصة للتفاهم في بعض النقاط التي قد نختلف فيها، وبخاصة النقطة الأخيرة التي اتهم فيها رجلاً من الدعاة السلفيين المعروفين لدينا بأنه أسقط فرضية الجهاد، هذه أشياء في اعتقادي أنها من آثار التحزب والتكتل، وإذا كان عندك شيء آخر تريد أن تسأله فتفضل. هناك اقتراح أرجو أن ينظر إليه بعين القبول: لا ينبغي البحث في التفاصيل التي تقع من اختلاف بين الجماعة الواحدة؛ لأن هذا سيذاع وينشر ويزداد الصف صدعاً على صدع؛ فإن كان هناك سؤال فقهي فهذا أحب إلي، أما إن كان سؤالاً يدندن حول الحزبية، فوالله أننا نفر منها فرارنا من الأسد.

الرد على من يعتبر كلمة سلفي تزكية

الرد على من يعتبر كلمة سلفي تزكية Q يدعي بعض الإخوة غير التابعين للمنهج السلفي فيقولون: إن الإنسان المسلم الذي يتبع المنهج السلفي لا يجوز له أن يقول عن نفسه أنه سلفي؛ وذلك لأنه يزكي نفسه، ولا تجوز التزكية؟ A سامحه الله، نسأله السؤال التالي: - هل أنت مسلم؟ - سيقول: نعم. فنقول: هذه تزكية، ولم أسأله: هل أنت مؤمن؟ لأن هذا يحتاج إلى بحث طويل؛ ولأن الإيمان فيه تفصيل، هل هو الإخلاص، أم هو الاعتقاد بالجنان والإخبار باللسان والعمل بالأركان؟ - لكن إذا سألته: هل أنت مؤمن؟ يمكن أن يقول لي: أنا مؤمن. فأقول: هل أنت من الذين وصفهم الله {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:1-4] . إلى آخره؟ سيقول: نعم. لكن إذا سألته: هل أنت من الذين هم في صلاتهم خاشعون؟ فسيقول: أنا في شك من هذا. فنقول له: إذاً أنت تشك في إيمانك؟ فيقول: أنا لا أشك في عقيدتي. هذه تزكية أكثر من الأولى، هذا رجل لا يفقه ما هي السلفية حتى يقول: إن هذه تزكية، السلفية: هي الإسلام الصحيح، فمن يقول عن نفسه: أنا مسلم، وأنا ديني الإسلام، كالذي يقول اليوم: أنا سلفي، وهذا أمر ضروري جداً بالنسبة للشباب المسلم اليوم، يجب أن يعرف الجو الإسلامي الذي يعيشه ويحياه، وليس الجاهلي؛ لأن الله عز وجل قد بين وفصل في القرآن فقال: {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] . فالله عز وجل حذر عباده المؤمنين أن يكونوا من المشركين، الذين من أوصافهم كما قال: {مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] . أنتم اليوم تعلمون أن هناك طائفة من المسلمين اسمهم الشيعة فهم فعلاً وقولاً تفرقوا عن المسلمين، فإذا تركنا هؤلاء جانباً ونظرنا إلى من يسمون بـ أهل السنة والجماعة، هؤلاء -أيضاً- تفرقوا شيعاً وأحزاباً، فلا يوجد مسلم اليوم إلا ويعلم أن المذاهب الفقهية من أهل السنة والجماعة هي أربعة: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، ولا شك أن هؤلاء الأئمة الأربعة هم من أئمة السلف، ولكن الذين اتبعوهم منهم من اتبعهم بإحسان، ومنهم من اتبعوهم بإساءة. فالأئمة رحمهم الله أحسنوا إلى المسلمين في بيان الفقه الذي سلطوه من الكتاب والسنة، لكن الأتباع منهم ومنهم؛ لأنهم قد تفرقوا شيعاً وأحزاباً الحنفي لا يصلي وراء الشافعي، والشافعي لا يصلي وراء الحنفي. إلخ، لا نخوض في هذا الآن كثيراً، والحُر تكفيه الإشارة، لكن هناك مذاهب في العقيدة منها مذهبان بل ثلاثة، وقلت: مذهبان؛ لأن المذهبين لا يؤثرا على المذهب الثالث وهو المذهب الحق، في العقيدة ستة مذاهب: أهل الحديث، والماتريدية، والأشاعرة، وهذان المذهبان: الماتريدية والأشاعرة، هم الذين يقصدون بكلمة أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، لكن بعض إخواننا السلفيين الدعاة منهم يحاولون الآن أن يطلقوا هذا الاسم (أهل السنة والجماعة) على أتباع السلف الصالح، والأزهر -مثلاً- حينما يقولون: أهل السنة والجماعة لا يقصدون إلا الماتريدية والأشاعرة، وهؤلاء يختلفون عن مذهب أهل الحديث ومذهب الفرقة الناجية، يختلفون كل الاختلاف، غير الخوارج والإباضية الموجودة اليوم في عُمان وفي الجزائر وفي المغرب. إلخ. هذه الأحزاب كلها لا يمكن الانتماء إلى شيء منها إلا إلى مذهب واحد، وهي التي تمثل الفرقة الناجية، التي وصفها الرسول عليه السلام بأنها التي تكون على ما كان عليه وأصحابه، فهذا الإنسان الذي أنت تشير إليه، يجب أن يعرف هذه الحقيقة الغيبية التي أخبر الرسول عنها من الاختلاف الذي أشارت إليه الآية الكريمة المذكورة آنفاً، وفصلها الرسول عليه السلام في أحاديثه تفصيلاً، خاصة في حديث الفرق، وهو قوله: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) هذا مسكين لا يعرف الفرقة الناجية، ولذلك يقول: لا يجوز أن تقول عن نفسك: أنا سلفي؛ لأنك تزكي نفسك! إن لم يقل هو عن نفسه سلفي فهو يقول: أنا مسلم، وقد يقول: أنا مؤمن، وكلاهما تزكية ولا شك، يقول ربنا عز وجل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم:35-37] ، المسلم يميز نفسه عن الكافر فيقول: ديني الإسلام، فإذا قال: ديني الإسلام، كلمتان مختصرهما: مسلم، فإذا قال: ديني الإسلام، كأنه قال: أنا مسلم، وهل أنت مسلم جغرافي أم أنك حقيقة مسلم؟ لأنه كان في عهد الرسول عليه السلام مسلمون منافقون، يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ويصلون مع المسلمين ويصومون؛ لكنهم لم يؤمنوا بقلوبهم، فإذاً الإسلام إذا لم يقترن مع الإيمان في القلب فلا ينفعه إسلامه إطلاقاً، وهذا معروف في القرآن الكريم، لذلك مثل هذا المسلم الذي ينصح بتلك النصيحة الباطلة، يجب أن يعرف أين يضع قدمه من هذه الفرق الهالكة، التي ليس فيها فرقة ناجية إلا التي تكون على ما كان عليه الرسول عليه السلام وأصحابه الكرام، لذلك حتى نكون مع هؤلاء نقول: الكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح، ونسأل الله عز وجل أن يحيينا على ذلك وأن يميتنا عليه.

الرد على من يرفض أن يقول: أنا سلفي خشية التفرقة

الرد على من يرفض أن يقول: أنا سلفي خشية التفرقة Q بعض إخواننا الدعاة يقول: أنا أرفض أن أقول: أنا سلفي، خشية أن الناس تنظر إلي نظرة حزبية، فهل هذا الكلام صحيح أم أن عليَّ أن أبين للناس السلفية؟ A جرت مناقشة بيني وبين أحد الكُّتاب الإسلاميين الذين هم معنا على الكتاب والسنة، أرجو من إخواننا طلاب العلم أن يحفظوا هذه المناقشة؛ لأن ثمرتها مهمة جداً. قلت له: إذا سألك سائل: ما مذهبك؟ ما هو جوابك؟ قال: مسلم. قلت: هذا الجواب خطأ. قال: لم؟ قلت: لو سألك سائل: ما دينك؟ قال: مسلم. فقلت: أنا ما سألتك أولاً ما دينك؟ أنا سألتك ما مذهبك؟ وأنت تعلم أن في الأرض الإسلامية اليوم مذاهب كثيرة وكثيرة جداً، أنت معنا في الحكم على بعضها بأنها ليست من الإسلام في شيء إطلاقاً، كـ الدروز مثلاً: والإسماعيلية، والعلوية ونحوهم، مع ذلك فهم يقولون: نحن مسلمون، وهناك طوائف أخرى قد لا نقول: إنها خرجت من الإسلام، وإنما لا شك أنها تكون من الطوائف الضالة التي خرجت في مسائل كثيرة عن الكتاب والسنة، كـ المعتزلة، والخوارج والمرجئة والجبرية ونحو ذلك، ما رأيك أهذا موجود عندك اليوم أم لا؟ قال: نعم. قلت: فإذا سألنا شخصاً من هؤلاء الأشخاص: ما مذهبك؟ سيقول قولك متحفظاً: مسلم، فأنت مسلم وهو مسلم، إذاً نحن نريد أن توضح في جوابك عن مذهبك بعد إسلامك ودينك؟ قال: إذاً أنا مذهبي الكتاب والسنة. قلت: أيضاً هذا الجواب لا يكفي. قال: لم؟ قلت: لأن من ذكرناهم يقولون عن أنفسهم أنهم مسلمون، ولا أحد منهم يقول: أنا لست على الكتاب والسنة، فمثلاً: هل الشيعة يقولون: نحن ضد الكتاب والسنة؟ بل يقولون: نحن على الكتاب والسنة، وأنتم منحرفون عن الكتاب والسنة، فلا يكفي يا أستاذ أن تقول: أنا مسلم على الكتاب والسنة، فلا بد من ضميمة أخرى، فما رأيك: هل يجوز أن نفهم الكتاب والسنة فهماً جديداً، أم لابد أن نلتزم في فهم الكتاب والسنة ما كان عليه السلف الصالح؟ قال: لا بد من ذلك. قلت: هل أنت تعتقد أن أصحاب المذاهب الأخرى -من كان خارجاً عن الإسلام، ويدعي الإسلام ومن كان لا يزال في دائرة الإسلام لكنه ظل عن بعض أحكامه- هل تعتقد أنهم يقولون معك ومعي: نحن على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح؟ قال: لا. لا يشتركون معنا. قلت: إذاً أنت لا يكفي أن تقول: أنا على الكتاب وعلى السنة، لابد من ضميمة أخرى. قال: نعم. قلت: إذاً ستقول: على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح. والآن نأتي إلى بيت القصيد، قلت له وهو رجل أديب وكاتب: هل توجد كلمة واحدة في اللغة العربية تجمع لنا إشارة إلى هذه الكلمات كلها: مسلم، على الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح، مثلاً: أنا سلفي؟ قال: هو كذلك. وأسقط في يده، هذا هو الجواب، فإذا أحد أنكر عليك فقل له هذا الكلام الذي ذكرناه: وأنت ماذا؟ سيقول لك: مسلم، وأكمل بقية المناقشة معه. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

تحريم الصور والتماثيل

تحريم الصور والتماثيل إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بتوحيده وإفراده بالعبادة والتعظيم، وحرم علينا كل طريقة تفضي إلى الإشراك به أو تعظيم غيره، ومن ذلك أن حرم علينا إقتناء الصور والتماثيل. وفي هذه المادة تحدث الشيخ رحمه الله عن تحريم التصاوير والتماثيل سارداً في ذلك الأدلة من السنة النبوية، ثم أتبعها ببعض المسائل والأحكام المتعلقة بها.

أدلة تحريم التصور

أدلة تحريم التصور الحمد لله، نحمده ونستعينه ونسغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لدينا الآن فصل جديد، وهو من الفصول التي تعالج أمراً طالما خالطه الناس اليوم وابتلوا به، وازداد البلاء حينما اضطر الكثير من العلماء أن يتأولوا بعض هذه الأحاديث الآتية؛ ليفسّحوا للناس فيما تسامحوا فيه من مُواقعةِ التصوير المحرم. فيقول المصنف رحمه الله: الترهيب من تصوير الحيوانات والطيور في البيوت وغيرها.

الدليل الأول: حديث عمر: (إن الذين يصنعون هذه الصور.

الدليل الأول: حديث عمر: (إن الذين يصنعون هذه الصور ... ) أولاً: عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) رواه البخاري ومسلم. فهذا الحديث يحرم التصوير، ويبين أنه من كبار المعاصي؛ لأن الرسول عليه السلام يصرح بأن هؤلاء الذين يصنعون ويصورون هذه الصور يُعذبون يوم القيامة تعذيباً -أقول من باب التوضيح- يكاد يكون أبدياً، لأنهم يعذبون حين يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، فإن استطاعوا إحياء ما خلقوا انتهى العذاب، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، كما سيأتي في بعض الأحاديث الآتية. ويجب أن نلاحظ هنا أن في الحديث اسم إشارة: (إن الذين يصنعون هذه الصور) فما هي الصور التي أشار الرسول عليه الصلاة والسلام إليها باسم الإشارة (هذه) في قوله: (إن الذين يصنعون هذه الصور) ؟ إن الوقوف عند هذا الاسم ومحاولة فهمه فهماً صحيحاً، يزيل إشكالاً واضطراباً كثيراً عند بعض الناس من الراغبين في معرفة الحقائق الفقهية، فإنهم حينما يسمعون بعض المؤلفين -اليوم- والكتاب يحملون كل الأحاديث المُحرِّمة لِلتصوير على تصوير المجسم، أي: على نحت الأصنام. هكذا يتأولون الأحاديث المُحرِمِّة للتصوير. فقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الذين يصنعون هذه الصور) ماذا يقصد بهذه الصور؟ أهي كما قال هؤلاء: الأصنام؟ أنا أقول: هذا أبعد ما يكون عن مقصود الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث، وبخصوص اسم الإشارة (هذه) ، لماذا؟ لأن الرسول عليه السلام قال هذه الأحاديث في المدينة حيث لم يبق للتماثيل وللأصنام بقية تذكر مطلقاً، بعد أن نصر الله عز وجل نبيه بفتح مكة، وحطم الأصنام التي كانت موضوعة على ظهر الكعبة، فانطمس الشرك وآثاره بالكلية، ولكن بقيت بقايا من الصور التي قد تكون يوماً ما سبباً لعودة الشرك إلى قوَّتِه التي كان عليها قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، فأنا أستبعد جداً أن يعني الرسول عليه السلام باسم الإشارة (هذه) الأصنام التي قَضَى عليها وحطمها. فالأقرب أنه يعني صوراً كانت لا تزال منبثة، ولا يزال المسلمون يقتنونها في بيوتهم وخيامهم، وغيرها من الأماكن، فهو عليه الصلاة والسلام حين قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور) يشير إلى صور قائمة ومنبثة بين الناس، ويؤكد هذا المعنى أن حديث عائشة رضي الله عنها -الآتي- في بعض رواياته وألفاظه: أن الرسول عليه السلام حينما دخل عليها ورأى القرام -الستارة- وعليها الصور، قال: (إن أشد الناس عذاباً هؤلاء المصورون) ، فهو يشير إلى هؤلاء الذين يُصورِون الصور على الستائر، ولا يعني الأصنام؛ لأن الأصنام لم تكن في بيت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها. إذاً: قوله: (إن الذين يصنعون هذه الصور) لا يعني بها الصور المجسمة مباشرة، وإنما يعني الصور غير المجسمة، ويسميها الفقهاء: التي لا ظل لها، فإذا حرم الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الصور غير المجسمة أو التي لا ظل؛ لها فمن باب أولى حينئذ أن يُحرِّم الأصنام والتماثيل. ومن باب التحذير من تعاطي هذه الصور صنعاً واقتناءً، يبين الرسول عليه السلام في هذا الحديث ما هي عقوبة الذين يُصورِون هذه الصور، فيقول: (يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) ولا يستطيعون إحياءهم، فهو كناية عن استمرارهم في العذاب إلى ما شاء الله، واستمرارهم في العذاب يختلف باختلاف واقع الإيمان في قلوبهم، فمن مات منهم مؤمناً فسينجيه إيمانه يوماً ما من أن يستمر تعذيبه في النار، ومن مات مُستحِلاً لِمَا حرَّم اللهُ فقد عرفتم من البيان السابق أنه كافر، وأنه يُخلد في النار إلى أبد الآبدين. هذا هو الحديث الأول، وهو من حديث عمر مما رواه البخاري ومسلم.

الدليل الثاني: حديث عائشة بتعدد رواياته

الدليل الثاني: حديث عائشة بتعدد رواياته الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام -السهوة: الطاقة في الحائط، والقرام: الستارة- فيه تماثيل) أي: فيه صور. وهنا فائدة لغوية بالنسبة لبعدنا اليوم عن اللغة العربية، أو لسيطرة بعض الاصطلاحات، فنحن اليوم نفهم من لفظة (تمثال) أو (تماثيل) : أنها الأصنام، فهذا تمثال المالكي -مثلاً-: نحن لا نقول: هذه صورة، وهي صورة بلا شك، كما أن الصور التي نقتنيها على الورق هي أيضاً في لغة العرب تسمى تماثيل، والشاهد على ذلك هو هذا الحديث، فالرسول عليه الصلاة والسلام حينما دخل على السيدة عائشة، كما في هذه القصة، فرآها وقد علقت قِراماً -أي: ستارة- عليه تماثيل، والتماثيل توضع على الجدار ولا توضع على الأستار، لكن اللغة واسعة، فإن قلت: صورة، فيمكن أن تكون الصورة بمعنى الصنم، أو صورة ليس لها ظل. وكذلك إن قلت: تمثال، فهو بمعنى صورة، فقد يكون مجسماً، وقد يكون غير مجسم، فجاء هذا الاستعمال في هذا الحديث بالمعنى الذي لا ينتبه له كثيرٌ من الناس. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام رأى تماثيل على الستارة، -أي: صوراً- وهذه الصور سواءً كانت ملونة بدهان، أو مطرزة تطريزاً فليست أصناماً تقول: عائشة رضي الله عنها: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه -أي: تغير غضباً واحمر- وقال: يا عائشة! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله) ، أي: الذين يعملون أعمالاً من التصوير؛ سواءً كان التصوير مجسماً أو غير مجسم، فهم يتشبهون بخلق الله عز وجل لخلقه: (يضاهون بخلق الله) أي: بما يخلق الله، فالله يخلق هذه الأجسام وهذه الحيوانات وهم أيضاً يضاهون، والمضاهاة ليس من الضروري -كما هو معلوم- أن تكون من جميع الوجوه، فالذي ينحت في التمثال، أو يصور الصورة على الورق، يضاهي رب العالمين من حيث الهيكل والصورة، ولكن أهم شيء في ذلك هو نفخ الروح، ولذلك لمّا كان عاجزاً عنه يُعذب يوم القيامة بأن يُؤمر بنفخ الروح فيها، فلا يستطيع وليس بنافخ. إذاً: المضاهاة المقصود بها هنا، والتي جعلها الرسول عليه السلام في هذا الحديث عِلة تحريم التصوير، هي: المضاهاة الشكلية الظاهرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت: فقطّعناه، فجعلنا منه وسادة أو وسادتين) . وفي رواية قالت: (دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وفي البيت قرام فيه صورٌ -هنا استعمل الراوي لفظة (صور) مقابل (تماثيل) ، فالمعنى واحد- فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه -أي: مزقه- وقال: إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور) ، جاء الشاهد الذي أشرت إليه فيما علقته على حديث عمر الأول: (إن الذين يصنعون هذه الصور) قلنا: إن اسم الإشارة (هذه) هنا يشير إلى الصور غير المجسمة، وهذا هو الدليل؛ لأن قصة السيدة عائشة لها هذه المناسبة وهذا السبب، وهو دخول الرسول عليها وقد علقت الستارة وعليها التماثيل والصور، فقال عليه الصلاة والسلام مشيراً إلى هذه الصور التي على الستارة: (إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور) . ولذلك فإن قرأتم أو سمعتم هذه الأحاديث التي فيها هذا الترهيب الشديد من التصوير، إنما يُراد بها الذين كانوا يصنعون الأصنام التي تعبد من دون الله، وحمل الحديث على هذه التماثيل باطل؛ لأن الرسول عليه السلام إنما يشير إلى الصور التي كانت في قِرام السيدة عائشة، ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الصور: أولاً: ليست أصناماً مجسمة. ثانياً: لم تأت السيدة عائشة بهذا القرام -بهذه الستارة- التي فيها الصور لتعظمها أو تعبدها من دون الله عز وجل، حاشاها من ذلك! إذاً: فتأويل هذه الأحاديث وحملها على الأصنام التي كانت تعبد من دون الله، ونتيجة ذلك أن التصوير المحرم انقضى زمنه كما ينعق -أقولها صراحة- بعضهم بهذا الكلام؛ وإنما كان هذا النهي كسياج للقضاء على الشرك والوثنية، وقد انتهى أمر الشرك والوثنية؛ ولذلك فتعاطي الصور -لا سيما إذا كانت غير مجسمة- لا بأس بها عند هؤلاء الذين يتأولون الأحاديث على المعاني التي تدل الأحاديث على خلافها، كما سمعتم في قصة السيدة عائشة رضي الله عنها. وفي رواية أخرى عن السيدة عائشة رضي الله عنها، ويبدو أنها قصة أخرى؛ لأن هذه الرواية تقول: إنها اشترت نمرقة -وهي المخدة- والقصة الأولى بروايتيها تدور حول الستارة، فالرسول عليه السلام في تلك القصة أنكر التصاوير وهي على الستارة، وتأكيداً لتحريم استعمالها مزق الستارة كما سمعتم، وعندنا الآن قصة أخرى: تقول السيدة عائشة: أنها اشترت نمرقة -وهي المخدة- وتلاحظون شيئاً في هذه القصة: أننا نستطيع أن نفسر بها طرفاً من القصة السابقة، ففي القصة السابقة سمعتم بأن الرسول عليه السلام بعد أن هتك الستارة، ماذا صنعت السيدة عائشة بهذا الستارة؟ قطّعتها واتخذت منها وسادتين -أي: نمرقتين- فهنا يقول البعض: بأن الصور كانت ظاهرة على الوسادتين اللتين اتخذتهما السيدة عائشة من الستارة التي هتكها الرسول عليه السلام، فإن سُلِّمَ بهذا التفسير -أي: كانت الصور ظاهرة على الوسادتين- نقول: هذا يمكن أن يكون قبل القصة الآتية، التي فيها إنكار الرسول عليه السلام على السيدة عائشة شراءها النمرقة أو الوسادة وفيها صور؛ فكيف يُمكن أن نجمع بين إقرار الرسول عليه السلام للوسادتين وعليهما الصور بهذا التأويل، وبين إنكار الرسول عليه السلام على السيدة عائشة حين اشترت النمرقة وعليها الصور كما سترون؟ فإن سُلِّمَ بأن الصور كانت ظاهرة في الوسادتين -وهذا خلاف ما يبدو لنا؛ لأن الستار مقطع- فنقول: هذا كان كمرحلة من مراحل التدرج في التشريع، فحينما هتك الستارة أنكر تعليق الصور، فلما اتخذت من الستارة وسادتين وعليها الصور -جدلاً- أقر ذلك مبدئياً، ثم في مرحلة أخرى أنكر -أيضاً- حتى الصور التي على الوسادة. وينتج من هذا أنه لا يجوز أن يكون في البيت صورة؛ سواءً كانت معلقة -أي: محترمة- أو كانت موطوءة -أي: مُهانة- ولا فرق حين ذاك بينهما، فكما تمنع تلك المعلقة تمنع هذه الموطوءة بالأقدام، بدليل قصة عائشة الآتية، وهي: (أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على الباب فلم يدخل، قالت: فعرفتُ في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله مما أذنبت! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أصحاب هذه الصور -أيضاً هنا اسم إشارة ينطبق على الصور غير المجسمة- يُعذبون يوم القيامة، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) رواه البخاري ومسلم. فقصة النمرقة هذه تلتقي في الإفادة مع قصة الستارة، وهي أن الرسول عليه السلام حرَّم في القصتين تحريماً باتّاً التصوير غير المجسم -أي: غير الأصنام- والقصتان متفقتان على هذا، ولكن القصة الأولى -قصة الستارة- ليس فيها التصريح بأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة موطوءة، فلا يوجد فيها هذا البيان؛ بل فيها الاحتمال الذي يتمسك به بعض الناس اليوم، أنه لما اتخذت السيدة عائشة الستارة وسادتين وعليهما الصور كانت هذه الصور واضحة وظاهرة. إذاً: لا نغتر ببعض كلمات نسمعها بعدما سمعنا هذا الحديث، فلا نغتر بمن يقول: لا بأس إذا كانت الصورة على وسادة، أو إذا كانت الصورة على سجادة؛ لأنها ممتهنة غير محترمة، لا، فهذا حديث يصرح أن هذه الصورة التي هي على النمرقة، ويمكن الاتكاء عليها -ويا ليتها بهذا الاتكاء- هي من جملة الصور التي تمنع دخول الملائكة. فالبيت المسلم لا يجوز أن يكون فيه صور ظاهرة -هذا أقل ما يُقال- مهما كانت هذه الصور، فيجب أن نحرص كل الحرص أن نُجنب إظهار الصور في بيوتنا؛ لأن هذا الظهور يمنعُ دخول الملائكة، ومعنى هذا خطير جداً؛ لأن العامة يقولون: (إذا حضرت الملائكة هربت الشياطين) فهذا شيء كأنه مستنبط من هذا الحديث، إذا كانت الملائكة لا تدخل البيت فمن يدخله إذن؟ إذا خلا الجو لهؤلاء الشياطين سارعوا إلى هذه البيوت، فالقضية متعاكسة تماماً، فإذا اتخذت الوسائل الشرعية لاستجلاب ملائكة الله عز وجل إلى دارك؛ فقد اتخذت سبباً قوياً جداً في إبعاد الشياطين عن بيتك، والعكس بالعكس تماماً؛ إذا تساهلت فخالفت الشرع واتخذت الأسباب لعدم دخول الملائكة إلى بيتك؛ فقد أفسحت المجال لدخول الشياطين إليه. هذه حقائق شرعية لا يمكن للإنسان أبداً أن يعرفها بمجرد عقله، ومن هنا نعرف أهمية الشريعة، وخاصة منها السنة التي تشرح لنا أموراً دقيقة تخفى حتى على المسلمين، إلا الذين يستنيرون بنور النبوة والرسالة.

الدليل الثالث: حديث ابن عباس: (من صور صورة فإن الله معذبه.

الدليل الثالث: حديث ابن عباس: (من صور صورة فإن الله معذبه ... ) الحديث الثالث يقول: وعن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها. فقال له: ادن مني. فدنا، ثم قال له: ادن مني. فدنا، حتى وضع يده على رأسه، وقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً فيعذبه في جهنم. قال ابن عباس: فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية للبخاري قال: كنت عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال: (يا ابن عباس! إني رجل إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سمعته يقول: من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً. فربا الرجل ربوة شديدة، فقال: ويحك! إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح) . يقول المصنف: ربا الإنسان: إذا انتفخ غيظاً أو كبراً، أي: إن ذاك الرجل لما سمع ما رواه ابن عباس من الوعيد الشديد بالنسبة لمن يصور تلك الصور، غضب غضباً شديداً، واغتاظ غيظاً كبيراً بسبب ما سمعه من الوعيد الشديد، فأوجد له ابن عباس مخرجاً ومتنفساً؛ لأنه كما سمعتم قال: إن معيشته من صنعه تلك التصاوير والتماثيل، فحينما بين له تحريم ذلك ربا تلك الربوة واغتاظ غيظاً شديداً، فقال له: إن كنت ولا بد صانعاً -أي: مصوراً- فصور الشجر وكل شيء لا روح ولا نفس فيه. ومن هذا الحديث أخذ العلماء التفريق بين تصوير الحيوانات وبين تصوير الجمادات، فحرموا القسم الأول وأباحوا القسم الآخر.

الدليل الرابع: حديث ابن مسعود: (إن أشد الناس عذابا.

الدليل الرابع: حديث ابن مسعود: (إن أشد الناس عذاباً ... ) الحديث الرابع: وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) رواه البخاري ومسلم.

الدليل الخامس: حديث أبي هريرة: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي.

الدليل الخامس: حديث أبي هريرة: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ... ) الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، وليخلقوا حبة، وليخلقوا شعيرة) رواه البخاري ومسلم.

الدليل السادس: حديث علي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله؟ .

الدليل السادس: حديث علي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله؟ ... ) وعن حيان بن حصين قال: قال لي علي رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلى سويته) رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.

الدليل السابع: حديث أبي طلحة: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة.

الدليل السابع: حديث أبي طلحة: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ... ) الحديث السابع: عن أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. وفي رواية ل مسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تماثيل) والفرق بين رواية مسلم ورواية الشيخين هو في لفظ: (صورة وتماثيل) وقد ذكرنا -كما مر- ما نستطيع أن نفهم به أن الخلاف بين الروايتين؛ بين رواية (صورة) ورواية (تماثيل) إنما هو خلاف لفظي؛ لأن كل صورة لغة هي تمثال، وكل تمثال هو صورة، بخلاف ما هو شائع اليوم في العرف الحاضر من أن التمثال خاص بالصور المجسمة، فهكذا جرى العرف في تخصيص التمثال في الصورة المجسمة، أما في اللغة فلا فرق بين التمثال وبين الصورة، فسواء كانت الصورة مجسمة أو غير مجسمة فهي صورة وهي تمثال، ولا فرق بين اللفظين مطلقاً، فرواية الشيخين: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة) لا تختلف عن رواية مسلم التي فيها: (كلب أو تماثيل) .

الدليل الثامن: حديث ابن عمر: (واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل.

الدليل الثامن: حديث ابن عمر: (واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ... ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (واعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام أن يأتيه، فراث عليه -أي: تأخر عنه- حتى اشتد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج فلقيه جبريل فشكا إليه فقال: إنّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) رواه البخاري. (راث) : بالتاء المثلثة غير مهموز -أي: ليس رأث، وإنما راث- أي: أبطأ. وفي هذا الحديث فائدة مهمة، وهي سبب قول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة أو كلب) قال ذلك تلقياً عن جبريل، بمناسبة أنه كان على موعد مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فراث عنه -أي: تأخر وأبطأ عنه- وفي بعض الروايات: أن الرسول عليه السلام ظهر على وجهه الكرب والحزن والاضطراب، فسأله بعض نسائه فقال: (إن جبريل واعدني) أي: تأخر عنه، ثم سرعان ما ظهر جبريل خارج البيت -خارج الحجرة- فسارع الرسول عليه الصلاة والسلام إليه، فقال له جبريل عليه الصلاة والسلام: (إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة) . والصورة التي كانت في البيت لم تكن صنماً، وبالمعنى الاصطلاحي اليوم تمثالاً، وإنما كانت صورة على ستارة كما سيأتي في بعض الروايات، ففي ذلك دليل واضح على دلالة حديث عائشة السابق، أن التحذير من تصوير الصور، وبيان -كما في هذا الحديث- أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، إنما يعني في هذا الحديث وفي ذاك الصورة التي لا ظل لها، أي الصورة مصورة على الثياب والورق، فلا يقصد بها كما يتوهم بعض العصريين تبعاً لبعض المتقدمين، ممن لم يحيطوا بالأحاديث الواردة في الباب -أي السابقين- أما المعاصرين اليوم فهم يعلمون مثل هذه الأحاديث، ولكنهم يدورون حولها ويحتالون عليها بشتى الحيل والتآويل، كما سيأتي ذكر بعض ذلك. فإذاً: هذه الصورة التي تمنع دخول الملائكة هي صورة ليس لها ظل وليست مجسمة، وإنما هي مصورة على الستارة، وكذلك في حديث عائشة السابق: (إن الذين يصورون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وأشار إلى الصورة التي كانت على الستارة. ولم يأت معنا في كل هذه الأحاديث حديث ولو واحد، فيه التصريح بأن هذا الوعيد الذي أوعد به الرسول عليه السلام المصورين، والذين يقتنون هذه الصور، إنما هي الصور المجسمة، وإنما هناك حديث علي رضي الله عنه حيث قال: (ألا تدع صورة إلا طمستها) ومع ذلك فهذا كسوابقه من الأحاديث ليس صريحاً؛ لأن هذه الصور هي مجسمة، بل لعل لفظة: (طمستها) فيها إشارة إلى أن الصورة ليست مجسمة؛ لأن الطمس في الصور التي كتبت أو صورت بالدهان أو بالتطريز -مثلاً- إذا طمست بشيء من الألوان أو الخيوط -مثلاً- أقرب من تفسير الصنم إذا كان مجسماً، ففي هذا كله عبرة في انحراف الذين يحملون هذه الصور التي جاءت هذه الأحاديث بالنهي عنها على الصور المجسمة، ولم يأت ذكر التجسيم أو معناه في شيء من هذه الأحاديث. الحديث التاسع حديث ضعيف.

الدليل التاسع: حديث أبي هريرة: (أتاني جبريل.

الدليل التاسع: حديث أبي هريرة: (أتاني جبريل ... ) والحديث الذي بعده وهو العاشر حديث صحيح، وفيه تفصيل للحديث السابق -حديث جبريل- وهو من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل) لاحظوا التعبير، قال جبريل: (فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل) فيتبادر إلى أذهان الناس اليوم من لفظة (تماثيل) أنه يعني الأصنام، وليس كذلك؛ بدليل قوله فيما بعد: (وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل) فالستر الذي فيه تماثيل لا يعني بها الأصنام، وإنما المقصود هو قوائم تلك الصور التي على الباب، أو الصور التي على الستارة. (وكان في البيت كلب) هذا من تمام كلام جبريل، يقوله للرسول عليه الصلاة والسلام مبيناً سبب تأخره عن المجيء في الوعد الذي كان قد ضربه للرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول جبريل صلوات الله وسلامه عليه: (وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين يوطآن، ومر بالكلب فليخرج) رواه أبو داود، والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وتأتي أحاديث من هذا النوع في اقتناء الكلب إن شاء الله تعالى، أي: في باب أو فصل الترغيب من اقتناء الكلب، تأتي أحاديث فيها -أيضاً- النهي عن التصوير.

الدليل العاشر: حديث أبي هريرة: (يخرج عنق من النار.

الدليل العاشر: حديث أبي هريرة: (يخرج عنق من النار ... ) الحديث الحادي عشر وهو الأخير في هذا الفصل: عن أبي هريرة -أيضاً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق به، يقول: إني وكلت بثلاثة: بمن جعل مع الله إلهاً آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصورين) هذا العنق عبارة عن لهب من النار يخرج من النار -جانب منها- فيه عينان يبصر بهما، وأذنان يسمع بهما، ولسان ينطق به، يقول: إني وكلت بثلاثة -أي: بتعذيبهم وحرقهم-: بمن جعل مع الله إلهاً آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصورين، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب ويفسر غريب الحديث فيقول: (عنق) بضم العين والنون، أي: طائفة وجانب من النار. هذا الحديث الأخير فيه غرابة من حيث ما تضمن من خبر من أخبار الغيب التي يجب الإيمان بها، وهو أن الله عز وجل بقدرته يخرج من نار جهنم طرفاً منها يتمثل في صورة رأس له عينان، وأذنان، ولسان ينطق به، فيتكلم ويقول بأنه وكل بتعذيب ثلاثة: بمن اتخذ مع الله إلهاً آخر، وبكل متكبر جبار عنيد، وبالمصورين. هذا الحديث هو الحديث الحادي عشر من أحاديث الباب، وقد قرأتها عليكم كلها إلا الحديث التاسع ففي سنده ضعف، وتلك الأحاديث التي قرأناها تغني في الباب عن الحديث الضعيف.

خلاصة حكم التصوير

خلاصة حكم التصوير إن لفظ التصوير والمصورين لفظة مطلقة، فهي من حيث إطلاقها تشمل الصور المجسمة وغير المجسمة، ومن حيث النظر إلى سبب ورود بعضها يدل على أن الرسول عليه السلام إنما قالها بمناسبة الصور غير المجسمة؛ ولذلك فالذي يحمل هذه الأحاديث على الصور المجسمة والتي لها ظل، ولا يُدخل فيها الصور المصورة على الثياب والستائر والجدران والورق اليوم، فإنما هو أحد رجلين: الأول: إما أنه لم يطلع على هذه الأحاديث، وما فيها من بيان أن الرسول عليه السلام قصد بها مباشرة الصور التي لا ظل لها، وهذا النوع إنما يتصور بالنسبة لبعض العلماء المتقدمين الذين لم يكونوا في زمن قد جمعت فيه السنة. الثاني: هم الذين اطلعوا على هذه الأحاديث بعد تذليلها وتيسير الاطلاع عليها، وهم المعاصرون اليوم، فإنما هم يتأولون هذه الأحاديث بتآويل باطلة، يدل على بطلان هذه التآويل أمران اثنان معاً: الأمر الأول: عموم وإطلاق الأحاديث، كما سمعتم في بعضها: (كل مصور في النار) فالذي يقول: ليس كل مصور في النار، وإنما المقصود بالمصورين هنا الذين ينحتون الأصنام، فنقول له: ما هو دليل التخصيص؟ مع أننا ذكرنا الأحاديث السابقة كلها، وبينا أن جميعها تدل على تحريم الصور التي ليس لها ظل، فكيف تخصص هذا اللفظ العام مع عدم وجود المُخَصِص؟ الأمر الثاني: وهو واضح كما ذكرنا؛ فقد كررنا أن الرسول عليه السلام ذكر هذه الأحاديث التي سمعتموها في الباب بالنسبة للصور التي صورت على الستائر ولم تنحت نحتاً من الحجارة، كما كان عليه الكفار في زمن الجاهلية. فتأويل هذه الأحاديث على أن المقصود بها إنما هي الصور المجسمة رد لها الأحاديث، فنخشى أن يَدخل من يتأولها بهذا التأويل الباطل بعد أن يتبين له هذا البطلان في عموم قول الله تبارك وتعالى في القرآن: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] فإذا كان الرسول يقول: (كل مصور في النار) (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) ونحوه، بمناسبة الصور التي لا ظل لها، فكيف يقول المسلم الذي يؤمن بالله ورسوله أن الصور المحرمة في هذه الأحاديث إنما هي التي لها ظل، أي: الصور المجسمة؟ إذاً: نقطع بأن الصور المحرمة هي على العموم والشمول، وهي تشمل ما لها ظل وما لا ظل لها، وتشمل المجسمة وغير المجسمة.

الاحتيال على أحكام الله وشريعته

الاحتيال على أحكام الله وشريعته ومن الانحرافات: الاحتيال على أحكام الله عز وجل في شريعته فبعد الرد بمثل هذه النصوص التي تدل على أن الصور المحرمة هي -أيضاً- الصور غير المجسمة، مع ذلك فقد احتال بعض الكُتّاب في العصر الحاضر حيلة أظن أنه سبق بها اليهود، أقولها صريحة وستقولونها معي حينما تسمعون ماذا صنع وماذا فعل. جاء في حديث أبي هريرة الذي فصل لنا امتناع جبريل عليه السلام من الدخول إلى بيت الرسول، مع أنه كان على وعد معه، فذكر له أن هناك تماثيل -أي: صوراً- على الباب وعلى الستارة، فأمر بتغيير الصور التي على الستارة حتى تصير كهيئة الشجرة، ومعنى ذلك: أن هذه الستارة كانت مطرزة وفيها تماثيل -أي: صور- الخيل ذوات الأجنحة -كما في بعض الروايات- فحينما أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بتغيير هذه الصورة حتى تصير كهيئة الشجرة، معنى ذلك إضافة خيوط جديدة على هذه الصورة، حتى يقضى على معالم الصورة السابقة وتظهر أنها تمثل صورة شجرة، فأخذ العلماء من هذا الحديث: أن الصورة إذا غيرت خرجت عن التحريم وصارت مباحة، ولكن -مع الأسف الشديد- لم يقفوا عند هذا التغيير الذي حدده جبريل للرسول عليهما الصلاة والسلام، أي: لم يقفوا عند هذا التغيير الكلي الذي به تنطمس معالم الصورة السابقة، وتظهر بعد ذلك صورة أخرى كهيئة الشجرة المباحة، لم يقفوا عند هذا التغيير الشامل، فقالوا مثلاً: لو أردت تغيير الصورة -صورة على الورق مثلاً- فخط خطاً على العنق، زعموا بأن هذه الصورة تغيرت هيئتها، لماذا؟ وزعموا أن الرأس أصبح منفصلاً عن الجسد، ولا يعيش الإنسان بهذه الصورة إذاً: هذه الصورة تغيرت فصارت مباحة! وتسلسل تغيير التغيير -إذا صح هذا التعبير- تغيير المطلق الشامل الذي ذكره الرسول عليه السلام عن جبريل، فضيقوا دائرته فقالوا -كما سمعتم في التغيير الأول-: أنه إذا خُط خط على العنق وبقيت الصورة كما هي فهي صورة جائزة؛ لأنها تغيرت، فهذا تغيير رقم (1) للتغيير الكلي الذي أمر به جبريل عليه السلام في الحديث السابق. ثم هذا التغيير لم يقنعوا به، فانتقلوا إلى مرحلة أخرى، فقالوا: إذا كانت الصورة نصفية -وهذا بلاء عم وطم- فهذه الصورة جائزة؛ لأن الإنسان لا يعيش بنصفه؛ فلابد أن يكون معه الأرجل والبطن وبقية أجزاء الجسد، فهذه الصورة مغيرة، ونحن نعلم جميعاً أن العبرة في كل شيء وبخاصة في الإنسان إنما هو رأسه، فإذا بقي الرأس وذهبت الرجلان -مثلاً- فلن يقضى على الصورة وعلى أثرها في المجتمع الذي يخشاه الشارع الحكيم ولو في المستقبل البعيد، ومن أجل ذلك فسبب من أسباب حكمة تحريم الصور: حتى لا تُعبد من دون الله عز وجل ولو في المستقبل البعيد. هذا التغيير رقم (2) . جاء الكاتب المشار إليه -وهو من علماء الأزهر- فجاء بتغيير فيه العجب العجاب؛ وهو الذي عنيته بقولي: سبق في هذا الاحتيال اليهود؛ فكتب مقالاً منذ القديم حينما كانت تظهر مجلة الأزهر تحت عنوان نور الإسلام، فكتب فيها مقالاً ذكر المذاهب حول الصورة المحرمة، وهما مذهبان: المذهب الأول: مذهب تحريم الصور عامة، بدلالة الأحاديث السابقة. المذهب الثاني: ويروى عن الإمام مالك، أن الصور المحرمة إنما هي المجسمة. فهذا الرجل الكاتب المشار إليه دون أن يلتفت إلى هذه الأحاديث وأن يتفقه فيها، تبنى منهج الإمام مالك، وهو مخالف بلا شك لهذه الأحاديث، فهذا المذهب الذي يقول: الصور المجسمة هي فقط المحرمة، تبنى هذا المذهب ذلك الكاتب لغاية في نفسه، ثم توصل من بعد هذه الخطوة الأولى التي انحرف فيها عن الأحاديث السابقة، إلى خطوة أخرى قصيرة جداً قضى بها على كل المذاهب حتى على مذهب الإمام مالك؛ لقد لفق من مذهب الإمام مالك الذي يُحرم -أيضاً- الصور المجسمة مع جماهير العلماء، ومن قال من العلماء: بأن الصورة إذا تغيرت هيئتها كانت حلالاً، لفق من مجموع القولين المسألة الآتية فقال: بناءً على ذلك؛ إذا نحت الفنان -هكذا يقول- صنماً؛ فلِكي يتخلص من التحريم حفر حفيرة في أم رأسه حتى يصل إلى الدماغ، وهو في هذه الحالة -أي: هذا الصنم- يمثل إنساناً لا يعيش؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان وفيه حفرة تصل إلى دماغه، قال: لكن هذا عيب في الصنم -في التمثال- من الناحية الفنية- فهو يعلم الفنانين ما شاء الله! فيقول: يضع شعراً مستعاراً على رأس الصنم، فيظهر الصنم من الناحية الفنية في أتم صورة وأجمل هيئة، وبذلك يتخلص هذا الممثل النحات من أن يخالف أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام. فهل علمتم في اليهود من احتال على حرمات الله كمثل هذا الرجل الأزهري؟! هذا مصداق قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) هذا احتيال مما أصيب به بعض العلماء في العصر الحاضر، ولا شك أن الذين يقرءون مقال ذلك الكاتب، وهم من جماهير الناس ممن لا يعلمون هذه الأحاديث وليسوا بفقهاء؛ يتورطون ببيانه، وينطلقون في النحت والتصوير، ويحتالون على ذلك بمثل تلك الحيلة التي تعلمها تلميذ بل شيخ إبليس، هذا تحريفه.

التفريق بين الصور اليدوية الفوتوغرافية حيلة على شرع الله

التفريق بين الصور اليدوية الفوتوغرافية حيلة على شرع الله ومن هذا النوع، وهو بلاء أكبر، وإن كان دون السابق في الاحتيال التفريق بين الصور اليدوية والصور الفوتوغرافية، أو التفريق بين الصور التي تصور بالقلم أو الريشة، وبين الصور التي تصور بالآلة المصورة هذا التفريق قلَّ ما ينجو منه عالم في العصر الحاضر؛ وذلك لعموم ابتلاء الناس بهذه الآلة وصورها؛ فيقول: هؤلاء الذين يفرقون بين الآلة المصورة فيجيزون التصوير بها، وبين التصوير بالقلم أو بالريشة، يقولون -وعجيب ما يقولون! -: إن هذه الآلة -أولاً- لم تكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فمتعاطيها والمصور بها لا يدخل في عموم الأحاديث السابقة، ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مصور في النار) إذاً: هذا المصور بالآلة لا يدخل في عموم الحديث، لماذا؟ قالوا: -زعموا- لأن الآلة ولأن المصور بها لم يكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. ولا يكاد ينقضي عجبي من مثل هذا الكلام وهو يصدر من علماء، المفروض أنهم يتذكرون دائماً وأبداً أن ما يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام من الأحاديث ليست من عنده اجتهاداً برأيه، وإنما هو كما قال ربنا تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] فحينما قال الرسول عليه السلام: (كل مصور في النار) يجب أن يستحضر المسلمون عامة فضلاً عن العلماء خاصة، يجب أن يستحضروا أن هذا الكلام ليس من عنده: (كل مصور في النار) وإنما تلقاه من وحي السماء من ربه تبارك وتعالى ثم صاغه بلفظه، أما المعنى فهو من عند الله عز وجل، فكأن الله هو الذي يقول: (كل مصور في النار) ، لأن الرسول لا يشرع للناس من عند نفسه.

فرصة استئناف الحياة الإسلامية

فرصة استئناف الحياة الإسلامية إن من أسباب صحة تعبدنا لربنا وعدم وقوعنا فيما يفسد عقائدنا أن نفهم التوحيد فهماً صحيحاً، حتى لا نقع في الشرك الذي نهينا عنه، وإن من صميم التوحيد تحقيق الحاكمية لله، وذلك بعدم أخذ الشرائع من غيره، سواء أكانت هذه المصادر شرائع سماوية محرفة، أو اجتهادات بشرية قاصرة.

أهمية فهم أنواع التوحيد وما يناقضها من أنواع الشرك

أهمية فهم أنواع التوحيد وما يناقضها من أنواع الشرك إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. تكلمنا عن الفقرة الأولى ألا وهي: الإشراك بالله تبارك وتعالى، وذكرنا أن هذه الخصلة كما جاء في أحاديث أخرى هي أكبر الكبائر في هذه السبع، والكبائر كثيرة جداً، ولكن الأولى من هذه السبع هي أكبر الكبائر، ألا وهي الإشراك بالله عز وجل، وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة كحديث عبد الله بن مسعود أنه قال: (أكبر الكبائر أن تجعل لله نداً وهو خلقك) وشرحنا في الدرس الماضي أن الشرك على ثلاثة أنواع: 1- شرك في الربوبية 2- وشرك في الألوهية، أو العبودية 3- وشرك في الصفات. وتكلمنا عن هذه الأنواع الثلاثة بشيء من التفصيل، وانتهينا إلى أن المسلم لا يكون موحداً حقاً، قائماً بتحقيق شهادة لا إله إلا الله؛ إلا إذا تبرأ عقيدة وعملاً من هذه الأنواع الثلاثة من أنواع الشرك: شرك الربوبية، وشرك الألوهية، وشرك الصفات. وذكرنا أنه يقابل هذه الأنواع الثلاثة من الشرك أنواع ثلاثة أخرى من التوحيد، وكل نوعٍ من هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد يضاده نوع من تلك الأنواع الثلاثة من الشرك، فالتوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية أو العبودية، وتوحيد الصفات، فمن اعتقد أن لله عز وجل نداً في ذاته، كما يعتقد الوثنيون المجوس القائلون بخالق الخير وخالق الشر؛ فهؤلاء مشركون شركاً من النوع الأول، شرك الربوبية، وهم لم يؤمنوا بوجود ربٍ خالقٍ واحدٍ. وهذا هو أكبر وأوضح أنواع الشرك في الدنيا، فإذا آمن الإنسان بأن الله عز وجل لا ندّ له ولا شريك له في ذاته، فهذا لا يكفيه؛ لأن المشركين قد كانوا موحدين توحيد الربوبية كما ذكرنا في الدرس الماضي، فلا بد أن يضم إليه توحيداً من النوع الثاني، ألا وهو توحيد العبودية أو الألوهية، ومعنى ذلك: أنك -أيها الإنسان- بعد أن آمنت بأن الله عز وجل واحد في ذاته لا خالق معه؛ يجب أن تعتقد وأن تحقق في نفسك أنه أيضاً لا شريك له في عبادته، فيجب ألا تعبد مع الله إلهاً أو آلهة أخرى، فإن أنت -لا سمح الله- فعلت شيئاً من ذلك؛ فقد نقضت توحيد العبودية أو الألوهية، ووقعت في الشرك من النوع الثاني: ألا وهو شرك العبودية أو الألوهية. أي: إن توحيدك الأول -توحيد الربوبية- لم ينفعك بشيء؛ لأنك لم توحد الله عز وجل في عبادته وفي ألوهيته، وهذا المعنى الثاني هو الذي رمى إليه الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق حديث ابن مسعود حينما قال: (أكبر الكبائر أن تجعل لله نداً وهو خلقك) أي: أن تعبد مع الله إلهاً آخر، وهو الذي تعتقد أنه وحده تولى خلقك، ورزقك، إلخ. فلذلك لا يليق بهذا الإنسان الذي اعتقد بأن الله هو خالقٌ وحده أن يعبد غيره؛ لأن معنى ذلك أنه قد أعطى العبادة لغير من يستحقها، وإنما يستحقها رب العالمين تبارك وتعالى. كذلك قلنا في النوع الثالث من الشرك، وهو الشرك في الصفات، فيجب أن توحد الله عز وجل في صفاته كما أنك توحده في عبادته، وكما أنك توحده في ذاته، فإذا ما اعتقدت في إنسان -مهما سما وعلا- نوعاً أو صفة من صفات الله عز وجل؛ فإن توحيدك لله ذاتاً وعبادة لا ينفعك شيئاً مطلقاً؛ لأنك لا بد أن توحده أيضاً في صفاته، فإذا ما اعتقدت أن هناك من يشبهه في صفة من صفاته؛ فقد أشركت وحبط عملك. فهذه التفاصيل تبين لك أهمية فهم التوحيد بأنواعه الثلاثة، وما يناقضها من أنواع الشرك الثلاثة؛ حتى تتمكن من اجتناب هذا الشرك الذي كان أول ما أمرك به الرسول عليه الصلاة والسلام باجتنابه في هذا الحديث الصحيح: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله عز وجل) .

اتباع المشرعين من دون الله شرك بالله

اتباع المشرعين من دون الله شرك بالله بقي علينا في الدرس الماضي أن نبين أن من الشرك بالله عز وجل: أن تتخذ معه مشرعاً غيره، فالتشريع هو صفة من صفات الله عز وجل وخصوصية له، لا يجوز لمسلم أن يعتقدها أو أن يعطيها لشخص في الدنيا مهما علا وسما؛ وذلك لما جاءت النصوص من الكتاب والسنة صريحة في بيان أن التشريع ليس هو إلا لله عز وجل. فالله عز وجل ينكر على المشركين الذين كانوا يحرمون أشياء من عند أنفسهم، ويحللون أشياء أخرى مقابل تلك من عند أنفسهم، بقوله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فهذا إنكار على الذين يشرعون من عند أنفسهم، وهناك إنكار على الذين اتبعوا أمثال هؤلاء المشرعين من عند أنفسهم، فقال ربنا تبارك وتعالى ذاماً ومنكراً على النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] . وقد أشكلت هذه الآية على بعض الصحابة؛ لأنه فهم منها أن إشراك المشركين من النصارى إنما كان من النوع الأول، وهو الإشراك في الربوبية فقط، فقال أحدهم وهو عدي بن حاتم الطائي، وقد كان من النصارى القليلين الذين تدينوا بدين النصارى يومئذ وقرأ وكتب، ثم هداه الله عز وجل إلى الإسلام فأسلم، وصحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحضر مجالسه، فلما تلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مجلس من تلك المجالس على الصحابة هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] استغرب عدي بن حاتم هذا الحكم؛ لأنه كان من المتفقهين في دين النصارى، فقال: يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله، كأنه فهم أن الله عز وجل عندما قال: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً)) [التوبة:31] أي: يعتقدون فيهم أنهم يخلقون مع الله، فبين له الرسول عليه الصلاة والسلام أن الآية لا تعني ذلك، وإنما تعني: أن النصارى أشركوا مع الله عز وجل حينما اتخذوا قسيسيهم ورهبانهم مشرعين من دون الله عز وجل؛ فوقعوا في الشرك، وكأنهم اعتقدوا أن هؤلاء أرباب مع الله يتصرفون في الكون كما يشاءون، فذلك الذي أراده ربنا عز وجل في هذه الآية. فرجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عدي يقول له: (ألستم كنتم إذا حرموا لكم حلالاً حرمتموه، وإذا حللوا لكم حراماً حللتموه؟ قال عدي: أما هذا فقد كان، فقال صلى الله عليه وسلم: فذاك اتخاذكم إياهم أرباباً من دون الله) فبهذه الآية مع تفسيرها يتبين أن الإنكار لا يشمل فقط الذين ينصبون أنفسهم منصب المشرع، فيحلل ويحرم، ويبيح ويحضر ما يشاء، دون أن يستند في شيء من ذلك إلى شرع الله عز وجل، فالإنكار لا ينصب على هذا المشرع وحده فحسب، وإنما يشمل أيضاً أولئك الذين يتبعونهم ويتخذونهم مشرعين من دون الله عز وجل. ولعل هذا من معاني قول الله عز وجل في المشركين: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء:89] فالمسلم حينما يتبع شخصاً يحرم ويحلل؛ فقد جعله ولياً يستنصر به من دون الله عز وجل، فهذا شرك ليس من شرك الذات، وإنما هو شرك في العبودية وفي الصفات، لذلك يجب أن يحذر المسلم. وقد يكون مستغرباً أن نقول: يجب أن يحذر المسلم من أن ينصب نفسه مشرعاً مع الله عز وجل؛ لأننا نعتقد أنه لا أحد في المسلمين يشرع من دون الله عز وجل، ولعل هذا يكون كذلك. ولكن على العكس من ذلك؛ فالمتوفر والموجود بكثرة هو اتخاذ مشرعين من دون الله عز وجل، فهذا يجب التحذير منه أيما وجوب؛ لأن الذين يتخذون من دون الله أولياء مشرعين يحرمون ويحللون، وهؤلاء وجد منهم كثيرون، ولكن الذين يتبعونهم أكثر وأكثر في كثير من القرون التي مضت، وخاصة في العصر الحاضر حينما أصبح التشريع والتقنين طبيعة لكل الدول الحاكمة والمسيطرة والموجهة لشعوبها وأممها. ولذلك كثر في العصر الحاضر من كثير من الكتاب الإسلاميين المصلحين التنبيه والتحذير من أن يتورط المسلم فيخضع لمشرع غير الله عز وجل، وكثر من هؤلاء بالتالي الأمر بإخلاص العبادة لله عز وجل والتشريع له، وتخصيص الحاكمية له تبارك وتعالى وحده لا شريك له.

الشرائع السماوية السابقة ليست مصدرا للتشريع

الشرائع السماوية السابقة ليست مصدراً للتشريع هذا التحذير والتنبيه في العصر الحاضر هو بلا شك أمر واجب ومهم جداً، ولكن الذي أعتقده أن هناك ما هو أهم من هذا الذي يحذر منه هؤلاء الكتاب الإسلاميون، ومما يحتاج إلى التنبيه والتحذير أكثر وأكثر، وفي ظني أن الذي حفز ودفع هؤلاء الكتاب إلى مثل هذا التنبيه الذي يشكرون عليه، هو ما تورطت به كثير من الدول الإسلامية من تحكيم القوانين الأرضية، ولا أقول كما يحلو لبعض الكتاب أن يقولوا اليوم: دون التشريعات السماوية، ولكني أقول: دون التشريع السماوي الذي لا ند له ولا شريك له أيضاً، ألا وهو شريعة الإسلام؛ لأن تلك الشرائع التي كانت تقدمت الإسلام أصبحت في حكم الإسلام في خبر كان. فلا ينبغي أن نقيم لتلك الشرائع وزناً، هذا لو افترضنا أنها بقيت كما أنزلها الله دون تغيير ودون تحريف وتبديل، فكيف وقد عرض لها ما لا يخفى على أي مسلم من الزيادة والتبديل! فقد أصبحت منسوخة بحكم قوله تبارك تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48] فالقرآن ومن أُنزل عليه القرآن محمد عليه الصلاة والسلام، هو الذي يسيطر بكتابه على كل الشرائع السابقة، ولو كان أصحاب تلك الشرائع أحياء لما وسعهم إلا أن يكونوا من أتباع محمد بن عبد الله، كما جاء في الحديث الصحيح، حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يقرأ في صحيفة، فلما سأله عنها قال: هذه صحيفة من التوراة كتبها لي رجل من اليهود، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا ابن الخطاب! أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟! والذي نفس محمد بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) . فلا أقول: إن أولئك الكتاب أحسنوا جداً حينما نددوا بهذه القوانين التي نبعت من الأرض ولم تنزل من السماء، ولا أقول: إن هذه القوانين إنما الإنكار عليها لأنها لم تستند إلى الشرائع السابقة، وإنما أقول: الإنكار عليها لأنها لم تستند إلى شريعة الإسلام؛ لأن الدين عند الله هو الإسلام فقط لا غير.

القوانين الوضعية تنافي إفراد الله عز وجل بالتشريع

القوانين الوضعية تنافي إفراد الله عز وجل بالتشريع وغرضي من هذه الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بالتحذير من الشرك بالله عز وجل، ألا نصب حماسنا حينما نتكلم حول الحاكمية لله عز وجل وحده في محاربة القوانين الغربية فقط؛ لأن هذا الأمر واضح حتى لعامة الناس؛ وهو أن أي قانون غربي يأتينا من بلاد الكفر والضلال فهو ضلال، ولكن يجب أن نتوجه بحماسنا إلى قوانين أصبحت جزءاً من حياتنا، وليس لها صلة بكتاب ربنا ولا بحديث نبينا، ونحن خاضعون لها! لماذا؟ لأننا نعلم أنها لم تأت من أوروبا مثلاً، إنما هي نبعت من أرضنا، فهل هذا عذر لنا لكي نتبعها من دون شرع الله عز وجل؟ A لا؛ لأن تلك الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] إنما نزلت في النصارى الذين يتبعون قسيسيهم ورهبانهم، ولم تنزل هذه الآية في النصارى الذين اتخذوا قانوناً جاءهم من غير بلادهم، فلا يهم إذاً أن القانون المخالف لشرع الله عز وجل نابع من أرضنا، أو وارد من بلاد أعدائنا، فكلاهما مخالف لشرع الله عز وجل، ولا يجوز لمسلم أن يخضع لمثل هذا النظام؛ سواء كان شرقياً أو غربياً. وأنا أقول: سواءً كان شرقياً، أو غربياً، أو أرضياً، أي: من أرضنا، فكون الحكم صادر من أرضنا؛ فلا يشفع له أن يكون شريعة لنا إذا ما علمنا أنه مخالف لشريعة ربنا تبارك وتعالى، وهذه نقطة حساسة ومهمة جداً؛ لأننا جربنا كثيراً من الخطباء الذين يتحمسون للبحث في الحاكمية لله عز وجل، وهذا أمر هام وهام جداً؛ لأنه يتعلق -كما سمعتم- بالتوحيد، ولكن هذه الحاكمية لله عز وجل لم تصبح واضحة المعالم في نفوس كثير من الدعاة، فالذي يتحمس لمحاربة القوانين الأرضية الغربية، لا يتحمس لمحاربة القوانين المخالفة لشريعة الإسلام؛ لأنها من عندنا، وأي فرق بين هذا وهذا؟! لذلك جربنا بعض الخطباء، فهو بعد أن ألقى خطبة هامة جداً في موضوع توحيد الحاكمية لله عز وجل وإفراده في ذلك، فحينما ذُكِّر ببعض المخالفات للكتاب والسنة، وإذا به في النتيجة يكفر بكل تلك الخطبة التي ألقاها بذلك الحماس البالغ، فيقول: والله مذهبنا كذا، وهذا الذي فعلته هو مذهبي فأين موقع الكتاب والسنة إذاً؟! فإذاً: نحن نتمسك بالكتاب والسنة لمحاربة الحاكمية التي تأتينا من بلاد الكفار منافية لحكم الله عز وجل، أما إذا نبعت من أرضنا فلا بأس بها؛ بل نحن نتشبث بها لأنها خرجت من أرض إسلامية أو من رجل مسلم. إذاً: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] معناها: أنه إذا خرج هذا التحريم والتحليل من عندنا فيتبع، أما إذا جاء من الخارج فلا يتبع، فهذا تفريق شكلي صوري لا قيمة له في الإسلام أبداً، لذلك أنبّه وأكرر بأننا يجب أن نفهم أن كون الحاكمية لله عز وجل ينافي أي تشريع منافٍ للإسلام، سواء كان أرضياً أو شرقياً أو غربياً. فيجب أن نخلص في عبادتنا لله عز وجل، فلا نعبد إلا الله، ولا نعبد الله إلا بما شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتان الكلمتان: لا نعبد إلا الله، ولا نعبد الله إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو خلاصة قول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأنت توحد الله عز وجل في عبادتك؛ فتحقق معنى لا إله إلا الله، ثم تعبد الله بما جاء به نبيك؛ فتحقق قولك: وأشهد أن محمداً رسول الله، فإذا اتبعت غيره فلن تخلص في الاتباع لنبيك صلى الله عليه وسلم، وبالتالي لا تكون أخلصت لله عز وجل في عبادته. هذا مما يتعلق بشرح الكبيرة الأولى التي حذر الرسول عليه الصلاة والسلام أمته منها بقوله: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله عز وجل) .

معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يستحق عبادة الأبرار غير الإله الواحد القهار فهو الجدير بأن نذل لوجهه وهو العزيز وعالم الأسرار الله فوق العرش عنه بائن وهو العلي ومدرك الأبصار فوق الخلائق والخلائق دونه ترقى إليه دعوة الأخيار يخشاه كلٌّ الخلق كل ساجد وظلالهم في الطوع والإجبار يطوي السماوات العلى بيمينه والأرض قبضة ربنا الجبار لا نوم يأخذه وليس بغافل عن خلقه واحسرة الكفار! الرزق يبسطه ويقبض رزقه الرزق مقدور من الأقدار وهو القدير وما له من مكره وهو الكريم مفجر الأنهار فلمن أطاع الله جنات ومن يكفر فذلك خالد في النار فاشهد بأنه وحده معبودنا وإلى الجحيم عبادة الأحجار فالله وحده يستحق عبادة وسواه مخلوق لهذا الباري من خص شيئاً من عبادة ربه للجبت كان مشابه الكفار إن العبادة للإله جميعها إخلاصها شرط لدى الأحرار أما الشهادة للرسول محمد فبأنه المعصوم في الإخبار وبأنه في الرسل جاء ختامهم مسك الختام ودرة الأخيار وهو الرسول لمن سيأتي بعده بالنصح والتبشير والإنذار ما نطقه إلا بأمر إلهه وكتابه وحي من الجبار أعيت بلاغته ومعجز نظمه أهل الفصاحة أو ذوي الأشعار هو خالد والله خيرٌ حافظاً فالذكر محفوظ من الأغيار ما باطل يأتيه من قدامه أو خلفه هذا كلام الباري والله صان عن الضلال رسوله وحماه من شيطانه الأمار تبيانه نهج قويم واضح لا نهج يعدل منهج المختار لا يرفض الإسلام إلا كافر ما بعده نور من الأنوار هدي الرسول موضحٌ قرآننا فهو العليم بمقصد الأخبار لا يفهم القرآن مثل محمد فحديثه نور الهدى للساري فإذا شهدنا للرسول فإننا نعطيه كل رجاحة المقدار وإذا شهدنا لا نرى أهلاً سوى هذا الرسول لقدوة الأبرار لله نشهد بالعبادة وحده ولأحمدٍ بالفهم والإخبار رب إله واحد ورسالة نسخت جميع شرائع الأحبار معنى الشهادة بينٌ لبصيرة لوضوحه يخفى عن الأنظار

حكم أقامة الحدود من غير الحاكم المسلم

حكم أقامة الحدود من غير الحاكم المسلم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. Q امرأة زوجها عسكري ويغيب كثيراً، فاتخذت خدناً في غيابه، فشاهدتهما امرأة، فاستفتت شيخاً، فأفتاها بنصحها ثلاثاً علها تتوب، فإن لم تتب تخبر أهلها، وقد فعلت ذلك فلم ترتدع، فترصدوا لهما فقتلوهما، وصلى عليهما الشيخ لأنهما يصليان، ما حكم الإسلام في كل ما جرى بالتفصيل؟ A فتوى الشيخ من حيث الإخبار وليس لتحقيق أن هناك زنا، وهذا ليس من الضروري لمنع المتخادنين من اجتماعهما على حرام، فليس من الضروري أن يتهما بالزنا، يكفي أن هذا الرجل الغريب عنها يدخل البيت، فالإنباء بهذا الخبر لا شيء فيه، بل هو واجب، وفتوى الشيخ المشار إليه هنا هو في بابه إن كان ليس هناك اتهام بالزنا؛ لأنكم تعلمون جميعاً أنه لا يجوز في الشرع الإسلامي اتهام رجل أو امرأة بالزنا إلا بشهادة أربعة، وإلا ففي الحكم الإسلامي -لو كان هناك من يحكم بالإسلام- أن الذي يقذف أي رجل ولو كان القاذف صادقاً بالزنا، ثم لا يستطيع أن يثبت دعواه فيجلد حد المفتري، أما إذا قال: إن فلاناً غريباً يدخل البيت، فليس فيه هنا اتهام بالزنا، وبهذا المقدار من الإخبار تحصل مصلحة الردع، فإذا كان الإخبار في هذه الحدود فلا شيء في ذلك أبداً. أما قتلهما فهذا أيضاً لا يجوز شرعاً، وذلك لأسباب: أولاً: أن الحدود الشرعية لا يقيمها إلا الحاكم المسلم، ونحن نعرف ونسمع دائماً وأبداً الجواب التقليدي: لا أحد اليوم يقيم الحدود الشرعية، فنقول: نعم. مع الأسف لا أحد يقيم الحدود الشرعية، فهل نصبت نفسك لإقامة الحدود الشرعية؟! فكلما رأيت رجلاً وقع في حد شرعي تذهب وتقيم عليه الحد، أم أن العملية عملية (تفشيش خلق) كما يقول العامة، ثم أنت تريد أن تبرر هذا الخطأ بدعوى أن الحكام اليوم لا يقيمون الحدود؟! صحيح أن الحكام اليوم لا يقيمون الحدود، ولكن هذا لا يعني أن يتولى فرد من أفراد الناس إقامة الحدود؛ لأن هذا التولي سيفتح باباً جديداً من الفتنة كنا في راحة منه، مثلاً: هذان المتهمان بالزنا قتلا، ولا بد لكل من المقتولين من أقارب، وقد تأخذهم الحمية حمية الجاهلية فيثأرون لهما بالحق أو بالباطل، وهكذا تتشعب القضية وتصير قضية عشائرية، كما يقع في البوادي. لذلك أقول: لا يجوز أن يتولى إقامة الحدود غير الحاكم المسلم، وحينما نظهر الأسى والأسف لأنه ليس هناك من يقيم الحدود الشرعية، فهذا لا ينبغي أن يفتح لنا باباً غير شرعي، ولكن ينبغي أن يذكرنا بتقصير المسلمين جميعاً في عدم وجود دولة مسلمة تقيم الحدود الشرعية، فضلاً عن تنفيذ الأحكام الشرعية بحذافيرها، فحينما نتذكر هذا يجب أن يدفعنا إلى أن نعمل لإقامة هذه الدولة المسلمة، وذلك كما تعلمون -وقلنا ذلك مراراً وتكراراً- لا يكون بالصياح والحماس، و. إلخ. ولكن يكون ذلك بالجهاد الذي لا يستطيعه المجاهدون -زعموا- الجهاد الذي لا يستطيعه أولئك الذين يدعون أنهم يجاهدون الكفار؛ لأننا نعني بالجهاد: الثبات على العمل للإسلام بصورة مستمرة، وبدأب مستمر، إلى أن يأتيه اليقين، يعمل للإسلام كل بحسبه إلى أن يأذن الله عز وجل للمجتمع الإسلامي أن يستأنف مسيرته، وللدولة الإسلامية أن تقوم على هذا الأساس من المجتمع الإسلامي، فأين المسلمون من هذا العمل؟! كل المسلمين اليوم لا يعملون ما يجب على كل منهم أن يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية على الأقل في بيوتنا على الأقل في دورنا، ليس في بلادنا، ولا في دولتنا، ولا في دولنا الكبيرة، بل في بيوتنا، كما قال ذلك الداعية الحكيم: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم؛ تقم لكم في أرضكم. ثانياً: أن المسلمين في الحقيقة يعيشون في مشاكل كثيرة وكثيرة جداً، هم من ناحية مقصرون في تطبيق ما يعلمون من الأحكام الشرعية، ومن ناحية أخرى يقع أحدهم في مخالفة، فيحاول تبرير هذه المخالفة بوسائل عديدة، بعضها وسائل حديثة وجديدة، وهي أنه أصبح كل واحد منا مجتهداً، وكل واحد منا يقول لك: أنا أفهم الحديث هكذا، وهو لو قيل له: كم حديثاً مر عليك وبقي آثار معانيها وليس ألفاظها في ذهنك؟ ربما يقول: مائة حديث، ألف حديث، إلخ. وهذا مما يجرني إلى أن أضرب على ذلك مثلاً، والأمثلة كثيرة جداً جداً، وأنا ليس عندي من الوقت ما يكفي لتسجيلها، ولكن منذ عهد قريب قال لي أحدهم متسائلاً: أحد إخواننا يرى أن البنطلون الطويل الذي يكاد يجر على الأرض، بل يجر فعلاً على الأرض، ليس داخلاً في النهي عن جر الإزار؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من يجر إزاره خيلاء، قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! إن إزاري يسقط، قال: إنك لا تفعل ذلك خيلاء) فأخذ هذا الشاب من جواب الرسول عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر أنه لا يوجد مانع أن يكون الإزار طويلاً ما دام أن النية طيبة، فهكذا فهم المراد، وقد يكون من الجائز له مثل هذا الفهم من هذا الحديث، وليس له ذلك، ولكن هذا يعني أنه لم يطلع على أحاديث أخرى سوى هذا، ومن هنا يجب أن يعتبر هؤلاء الشباب، وألا يفسحوا المجال لأشخاصهم وذواتهم أن ينطلقوا مستقلين غير مستعينين بالعلماء قديماً وحديثاً على فهم النص؛ لأن النص الواحد يفهم على ضوء النصوص الأخرى التي تحيط به. فهنا مثلاً في هذا الحديث، أليس هناك أحاديث أخرى؟ الجواب: بلى. ولكن هذا الإنسان ما عرف إلا هذا الحديث في هذه المسألة، فهناك مثلاً قوله عليه الصلاة والسلام: (أزرة المؤمن إلى نصف الساق، فإن طال فإلى الكعبين، فإن طال ففي النار) هذا منهج ونظام يضعه النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم في ثوبه، وليس لهذا علاقة بالحديث السابق، ذلك الوعيد الشديد لمن يجر إزاره خيلاء، بأن الله لا ينظر إليه يوم القيامة، لكن هذا لا يعني أن الذي يتعمد إطالة الثوب -أي ثوب كان- إلى ما تحت الكعبين أنه ليس عاصياً، وأنه ليس مستحقاً للنار؛ لأن الحديث يأتي هكذا بهذه المراتب الثلاث: المرتبة الأولى: مرتبة فاضلة، في شأن المؤمن الكامل. المرتبة الثانية: دونها وهي مرتبة جائزة. المرتبة الثالثة: مرتبة العاصي المستحق للنار (أزرة المؤمن إلى نصف الساق، فإن طال فإلى الكعبين، فإن طال ففي النار) ، فهذا المؤمن الذي يطيل ثوبه إلى ما دون الكعبين يكون في النار، أي: يستحق النار، كذلك هناك أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة: (. نعم الرجل فلان لولا طول إزاره) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وهناك أحاديث كثيرة بهذا المعنى، فأين يذهب هؤلاء الشباب بمثل هذه الأحاديث؟! يضربون بها عرض الحائط، ويظلون يتمسكون بهذا الحديث! فهذا من جملة البلايا التي يصاب بها العالم الإسلامي اليوم. ومن البلايا المتجسدة الآن: ما كنتم سمعتم من جماعة التكفير في مركز القاهرة في مصر، وقد قتل منهم جمع بحق أو بباطل، وهذا ليس مجالاً للبحث فيه، لكنهم لا شك كانوا قد خرجوا عن الأحكام الشرعية، أو على الأقل عن بعض الأحكام الشرعية، وهأنتم الآن سمعتم بمشكلة المسجد الحرام مع الأسف الشديد، فهم أذناب أولئك تماماً، فهم شباب طيبون، وإلخ، ولكنهم أصيبوا بالعجب، وأصيبوا بالغرور، فأخذوا يرسلون أحكاماً فوق مستواهم العلمي. ولعل احتلالهم المسجد هو من فعل الفتاوى القائمة على القاعدة المعروفة: الغاية تبرر الوسيلة.

رأيي في سيد قطب

رأيي في سيد قطب إن من أخلاق علمائنا المقتبسة من هدي السلف الإنصاف والدفاع عن المُحقّ وإن كانت عليه ملاحظات، وقد تجلى هذا الخلق الرفيع في هذه المادة، حيث تحدث الشيخ عن سيد قطب من خلال أجوبة عن بعض الأسئلة، ظهر فيها رأي الشيخ في سيد قطب بوضوح تام، لا لبس فيه.

تنبيه على بعض مقالات الإخوان المسلمين

تنبيه على بعض مقالات الإخوان المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: Q فضيلة الشيخ! عندنا كثير من الإخوة عندهم تركيز شديد على الحاكمية، والتهوين من شأن الشرك الأكبر شرك القبور والأضرحة، ويسمونه شركاً ساذجاً بدائياً، وأخذوا هذا عن دعاتهم، فيقولون: (لو كان الأنبياء أو المصلحون إلى يوم القيامة يحاربون من ألوان الشرك المناقض لكلمة (لا إله إلا الله) ما يتعلق بالأوضاع الشعبية فقط لما تعرض لهم أحد، ولما وقف في وجوههم إلا القليل) ، ما هو تعليقكم يا شيخ؟ A تعليقي هو: تعرض الناس للداعية ليس هدفاً وليس غرضاً، وإنما القصد هو تبليغ الدعوة إلى الناس، فإن استجابوا فبها ونعمت، وإن لم يستجيبوا فتلك سنن الذين من قبلهم. فكلمتهم هذه تشعر السامع لها أن الدين يأمر بأن يتكلف الإنسان أن يكون مصادماً من الآخرين ومعارضاً، فأنت اليوم تدعو -مثلاً- إذا دعوت إلى التوحيد ما أحد يخالفك، أما إذا اشتغلت بالسياسة فسيخالفونك ويعادونك. إلخ. هذا أكبر دليل على أن كثيراً من أفراد الإخوان المسلمون يهرفون بما لا يعرفون، ويتلفظون بما لا يعلمون، لقد سئلت أكثر من مرة أن زعيم الإخوان المسلمين في الجزائر يقول: لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام اليوم في هذا العصر للبس (الجاكت) و (البنطلون) وعقد (الكرفته) . الإنسان إذا تكلم بجهل فلا يقف أمام جهله شيء، وهذا الكلام من هذا القبيل. الخلاصة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ، هذا هو المقصود، و: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خوطب بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] ، فالأنبياء كلهم بدءوا بدعوة التوحيد، وأنا أقول: نوح عليه السلام الذي لبث في قومه بنص القرآن ألف سنة إلا خمسين عاماً، ماذا عمل في هذه الألف سنة؟ هؤلاء لو كانوا يعرفون ما يتكلمون به لكفروا وخرجوا عن الملة؛ لأنهم يخطئون الأنبياء بعامة، ونوح عليه السلام بخاصة؛ لأنه تميز على سائر الأنبياء بأن بارك الله عز وجل في عمره فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً. نحن نعلم أن الشرائع التي تقدمت شريعة الإسلام لم يكن فيها هذا الفقه الواسع الذي يشمل شئون الحياة كلها، كان فقهاً مبسطاً، ولذلك نوح عليه السلام عندما أقام هذا العمر الطويل المديد المبارك، إنما كان همه أن يعبدوا الله ويجتنبوا الطاغوت، وهذا الكلام ينافي ذاك الكلام، ولذلك فهم جهلة بالمرة، وهم الآن يسلكون سنن الإخوان الذين سيمضي عليهم قرن من الزمان وهم لم يقدموا للإسلام شيئاً، سوى الهتافات والصياحات، وهم على النظام العسكري (مكانك راوح) لا يتقدمون إطلاقاً. لذلك لا يبالى بكلام هؤلاء، وأنا أتعجب من بعض إخواننا طلاب العلم، ما يكادون يسمعون ضلالة من أي جاهل من أي إنسان إلا ويقول لك: ما رأيك في كذا؟ السائل: يا شيخ! المشكلة أن هؤلاء يتبعهم كثير جداً يقولون مثل هذا الكلام، كهذا الجزائري الذي قال على الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه لو كان في عصرنا هذا لكان كذا وكذا، فهذا الذي قال هذا الكلام داعية معروف جداً ويتبعه كثير جداً، حتى بعض أتباعه إذا قلت لهم؛ فلان أخطأ، هو مستعد أن تقول له: عمر أخطأ الشافعي أخطأ أما فلان -فيقيم عليك الدنيا ولا يقعدها!! الشيخ: ماذا نفعل لهؤلاء؟ السائل: ادع لهم بالهداية. الشيخ: ما علينا إلا أن ندعو بالتي هي أحسن، والعلم نور، هؤلاء يقعون في هذه الضلالات بسبب جهلهم بالإسلام، ولذلك ما علينا إلا أن نشفق عليهم، ونعتبرهم مرضى، ونعالجهم بما نستطيع من الحكمة والموعظة الحسنة.

قول الشيخ في بعض أصحاب الجمعيات

قول الشيخ في بعض أصحاب الجمعيات Q فضيلة الشيخ! جاء إليك عدد من الإخوة اليمنيين يسألونك عن الجمعية، وفي سؤالهم تلبيس، وقالوا: إنهم أصحاب الجمعية الفلانية، وأنهم من طلبة الشيخ مقبل وكذا وكذا رغم أن الشيخ مقبل قد حذر منهم كثيراً، وبح صوته في التحذير منهم، بل وتبرأ منهم، وهم يطعنون في الشيخ مقبل كثيراً جداً، بل إن بعضهم -وهو تلميذ للشيخ- يقول في شريط اسمه: (حوار هادئ مع مقبل بن هادي) قال له: أنت والغزالي عندي سواء، الغزالي طعن في السنة، وأنت تطعن في السنة باسم الدفاع عن السنة، وأحدهم -وهو أيضاً من تلاميذه لكنه تلميذ عاق- قال لي: أهل الحديث فيهم قسوة وقلة تعبد، أما ترى الشيخ مقبلاً؟! وأيضاً في الوقت نفسه يثنون على المبتدعة، لا أقول المبتدعة الذين يشك في ابتداعهم، بل المبتدعة القبوريين، رجل صوفي عندنا في حضرموت فيه كل بلية، قبوري، مفوض كل شيء فيه، فيذهبون عنده ويدرسون عنده، بل بعضهم قال: رحبة صدر فلان -الصوفي هذا- خير من ضيق صدر مقبل، والصوفي هذا يرسل أبناء الذين يسمون بالسادة، يرسلهم إلى السقاف هنا، وأخبرني أبو الحارث علي حسن أن عددهم بلغ أربعين شخصاً، والله نزل علي هذا الخبر كالصاعقة! هو لما رأى الشباب أقبلوا على السنة أخذ أبناء السادة وأرسلهم إلى هنا. فهؤلاء الحزبيون أصحاب الجمعيات، أو الحزبيون عامة سمعناهم يزهدون الشباب في أن يذهبوا إلى الشيخ مقبل، في الوقت الذي يثنون فيه على هؤلاء المبتدعة الذين يرسلون أبناءهم إلى السقاف وغيره، فما تعليقكم يا شيخ؟ وقد تعبنا منهم، والله أتعبونا وأشغلونا. A أنا أقول: هداك الله، لماذا تهتم بهؤلاء، لا نملك شيئاً -يا أخي- هؤلاء كُثُر غلبوا الدنيا كلها، الباطل هكذا. السائل: يتبعهم كثير. الشيخ: من المناسب هنا من الآيات: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] ، خذ -يا أخي- موعظة وعبرة من مواساة رب العالمين لنبيه بمثل هذا الكلام، مع أن أولئك كفرة وضلال ومشركون، وهؤلاء وإن كانوا ضلالاً ولكن على كل حال لا يخرجون عن دائرة الإسلام والمسلمين، ولذلك فأنا أتعجب -والله- كلما رأى أحدكم شخصاً أو أشخاصاً كانوا يزعمون أنهم من السلفيين ثم انحرفوا، يقولون فيه كذا وكذا وكذا، هذا القول ناشئ عن شيئين: إما عن جهل، وإما عن تجاهل، وقد يجتمعان. يقولون عندنا في الشام عن الصوفية: (فلان مثل الصوفي، لا ينكر ولا يوفي) ، فعنده لسان عذب؛ لأنه ليس عنده أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ليس عنده حب في الله ليس عنده بغض في الله، بينما من كان على طريقة السلف الصالح فهو يحب في الله ويبغض في الله، يتكلم تارة باللين، وتارة بالشدة؛ لأن هذه سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الصوفي لا يعرف الشدة؛ لأنه لا تهمه الأحكام الشرعية، يهمه جذب قلوب الناس فقط، يهمه أن الناس تقبّل يده أو يديه كلتيهما معاً. ولذلك هؤلاء عندما يقولون: مقبل متشدد، أما ذاك الصوفي فهو هين لين؛ ما أوتوا إلا بسبب جهلهم، أو بسبب تجاهلهم وركضهم وراء مصالحهم الشخصية. ثم أنت تقول: جاءني أناس من هؤلاء اليمنيين، ثم ماذا وراء ذلك؟ السائل: هم أرادوا أن يلبسوا. الشيخ: ماذا نفعل لهم؟ السائل: الله المستعان، أنا سألت عن هذا؛ لأن كثيراً من الشباب هنا يسمعون كلام الشيخ، فإذا سمعوا هذا -إن شاء الله- يتبين لهم الأمر. مداخلة: أنا أذكر أن الشيخ ما أجاز لهم وضع أموالهم في البنوك، وأن جمعيتهم لا تجوز إلا بشروط: عدم التحزب و. أما تذكر يا شيخ؟ الشيخ: كيف لا؟! السائل: يا شيخ! أنتم أجبتم إجابة صحيحة، إن كانت حسب الشروط وكذا، إنما هم هكذا، والله المستعان! الشيخ: يا أخي! ماذا نفعل لهم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

رأي الشيخ الألباني في سلمان العودة وسيد قطب

رأي الشيخ الألباني في سلمان العودة وسيد قطب Q يا شيخ! ماذا تقولون فيمن خالف أئمة الإسلام في أمر من الأمور التي قد أجمعوا عليها، وقامت عليه الحجة ولم يرجع، بل زاد على ذلك أنه يمدح بعض الصوفية والمفوضة، ويمدح من يقول بقول جهم في القرآن، ويطعن في الصحابة بل وفي الأنبياء، ويسميهم أئمة ومجددين، بل ويثني على بعض الزنادقة الذين أباحوا الردة، وطعنوا في العقيدة وفي الرسول صلى الله عليه وسلم وفي أهل الحديث، ويقول عنهم: فيهم خير كثير، وسمى زيغهم وضلالهم اجتهاداً، فقال: وإن كنا نتحفظ عن بعض اجتهاداتهم. فهل يكون هذا مبتدعاً؟ وهل نعينه ونقول: فلان مبتدع، تحذيراً للأمة ونصحاً لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؟ الشيخ: ذكر هذا في كتاب؟ السائل: في أماكن متفرقة. الشيخ: ليس في كتاب؟ السائل: أيضاً في بعض الكتب. الشيخ: حسناً منها؟ السائل: هو الذي مدح هذا الشيخ: لا تحد لا تحد. السائل: حسناً. الرجل الذي قال هذا في بعض الكتب، مثلاً في العدالة الاجتماعية، أو في ظلال القرآن، لكن الذي يمدحه وقال عنه: مجتهد، وكذا في شريط أو في بعض الأشرطة، وأيضاً شخص آخر حاله كحال هذا له كتاب اسمه الخلافة والملك، وله كتب أخرى تكلم فيها عن بعض الأنبياء، عن نوح -مثلاً- فقال عنه لما قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] قال: غلبت عليه عاطفة الجاهلية، وعن يوسف لما قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] قال: هذا دكتاتوري يطلب منصب الدكتاتورية كـ (موسوليني) في زماننا. الشيخ: من هذا الذي يقول هذا؟ السائل: في كتاب الخلافة والملك للمودودي. الشيخ: المودودي. ومن الذي يمدح هذا الكلام؟ السائل: أحد الدعاة مدحهم. الشيخ: لماذا لا تسميه؟ هل تسميته غيبة؟ السائل: لا. إن شاء الله، هو الشيخ سلمان مدحه. الشيخ: أنا أقول لك: مدح الكلام أم المتكلم؟ السائل: مدحهم في أشرطة. الشيخ: اسمع! فهمت سؤالي. السائل: حسناً أعد علي السؤال. مداخلة: يقول الشيخ: أمدح هذا الكلام، أم مدح صاحب هذا الكلام؟ السائل: لا. بل صاحب هذا الكلام، ما مدح الكلام. الشيخ: إذاً مدح صاحب الكلام! قد أمدحه أنا؛ فهل معنى ذلك أنني أصوب كل ما قال؟ السائل: لا يعني هذا. الشيخ: إذاً ماذا تعني أنت بهذا السؤال؟ السائل: بلغني أن في بعض الأشرطة لبعض المشائخ أنهم ذهبوا إليه، وقالوا له: إن فلاناً -أي المودودي - فيه كذا وكذا، فقال لهم: والله لو سئلت يوم القيامة، سأقول: إمام ومجدد، فنحن اختلط علينا هذا الأمر، وقلنا: نسأل عنه الشيخ! الشيخ: انظر! -يا أخي- أنا أنصحك أنت والشباب الآخرين الذين يقفون في خط منحرف فيما يبدو لنا والله أعلم: ألا تضيعوا أوقاتكم في نقد بعضكم بعضاً، وتقولوا: فلان قال كذا، وفلان قال كذا؛ لأنه أولاً: هذا ليس من العلم في شيء، وثانياً: هذا الأسلوب يوغر الصدور، ويحقق الأحقاد والبغضاء في القلوب، إنما عليكم بالعلم، فالعلم هو الذي سيكشف هل هذا الكلام في مدح زيد من الناس الذي له أخطاء كثيرة؟ وهل -مثلاً- يحق لنا أن نسميه صاحب بدعة؟ وبالتالي هل هو مبتدع؟ ما لنا ولهذه التعمقات؟ أنا أنصح بألا تتعمقوا هذا التعمق؛ لأننا في الحقيقة نشكو الآن هذه الفرقة التي طرأت على المنتسبين لدعوة الكتاب والسنة، أو كما نقول نحن: للدعوة السلفية، هذه الفرقة -والله أعلم- السبب الأكبر فيها هو حظ النفس الأمارة بالسوء، وليس هو الخلاف في بعض الآراء الفكرية، هذه نصيحتي. مداخلة: يا شيخنا! الصورة قاتمة جداً فيما يجري بين الشباب في كثير من بقاع الأرض، ولا نشك أن هناك منحرفين وهناك مخطئين ومبتدعين، لكن أصبحت المواجهة في كثير من الأحايين مواجهة شخصية، ومواجهة للقيل والقال، مما لا يشعر الشباب ما يترتب على ذلك من إضاعة الأوقات، وإثارة كثير من الحقد بينهم، هذه مسألة لا يتنبهون لها، وهم -ولا نشك- معهم الحق، لكن كثيراً من الشباب عندما أسأله: كم تحفظ من القرآن؟ يقول: أحفظ أقل من ثلاثة أجزاء! أسأله: كم لك تناقش هذه القضية؟ يقول: ثلاث سنوات، ثلاث سنوات وهم يجلسون يتناقلون: زيد مبتدع، غير مبتدع، كافر، غير كافر، زنديق، غير زنديق، قال ما قال، منحرف غير منحرف، وقد يكون منحرفاً أو مخطئاً أو ضالاً! وهم يظنون إذا جاءهم الناصح وقال لهم: هذا مضيعة للأوقات، الأغلب يظنون أن الناصح مع أولئك، وهذا أمر عجيب! وهو يريد نصحهم، شاب عمره سبع عشرة سنة لا يحفظ إلا القليل وهو الآن يناقش في مسائل عميقة جداً، قد يتأنى فيها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ويتريثون فيها، بينما هم يتسرعون إلى مثل هذه القضايا، فنريد توجيهاً لمثل هذا. الشيخ: أنا كثيراً ما أُسْأَل: ما رأيك بفلان؟ فأفهم أنه متحيز له أو عليه، وقد يكون الذي يسأل عنه من إخواننا، وقد يكون من إخواننا القدامى يقال عنه: إنه انحرف، فأنا أنصح السائل: يا أخي! ماذا تريد بزيد وبكر وعمرو؟ استقم كما أمرت، وتعلم العلم، وهذا العلم سيميز لك الصالح من الطالح، والمخطئ من المصيب. إلخ، ثم لا تحقد على أخيك المسلم لمجرد أنه لا أقول: أخطأ، بل لمجرد أنه انحرف، لكن انحرف في مسألة أو اثنتين أو ثلاث، والمسائل الأخرى ما انحرف فيها، ونحن نجد في أئمة الحديث من يتقبلون حديثه، ويقولون عنه في ترجمته أنه مرجئ، وأنه خارجي، وأنه ناصبي. إلخ، فهذه كلها عيوب وكلها ضلالات، لكن عندهم ميزان يتمسكون به، ولا يرجحون كفة سيئة على الحسنات أو سيئتين أو ثلاث على جملة حسنات، ومن أعظمها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أنا أقول -مثلاً- في سلمان وأمثاله: بعض إخواننا السلفيين يتهمونهم بأنهم من الإخوان المسلمين، أنا أقول: لا أعلم أنه من الإخوان المسلمين، لكن ليت الإخوان المسلمين مثله، الإخوان المسلمون يحاربون دعوة التوحيد، ويقولون: إنها تفرق الأمة وتمزق الكلمة، أما هؤلاء -فيما أعتقد وأهل مكة أدرى بشعابها- يدعون إلى التوحيد، ويدرسون التوحيد، أليس كذلك؟ السائل: نعم. الشيخ: إذاً: ليت الإخوان المسلمين يكونون كذلك، وقد يوجد عندهم عمل سياسي، وعندهم ما يشبه الخروج على الحكام …إلخ، نعم، الخوارج كانوا كذلك، الخوارج الرسميون الذين لا يشك العلماء أن قول الرسول عليه السلام: (الخوارج كلاب النار) إنما قُصِدُوا هم؛ الذين خرجوا على علي، وأنهم (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، كما في الحديث المعروف في الصحيحين؛ هم المقصودون، مع ذلك يروون الحديث عنهم، ويعتبرونهم مسلمين، فهم يدعون ضلالاتهم ويبينون حسناتهم، وهذا من باب قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] . فهؤلاء إذا كان عندهم انحراف، ولا أعتقد أنه انحراف في العقيدة، إنما هو انحراف في الأسلوب، وعلى كل حال نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الأمة الوسط، التي لا تقع لا في الإفراط ولا في التفريط.

رأي الشيخ الألباني في كلمات للشيخ سلمان العودة

رأي الشيخ الألباني في كلمات للشيخ سلمان العودة السائل: فضيلة الشيخ! لا أدري السؤال الأول الذي سألتك عنه لا أدري هل هو خطأ في العقيدة؟ الشيخ: ما هو؟ السائل: قولهم: لو كان الأنبياء والمصلحون إلى يوم القيامة يحاربون الشيخ: ضلالة كبرى، وأنا أجبتك عن نوح عليه السلام. السائل: هذه هو قالها أيضاً. الشيخ: من هو؟ السائل: الشيخ سلمان. الشيخ: أين قالها؟ السائل: في هذا الكتاب. الشيخ: أرني هذا الكتاب. السائل: صفحة (170) . الشيخ: يقول: (وأن يعلموا -أي هؤلاء الدعاة- أنه لو كان الأنبياء أو المصلحون إلى يوم القيامة، يحاربون من ألوان الشرك المناقض لكلمة (لا إله إلا الله) ما يتعلق بالأوضاع الشعبية فقط لما تعرض لهم أحد، ولما وقف في وجوههم إلا القليل) كلمة (الشعبية) هنا لها مفهوم من حيث اللغة العربية أم لا؟ السائل: يا شيخ! أنا الذي أفهمه -والله أعلم- وقد أكون مخطئاً فيه. الشيخ: قد يكون كلنا كذلك. السائل: الأوضاع الشعبية هي هذه الموجودة عند الناس -مثلاً- جلوس الناس عند القبور، والطواف بها، والنذور، وتعليق الخرق وكذا، والله أعلم. الشيخ: نعم، نعم، لكن هل دعوة التوحيد واقفة إلى هنا، أي محاربة الشركيات الشعبية؟ السائل: لا، بل الشرك كاملاً. الشيخ: حسناً؛ فهو يعني أشخاصاً معينين، يفهم خطأً أو صواباً أنهم يرضون عن الحكام وعن تصرفاتهم المخالفة للشريعة، وإنما يعنون فقط بإصلاح قلوب الشعب وأفراد الشعب، لعلي استطعت أن أبين لك ماذا يعني الرجل، يعني أن دعوة الحق لا تنحصر فقط بإصلاح أفراد الشعب دون الحكام، والرضى عن تصرفات الحكام، وتركهم فيما هم يتصرفون فيه من مخالفات شرعية. السائل: يا شيخ! الجملة الأخيرة هل هي صحيحة؟ الشيخ: نسمع من أهل مكة. رجل مكي: أقول: الحقيقة في كثير من القضايا الناس بين إفراط وتفريط، فإما قوم لا يفقهون دعوة التوحيد إلا توحيد الحاكمية فقط، ويتركون الناس في شركهم الأكبر! وكما يسمونه الآن شرك القبور، وإما أناس آخرون لا يحبون بل يتحسسون من الحاء، مجرد ما يقول إنسان: إن التوحيد فيه حاكمية لله عز وجل، يتحسسون من هذه القضية ولا يلتفتون إليها لا من قريب ولا من بعيد، بل عليهم محاربة ما يسمى بشرك القبور، وإذا عدلنا في القضية عُرِفَ الصواب أن دعوة التوحيد هي دعوة توحيد الحاكمية أن تكون الحاكمية لله، وكثير من الكتاب -والحق يقال- أنه أحياناً يعني بالحاكمية من خلال قراءته لها يعني الحاكمية المطلقة أن الأمر كله يرجع إلى الله عز وجل، وأحياناً يعنون بها السياسة التي ظلوا وراءها، فمن العدل والإنصاف أن نقول: إن التوحيد يشمل كلا الجهتين. فإذا فهم هذا الكلام -يا أخي- على أن الأنبياء لو بقوا فقط على أن يمنعوا الناس من القبور لما اعترضهم معترض، هذا هو فحوى الكلام، لكن هناك نقطة ثانية -يا أخي! ومع الاستئذان من شيخنا وحبيبنا-: الكلام لا يحمل على فهم الرجل الذي فهمه القارئ، وإلا كان ضل كثير من الناس، ولكن يحمل على كلام الرجل الآخر، إما في مواقع أخرى أو من واقعه، فإذا كان الرجل معروفاً بالتوحيد الكلي، وداعية إلى هذا التوحيد، أو أنه من الموحدين، ثم قال لفظة أو قال لفظتين، فلا يحمل على أسوأ محمل؛ لأنه لو حمل على هذا المحمل لكان زنديقاً بكل معنى الكلمة، وكان خارجاً من ملة الإسلام، ثم نحن نرى أن واقعه ليس كذلك، فهذه مسألة جديرة. وبالمناسبة حمل الكلام على أسوأ محمل هذه قاعدة ليست من قواعد أهل السنة والجماعة.

رأي الشيخ الألباني في كلمات لسيد قطب

رأي الشيخ الألباني في كلمات لسيد قطب أنا أذكر يا شيخنا! بالمناسبة نفس هذا الكلام كيف حمله بعض إخواننا الأفاضل على محمل سيئ، ولعلكم تسددونني فيما أقول. يقول سيد قطب في بعض كتبه: (إن عبادة الأصنام التي دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يجنبه هو وبنيه إياها، لا تتمثل فقط في تلك الصورة الساذجة التي كان يزاولها العرب في جاهليتهم، أو التي كانت تزاولها شتى الوثنيات في صور شتى مجسمة في أحجار، أو أشجار، أو حيوان، أو طير، أو نجم، أو نار، أو أرواح، أو أشباح. إن هذه الصورة الساذجة كلها لا تستغرق صور الشرك بالله، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله، والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصورة الساذجة يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها، ويمنعنا من الرؤية الصحيحة لحقيقة ما يعتور البشرية من صور الشرك والجاهلية الجديدة، ولا بد من التعمق في إدراك طبيعة الشرك وعلاقة الأصنام بها، كما أنه لا بد من التعمق في معنى الأصنام وتمثل صورها المجردة، المتجددة مع الجاهليات المستحدثة) . نريد تعليق شيخنا، ثم نقرأ تعليق أحد الإخوة الأفاضل على هذا الكلام. الشيخ: لا يوجد شيء على الكلام، هو كلام سليم (100%) ، ويكفي في ذلك قوله تعالى في القرآن الكريم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] والتفسير الذي جاء في هذه الآية لما نزلت، وهي نزلت في حق النصارى، وكان من العرب الذين تنصروا في الجاهلية -مع قلة المتنصرين- عدي بن حاتم الطائي، ثم هداه الله عز وجل وأسلم، والقصة مذكورة في مسند الإمام أحمد وغيره، فلما نزلت هذه الآية أشكلت على عدي بن حاتم الطائي؛ لأنه فهمها بمعنى الشرك الذي ينكر الرجل أن يكون الشرك كله محصوراً في هذا النوع من عبادة الأصنام والوثنيات، فقال له عليه السلام موضحاً المعنى العام الأشمل للشرك بالله عز وجل في اتباع غير شريعته، قال له: (ألستم كنتم إذا حرموا عليكم حلالاً حرمتموه، وإذا حللوا لكم حراماً حللتموه؟ قال: أما هذا فقد كان، قال: فذاك اتخاذكم إياهم أرباباً من دون الله) . الآن هذا النوع من الشرك غير ملاحظ حتى عند الذين يعلنون أن الحاكمية لله عز وجل، وأنا أذكر بمثل هذه المناسبة لما كنت في دمشق في مخيم اليرموك، في مسجد صلاح الدين بالذات، حينما صعد المنبر خطيب من شباب الإخوان المسلمين، وألقى خطبة نارية في أن الحاكمية لله عز وجل، سبحان الله! ولما صلى وانتهى من الصلاة، لفتُّ نظره إلى خطأ -ونسيت الآن ما هو هذا الخطأ- قلت له: هذا مخالف للسنة، قال: لكن أنا حنفي! قلت: يا أخي! الله يهديك، أنت الآن خطبتك كلها في أن الحاكمية لله عز وجل، فما معنى الحاكمية؟ فقط أنه إذا جاءك قانون من كافر مخالف للشرع فهذا هو الكفر، وأنه يلزمك أن تتمسك بالشرع، أما إذا جاءك حكم من مسلم كان مخالفاً للشرع، هذا تتبعه مع مخالفة الشرع، أين الحاكمية لله عز وجل إذاً؟! هذا المعنى -في الحقيقة- شامل وجامع، وهو أحسن حينما دفع شبهة من قد يقف، فقال: فقط، أي: ليس الشرك فقط هذا، فوسع المعنى؛ وهذه التوسعة هي الإسلام، ولذلك نحن نقول: إن الوقوف عند محاربة الشركيات في أفراد الشعب، وترك الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله -وهذا لا يعني أن ندخل في خضم التكفير وإخراجهم عن الملة، يكفي أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، والتفصيل الذي ندين الله به هو أن هناك كفراً دون كفر، كفر عملي وكفر اعتقادي، هذا التفصيل الحق هو الذي يجعلنا معتدلين، ولا نتسارع إلى تكفير الحكام دون أن نفرق بين حاكم يؤمن بما شرع الله، ولكن يتبع هواه في بعض مخالفته لما شرع الله- أقول: إن الوقوف عند محاربة الشركيات في أفراد الشعب، وترك الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله فيه ما فيه، وهذا الجانب من التوحيد يجب أيضاً أن يشتغل به الدعاة. لكن الحقيقة أنا أقول كلمة صريحة: إن دعاة التوحيد اليوم في امتحان مرير، فكل قرار يصدر تجد A هذا أمر ولي الأمر! صح يا زين! أم لا؟ وقعنا فيما نحذر منه، لماذا نحن لا نتوجه -إذاً- إلى الدعوة بعامة وليس فقط فيما يتعلق بالشعوب، العبارة هذه تشبه تماماً كلمة (فقط) هناك، فهو قيدها بالوقوف في محاربة الشركيات المتعلقة بالشعوب وترك الحكام دون نصح ودون تحذير، ودون إنكار، ولو مع عدم الخروج، هل الجواب واضح؟ السائل: لا يستلزم هذا مواجهة؟ الشيخ: نعم. لا يستلزم. السائل: علق أخ فاضل على هذا الكلام بما يلي، الذي كأني فهمت أنه كلام ابن القيم بأسلوب عصري! قال: في هذا الكلام أولاً تهوين من دعوات الأنبياء. الشيخ: لا. هكذا كلام ابن القيم!! السائل: التي ركزت على عبادة الأصنام والأوثان، هل في هذا تهوين؟ الشيخ: بَيِّنٌ. السائل: يعني: لا. الشيخ: طبعاً!! السائل: قال! ثانياً: فيه صرف الدعاة عن أعظم وأكبر أنواع الكفر والشرك الذي حاربه كل الأنبياء والمرسلون المصلحون، وأدركوا أنه أكبر خطر على الإنسانية. هل في هذا الكلام صرف؟ الشيخ: لا يوجد. السائل: لا يوجد؟ الشيخ: نعم. السائل: ثالثاً: فيه خلط بين قضايا الشرك الأكبر والأصغر، وبين قضايا المعاصي صغيرها وكبيرها. الشيخ: أين هذا؟ السائل: والله ما فهمته! لكن سأقول لك: أين؟ الشيخ: بفهم أو بدون فهم؟ السائل: إن شاء الله بفهم. السائل: بعض الناس يرى أن مسألة الحاكمية والحاكم بصورة عامة هي شرك أصغر، وأما شرك القبور بصورة مطلقة شرك أكبر، ولا يفصلون بين الشرك العملي والشرك الاعتقادي إلا عند الحاكم، ولا يدرجون هذا على الناس الذين يقعون في الشرك المسمى شرك القبور، فيرون أن هذا ليس فيه تفصيل، أي شرك يأتي به الرجل في شرك القبور هو خارج من الملة دون تفصيل، دون جهل، دون إقامة حجة إلى غير ذلك، وأما ذاك ففيه تفصيل، ولعل إن أصبت والتسديد لكم، فهكذا: فيه خلط، مع أنه ذكر كلاماً بديعاً. ثم النقطة الثانية يقولون: إنه وصف الشرك هذا بأنه ساذج، لا شك أنه ساذج، فلا أدري هم فهموا ما معنى ساذج أم لا، يقول: هؤلاء الذين يعبدون الأصنام شركهم ساذج، ولكن أولئك الذين يعبدون ويطيعون ويفعلون مثل الحديث الجميل الذي ذكرته، فهذا كذلك داخل في الشرك. الشيخ: إي نعم. مداخله: هل يحسن أن نقول عن شرك الأوثان أنه بدائي. الشيخ: يا أخي -بارك الله فيك- كلمة شرك بدائي نزلت في شيءٍ من القرآن أو في السنة؟ السائل: لا. الشيخ: حسناً من الذي تكلم؟ زيد من الناس، نحن نستوضح منه هل يقصد من كلمة (بدائي) بمعنى أنه لا يخرج من الملة بعد إقامة الحجة؟ فإن كان يقصد هذا ننكر ذلك عليه، إذا كان يريد التهوين من هذا الشرك، إذاً نحن نستوضح منه، ماذا تريد من كلمة (بدائي) ؟ والذي أفهمه أنه يعني: أن هؤلاء العرب وثنيون ليس عندهم كتاب كاليهود والنصارى يرشدهم ويدلهم ويهديهم، ولو في بعض النواحي التي بقيت محفوظة عند أهل الكتاب وغير محرفة، فهم وثنيون يعيشون هكذا على الجاهلية، هذا الذي يعنيه بأنه شرك بدائي، ما أفهم أنه يعني أنه شرك لا ينبغي أن يهتم به، وأظن أنك أنت وأمثالك تريدون أن تفهموا هكذا، ولذلك لا تقفوا عند هذه الكلمات، لماذا؟ لأنها: أولاً: ما صدرت من معصوم. ثانياً: حاولوا أن تفهموا ماذا يعني بهذه الكلمة، كما يروى عن بعض السلف: التمس لأخيك عذراً، هذا إذا كانت العبارة فيها إيحاء بما يخالف الشرع، أما إذا كانت العبارة ما هي واضحة؛ فنحملها على أحسن الاحتمالين. السائل: لعل هذا -إن شاء الله- فيه هداية للجميع، يقول سيد قطب: إن الاعتقاد بالألوهية الواحدة قاعدة لمنهج حياة متكامل، وليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر، وحدود العقيدة أبعد كثيراً من مجرد الاعتقاد الساكن -كأنها لفتة إلى المرجئة دون أن يدري، الذين لا يجاوزون الإيمان حدود القلب- يقول: إن حدود الاعتقاد تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة، وقضية الحاكمية كذلك فروعها -أو كلمة خطأ- في الإسلام هي قضية عقيدة، والحاكمية هي قضية عقيدة، كما أن قضية الأخلاق بمجملها هي قضية عقيدة، فمن العقيدة ينبثق منهج الحياة الذي يشمل الأخلاق والقيم، كما يشمل الأوضاع والشرائع سواء بسواء. الشيخ: صحيح. السائل: هذا الكلام صحيح؟ الشيخ: نعم. السائل: يقول أخونا يعلق على هذا الكلام: هذا كلام حق وخطأ! الشيخ: عجيب! السائل: أما العقيدة قاعدة لمنهج حياة متكامل فمسلَّم. الشيخ: الحمد لله. السائل: وهذا أقره على كلامه كله. الشيخ: نعم. السائل: تابع لكلام الأخ الفاضل: وأما أن حدود العقيدة تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة؛ فهذا لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله علماء الإسلام. الشيخ: هذا رجل سطحي. السائل: هذا الكلام غير صحيح؟ الشيخ: نعم، نقدر نفهم مَن هذا؟ السائل: ما أحبه. الشيخ: ما تحبه! السائل: فهذا من شذوذات سيد قطب ليوسع به دائرة التكفير! ألا ترون أن هذا إلزام بما لا يلزم؟ الشيخ: نعم، ولا شك. السائل: تابع: لمن يخالف منهجه -أي: لا يكفر الآخرين، مجرد أي واحد يخالف منهجه، فيريد سيد بهذا أن يكفر-. الشيخ: ما عرفنا ذلك عنه. أنا أعتقد أن الرجل ليس عالماً. السائل: لا شك. الشيخ: لكن له كلمات في الحقيقة! -خاصة في السجن- كأنها من الإلهام. السائل: تابع لكلام الأخ: وهو مع ذلك يحيد عن ذكر شرك القبور. السائل: قد وجدت كلاماً لـ ابن القيم في إعلام الموقعين هو نفس الكلام بالتمام، وهو يقول: التوحيد يشمل كذا، ويشمل كذا، وهو ينبثق من القلب إلى الأعضاء إلى غير ذلك، فيشابه هذا الكلام. فالحقيقة أنهم أتوا من جهة أنهم هم يفسرون كلام الآخرين، مع أن إخوانهم في العقيدة والمنهج وبخاصة من أمثالكم وأمثال سماحة الشيخ عبد العزيز وغيره؛ ترون أن هذا الأمر لا يحتمل مثل هذه الأمور التي حملوا كلام الناس عليها. الشيخ: هذا صحيح.

مناقشة الشيخ لتحريريين حول شمول العقيدة

مناقشة الشيخ لتحريريين حول شمول العقيدة أنا بالمناسبة لما كنت أناقش جماعة التحرير في مذهبهم وفي ضلالاتهم أن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، وكنت أقول لهم: إن قولكم هذا عقيدة، وأنتم تشترطون في العقيدة الدليل القاطع ثبوتاً ودلالة، فأين الدليل القاطع على أن العقيدة لا تؤخذ إلا من حديث قطعي الثبوت قطعي الدلالة؟ وأثبت لهم بأنهم ليسوا في عقيدة منذ نشأ حزبهم؛ لأنهم تطوروا في هذه المسألة بالذات على ثلاث مراحل وثلاثة أقوال: القول الأول: الذي كان مسطوراً في الطبعة الأولى من كتاب لهم لا أذكر الآن اسمه، لكنَّ فيه فصلاً بعنوان: (طريق الإيمان) يقولون هناك: لا يجوز الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة، هكذا (لا يجوز) . ثم صدرت الطبعة الثانية للكتاب، وإذا هم يستبدلون (لا يجوز) بـ (لا يجب) رفعوا كلمة (لا يجوز) ووضعوا كلمة (لا يجب) فصارت: يجوز الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة، ومن قبل كانوا يقولون: (لا يجوز) عدلوها إلى (لا يجب) فقولهم: (لا يجب) أي: يعطيك الحرية، إن شئت ألا تأخذ وإن شئت أن تأخذ، أما من قبل قالوا: (لا يجوز) هذا التطور الثاني. التطور الثالث: وما أدري إذا كانوا لا يزالون مستقرين عليه، قالوا: يجب الأخذ بحديث الآحاد بمعنى التصديق وليس العقيدة! تلاعب بالألفاظ (التصديق لا العقيدة) وهذا نقاش جرى بيني وبين بعض أبناء بلدك بالذات حينما جمعنا سجن الحسكة، وجدت هناك خمسة عشر حزبياً تحريرياً، وعليهم رئيس واحد حلبي اسمه: مصطفى بكري، أتعرفون مصطفى بكري؟ الحضور: لا. الشيخ: لا تعرفونه! والحموي الذي كان هو مجادلهم الكبير كان بديناً طويلاً أشقر ذا هيئة -ولا أقول: ذا هيبة- المقصود: قلت له: أنت -يا أخي- تتحمس لعقيدة الحزب وأنت لا تعرفها، قال: كيف؟ قلت له: ألا تعتقد أن الحزب كان يرى من قبل أنه لا يجوز الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة؟ قال: نعم، وهذه هي عقيدتنا، قلت له: ثم طوروا هذا وقالوا: لا يجب، قال: أين؟ قلت له: الطبعة الثانية، وأخيراً قالوا بجواز الأخذ، ولكن بالتصديق وليس بالإيمان والاعتقاد. الله أكبر! يتلاعبون بالألفاظ حتى لا يظهروا تراجعهم أمام أفراد حزبهم، المهم هذه مقدمة، وكنت قد احتججت عليهم بأمور لا قبل لهم بردها، قلت لهم: يا جماعة! -وهنا الشاهد بالنسبة للكلام الذي سمعناه آنفاً- الإسلام بكل ما جاء فيه هو لابد من عقيدة، أنت إذا أديت فريضة وجردتها من العقيدة لم تصنع شيئاً، إذا ابتعدت عن محرم لا لأن الله حرمه ما تعبدت الله بهذا الابتعاد … إلخ، ومن جملة ما قلت: لو كان هناك تفريق بين العقيدة وبين الأحكام لكان القول على العكس هو الأقرب إلى الصواب؛ ذلك لأن كل حكم يتضمن عقيدة، فإذا عري هذا الحكم من العقيدة بَطَلَ. بينما ليس كل عقيدة يتضمن عملاً، وأنت تستطيع أن تعتقد ولا يلزمك أي عمل بمثل هذه العقيدة، مثلاً: الإيمان بعذاب القبر، وهم يشكون فيه ويقولون: إن عذاب القبر غير ثابت؛ لأنه لا يوجد دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ولسنا بصدد إبطال دعواهم هذه أيضاً، المهم أنت اعتقادك أن هناك عذاباً في القبر أو لا يوجد عذاب في القبر، لا يغير هذا الاعتقاد شيئاً من منطلقك في حياتك وفي عملك، وفي العاقبة لها تأثير، ولكن أريد التفريق بين الأحكام الشرعية، فكل حكم يتضمن عقيدة، أنت تقول: هذا حرام، أي: تعتقد أنه حرام، تقول: هذا فرض، أي: تعتقد أنه فرض، وهكذا الأحكام الخمسة كما يقولون، فإذاً: الإسلام كله عقيدة -وهذه حقيقة- وهذه العقيدة حينذاك لا بد أن تحفز صاحبها على التجاوب معها؛ إن كان مجرد إيمان بالغيب آمن بالغيب، وإن كان إيماناً بحكم شرعي فهو يعمل به على ضوء ما تضمنه الحكم الشرعي، وضربت له مثلاً: كان مما ابتليت به هناك في دمشق مجادلة القاديانيين، ومن جملة عقائد القاديانيين الضالين أنهم يعتقدون أن ركعتي الفجر -السنة- واجبة، أنا أتخذ هذا مثلاً وأقول: رجلان بعد أذان الفجر قاما وصليا ركعتين، أحدهما بنية السنة -وهذا هو الصحيح- والآخر بنية الواجب -وهذا غير صحيح-؛ فالعمل واحد لكن اختلفت النية، فنية أبطلت العبادة، ونية صححت العبادة. إذاً: المدار في كل أحكام الإسلام هو العقيدة، فلا يجوز فصل العقيدة في بعض الإسلام دون بعض إطلاقاً، وهذا نوع من الفقه الذي ينبغي أن نتنبه له. مداخلة: هنا مسألة: أحياناً إخواننا في مسألة العقيدة وغيرها عندما نقول: منهاج، وعقيدة، وشريعة، مثل بعض الآيات في القرآن التي فصلت مثل هذا، أو العلماء الأقدمون الذين قالوا: عبادات، وعقيدة، ومعاملات؛ لا يفرقون بين الاصطلاح الذي هو للتدريس والتعليم والتدريب وبين أصل الدين ككل، ثم هنا يبدو لي ملاحظتان: أن حزب التحرير وغيرهم، فضلاً عن أنهم لا يفقهون الدين لا يفقهون اللغة العربية، عندما يقولون: تصديق دون عقيدة. الشيخ: طبعاً هذا خلاف القرآن. مداخلة من الشخص السابق: نعم. والملاحظة الثانية هذه من ملاحظات الاصطلاح. الشيخ: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] قال: مبشراً! مداخلة من الشخص السابق: فعقيدتهم هذه تكذبها السنة، وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم -إن أصبت في الفهم-: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها (لا إله إلا الله) وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فيلزم منه الاعتقاد. السائل: لعل الرجل أراد هنا في المقال لما قال: يريد أن يوسع دائرة التكفير، لعله أراد بهذا أن سيد قطب قال في الأمة الإسلامية الآن في هذا العصر: إنها تعيش جاهلية لا تعيشها الجاهلية الأولى، وقال: إن هذه مساجدها معابد جاهلية، وإن الإسلام يرفض (أَسْلَمَةَ) هذه المجتمعات، أنا قرأته بعيني يا شيخ! الشيخ: هل ذهبت إلى مصر؟ السائل: لا. الشيخ: هو مصري، هو يحكي ما يشاهده في مساجد عن الست زينب والبدوي إلخ. السائل: فتكون كل مساجد مصر هكذا؟ الشيخ: لا، أنا لا أقول بالكلية وهو لا يقول بالكلية، لكن هو يتكلم بصفة عامة. السائل: لكن هو عم المجتمعات يا شيخ!

خاتمة رأي الشيخ في سيد وكتبه

خاتمة رأي الشيخ في سيد وكتبه الشيخ: على كل حال، الرجل مات وانتقل إلى رحمة الله وإلى ظنه، ونحن كما نصحتك آنفاً لا تبحث في الأشخاص، خاصة إذا كانوا انتقلوا إلى رحمة الله. رجل: ألا يمكن أن نقول: إن قصد بالجاهلية التكفير وتكفير هذه الأمة فهذا ضلال بعيد، وإن قصد أنك ما تمر بالشارع إلا كان على يمينك قمار، والدكان الثاني يبيع الخمر علناً، والثالث مرقص، والرابع سينما، والخامس سفور، ثم أزياء الكفار، ثم سن قوانين غير شرعية، فإن قصد مثل هذا فهو كما قال فيه جاهلية، فهذا كلام لا ينكر، بل قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما هو أشد من هذا في الناس. وأما إن قصد التكفير فالأمر والحمد لله واضح، فنحن نفصل، ولا يهمنا الرجل بذاته، إن كان قصد التكفير المخرج من الملة فهذا ضلال ونأباه وأمره إلى الله، وإن كان قصده الجاهلية التي نراها فلا تشك معي أن الأمر كذلك. الشيخ: أنت ماذا ينادونك؟ الرجل: أبو طلحة. الشيخ: انظر يا أبا طلحة! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ولو في غير هذه المناسبة: (إنما الأعمال بالخواتيم) ، فما هي خاتمة البحث في كلام سيد قطب أو غيره، إن كان قصد كذا أو قصد كذا؟ السائل: الشاهد يا شيخ! الشيخ: لا تحد عن الجواب. السائل: ما قصدت الحيدة يا شيخ! الشيخ: أنا لا أتكلم قصدت أم لم تقصد، إنما أذكرك وأقول: لا تحد عن الجواب، ما هي ثمرة البحث في أن سيد قطب أو غيره قال كذا وكذا وكذا؟ فما هو المقصود من حكايتنا لكلامه؟ السائل: نحن الآن نريد أن نحذر الناس من كتب هذا الرجل؛ لأن الناس الآن عظموا مؤلفات هذا الرجل، حتى فاقت في طباعتها وانتشارها مؤلفات الأئمة، فيا شيخ! هو عنده أخطاء عقائدية كثيرة، وقد تكلم في عثمان. الشيخ: هذا هو الجواب. السائل: لا أقصد أنه لهذا يا شيخ! رجل آخر: لدينا سؤال واحد فقط! الشيخ: تفضل. السائل: هل قلتم مرة أن معالم على الطريق هو توحيد كتبَ بأسلوب عصري؟ الشيخ: أنا أقول: إن في هذا الكتاب فصلاً قيماً جداً، أظن عنوانه: (لا إله إلا الله منهج حياة) هذا الذي أقوله وقلته آنفاً، ومثل ما يقولون عندنا في الشام: (على غير عباية) : الرجل ليس عالماً، لكن له كلمات عليها نور وعليها علم، مثل (. منهج حياة) أنا أعتقد أن هذا العنوان كثير من إخواننا السلفيين ما تبنوا معناه، أن (لا إله إلا الله منهج حياة) هذا الكلام الذي تكلمت عنه. الرجل: قلتم لنا هذا الكلام في بيتنا منذ خمسة وعشرين سنة. الشيخ: ممكن، لكن أنا لا أذكر ما أقول. لكن الرجل له كتاب العدالة الاجتماعية لا قيمة له، لكن كتاب معالم على الطريق له بحوث قيمة جداً. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم

خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم لقد خص النبي عليه الصلاة والسلام بخصائص كثيرة، منها: شفاعته في تخفيف العذاب عن بعض المقبورين، كما في حديث: (أنهما لعيذبان) وكذلك سماع قتلى قليب بدر لخطابه، وكذلك خص بأفعال تبينت خصوصيتها بما عارضها من أقواله، وعليها تجري قاعدة فقهية عظيمة: القول مقدم على الفعل عند التعارض.

توجيه حديث: (إنهما ليعذبان)

توجيه حديث: (إنهما ليعذبان) Q يقول الله عز وجل: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) [الإسراء:44] ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (يستغفر له -الجريدة- ما لم ييبسا) ، عندما وضع الجريدة على القبرين. كيف نوفق بين قوله تعالى والحديث؟ A السائل أخطأ مرتين: المرة الأولى حينما لم يسق لفظ الآية على صوابه، والمرة الأخرى حينما أدخل في الحديث ما ليس فيه، حيث ذكر السائل قوله: يستغفر أو يستغفران، أي: الجريدة، فبالتالي أشكل على السائل الحديث مع الآية، لكنه ليس في الحديث إطلاقاً أنه يستغفر أو يسبح حتى نتوهم التعارض بين الآية وبين الحديث، ولكن فيما يبدو لي أنه قام في ذهن السائل المعنى السائد في أذهان عامة الناس، والقصة الصحيحة المروية في صحيحي البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجريدة من نخيل فشقها شقين، ووضع كل شق على قبر، فقالوا: لماذا يا رسول الله؟ قال: لعل الله أن يخفف عنهما العذاب ما دام الغصنان رطبين) ، فليس في الحديث التسبيح أو عدمه حتى يتعارض مع الآية، ولكن الناس قام في أذهانهم أن سبب تخفيف العذاب عن القبرين إنما هو تسبيح الغصنين ما داما رطبين، فأشكل هذا المعنى الذي هو سائد في أذهان الناس وليس صحيحاً، أشكل على السائل؛ لأن الحديث قيد التخفيف بما دام الغصنان رطبين، فمفهومه أنهما إذا يبسا لم يعودا يسبحان الله، والله تعالى يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] من هنا جاء الإشكال على السائل، لكن الحقيقة أن الحديث لا يعني مطلقاً أن الغصن يسبح، ليس في الحديث ذكر التسبيح، لا تصريحاً ولا تلميحاً، وبعض الناس توهم أن سبب تخفيف العذاب عن المقبورين إنما هو الرطوبة القائمة في الغصنين، فإذا ذهبت ذهب تخفيف العذاب عنهما، فلا إشكال إذاً، فالآية على إطلاقها: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] سواء كان حجراً أو كان شجراً، وسواء كان هذا الشجر رطباً أو كان يابساً، فالآية على إطلاقها، فهنا يرد السؤال: ما السر في تخفيف العذاب عن الرجلين المقبورين؟ وما السر في قوله عليه السلام: (ما لم ييبسا) ؟ الجواب: جاء في حديث آخر، وهذا الحديث الذي سقناه آنفاً هو من حديث ابن عباس في صحيحي البخاري ومسلم، فجاء الحديث في صحيح مسلم وحده من رواية جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الحادثة أو فيما يشبهها لما أمر بوضع الغصن، وسئل عن السبب قال: (إن الله تبارك وتعالى قبل شفاعتي في أن يخفف عنهما العذاب ما دام الغصن رطباً) فإذاً: سبب تخفيف العذاب هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاؤه للمقبور، والرطوبة ليست سبباً لتخفيف العذاب، وإنما علامة لمدة تخفيف العذاب، هذا معنى الحديث تخفيف العذاب سببه شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاؤه للمقبور، والرطوبة القائمة في الغصن هي علامة ما بقيت على تخفيف العذاب، فإذا ما ذهبت هذه الرطوبة وأصبح الغصن يابساً عاد العذاب إلى المقبور. هذا هو السر والسبب في تخفيف العذاب عن الميت في هذا الحديث، وليس السر هو أن الغصن ما دام رطباً يسبح الله وما دام يابساً لا يسبح الله، حين ذاك يتعارض هذا مع الآية، فليس في الحديث شيء من ذلك مطلقاً، فالآية على عمومها وعلى إطلاقها، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] .

إسماع الموتى من خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم

إسماع الموتى من خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم Q حديث قليب بدر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى إلى البئر الذي كان ألقي فيه القتلى من صناديد قريش فناداهم بأسمائهم: (يا فلان بن فلان! إني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ يا فلان بن فلان! ستة عشر شخصاً يناديهم بأسمائهم، يقول عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) . نرجو التوضيح؟ A أنا أرجو من السائل بصورة خاصة والمستمعات بصورة عامة أن ينتبهن لقول عمر؛ لأن هذا هو بيت القصيد إذا أردنا أن نفهم هذه القصة فهماً صحيحاً. عمر يقول: (يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) ما معنى كلام عمر؟ كأنه يريد أن يقول ولكن لا يجرؤ أن يقول إلا بكلام لطيف ولطيف جداً، يقول: يا رسول الله! نحن تعلمنا منك أن الأموات لا يسمعون، أنت الذي أنزل إليك وبلغت ما أنزل عليك: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] فما بالك يا رسول الله! الآن في هذه الساعة تنادي أجساداً لا أرواح فيها؟ فهل قال رسول الله لـ عمر: أخطأت؟ أنا ما قلت لك هكذا، أو ما بلغتك شيئاً من هذا؟ بل أقره على قوله: (إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) ولكنه أجابه وأفهمه شيئاً ما كان عمر ليفهمه لولا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا) كأنه يقول عليه الصلاة والسلام: أنا الذي قلته يا عمر هو حق وصواب، وفعلاً أنا بلغتك أن الموتى لا يسمعون، ولكن الله تبارك وتعالى أحيا هؤلاء حتى سمعوا النداء وفهموا التبكيت والإنكار، ولو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: نعم. إنا وجدنا ما وعدتنا حقاً، ولكن ولات حين مندم، ولات حين مناص! -يقول الرسول-: (ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا) . إذاً: قصة قليب بدر تؤكد ما سبق ذكره من أن الموتى لا يسمعون، ولكن في الوقت نفسه هذه القصة تعطينا تنبيهاً عظيماً، وهو أن المسلم لا يجوز أن يجمد على المعتاد من الأمور، ومن العادات، ومن السنن التي يمكن أن نسميها بالسنن الكونية، أي: إذا كان من سنة الله عز وجل أن الموتى لا يسمعون، فلا ينبغي أن يضيق عقله عن أن يؤمن بأن الله عز وجل قادر على أن يسمع الموتى الذين من طبيعتهم أنهم لا يسمعون، هذه هي الفائدة والنكتة من قصة قليب بدر. أي: إن الله عز وجل قادر على إسماع الموتى الذين عادة لا يسمعون، كما أن الله عز وجل قادر على أن يمكن النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصعد إلى السماوات العلا، حيث لا يستطيع إنسان في الدنيا أن يصعد هذا الصعود؛ لأنه خلاف سنة الكون، فالله عز وجل خلق الإنسان وخلق له قدرات محدودة النطاق، فهو يبصر ويسمع ويمشي ويرفع، ولكن بنسب محدودة، هو ينظر مسافة مثلاً (كم) ، لكن لا يستطيع أن ينظر إلى مائة (كم) فضلاً عن أكثر من ذلك، يرفع خمسين (كجم) مائة (كجم) مائتين (كجم) بعد تمارين عديدة، لكن لا يستطيع أن يرفع ألف (كجم) -مثلاً-؛ لأن هذه حدود الطاقة البشرية التي طبع الله البشر عليها، ولكن الله عز وجل بقدرته يستطيع أن يمكن إنساناً أن يرفع ألف (كجم) باليد الواحدة؛ لأن الله على كل شيء قدير، وعلى هذا جاءت قاعدة معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء هو من باب خرق العادة، أما السنن فلا تساعد على ذلك. كذلك جماعة قليب بدر من الكفار هم على اعتبار الأموات لا يسمعون، ولكن الله أسمعهم، لذلك قالها صريحة أحد رواة هذا الحديث وهو قتادة، حيث قال: [أحياهم الله له عليه السلام] أي: ما سمعوا وهم موتى، وإنما أحياهم الله عز وجل فسمعوا قوله عليه السلام ومناداته إياهم. إذاً: قصة قليب بدر تؤكد أن الموتى لا يسمعون كما قال ربنا تبارك وتعالى. وهنا ملاحظة: ومن الفقه الدقيق لما قال عمر: (يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) وسكت الرسول على ذلك، معناه: أن سكوته إقرار، لكن من جهة أخرى أفهم عمر أن هنا أمراً خارقاً للعادة؛ أي: أن هؤلاء سمعوا مثلما أنتم تسمعون، لكن أنتم أحياء تسمعون بطبيعتكم، فهؤلاء أموات لا يسمعون بطبيعتهم، ولكن الله أحياهم فسمعوا، فخضع عمر. يشبه هذه القصة تماماً من حيث أن الرسول أقر الصحابي على ما قال من الإنكار، ولكن علمه ما لم يكن يعلم، مثل هذا قصة أبي بكر الصديق:، حينما دخل ذات يوم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجىً -مغطى- كأنه نائم، وعنده جاريتان من الأنصار تغنيان، تضربان عليه بدف، فلما دخل أبو بكر الصديق قال: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟!) -ينكر الغناء الصادر من الجاريتين في بيت الرسول، والرسول حاضر- فرفع عليه الصلاة والسلام رأسه وقال: دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) هذا تماماً على ميزان قول عمر، ورد الرسول عليه، فكما أن الرسول ما أنكر على عمر قوله: (إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) كذلك لم ينكر على أبي بكر الصديق قوله: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله) ولكن علمه ما لم يكن يعلم، كأنه عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي بكر: إن هذا الذي تقوله حق، هذا مزمار الشيطان؛ الغناء هو مزمار الشيطان، لكن هنا استثناء بمناسبة العيد، لذلك قال: (دعهما فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) . إذا أردنا أن نأخذ فقهاً من مجموع إنكار عمر وتعليم الرسول إياه، تكون النتيجة: الأموات لا يسمعون إلا إذا أحياهم الله معجزة للنبي فيسمعون. وإذا أردنا أن نأخذ فقهاً من إنكار أبي بكر الصديق وإقرار الرسول لهذا الإنكار، مع تعليمه إياه ما لم يكن يعلم من قبل، نخرج بالنتيجة الآتية: الغناء بالدف مزمار الشيطان إلا في يوم العيد، هذا الاستثناء هو الذي لم يكن يعلمه أبو بكر الصديق من قبل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: قصة قليب بدر لا تنافي حقيقة أن الموتى لا يسمعون.

شرح قاعدة: القول مقدم على الفعل عند التعارض

شرح قاعدة: القول مقدم على الفعل عند التعارض Q عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً كاشفاً عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قالت: يا رسول الله! استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك، فقال: يا عائشة! ألا أستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه) رواه أحمد وذكره البخاري تعليقاً. وعن محمد بن جحش قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: يا معمر! غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة) رواه أحمد، والحاكم والبخاري في تاريخه وعلقه في صحيحه. فهل هناك تعارض بين الحديثين؟ أو هل يُفهم من الحديث الأول أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنه لو كان عورة ما كشفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ A لو لم يكن في الباب الحديث الثاني لكان الحديث الأول يدل على أن فخذ الرجل بالنسبة للرجل ليس بعورة، ولكن ما دام أنه قد جاء هذا الحديث الثاني وأحاديث في معناه كثيرة تصرح بأن الفخذ عورة؛ فحينذاك لا يؤخذ الحكم من الحديث الأول الذي فيه أن الرسول كشف عن فخذه في حضرة أبي بكر وعمر، وإنما يؤخذ الحكم من الحديث الثاني. والسبب: أن هناك قاعدة فقهية تقول: إذا تعارض حديثان، وكان أحدهما من قوله عليه السلام كحديث معمر هذا، والآخر من فعله عليه الصلاة والسلام كحديث عائشة، ففي هذه الحالة يقدم القول على الفعل. هذه قاعدة أصولية من تفقه بها فُتحَ عليه فقه كبير جداً، واستطاع التوفيق بين أحاديث كثيرة، وهي: القول مقدم على الفعل عند التعارض. والقول في ذلك: إن القول الصادر من الرسول عليه السلام الموجه إلى الأمة هو شريعة عامة، أما الفعل الذي يفعله هو فيمكن أن يكون شريعة عامة حينما لا يوجد معارض له، ويمكن أن يكون أمراً خاصاً به عليه الصلاة والسلام. ومن المعلوم أيضاً عند العلماء قولهم: الدليل إذا طرأ عليه الاحتمال سقط به الاستدلال. فهذا الفعل، أي فعله عليه الصلاة والسلام، يمكن أن يكون شريعة عامة، ويمكن أن يكون حكماً خاصاً به عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن يكون هذا الشيء الذي فعله الرسول عليه الصلاة والسلام لعذر، فما دام أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أسباباً كثيرة تجعل هذا الفعل ليس شريعة عامة، وقد جاء قوله عليه السلام بما يخالفه؛ حينذاك القول مقدم على الفعل، ولهذا أمثلة كثيرة جداً. مثلاً: من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواصل الصيام، يواصل صوم النهار مع الليل والليل مع النهار وهكذا، فرآه أصحابه فواصلوا معه الصيام ولم يفطروا، وإنما أربعة وعشرين ساعة، وثمانية وأربعين ساعة وهكذا يتضاعف الرقم، فواصل الصحابة معه حتى ضعفوا! لم يستطيعوا أن يتابعوا الوصال في الصيام، فنهاهم الرسول عليه الصلاة والسلام عن أن يوصلوا الصيام، فقالوا: (يا رسول الله! إنك لتواصل، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) إني لست كهيئتكم؛ لست كمثلكم، عندي طاقة وعندي قدرة ربانية، الله عز وجل يمكنني بها من مواصلة الصيام والاستمرار فيه، وأنتم لستم مثلي، فلا تواصلوا. فهنا نأخذ الحكمة من القاعدة السابقة، أن الرسول عليه السلام قد يفعل الفعل وهو خاص به، فما دام أنه نهى عن شيء وهو فعله فنحن لا نفعله؛ لأن فعله خاص به، وقوله شريعة عامة للمسلمين جميعاً. كذلك من الأمثلة المشهورة عند جميع الناس: أن الرسول عليه السلام مات وتحته تسع نسوة، بينما جاء في الحديث الصحيح: أن رجلاً في الجاهلية كان متزوجاً تسعاً، فلما أسلم جاء إلى الرسول عليه السلام فذكر له ذلك، فقال له: (أمسك منهن أربعاً وطلق سائرهن) ما قال له: أنت متزوج كذا؛ لأنه يعرف أن له خصوصياته. إذاً: إذا اختلف القول من الرسول عليه السلام مع فعله فالقول مقدم على الفعل. فحديث عائشة هنا لا يعارض حديث معمر: (غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة) فهو المعتمد في هذه المسألة، وليس حديث عائشة؛ لأنه فعل من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا يمكن أن يكون قبل تحريم كشف الفخذ، ويمكن أن يكون خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: الاعتماد على قوله عليه السلام في هذه الحادثة وليس على فعله.

حكم من يطلب الصدقة وهو لا يستحقها

حكم من يطلب الصدقة وهو لا يستحقها Q جاء في الحديث: أن الرجل كان يأتي الرسول عليه السلام فيسأله مالاً فيعطيه، فإذا انطلق السائل يتأبط المال قال عليه الصلاة والسلام لمن حوله: (إنه خرج -أو انطلق- يتأبطها ناراً) لماذا؟ A لأنه يسأل وليس له حق السؤال، ومعنى يسأل يشحذ، يأتي يطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام مالاً وهو قوي، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (لا صدقة لغني ولا لذي مرة قوي) لغني واضح، ولذي مرة، أي: قوة، قوي، أي: قوي الخلق، ليس بناقص ولا ضرير ولا مقطوع اليد أو الرجل، فهذا لا صدقة له، ولا يجوز له أن يسأل ولا أن يُتصدق، عليه إلا إذا كان فقيراً أو إذا كان عاجزاً، فحينما كان يأتيه الرجل وهو من هذا النوع، إما أن يكون غنياً أو ذا مرة قوي، ويسأل الرسول عليه الصلاة والسلام فيتحرج عليه الصلاة والسلام من ألا يعطيه، فما يسعه عليه الصلاة والسلام إلا أن يعطيه، ولكن مع ذلك يبين أن هذا السائل الذي أخذ ما أعطاه الرسول إنما يتأبط ناراً، لماذا؟ لأنه سأل ما ليس له حق فيه، فيقول الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام: إذاً: لِمَ تعطيه ما دمت ترى يا رسول الله أن هذا لا يستحق السؤال وبالتالي لا يستحق الإعطاء؟ فلماذا تعطيه؟ في جواب الرسول عليه الصلاة والسلام الآتي بيان أنه عليه الصلاة والسلام له منزلة ومقام يسوغ له من الأحكام ما يختص بها دون سائر الأنام، يقول الرسول عليه السلام: (وماذا أفعل؟ إنهم يسألونني ويكره الله لي البخل) ومعنى هذا: أن مقام النبوة يجب أن تكون بعيدة من أن يقال فيها ما لا يليق بها، ومن ذلك البخل، فلو أن الرسول عليه الصلاة والسلام كلما جاءه سائل من الذين لا يجوز لهم السؤال امتنع من إعطائهم، لنشر هؤلاء بين الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام شحيح وبخيل، بدليل أن فلاناً جاءه وسأله فلم يعطه، وفلان جاءه وسأله فلم يعطه، ومثل هذه الإشاعة التي لها ظواهر قد يقتنع بها بعض الناس، حيث امتنع الرسول من الإعطاء مما لا يناسب مقام النبوة والرسالة؛ ولذلك فكان يترجح عند الرسول عليه الصلاة والسلام ولو كان غنياً، أن يعطي السائل ولو كان مستطيعاً للكسب، حتى لا يقال: إنه شحيح بخيل. ومن هنا نستطيع أن نقول: إن غير الرسول عليه الصلاة والسلام ليس له هذا الحكم، وأعني بهذا: أن المسلم أن أحدنا إذا سأله سائل، جاءه متسول وقال له: أعطني من مال الله، فإذا كان المسئول يعلم أن هذا السائل لا يحق له السؤال، وأنه اتخذ السؤال والشحاتة مهنة فلا ينبغي أن يعطيه؛ لأنه في بإعطائه إياه يساعده على ضلاله، يساعده على اتخاذه السؤال مهنة، والمساعدة على الباطل باطل، والمساعدة على الإثم إثم، كما قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] أما الرسول عليه الصلاة والسلام فله ذلك الحكم خصوصية له من دون الناس، أما نحن فلا يؤثر فينا، ولا تتأخر دعوة الإسلام إذا أشاع الناس بالباطل أن فلاناً بخيل، أما الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو الداعي الأول للإسلام، فقد تتأخر الدعوة بسبب مثل هذه الإشاعة التي تكون قائمة على امتناع الرسول عليه الصلاة والسلام من إعطاء من لا يستحق العطاء. فهذا مثال يساعدنا على فهم هذا العطف في هذا الحديث، ورب متخوض في مال الله ورسوله، فهذا المال الذي أعطاه الرسول هو ماله، ومع ذلك فقد تصرف هذا السائل في هذا المال تصرفاً غير مشروع؛ لأنه أخذه بغير حقه.

هل الخلوة بالنساء من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم؟

هل الخلوة بالنساء من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم؟ Q جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ذهب هو وأبو بكر وعمر إلى حائط أحد الصحابة، فلم يجدوا إلا امرأته، فقالت لهم: (إنه ذهب ليستعذب لنا الماء) فجلسوا حتى أتى فهل هذا الفعل خلوة؟ وهل الخلوة بالمرأة من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم؟ A رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز له أن يخلو مع أية امرأة كانت؛ لأنه قد قال: (ما من رجل إلا ومعه قرينه -يعني شيطان- فلما قالوا له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن الله تبارك وتعالى أعانني عليه فأسلم) روايتان: فأسلم، أي: من شره ووسوسته، والرواية الثانية: فأسلمَ، أي: صار مسلماً، فلا يأمره عليه السلام إلا بخير لا يأمره إلا بخير أمر مقطوع به، على كل من الروايتين، إما أنه أسلم حقيقة فهو لا يأمر النبي عليه الصلاة والسلام إلا بخير، وإما أنه ظل على كفره وضلاله ولكن الله عز وجل عصم نبيه من وسوسته بالشر وإنما هو يأمره بالخير. لذلك كان اختلاء الرجل بالمرأة نهى الشارع الحكيم عن مثل هذه الخلوة، أولاً: من باب سد الذريعة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما اختلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطبق عليه هذا الحكم؛ لأنه إذا خلا مع امرأة لم يكن الشيطان ثالثهما، سواء كان أسلم أو لم يسلم، أما على اعتبار أنه أسلم فالقضية واضحة، إنما هناك مسلمون جماعة ليس معهم شيطان، وعلى رواية: فأسلم، من شره، فهو في حكم المسلم الذي لا يأمره إلا بخير. فإذاً: مثل هذه الخلوة للجماعة في بيت امرأة وهم الصالحون، وزوجها كما سمعتم في الحديث: (ذهب ليستعذب الماء) فهو سرعان ما سيعود، فمثل هذه الظروف لا مانع إطلاقاً من مثل هذا الدخول على المرأة الغريبة. لقواعد أصولية فقهية منها: أنه إذا تعارض القول والفعل قدم القول على الفعل، وهذا هنا ينطبق كما هو واضح. ومنها: إذا جاء نص حاظر مانع محرم، ونص آخر مبيح؛ قدم الحاظر المانع المحرم على المبيح، ومثال هذا أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أكثر من أربع من النساء، لكنه لما جاءه رجل وأسلم وتحته تسع نسوة قال: (أمسك أربعاً منهن وطلق سائرهن) فهذا من هذا الباب، نهى وفعل، ففعله يقع هنا خاص به ونهيه شرع عام لأمته.

حكم كشف الفخذ

حكم كشف الفخذ Q يأتي صاحب كتاب فقه السنة بأحاديث جواز كشف الفخذ، وأحاديث حرمة ذلك. فما الصواب فيها؟ A أحاديث الكشف التي يشير إليها السائل هي أحاديث فعلية، أي: انكشف فخذ الرسول عليه الصلاة والسلام بمناسبة أو أكثر من مناسبة، أما الأحاديث التي تعتبر الفخذ عورة فهي أحاديث قولية، أي: إن الرسول عليه الصلاة والسلام تلفظ فقال -مثلاً-: (الفخذ عورة) فما كان من قوله عليه السلام موجهاً إلى أمته فهو تشريع عام لهم، وما كان من فعله عليه الصلاة والسلام مخالفاً لقوله، لا أقول مطلقاً، وإنما ما كان من فعله عليه الصلاة والسلام مخالفاً لقوله فهناك احتمال من ستة احتمالات: الاحتمال الأول: أن يكون فعله قبل قوله، قوله هنا: (الفخذ عورة) تشريع أن الفخذ عورة فيحرم كشفه، متى كان هذا التشريع؟ قطعاً لم يكن يوم أن قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1-2] ؛ لأنه في هذا الوقت إنما أمر بتبليغ الأمة دعوة التوحيد قبل أي شيء آخر قبل تشريع أحكام الحلال والحرام قبل الحض على مكارم الأخلاق والنهي عن مساويها قبل أي تشريع، إنما هو {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] فلم يكن مثل هذا القول: (الفخذ عورة) في أول الإسلام، وإنما كان بعد ذلك. إذاًَ: نستطيع أن نتصور المسلمين وعلى رأسهم سيدهم، بل سيد الناس أجمعين محمد صلى الله عليه وآله سلم، وهم يفعلون أفعالاً في أول الإسلام تنزهوا عنها بعد ذلك أو بعيد ذلك حسبما شرع الله عز وجل وأنزل، فيوم أُمر بتبليغ الناس التوحيد لم يكن هناك أحكام: هذا حرام وهذا حلال الفخذ كشفه حرام شرب الخمر حرام لبس الحرير حرام، لم تكن هذه الأحكام في أول الإسلام، فإذاً من الممكن حينما روى الصحابي الثقة أن الرسول كشف عن فخذه، قد يمكن أن يكون ذلك قبل أن ينزل عليه هذا الحكم الذي بلغه إلى الناس بقوله: (الفخذ عورة) هذا هو الاحتمال الأول. الاحتمال الثاني: أنه يمكن أن يكون ذلك بعد النهي، أي: بعد قوله: (الفخذ عورة) ولكن يكون هذا خصوصية له عليه الصلاة والسلام، لا يشاركه في ذلك غيره من الناس جميعاً؛ لأن هؤلاء الناس قد خوطبوا بذلك الحكم الشامل لجميعهم: (الفخذ عورة) وفي حديث آخر أنه مر برجل وقد انكشف فخذه فقال له: (خَمِّر، أو غط فخذك فإن الفخذ عورة) . وهناك أمر ثالث: لكن أستدرك الآن على نفسي وأقول: إنه لا ينطبق على مثل هذا الأمر؛ لأنه قد يمكن أن يقال، إذا كان هناك نهي أن النهي للتنزيه، هكذا يجمع أحياناً، فهنا لا مناص من أن يقال: إما أن كشف الرسول عليه الصلاة والسلام لفخذه كان قبل قوله: (الفخذ عورة) وإما أن يكون ذلك خصوصية له لا يشاركه فيها غيره. وذلك مثل تزوجه بأكثر من أربع من النساء، مع أنه قد قال لمن كان عنده أكثر من ذلك من النساء: (أمسك منهن أربعاً وطلق سائرهن) فهذا حكم عام للأمة، أما تزوجه بأكثر من أربع فهو حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. أيضاً حديث: (الفخذ عورة) من المناهي التشريعية مقدم على حديث كشف الرسول عليه السلام لفخذه، لما سبق بيانه.

حكم التضحية عن الغير وكيفية الدعاء فيها

حكم التضحية عن الغير وكيفية الدعاء فيها Q إذا أردت أن أضحي عن الغير، فهل هناك من دعاء خاص؟ A التضحية عن الغير -أولاً- ليست مشروعة بالإطلاق الذي يفهمه عامة الناس، وإنما الذي يضحي عن الغير هو الولد عن أبيه أو أمه، وحينئذٍ ليس هناك دعاء معين، وإنما يقول: اللهم هذا عني وعن أبي، أو هذا عني وعن أمي، أما ذاك الذي جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام فهو أمر خاص يوم أن ضحى فقال: (هذا عني وعمّن لم يضح من أمتي) فهذا يجب أن يفهم وأن يفسر تفسيراً يتفق مع الأحاديث الأخرى، ومع التكاليف الشرعية الأخرى، (اللهم هذا عني وعمّن لم يضح من أمتي) هل يمكن أن نفسر هذا الحديث: وعمّن لم يضح من أمتي وهو قادر على التضحية، وهو ممن يخاطبه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) ؟ لا يمكن، إذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: هذا الكبش عني وعمّن لم يضح من أمتي، فلا يصح حمله حتى على أولئك الأغنياء المترفين الفاسقين، الذين يذبح أحدهم لأتفه مناسبة فتجد عندهم عشرات الأضاحي، ولا يذبح أضحية واحدة بمناسبة عيد الأضحى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) هذا الذي يوعده ويهدده بهذا الوعيد الشديد، فلا يقربن مصلانا، هل يقول: أنا أذبح عنه؟! هكذا الأحاديث يجب أن تجمع بعضها إلى بعض ليفسر بعضها ببعض. فقوله عليه السلام في هذا الحديث: (اللهم هذا عني وعمّن لم يضح) أي: عن العاجزين من أمتي، أما نحن فنذبح فقط عن أنفسنا وعمّن هم سبب حياتنا ووجودنا وهما الأبوان. إذاً: ليس هناك دعاء معين، وإنما فيه مثل التلبية بالحج: اللهم لبيك بعمرة، اللهم لبيك عن فلان، كذلك هنا: اللهم هذا عني وعن أبي أو وعن أمي.

الصوم [2]

الصوم [2] إن من طبيعة الإسلام السماحة واليسر، وهذه الحقيقة تتجلى بوضوح في جميع أحكامه وشرائعه، وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن كيفية إثبات هلال رمضان وبعض المسائل المتعلقة به، مبيناً خلال هذا كيف أن الإسلام يسر هذا الأمر بحيث يشترك فيه جميع الشعوب الإسلامية في أنحاء المعمورة.

ثبوت الصيام برؤية هلال رمضان

ثبوت الصيام برؤية هلال رمضان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. كان آخر حديث مر بنا في الأمس القريب حديث ابن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا ... ) إلى آخر الحديث. هذا الحديث صريح الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربط الأمر في الدخول في شهر رمضان وصيامه برؤية هلاله، فيقول: (إذا رأيتموه فصوموا) ولا شك أن هذه الرؤية هي الرؤية البصرية وليست الرؤية العلمية، ولا يحتاج هذا إلى تدليل؛ لا سيما وقد قال في آخر الحديث: (فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي رواية أخرى: (فأتموا شعبان ثلاثين) فإن غم، أي: كان هناك في السماء غيم أو سحاب أو ضباب أو قتار، أو نحو ذلك من الموانع الطبيعية الكونية التي تمنع الناس عادة من رؤية الهلال بأبصارهم، إذا كان الأمر كذلك فالواجب عليهم أن يتموا شعبان ثلاثين يوماً، سواءً أفطروه أو صاموه.

مسألة: إثبات رؤية هلال رمضان بالرؤية الحسابية

مسألة: إثبات رؤية هلال رمضان بالرؤية الحسابية وهنا يثار عادة بمثل هذه المناسبة المسألة التي كثر الخلاف فيها قديماً وحديثاً، ألا وهي: هل يجوز إثبات هلال رمضان إما بالرؤية البصرية مع الاستعانة بالآلات المكبرة، أو بالرؤية الحسابية؟ هذا خلاف معروف منذ القديم، ولكن اشتد الخلاف في العصر الحاضر بسبب وجود الآلات المقربة والمكبرة، والتي تساعد على رؤية الهلال بالعين العادية ليس بعلم الحساب كالتقويم. والذي نراه أنه يجب على المسلمين أن يظلوا عند ظاهر هذا الحديث، وهو الذي يقتضي إثبات الهلال بالرؤية العادية بدون الاستعانة بالآلات المكبرة، أو بدون الاستعانة بالعمليات الحسابية، والسبب في هذا يعود إلى أمور: أولاً: ظاهر هذا الحديث، حيث يقول عليه السلام: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) . ثانياً: لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أكد هذا الظاهر من هذا الحديث بقوله في حديث آخر، ألا وهو قوله عليه السلام: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) فحكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث على الأمة الإسلامية، بالأمية تبعاً لنبيها الأمي: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف:157] ، فألحق الرسول عليه الصلاة والسلام الأمة الإسلامية ولو كانت في واقعها في كثير من عصورها ليست أمية، ولكن الرسول عليه السلام ألحق الأمة بنبيها من حيث أنه وصفها بأنها أمة أمية لا تكتب ولا تحسب. لذلك فنحن يجب أن نلتزم هذا الوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته، من هذه الحيثية وهي: من حيث أنه ينبغي الاقتصار بإثبات الهلال على الرؤية البصرية العادية والابتعاد عن العلوم الحسابية؛ هذا هو الأمر الثاني الذي يوجب علينا أن نتمسك في إثبات الهلال بالرؤية العينية البصرية العادية. ثالثاً: هو أن الإسلام من طابعه -أيضاً- أنه سمح سهل ميسر مذلل للناس، بينما إذا تركنا هذا الأمر الميسر لكل الناس: (إذا رأيتموه فصوموا) وأردنا أن نلتزم وسيلة من الوسائل التي هي خاصةٌ ببعض الناس، الذين عندهم من الوسائل العلمية التي قد لا تتيسر لكل طائفة أو لكل شعب أو لكل أمة؛ صار الإسلام كأنه ليس ديناً عاماً ميسراً لكل الشعوب مهما كانت ثقافاتها ومدنيتها مختلفة بعضها عن بعض، فلا شك أن هذا الخطاب: (إذا رأيتموه فصوموا) يتوجه إلى كل شعب من الشعوب المسلمة، على ما بين الشعوب من تفاوت في الحضارة والمدنية والثقافة، بينما إذا التزمنا إثبات الهلال بالرؤية المجهرية -مثلاً- بالآلة المكبرة؛ انحصر الإثبات بالدولة التي تمتلك هذه الوسيلة الحديثة، كذلك إذا أردنا أن نثبت الدخول في الصيام بالعمليات الحسابية؛ انحصر أيضاً طريق هذا الإثبات بمن يعلمون علم الحساب الدقيق، وهذا ينافي شمول الإسلام ويسره لجميع الشعوب وفي جميع الأزمان والأماكن. ولا يقال هنا بأن الرؤية المجهرية والعمليات الحسابية دقيقة جداً؛ بحيث أنه لا يبقى هناك مجال للتردد أو للتشكك؛ فإننا نقول: إن الإسلام من يسره أنه قال: إذا رأيتموه -هذه الرؤية الطبيعية التي لا تحتاج إلى تكلف- فصوموا، وسيأتي قريباً -إن شاء الله- أن هذه الرؤية تثبت بشهادة رجل مسلم عدل، وليس بحاجة إلى استحضار شهود كثيرين، وهذا من تمام التيسير لإثبات الهلال، ومع ذلك فهو يقول في آخره: (فإن غم عليكم فأتموا الشهر ثلاثين يوماً) انتهت المشكلة، فما تحتاج القضية إلى كثير من الجدل والمناقشة، ما دام أن الإسلام أقام إثبات هلال رمضان ككل أهلة الشهور الباقية على هذه الرؤية الميسرة لكل إنسان عادي طبيعي، وبمجرد أن يشهد شاهد مسلم على أنه رأى الهلال -كما سيأتي وكما ذكرنا- ثبت الهلال، فإن كان هناك في السماء حائل قد حال بين الرؤية وبالتالي بينه وبين الصيام؛ أتموا الشهر السابق الذي هو شهر شعبان ثلاثين يوماً، فيصبحون في اليوم الذي بعده صائمين قطعاً، فالفرق يبقى بين أن يكون شهر شعبان تسعة وعشرين يوماً أو يكون ثلاثين يوماً. حتى لو فرضنا أن الواقع الآتي: كان هناك في السحاب غمام، -غمام شفاف- بحيث أنه يحول بين الرائي بالعين المجردة وبين رؤية هذا الهلال، لكن إذا سلط الآلة المكبرة -المجهر- أزال ذلك السحاب الشفاف فرأى الهلال من ورائه، فحينما اعتمدنا على العين المجردة ماذا أصابنا من الناحية الشرعية؟ لا شيء: (فإن غم عليكم فأتموا الشهر ثلاثين) ما نكون قد خسرنا شيئاً من الناحية الشرعية؛ لأن الشرع لا يحاسب ولا يدقق مع المسلمين، بحيث أنه لو ثبت فيما بعد بطريقة ما أن الهلال كان ظاهراً لكنه لم يُرَ بسبب ذلك السحاب، ماذا يضرنا؟ قد قال: (فإن غم عليكم فأتموا الشهر ثلاثين) إذا ما أصبحنا في هذا اليوم صائمين، وقد رئي -مثلاً- الهلال بالآلة المكبرة لكنه لم ير بالعين المجردة؛ لم يضرنا ذلك شيئاً إطلاقاً؛ لأننا ما بين أن نراه بأعيننا العادية فنصوم أو لا نراه فنتم الشهر ثلاثين يوماً، وقد فعلنا أحد الأمرين حينما حاولنا أن نراه بالعين المجردة. لذلك فأنا في اعتقادي: بأنه لا ضرورة ملحة لجعل المسلمين في العالم الإسلامي اليوم يستعيضون عن النظرة العادية بالنظرة العلمية؛ سواءً كانت بالآلة المكبرة أو كانت بالعملية الحسابية، ونحن نعتقد أن الإسلام لا يزال ينتشر في الأرض انتشاراً بالغاً، وفي الوقت نفسه نعتقد أن الأماكن التي ينتشر فيها الإسلام لا يوجد فيها شيء من هذه الآلات ومن هذه الوسائل العلمية، وسيظل هذا الحكم سائراً: (إذا رأيتموه) سائراً إلى الأبد ما وجد الإسلام على وجه الأرض، وحينئذٍ فالأولى بالمسلمين أن يوحدوا الوسيلة التي بها يثبتون هلال شعبان أو هلال رمضان ولا يختلفوا في هذه الوسائل ما دام أن الشارع وحد الوسيلة بمثل هذا الحديث: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) . هذا ما كان بقي عليّ من الكلام حول هذا الحديث.

كيفية إثبات هلال رمضان

كيفية إثبات هلال رمضان الآن حديثنا هو الحديث الخامس، وفيه بيان كيف يثبت هلال رمضان، هل يحتاج الأمر إلى عديد من الشهود، أم يكتفى على ذلك بشاهد واحد عدل؟

حديث عبد الله بن عمر في إثبات رؤية الهلال

حديث عبد الله بن عمر في إثبات رؤية الهلال يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان، وهذا الحديث في الواقع من الأحاديث الصحيحة، وقد صححه من ذكر المصنف وهم الحاكم وابن حبان، ولكن لعل الأولى كان من الناحية الحديثية والاصطلاحية تقديم ابن حبان في الذكر على الحاكم؛ لأنه قال: رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان، فلو عكس وقال: رواه أبو داود، وصححه ابن حبان والحاكم لكان أقرب إلى الاصطلاح الحديثي من ناحيتين اثنتين: الناحية الأولى: أن ابن حبان أعلى طبقة، أي أقدم من الحاكم من حيث العصر. والناحية الأخرى: أن تصحيح ابن حبان على ما فيه من تساهل -ذكرناه في الدرس السابق- ومع ذلك فلا يزال تصحيحه أنظف من تصحيح الحاكم؛ لأن الحاكم يقال في تصحيحه ما قلناه بالأمس في تصحيح ابن حبان وزيادة في آخر: وهو أن الحاكم لا يصحح الأحاديث التي في أسانيدها من لا يعرف فقط، بل إنه يتعدى ذلك إلى أنه يصحح بعض الأحاديث وفي أسانيدها من هو متهم بالكذب والوضع في الحديث على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مما لا يقع فيه ابن حبان، ولذلك من المقطوع به عند أهل العلم بالحديث أن الحاكم أشد تساهلاً في التصحيح من ابن حبان، وأن صحيح ابن حبان أنظف من صحيح مستدرك الحاكم أولاً: لما ذكرنا من علو ابن حبان في الطبقة. ثانياً: لأن تساهله في التصحيح أقل من تساهل الحاكم. فقد كان الأولى أن يقدم ابن حبان في الذكر على الحاكم فيقول: رواه أبو داود؛ وصححه ابن حبان والحاكم. وهذا الحديث في الواقع إسناده صحيح، وفيه -كما هو واضح- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت هلال رمضان برؤية رجل واحد ألا وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فكان في هذا الحديث دلالة إلى المذهب الذي يقتصر في إثبات هلال رمضان على شاهد واحد، والمسألة خلافية بين الفقهاء فمنهم من يقول بما دل عليه هذا الحديث، ومنهم من يوجب أن يشهد اثنان فصاعداً، ومنهم من لا يقتصر بشاهدين اثنين، وإنما يوجب جماعة تحصل القناعة بصدقهم في رؤيتهم للهلال. ونحن نقول: إن هذا الحديث يعتبر أصلاً في الاكتفاء بالشاهد الواحد لإثبات هلال رمضان، ولكن الناس يختلفون من حيث التساهل في الإخبار بما رأوا، والتشدد فيما رأوا، وحتى في الصدق، فهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، فالأمر حينذاك يعود إلى القاضي الشرعي الذي أُنيط به إثبات هلال رمضان، فإذا جاءه شاهد وهو يعرفه جيداً، ويعلم أنه صادق، وأنه كيِّس فطن، وليس من الناس المغفلين الذين قد يقول أحدهم أنه رأى الهلال والواقع أنه رأى شعرة من حاجبه بينه وبين الأفق فتوهمها هلالاً، فإذا جاء إلى القاضي رجل مسلم يعرف صدقه ويعرف نباهته ويقظته؛ فيجوز له شرعاً أن يثبت هلال رمضان بمجرد شهادة هذا المسلم الواعي. أما إذا لم يطمئن لخبره فتشدد وأراد شاهداً ثانياً أو ثالثاً، على حسب الأشخاص الذين يأتون ويشهدون عنده؛ فلا مانع من ذلك حتى لا يشتبه الأمر ويثبت هلال رمضان والواقع أنه لم يثبت؛ لأنه لم يأت عنده شاهد يثق بشهادته، ونحن نعلم اليوم أن هناك عند القضاة -كما كان الأمر منذ القديم- جماعة يُعرفون بالمزكين، يزكون الناس أتعرف فلاناً؟ إي والله أعرفه. وماذا عرفت عنه؟ معرفة سطحية جداً، فلا شك أن القاضي الحريص على إثبات شهر الصيام بطريقة مرضية مطمئنة لا يطمع بمجرد أن يقول أحدهم: فلان هذا أعرفه، رجل صادق. إلا أن يتمكن هو من معرفته بطريقته الخاصة التي يقتنع بها هو. خلاصة القول: إن هذا الحديث يدل على أن الأصل في إثبات هلال رمضان يكفي فيه الشاهد الواحد، ولكن ينبغي أن يكون هذا الشاهد معروفاً عند الوالي المسئول الذي يعلم إثبات هلال رمضان اعتماداً منه على هذا الشاهد الواحد. وقد سمعتم أن الذي رأى الهلال في هذا الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو صحابي ابن صحابي، وهو معروف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمام المعرفة؛ فلا جرم أنه عليه الصلاة والسلام اعتمد على خبره برؤيته لهلال رمضان، وأثبت بناءً عليه شهر الصيام، لكن ليس كذلك هؤلاء الشهود الذين يشهدون في هذه الأيام؛ لا سيما إذا أردنا أن نطبق شروط المسلمين العدول المنصوص عليها في كتب الفقه، وبعضها بلا شك صواب لا ريب فيه، فإننا لا نستطيع اليوم أن نثبت هلال رمضان إلا بواسطة أفراد قليلين جداً، ولنذكر على ذلك مثلاً نضربه ونحن -كما يقال- نرمي بذلك عصفورين بحجر واحد لقد جاء في كتب الأحناف التنصيص بأن الذي يحلق لحيته لا تقبل شهادته، فهل الحُكام اليوم إذا جاءهم مخبر بإثبات هلال رمضان وهو حليق يقبلون شهادته أم لا يقبلون؟ يقبلون، بينما المنصوص عليه أن هذا لا يقبل شهادته؛ والسبب في ذلك أن حلق اللحية معصية، وهذه المعصية باتفاق الأئمة الأربعة، لا فرق بين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فكلهم متفقون على أن حلق اللحية معصية؛ لأن في ذلك ارتكاباً لمخالفات عديدة ثابتة في السنة، يكفي في ذلك مثلاً قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (حفوا الشوارب وأعفوا اللحى، وخالفوا اليهود والنصارى) اليهود والنصارى يحلقون لحاهم فأنتم خالفوهم، الذين يقتلون المسلمين اليوم. ولا مؤاخذة من الحاضرين المبتلين بهذه المعصية، فإن الدين النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة! قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم) فنحن من عامة المسلمين يجب على أحدنا أن ينصح الآخرين؛ لأن الدين النصيحة كما سمعتم، لذلك فحلق اللحية معصية باتفاق الأئمة الأربعة، ونص الحنفية فيما علمت وقد يكون آخرون نصوا على ذلك: بأن من حلق لحيته لا تقبل شهادته. أما الآن فقد أصبح حلق اللحية أمراً عادياً، وعلى العكس من ذلك أصبح الذي يوفر لحيته موضع نظر غريب جداً من جماهير الناس وكأنه متوحش، وكأنه -كما يقولون اليوم- رجعي، ولا يحسون أبداً أن إعفاء اللحية هو من أمور الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذلك كان الأنبياء جميعاً وبخاصة آخرهم محمد عليه الصلاة والسلام -كانوا ذوي لحى، ففي القرآن الكريم: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ} [طه:94] إلى آخر الآية، فهارون عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء كانوا محافظين على هذه الفطرة، فجماهير المسلمين اليوم بسبب غلبة العادات الغربية، حينما غزا الأوروبيون بلاد الإسلام بأبدانهم وبعاداتهم؛ انتشرت هذه العادات الفاجرة الفاسقة، وطبع بها جماهير المسلمين إلا القليل منهم ممن هداهم الله عز وجل، يعرفون أن نبيهم وأن أسوتهم الوحيدة كان ذا لحية جميلة، وأن هذا النبي الكريم أمرهم بأن يعفوا لحاهم ولا يتشبهوا بالكفار. لما أصبح أكثر الناس اليوم مبتلين بحلق اللحية رأى هؤلاء الحكام أن يتساهلوا في الموضوع، وأن يقبلوا شهادة حليق اللحية، وأريد من هذا المثال أن أقول: إن هناك تساهلاً في تعديل الشهود، ولذلك فإذا تثبت الحاكم ولم يقتصر في إثبات هلال رمضان على شهادة مسلم واحد فلا مانع من ذلك؛ لأن هذا المسلم سوف لا يكون مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب من حيث إيمانه وصدقه ويقظته ونباهته من جهة، ومن جهة أخرى: فسوف لا يكون هذا الشاهد في الغالب معروفاً عند الحاكم كما كان عبد الله بن عمر معروفاً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم. خلاصة القول: يجب على القاضي الذي يريد إثبات هلال رمضان أن يتثبت في إثبات هذا الهلال، فإن جاءه رجل يعرفه معرفة جيدة وهو مسلم عدل أثبته بشهادة هذا المسلم الواحد، كما يدل عليه هذا الحديث الصحيح.

حديث الأعرابي في إثبات رؤية الهلال

حديث الأعرابي في إثبات رؤية الهلال ساق بعده المصنف حديثاً آخر قد يكون بمعنى الحديث الأول، ولكننا إذا أمعنا النظر فيه وجدنا فيه تبايناً بينه وبين الأول من حيث الدلالة، ألا وهو قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت الهلال) هذا أول تباين واختلاف بين الرواية السابقة وبين هذه الرواية، هناك كان الذي شهد ابن عمر صحابي ابن صحابي، والشاهد هنا أعرابي جاء من البادية لا يعرفه الرسول عليه السلام، ولذلك قال في الحديث -أي: الرسول- للأعرابي: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً) ، رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ورجح النسائي إرساله. هذا الحديث بعد أن عرفتم أن بينه وبين الحديث السابق تباين في الدلالة، بمعنى: أن في هذا توسيع قبول شهادة الشاهد أكثر من الحديث الأول؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام -إن صح الحديث، وسأتكلم عن صحته قريباً إن شاء الله- قنع من هذا الأعرابي الذي لم يعرفه سابقاً، قال له: أنت مسلم؟ قال: نعم. ما دليل إسلامك؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أيضاً أني رسول الله؟ قال: أشهد أنك رسول الله. إذاً: أمر بلالاً بأن يؤذن، أي: يعلن في الناس أن يصوموا غداً، فقنع الرسول عليه السلام من هذا الرجل الذي لا يعرفه بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بمعنى: أنه عرف أنه مسلم، لكنه ما جربه ولا عرف ذكاءه وفطنته وكياسته، كما كان الأمر بالنسبة للحديث الأول الذي فيه أن الشاهد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومع ذلك قبِل شهادته، فهذا فيه تيسير واسع، ومعنى هذا أن القاضي يقنع بظاهر الشاهد دون أن يأتي بمزكين يعرفونه كما جرى على ذلك عرف القضاة قديماً، يكتفي منه بأن يعرف إسلامه، هذا أعرابي ما يعرفه سابقاً عليه الصلاة والسلام فاكتفى أن يشهد أمامه بالشهادتين، فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا، وبناءً على شهادته وإسلامه قال: يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غداً.

مدى صحة حديث الأعرابي

مدى صحة حديث الأعرابي ولكن هل هذا الحديث صحيح؟ لقد ذكر المصنف أن فيه خلافاً بين علماء الحديث، وصرح بأن بعضهم صححه وهو الحافظ ابن خزيمة وتلميذه ابن حبان، لكن أتبع ذلك بأن الإمام النقّاد الحافظ أبا عبد الرحمن النسائي رجح إرساله، ومعنى هذا الكلام: أن الحديث روي عن ابن عباس من طريق عكرمة عنه، فبعض الرواة رواه هكذا موصولاً عن عكرمة عن ابن عباس أن أعرابياً إلى آخره، ورواة آخرون أرسلوه، بمعنى: أنهم لم يذكروا في إسناده ابن عباس وإنما قالوا: عن عكرمة أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعكرمة تابعي لم يدرك عصر النبوة والرسالة، فهو حينما يقول: جاء أعرابي إلى الرسول، يكون هناك فجوة وانقطاع بينه وبين هذا الحديث الذي يحدث به، فهذا الحديث يسمى على الغالب بالحديث المرسل، ويعبر عنه أحياناً بأنه منقطع، والتعبير الأول أدق. وبعض الرواة قالوا: عن عكرمة عن ابن عباس، فهو موصول، وبعض الرواة قالوا: عن عكرمة أن أعرابياً. لم يذكر هؤلاء الرواة بين عكرمة وبين النبي عليه الصلاة والسلام ابن عباس تُرى ما هو الراجح من هاتين الروايتين؟ الرواية الموصولة أم الرواية المرسلة؟ رجح الإمام النسائي الرواية المرسلة، وهذا الترجيح من الحافظ النسائي هو الراجح الواقع من ناحيتين اثنتين: الناحية الأولى: لما عرف من دقة نقد الإمام النسائي للأسانيد، يقابله ما عرف من تساهل ابن خزيمة وابن حبان في التصحيح، فإذا تقابل تصحيح ابن خزيمة وابن حبان مع طعن أو إعلال مثل الإمام النسائي دون أن نعرف نحن في الحقيقة الواقعة؛ فلا شك أن النفس تطمئن إلى ما ذهب إليه النسائي أكثر مما ذهب إليه ابن خزيمة أو ابن حبان؛ لأن ابن خزيمة وابن حبان متساهلان في التصحيح، أما النسائي فإمام نقاد، فإذا رجح الحديث المرسل فيكون هو الصواب. هذا من حيث المقابلة والمفاضلة بين الأئمة النقاد، لكن انضم إلى هذا أيضاً فيما بقي في ذهني من دراسة إسناد هذا الحديث: أن الدراسة العلمية تؤيد ما رجحه الإمام النسائي من أن هذا الحديث مرسل، وإذ كان الأمر كذلك فهل هناك تنافٍ وتنافر وتضاد بين تصحيح ابن خزيمة وابن حبان لهذا الحديث وبين إعلال النسائي له بالإرسال؟ A نعم؛ لأنه من المعلوم عند العلماء بمصطلح الحديث: أن الحديث المرسل هو قسم من أقسام الحديث الضعيف، فإذا قيل: الحديث الفلاني مرسل، فذلك يساوي عندهم (حديث ضعيف) ، ولا شك حين ذاك أن حديثاً ضعيفاً يباين قول من قال: إنه حديث صحيح، فهذا معنى قول الحافظ ابن حجر معقباً على ما نقله من تصحيح ابن خزيمة وابن حبان للحديث بقوله: ورجح النسائي إرساله. يعني: أن الراجح أن الحديث ضعيف وعلته الإرسال.

مسألة: قبول زيادة الثقة

مسألة: قبول زيادة الثقة هاهنا مسألة حديثية فيها دقة، وكثير من المشتغلين بعلم الحديث اليوم لا يتنبهون لها لدقتها، وهي: إذا كان هذا الحديث قد رواه بعض الرواة موصولاً، أي: عن عكرمة عن ابن عباس، والبعض الآخر رووه عن عكرمة دون ذكر ابن عباس، فهنا قاعدة تذكر بمثل هذه المناسبة: أن الذي ذكر ابن عباس قد جاء بزيادة بالسند على الذي لم يذكر فيه ابن عباس -على الذي أرسله- ومن المعلوم عند علماء الحديث: أن زيادة الثقة مقبولة، فلماذا رفضت هذه الزيادة من هنا في هذا الحديث وصرح الحافظ نقلاً عن النسائي أن الراجح الإرسال؟ لماذا لم يقبل قول من قال: عن عكرمة عن ابن عباس، وهذه زيادة؟ A إن قاعدة (زيادة الثقة مقبولة) ليست على إطلاقها، وهنا موضع الدقة، زيادة الثقة تقبل حينما يكون الذي جاء بالزيادة إما مثل الذي لم يأت بها أو خيراً منه. أما إذا كان الذي جاء بالزيادة فردٌ، والذين لم يأتوا بالزيادة جماعةٌ؛ فهنا لا ترد هذه القاعدة، وزيادة الثقة مقبولة ولا ترد هنا، وإنما هنا يرد أن هذه الزيادة شاذة؛ لأن الحديث الشاذ: هو أن يروي الثقة ما خالف فيه غيره من الثقات، أو على الأقل خالف فيه من هو أوثق منه، حين ذاك الزيادة لا تُقبل، إنما تُقبل زيادة الثقة إذا كان الزائد مثل الذي لم يزد أو أحفظ منه، أما إذا كان الزائد دون الذي لم يزد في الضبط والحفظ، أو أقل عدداً من الذين لم يأتوا بالزيادة؛ حينئذٍ الزيادة يحكم عليها بالشذوذ، ولا يقال فيها: زيادة الثقة مقبولة؛ ولهذا نجد كثيراً من الأحاديث إذا دُرست بالنظر إلى طريق رجال إسناده كلهم ثقات وهو متصل، إذا دُرس هذا السند بالذات قيل: إنه إسناد صحيح، ولكن إذا ما نظر إلى هذا الإسناد من طرق أخرى انكشف لنا أن الطريق الأول فيه راوٍ ثقة خالف فيه جماعة من الثقات، هذه المخالفة حين ذاك تجعلنا نغير نظرتنا السابقة. أعيد الكلام يأتي الحديث أحياناً من طريق ثقة من الثقات بسند صحيح إليه، وهذا الثقة يرويه أيضاً بإسناد صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال في هذا السند: إسناده صحيح. ولكن الثقة الذي دارت طرق الحديث عليه -اختلف الرواة عليه- فالإسناد الأول جاء عنه بإسناد صحيح -كما قلنا- ثم جاءت أسانيد أخرى وإذا بهذه الأسانيد الأخرى تبين أن في الإسناد الأول علة، ويمكن هذا التصوير من صور كثيرة جداً، ولنقل مثلاً: الإمام الزهري وهو أشهر من أن يذكر، يروي كثيراً عن سعيد بن المسيب، وهو يروي عن أبي هريرة، فيأتي ثقة يروي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، فماذا يكون هذا الإسناد؟ يكون صحيحاً، ولكن لما يتسع الباحث في دراسة هذا الحديث بهذا الإسناد، وإذا به يجد ثقاة آخرين شاركوا الثقة الأول في رواية الحديث عن الزهري لكن خالفوه في الإسناد، فقالوا مثلاً: عن الزهري عن سعيد المسيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لم يذكروا أبا هريرة، فهل يقال هنا أو هل نظل نقول: إن الحديث إسناده صحيح باعتبار أن الثقة الأول رواه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة وزيادة الثقة مقبولة؟ أم نقول: لا. هذا الثقة الذي زاد في السند وذكر فيه أبا هريرة قد خالف الثقات الذين رووه جميعاً عن الزهري عن سعيد مرسلاً؟ يقال: نعم. رواية الثقات هنا هي الراجحة، فيكون الحديث معللاً بالإرسال. هذا هو واقع حديث ابن عباس، فحديث ابن عباس مداره على عكرمة عن ابن عباس، رواه الثقة، وجاء الآخرون فرووه عن عكرمة مرسلاً، من أجل ذلك رجح الإمام النسائي إرساله. وبعد معرفة أن هذا الحديث ضعيف بعلة الإرسال؛ حينئذ يظهر لنا الفرق بين دلالة الحديث الأول الصحيح وبين دلالة الحديث الآخر الضعيف، فإن الأول يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة عبد الله بن عمر المعروف عنده بالعدالة والصدق والضبط ونحو ذلك، بينما الحديث الثاني قبل شهادة الأعرابي الذي لم يعرف إسلامه إلا ساعة الشهادة، فهذا فيه تساهل كبير، فلو أن الحديث صح كان سيعطينا حكماً زائداً على الحديث الأول، لذلك فنحن لا نبني عليه حكماً، وإنما نقتصر في استنباط الحكم السابق من الحديث المتقدم من رواية ابن عمر رضي الله عنه.

تبييت النية في صيام الفرض

تبييت النية في صيام الفرض هنا حديث ثانٍ فيه بيان وجوب ما يعرف عند الفقهاء بتبييت النية لصوم الفرض وبخاصة صوم رمضان، لابد كل ليلة من تبييت النية، وهو قوله: وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه الخمسة. وفي هذا الحديث ما يشبه الكلام السابق، لكن الترجيح على خلاف ذلك؛ لأن الحافظ يقول: رواه الخمسة، وقد عرفنا من الدرس السابق أن المقصود من الخمسة من هم؟ أصحاب السنن الأربعة، والإمام أحمد هو الخامس، بينما في اصطلاح آخر رواه الخمسة: مسلم وأصحاب السنن الأربعة، هذا مصطلح المنتقى. رواه الخمسة -أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد - قال الحافظ: ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه على حفصة، وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان، وللدارقطني: (لا صيام لمن لم يفرضه من الليل) . هنا يتكلم الشارح طويلاً في اختلاف الأئمة، في رفع الحديث ووقفه، وهناك كان الخلاف في وصل الحديث وإرساله، أما هنا فاختلفوا في وقفه ورفعه، فبعض الرواة قال: عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواة آخرون قالوا: عن حفصة قالت. أي: حديث موقوف عليها لم ترفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فاختلف علماء الحديث وكل وما بدا له، ويؤيد المصنف قول من رجح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه قد أخرجه الطبراني من طريق أخرى -أي: مرفوعاً- فهذه الطريق الأخرى هي التي ترجح قول من رجح رفعه، وتجعل قول من رجح وقفه مرجوحاً، لكن هذا الحديث لم يذكر فيه الرسول عليه السلام رمضان، بل أطلق فقال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) ونحن قلنا في التمهيد لهذا الحديث: أنه من لم يبيت النية في صيام الفرض وبخاصة في شهر رمضان. فمن أين جئنا بهذا القيد؟ هذا القيد جيء بالتوفيق بين هذا النص وبين حديث آخر رواه الإمام مسلم وغيره من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على بعض نسائه غداة يوم فقال: (هل عندكم من طعام؟ قالوا: لا. فقال عليه الصلاة والسلام: إني إذن صائم) فأنشأ النية في تلك اللحظة، وهنا معناه صراحة أنه ما بيت النية من الليل؛ لأنه كان يريد أن يأكل، لكنه لما لم يجد عليه الصلاة والسلام طعاماً يتغدى به اغتنمها فرصة، ما دام أنه سيعيش النهار بدون طعام فجعلها صياماً لوجه الله تبارك وتعالى، فقال: (إني إذن صائم) . من هنا فرق جماهير العلماء بين صوم الفرض هل يجب فيه تبييت النية لكل ليلة؟ وبين صوم التطوع فلا يجب فيه التبييت وإنما يجوز إنشاؤه ضحوة، وهذا هو الأصح من مذاهب العلماء، وهو مذهب الإمام الشافعي، أما الأحناف فاقتصروا على القول بأنه يكفي أن ينوي لشهر رمضان كله نية واحدة، أول ما يدخل في أول ليلة من شهر رمضان فيكفي ذلك عن شهر الصيام كله بنية واحدة، لكن في هذا ما علمتم من الإهدار والإهمال لحديث حفصة أم المؤمنين.

حكم التلفظ بالنية

حكم التلفظ بالنية النيات في كل العبادات مقرها القلب، ويجب أن يعرف هذا كل مسلم يهمه اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما اعتاده جماهير المسلمين اليوم وقبل اليوم، وما تقرر في بعض الكتب الفقهية من أن التلفظ بالنية سنة، منهم من يقول: سنة مستحبة، ومنهم من يقول في بعض الحواشي والشروح تفسيراً لقول الماتن تحت عنوان سنن الصلاة؛ فيعد أول ما يعد: التلفظ بالنية، ويأتي المحققون والباحثون فلا يجدون في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام التلفظ بنية الصلاة مطلقاً، فماذا يفعلون بقول هذا المؤلف وهو إمام من أئمة المذهب، أو عالم من علماء المذهب، وقد حشر التلفظ بالنية تحت عنوان: سنن الصلاة؟ يضطرون أن يسلكوا طريق التأويل. وذلك بلا شك ألطف من التخطئة الصحيحة المكشوفة من حيث تأدب بعضهم مع بعض، وإن كنا نحن نرى أن هذا وإن كان جميلاً من ناحية لكنه ليس جميلاً من ناحية أخرى، ألا وهو الصدع بالحق؛ لأن بعضهم يقول في تفسير قوله: "سُنة" يعني: سنة المشايخ، هذا التأويل في فهمي أنا للموضوع مثل المثل العامي الذي يقول: (كنا تحت المطر وصرنا تحت المزراب) . يعني: كنا في خطأ نسبة هذا الأمر إلى الرسول عليه السلام؛ أن من السنة التلفظ بالنية، هذا خطأ لكنه خطأ جزئي، لكن هذا التأويل الذي هو أشبه بالترقيع فتح لنا باباً كبيراً جداً، وهو أن هناك سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهناك سنة المشايخ. وهل المشايخ كذلك يسننون للناس؟ هذا لا يجوز، وهذا من شؤم التأويل وعدم المصارحة بالحق، وكان بالإمكان أن يقول -هذا الشارح أو ذاك المحشي-: "لم يثبت" كما يقول ابن القيم في زاد المعاد وغيره: لم يثبت عن الرسول عليه السلام ولا عن السلف ولا عن الأئمة الأربعة أن التلفظ بالنية سنة. وانتهت المشكلة، ومن ذا الذي لا يخطئ -أبى الله أن يتم إلا كتابه- ولذلك التلفظ بالنية في كل الطاعات والعبادات من البدع الدخيلة في الدين، فإذا قمت تصلي فلا تقل: نويت أن أصلي لله تعالى أربع ركعات، أو ثلاث ركعات (مقتدياً، منفرداً، إماماً) هذا كله من لغو الكلام، لا سيما وأنت تباشر به رب العالمين، وتقف بين يديه فتعبر له عن نيتك وهو يعلم السر وأخفى، وإنما يجب أن تفتتح عبادتك وصلاتك بـ (الله أكبر) وقد جاء في صحيح مسلم من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستفتح صلاته بالتكبير) ونحن بهذا نستفتح صلاتنا بالبدعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) . وبهذه المناسبة أريد أن أذكر: لقد قرأت آنفاً في كتاب لبعض إخواننا يقول في بعض البدع: إن أقل ما يقال في هذه البدعة أنها خلاف الأولى. وأنا الآن لا أستحضر هذه البدعة، وأنا لا أرى لإخواننا السلفيين أن يتهاونوا في التعبير عن أية بدعة مهما كانت في الظاهر أنها سهلة وأنها لا خطورة فيها، لا أرى أن يقولوا فيها: إنه خلاف الأولى؛ لأن الرسول يقول: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) . وهذا تعميم لم يدخله تخصيص، صحيح أن الضلالات ليست بنسبة واحدة لكن أقل واحدة منها هي ضلالة، والضلالة لا يقال أنها خلاف الأولى، لذلك هذا التلفظ بالنية الذي نفتتح به الصلاة إنما نفتتح الصلاة بضلالة، بينما كان الواجب علينا أن نفتتح الصلاة بتكبير الله عز وجل. كذلك الصيام الذي نحن بصدده الآن، وأنه يجب تبييت النية في الفرض في رمضان، ليس معنى تبييت النية أن يقول القائل بلفظه وبقلبه: نويت أن أصوم غداً لله تعالى، لا. قل في قلبك فقط، استحضر نفسك أنك صائم، واستحضر أنك غداً عازم على الصيام، هذه هي النية. كذلك في الوضوء لا يقول القائل: نويت رفع الحدث الأصغر، وفي الجنابة: نويت رفع الحدث الأكبر، هذا كله كلام هراء، لمن تقول هذا الكلام؟ لنفسك؟ فأنت تعرف ما في نفسك. لربك؟ هو أعرف منك بنفسك إذاً اتباعاً لنبيك؟ نبيك لم يكن على شيء من هذا إطلاقاً، فكان التلفظ بالنية في كل مجالات العبادات أمر ما أنزل الله به من سلطان. وكذا في الحج أيضاً -وهذا قد يخفى على بعض من الناس- في الحج يذكر في كتب المناسك: نويت الحج والعمرة لله؛ فهذا من هذا الباب لا يصح أن يقول نويت إطلاقاً، وإنما تلبي: لبيك اللهم بعمرة، لبيك اللهم بحجةٍ وعمرة، على حسب نيتك أما أن تقول: نويت؛ فهذا كلام لغو، إنما تقول: لبيك اللهم بعمرة، لبيك اللهم بحجة وعمرة، حسبما عزمت عليه من الحج أو العمرة. إذاً: هذا الحديث الصحيح فيه دلالة على فرضية تبييت النية في الصيام، ولكن هذا الحديث مخصص لصيام رمضان والفرض كالنذر مثلاً، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو أول درسنا الآتي إن شاء الله تعالى، وبهذا القدر كفاية، والحمد لله رب العالمين.

الصوم [1]

الصوم [1] إن الله سبحانه وتعالى فرض علينا الصيام في أيام معلومات، وبين لنا أحكامه في كتابه العزيز، ثم جاءت السنة المطهرة متممة ومبينة لهذه الأحكام، وفي هذه المادة يستعرض الشيخ رحمه الله طائفة من أحاديث الصيام من كتاب بلوغ المرام، معلقاً عليها بالشرح ومناقشة المسائل والأحكام الفقهية فيها.

حكم تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين

حكم تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. بما أننا قادمون على شهر الصيام شهر رمضان المبارك -إن شاء الله تعالى- رأينا أن نغتنم هذه المناسبة من هذا الاجتماع وأن نقرأ عليكم، ونبين لكم بعض الأحاديث التي وردت في كتاب الصيام من كتاب بلوغ المرام من أحاديث الأحكام، للحافظ/ أحمد بن حجر العسقلاني. قال رحمه الله: كتاب الصيام. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) متفق عليه. في هذا الحديث نهي صريح عن التقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو أكثر من يوم، وهذا من باب المحافظة على المقدار المطلوب من الصيام، ذلك هو شهر رمضان، ولا يجوز لمسلم أن يزيد على رمضان، سواءً في التقدم أو في التأخر يوماً أو يومين.

حكم الزيادة على العبادة المفروضة

حكم الزيادة على العبادة المفروضة وهذا الحديث في الواقع وإن كان جاء خاصاً في النهي عن التقدم وعن وصل أيام من شهر شعبان بشهر رمضان، إلا أن فيه تلميحاً قوياً إلى أنه لا يجوز الزيادة على العبادة المفروضة. هذا حكم صريح في النهي عن أن يتقدم الرجل بصوم يوم أو يومين بين يدي رمضان. ويدخل في هذا -بلا شك- صوم يوم الشك كما سيأتي في الحديث التالي، فهذا النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين يؤكد وجوب المحافظة على العبادة كما شُرعت بدون زيادة أو نقص، فالذي فرضه الله عز وجل على عباده المؤمنين إنما هو صوم شهر رمضان، قد يكون تارة ثلاثين يوماً، وقد يكون تارة تسعة وعشرين يوماً، فلا يجوز أن يتقدم بصوم يوم أو يومين؛ خشية أن يصبح رمضان أكثر من ثلاثين يوماً مع مضي الزمن، ومضي العهد بالمسلمين عن العلم بالكتاب والسنة. فأقول: في الوقت الذي ينهى هذا الحديث نهياً صريحاً عن التقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو يومين، كذلك كل عبادة لا يجوز أن يتقدمها، أو أن يوصل بها ما ليس منها من العبادات والطاعات الأخرى، فلا بد من الفصل الذي يحقق استقلال هذا الصوم المفروض ألا وهو صوم رمضان، لابد من الفصل بإفطار قبله وبعده؛ ليتحقق أن هذا الفرض هو فرض رمضان فقط لا يتقدمه شيء ولا يوصل به شيء. ومن هذا القبيل تماماً ما جاء في صحيح مسلم من نهي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يصل فرض الجمعة بالسنة التي بعدها، فأمر بالفصل بين الفرض والتطوع؛ إما بالكلام وإما بالخروج والانصراف، نهى الرسول عليه السلام عن وصل الفرض بالسنة التي بعده، هذا أيضاً من باب سد الذريعة؛ أن يوصل بالفرض ما ليس منه، فيوم الجمعة بصورة خاصة وكل الفرائض بصورة عامة، ينبغي بعد السلام الفصل فيها إما بخروج وتغيير المكان، وإما أن تتكلم مع صاحبك بكلام عادي، تحقيقاً للفصل، علماً أن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام بالنسبة للصلاة: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فيحل لك ما كان حراماً من قبل في الصلاة بمجرد قولك: السلام عليكم ورحمة الله في التسليمة الأولى، ولكن من باب التأكيد لهذا الفصل بأكثر من السلام، ومن باب سد الذريعة أن يوصل بهذه الفريضة -وهي فريضة الصلاة- شيء ليس منها، أكد الرسول عليه السلام على المصلي أن يتكلم أو أن ينصرف يميناً أو يساراً، أماماً أو خلفاً، كل هذا يؤكد هذا الأمر الذي أمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، ألا يتقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو يومين؛ ليبقى شهر رمضان بدون زيادة عليه، كما أنه لا يجوز النقص منه، والزائد -كما يقول العامة- أخو الناقص.

قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا رجلا يصوم صوما فليصمه)

قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا رجلاً يصوم صوماً فليصمه) يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين) هل هذا النهي على إطلاقه؟ يقول الرسول عليه السلام جواباً عن هذا Q (إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) هذا الاستثناء يوضح أن النهي السابق إنما هو خاص بمن يتعمد التقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو يومين، أما إنسان -آخر- له نظام من الصيام، كأن يكون من عادته اتباع السُّنة المعروفة وهي صيام يوم الإثنين ويوم الخميس من كل أسبوع، فاتفق أن جاء يوم الخميس وكان ذلك قبل رمضان بيوم، فهل يدخل في هذا النهي: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) ؟ A لا: (إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) فهذا الذي اعتاد هذا الصيام المشروع له أن يتقدم رمضان بمثل هذا الصيام؛ لأنه لم يقصد هذا التقدم، وكأن المقصود مباشرة بهذا النهي هو صيام يوم الشك الذي سيأتي الحديث الخاص فيه؛ لأن الذي يصوم يوم الشك يصوم اليوم الذي هو بين يدي رمضان ولم يثبت بعد أن هذا اليوم -أي: يوم الشك- هو من رمضان، فيصومه احتياطاً، وفتح باب الاحتياط في الدين هو فتح لباب كبير من الزيادة في الدين، وهذا في الواقع له أمثلة كثيرة في بعض الأحكام الفقهية. ولعل الحاضرين يعلمون أن بعض المذاهب توجب على من صلى يوم الجمعة أن يصليها بعد الفراغ منها ظهراً، بعض المذاهب توجب هذا، لكن هناك مذاهب أخرى لا توجبه من باب ما يوجبه المذهب الأول، وهو أن تلك الصلاة لم تصح فتصلى هذه، لكن هذا المذهب الآخر يقول: إن هناك شروطاً فيها خلاف، إذا توفرت صحت الصلاة -صلاة الجمعة- وإن لم تتوفر لم تصح الصلاة، فمن باب الاحتياط يحسن أن يصلى بعد الجمعة صلاة الظهر. هذا الاحتياط يؤدي بقائله إلى مخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ألا وهو أن الله عز وجل إنما فرض في كل يوم وليلة خمس صلوات، وإلى مخالفة نص آخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة في يوم مرتين) فنحن نعلم أن المفروض من يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإذا كانت صلاة الجمعة لا تصح فصلاة الظهر، أما أن يصلي مرتين: مرة بنية الجمعة ومرة بنية الظهر؛ فهذا خلاف هذا الحديث مع مخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كما في الحديث، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة في يوم مرتين) فهذا في الوقت الواحد -وقت الظهر- صلى صلاتين: صلاة الجمعة ثم صلاة الظهر. فلذلك لا يجوز أن يتقدم الإنسان على الحكم المنصوص عليه في الشرع من باب الاحتياط، أو من باب ما يقوله العامة: (زيادة الخير خير) . لا خير بعدما شرع الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام من الخير. الخلاصة: هذا الحديث الذي ينهى المسلم أن يتقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو يومين، في الوقت ذاته يوضح أنه لا مانع من صيام ما كان معتاداً له قبل رمضان، إذا كان له عادة أن يصوم -مثلاً- ثلاثة أيام من كل شهر، وجاء رمضان فله أن يصوم هذه الثلاثة الأيام، له أن يصوم يومين، له أن يصوم يوماً واحداً ما دام أنه لم يقصد الصيام من أجل رمضان؛ لأن رمضان أيامه محدودة، وإنما صام تنفيذاً لتلك العادة المشروعة التي كان عليها.

حكم صيام يوم الشك

حكم صيام يوم الشك إذاً: هذا الحديث المتفق على صحته بين العلماء يشمل مباشرة ما اختلف فيه العلماء من صوم يوم الشك، وصوم يوم الشك منهم من يقول بشرعيته أيضاً احتياطاً، ومنهم من يقول: لا يشرع صيامه. والحديث الذي سبق دليل ومؤيد لهذا القول الذي يقول بعدم شرعية صوم يوم الشك؛ ذلك لأنه سيأتي في الأحاديث الصحيحة: أن رمضان يثبت بالرؤية، فإن لم يكن هناك رؤية فإتمام الشهر -أي شهر شعبان- ثلاثين يوماً، فلماذا يصوم الإنسان يوم الشك؟ لذلك عقب المصنف - ابن حجر رحمه الله- على الحديث السابق بحديث ثانٍ وهو قوله: وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم) ذكره البخاري تعليقاً، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.

حكم المتابعة في صيام الكفارة وتبييت النية

حكم المتابعة في صيام الكفارة وتبييت النية Q بالنسبة لصيام ثلاثة أيام كفارة يمين، هل يُشترط أن يكون الصوم متتالياً؟ وهل يشترط فيه تبييت النية أم لا؟ A بالنسبة للشق الأول: لا يشترط التتالي، فالنص مطلق: ثلاثة أيام، لكننا نذكّر دائماً بمثل هذه المناسبة بالأصل الذي أسسه ربنا عز وجل في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] إلى آخر الآية، ففيها حثٌ على المسارعة بالخيرات لا سيما إذا كانت من الواجبات، ومن أجل ذلك كان القول الراجح عند العلماء -ونحن على أبواب الحج إلى بيت الله الحرام- كان القول الراجح وجوب الحج على الفور لمن استطاع إليه سبيلاً لا على التراخي، وهذه الآية من أدلة هذا القول الراجح، وأصرح منها دلالة قوله عليه الصلاة والسلام: (من أراد الحج فليتعجل فقد يمرض المريض وتضل الضالة) . على هذا الأصل ينبغي المسارعة في الإتيان بالطاعات؛ لا سيما -كما قلنا آنفاً- ما كان منها من الواجبات ككفارة اليمين. أما الشق الثاني: وهو هل يجب تبييت النية؟ الجواب: بالإيجاب، والقاعدة في ذلك أن الصوم الواجب لا بد من تبييت النية فيه، بخلاف صوم التطوع فيجوز استحضار النية من ضحوة، هذا هو الذي ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، بناءً على ذلك فمن كان عليه صيام ثلاثة أيام كفارة يمين، أو أي كفارة من الكفارات المعروفة صياماً، فلا بد فيها من تبييت النية. السائل: عفواً أستاذي لعله يقصد النية التلفظية أو الكلام! الشيخ: لا. هو يقول: هل يشترط تبييت النية قبل النوم؟ أما التلفظ بالنية فهذا سؤال من عندك، والجواب: التلفظ بالنية بدعة في كل العبادات: (إنما الأعمال بالنيات) كما قال عليه الصلاة والسلام. السائل: ما عدا في الحج والعمرة؟ الشيخ: لا توجد نية في أي عبادة، فالحج والعمرة إنما هو ذكر. السائل: عندما يقول الحاج: لبيك اللهم بعمرة أو بحج. الشيخ: أجبتك سلفاً، إنما هو تلبية وذكر، لكن لا يقول: نويت الحج والعمرة، فهذا ليس له أصل.

حكم من مات وعليه صوم

حكم من مات وعليه صوم Q إذا أتى شهر رمضان على مسلم وكان مريضاً مرضاً منعه من الصيام، ثم وافته المنية وذهب إلى ربه، فهل تجب على ورثته الكفارة أم ماذا؟ A لم يثبت شيء صريح في الموضوع، وإن كان هناك قوله عليه السلام في الصحيحين: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، وقد ذهب إلى هذا الشافعية، فأوجبوا في مثل هذا السؤال على ولي المتوفى أن يصوم ما فاته من أيام رمضان بسبب مرضه، لكن الذي رجح عندنا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وهذا الحديث الذي ذكرته آنفاً: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) - من رواته عبد الله بن عباس، وقد كان يفسر هذا الحديث بأنه محمول على صيام النذر، فمن نذر على نفسه صيام يوم أو أكثر ثم لم يفِ به؛ فهنا يأتي الحديث السابق: (صام عنه وليه) . أما الصيام الذي فرضه الله عز وجل مباشرة على المسلمين تزكية وتطهيراً لهم، فهنا يرد المبدأ في الإسلام: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر:18] . أما إنسان فرض على نفسه فريضة ما فرضها الله عليه -من باب النذر- فهذا هو الذي يحمل عليه الحديث السابق: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، وقد جاءت أحاديث صريحة في هذا أن امرأة سألت الرسول عليه الصلاة السلام أن أخاها مات وعليه صيام نذر، فقال عليه السلام: (صومي عنه أو صومي عنها) وهي أحاديث صريحة في السؤال والجواب عن صيام النذر؛ فحمله ابن عباس -وهو أحد رواة هذا الحديث كما قلنا- على صيام النذر. وهذا الذي نراه والله أعلم. السائل: إذا مات ولم يقض صوم رمضان، فهل يسقط عنه؟ لم يقل في السؤال: لم يقضه، وإنما مات في رمضان، أو هكذا أنا فهمته، والآن سوف نقسم السؤال السابق والجواب إلى شقين: الشق الأول: رجل مريض مات في رمضان وعليه أيام من رمضان، فعلى هذا ينصب كلامي السابق. صورة أخرى: إنسان أفطر من رمضان أياماً وهو مريض، ثم شفي بعد ذلك وما قضى ما عليه وهو مستطيع، فهذا لا نقول بأنه يمكن لأحد أن يصوم عنه، هذا مثله كمثل الذي يفطر في رمضان عامداً متعمداً، مثله مثل من يدع الصلاة عامداً متعمداً، فهذا لا كفارة له مطلقاً، لكن المعذور، أي: الذي مات مريضاً لا يستطيع أن يقضي ما فاته من أيام رمضان، فهذا يجري عليه كلامنا السابق. أما إنسان تعمد الإفطار في رمضان أو لم يتعمد، كأن كان مريضاً -وهذا عذر والله أعلم بنيته- ثم عوفي وشفي ومضت عليه أيام بل ربما شهر أو شهور ولم يقض، فهذا لا يقضى عنه إطلاقاً.

علامات تساعد على معرفة ليلة القدر

علامات تساعد على معرفة ليلة القدر Q كيف يعرف الإنسان المسلم أنه قد صادفته ليلة القدر مع تحريه الليالي المذكورة عنه صلى الله عليه وسلم؟ A ذلك أمر وجداني يشعر به كل من أنعم الله تبارك وتعالى عليه برؤية ليلة القدر؛ لأن الإنسان في هذه الليلة يكون مقبلاً على عبادة الله عز وجل، وعلى ذكره والصلاة له، فيتجلى الله عز وجل على بعض عباده بشعور ليس يعتاده حتى الصالحون، لا يعتادونه في سائر أوقاتهم، فهذا الشعور هو الذي يمكن الاعتماد عليه؛ بأن صاحبه يرى ليلة القدر، والسيدة عائشة رضي الله عنها قد سألت الرسول عليه الصلاة والسلام سؤالاً ينبئ عن إمكان شعور الإنسان برؤيته لليلة القدر، حينما توجهت بسؤالها للنبي عليه الصلاة والسلام بقولها: (يا رسول الله! إذا أنا رأيت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ففي هذا الحديث فائدتان: الفائدة الأولى: أن المسلم يمكن أن يشعر شعوراً ذاتياً شخصياً بملاقاته لليلة القدر. والفائدة الثانية: أنه إن شعر بذلك فخير ما يدعو به هو هذا الدعاء: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) . وقد جاء في هذه المناسبة في كتابنا هذا الترغيب في بعض الدروس المتأخرة: أن خير ما يسأل الإنسان ربه تبارك وتعالى هو العفو والعافية في الدنيا والآخرة. نعم. هناك لليلة القدر بعض الأمارات والعلامات المادية، لكن هذا قد لا يمكن أن يرى ذلك كله من يرى ويعلم ليلة القدر، إلا أن هذه العلامات بعضها يتعلق بالجو العام الخارجي، كأن تكون -مثلاً- الليلة ليست بقارة ولا حارة، فهي معتدلة ليست باردة ولا هي حارة، فقد يكون الإنسان في جو لا يمكنه من أن يشعر بالجو الطبيعي في البلدة، كذلك هناك علامة لكن هي بعد فوات وقت ليلة القدر، تلك العلامة تكون في صبح تلك الليلة حين تطلع الشمس، حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها تطلع صبيحة ليلة القدر كالطست -كالقمر- ليس له شعاع، هكذا تطلع الشمس في صبيحة ليلة القدر، وقد رُئي هذا من بعض الناس الصالحين ممن كان يهمهم رؤية أو ملاحظة ذلك في كثير من ليالي القدر. ليس المهم بالنسبة للمتعبد التمسك بمثل هذه الظواهر؛ لأن هذا الظواهر هي عامة، هذه طبيعة الجو، لكن لا يستوي كل من عاش في ذلك الجو ليرى ليلة القدر، ومن عاش في صفاء النفس في لحظة من تلك اللحظات في تلك الليلة المباركة، بحيث أن الله عز وجل يتجلى عليه برحمته وفضله، فيلهمه ويؤيده بما سبق وبغيره. والعلامات المادية هي علامات لا تدل على أن كل من شاهدها أو لمسها قد رأى ليلة القدر، وهذا أمر واقعي، ولكن الناحية التي يجدها الإنسان في نفسه من الصفاء الروحي، والشعور برؤيته لليلة القدر، وتوجهه إلى الله بسؤاله بما شرع، هذه هي الناحية التي ينبغي أن ندندن حولها ونهتم بها؛ لعل الله عز وجل أن يتفضل بها علينا.

درجة حديث (من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال)

درجة حديث (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال) Q ما درجة حديث: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال خرج كيوم ولدته أمه) ؟ A هذا من الأحاديث الصحيحة التي أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، وهو من الأحكام التي كاد الفقهاء أن يتفقوا عليها، ولكنهم -مع الأسف- لم يتفقوا، فقد جاء عن مالك رحمه الله أنه كان يكره صيام الست من شوال؛ فاحتج عليه الجمهور بهذا الحديث، وهو حجة -بلا شك- قاطعة، إلا أن بعض العلماء نقلوا عن الإمام مالك وجهاً لما ذهب إليه من كراهة صيام هذه الأيام الست، قال: لكي لا يعتقد الناس وجوبها لا سيما وهي متصلة برمضان، ولا يفرق بينها وبين صيام رمضان إلا يوم العيد، فخشية أن يتبادر إلى أذهان بعض الناس وجوب صيام هذه الست نهى الإمام مالك أو كره صيامها. ومعنى كلام هؤلاء العلماء فيما نسبوا إلى مالك: أن مالكاً رحمه الله لا ينكر أصل مشروعية صيام هذه الأيام الست، فهو يلتقي مع جماهير العلماء الذين ذهبوا إلى استحبابها ولكنه يكره المثابرة على ذلك، فإن كل من صام رمضان ثم صام الستة الأيام، سوف يصبح صيام الست مع الزمن ولو البعيد كأنه من تمام صوم رمضان، هذا الذي خشيه مالك فذهب إلى الكراهة، ولا شك أن لمثل قوله وجاهة من حيث القواعد الأصولية الفقهية، وقد ذهب إلى مثلها بعض الحنفية في مثل اعتياد الإمام قراءة سورة السجدة وسورة الدهر في كل فجر جمعة، فنص فقهاء الحنفية على أنه ينبغي على الإمام أن يترك قراءة هاتين السورتين أحياناً؛ لكيلا يظن العامة بأن قراءة هاتين السورتين من الواجبات بل من أركان صلاة الصبح يوم الجمعة. وهذا في الواقع -كما قلنا- من العلم الذي قل من يتنبه له، وفي بعض البلاد الإسلامية فعلاً قد يخشى -أو وقع في الخشية- أن يتوهم بعض العامة أن صيام ستة أيام من شوال هو أمر واجب؛ فحينئذ من الواجب على بعض العلماء ألا يلتزموا ذلك، مع تنبيههم في خطبهم ومواعظهم ودروسهم على أن هذا الصيام ليس من الأمور الواجبة، إنما هو من الأمور المستحبة.

حكم جمع الزكاة للجمعيات الخيرية

حكم جمع الزكاة للجمعيات الخيرية Q ما حكم جمع زكاة الفطر للجمعيات الخيرية؟ A في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عهد السلف الصالح، كانت الزكاة تجمع كزكاة الزروع والمواشي، وكذلك لم تكن تجمع زكاة النقدين -الفريضة- زكاة النقدين ما كانت تجمع، وإنما كان الأمر يفوض إلى الغني الواجب عليه الزكاة فهو يوزع ما وجب عليه في نقديه، كذلك لم يكن من سنة العهد الأول جمع صدقة الفطر، وإنما كل مكلف يخرجها، أما إعطاء الزكاة هذه -زكاة الفطر- إلى الجمعيات الخيرية اليوم، فذلك يتوقف على أمر هام -ما أدري إذا كانت هذه الجمعيات تهتم بتطبيقه- فكلنا يعلم بأن زكاة الفطر لا يجوز التقدم بإخراجها قبل يوم الفطر بأكثر من يومين أو ثلاثة أيام، فإخراجها في أول رمضان أو في منتصف رمضان -كما يفعل كثير من الأفراد- هذا خلاف السنة، فإذا كانت الجمعيات المشار إليها تراعي هذه الناحية فتجمع هذه الزكوات -زكاة الفطر- ولا تخرجها إلا قبل العيد، فلا بأس حين ذاك من توكيل هذا الجمعيات بهذه الصدقة، على أساس أنه يفترض فيها أن تكون أعلم من المزكي بالفقراء والمساكين الذين هم في ذلك الحي. لكن أنا أخشى أن يكون هؤلاء يتبنون رأياً فيه توسيع في إباحة إخراج الزكاة قبل العيد بأيام كثيرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: قد يجمعونها في صندوق في الجمعية ويضمونها إلى أصل الزكاة المجموعة عندهم، فيخرجونها ربما بعد العيد بأيام وربما بأشهر؛ لذلك فيكون الأحوط أن يتولى المزكي والمخرج لصدقة الفطر إخراجها بنفسه، فهو أولاً: يخرجها قبل العيد مباشرة، وهذا هو الأفضل، فإن ترخص فقبل ذلك بيوم أو بيومين، وثانياً: يضعها في يد من يراه أنه من المستحقين لهذه الزكاة، ثم يلاحظ أن يكون من الصالحين، وهذه ناحية -أيضاً- ما أدري إذا كانت الجمعيات عندها استعداد أن تلاحظ وتطبق هذه الناحية؛ وذلك ليكون المزكي معيناً لأهل الخير والصلاح بما يقدمه إليهم من خير ومال.

الاحتلام في نهار رمضان

الاحتلام في نهار رمضان Q ما حكم من احتلم في رمضان، وهل عليه قضاء؟ A لم يفطر حتى يكون عليه قضاء.

حكم صيام من بلغت سن اليأس وخرج منها دم يشبه دم الحيض

حكم صيام من بلغت سن اليأس وخرج منها دم يشبه دم الحيض Q امرأة بلغت من العمر ثلاثاً وستين سنة ومازالت تنزل دماً كالحيض بشكل غير منتظم، فهل تصوم؟ A نقول: إنها بلغت سن اليأس فهي لا ترى الحيض، وإذا كانت خرقت العادة العامة في النساء، وأنها لا تزال تحيض بصورة منتظمة كما هي عادة النساء، فحين ذاك ترجع في هذا الدم إلى شروط دم الحيض المعروفة، فالغالب أن يكون هذا الدم استحاضة وليس دم حيض، لا سيما وهي في هذا السن -سن الستين- فالغالب أنها يائس من الحيض، ففي هذه الحالة يكون هذا الدم دم استحاضة، فليس له علاقة حين ذاك بالصيام، أي أنه لا يكون مانعاً لها من الصيام.

حكم الأكل أثناء أذان الفجر للصائم

حكم الأكل أثناء أذان الفجر للصائم Q إذا كان المسلم يأكل وأذن الفجر، فما حكم صومه؟ وهل عليه القضاء؟ A النص القرآني صريح في هذا ألا وهو قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فالآية صريحة في إباحة استمرار المتسحر في طعامه وشرابه حتى يتبين الفجر، أي: حتى يتأكد من طلوع الفجر الصادق، وهذه الآية لحكمة ما جاء فيها ربنا عز وجل بقوله: ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ)) [البقرة:187] لأن التبين من الشيء: هو التأكد منه، والواقع أن هناك تساؤلات كثيرة في أن المؤذنين في هذه البلاد يؤذنون مع طلوع الفجر الصادق، فقد كنا في العمرة في رمضان في مكة والمدينة، فرأيناهم يتأخرون في الأذان -أذان الفجر الصادق- قرابة نصف ساعة، ونحن لا نعلم هناك فرقاً من حيث خطوط الطول يؤدي إلى هذا الفرق بين فجرهم وفجرنا. وملاحظتنا هذه الأخيرة هناك ذكرتنا بما نسمعه من بعض إخواننا المثقفين المتفقهين في الأردن، أنهم يقطعون بأن الأذان في الأردن بصورة عامة وليس فقط في رمضان، يؤذن قبل الفجر الصادق بنحو ثلث ساعة، ثم جاء بعض إخواننا من الأردن إلى هنا واتصلوا مع بعض إخواننا، وأيضاً راقبوا طلوع الفجر هنا في دمشق بصورة خاصة، فظهر لهم -وما أقول تبين؛ لأني بعد ما تبينت مما ظهر لهم- فظهر لهم أن الأمر هنا كالأمر هناك، ولذلك كان في نفسي أن نعمل جلسة خاصة مع بعض إخواننا، ونتدارس هذه القضية بالنسبة لنا هنا في دمشق، أي: هل يؤذن الأذان الثاني -وليس الأذان الأول- الذي به يحرم الطعام وتحل الصلاة في الوقت تماماً، أم أنه يقدم على الوقت كما يفعلون في بدعة الأذان الأول؟ حيث أنهم يسمونه بأذان الإمساك، وهو في الحقيقة من الناحية الشرعية هو أذان الطعام والشراب وليس أذان الإمساك، فهم يسمونه: أذان الإمساك، حتى سجل فيما يسمونه بالإمساكية، فصار لزاماً على كل صائم أن يمسك عن طعامه وشرابه بمجرد أن يسمع الأذان الأول، وهو شرعاً أذان الطعام والشراب، بدليل حديث البخاري ومسلم عن جماعة من الصحابة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يغرنكم أذان بلال، فإنما يؤذن بليل ليقوم النائم وليتسحر المتسحر، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فهو عليه السلام أمر بالطعام والشراب أن يستمر فيه الإنسان ولو بعد أذان بلال؛ لأن بلالاً يؤذن ليقوم النائم ويتسحر المتسحر، فالأذان الأول الغرض منه التنبيه إلى أنه الآن وقت الطعام والشراب، قال عليه السلام: (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) . وقد جاء في هذا الحديث أنه كان بين أذانيهما مقدار تلاوة خمسين آية، أي أن الوقت بين الأذانين وقت قريب جداً، وليست هذه المسافة التي تأخذ من الزمن نحو ربع ساعة موجودة اليوم بين أذان الإمساك المزعوم وبين أذان الفجر؛ لذلك فممكن أن بعض الموقتين الذين يوقتون التوقيت الفلكي هذا ربما لاحظوا احتياطاً ثانياً غير الاحتياط لأذان الإمساك، لاحظوا احتياطاً ثانياً في توقيت الأذان الثاني، فتقدموا به حتى لا يدخل الفجر الصادق في زعمهم وبعضهم لا يزال يأكل فيفطر، ولئن كان هذا واقعاً فهذا يدل على جهلهم؛ لأن هناك أمرين كل منهما عبادة وطاعة، فكما أنه لا يجوز الاستمرار في الطعام والشراب بالنسبة للمتسحر حتى دخول الفجر الصادق، كذلك لا يجوز للإنسان أن يصلي قبل الفجر الصادق، فكل منهما عبادة. فالخلاصة: هذا الأذان الثاني يجب إضافة التثبت من كونه يؤذن في الوقت، وعندنا شكوك كثيرة جداً بالنسبة للأمور التي ذكرناها، ومع ذلك فهناك فسحة ورخصة صريحة في الحديث الصحيح، فلو افترضنا أن هذا الأذان الثاني يؤذنه المؤذنون في الوقت الصحيح -في الفجر الصادق- تأتي هذه الرخصة الكريمة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) (إذا سمع أحدكم النداء) أي: النداء الثاني، أما الأول فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، أما الأذان الثاني فتأخذ حاجتك: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يأخذ حاجته منه) ، ففي هذا رخصة أن يستمر الصائم في الطعام حتى يأخذ حاجته، لكن لا يأتِ على التسلية، لا يجلس -مثلاً- يتفكه، أو (يفصفص) بحجة: (حتى يقضي حاجته منه) فإن هذا ليس مما له فيه حاجة، إنما هذا من باب التسلية، والحديث صريح: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده -الذي يأكل أو يشرب منه- فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) .

حكم تقبيل الزوجة في نهار رمضان

حكم تقبيل الزوجة في نهار رمضان Q ما حكم تقبيل الزوجة في نهار رمضان؟ A هذا سؤال هام، والجواب عليه يختلف باختلاف الأشخاص، بين أن يكون شاباً ولا سيما إذا كان حديث عهد بعرس وبزواج، وبين أن يكون كهلاً أو شيخاً فانياً، فالأول من باب الحيطة والحذر يبتعد عن حلاله وعن زوجته، وعن كل الأسباب التي قد توقعه في المحرم عليه، ألا وهو الجماع؛ لأن السيدة عائشة رضي الله عنها التي تروي بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل نساءه وهو صائم، تقول: (وأيكم يملك من إربه ما كان يملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟) فالتقبيل نوع من المباشرة. إذاً: التقبيل بالنسبة للرجل الكهل أو الشيخ جائز قولاً واحداً؛ لأنه عادة لا يؤدي به إلى أن يتورط، وأن يقع فيما يوجب عليه الكفارة الكبرى، وهو أن يصوم شهرين متتابعين إذا ما جامع زوجته؛ بخلاف الشاب فقد يقع، ولذلك يقال: ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالشاب ينبغي أن يكون بعيداً عن زوجته في وقت صيامه، هذا من باب الحيطة والحذر، لكن إذا ما قبل ولم يتعد ذلك فليس فيه أي شيء؛ لأن التقبيل أصله مباح، وإنما يمنع -كما قلنا- سداً للذريعة، فإذا فرضنا أن إنساناً شاباً قوياً -ليس فقط في بدنه- بل هو أيضاً قوي في إيمانه وفي طاعته لربه، فهو يعرف الحدود فلا يتعداها؛ فله كل ما لم يحرمه الله عز وجل على الصائم، وهذا الكل هو كل ما سوى الجماع، ولكن المشكلة تبقى ضبط (الغرائز) بالنسبة للشباب، وهذه الحيطة لا بد منها. أما الأصل فهو مباح؛ ولذلك لما جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال له: (هلكت يا رسول الله! قال: ما أهلكك؟ قال: هششت إلى أهلي فقبلت. قال: ما هو إلا كما لو تمضمضت بالماء) أو كما قال عليه الصلاة السلام، فالمضمضة بالماء إذا لم يدخل إلى الجوف ليس فيها شيء، لكن المهم يبقى وقوف الإنسان عند هذه الحدود.

البدعة وأسئلة حولها [2]

البدعة وأسئلة حولها [2] تحدث الشيخ في هذا الدرس عن قواعد للحكم على الأمور الدينية والدنيوية، وفصل في مسألة مشروعية الأمور المحدثة عن عدمه، وضرب أمثلة حية على هذه التفصيلات للتوضيح والبيان.

وجوب عبادة الله تعالى وفق شرعه

وجوب عبادة الله تعالى وفق شرعه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جملة جامعة لأصل الإسلام، وهذه الجملة مستنبطة أصالة من الشهادة التي هي الركن الأول من أركان الإسلام، حيث قال ابن تيمية رحمه الله: (الإسلام أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً) هذا قسم، والقسم الثاني: (ألا نعبده إلا بما شرع لنا) . فالإسلام اجتمع في هاتين الكلمتين: أن نعبده تبارك وتعالى وحده لا شريك له، وألا نعبده إلا بما شرع، وهذا من تمام التوحيد، وهو اصطلاح علمي دقيق لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإن المشهور: أن التوحيد إنما هو ذو أقسام ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية أو العبادة، وتوحيد الصفات، فجاء ابن تيمية بهذا التعبير الوجيز: ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع. ألا نعبد الله إلا بما شرع وهذا ينطوي تحته بحث علمي خطير جداً، طالما اختلف فيه المتأخرون، ولم ينجُ من الاختلاف الممقوت منهم إلا الأقلون، أعني بذلك: اختلافهم في أنه هل يوجد في الإسلام بدعة حسنة أم لا؟ فجماهير المتأخرين -مع الأسف الشديد- يذهبون قولاً، وأصلاً، واعتقاداً، إلى أن هناك في الإسلام بدعة حسنة، ويقابلهم من أشرنا إليهم، ألا وهم الأقلون، الذين يقولون بما قال به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الكثيرة، والتي منها ما سمعتموه في مطلع كلمتنا هذه الليلة، وهي التي تتردد دائماً في خطبة الحاجة، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، ونفتتح عادة خطبنا وكلماتنا بها، ثم نتبعها بما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتبع خطبة الحاجة في خطب الجمعة، حيث كان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبة الجمعة: (أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فقد كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكرر هذه الجملة الجامعة: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ؛ لكي تتركز في الأذهان. فالأقلون قد اهتدوا بهدي الله تبارك وتعالى، وتمسكوا بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام على عمومه وشموله، وقالوا كما قال هو عليه الصلاة والسلام: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) . لكن الشيء المهم الذي ينبغي أن نلاحظه، هو: أنه يوجد في هؤلاء الأقلين -على سبيل الحكاية- من يقع في الابتداع في الدين؛ وما ذاك إلا لأنه لم يضبط قاعدة البدعة، فهو يقول في نفسه: كل بدعة ضلالة، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من الفريق القليل الذين اهتدوا بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، التي أطلقت الضلالة على كل بدعة، ولكن لكيلا يقع هؤلاء الأقلون في البدعة التي يفرون منها بتبنيهم القاعدة العامة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يجب أن يتقنوا بحث البدعة؛ ليميزوا بين ما يدخل في عموم النص، فلا يعملون به؛ لأن قوله: (كل بدعة ضلالة) شمله، وإن كان هذا الذي دخل في هذا النص العام له أصل في الشريعة.

الفرق بين المشروع والمحدث غير المشروع

الفرق بين المشروع والمحدث غير المشروع يشتبه الأمر على كثير من الناس حينما يرون بعض النصوص الحاضَّة على بعض الأعمال الصالحة، فيأخذون بعمومها، ولا يلاحظون أن بعض هذا العموم يشمله ذلك النص العام: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) . فالتفريق بين هذا الشمول، وهو قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة) وبين الشمول في نصوص أخرى، حيث تأمر ببعض العبادات، أو تحض على بعض العبادات حضاً عاماً، هنا يقع كثير من الخلط واللبس على بعض الناس. وأنا قبل أن أذكر ما عندي في هذا الصدد، أريد أن أنصحكم بصفتكم -مثلي- طلاباً للعلم، أن تقرءوا لتفهموا هذه المسألة فهماً صحيحاً، ولتكونوا على ما كان عليه السلف الصالح، من الابتعاد عن الابتداع في الدين، ولو كان هذا الابتداع في الدين مستنداً إلى نص عام من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام -لكي لا تقعوا في الابتداع في الدين، أنصح بأن تقرءوا كتاباً هو أعظم كتاب عرفته في هذا الباب، ألا وهو كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي رحمه الله، فهذا الكتاب مختص في هذا الموضوع لا مثيل له فيما علمته، وكل من جاء بعده إنما هو عالة عليه، وإنما هو يستقي منه، كما أن هناك فصلاً خاصاً يجب -أيضاً- أن تقرءوه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ففي هذا الكتاب طرق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الموضوع الهام الخطير، فانتهى -من حيث الجملة- إلى ما يدل عليه الحديث السابق وما في معناه: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ولكنه نظر إلى المسألة من زاوية أخرى، وهي: أنه قد تحدث بعض الأمور، ويرى أهل العلم أنها أمور مشروعة، ومع ذلك فهي لم تكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف لم يطبق عليها القاعدة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؟ بينما حدثت محدثات كثيرة وكثيرة جداً، اعتبرها أهل العلم والتحقيق كـ الشاطبي وابن تيمية وغيرهما من المحدثات، فما هو الحكم الفصل بين ما يحدث ويكون مشروعاً، وبين ما يحدث ولا يكون مشروعاً؟ هذا ما فصل القول فيه الإمام الشاطبي في الكتاب السابق (الاعتصام) ، وجمعه وأوجز الكلام فيه شيخ الإسلام في الكتاب المذكور آنفاً، فأنا أوجز لكم القول. لا أريد -بطبيعة الحال- أن أذكركم بالنصوص التي تؤكد هذه القاعدة الإسلامية العظيمة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، لأنني أعتقد أنكم على علم بذلك -كما أظن وأرجو- ولكن أريد في الواقع أن أبين لكم أمرين اثنين؛ لتتحققوا من معنى هذا الحديث الصحيح: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فلا تقعون في إفراط ولا تفريط. لأن بعض الناس لجهلهم بما سيأتي ذكره عن الشيخين يحدثون محدثات ويتمسكون بها؛ لأنها دخلت في نصوص عامة، وأناس آخرون ينكرون أموراً حدثت بحجة أنها حدثت، وهي ليست بالمحدثات من الأمور، هذا التفصيل الدقيق نحن جميعاً بحاجة إليه.

حكم المحدث الذي ليس له علاقة بالدين

حكم المحدث الذي ليس له علاقة بالدين يقول شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه السابق الذكر: إن ما يحدث بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ينظر إليه، فإن كان ما حدث ليس له علاقة بالدين فهو من الأمور المباحة، التي يجوز للمسلم أن يعمل بها بشرط واحد: ألا تخالف نصاً من كتاب أو سنة. لأن شيخ الإسلام كجماهير العلماء الأعلام يذهبون إلى القاعدة المعروفة ألا وهي: الأصل في الأشياء الإباحة. فكل ما يحدث من المحدثات مما ليس له علاقة بالدين -أي: بالعبادة- أي: لا يفعله المسلم ويقصد به زيادة التقرب إلى الله، هو من الأمور المباحة، إلا إذا خالف نصاً من كتاب أو سنة.

حكم المحدث الذي له علاقة بالدين

حكم المحدث الذي له علاقة بالدين أما إذا كان هذا الذي حدث بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له علاقة بالدين، فينظر؛ فإن كان المقتضي للعمل بهذا المحدث قائماً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم هو لم يعمل به، ولاحض الناس عليه؛ فيكون العمل بهذا الأمر الحادث بدعة ضلالة، أي: إذا كان المقتضي لتشريع هذا الذي حدث بفعله عليه السلام، أو بقوله، ثم لم يشرع ذلك لا بفعله ولا بقوله، فالأخذ بهذا الأمر الحادث هو البدعة الضلالة، وهو الذي تنصب عليه الأحاديث التي تنهى عن الابتداع في الدين. مثال ذلك: الأذان لصلاة العيد، والقول: بـ (الصلاة جامعة) بالنسبة لغير صلاة العيد، كصلاة الاستسقاء، ونحو ذلك، فالأذان لصلاة العيدين باتفاق علماء المسلمين لم يكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو زين لعالم ما أن يعلن عن وقت صلاة العيد بالأذان، فهذا ما حكمه في الإسلام؟ على الرغم من أن الأذان ذكر لله عز وجل، وشعيرة من شعائر الإسلام؟ يقول شيخ الإسلام: الأذان لصلاة العيد يكون بدعة وضلالة؛ لأن كل بدعة ضلالة، ولأن هذا الأذان ذكر، وله صلة بصلاة العيد، وهي من أكبر العبادات، فإحداث هذا الأذان يكون بدعة ضلالة لا يجوز لمسلم أن يتقرب بها إلى الله عز وجل -السبب- قال: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يصلي العيدين، والمقتضي لإعلام الناس بهذا الأذان كان موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الناس بحاجة إلى هذا الإعلام، فما دام أننا عرفنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام مع وجود المقتضي لتبني هذا الأذان لم يتبنه ولم يأمر به، كان الأصل إحداثه، والأخذ به بدعة ضلالة.

ما أحدث بعد الرسول بسبب تقصير المسلمين

ما أحدث بعد الرسول بسبب تقصير المسلمين أما إذا لم يكن المقتضي للأخذ بهذا الذي حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً، قال: حينئذٍ ننظر، إذا كان المقتضي الذي حدث بعد الرسول عليه الصلاة والسلام واقتضى لإيجاد أمر جديد، لم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى هذا المقتضي أهو أمر سببه من المسلمين أنفسهم؟ أي: تقصيرهم في تطبيق شريعة ربهم هو الذي اقتضى لهم أن يحدثوا شيئاً جديداً؛ لأنه يحقق لهم مصلحة شرعية، يقول ابن تيمية: فإذا كان هذا المقتضي للأخذ بهذا المحدث سببه تقصير المسلمين؛ فأيضاً لا يجوز الأخذ بهذا المحدث؛ لأن سبب حدوثه هو تقصير المسلمين، مثال ذلك: ما ابتلي به المسلمون اليوم من وضع نظم وقوانين لجباية الأموال ولتكثير مال بيت مال المسلمين هذا من حيث الهدف هدف جميل ومشروع؛ لأنه يقصد به ملء بيت مال المسلمين؛ ليتمكن الحاكم المسلم من القيام بما أوجب الله عليه من إصلاحات في البلاد المسلمة، لكن الأخذ بهذا التشريع الجديد، أو القانون الجديد، إذا كان ناشئاً -كما هو الغالب في كل البلاد الإسلامية اليوم بنسب متفاوتة إذا كان ناشئاً- عن أنهم لم يطبقوا نظام الإسلام في الزكاة والتركات ونحو ذلك، والذي بتطبيقه تتحقق الغاية التي رمى إليها هؤلاء الذين وضعوا هذه التشاريع الجديدة، فيقول شيخ الإسلام: إذا كان المقتضي للتشريع الجديد سببه تقصير المسلمين في تطبيق شريعة رب العالمين، ولو كان هذا التشريع يحقق مصلحة للمسلمين، فلا يجوز الأخذ بهذا الذي حدث؛ لأن الدافع لهم على ذلك هو تقصيرهم.

ما أحدث بعد الرسول وليس له علاقة بتقصير المسلمين

ما أحدث بعد الرسول وليس له علاقة بتقصير المسلمين أما إذا كان هذا الذي حدث ليس له علاقة بتقصير المسلمين في القيام بواجبهم، وبشريعة ربهم، فحين ذاك ما دام هذا الحادث يحقق مصلحة إسلامية، فلا بأس من الأخذ به، ما دام أنه يحقق غرضاً مشروعاً، والمثال الآن لهذا النوع الثالث بين أيديكم: هو هذا المكبر للصوت، الذي يستعمل في الدروس والمواعظ وفي الأذان أيضاً، هذا لا يشك إنسان أبداً في أنه أمر حادث، لم يكن في عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهل نقول: إنه بدعة، ونطبق عليه النص المعروف: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فنجتنب حينئذٍ استعمال هذه الوسيلة؛ لأنها حدثت بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، أم لا؟ إنما نقول: صحيح أن هذه وسيلة محدثة، ولكن هي تساعد على تحقيق غرض شرعي ألا وهو تبليغ وتسميع الناس، دون أن نكون نحن مقصرين. أضرب لكم مثلاً في التقصير، وهو قريب من هذا المثال ولكن معاكس له: بعض أئمة المساجد لو رفع صوته في المسجد المتوسط المساحة لأسمع كل أهل المسجد، فهو لا يرفع صوته، لماذا؟ لأنه يعتمد على المبلغ (المؤذن) الذي خلفه، فتبليغ المؤذن خلف هذا الإمام بدعة، علماً أن أبا بكر الصديق كان يبلغ وراء الرسول عليه الصلاة والسلام في مرض موته صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك التبليغ كان لحاجة، ولم يقصر الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان مريضاً، بينما قبل ذلك لم نعرف تبليغاً خلف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يسمع الناس، فإنما بلغ أبو بكر الصديق خلفه لأن الرسول لم يستطع أن يبلغ الناس ويسمعهم صوته.

حكم استعمال مكبر الصوت دون حاجة

حكم استعمال مكبر الصوت دون حاجة ولا يجوز استعمال مكبر الصوت حينما لا يكون هناك حاجة له، كالمؤذن الذي يستعمل مكبر الصوت في القرية الصغيرة التي يكون سكانها -مثلاً- عشرة بيوت أو نحو ذلك؛ لأن الصوت الطبيعي يسمعهم، ولكن إذا كان الجمع غفيراً خاصة في مواسم الحج ونحو ذلك، فاستعمال هذه الآلة حينئذ أمر واجب؛ لأنه ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، وليس من محدثات الأمور؛ لأن هذا الذي حدث نحن لا نريد أن نتقرب بذاته إلى الله، وإنما نريد أن نحقق هدفاً لا يمكننا أن نحققه بالأمور الطبيعية التي مكننا الله عز وجل منها، منذ خلق البشر. فاستعمال مكبر الصوت من الأمور المحدثات، ولكن لا يشملها: (وإياكم ومحدثات الأمور) لماذا؟ أولاً: لأنه لا يقصد به زيادة التقرب إلى الله. ثانياً: لأن هذا السبب الذي حدث ليس بسبب تقصيرنا نحن، كما ضربنا مثلاً بتقصير الإمام في تبليغ صوته للمقتدين، ويعتمد في ذلك على مبلغ الصوت، أو مكبر الصوت. هذه أمثلة حساسة ودقيقة تحفظ المسلم من أن يميل يميناً أو يساراً، وتحفظه من أن ينكر وسيلة حدثت ليس لها علاقة بزيادة التقرب إلى الله عز وجل أولاً، ثم إن حدوثها ليس هو بسبب تقصيرنا نحن في القيام بما شرع الله عز وجل لنا. لكن في كثير من الأحيان لاستعمال هذا المكبر، ولتحقيق الغرض الشرعي وهو التسميع، كثيراً ما نضيع أموراً مشروعة، ففي هذه الحالة لا يجوز اتخاذ هذه الوسيلة، وهذا مما حدث اليوم وعم وطم جميع المساجد إلا ما شاء الله. من المتفق عليه -في علمي- عند العلماء أن الأذان في داخل المسجد -أيضاً- من البدع غير المشروعة؛ لأن الأذان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن -حتى يوم الجمعة- إلا على ظهر المسجد، وفوق باب المسجد؛ ذلك لأن الله عز وجل فارق بين الغاية من الأذان والغاية من الإقامة، فالمقصود بالأذان تبليغ الناس الذين هم خارج المسجد، والمقصود بالإقامة تبليغ من كان في المسجد ليقوم إلى الصلاة، ويصطف مع إخوانه المسلمين، فحينما نؤذن في المسجد تكون قد عكسنا السنة، وعكسنا في الوقت نفسه الغاية من الأذان، فالمقصود من الأذان هو: تبليغ من كان خارج المسجد. قد يقول قائل: هذا المقصود حصل الآن بمكبر الصوت وهذا هو السبب حتى تتابع المسلمون في استعمال مكبر الصوت، وترك الشعيرة الإسلامية وهو الأذان على ظهر المسجد، أو ما يشبه ذلك من منارة متواضعة؛ لأنهم ظنوا أن الغرض فقط من الأذان هو التبليغ، وهذا التبليغ حصل بمكبر الصوت بصورة أوسع بكثير، لكننا نقول: إن الأذان عبادة وشعيرة إسلامية عظيمة، فلا بد على المؤذن من أمرين: أولاً: يجب أن يظهر بشخصه. وثانياً: أن يتعاطى السنن المتعلقة بالأذان، كالالتفات عند قول: حي على الصلاة، وحي على الفلاح.

البدعة وأسئلة حولها [1]

البدعة وأسئلة حولها [1] إن شريعة الرحمن كاملة على التمام، ومن ادعى بأن الشريعة تحتاج إلى زيادة فقد اتهم محمداً بأنه قد خان الرسالة. وفي هذه المادة يوضح الشيخ مفهوم البدعة والفرق بين البدعة الدينية والدنيوية، وحكم مشابهة الكفار في بعض الأمور الدنيوية.

إشكالات حول مفهوم البدعة

إشكالات حول مفهوم البدعة Q هل يوجد في الشرع تصنيف للبدعة بأنها واجبة أو حسنة؟ A لطالما سمعتم ممن يذهبون إلى تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، أن هناك بدعة واجبة، ويضربون على ذلك مثلاً بجمع القرآن الذي جمعه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، يقولون: هذه بدعة في الإسلام، ولكنها واجبة، نحن نقول: تسمية هذا الأمر العظيم بالبدعة، التي إنما أطلقت للذم، كما ذكرنا في الحديث السابق (كل بدعة ضلالة) أعتقد أنه من أسوأ الاستعمالات التي دخلت في أذهان بعض العلماء.

جمع أبي بكر للقرآن الكريم

جمع أبي بكر للقرآن الكريم نقول: جمع القرآن واجب وليس بدعة، وإن قالوا: إنها بدعة، فيجب أن يستعملوا هذا اللفظ بالمعنى اللغوي، ولا يقولون: البدعة في الشرع تنقسم إلى أقسام خمسة: منها البدعة الواجبة الفريضة. فجمع القرآن كان من الصحابة لأسباب: منها ظاهر لكثير من الناس، ومنها ما يظهر لبعض المتدبرين للقرآن الأمر الأول الظاهر هو القاعدة المتفق عليها بين العلماء: (ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب) . وأنتم تعرفون السبب الذي حمل الصحابة يومئذٍ على جمع القرآن؛ وهو مجيء من يخبرهم بأنه قد قتل في يوم واحد سبعون قارئاً من قراء الصحابة، فخشوا من أن يستحر القتل ويشتد في القرَّاء؛ فيذهب القرآن الذي كان محفوظاً في صدورهم بذهابهم وموتهم. لذلك بادر أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر إلى جمع القرآن، وهذا يؤكد هذه القاعدة المعروفة عند علماء الأصول: (ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب) . فالمحافظة على القرآن أمر واجب، فإذا لم يبادروا إلى جمعه -كما فعلوا- يكونون عندها قد ساعدوا على إضاعة الواجب؛ فيكونون مسئولين، وهذا هو الأمر الظاهر، ولكن هناك أمر يظهر لبعض المتأملين في بعض نصوص القرآن الكريم، من ذلك قول رب العالمين في أول سورة البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] (ذلك الكتاب) فالله عز وجل أشار في هذه الآية إلى أن هذا القرآن كتاب، وهو حينما كان مبعثراً في الصحف، والرقاع، والعظام، ونحو ذلك؛ لا يطلق عليه حين ذاك أنه كتاب، فهو أشار إلى أنه ينبغي أن يكون هذا القرآن محفوظاً ومسجلاً في كتاب، وهذا ما فعله الصحابة الكرام، فلا يصح أن يطلق على جمع القرآن أنه بدعة، وأنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فهذا خطأ فاحش وكبير جداً، وأنا أقرب لكم هذا بمثال لعله أوضح من هذا، أي: إنه أمر حدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لا يصح أن نسميه بدعة إطلاقاً؛ لأن حدوثه كان بإذن من الشارع الحكيم.

إخراج عمر لليهود من خيبر

إخراج عمر لليهود من خيبر تعلمون أنه جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر عنوة أعطاها لليهود على أن يعملوا فيها، فيكون لهم النصف وللرسول صلى الله عليه وسلم النصف، واتفق هو وإياهم على أنه أقرهم فيها، قال: (نقركم فيها ما نشاء) هذا كان من شروط الاتفاق على أن يبقى اليهود في خيبر يعملون في نخيلها، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود في خيبر، وجاء أبو بكر وتوفي واليهود في خيبر، وجاءت خلافة عمر، ومضى ما شاء الله من خلافته وهم في خيبر، ثم بدا لـ عمر أن يخرجهم فأخرجهم طرداً، وأذن لهم أن يأخذوا ما خف من حوائجهم، هذا الإخراج -كما ترون- وقع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر، فهل هذه بدعة في الدين؟ A لا. لم؟ لسببين اثنين: ذكرت الأول منهما: وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (نقركم فيها ما نشاء) ، فهذه المشيئة انتهت حينما رأى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أن يخرجهم. والأمر الثاني: قول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) ، فإذاً عمر عندما أخرج اليهود من خيبر، إنما نفذ طرفاً من هذا الأمر النبوي: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) ، فالذي نفذ طرفاً من أمر الرسول أيكون قد أحدث في الدين؟ حاشا لله رب العالمين! ليس هناك إحداث، وإنما هو في الواقع شيء جديد، ما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكن هذا الذي جد له دليله من السنة، كما رأيتم في الحديث في صحيح البخاري، وفي الحديث الآخر: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) وكان هذا مما وصى به الرسول صلى الله عليه وسلم أمته وهو في مرض موته. إذاً: فإخراج عمر لليهود من جزيرة العرب لا يصح أن يقال: إنه بدعة، حتى ولو بعبارة بدعة حسنة، عند من يقول بتقسيم البدعة إلى خمسة أقسام؛ لأنه نفذ أمراً نبوياً، وهذا واجب وليس بدعة.

جمع الناس لصلاة التراويح في خلافة عمر

جمع الناس لصلاة التراويح في خلافة عمر من هذا القبيل ما يكثر إيراده من القائلين بالتقسيم للبدعة إلى حسنة وسيئة: صلاة عمر بن الخطاب، أو أمر عمر بن الخطاب أُبي بن كعب أن يصلي بالناس إماماً في صلاة التراويح، وقول عمر بن الخطاب في هذه المناسبة: [نعمت البدعة هذه] يحتجون -أيضاً- بهذه الحادثة على أن هناك في الإسلام بدعة حسنة، والجواب هو عين الجواب عن إخراج عمر لليهود من جزيرة العرب، فـ عمر لم يبتدع شيئاً في الإسلام إطلاقاً، وإنما نفذ أمراً قديماً. كذلك لما صلى، أو أمر أُبي بن كعب أن يصلي بالناس إماماً، لم يأت بشيء جديد؛ لأن هذه الإمامة شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه في الليالي الثلاث التي قرأتموها في صحيح البخاري، ثم ترك ذلك عليه الصلاة والسلام لعلة: (إني خشيت أن تكتب عليكم) ، ثم زالت هذه العلة بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أتم الله عز وجل الدين، فلم يبق هناك مجال لتشريع أحكام جديدة، ومن أجل زوال العلة رجع عمر بن الخطاب فأحيا تلك السنة، لا سيما وهناك حديث من قوله عليه الصلاة والسلام، وهو رد على بعض الناس الذين يرون -على الرغم من زوال تلك العلة- أن صلاة التراويح في البيوت أفضل من صلاتها في المساجد، فهو خطأ وغفلة من هؤلاء عن شيئين اثنين: الشيء الأول: أن العلة زالت؛ ولذلك رجع عمر إلى إحياء هذه السنة. والشيء الآخر: هو أنه جاء في سنن أبي داود حديث بإسناد صحيح، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من صلى العشاء في رمضان وراء الإمام، ثم صلى خلفه صلاة القيام، كتب له قيام ليلة) ، فهذا تشريع من الرسول من قوله يحض المسلمين على أن يصلوا صلاة التراويح مع الإمام، فما الذي فعله عمر بن الخطاب؟ أحيا سنة فعليه، وسنة قولية، كل منهما يؤيد الأخرى، إذاً ما أحدث عمر بن الخطاب شيئاً في الدين، وإنما أحيا سنة من سنن سيد المرسلين. لكن يرد السؤال التقليدي: إذاً لم قال عمر بن الخطاب: [نعمت البدعة هذه] ؟ نقول: عمر أطلق البدعة على هذا التجميع باعتبار ما كان الأمر عليه، ما بين ترك الرسول عليه الصلاة والسلام لصلاة الجماعة في التراويح، وإحيائه هو إياها، فكانت هذه السنة متروكة، فهو سماها بدعة؛ لأنها حدثت بعد أن لم تكن في هذا الزمن المحصور؛ بهذا الاعتبار قال: [نعمت البدعة هذه] . خلاصة القول: لا يجوز أن ننسب إلى الدين ما ليس منه إلا بدليل شرعي -كما سمعتم- بالنسبة لإخراج اليهود، وبالنسبة لتجميع عمر الناس على صلاة التراويح، ولا يجوز إنكار بعض المحدثات ما دام ليس سبب إحداثها هو تقصير منا، وفي الوقت نفسه هذا الذي حدث يؤيد حكماً شرعياً منصوصاً عليه، كمكبر الصوت. إذا عرفنا هذين الأمرين نجونا من الإفراط والتفريط، الإفراط: هو إضاعة مثل هذه الوسيلة بحجة أنها محدثة، وهي ليست محدثة في الدين، ولا تعارض الدين، بل تؤيد غرضاً من أغراض الدين، وحكمة من حكم التشريع، ولا يجوز أن ندخل في الدين أشياء بقصد زيادة التقرب إلى الله، فهذه الزيادة ممنوعة؛ للأحاديث الكثيرة التي تعرفونها في الذم عن الابتداع في الدين، ومن أخطرها قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أبى الله عز وجل أن يقبل من صاحب بدعة توبة) .

سبب تأخير إحياء سنة صلاة التراويح

سبب تأخير إحياء سنة صلاة التراويح Q ما دام أن العلة انتفت بموت الرسول، فلم لم تحي هذه السنة في خلافة أبي بكر، أو في صدر خلافة عمر؟ A أقول لك: أولاً: هذا السؤال إيراده ليس له علاقة بالموضوع من حيث فهمه هل هو صواب أو خطأ، والجواب عليه كذلك لا علاقة له بالموضوع، لم؟ لأن الأهم من ذلك أن تعلم هل الذي صنعه عمر هو بدعة في الدين، أم إحياء لسنة من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فإذا عرفنا بالأدلة السابقة وغيرها أنه لم يبتدع في الدين -وحاشاه- وإنما أحيا سنة من سنن الرسول عليه السلام، فما الذي يهمنا في أن نعرف السبب الذي من أجله لم يحي أبو بكر الصديق هذه السنة، والسبب الذي من أجله لم يحي عمر هذه السنة في أول خلافته، ما الذي يضرنا؟ كثير من العلم يكون الجهل به مثل العلم به -أي: من نافلة القول- ومع ذلك فأهل العلم يجيبون أن الذي منعهم هو اشتغال أبي بكر بحروب الردة، وأنه كان في ذهنه يحمل هماً كبيراً وخطيراً جداً، إذ كان يخشى أن يقضى على الإسلام من هؤلاء المرتدين، فهذا أمر خطير وخطير جداً أخذ كل تفكيره وكل اهتمامه فصرفه إلى رد هذه الضلالة الكبرى التي حدثت، ولم يعد عنده مجال ليفكر في أن يحيي هذه السنة. بخلاف عمر بن الخطاب الذي بدأت الأمور تهدأ في خلافته، فأحيا هذه السنة، ومن هنا يظهر لك أنه ليس من المهم أن نعرف السبب -على أن هذا السبب ممكن أن يكون كذلك- المهم أن نعرف هل الذي فعله مشروع، أم ليس بمشروع؟ السائل: لم لم يفعل ذلك ثلاثة أيام كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: هذا القول لا يصح؛ لأن الرسول فعل ثلاثة أيام لعلة، ونحن ذكرناها، فهناك -يا أخي! - فقه وقواعد أصولية، يقول أهل العلم: الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً. ما معنى هذا؟ مثال يفهمه كل الناس: ما علة تحريم الخمر؟ الإسكار، فإذا ذهب الإسكار من الخمر لسبب ما كالتخلل مثلاً، تغير الحكم، كان خمراً محرماً؛ لأنه مسكر، فلما انقلب خلاً خرج عن كونه خمراً مسكراً فصار شيئاً آخر، والخل مباح كما هو معلوم لدينا جميعاً. كيف اختلف هذا عن هذا؟ بوجود العلة، وزوال العلة، ما دامت العلة موجودة في الخمر وهي الإسكار؛ فهو حرام، وإذا زالت هذه العلة؛ خرجت من كونها حراماً وصارت حلالاً. الدابة الميتة، إذا مرت عليها عوامل من العوامل التي خلقها الله في كونه، ومنها الشمس، والأمطار، والرياح، فانقلبت بهذه العوامل الإلهية- هذه الدابة الميتة- ملحاً، يصبح هذا الحيوان الذي كان أكله محرماً حلالاً، بعد أن انقلب إلى شيء آخر؛ إلى ملح. ولذلك تقول بعض المذاهب: إن التحول من جملة الأشياء المطهرة، كالأرض -مثلاً- التي يقع فيها نجاسة إذا تبخر ما فيها من نجاسة وذهب طهرت الأرض. كثير من المسائل من هذا القبيل تقوم على هذه الملاحظة، وهي وجود العلة أو زوالها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما وحصبوا بابه وخرج مغضباً قال: (عمداً تركته، إنه لم يخف عليَّ مكانكم هذا، إني خشيت أن تكتب عليكم) إذاً هذه الخشية زالت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبق هناك مجال للإتيان بأحكام جديدة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: جئتك بالحديث القولي: (من صلى العشاء مع الإمام، ثم صلى قيام رمضان معه كتب له قيام ليلة) ما قال: في ثلاث ليالٍ، بل جعله شرعاً أبدياً إلى يوم القيامة، ولذلك ما دام أن العلة السابقة زالت، وما دام أن هذا الحديث موجود وهو صحيح كما قلت، فلا يجوز لنا أن نقول: إن عمر ابتدع في الدين، وشرع للناس، وأصبحت هذه الشريعة مستمرة إلى يوم القيامة، هذا من أفحش الأخطاء التي قد يبتلى بها بعض الناس؛ لأنه أولاً: يلزم تعطيل قول الرسول: (إني خشيت أن تكتب عليكم) ، بينما هذا تحته توجيه كريم: أنه إذا زالت الخشية بوفاتي فلا مانع أن ترجعوا إلى هذه الصلاة، بدليل: أن قصة إحياء عمر لهذه السنة قد جاء فيها: أن عمر بن الخطاب حسب عادته كان يطوف في المسجد، فيجد الناس يصلونها زرافات وأفراداً، جماعة هنا وجماعة هنا، إذاً هم يصلون جماعة، لكن جماعات متفرقة، وما صلوا في البيوت؛ لأنهم علموا أن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالصلاة في البيوت هو لهذه الخشية، فما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام توفي، فقد زالت الخشية؛ لذلك كانوا يصلون في المسجد، ولكن ليس وراء إمام واحد، فلما جمعهم عمر بن الخطاب وراء إمام واحد؛ فهو إنما أحيا السنة التي بدأها الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي الثلاث، ولكن علل الترك بهذه الخشية، فلما زالت الخشية زال حكم الترك، وأكد ذلك بالحض على الصلاة وراء الإمام صلاة القيام، حتى يكتب لهذا الذي قام وراء الإمام كأنه قام الليل كله، فإذاً عمر لم يبتدع في الدين، وحاشاه أن يفعل ذلك، ثم هل هو يبتدع ولا أحد ينكر عليه، والناس يتابعونه حتى يومنا هذا؟ هذا أبعد ما يكون عن الصواب. إذاً: لا يجوز أن نقول بأن تجميع عمر بن الخطاب المسلمين من الصحابة الكرام والتابعين على أبي بن كعب إحداث في الدين، ثم يسكت الصحابة، وأبي بن كعب معهم، ويأتمر بأمره، ويعتقد -كما قد يقال- أنه بدعة، ولا أحد يقول له أو يلفت نظره، هذا أمر مستحيل! لذلك الصواب القول: بأن التجميع في رمضان سنة تركها الرسول لعلة، والعلة زالت، وبزوال العلة يزول المعلول وهو حكم الترك، زال هذا بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. والقول: بأن السنة فقط ثلاثة أيام، هذا لا يقوله عالم في الدنيا إطلاقاً، بمعنى أنه في كل رمضان يقوم الواحد ويصلي ثلاثة أيام في المسجد فقط، وبعد ذلك يصلي في البيت، هذا لا أحد يقوله. السائل: لماذا -بارك الله فيك- عمر لم يصلِّ بالقوم، ولا صلى وراءهم، ولكنه استمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى مع الإمام صلاة العشاء، ثم أقام معه وصلى خلف الإمام صلاة القيام كتب له قيام ليلة) ، فـ عمر رضي الله عنه أقام مع أبي بن كعب، ولا صلى بهم هو، وما جمع القوم إلا لما رآهم مختلفين، كما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يجتمعون فخشي أن تفرض عليهم، فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى القوم قد اختلفوا في الصلاة فأناس يصلون هنا، وأناس يصلون هنا؛ جمعهم لهذه العلة ولكن لم يصل معهم، ولم يصل بهم، ما أتى أمر الرسول فصلى مع الإمام حتى يكتب له الأجر، ولم يصل بالقوم. الشيخ: عمر لم يصلِّ؛ لأنه يتحسس أحوال المسلمين، ويفتش عن أمورهم، فما هو فيه أفضل من أن يشارك الناس في هذه الصلاة، المهم أن هذه الصلاة التي أحياها عمر ليست بدعة، ولا يجوز لمسلم أن يسميها بدعة، حتى لو أطلق عليها أنها بدعة حسنة، فكيف نقول بأن هذه بدعة ضلالة؟! وعمر بن الخطاب أمر بها والصحابة استجابوا لها، وعمل المسلمون بها حتى يومنا هذا، {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] .

حكم الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح

حكم الزيادة على إحدى عشرة ركعة في التراويح Q في هذه الأيام زادت الركعات التي تصلى عن صلاة الرسول التي صلاها وهي إحدى عشرة ركعة، ثم بعد ذلك لم يحسنون الصلاة فيها، فما حكم ذلك؟ A هذا خلاف السنة، فما لنا ولهذا؟ الرسول صلى الله عليه وسلم ما زاد في رمضان عن إحدى عشرة ركعة، وعمر بن الخطاب أمر أبي بن كعب أن يصلي بالناس إحدى عشرة ركعة، هذا ليس فيه كلام، فالسنة لا نحيد عنها، أما أن نقول: إن عمر ابتدع، وهذه بدعة ضلالة، بل أن نقول: ابتدع وهذه بدعة حسنة، هذا خطأ، ولكن (حنانيك بعض الشر أهون من بعض) الذي يقول: هذه بدعة حسنة، شره أقل ممن يقول: هذه بدعة ضلالة ابتدعها عمر بن الخطاب -حاشاه من هذا ومن هذا- وإنما هو أحيا سنة، فينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء) هذا ينطبق تماماً على ما فعله عمر بن الخطاب، وهو الذي أردت أن ألفت النظر إليه؛ حتى لا نقع -كما قلنا- في الإفراط والتفريط.

التفريق بين البدعة في الدين، والبدعة في أمور الدنيا

التفريق بين البدعة في الدين، والبدعة في أمور الدنيا ومن الإفراط مثلاً: أن بعض الناس ينكرون -ممن لم يعتادوا- الأكل بالملعقة؛ فهذه ليس لها علاقة بالدين، لماذا تنكر؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكل بالملعقة صحيح، ورسول الله ما ركب السيارة، ولا الطيارة إلخ، فهل يقول الإنسان: إن هذه بدعة؟ البدعة تكون في الدين، أما أن تأكل بالملعقة، أو تركب الطيارة ولا تركب الدابة، وما شابه ذلك، فهذه كلها من أمور الدنيا، وقد تساعدنا أيضاً -كما قلنا- مثل هذه الوسيلة على القيام ببعض الواجبات التي ربما لا نستطيع أن نقوم بها في هذا الزمان بدونها. المهم يجب أن نفرق بين البدعة في الدين، والبدعة في الدنيا ونلخص هذا الموضوع الطويل بالآتي: البدعة تنقسم -أي: الشيء الذي حدث- إلى قسمين: إما أن يكون لها علاقة بالدين، أو يكون لها علاقة بالدنيا. فإذا كان لها علاقة بالدين ويقصد بها زيادة التقرب إلى الله؛ فهذه بدعة ضلالة قولاً واحداً، وإذا كان لا يقصد بها زيادة التقرب إلى الله، وإنما تستعمل كوسيلة لتحقيق حكمة أو علة شرعها الله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، فحينئذٍ ننظر: إن كان السبب المقتضي للأخذ بهذا الأمر الذي حدث كان قائماً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فالأخذ بهذا الأمر الذي حدث لا يجوز؛ لأنه لو كان جائزاً لأخذ به الرسول عليه الصلاة والسلام، ومثاله الأذان لصلاة العيدين، فيقال: يا أخي! سنؤذن من أجل الإعلام، فيقول: هذا كان موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلماذا لم يستعمل هذه الوسيلة للإعلام؟ إذاً نحن نتبعه، ولا نحدث في الدين شيئاً، أما إذا كان المقتضي حدث -ولسنا نحن مسئولين عنه- وكان يساعد على تحقيق غرض شرعي، كهذا المكبر للصوت، فنحن لا نسميه بدعة شرعية، وإنما هو أمر جديد حدث، فما دام يحقق غرضاً شرعياً فهو مشروع، وقد يمكن أن يكون أكثر من مشروع، فالمسجلات هذه -مثلاً- إذا سجل فيها درس أو موعظة أو حديث أو تلاوة قرآن، فهي مشروعة؛ لأنها وسيلة، أما إذا سجل فيها أغاني أو ملاهي أو آلات طرب؛ فهي غير مشروعة؛ هذا لأنه من الأمور التي حدثت في الدنيا لا في الدين، هذا التفصيل يجب أن نتذكره دائماً؛ حتى لا نقع في إفراط ولا تفريط. الإفراط أن نقول: هذه لم تكن في عهد الرسول فلا نفعل بها يا أخي! ليس لها علاقة بالدين، مثل السيارة، والطيارة. والتفريط: أن تأتي وتحدث في الدين أشياء تريد أن تتقرب بها إلى الله عز وجل، فتنسب النقص وضعف الهمة في العبادة للسلف الصالح، الذين لم يحدثوا هذه المحدثات من الأمور الدينية. وفي هذا القدر الكفاية والحمد لله رب العالمين.

إشكال حول مشابهة الكفار في أمور دنيوية يمكن الاستغناء عنها

إشكال حول مشابهة الكفار في أمور دنيوية يمكن الاستغناء عنها Q يا شيخ! إذا كان هذا الشيء فيه مشابهة لأعداء الله، والإنسان يستطيع تركه؟ الشيخ: في مثل أي شيء هذه المشابهة؟ السائل: مثل الأكل بالملعقة، فأستطيع أن آكل بيدي، وليس من حرج عليَّ لو تركت الملعقة. A المشابهة في الأمور الدنيوية يجب أن يكون فيها دقة، أما الإطلاق فلا يجوز، أنا هذا الذي خشيته، أي: الآن إذا ركبنا السيارة فهناك مشابهة أو ليس هناك مشابهة؟ السائل: هناك مشابهة، ولكن هذه السيارة كأنها ضرورية. الشيخ: فلو استعملت الدابة التي استعملها أبوك وجدك ستفي بالغرض، ولكن تتعطل مصالحك المادية. السائل: هذا صحيح. الشيخ: وهكذا يقال بالنسبة للملعقة. السائل: الملعقة ما فيها ضرورة. الشيخ: وأنا أقول لك إذا أردت الحقيقة في رأيي أن الأكل بالملعقة خير من الأكل باليد، أتدري لم؟ السائل: لم؟ الشيخ: مثل مكبر الصوت الآن، فأن تؤذن ومكبر الصوت على المنارة خير من أن تقتصر على صوتك فقط؛ لأنه يحقق الهدف -كما قلنا- أكثر، أما بالنسبة للأكل فأقول: أنت تعلم أن السنة أن تأكل فقط بثلاث أصابع، أليس كذلك؟ وأنا أشاهد كل الذين يأكلون على هذه الطريقة لا يطبقون السنة، لا سيما حينما يكون هناك مرقة فتجد ليس فقط أربع أصابع، إنما الكف كلها تلوثت، أين السنة في الأكل بخمس أصابع؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى: تلاحظ أن الوعاء الذي عليه الأرز -مثلاً- تجد حوله وعلى الأرض فتات من الأرز كثير وكثير جداً، بينما الذي يأكل بالمعلقة لا يقع منه إلا ما شذ وندر جداً، فالمحافظة على البركة والنعمة يساعد عليه الأكل بالملعقة أكثر من أن تأكل بيدك، لا سيما إذا خالفت السنة، لذلك نحن نقول: الأكل بالملعقة هو من أمور الدنيا.

الأجوبة الألبانية على الأسئلة الاسترالية

الأجوبة الألبانية على الأسئلة الاسترالية

حكم صور التلفاز ولعب الأطفال المجسمة

حكم صور التلفاز ولعب الأطفال المجسمة Q هل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة ولا تمثال) يشمل صور التلفزيون أيضاً ولعب الأطفال الصغار؟ A لا نشك في ذلك إذا كانت لعبة التلفاز مثبتة، فمن الممكن -مثلاً- أن يكون هناك أمور أو حشد أو ما شابه ذلك نراها بواسطة التلفاز، لكن أن تصور هذه المناظر وتحفظ في شريط ثم تعرض، فلا فرق بين هذه الصور والصور الفوتوغرافية ونحوها؛ لأن كل ذلك يسمى لغة وعرفاً: صورة، وحينذاك تدخل هذه الصور بكل أنواع وسائلها المحدثة في عموم قوله عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بالمصورين: (كل مصور في النار) ، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بالصور ذاتها: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة أو كلب) فهذا العام الأول، والعام الآخر يشمل كل المصورين مهما كانت وسائل تصويرهم، وكل الصور بأي وسيلة صورت هذا من حيث النقد. أما من حيث النظر فكلكم يعلم -إن شاء الله- بأن الشارع الحكيم إذا حرم شيئاً فلحكمة بالغة، قد تظهر هذه الحكمة لبعضهم، وقد تخفى على الكثيرين، ومن المعلوم عند أهل العلم أن الله عز وجل حينما حرم التصوير واقتناء الصور، أنه حرم ذلك لحكمتين بالغتين ظاهرتين: الحكمة الأولى: من باب سد الذريعة بين الناس وبين أن يقعوا في الشرك، كما وقع لقوم نوح عليه السلام، الذين ذكرت قصتهم في السورة المسماة باسمه، وحكى ربنا عز وجل عنهم أن موقفهم كان تجاه أمر نوح عليه السلام إياهم أن يعبدوا الله وحده حيث تناصحوا بينهم فقالوا: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] وقد جاء في تفسير الآية في صحيح البخاري، وفي تفسير ابن جرير، وتفسير ابن كثير، وغيرها من المصادر السلفية: أن سبب وقوع قوم نوح عليه السلام في الشرك وعبادة غير الله عز وجل، إنما هو بدء تعظيمهم لصالحيهم تعظيماً مخالفاً للشرع. تقول هذه الرواية التي ذكرنا آنفاً بعض مصادرها: أن هؤلاء الخمسة الذين ذكروا في الآية السابقة كانوا عباداً لله صالحين، فلما ماتوا أوحى الشيطان إليهم أن يجعلوا قبورهم في أفنية دورهم. وهؤلاء كانوا خمسة من عباد الله الصالحين، فأوحى الشيطان إلى قومهم: أن ادفنوهم في أفنية دوركم، ولا تدفنوهم في المقابر التي يدفن فيها عامة الناس؛ حتى تتذكروهم، ومن هنا بدأت فكرة نصب التماثيل في الساحات العامة، التي بدأت تنتشر مع الأسف في بعض بلاد الإسلام في هذا الزمان. فاستجابوا لوحي الشيطان، ودفنوهم في أفنية دورهم، فتركهم الشيطان برهة من الزمان إلى أن جاء جيل ثان، فوجدوا آباءهم يترددون على هذه القبور بقصد الزيارة، أو ما يسمى اليوم عند بعض دراويش المسلمين بـ: (التبرك) فأوحى إليهم الشيطان أن هذه القبور بقاؤها في هذا المكان قد يعرضها للعواصف والسيول، فتجرفها وتذهب آثارها، وهؤلاء أناس صالحون كما تعلمون، فيجب أن تبقى آثارهم أبد الدهر، إذاً ماذا نصنع؟ قال: انحتوا لهم أصناماً (تماثيل) فاستجابوا ووضعوها في مكان، وأخذ الجيل يتردد على هذا المكان، ثم جاء جيل ثالث، فأوحى إليهم الشيطان أخيراً أنه لا يليق بهؤلاء إلا أن يوضعوا في أماكن رفيعات تليق بصلاحهم ومكانتهم وهكذا بدأت عبادة الأصنام من دون الله عز وجل من طريق التماثيل، فكان من حكمة الله عز وجل أن حرم التصاوير، سواء ما كان لها ظل أو ليس لها ظل، هذه الحكمة الأولى الظاهرة من قصة قوم نوح مع نوح عليه السلام. الحكمة الثانية: وهي أقوى من حيث الرواية، ألا وهي: المضاهاة لخلق الله عز وجل، حيث جاء في صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رجع من سفر وأراد الدخول على عائشة وجد هناك ستارة وعليها تماثيل، فلم يدخل ووقف خارج الغرفة، فسارعت إليه السيدة عائشة وقالت: (يا رسول الله! إن كنت أذنبت فإني أستغفر الله، قال: ما هذا القيدام؟ قالت: قيدام اشتريته لك -تعني: أتزين به من أجلك- قال عليه الصلاة والسلام: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة هؤلاء المصورون الذين يضاهون بخلق الله) . فإذاً: التصوير من أسباب تحريمه: أن المصور يضاهي خلق الله عز وجل، وهنا لابد من وقفة يسيرة لرد شبهة عصرية، ألا وهي: زعم كثير من المتفقهة -ولا أقول: من الفقهاء- في هذا الزمان أن الذي يصور بالآلة الفوتوغرافية -الكاميرا مثلاً أو الفيديو- هذا ليس مضاهياً لخلق الله، بل هو يتعاطى الأسباب الكونية التي خلقها الله وذللها للإنسان فتكون هذه الصورة، حتى أغرق بعضهم في الخيال والإبطال في الكلام أن قال: إن هذا الذي يصور بالكاميرا هو لا يصور، وإنما المصور هو الله الذي حبس الظل. فهذه مكابرة عجيبة جداً لا تخفى على كل ذي بصيرة؛ ذلك لأن المسألة مسألة تصوير، ولو غضضنا النظر عن الجهود التي بذلت في صنع هذا الجهاز، بحيث أنه لا يحتاج إلى قلم، وريشة، ودهان إلخ بما كانوا قديماً يستخدمونه من أجل التصوير، وإنما إلى (كبسة) وضغط على زر! فأقول: سبحان الله! هذه مكابرة عجيبة جداً! فأقول: فإنه لو ترك هذا الجهاز المسمى بالكاميرا هكذا سنين لم يصور شيئاً، فلابد -أولاً- من توجيه الجهاز إلى الهدف المقصود تصويره، ثم لابد من الضغط على الزر، فكيف يقال: إن هذا ما صور؟! هذه مكابرة عجيبة وعجيبة جداً! لكن الشاهد: أنهم يقولون: إن هذه الوسائل الحديثة ليس فيها مضاهاة، والواقع أن المضاهاة بخلق الله بالتصوير بهذه الأجهزة أدق من التصوير كما كان قديماً سواء بالريشة أو بالنحت، فإذا كان من المتفق عليه بين العلماء قديماً وحديثاً أن الصور المجسمة -أي: الأصنام- هي محرمة لا لشيء إلا لأنها مجسمة ولها ظل، ولكنها هل تضاهي خلق الله من كل الجوانب؟ الأمر واضح جداً؛ ذلك لأن هذا الصنم عبارة عن قطعة حجر، فهو في الظاهر يمثل إنساناً من خلق الله عز وجل، لكن في الباطن ليس هناك شيء مما يوجد في باطن الإنسان الذي خلقه الله عز وجل وسواه وعدله. إذاًَ: التشبيه هو المضاهاة فيما يظهر من الصور؛ سواء كانت مجسمة، أو كانت على الستارة، أو على الجدار، أو على الورق. ومن هنا يبدو لنا أننا نعيش في بعض ما نسمع من أحكام العصر الحاضر على نمط المذهب الظاهري، مذهب ابن حزم الظاهري الذي يضرب به المثل في غلوه وتمسكه بظواهر النصوص، وهذا كما يقال: يضحك الثكلى. ونحن الآن في هذا العصر نقع في مثل هذه الظاهرية القديمة، فنحن نعيش ظاهرية عصرية، لماذا؟ لأن الصنم هو المحرم فقط، أما التصوير الذي يتحرك -أي: الفيديو- وتراه كأنه إنسان حي فهذا ليس فيه مضاهاة لخلق الله!! أما هذا الحجر الأصم الذي لا تسمع منه صوتاً، ولا ترى منه حركة شفوية ونحو ذلك، ولا رمش العين ولا فهذا فيه مضاهاة لخلق الله!! هذه ظاهرية من أغرق في التمسك بظاهرية ابن حزم، الذي وصل به الأمر أن يقول في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد) ظاهر هذا اللفظ العربي كما يقول ابن حزم: نهى عن البول في الماء الراكد، لكنه إذا بال في إناء فارغ، ثم أراق هذا البول من هذا الإناء في الماء الراكد ما بال في الماء الراكد، إذاً هذا يجوز، سبحان الله! مع فضله وعلمه وهو رجل فاضل حقيقة، لكن سبحان الله! أبى الله عز وجل العصمة إلا لأنبيائه ورسله، وله من هذه نماذج أخرى، مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في البكر إذا ما استؤذنت في الزواج: (وإذنها صماتها) هذا في منتهى اللطف من الشارع الحكيم ببنات الخدور، والأبكار كن في الزمن الماضي في الخدور يتصنعن الحياء وإلى آخره. أما اليوم فيسأل الوالد ابنته: فلان يريدك؟ فتقول: لا أريده، بل أريد كذا، وأريد كذا إلخ، بالصراحة. فربنا عز وجل أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ينبغي الاكتفاء في استئذان البكر لأنها خجولة حيية أن تصمت. وماذا فهم ابن حزم من هذا الحديث؟ قال: (إذنها صماتها) فإذا قالت: رضيت، فلا ينعقد، فيجب أن تصمت ظاهرية!! لا يلاحظ الغرض والهدف من هذا التشريع وذاك التشريع النهي عن البول في الماء الراكد واضح؛ وهو المحافظة على هذا الماء الراكد، وما هو الفرق بين أن تصب البول مباشرة أو بالإناء؟ عندنا نهر يسمى نهر عليق في دمشق، القاذورات كلها تنصب إليه، فإذا وصل هذا الماء النجس إلى بحيرة ماء صاف من ماء السماء، سواء صب عليه مباشرة أو بهذه الواسطة، ليس هناك فرق. الخلاصة: نحن الآن نعيش هذه الظاهرية العصرية، نحت الصنم بـ (الإزميل) ليالي وأياماً هذا حرام! قلت لأحدهم واحتج بأن التصوير بالكاميرا جائز؛ لأن هذه الوسيلة ما كانت موجودة، ثم إن هذا ليس كالتصوير السابق الذي كان، قلت: وماذا تقول في المعامل الضخمة اليوم التي تضغط فيها على زر فتشتغل آلات دقيقة جداً، تُخرج عشرات بل مئات الأصنام الجامدة، هل يجوز هذا؟ قال: لا يجوز. قلت: لكن هذه كهذه، هذه وسيلة ما كانت والصنم وجد بهذه الوسيلة، كذلك هذه الصورة وجدت بوسيلة، فالعبرة ليست بالوسيلة بل العبرة بالغاية، ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، وما يقوم الحرام به فهو حرام، هذه قواعد، فإذاً وجد الصنم نحتاً بـ (الإزميل) أو سعياً إلى إبداع آلة تخرج في لحظات تلك الأصنام فالنتيجة واحدة، كنتيجة صب البول في الماء الراكد مباشرة، أو بالواسطة الأخرى. إذاً: كل هذه الصور التي اختلفت وسائلها عن الوسائل المعروفة قديماً فهي اسمها صور، فيشملها حديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة) ، والذين يصنعون هذه الصور بهذه الأجهزة هم مصورون، وكلهم في النار كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مصور في النار) وقال: (لعن الله المصورين يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) . وإذا عرفنا هذه الحقيقة عرفنا أن صور الفيديو على البيا

حكم شركات التأمين

حكم شركات التأمين Q عندنا قائدو السيارات عندهم تأمين اضطراري، فلا يقودون السيارة إلا به، وهو التأمين على حياة الآخرين، والآن عندنا تأمين آخر، وهو التأمين ضد الغير، فلو حدث حادث سيارة، وتضرر آخرون كأن يصاب أحدهم بعاهة فلا يستطيع أن يعمل؛ فأنت ملزم بأن تكفله وتكفل معاشه طيلة حياتك طالما أنك أقعدته، وإذا تضررت سيارته فعليك أن تصلحها. الشيخ: من هو الكفيل؟ الشركة أم صاحب السيارة؟ السائل: صاحب السيارة هو الذي سيتكفل بهذا. الشيخ: كيف يتكفل؟ السائل: إذا لم يؤمن عند شركة التأمين، أما التأمين الآخر الذي هو ضد الغير، كأن يحدث حادث سيارة، فإذا مات الرجل تدفع الدولة عنك؛ لأنك مؤمن، أما إذا انكسر منه عضو، أو تضررت سيارته فأنت ملزم بذلك. فهل هنا يصح التأمين؟ A التأمين لا يجوز على أي وجه، والصورة الأخيرة هي أقرب إلى الشرع كقتل الخطأ، مثلاً: واحد صدم شخصاً في الطريق، وكان هو المخطئ، فهو ضامن شرعاً، فهذا أولى من المشاركة في التأمين الذي هو عين المقامرة، أما ما اضطر إليه فعرف الحكم من السابق. السائل: هذا نحن مضطرون إليه وحسبنا الله فيهم، أما الآخر فهل يجوز؟ الشيخ: لا يجوز.

حكم خلع المرأة ملابسها في محلات الملابس

حكم خلع المرأة ملابسها في محلات الملابس Q بالنسبة لخلع المرأة ملابسها في محل البيع والشراء، هل ينطبق عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نزعت ثيابها. الحديث) ؟ A أولاً: أنا أفهم من هذا الحديث بخلع الثياب كلياً، أي: أن تتعرى. السائل: وهذا لا يحصل في المحل، وإنما خاص بالحمام. الشيخ: لا تقاطعني، أنا لم أنته بعد، أنا قلت: أولاً، وأولاً تعني أن بعدها ثانياً، وقد تعني أن بعدها ثالثاً والله أعلم. أولاً: الحديث ينصب على المرأة التي تتجرد عن ثيابها كلياً، ولذلك استدل به على تحريم دخول المرأة الحمام خارج دارها، مع ذلك أنا أقول: إذا اضطرت المرأة لأن تستحم في دار غير دار أهلها وذويها ومحارمها، حينذاك ينبغي النظر في تأمين سد الذريعة؛ لأن هذا الحكم ليس تعبدياً محضاً، لا تعرف الحكمة أو العلة في نهي الرسول عليه السلام أن المرأة تتعرى، بل هذا معقول المعنى؛ لأن ذلك قد يعرضها لأن تفتن في عرضها، فإذا كان هناك محرم يصونها فيما إذا أريد أن يعتدى عليها؛ فحينئذٍ يزول المنع، فإذا وجد مثل هذا المانع ولو بطريق غير المحرم، كأن تكون -مثلاً- في دار هي على يقين أنه ليس فيها رجال؛ فيجوز لها أن تستحم بعد أن تأخذ -أيضاً- الحيطة بأن لا أحد حتى من النساء يطلع على عورتها إذا عرفنا النص وفقهه يمكننا الآن أن نتوصل إلى الإجابة عن السؤال مباشرة. فأقول: هذه الغرف التي تتخذ في أماكن التجارة للألبسة، إذا كانت أولاً: ليس فيها عيون تتجسس وتراقب من يدخل في هذه الغرفة من النساء، فإننا نسمع أن هناك بعض الصالات التي تتخذ في بعض الفنادق الكبيرة والضخمة لإقامة حفلات الزواج والبناء، فيها كاميرات توضع في بعض الزوايا بحيث لا ينتبه لها الجالسون في تلك الصالة، لكنها تصور، ومن كان في الصالة لا يشعر وهم يقولون: لا يوجد أحد. لكن هناك آحاد وعيون لا تُرى ولكنها ترى، فيشترط أن تكون هذه الغرف مؤمنة ولا يوجد فيها مثل هذه العيون المراقبة. وثانياً: يكون مع هذه المرأة ولو خارج الغرفة من محارمها أو من صديقاتها، بحيث أنها تأمن على نفسها ألا يطرأ عليها طارئ، وبهذه التحفظات يمكن أن يقال بجواز دخول المرأة المسلمة وقياس الثوب الذي تريد أن تشتريه. لكني أقول: لا أرى للمرأة المسلمة أن تهتم بنوعية لباسها، بحيث أنه لا يمكن أن ترضى به إلا بعد أن تلبسه كتجربة؛ لأنني أفهم أن المقصود من هذا كله أن تكون الثياب ضيقة عليها وألا تكون فضفاضة، وهذا معاكسة لحكم الشرع، حيث يشترط في ثيابها ألا تكون شفافة، وألا تكون مجسمة أيضاً، ولذلك فأنا أتصور أن مجرد الدخول في مثل هذه الغرفة مع كل التحفظات التي اشترطناها لا تخلو من مخالفٍ للشرع. مداخلة: عفواً يا شيخنا! مصداقاً لما قلتم بارك الله فيك، في عمَّان رجل أتى بأهله لكي يبني بها في فندق، فصورت ليلة الدخلة تصويراً كاملاً، وافتضح الأمر، وتم إغلاق الفندق على إثر هذه الحادثة، فكان يوزع هذا الشريط بمئات الدنانير. الشيخ: هذا في بلاد الإسلام فما بالك في بلاد الكفر والطغيان؟!! السائل: يا شيخ! كنت أبحث في هذه المسألة بصفتي بائع ملابس، فيفهم من كلامك أنك ذكرت أن يكون المحل ثقة، وأن يكون المحرم موجوداً، لكن في أستراليا لا تتوفر مثل هذه الثقة من حيث التجار؛ لأن أكثرهم كفار. السائل: يا شيخ! بعض المتاجر فيها كاميرات التصوير لمراقبة الزبائن، وتوضع الكاميرات كذلك في غرف القياس، حتى لا يسرق الزبون الملابس ويلبسها تحت ملابسه التي دخل بها.

حكم صلاة المرأة بثياب بيتها وحكم ستر قدميها في الصلاة

حكم صلاة المرأة بثياب بيتها وحكم ستر قدميها في الصلاة Q هل تصلي المرأة المسلمة بما تلبسه من ثياب ساترة داخل بيتها، أم لابد من جلباب فوقها؟ وهل يشترط لها أن تستر قدميها في الصلاة؟ A أما ستر القدمين في الصلاة فهذا لابد منه؛ لأن القدمين من عورة المرأة كما دل على ذلك الكتاب والسنة. أما هل يجوز للمرأة أن تصلي بثياب بيتها؟ الجواب: يبدو أنه ليس من ثياب بيتها ما تكون ساترة لقدميها، فإذاً الجواب واضح: أنه لا يجوز، ولهذا جاء في بعض الآثار السلفية: أن المرأة إذا قامت تصلي فيجب أن يكون عليها قميص سابغ يستر ظاهر قدميها، إلا إذا افترضنا امرأة -وهذا في الخيال- تعيش في عقر دارها متحجبة متجلببة بجلبابها كما لو كانت تعيش بين الأجانب، قد يكون هناك امرأة في لباسها في بيتها شيء من التحجيم، فإذا صلت وهي فعلاً ساترة لعورتها، ولكنها من جهة أخرى محجمة لعورتها وهذا مخالف لشريعة ربها، ولذلك فلا بد للمرأة أن تتخذ إزاراً أو قميصاً طويلاً تلبسه، ولو كانت حافية القدمين فيكفيها أن تستر ظهور قدميها بهذا الثوب السابغ.

لمحة عن لقاء الشيخ الألباني بعبد الله الحبشي وتقويمه له

لمحة عن لقاء الشيخ الألباني بعبد الله الحبشي وتقويمه له Q الإخوة في أستراليا يسمعون أن عبد الله الحبشي قابلك، وقد تحدثنا سابقاً عن هذا، فالإخوة يريدون لمحة بسيطة للقائك مع عبد الله الحبشي وتقويمك له. A أولاً: كان لقاؤه معي وليس لقائي معه. السائل نفسه: نعتذر عن التعبير. الجواب: لا داعي لذلك، وإنما هذا تفصيل لبيان الواقعة على حقيقتها، فهذا رجل ما كنت أعرفه حينما فاجأني بزيارته، وكنت ألقي يومئذ درساً أسبوعياً في دار بعض إخواني، ولما جاءني هو ومعه طالبان من طلاب الفقه الحنفي، وليس من الغيبة في شيء أن أسميهما لكم وللتأريخ: أحدهما: شعيب الأرناؤوط والآخر عبد القادر أرناؤوط، وكانا يومئذ من أعداء الدعوة السلفية التي استمررنا في الدعوة إليها في سوريا كلها، وبخاصة في دمشق سنين عديدة طويلة، ففوجئت بمجيء الشيخ عبد الله الحبشي ومعه هذان الطالبان، وجلس يستمع، وبحكمة الله كان بحثي يومئذ فيما يتعلق بالعقيدة والأسماء والصفات، وبخاصة في صفة علو الله عز وجل على خلقه، فجلس هو مستمعاً لا يحرك ساكناً. وبعد الانتهاء قدَّم إليَّ أحد المذكورين وريقة يقول فيها: إن الشيخ يدعوك للمناظرة، وأنا أشك الآن إما أنه ذكر موضوعين أو أحدهما، فالموضوعان في قولي وفي محاضراتي وفي مجالسي وكتاباتي، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) ، حيث إن الشيخ يقول بأن هناك بدعة حسنة. والمسألة الثانية: البحث في إنكار التوسل بغير الله عز وجل بالذوات، والأشخاص، والجاهات، ونحو ذلك. لما قرأت عجبت من هذا الطلب العجيب الغريب، ومن شخص لم يسبق له ولا لي أن التقينا معاً! فبدأت الكلام مع الشيخ، وقلت: يا شيخ! أنت الآن تطلب اللقاء لعله فاتني أن أذكر أن من حماقة السؤال أنه طلب مني أن يكون اللقاء في المسجد الأموي الكبير وبعد صلاة الجمعة على مشهد من الناس. قلت له: أنت ما سبق أن التقيت معي وبحثت معي وعرفت رأيي في هاتين المسألتين أو في غيرهما، فكيف تريد أن نلتقي مباشرة في المسجد الكبير، وعلى مشهد غفير من الناس، وقد يثير هذا فتنة بين الناس، فقد يتعصب بعضهم لك وبعضهم لي وتقع الفتنة، أليس من المشروع والمعقول أن نلتقي مع بعض ونبحث ما تريد؟ فإن اختلفنا ولم نجد بداً من أن نلتقي في مثل ذلك المشهد يومئذٍ يمكن أن يقدم مثل هذا الاقتراح، لكن هذا الاقتراح في ظني شرعاً وعقلاً أنه سابق لأوانه. فأجاب بالإيجاب، الأمر الذي أشعرني بأن هذا الاقتراح لم يكن منه فعلاً؛ لأن الرجل غريب عن البلد، كيف يتجرأ هذه الجرأة وأنا ابن البلد أولاً، ولكن هؤلاء الذين كانوا معه هم الذين أوحوا إليه بهذا لإشعال فتيل الفتنة كما يقال. المهم أن الرجل وافق، وفعلاً بدأنا نضع شروط المناضرة، ونحن نضع هذه الشروط: أولاً: أن تكون كتابياً، ونوقع كل شيء نجيب من السائل والمجيب، وقد وافق. بعد الانتهاء اقترحت أن يكون البحث في بعض الأصول التي تتعلق بها بعض الفروع، كالمسألتين المشار إليهما آنفاً، أيضاً وافق. وإذا بأحد الرجلين اللذين كانا معه وظني أنه شعيب قال: هل هناك مانع أن أكون حاضراً؟ قلت: أنا من جهتي ما عندي مانع لكن اسألوا الشيخ، والشيخ ليس عنده مانع. قام أحد إخواننا المعروفين بذكائهم ورفع إصبعه يقول لي: أيمكن أن أكون حاضراً؟ قلت: أنا ليس عندي مانع إذا الشيخ ليس عنده مانع، فوافق الشيخ. فقام نفس الطالب وقال: ما رأيك أنا ظروفي لا تساعدني، أفيكون بديلي فلان؟ وأشار إلى أخ لي اسمه منير عبد الله توفي رحمه الله؛ لأنه أقوى منه علماً، فقلت: أنا أيضاً ليس عندي مانع، وعلى ذلك اتفقنا. وبدأت الجلسات تعقد في داري هناك في دمشق في منطقة اسمها الديوانية، وحضر الشيخ الجلسة والجلستين والثلاث ما عدت أذكر العدد، وفعلاً السؤال يكتب ويوقع والجواب كذلك. إلى آخره، وإذا به انقطع عن النظام المتبع، كان هو من قبل يتردد على المكتبة الظاهرية التي أنا أعتبر ابنها البار، فبعدما اتفقنا لم أعد أراه، وإذا بي أراه في النهار الذي تلا الليلة التي لم يحضرها، وإذا به في المكتبة، فقلت: خيراً إن شاء الله أنت ما جئتنا أمس، قال: آتيك اليوم في الدرس -هو آخذ مع برنامج الدرس تبعي في كل ليلة معينة- قلت له: لكن ما هكذا اتفقنا، اتفقنا أن نستمر في وضع القواعد ثم التفريع عليها. لم يأبه لكلامي وفعلاً حضر الدرس، وبعد الدرس بدأ يناقش، ومن القواعد التي أردت أن أؤسسها لدفع باطل من أباطيلهم: هم يحتجون بالإجماع، فأنا بدأت معه البحث في تعريف الإجماع الذي هو فعلاً حجة، فوصلنا إلى أن نقول: الإجماع هو إجماع علماء أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصرٍ من العصور، وليس إجماع الأمة؛ لأنه بهذا ممكن أن يقال لك: يا أخي! لقد أجمع المسلمون مثلاً على الزيادة على الأذان قبل وبعد، فهذا ليس إجماعاً إلخ. فهو في الجلسة أثار هذا الموضوع وقال: أنت قلت كذا، قلت له: لا. أنا ما قلت كذا، وبدأ النقاش بطريقة غير مرضية لا عقلاً ولا شرعاً، فقلت له: يا شيخ! نحن اتفقنا على الكتابة لماذا؟ حتى لا يقال: قلت، لا ما قلت، هذا كتابنا ينطق بالحق، أين الكتابة التي أنا كتبتها جواباً عن هذا السؤال؟ قال: ليس معي، قلت: لماذا أتيت بدونه؟ ولماذا التقينا؟ والخلاصة: أن الجلسة هذه لم نحصل منها على نتيجة؛ لأن الرجل أتى يناقش بناء على ما في ذهنه وليس بناء على ما اتفقنا عليه. وهذا كل ما وقع لي من اللقاء معه في جلستين فقط. ثم بعد ذلك بدأ ينشر رداً في مجلة التمدن الإسلامي، وبدأت أنا أرد عليه، وكان من ذلك رسالة ربما رأيتموها: ردة عقيب الحثيث، وقد نشرت في مجلة التمدن الإسلامي مقالات متتابعة، ثم بعد ذلك فصلناها في رسالة، وكنت بدأت منذ سنتين أو ثلاث بإعادة النظر فيها وإضافة فوائد جديدة عليها، ثم سبحان الله! صرفتني الصوارف العلمية الكثيرة؛ لأني كان في عزمي أن أعيد نشرها، خاصة بعد أن وجد له بعض التلامذة الذين لا علم عندهم وإنما هم يتلقفون كل ما يقوله الشيخ، ويبدو أن نشاطه في لبنان واسع. فنعود أخيراً بناءً على هذا السؤال ونقول: إن أتباعه مضلَّلون منه، ولذلك فأنا أنصح استعمال الصبر والأناة وطول البال في مناقشة الأتباع بالحكمة والموعظة الحسنة. أنا أخشى ما أخشاه أن يكون الرجل غير مخلص، وأن يكون مدسوساً من جهة أخرى الله أعلم بها؛ لأننا نعلم في التاريخ الإسلامي أن الرءوس إما أصحاب أهواء عن قصد، أو غير قصد أما الأتباع فمضلَّلون، وكثير منهم إذا تبينت لهم الحقيقة عادوا إليها وتمسكوا بها، ولذلك فلا أرى مقاطعتهم ومدابرتهم، وإنما الصبر عليهم، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، هذا لمن كان على وذا صدرٍ واسع؛ ليتمكن من نقل الكلمة الطيبة إليهم، وما أدري كيف الوضع عندكم هناك؟ السائل: يا شيخ! الحقيقة أنهم يكذبون كثيراً، فلذلك ليس فقط شيخهم يشكك فيه، بل حتى قادتهم الذين بعثوهم -أيضاً- على مثيلتهم، يذهب يناقشك ويقول: والله أنا ذهبت لاستتابة الشيخ فتاب على يدي، وهذا قالوه عني شخصياً، مع أنه خرج من عندي بأسوأ حال، وبعضهم أقسم بالله أنهم يفسقون معاوية عليه الرضوان، فأقسم أحدهم بالله أن هذا ليس صحيحاً، وأنه لو اكتشف ذلك لخرج منهم في الحال، وبعد أسبوع حدثت مناظرة في سدني وهو كان يقرأ لشيخهم، وقال: هذا صحيح، وهو تأكيد لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق) فهو سب علياً فهو فاسق. السائل: وهم سيخرجون كتاباً بكفر الوهابية والهجوم عليهم، فنحن نريد حكم الشرع فيهم الحكم النهائي. الشيخ: نحن لا نعطي حكماً نهائياً بالنسبة لكل الفرق الضالة، الحكم النهائي أنها فرق ضالة، أما أن نعطي حكماً نهائياً في كل فرد من أفراد الفرق الضالة، فهذا جنف وبغي وظلم وعدوان لا يجوز، عندنا مثلاً الشيعة ومن يقال فيهم الرافضة، كثير من علمائهم لا نشك في كفرهم وضلالهم كـ الخميني مثلاً؛ لأنه أعلن كفره في رسالته الحكومة الإسلامية. لكن لا نستطيع أن ندين كل فرد من أفراد الشيعة أنه يتبنى هذه العقيدة، فيمكن أن يكونوا على الفطرة. مثلاً بالنسبة لمن يسمون بـ أهل السنة والجماعة الذين يتعبدون ربنا عز وجل على المذاهب الأربعة، كثير من عامة المسلمين لا يدينون بفلسفة الأشاعرة الذين ينفون عن الله صفة العلو ويقولون: الله لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه، الفلسفة عامة المسلمين ما يعرفونها، بل أنا أعتقد حتى الكفار النصارى واليهود ربما لا يشاركونهم في هذه الضلالة. فعامة المسلمين لا يزالون على الفطرة؛ لأنهم يرفعون أيديهم ويسألون الله عز وجل، فلا نستطيع أن نقول: إن كل فرد من أفراد أهل السنة وأهل السنة من هم الآن؟ الماتردية والأشاعرة، إذاً هؤلاء كهؤلاء، نحن لا نقول هذا، وهذا في أهل السنة فما بالنا في الشيعة؟ الشيعة فيهم كفريات وضلالات، وحسبكم كتذكير بما يزعمونه من مصحف فاطمة، وذاك الذي ألف رسالة عنوانها فصل الخطاب في إثبات تحريف كلام رب الأرباب، المقصود هل كل فرد من أفراد الشيعة العامة يعتقد أن المصحف محرف؟ الجواب: لا والله. السائل: هل يجوز إطلاق الفتوى فيهم والشدة عليهم؟ الشيخ: لا يجوز إطلاق الفتوى العامة، وإنما من اعتقد بما هو كفر فهو كافر، لكن هنا ضميمة أخرى لابد -أيضاً- أن تكون في بالكم: من اعتقد ما هو كفر فهو كافر بشرط: الإنذار والتبليغ، بهاتين الضميمتين ممكن أن نقول: فلان كافر، أما هكذا بالكم:

شرح حديث: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهن)

شرح حديث: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهن) Q نرجو توضيح الحديث المنسوخ: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر) بحديث النهر والدرن. فتوضيحه بارك الله فيك> A بارك الله فيك، إن الله عز وجل يتفضل على عباده بما يشاء، والحديث الأول يصرح بأن الصلاة تكفر الذنوب التي كانت قبلها، وكان ذلك التكفير مشروطاً بأن يجتنب المصلي للكبائر، حيث قال: ((ما اجتنبت الكبائر) أي: ما دام المصلي يجتنب الكبائر فالصلاة تكفر الذنوب التي بينها وبين الصلاة الأخرى. لو كان هذا الحديث وحده لم يجز لنا أن نزيد عليه، لكن إذا زاد الله عز وجل على عباده في الفضل فنقول: حمداً لله حيث أنعم على عباده بأجر أكبر من ذي قبل. وهذا له أمثلة كثيرة في السنة؛ بأن الله عز وجل يزيد عباده فضلاً، وأجراً، وتخفيفاً، ونحو ذلك، هناك حديثان فيما يتعلق بصلاة الجماعة: أحدهما يقول: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة) ، وحديث آخر يقول: (بسبع وعشرين درجة) فلا تخالف بين هذا وذاك؛ لأن الأجر الأقل يدخل في الأجر الأكثر، والذي ينبغي أن نعتقده أن فضيلة صلاة الجماعة هي بسبع وعشرين درجة وليس فقط بخمس وعشرين؛ لأن الزيادة قد ثبتت في الحديث الصحيح. مثلاً: هناك الآية الكريمة في خاتمة سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:285-286] إلى آخر الآيات الواردة في خاتمة السورة، الشاهد: أن الله عز وجل في هذه الآية أو لعلي سبقتها وما تلفظت بها وهي: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284] الشاهد: أن الله عز وجل أنزل هذه الآية أول ما أنزلها، وفيه التنصيف بأن الله عز وجل يحاسب الناس على ما يظهرون، وعلى ما يخفون في صدورهم، ثم إذا حاسبهم فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء. لما نزلت هذه الآية جاءت طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهتمين بحكم هذه الآية؛ لأنه في الحقيقة إذا تصورتموها أي: لو بقي حكمها لما نجا من الحساب والعذاب إلا القليل من العباد؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] ، فكم وكم من وساوس تدور في أذهان الناس وتستقر في صدورهم، ثم الله عز وجل في هذه الآية سيحاسبهم عليها، فكبر وعظم هذا الحكم على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فجاءوا جثياً وجلسوا على الركب وقالوا: (يا رسول الله! هانحن أُمرنا بالصلاة وصلينا، وبالصوم فصمنا، وبسائر الأحكام فقمنا، أما أن يحاسبنا الله عز وجل على ما في صدورنا فهذا مما لا طاقة لنا به، فقال عليه الصلاة والسلام: أتريدون أن تقولوا كما قال قوم موسى لموسى: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93] ؟ قولوا: سمعنا وأطعنا، فأخذوا يقولونها بألسنتهم حتى ذلت وخضعت لها قلوبهم، فأنزل الله عز وجل الآية الناسخة لهذا الحكم الشديد: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} [البقرة:286] ) أي: علمت، فرفعت المؤاخذة على ما في النفوس، هذه المؤاخذة التي ذكرت في الآية السابقة، ثم جاء حديث الرسول عليه السلام مؤكداً لاستقرار الحكم على عدم المؤاخذة بما في النفوس، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به) فما في النفوس لا مؤاخذة عليه. هذا مثال من أمثلة كثيرة، إذا عرفنا هذا رجعنا إلى الجواب مباشرة عن السؤال فنقول: كان الحكم السابق في الحديث الأول أن الصلوات مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر، ثم جاء الحديث بل أحاديث كثيرة وكثيرة جداً تؤكد أن الصلوات المفروضة تكفر الذنوب حتى الكبائر، وذلك هو قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني الذي أشرت إليه في سؤالك وهو: (أرأيتم لو أن نهراً أمام دار أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، أترونه يبقى على بدنه من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يكفر الله بهن الخطايا كلها) . وواضح جداً أن هذا الحديث لا يقبل التأويل المعروف عند العلماء بعامة، حيث يقولون: إن العبادات التي جاءت النصوص تترى بأنها مكفرات للذنوب، إنما تكفر الصغائر دون الكبائر. هذا القول لا نتردد في التصريح بأنه قول باطل؛ لأنه ينافي نصوصاً كثيرة وكثيرة جداً، هذا النص أحدها؛ لأن هذا المثل الذي ضربه الرسول عليه السلام رجل قذر وسخ، فإذا انغمس كل يوم في نهر جارٍ وترى هل الأوساخ الكبيرة تبقى والصغيرة هي التي تمحى؟ وإذا كان يبقى هناك شيء فعلى العكس، تذهب الأقذار الكبيرة وتبقى الصغيرة، فهذا المثال الذي ضربه الرسول عليه السلام يؤكد تماماً أن الصلوات مكفرات للذنوب كلها. كذلك -مثلاً- الحديث المتعلق بالحج، وبعضكم قد جاء من الحج سائلاً المولى سبحانه وتعالى أن يكون قد شملهم قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ، فهل من إنسان يفهم أن الوليد حينما يسقط من بطن أمه يسقط ممتلئاً بالذنوب الكبائر دون الصغائر، أم التشبيه هنا من أبدع ما يكون أنه نظيف من كل الذنوب كبيرها وصغيرها؟ والأحاديث في هذه القضية كثيرة وكثيرة جداً، وللحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله رسالة خاصة في الخصال المكفرة، من أراد التوسع فيها رجع إليها. لكني أريد أن أنبه إلى شيئين اثنين: الشيء الأول: أنه يؤكد أن هذه المكفرات هي مكفرات للكبائر؛ ذلك أن المكفرات للصغائر منصوص في القرآن الكريم السبب الذي يكفر الصغائر قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] فإذاً: اجتناب الكبائر نفسها هي تذهب بالصغائر وتكفرها، فلا بد أن يكون لمثل هذه العبادات كالصلاة والحج ونحو ذلك كرمضان، لا بد أن يكون لها فعل آخر أكثر من فعل اجتناب الكبائر، فاجتناب الكبائر يكفر الصغائر، والإتيان بالفرائض ماذا يفعل؟ أيضاً يكفر الصغائر، فالصغائر ممحوة باجتناب الكبائر، فهذا يؤكد بأن الأحاديث السابقة هي على ظاهرها. هذا هو الأمر الأول من الأمرين. أما الأمر الثاني والأخير: أن كثيراً من الناس قد يتوهمون أن القول: بأن هذه العبادات كالصلاة والصيام تكفر الكبائر -أيضاً- أن هذا يكون حاملاً للناس بأن يتساهلوا وأن يواقعوا الكبائر؛ أن يسرقوا، وأن يزنوا، وأن يشربوا الخمر بدعوى أن الصلوات -مثلاً- تكفر الكبائر، فنحن نقول الآن لكي تفهم المسألة من هذه الزاوية جيداً: نذكر أن الصلاة التي تكفر الكبائر لا يمكننا أن نقول هي صلاتنا نحن، وهذه حقيقة يجب أن نعرفها؛ حتى ننجو من التورط في هذا الترغيب الكبير الذي جاء ذكره في هذه الأحاديث، وكما يقولون عندنا في سوريا: (نحط رجلينا بمي باردة) . فنحن نصلي كل يوم الصلوات الخمس، فمهما فعلنا من كبائر فإذاً هي مكفرة بصلواتنا هذه. نقول: من الذي يستطيع أن يقول بأنه يصلي الصلاة الكاملة؟ لأن الصلاة الكاملة هي التي لها هذه الآثار الطيبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المعروف: (إن الرجل ليصلي الصلاة وما يكتب له إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها. إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: ربعها، نصفها) إذاً: لا نستطيع أن نقول: إن هناك صلاة كاملة حتى نقول: إن هذه الصلوات التي نصليها نحن هي مكفرات للكبائر، كل ما نستطيع أن نقول: إننا نأمل بأن نصلي وأن يغفر الله لنا بهذه الصلوات ما شاء من الذنوب؛ سواء كانت من الكبائر أو الصغائر. هذا ما أردت أن أبينه في نهاية الجواب عن هذا السؤال.

حكم التحلق قبل صلاة الجمعة

حكم التحلق قبل صلاة الجمعة Q الحديث الذي هو متعلق بالحِلق يوم الجمعة، إن كانت حلق تلاوة أو حلق ذكر؟ وهل ذكر أو خصص في حديث آخر أن هذه الحلق هي خاصة فقط بصلاة الجمعة في وقت صلاة الجمعة في دخول الجمعة، أو قبل الجمعة وبعدها، أم في كامل اليوم بارك الله فيك؟ A الحديث في السنن: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة) .

حكم المصلي إذا وقع له ما يبطل صلاته

حكم المصلي إذا وقع له ما يبطل صلاته Q تكملات في الصلاة سمعنا لك أحد الأشرطة ذكرت فيها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام ليؤم أصحابه فتذكر أنه ليس على طهارة، فقال: الزموا أماكنكم، فذهب فرجع وهو يقطر ماءً، فكبر وصلى) . فذكرت أنت هناك كلمة البناء أنه بنى، فكيف تتم عملية البناء أولاً؟ ثم هل في هذه الصلاة -في هذا الحديث الذي ذكر- هل كان صلى الله عليه وسلم قد صلى بهم ثم ذهب ليغتسل، أم قبل التكبير؟ A هناك حديثان اثنان: أحدهما من حديث أبي هريرة، والآخر من حديث أبي بكرة الثقفي، الحديث الأول يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليصلي صلاة الفجر فتذكر قبل أن يكبر أنه على جنابة، فذهب واغتسل وجاء وصلى بهم) هذا الحديث ليس موضوعنا. الحديث الثاني وهو بحثنا: حديث أبي بكرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر ذات يوم لصلاة الفجر، ثم تذكر، فأشار إليهم أن مكانكم، فذهب وجاء ورأسه يقطر ماءً، فصلى بهم) هذا الحديث الثاني، ونحن نقول: إن هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما صلى من قبل. وهنا مسألة خلافية بين العلماء: إذا وقع للمصلي ما يبطل صلاته، كأن يكون -مثلاً- وهو يصلي خرج منه ناقض للوضوء على خلاف النواقض المعروفة عند العلماء، مثلاً: رعف، فمن يقول: إن الرعاف ينقض الوضوء، فهذا قد بطل وضوءه، خرج الدم فبطل وضوءه عند من يقول به، أما النواقض كما قال عليه الصلاة والسلام: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) فهذه نواقض متفق عليها، فأي ناقض خرج من المصلي ثم ذهب وتوضأ، فهل يبني على صلاته، أي: يعتبر الصلاة الماضية التي صلاها على طهارة ثم انتقضت هذه الطهارة، هذه الطهارة المنتقضة هل نقضت الصلاة السابقة، أم تبقى هذه الصلاة صحيحة؟ فهنا قولان للعلماء: منهم من يقول: يبني على ما مضى، كأن يكون صلى ركعة -مثلاً- فانتقض وضوءه بناقض من النواقض، فمعنى يبني أي: أن الركعة التي صلاها ما دام صلاها على طهارة فهي ركعة صحيحة، فإذا جدد وضوءه يبني، أي: لو كان يصلي الصبح فلا يأتي بركعتين وإنما يأتي بركعة واحدة. أما من يقول: إنه يستأنف الصلاة، فمعنى ذلك: أن هذه الركعة لا قيمة لها، فهو يبتدئ الصلاة من جديد. حديث أبي بكرة من الأحاديث الصحيحة التي ترجح أن من عرض له ما يبطل صلاته فيبني على ما صلى ما دام أنه كان معذوراً، ومن الأعذار النسيان، وهذا ما وقع للرسول عليه السلام في قصة أبي بكرة، حيث دخل في الصلاة وهو جنب، فذهب واغتسل وجاء ورأسه يقطر ماء فصلى، وما قال: ابتدأ الصلاة. هذه ناحية. والناحية الأخرى: أنه عليه السلام لو كان يريد أن يبين لأمته مثل هذه الحادثة التي وقعت له، لم يكن به من حاجة بأن يشير إليهم، وأن يقول لهم إشارة بيده أن مكانكم، وإنما يقول لهم بلسانه: أنا بطلت صلاتي؛ لأني تذكرت أنني على غير طهارة فاجلسوا استريحوا حتى آتيكم. وثانياً: أن يوقفهم كأنهم في الصلاة، وهم حقيقة في الصلاة. فهذه علامات تؤكد أن قوله: فصلى. أي: أتم الصلاة، فإذاًَ وضح لك ما هو المقصود بكلمة البناء هنا. السائل: أريد إيضاحاً آخر بارك الله فيك: أنه كان على جنابة، فإذا صلى بهم ركعة -على سبيل المثال- أي: أن الإمام صلى بهم ركعة، فكما قلت أنه يبني بهم على الركعة الأولى، ألا نقول: إن هناك القاعدة التي تقول: ما بني على فاسد فهو فاسد. فصلاته أصلاً كانت فاسدة؛ لأنه أصلاً كان على جنابة! الجواب: ما هو الدليل على أنها فاسدة؟ السائل: لأنه كان جنباً عندما دخل في الصلاة. الشيخ: ما عليك يا أخي، لكن نحن نقول: هذا غير متعمد {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] هذا السؤال يشبه تماماً: ما حكم من يأكل في رمضان ناسياً هل يبطل صيامه؟ الجواب: لا. لأنه كان ناسياً، فهل يصح أن نقيس الناسي على العامد؟ فنقول: الذي يأكل ناسياً في رمضان كالذي يأكل عامداً في رمضان؟ لا يستويان مثلاً. فحينما نريد أن نقول: ما بني على فاسد فهو فاسد. القاعدة صحيحة، لكن سنطبق القاعدة نفسها: ما بني على فاسد فهو فاسد. نحن نقول: أنت تبني على فاسد، لماذا؟ لأنه لا دليل على أن الذي يصلي وهو ناسٍ لوضوئه وتذكر هذا الوضوء، أو ناسي لجنابته فتذكرها وهو في الصلاة فبنى عليها، أنه بنى على فاسد، لا. نحن بحاجة إلى دليل، والدليل الآن على خلاف المدعى. السائل: لماذا نقول: إن الذي يصلي الصلاة تامة على غير طهارة وهو ناسٍ نقول مثلاً: إنه يتبع الحديث، بمعنى: أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتد بركعة؟ الشيخ: لو كان الحديث بعد الصلاة، ولو كانت القصة كما وقع لـ عمر لقلنا بالحديث، لكن الحديث خاص في جزئية طبقناها، فأثر عمر كان في جزئية أعم من ذلك، فطبقناه ووضعنا كل شيء في مكانه. السائل: شيخنا! هذه المسألة بالذات، بعض المذاهب يشيرون إلى استدبار القبلة، إذاً كيف العمل هنا بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه استدبر القبلة؟ الجواب: لا نقول نحن: لا شك، يمكن هذا هنا، يمكن أن إنساناً إذا تذكر ألا ينحرف عن القبلة، يأتي ويقف هنا ويتوضأ، يمكن هذا، فإذا أمكن فعليه أن يحرص ألا ينحرف عن القبلة، أما إذا كان ولا بد لأن المكان في وضع -مثلاً- دبر القبلة، فلا بد له أن يذهب إليها منحرفاً عن القبلة، فالانحراف عن القبلة كالحدث تماماً، أي: استقبال القبلة شرط، والطهارة شرط، لكن هذه الطهارة إذا اغتفرت بسبب عذر شرعي، فكذلك استدبار القبلة يلحق بنفس الحكم هذا عندما لا يمكن إلا كذلك.

حكم الإمام إذا تذكر في ركوعه أو سجوده أنه على غير طهارة

حكم الإمام إذا تذكر في ركوعه أو سجوده أنه على غير طهارة Q إذا كان الإمام تذكر في ركوعه أو سجوده فهل يبقي المصلين على هذه الهيئة؟ ومن فهمنا من الحديث السابق أنه أشار إليهم، هل يعني هذا أنه لا يجوز له أن يتكلم معهم؟ الشيخ: الصورة فهمتها، هو أنه لا يجوز للإمام أن يتكلم. السائل: هل يجوز له أن يتكلم معهم، أو يوحي لهم إيحاءً فقط؟ الشيخ: هذا يختلف باختلاف الجماعة الذين يؤمهم، فإذا كانوا ربوا على عينه، ويفهمون عليه إذا أشار إليهم أن مكانكم؛ فلا يجوز له أن يتكلم؛ لأنه لا يزال في صلاة، أما إذا كانوا ليسوا كذلك كما هو واقع اليوم؛ فحينئذٍ لابد أن ينيب أحدهم، وهذا مما يترتب على الحكم السابق، أي: تبقى الصلاة السابقة صحيحة، فيقدم أحدهم ليتم بهم الصلاة، فالمسألة إذاً تختلف من جماعة إلى أخرى. السائل: حين يرجع الإمام إلى مكانه، على افتراض أنه رجع وأدرك شيئاً من الصلاة، كيف يكون وضعه الآن؟ A انظر كيف وضعه: نفترض أنه كان يصلي الفجر فصلى بهم ركعة فيأتي هو ويكمل على حسب الوضع، إن كان فيما سبق أكمل الركعة، أي: بركوعها وسجدتيها، فيعتبر أنه أدرك ركعة، وإلا فما يكون صلى ركعة، فيصلي هو ركعتين. السائل: يا شيخنا! يُحرم من جديد أم؟ الشيخ: لا يحرم. السائل: إذاً ليس هو في داخل الصلاة؟ الشيخ: إذا لم يتكلم ولم يفعل شيئاً يبطل الصلاة عمداً فهو في صلاة، وما أدري أخذت جواب سؤالك أم لا؟ السائل: إذا أحدث وهو في التشهد؟ الشيخ: يعود إلى التشهد. السائل: ما يسلم؟ الشيخ: ما يسلم؛ لأن الخروج بالسلام هو ركن من أركان الصلاة. السائل: ولو كان بعد التسليمة الأولى؟ الشيخ: انتهى الأمر.

رأي ابن عمر في الرعاف أثناء الصلاة

رأي ابن عمر في الرعاف أثناء الصلاة Q روى مالك في الموطأ بإسناد صحيح إلى ابن عمر [أنه أصابه رعاف في الصلاة، ثم خرج فتوضأ فعاد وبنى على صلاته] . فهل يعني من هذا أن ابن عمر يرى بطلان الصلاة بسبب الرعاف؟ A هذا يفهم، ولكن لا يتم الاستدلال إلا إذا كان هناك دليل على أن ابن عمر يرى أن الرعاف ناقض للوضوء، حينئذٍ يكون هذا نص معنا في الموضوع، لكن يمكن أن يكون هذا ليس دليلاً قاطعاً إذا كان ابن عمر لا يرى أن الرعاف ينقض الوضوء، وإذا كان هناك نص يرى فيه ابن عمر أن الرعاف ناقض فهذا يكون شاهد للحديث المذكور آنفاً.

حديث: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)

حديث: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) Q حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) أي: درءاً للفتنة، وفي عصرنا هذا الناس ما يفقهون في هذه المسألة لو أناب أحداً مكانه. A ماذا قلت آنفاً -سامحك الله أين كنت؟ - قلت آنفاً جواب لسؤال الأخ هنا: أنه إذا كانوا راكعين هل يشير إليهم أو يكلمهم؟ كان الجواب في حالتين: إذا تذكر أنه على غير طهارة وهو راكع وهم ركَّع خلفه، وكان الناس الذين يؤمهم، ربوا على عينه -هكذا كان تعبيري- فكيف إذاً سمعت وما فهمت، كيف هذا؟ قلت: إذا ربوا على عينه فهو يكتفي بالإشارة إليهم، فيظلون راكعين حتى يعود إليهم، وإن كانوا ليسوا كذلك فينيب أحدهم كما قلنا. وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.

أسئلة الإمارات

أسئلة الإمارات أجاب الشيخ في هذه المادة عن بعض أسئلة شباب من الإمارات، وقد تناول فيها الحديث عن حكم الضرائب في الإسلام، وحكم خروج المرأة من بيتها بضرورة معينة كالولادة وغيرها، كما تناول حكم العزل في الإسلام. وكذلك تناول مسألة الجمع بين الأدلة الشرعية وضرب بعض الأمثلة على ذلك، كما بين حكم التأول في الأدلة الشرعية، موضحاً خطره على المسلم في جره إلى منزلق المجاز، وغير ذلك من الأسئلة.

حكم تفويت صلاة الجماعة من أجل الامتحان

حكم تفويت صلاة الجماعة من أجل الامتحان إن الحمد لله، نحمده ونستيعنه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: Q إذا تعارض وقت صلاة الجماعة مع وقت الامتحان أو منتصفه. فما الجواب جزاكم الله خيراً؟ A إن أصل المنهج ليس على الشرع، وما بني على فاسد فهو فاسد، وهذا الذي دخل مثل هذه المدرسة التي وضعت مناهج لم تراع فيها أحكام الشريعة، فبدهي جداً أن تكون العاقبة بالتالي مخالفة للشريعة، ولذلك فهناك حكمة أو مثل عامي شامي يقول: (الذي يريد ألا يرى منامات مكربة، فلا ينام بين القبور) . فالذي يريد أن يتمسك بالشريعة عليه ألا ينتمي إلى تعليم أو منهج يخالف الشريعة، وحينئذ إن فعل وانتمى إليها فلا يورد مثل هذا السؤال؛ لأنه لا يستطيع من جهة أن يضيع تلك الجهود والسنوات التي قضاها في التحصيل ليقدم في هذه الساعة من الامتحان أو الاختبار نتيجة ذلك التحصيل، فإن فعل فقد وقع في المخالفة الصريحة للشريعة. ولذلك على المرء أن يبتدئ الطلب للعلم على المنهج العلمي الصحيح؛ لأن ما بني على صالح فهو صالح، وما بني على فاسد فهو فاسد.

حكم الضرائب في الإسلام

حكم الضرائب في الإسلام Q ما حكم الإسلام في الضرائب؟ A الضرائب هي التي تسمى بلغة الشرع (المكوس) ، والمكوس من المتفق بين علماء المسلمين أنها لا تجوز إلا في حالة واحدة، يتحدث عنها بحجة بينة الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه العظيم الاعتصام، حيث يتكلم فيه بكلام علمي دقيق قلما نجده في كتاب آخر سواه، يفرق فيه بين البدعة التي أكد في بحثه في هذا الكتاب أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) أن هذا القول الكريم هو على إطلاقه وعمومه وشموله، وأنه ليس في الإسلام ما يسميه بعض المتأخرين بالبدعة الحسنة؛ لأن هذه البدعة الحسنة أولاً: لا دليل عليها في الكتاب ولا في السنة، وثانياً: هي مخالفة لعموم الأحاديث التي تطلق ذم البدعة إطلاقاً شاملاً، فكلما تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لذكرها فإنه يطلق الذم عليها، ولا يقيدها بقيد ما، كمثل الحديث السابق، ومثل الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، أكد الإمام الشاطبي في كتابه المشار إليه آنفاً: أن هذه الأحاديث تحمل على عمومها وشمولها، فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولكنه من إحسانه في هذا البحث العظيم أن تعرض لما يسمى أو يعرف عند بعض العلماء بـ (المصالح المرسلة) ، وهذه المصالح المرسلة التي تلتبس على بعض المتأخرين من الذين ذهبوا إلى القول بأن في الدين بدعة حسنة، تختلط عليهم المصالح المرسلة بالبدعة الحسنة، وشتان ما بينهما، فالمصلحة المرسلة -التي يتبناها بعض العلماء ومنهم إمامنا الشاطبي رحمه الله- هي التي توجبها ظروف وضعية أو زمنية، تؤدي إلى تحقيق مصلحة شرعية. فهذه ليس لها علاقة بالبدعة التي يستحسنها بعض الناس؛ لأن البدعة التي يسمونها بالبدعة الحسنة إنما يقصدون بها زيادة التقرب إلى الله تبارك وتعالى، وهذه الزيادة لا مجال لها في دائرة الإسلام الواسعة، التي مما جاء فيها قول ربنا تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ، ولذلك لقد أجاد إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله حينما قال كلمته الذهبية المشهورة، قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة -وحاشاه- اقرءوا قول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] . قال مالك: فما لم يكن يومئذ ديناً -أي: يتقرب به إلى الله- فلا يكون اليوم ديناً، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. إذا كان هذا هو شأن البدعة التي يسمونها بالبدعة الحسنة، وهو أنهم يريدون التقرب إلى الله تبارك وتعالى بها، زيادة على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يباعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه) . إذاً: لا مجال لاتخاذ محدثة سبيلاً للتقرب إلى الله تبارك وتعالى، ما دام أن الله قد أتم النعمة علينا بإكماله لدينه. أما المصلحة المرسلة فشأنها يختلف كل الاختلاف عن البدعة الحسنة -المزعومة- فالمصلحة المرسلة يراد بها تحقيق مصلحة يقتضيها المكان أو الزمان ويقرها الإسلام. وفي هذا المجال يؤكد الإمام الشاطبي شرعية وضع ضرائب تختلف عن الضرائب التي اتُخذت اليوم قوانين مضطربة في كثير إن لم نقل في كل البلاد الإسلامية، تقليداً للكفار الذين حرموا من منهج الله المتمثل في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكان من الضرورة بالنسبة لهؤلاء المحرومين من هدي الكتاب والسنة أن يضعوا لهم مناهج خاصة، وقوانين يعالجون بها مشاكلهم، أما المسلمون فقد أغناهم الله تبارك وتعالى بما أنزل عليهم من الكتاب، وبما بين لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لذلك فلا يجوز للمسلمين أن يستبدلوا القوانين بالشريعة، فيحق فيهم قول الله تبارك وتعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] فلا يجوز أبداً أن تتخذ الضرائب قوانين ثابتة، كأنها شريعة منزلة من السماء أبد الدهر، وإنما الضريبة التي يجوز أن تفرضها الدولة المسلمة هي في حدود ظروف معينة تحيط بتلك الدولة. مثلاً -وأظن أن هذا المثال هو الذي جاء به الإمام الشاطبي:- إذا هوجمت بلدة من البلاد الإسلامية، ولم يكن هناك في خزينة الدولة من المال ما يقوم بواجب تهيئة الجيوش لدفع ذلك الهجوم من أعداء المسلمين، ففي مثل هذه الظروف تفرض الدولة ضرائب معينة وعلى أشخاص معينين، عندهم من القدرة أن يدفعوا ما فرض عليهم، ولكن لا تصبح هذه الضريبة ضريبة لازمة، وشريعة مستقرة -كما ذكرنا آنفاً- فإذا زال السبب العارض وهو هجوم الكافر ودفع عن بلاد الإسلام؛ أُسقطت الضرائب عن المسلمين؛ لأن السبب الذي أوجب تلك الضريبة قد زال، والحكم -كما يقول الفقهاء- يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فالعلة أو السبب الذي أوجب تلك الفريضة قد زال، فإذاً تزول بزوالها هذه الضريبة. وباختصار جواب ذاك السؤال: ليس هناك ضرائب تتخذ قوانين في الإسلام، وإنما يمكن للدولة المسلمة أن تفرض ضرائب معينة لظروف خاصة، فإذا زالت الظروف زالت الضريبة.

حكم الكفالة الشكلية واشتراط المنفعة عليها

حكم الكفالة الشكلية واشتراط المنفعة عليها Q ما حكم الشرع بالنسبة لرجل مسلم يكفل، أو يشارك في الرخص التجارية التي تصدر عن بلديات الدولة، لرجل مسلم أو غير مسلم من غير أهل هذا البلد، مع إلزام المكفول أو المشارك بدفع مبلغ معين مقابل هذه الكفالة؟ A الذي نراه والله أعلم أن هذه الكفالة إذا كانت مجرد كفالة شكلية لا يقترن بها مساعدة عملية للمكفول، فهذا من باب أكل مال الناس بالباطل، وهو المنهي عنه في القرآن الكريم.

حكم توليد الطبيب الرجل للمرأة

حكم توليد الطبيب الرجل للمرأة Q إذا كانت المرأة حاملاً، فهل يجوز أن يقوم على توليدها رجل؟ A الحقيقة أن هذه المسألة من المسائل التي ابتلي بها المسلمون اليوم، لقد كانت المرأة الحامل تضع في عقر دارها، وبمساعدة بعض قريباتها، أو بمساعدة من تسمى بـ (الداية) أو (القابلة) في بعض البلاد، فتغيرت الأوضاع، وهذا كله بسبب تأثر المسلمين بالتقاليد الأجنبية الغربية، مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سَنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن الناس؟) . وفي رواية الترمذي وغيره تأكيد هذا التقليد الأعمى لهؤلاء الكفار في أسوأ ما يمكن أن يتصوره المسلم، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (حتى لو كان فيهم من يأتي أمه على قارعة الطريق، لكان فيكم من يفعل ذلك) صدق رسول الله. فإننا نرى التقليد من المسلمين للكفار يشمل أسوأ التقاليد والعادات، من ذلك أنه أصبح عادة لازمة أن كل امرأة يجب أن تضع في المستشفى؛ سواء اضطرت إلى ذلك أو لم تضطر إليه، فأصبح تقليداً وأمراً رتيباً، وحتى البيوت الفقيرة تحاول أن تضيق من نفقاتها الضرورية؛ لتتمكن من توليد المرأة الحامل في المستشفى، وهذا تقليد من المسلمين للكفار. والذي نقول بعد هذه التوطئة وهذه المقدمة: إن أصل إدخال المرأة إلى المستشفى للتوليد لا يجوز القول بجوازه هكذا مطلقاً، وإنما لا بد من التحديد والتضييق، فيقال: إذا كانت القابلة أو الطبيبة المشرفة على هذه المرأة الحامل، إذا رأت بعلمها أن هذه المرأة سوف تكون ولادتها غير طبيعية، وأنها قد تتطلب إجراء عملية إضافية لها، ففي هذه الحالة تنقل إلى المستشفى، أما إذا كانت الولادة طبيعية؛ فلا يجوز أن تخرج من دارها وأن تدخل المستشفى فقط لتوليدها توليداً طبيعياً هذه واحدة. الأخرى: إذا اضطرت المرأة أن تدخل المستشفى في هذه الحدود الضيقة التي ذكرناها، فيجب ألا يتولى توليدها الرجل الطبيب، وإنما تولدها طبيبة من النساء، فإن لم توجد فحين ذلك لا بأس -بل قد نقول: يجب؛ إذا كانت ولادتها في خطر- أن يولدها الطبيب؛ ما دام أن الطبيبة غير موجودة، وهذا الجواب الأخير التفصيلي يؤخذ من قاعدتين اثنتين من علم أصول الفقه، ومن لا دراية له به لم يحسن الجواب عن المسائل العارضة، لا سيما إذا كانت جديدة، ولم يسبق أن عالجها العلماء السابقون. والقاعدتان هما: القاعدة الأولى: الضرورات تبيح المحظورات. القاعدة الأخرى وهي مقيدة للأولى: الضرورة تقدر بقدرها. لهذا قلنا: إذا كانت المرأة بإمكانها أن تضع ولدها في دارها؛ فلا يجوز لها أن تذهب إلى المستشفى، فإن اضطرت فيتولى توليدها الطبيبة وليس الطبيب، فإن لم توجد الطبيبة تولى توليدها الرجل الطبيب، لأننا قلنا: الضرورات تقدر بقدرها. وقولنا: إن الضرورات تقدر بقدرها، يوجب علينا أن نقول: المرأة هي التي تولدها، لكن إذا لم توجد المرأة فحينئذ نقول: الضرورات تبيح المحظورات. فهذا التوليد من الرجل للمرأة حينما لا توجد الطبيبة، ليس بشر من أن يتعرض المسلم لأن يأكل ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير، فإن الله عز وجل قد ذكر في خاتمة الآية فقال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فيحل لكم أن تأكلوا من هذه المحرمات، لكن قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] ومن سياق هذه الآية من السباق والسياق أخذ العلماء القاعدتين السابقتين ذكراً: الضرورات تبيح المحظورات، لكن ليس ذلك على الإطلاق، وإنما الضرورة تقدر بقدرها؛ لأنه قال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فمثلاً: رجل في الصحراء يتعرض للموت جوعاً، فيجد هناك ميتة، أو لحم خنزير، أو نحو ذلك، فلا يجوز له أن يجلس ويأكل من هذه الميتة كما لو كان يأكل لحماً طازجاً حلالاً حتى يشبع نهمته من الجوع، وإنما بقدر ما يسد به رمقه، وينقذ به نفسه من الهلاك. هذه الآية هي مصدر القاعدتين السابقتين: الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها. هذا الجواب لآخر سؤال.

حكم ولادة المرأة في المستشفى دون ضرورة

حكم ولادة المرأة في المستشفى دون ضرورة Q بالنسبة للمرأة قلت: إنه لا يجوز أن تلد في المستشفى إلا إذا كان هناك ضرورة، فما الدليل على ذلك؟ A الدليل ما قلناه آنفاً. السائل: لكن إذا كانت المرأة ستدخل المستشفى من أجل أن تلد على يد طبيبة مسلمة، فما المانع؟ الشيخ: الأصل يجب أن تتذكر القاعدة القرآنية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فالأصل أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج من دارها إلا لحاجة، كما جاء في صحيح البخاري حينما نزلت هذه الآية السابقة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] قال عليه الصلاة والسلام: (قد أذن الله لكن أن تخرجن لحاجتكن) فإذا تذكرنا هذا الأصل، وهذه القاعدة أيضاً بالنسبة للمرأة، فنحن نقول: ليس هناك حاجة بالمرأة الحامل إذا كان وضعها طبيعياً -كما تقدم- أن تدخل المستشفى هذا أولاً، وثانياً: إن المرأة التي تدخل المستشفى تتعرض للانكشاف لكثير من الرجال فضلاً عن النساء، فهذا التعرض لا يجوز للمرأة أن تلجأ إليه إلا في الحدود السابقة الذكر، فهذا هو الدليل لما قلناه. السائل: يا شيخ! إذا كان لا يوجد في البلدة امرأة قابلة، فكيف تصنع؟ الشيخ: بارك الله فيك! أنا أجبت عن هذا الموضوع، قلت: إذا كانت تلد في دارها ولادة طبيعية، وليست بحاجة إلى أن تخرج إلى المستشفى، فأنت الآن تأتي بمثال لا يخرج عن البحث السابق، فأنت تقول: لا يوجد في هذه البلدة قابلة أو داية، فإن الجواب قد سبق: إذ (لا يوجد) معنى ذلك أنه وجدت الحاجة التي تبيح للمرأة أن تدخل المستشفى، لكن -أيضاً- حينما تدخل المستشفى يجب ملاحظة القيود السابقة التي سبق ذكرها، فأنت لا تزال معي في بحثي السابق، كل ما في الأمر أنك تفرق بين بلد وآخر، ولذلك نحن لا نستطيع أن نقول: يجوز ولا يجوز، هكذا إطلاقاً! وإنما نأتي بالتفصيل ليأخذ كل مسلم الحكم منه في أي بلد كان، وفي أي وضع كان.

حكم العزل

حكم العزل Q ما حكم العزل لرجل عزل حتى لا يكون ذلك عبئاً عليه، على الرغم من أنه يستطيع أن يصرف على أهل بيته وأولاده، ولكن زوجته تخاف الحمل؛ نظراً لمرضها وتأثير الحمل عليها؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الشيخ: ما معنى عزل نفسه؟ السائل: أي أنه عزل باختياره. الشيخ: لماذا عزل؟ السائل: في الغالب أنه يخشى على زوجته. الشيخ: بالنسبة للمرأة جاء البيان بأنها تخشى على نفسها المرض. السائل: هو والله أعلم يريد أن يفسر: أنه لا يعزل من أجل أنه لا يستطيع أن يصرف على البيت والأولاد، إنما يعزل من أجل مرض امرأته. الشيخ: على كل حال لكل سؤال جواب هل انتهى هذا السؤال؟ السائل: نعم. الشيخ: قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من مقدمة وجيزة تتعلق بحكم العزل في الإسلام: العزل في الإسلام أقل ما يقال فيه: إنه مكروه، وأعني ليس التحريم وإنما الكراهة، والكراهة تجامع في تعبير العلماء الجواز، فقد يكون الأمر جائزاً وهو مكروه، لكن إذا كان حراماً فلا يكون جائزاً، فالجواز مع التحريم لا يجتمعان، أما الجواز مع الكراهة فيجتمعان، وقد أخذنا جواز العزل من حديث جابر رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما أنه قال: [كنا نعزل والقرآن ينزل] . هذا الحديث في الوقت الذي يعطينا حكم جواز العزل، يعطينا قاعدة هامة جداً قلَّ من يتنبه لها من الناس، وهذه القاعدة هي: أنه إذا وقع أمر في عهد النبوة والرسالة، ولم يأتِ نهي عنه فهو دليل الجواز؛ ذلك لأنه لو كان منهياً عنه لنزل الحكم بالنهي عنه في القرآن، أو في بيان الرسول عليه الصلاة والسلام الذي مما خوطب به في القرآن: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] . فإذاً: قول جابر: [كنا نعزل والقرآن ينزل] فيه إشارة إلى أنهم كانوا يفعلون ذلك ولم ينزل في القرآن حكم بذلك، فمعناه: أنه يجوز، لهذا كان هذا الحديث دليلاً على جواز العزل؛ لأن الله من فوق سبع سموات قد أقر عمل هؤلاء الصحابة، ولم ينههم عن ذلك. لكننا قلنا بالإضافة إلى الجواز بأنه مكروه، فمن أين يأتي هذا الحكم الإضافي على الجواز؟ هذا الحكم يأتي من ملاحظتنا لحديث رائع جداً، قلَّما يتعرض له بذكر بعض الذين يسألون عن هذه المسألة، ذاك الحديث هو قوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مباهٍ -وفي لفظ: مكاثر- بكم الأمم يوم القيامة) ، فالذي يعزل عن زوجته لا شك أنه في ذلك لا يحقق رغبة نبيه صلى الله عليه وسلم هذه، وهي المباهاة والمفاخرة بأمته على سائر الأمم يوم القيامة. وفي هذا الحديث تنبيه هام جداً لخطورة ما شاع وذاع وملأ الأسماع في هذا العصر مما يسمونه بـ (تحديد النسل) ، أو (تنظيم النسل) ، فهذا ينافي الشرع الإسلامي منافاة لهذا التوجيه النبوي الكريم، فهو يريد منا أن نكثر من نسلنا، لنحقق بذلك رغبة من رغبات نبينا صلوات الله وسلامه عليه، كما جاء في الحديث السابق، وعلى العكس من ذلك؛ حينما ننظم أو (نحدد) -زعمنا- لا يحقق أحدنا أبداً هذه الرغبة النبوية الكريمة، لا سيما إذا ما جُعل التحديد أو التنظيم نظاماً عاماً يفرض من دولة ما على شعب مسلم ما، فهناك تكون الطامة الكبرى؛ لأن هذه المسألة تهون حينما ترتكب هذه المخالفة لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم من فرد، أما إذا صارت مشكلة تبنتها الدولة وتبناها الشعب، فهناك تحقيق لرغبة أعدائنا الذين يحيطون بنا من كل مكان، ولا يستطيعون -وهذا من فضل الله ورحمته بنا- أن يقضوا القضاء المبرم على الأمة المسلمة؛ لما بارك الله في عددهم. ولذلك فهم يخططون -كما ترون- في كثير من تصرفاتهم تخطيطاً بعيد المدى جداً جداً، وهم مع الأسف الشديد قد أوتوا صبراً وجلداً؛ بحيث أنهم يخططون إلى ما بعد خمسين سنة، فيرون أن هذا الشعب المسلم يبلغ -مثلاً- مائة مليون، فليكن بعد خمسين سنة خمسين مليوناً، وعلى ذلك فهم ينظرون إلى بعيد وبعيد جداً، تحقيقاً للمثل العربي القديم: (من لم ينظر في العواقب، ما الدهر له بصاحب) . فنحن حينما نتبنى (التنظيم) و (التحديد) المستوردين من بلاد الكفر والضلال، والذين لا يؤمنون بما عندنا من أن المسلم إذا عني بتربية أولاده كان له أجرهم، وكانت مكاسبهم الأخروية تسجل له -أيضاً- وهو في قبره، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسان -وفي رواية: إذا مات ابن آدم- انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) . انظروا كيف ينبغي أن تختلف النتائج باختلاف العقائد، فالكفار لا يوجد عندهم إيمان بالآخرة كما جاء في القرآن الكريم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا بأنهم إذا عنوا بتربيته الولد أو البنت فلهم أجرهم من بعد وفاتهم وموتهم. أما المسلم فيختلف عنهم اختلافاً جذرياً، فهو إذا رزق ولداً فيعلم أنه يترتب عليه أن يقوم بعبادات لا يحلم بها الكفار، فضلاً عن أن يؤمنوا بها، فهو ساعة ولادة وليده يؤمر أمر ندب أن يؤذن في أذنه وأن يسمعه: الله أكبر، وهو في أول خروجه إلى هذه الحياة الدنيا، ثم يترتب عليه تسميته في اليوم السابع، وقص شعره والتصدق بوزنه فضة أو ذهباً، ثم الذبح عنه ويسمى (العقيقة) وهكذا. كل هذه فضائل ودرجات تكتب لهذا الوالد بسبب ولده، وهذا شيء لا يؤمن به الكفار، من هذا القبيل أيضاً -وهو أمر هام- يقول رسولنا عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من مسلمين -أي: زوجين- يموت لهما ثلاثة من الولد إلا لن تمسهما النار إلا تحِلة القسم) فأنبئوني بعلم: هل عند الكفار مثل هذا الفضل الذي بشرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم؟! A لا. ولذلك هم يقتصرون على أن يربوا ولداً أو ولدين وثالثهم كلبهم! فهذه تربيتهم وشأنهم من تمتعهم في حياتهم الدنيا، ولا يبتغون من وراء ذلك ثواب الآخرة، وأن يدخر لهم مثل هذا الأجر: (لن تمسهما النار إلا تحلة القسم) ، ولذلك هذه الفضائل كلها إنما تتوفر بتحقيق تلك الرغبة النبوية الكريمة وهي: (تزوجوا الودود الولود، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة) . بعد هذا التفصيل -ولعلي أطلت به عليكم- أقول جواباً عن السؤال السابق: إذا كان هناك ضرورة بالنسبة للمرأة، ولا أتصور الضرورة بالنسبة للرجل أبداً! إلا على تحقيق رغبة الجاهلية الأولى التي قال الله عز وجل في القرآن فيها: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] ، فالرجل لا يوجد له عذر أبداً في أن يحاول من عند نفسه أن يفرض على زوجه تحديد النسل أو تنظيمه، وإنما هذا يمكن أن يتصور فقط بالنسبة للزوجة، وذلك بإشارة من طبيب مسلم حاذق يقول مثلاً للزوج: أن زوجتك هذه إذا استمرت في الحمل فحياتها في خطر، حينذاك لا أقول: تحدد النسل، فالتحديد شر من التنظيم؛ لأن التنظيم من معانيه أنه سيتابع الولادة. أما التحديد فكما قلنا: ثالثهم كلبهم! فقد انتهى الأمر عنده إلى هنا، فهذا منهج الكفار الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فإذا نظم الإنسان أو حدد نسله؛ فكأنه آمن بأن هذا الولد الأول وهذا الثاني سيعيشان ما عاش أبواهما، ولا يفترضان أبداً أن عند الله عز وجل قد يقبض الولد الأول والثاني، ويبقيان كأنهما أبتران لم يرزقا نسلاً، ثم يحاولان أن يتداركا ما فاتهما وهيهات هيهات! وكما قيل: (في الصيف ضيعت اللبن) إذاً: إنما يجوز تحديد النسل للزوجة للضرورة التي يقدرها الطبيب الحاذق المسلم. هذا نهاية الجواب.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا تحلة القسم)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا تحلة القسم) Q ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: (لن تمسهما النار إلا تحلة القسم) ؟ A هذا الحديث يشير إلى قوله تبارك وتعالى في الآية الكريمة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] (وَإِنْ مِنْكُمْ) قسم من الله، (إِلَّا وَارِدُهَا) اختلف العلماء قديماً وحديثاً في معنى الورود المقصود في هذا الحديث على ثلاثة أقوال: القول الأول: الورود بطرف النار، كما يقال: أورد الإبل الحوض. والقول الثاني: المرور على الصراط من فوق النار. والقول الثالث وهو لا ينافي الثاني: الدخول في النار؛ لأن المرور على الصراط هو دخول في النار. فقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] أي: داخلها، لا فرق بين مؤمن وكافر، كلهم من الإنس والجن لا بد لهم من هذا الدخول، لكن بعد أن يتحقق هذا القسم الإلهي من الدخول هناك، بعد ذلك سرعان ما يتميز الصالح من الطالح، فالصالح يدخل الجنة، والطالح يدخل النار. ويفسر هذا الكلام حديث أذكره لما فيه من بيان وتفصيل، لكن لا بد لي من أن أقرن بذلك أن هذا الحديث لم يصح من حيث إسناده؛ لأنه على شهرته ينبغي أن نذكره تنبيهاً على ضعفه، لكن معناه مقبول في حدود ما جاء من الأدلة. ذلك الحديث يرويه بعض التابعين من المجهولين -وهو العلة- عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه لقيه في طريقه فقال: (كنا في مجلس ذكرت فيه هذه الآية: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)) [مريم:71] قال: فاختلفنا -وذكر الأقوال الثلاثة- فما كان من جابر -كما تقول الرواية على ضعفها- إلا أن وضع إصبعيه في أذنيه وقال: صُمَّتا صُمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: لا يبقى بر ولا فاجر إلا ويدخلها، ثم تكون برداً وسلاماً على المؤمنين، كما كانت على إبراهيم) . إذاً: هذا الدخول المذكور في هذه الآية، والمفسر أيضاً في حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يدخل النار أحد من أهل بدر وأصحاب الشجرة، قالت: كيف هذا يا رسول الله! والله عز وجل يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] ؟) وهنا ملاحظة مهمة من حيث أنها تساعد طالب العلم على فهم النصوص الشرعية: نجد هنا السيدة حفصة رضي الله عنها كأنها تريد أن تقول: إن الذي تقوله يا رسول الله! خلاف ما أفهم من الآية، فالآية: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] ولفظة (منكم) تشمل بلا شك أهل بدر وأصحاب الشجرة، فكيف التوفيق بين هذه الآية حسب فهمي، -أي: حفصة - وبين ما تقوله يا رسول الله؟! فقال لها بكل هدوء ولطف كما هو شأنه عليه السلام وديدنه: (فاقرئي ما بعدها: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ) ما هي الفائدة؟ الفائدة: أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا سمع قولاً ولم ينكره؛ كان ذلك دليلاً على صحته في نفسه، ولكن يمكن أن يدخل فيه تخصيص وتقييد لا يخطر على بال المتكلم بتلك الكلمة. وهذه فائدة مهمة جداً قد يغفل عنها بعض أهل العلم، ولا بأس من أن أضرب لكم مثلاً وقع في عدم الانتباه لهذه النكتة الفقهية الدقيقة فالإمام أبو محمد بن حزم صاحب الكتاب العظيم كتاب المحلى، وكتاب الإحكام في أصول الأحكام، وغيره من الكتب، قد ألف رسالة في إباحة الملاهي عامة من الآلات الموسيقية، والأغاني، وما شابه ذلك، وكان مما استدل به على ما ذهب إليه في تلك الرسالة، الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليَّ يوم عيد وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، وتضربان عليه بدف، ولما دخل أبو بكر قال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! -وهذا استفهام استنكاري- فقال صلى الله عليه وسلم: دعهما، فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) . الشاهد: أن الإمام ابن حزم احتج بهذا الحديث على جواز الضرب بالدف والغناء به؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أقر الجاريتين على ذلك، ولكن فاته ما أردت التنبيه عليه، من أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكر الصديق على قوله السالف الذكر: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟!) فقد سمى أبو بكر الضرب على الدف والغناء به، سماه مزمار الشيطان، ولم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام عليه، بل أقره، كما أقر حفصة على قولها في الآية هكذا، وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل على استدلال حفصة قيداً كانت غافلة عنه، كذلك تماماً فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع صاحبه في الغار أبي بكر الصديق، فلفت نظره كأنه يقول له: إن الأمر كما تقول أنت يا أبا بكر! لكن هنا استثناء قد فاتك: (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) . فإذا نحن جمعنا بين إقرار الرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـ أبي بكر على قوله: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) ، وبين قوله له: (دعهما، فإن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا) فإننا نخرج بنتيجة: أن مزامير الشيطان لا تجوز، ويكفي في النهي عنها النسبة إلى الشيطان. لكن هذا الحكم يستثنى منه الضرب بالدف في يوم العيد، وممن؟ من الجاريتين، فجمعنا بين إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر؛ وبين قوله له، وخرجنا بنتيجة معاكسة تماماً للنتيجة التي ذهب إليها أبو محمد بن حزم رحمه الله، حيث أخذ قول الرسول عليه السلام ولم يتنبه لإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لقول أبي بكر: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟!) .

حكم الدف

حكم الدف Q يا شيخ! هل نفهم من حديث عائشة السابق أن الدف ليس من مزامير الشيطان؟ A لقد أجبتك على هذا بارك الله فيك! نحن نقول: الأصل في آلات الطرب أنها من مزامير الشيطان، لكن استثنى الشارع الحكيم من أن يكون مزماراً للشيطان في هذا الوقت المعين، فالأصل: أنه مزمار للشيطان في غير يوم العيد، أما في يوم العيد فليس مزماراً للشيطان، فلا منافاة والحمد لله. ولعل من المفيد أن نذكر أيضاً بمثالٍ آخر، وهو مهم جداً من حيث الحياة الفكرية التي يحياها اليوم العالم الإسلامي جله، والذين يعتقدون بأن الموتى يسمعون، ويحتجون على ذلك بحجج كثيرة ولسنا نحن في هذا الصدد، إلا فيما يتعلق بلفت النظر إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أقر أحداً على شيء فهو حق فعلينا الاستفادة من ذلك. كلنا يذكر غزوة بدر، حينما أهلك الله عز وجل صناديد قريش، وألقوا في قليب بدر، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فوقف على القليب ونادى أولئك الكفار القتلى بأسمائهم: (يا فلان بن فلان! لقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال عمر -هنا الشاهد-: يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها) . ماذا نفهم نحن من قول عمر هنا؟ الجواب: نفهم من ذلك نحو فهمنا من كلمة أبي بكر هناك، ومن كلمة حفصة هناك، فنفهم أن عمر بن الخطاب يرى أن الموتى لا يسمعون؛ ولذلك فهو يستغرب ويتعجب لمناداة الرسول عليه الصلاة والسلام لهؤلاء الموتى، حديث يقول: (يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! -بأسمائهم-: إني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟) هذه المناداة تنافي -كما أفهم وهو حق إن شاء الله- ما كان تلقاه عمر بن الخطاب تعليماً من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أن الموتى لا يسمعون، ويكفي في ذلك القرآن الكريم: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80] . كذلك قوله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] وهاتان الآيتان فيهما كلام من حيث التفسير، لكن خلاصة الكلام فيهما لا يتنافى أبداً مع هذه الحقيقة الشرعية، وهي: أن الموتى لا يسمعون، وهذه الحقيقة هي التي كان عمر بن الخطاب تلقاها وتعلمها من قبل من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار عنده إشكال: كيف لقننا هذا العلم ثم هو يناديهم؟! فماذا كان موقف الرسول عليه الصلاة السلام؟ كان موقفه منه كما كان موقفه من أبي بكر، وحفصة؛ أقرهم جميعاً على ما قالوا، ولكنه أدخل على كلامهم قيداً لا يعرفونه؛ لأنهم لا يوحى إليهم كما يوحى إليه، فلقد أقر الرسول عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب على كلمته هذه، ومعنى هذا كأنه يقول له: صدقت! الموتى لا يسمعون، لكن هؤلاء يسمعونني، ولذلك قال له في الجواب بلسان عربي مبين: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) أي: هؤلاء يسمعونني، فأنت يا عمر! الذي تلقيته مني حق وصواب، لكن اعلم أن هذه معجزة وكرامة خاصة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أسمعهم صوته، ومن شأنهم أنهم لا يسمعون، لم؟ لأنهم موتى. ويؤكد هذا المعنى أن الإمام أحمد رحمه الله، روى هذه القصة بإسناده الصحيح في المسند: أن عمر قال: والموتى لا يسمعون. أيضاً جاء الجواب كما سمعتم لم يقل له: أنت مخطئ، بل الموتى يسمعون -لو كان هو مخطئاً- لكنه أقره على هذه العبارة الصريحة، ولكن أدخل في ذلك قيداً وهو: أن الموتى لا يسمعون إلا هؤلاء، ولذلك جاء في صحيح البخاري في هذه القصة من طريق قتادة عن أنس بن مالك -هذه القصة التي رويناها باستثناء رواية الإمام أحمد مروية في الصحيحين - قال قتادة: [أحياهم الله له، فأسمعهم صوته تبكيتاً وتحقيراً ونكاية بهم] إذاً: هذا الانتباه لإقرار الرسول عليه الصلاة والسلام لكلام الصحابي، فهذا معناه أن كلام الصحابي حق، لكن ينظر هل أدخل عليه الرسول عليه الصلاة والسلام شيئاً من التخصيص والتقييد فيضاف إليه، فنخرج بنتيجة سليمة مائة بالمائة، فالموتى لا يسمعون إلا هؤلاء فإنهم قد سمعوا، وآلات الطرب لا تجوز وبخاصة الدف إلا في يوم العيد، والناس كلهم لا بد أن يدخلوا النار كما فهمت حفصة من الآية، ولكن يختلفون من صالح يمر مروراً (ترانزيت) كما يقولون اليوم إلى الجنة، أما الكفار فيلبثون فيها أحقاباً.

حكم تعلم آلات الطرب وما يستثنى منها في العرس

حكم تعلم آلات الطرب وما يستثنى منها في العرس Q ما دام أن آلات الطرب جائزة في يوم العيد، فهل يجوز تعليمها؟ الشيخ: أتعني اتخاذها مهنة؟ السائل: إما اتخاذها مهنة، أو إدخال تعليمها في المدارس. A لا فرق بارك الله فيك! فالذي يريد أن يعلم يكون قد اتخذ ذلك مهنة، كالمعلم يعلم الناس أي علم، فلا يجوز تعليمها، والمسألة أبسط -ولا أريد أن أقول أحقر- من أن تحتاج إلى تعلم؛ لأنها مسألة فطرية، فالناس يرقصون ويضربون الدفوف، دون أن يحتاجوا إلى تعليم، فالمسألة أبسط من ذلك. السؤال: ما هي المستثنيات من آلات اللهو في العرس؟ الجواب: من المستثنيات الواردة في السنة الصحيحة من مزامير الشيطان الضرب بالدف في العرس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (اضربوا عليه بالدف) ، وكانوا كذلك يفعلون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شرحت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتبي آداب الزفاف في السنة المطهرة، فمن شاء التوسع في ذلك رجع إليه إن شاء الله.

حكم الأناشيد واستخدام الدف فيها

حكم الأناشيد واستخدام الدف فيها Q ما الحكم بالنسبة للأناشيد التي تضرب فيها الدفوف؟ A هذه الأناشيد تسمى اليوم بغير اسمها (أناشيد دينية) ، بينما لا يوجد في الإسلام أناشيد دينية، لكن يوجد في الإسلام شعر بلا شك! يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في بعضه: (إن من الشعر لحكمة) ، أما أن نتغنى بأشعار ونسميها أناشيد، وأناشيد دينية، فهذا شيء لا يعرفه سلفنا الصالح إطلاقاً، وهذا في الواقع له علاقة بمبدأ كنا تحدثنا عنه قريباً في بعض جلساتنا هنا، وهو يتلخص باعتقاد ما يدندن حوله العلماء في مثل هذه المناسبة: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف. فلم يكن من عادة السلف أن ينشدوا أناشيد ويسموها دينية، ولا سيما إذا اقترن بها بعض الآلات الموسيقية كالدف، وأنكر من ذلك أن نأتي بأذكار يقترن بها بعض الآلات الموسيقية -أيضاً- ونسميها (ذكراً) ، وليس هو من الذكر الإسلامي في شيء، خلاصة القول: ليس هناك أناشيد دينية، وإنما هناك أشعار لطيفة في معانيها، يجوز أن يتغنى بها إما انفراداً وإما في بعض الاجتماعات كالعرس، وكما جاء من حديث عائشة رضي الله عنها أنها أقبلت من عرس للأنصار، فسألها الرسول: (من أين؟ قالت: من عرس للأنصار، قال عليه الصلاة والسلام لها: هل غنيتم لهم؟ فإن الأنصار يحبون الغناء، قالت: ماذا نقول يا رسول الله؟! قال عليه الصلاة والسلام: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم ) ولولا الحنطة السمراء لم تسمن عذاراكم انظروا الشعر العربي النزيه، ليس فيه شيء من الكلام الذي لا يليق، فهو شعر، ولكن ليس شعراً دينياً، بل شعر ترويح عن النفس بكلام مباح، هذا هو الذي كان معروفاً في ذلك العهد.

حكم الأكل مما ذبح عند الأضرحة

حكم الأكل مما ذبح عند الأضرحة Q هل يجوز أكل ما ذبح للأولياء والأضرحة، علماً بأن الذابح يذكر اسم الله عند الذبح؟ A هذا مما أُهِل لغير الله فلا يحل أكله.

نصف العلم

نصف العلم Q قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة) ما هو التفسير الممكن لهذا الحديث، بما لا يتعارض مع المعلوم من أن الله يتوب على الكافر إذا أسلم، فهل قتل المؤمن أشنع من الكفر؟ A نصف العلم لا أدري.

حكم صلاة الحامل جالسة

حكم صلاة الحامل جالسة Q يسأل السائل فيقول: هل يجوز للمرأة الحامل في الشهور الأولى إن خافت الإجهاض أن تصلي وهي جالسة؟ A إذا كان من المعلوم أن الفتوى على قدر النص، فأنا أقول: يجوز، لكني غير مطمئن أن المرأة إذا صلت قائمة تخاف على نفسها أن تجهض، لكن كما قال تعالى: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] ، فإذا كانت هذه المرأة غير موسوِسة، أو غير موسوَسة -يجوز الوجهان لغةً- ويغلب على ظنها فعلاً أن تسقط؛ فيجوز أن تصلي قاعدة. وأنا أعرف أن الأطباء ينصحون الحوامل بأن يتحركن وأن يمشين، ونعرف من التاريخ الإسلامي الأول أن المرأة كانت تضع وهي على ناقتها، لكن مع ذلك أعرف أن الحياة المدنية، وما أحاط الله عز وجل الناس اليوم به من نعم لا يعرفها السابقون الأولون، قد جعلتهم لا يتحملون من المتاعب والمصاعب والمشاق، خاصة ما يسمى (بالجنس اللطيف) ، فلا أستبعد من هذا الجنس اليوم أن تخشى أن تسقط ولدها من بطنها إذا قامت تصلي قياماً لربها.

الجمع بين الأدلة التي تثبت السماع للموتى والأدلة التي تنفي السماع

الجمع بين الأدلة التي تثبت السماع للموتى والأدلة التي تنفي السماع Q قلت في مسألة: إن الموتى لا يسمعون، وقد جاء في أحاديث إثبات السماع للموتى مثل: (إن الميت يسمع قرع نعال المشيعين عند انصرافهم عنه) فهل يصح هذا الحديث؟ وكيف نوفق بينه وبين ما سبق أن قلت في هذا الخصوص؟ A أولاً: هذا الحديث صحيح؛ لأنه مخرج في صحيح البخاري: (إذا وضع الميت في قبره وانصرف الناس عنه إنه ليسمع قرع نعالهم وهم عنه مدبرون) هذا الحديث صحيح، لكن هذا كذاك، أي: هذا مستثنى من القاعدة العامة؛ لأنه يقول: (حين) فهو ليس في كل حين يسمع، فنفس الحديث يعطيك تخصيصاً ولا يعطيك العموم: (يسمع قرع نعالهم حين ... ) فما معنى (حين) ؟ أي: وقت، (حين يولون عنه مدبرين) لكن هل يعني الحديث: أن الموتى كلما مر مار من المقابر فهم مشغولون بسماع قرع نعالهم؟ الجواب: لا. السائل: يا شيخ! ألا يحمل المعنى على وجه البلاغة كما في بعض الإعلانات؟ الشيخ: ما هو الذي يحمل يا أخي! حدد كلامك؟ السائل: في قوله: (يسمع قرع نعالهم) مثلاً: في إعلان عن شقة، نقول: شقة ترى البحر، فهي لا ترى البحر ولكنها في موضع يسمح لمن فيها برؤية البحر، فهنا المعنى يحمل على أن الصوت يصل إليهم، فلو أن حياً في مكانهم لسمع قرع النعال. الشيخ: أتعني أنهم لا يسمعون؟ السائل: نعم. الشيخ: في النهاية أنك تعني: أنهم لا يسمعون قرع نعالهم؟ السائل: أنا أتصور والله أعلم. الشيخ: أنا أسألك حتى أفهم منك، أتعني أنهم لا يسمعون قرع النعال؟ السائل: قد يحمل المعنى على ذلك، والله أعلم. الشيخ: وقد لا يحمل، فما الذي تستفيده من القدقدة؟! ثم أنا أذكر السائل وسائر الحاضرين بقاعدة لغوية مهمة جداً: إذا دار الأمر بين التقدير وعدمه؛ فالأصل عدم التقدير. بعبارة أخرى: إذا أمكننا أن نفسر العبارة أو الجملة العربية من كلام الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو أي جملة عربية إذا أمكننا أن نفسرها على الحقيقة؛ فلا يجوز تفسيرها على المجاز، إلا إذا قامت القرينة الشرعية أو العقلية، فحينئذٍ يقال: وجدت القرينة التي تضطرنا إلى تفسير الآية أو الحديث، أو الجملة العربية على المجاز وليس على الحقيقة. لكن إذا دار الأمر بدون وجود قرينة بين تفسير الجملة على الحقيقة أو على المجاز؛ فالأصل الحقيقة وليس المجاز، وإلا فسدت اللغة، وفسد استعمالها بين الناس، فإذا قال قائل: جاء الأمير، فهل يجوز للسامع أن يفهم جاء خادم الأمير؟ على الرغم من أن هذا التعبير عربي معروف، وهو بتقدير مضاف محذوف، لكن لا يجوز؛ لأنه ليس هناك ما يضطر السامع أن يتأول قول القائل: جاء الأمير. بمعنى: ليس الأمير، وإنما جاء خادمه، أو نائبه إلخ، ولو فتح هذا الباب لفسد التفاهم بين الناس باللغة العربية، ومن هنا كان من رد العلماء والفقهاء على غلاة الصوفية الذين يقولون -بما يعرف عند العلماء- بوحدة الوجود، والذين يتكلمون بعبارات صريحة في الكفر وفي وحدة الوجود، فيأتي المدافعون بالباطل عن أولئك الصوفية فيتأولون كلامهم تأويلاً يتفق في نهاية المطاف مع الشريعة، فنحن نقول لهؤلاء: بهذه الطريقة لا يمكن أن نقول: إن هذا الكلام كفر، وقد قلت مرة لبعضهم: ائتني بأي جملة فيها كفر في ظاهر العبارة، وأنا -على طريقتكم- أجعلها توحيداً خالصاً؛ وهذه الطريقة هي تأويل النصوص، مثلاًَ: لما قال قائلهم المغرق في الضلال: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته فيتكلفون في تأويل: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا) . أي: إلا إلى هنا، (إلى) حرف جر بعده (هنا) ، ما هذا التأويل؟! لذلك مثل هذا التأويل يمكن إجراؤه على أي عبارة، مثلاً: أنا أقول لو قال قائل: القسيس خلق السموات والأرض، ما رأيكم في هذا الكلام يجوز أو لا يجوز؟ بالإجماع لا يجوز، لكن أنا أجعله توحيداً بطريقة الصوفية، وهو رب القسيس، وهذا معروف في اللغة، وهو تقدير مضاف محذوف، على حد قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82] اسأل ماذا؟ حيطانها؟! شجرها؟! لا. إنما أهلها، كذلك العير، لكن هذا المضاف المحذوف، الأسلوب العربي نفسه يوحي به إلى السامع، فهنا لا يتساءل أحد: يا ترى هل المقصود هنا فعلاً القرية؟ الجواب: لا. ولذلك تسمية هذا التعبير في اللغة العربية بالمجاز مما يدفعه ابن تيمية رحمه الله في رسالته الخاصة بالحقيقة والمجاز، يقول: إن تسمية هذه العبارة بأنها مجاز من باب حذف المضاف، فهذا اصطلاح طارئ، وإلا فالعرب ما كانوا يفهمون من هذه العبارة إلا معنى واحداً هو الذي يسمونه بالمجاز بحذف المضاف، كذلك -مثلاً- في الأسلوب العربي: سال الميزاب، على طريقة المتأخرين في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، حقيقة هذه العبارة سال الميزاب، أي: الميزاب من شدة الحرارة ذاب وصار سائلاً؛ لكن مَن من العرب إذا سمع هذه العبارة يتبادر إلى ذهنه المعنى الذي يسمونه حقيقة؟ فيقولون: هنا المقصود المجاز، هذا المعنى الذي يسمونه مجازاً في هذا المثال هو المعنى الحقيقي المراد منه، سال الميزاب، أي: سال ماء الميزاب، مثل: واسأل القرية تماماً، وهكذا أمثلة كثيرة يذكرها ابن تيمية، منها مثلاً: جرى النهر، النهر: هو الأخدود الذي يجري فيه الماء، فعندما يقول العربي: جرى النهر، فلا هو يعني: جرى الأخدود نفسه بدون ماء، ولا السامع منهم من العرب يفهم إلا الذي أراده، أي: جرى ماء النهر. إذاً: تسمية هذه التعابير بأنها مجاز يقول ابن تيمية: هذا خطأ، المجاز: هو الذي يخرج المعنى الظاهر من العبارة إلى معنى آخر لوجود قرينة، لكن هنا لا معنى آخر إلا معنى واحد محدد وهو: اسأل القرية، أي: أهلها سال الميزاب، أي: ماؤه جرى النهر أي: ماؤه، من هنا يصل ابن تيمية إلى الرد على المتأخرين الذين يتأولون آيات وأحاديث الصفات، بأن يلجئوا إلى ارتكاب طريق التأويل وهو سلوك طريق المجاز، لكن ما الذي يضطرهم إلى ترك فهم المعاني من هذه الآيات وتلك الأحاديث المتعلقة كلها بالصفات على حقائقها، لا سيما وهم يقولون -المتقدمون منهم والمتأخرون- الأصل في كل عبارة أن تفسر على حقيقتها، فمثلاً قوله تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] أي: بذاته، فيقولون: لا يجوز هذا الفهم، ويتأولونه (جاء رحمة ربك) ، فأيّ مضاف محذوف يقدمونه؟ وعلى ذلك فقس، ونحن نقول: الحق كما نطق الحق في كتابه (وجاء ربك) لكن كيف يجيء؟ لا ندري، وهذا البحث طرقه العلماء قديماً وحديثاً، ونحن في مناسبة قريبة تعرضنا لمثله أيضاً. الخلاصة: أن الكلام العربي أول ما ينبغي أن يفسر به هو على الحقيقة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا وضع الميت في قبره فإنه ليسمع قرع نعالهم وهم عنه مدبرون) فهو يسمع قرع النعال على الحقيقة، بل أنا أقول خلاف ما قلت أنت، فلا يمكن أن نتصور أنه يسمع كل شيء؛ لأنه هو بكل شيء سميع، وهذا أمر مستحيل! لكن ما دام أن الأصل أن الموتى لا يسمعون كما شرحنا لكم آنفاً، فإذا جاء نص ما يعطي لميت ما أو موتى سماعاً ما نستثنيه من القاعدة، نقول: إن المشركين في القليب سمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ما كان يجري حولهم من أحاديث الصحابة، وحينما قال عمر: يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها. لا نقول إنهم سمعوا قول عمر؛ لأن سماعهم لقول الرسول معجزة للرسول فيوقف عندها. كذلك في هذا الحديث: يسمع الميت قرع نعالهم وحسب، وما نزيد على ذلك، لسببين اثنين: أولاً: أنه خلاف الأصل، وهو: أن الموتى لا يسمعون. ثانياً وأخيراً: أن الأمور الغيبية -وهذا من الغيب في البرزخ- لا يتوسع فيها أبداً، والحق الوقوف عند النص، وعدم الزيادة عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

صفة السجود

صفة السجود Q ما هي صفة السجود؟ A عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، وهذا الحديث من عجائب ما جرى من الخلاف حول فهمه، وأعجب من ذلك العجب أن يقع ذلك من العرب أهل الإبل! حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فلا يبرك كما يبرك البعير) ثم يفسر هذا الإجمال بقوله: (وليضع يديه قبل ركبتيه) فادعى بعض العرب، فضلاً عن غيرهم من العجم، أن الحديث من المقلوب، فزعموا أن الراوي أراد أن يقول: وليضع ركبتيه قبل يديه، فانقلب -في زعمهم- الحديث عليه فقال: وليضع يديه قبل ركبتيه، وذلك من ذهولهم عما يشاهدونه في بلادهم من بروك الجمل، فالجمل إذا برك برك على مقدمتيه، -أي: على يديه- مع العلم أن ركبتيه في يديه وليستا في مؤخرتيه، ولذلك فالجمل يختلف عن الإنسان من هذه الحيثية، فركبتا البعير في مقدمتيه، لذلك لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فإذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) أي: لا يبرك على ركبتيه اللتين يبرك البعير عليهما، وإنما ليتلقى الأرض بكفيه، ثم يتبعهما بركبتيه. أما حجة المخالفين لهذين الحديثين الصحيحين، فهو حديث أخرجه أيضاً أبو داود وغيره من رواية وائل بن حجر: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) لكن هذا الحديث هو من طريق شريك بن عبد الله القاضي، وهو وإن كان قاضياً فاضلاً، وصدوقاً صادقاً، فقد اتفق علماء الحديث على أنه كان سيئ الحفظ؛ ولذلك لما روى له الإمام مسلم في صحيحه إنما أخرج له مقروناً بغيره، إشارة منه إلى أنه لا يحتج بما تفرد به، فهذا الحديث إذاً ضعيف سنده، ومع ضعفه في سنده خالف الحديثين الأولين الصحيحين، ولذلك فلا يجوز المعارضة به لذينك الحديثين الصحيحين، هذا ما يمكن الجواب به عن هذا السؤال بإيجاز.

القصر في السفر

القصر في السفر Q متى يقصر الإنسان في السفر؟ A سؤال متى يقصر الإنسان في السفر؟ له شعب، فيمكن أن يقال في الجواب: إذا خرج من بنيان بلدته، وفي ظني أن السائل لا يعني هذا فقط، وكأني أشعر بأنه يعني: ما هو السفر الذي يقصر فيه المسافر؟ الحقيقة: أن هذه المسألة أيضاً مسألة جرى فيها خلاف كثير وطويل جداً، وليس هناك نص صريح من كتاب الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمكن أن يعتبر نصاً قاطعاً رافعاً للخلاف، وإنما هناك الترجيح فقط، ونحن مع أولئك الذين ذهبوا إلى أن مطلق السفر هو سفر تجري عليه أحكام السفر والمسافر، وهذا مأخوذ من مثل قوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة:184] . فكما أن الله عز وجل أطلق المرض في هذه الآية، كذلك أطلق السفر، فكل ما كان سفراً، سواءً كان طويلاً أم قصيراً، فهو سفر تترتب عليه أحكامه، ولا ينظر بعد ذلك إلى المسافة أن يقال مثلاً: يوم وليلة، أو ثلاثة أيام بلياليها، أو نحو ذلك، فإذا عرفنا أن هذا هو القول الراجح وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه، بل وفي رسالته الخاصة بأحكام السفر، التي كانت قد طبعت في جزء ضمن خمسة مجلدات، وهي طبعة المنار للسيد رشيد رضا رحمه الله، وطبعت في مصر. إذا عرفنا أن السفر مطلقاً هو الذي يترتب عليه أحكام المسافر، فحينئذٍ مجرد أن يخرج المسافر من بلدته تجري عليه أحكام المسافر، فإذا نزل في البلدة التي كان قاصداً إليها فهناك لا يزال مسافراً أيضاً؛ سواء أكثرت أم قلت، فهو لا يزال في حكم المسافر، إلا إذا نوى الإقامة، أما ما دام لم يعزم الإقامة، وهو يقول في نفسه: اليوم أسافر وغداً أسافر وهكذا، فمهما كانت المدة التي أقامها في البلدة التي سافر إليها طويلة فهو لا يزال مسافراً. وقد ثبت أن الصحابة حينما خرجوا للجهاد في سبيل الله نحو خراسان من بلاد إيران اليوم، هناك نزلت الثلوج بغزارة فقطعت عليهم طريق الرجوع إلى بلادهم، فظلوا ستة أشهر وهم يقصرون الصلاة؛ لأنهم كانوا يأملون أن تزول هذه الثلوج إما بطريقة ربانية إلهية، أو بطريقة صناعية كما قد يفعلون اليوم في بعض البلاد. إذاً: بهذا نعرف أن السفر ليس له حد يسمى، وإنما هو على الإطلاق كالمرض، وأن أحكامه تبدأ بمجرد خروج المسافر من بلدته، فإذا وصل إلى البلدة القاصد إليها فهو لا يزال مسافراً إلا أن يعزم الإقامة، أما ما دام أنه لم يعزم الإقامة فهو مسافر.

حكم لبس البنطلون

حكم لبس البنطلون Q ما حكم لبس البنطلون؟ A البنطلون هو من المصائب التي أصابت المسلمين في هذا الزمان؛ بسبب غزو الكفار لبلادهم، وإتيانهم بعاداتهم وتقاليدهم إليها، وتبني بعض المسلمين لها، وهذا بحث يطول أيضاً، لكني أقول بإيجاز: إن لبس البنطلون فيه آفتان اثنتان: الأولى: أنها تحجّم العورة، وبخاصة بالنسبة للمصلين الذين لا يلبسون اللباس الطويل الذي يستر ما يحجمه البنطلون من العورة من الإليتين، بل وما بينهما في السجدتين، وهذا أمر مشاهد مع الأسف لا سيما في صلاة الجماعة، حيث يسجد الإنسان فيجد أمامه رجلاً (مبنطلاً) -إن صح التعبير- فيجد هناك الفلقتين من الفخذين، بل وقد يجد بينهما ما هو أسوأ من ذلك، فهذه الآفة الأولى أن البنطلون يحجّم العورة، ولا يجوز للرجل فضلاً عن المرأة أن يلبس أو تلبس من اللباس ما يحجم عورته أو عورتها، وهذا مما فصلت القول فيه في كتاب حجاب المرأة المسلمة. والآفة الأخرى: أنها من لباس الكفار، ولم يكن لباس البنطلون أبداً يوماً ما في كل هذه القرون الطويلة في لباس المسلمين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) ، وجاء في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه رجل فسلم عليه، فقال له: هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) ولذلك فيجب على كل مسلم ابتلي بلباس البنطلون لأمر ما أن يتخذ من فوقه جاكيتاً طويلاً، أشبه بما يلبسه بعض إخواننا الباكستانيين أو الهنود، من القميص الطويل الذي يصل إلى الركبتين، هذا في الواقع مما يخفف من تحجيم البنطلون لعورة المسلم.

الدعوة السلفية

الدعوة السلفية تكلم الشيخ في البداية عن أصول الدعوة السلفية، ثم بين مقاصدها، ومن ثم قارن بينها وبين منهج المعتزلة والمتصوفة والقاديانية في التأويل. ثم تحدث عن حكم اجتهاد العامة في استنباط أحكام الكتاب والسنة. وبعد ذلك تكلم عن حكم تعطيل السنة بحجة مصلحة الدعوة، ثم تكلم عن منهج السلف في الأخذ باجتهادات الأعلام المتقدمين، وكذلك تكلم عن مفهوم التجديد للإسلام.

أصول الدعوة السلفية ومقاصدها

أصول الدعوة السلفية ومقاصدها Q ما هي أصول الدعوة السلفية ومقاصدها؟

أصول الدعوة السلفية

أصول الدعوة السلفية هذا سؤال هام بطبيعة الحال، وسوف نجيب بقدر ما يساعد المكان والزمان. نقول: أصول الدعوة السلفية قائمة -كما يعلم الجميع- على ثلاث دعائم: الدعامة الأولى: القرآن الكريم. والدعامة الثانية: السنة والسنة الصحيحة، ويركز السلفيون في كل بلاد الدنيا على هذه الناحية (السنة الصحيحة) ؛ ذلك لأن السنة -بإجماع أهل العلم- قد دخل فيها ما ليس منها منذ أكثر من عشرة قرون، هذا أمر لا خلاف فيه؛ ولذلك من المتفق عليه أيضاً أنه لا بد من تصفية السنة مما دخل فيها مما ليس منها؛ ولذلك فالسلفيون يتبنون أن هذا الأصل الثاني (السنة) لا ينبغي أن يؤخذ على واقعه؛ لأن فيه الضعيف والموضوع مما لا يجوز الأخذ به حتى ولا في فضائل الأعمال، فهذا هو الأصل الثاني، وهذا متفق عليه تقريباً بين المسلمين سلفهم وخلفهم. والدعامة الثالثة: وهو مما تتميز به الدعوة السلفية على كل الدعوات القائمة اليوم على وجه الأرض؛ ما كان منها من الإسلام المقبول، وما كان منها ليس من الإسلام إلا اسماً، فالدعوة السلفية تتميز بهذه الدعامة الثالثة ألا وهي: أن القرآن والسنة يجب أن يفهما على منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، أي: القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية بنصوص الأحاديث الكثيرة المعروفة، وهذا مما تكلمنا عليه بمناسبات شتى، وأتينا بالأدلة الكافية التي تجعلنا نقطع بأن كل من يريد أن يفهم الإسلام من الكتاب والسنة بدون هذه الدعامة الثالثة فسيأتي بإسلام جديد، وأكبر دليل على ذلك الفرق الإسلامية التي تزداد في كل يوم؛ والسبب في ذلك هو عدم التزامهم هذا المنهج الذي هو الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح. لذلك نجد الآن في العالم الإسلامي طائفة ظهرت من جديد، وطلعت علينا من مصر، ثم بثت أفكارها وسمومها في كثير من بلدان العالم الإسلامي، ويدعون أنهم على الكتاب والسنة، وما أشبه دعواهم بدعوى الخوارج؛ لأنهم أيضاً كانوا يدعون التمسك بالكتاب والسنة، ولكنهم كانوا يفسرون الكتاب والسنة على أهوائهم، ولا يلتفتون إطلاقاً إلى فهم السلف الصالح وخاصة الصحابة منهم، وأنا لقيت من هؤلاء أفراداً كثيرين، وفي الفترة القريبة في الأردن جادلت رأساً من رءوسهم للمرة الثانية، وهو يصرح بأنه لا يعتد بتفسير الآية ولو جاء عن عشرات من الصحابة، أي: لو جاء هذا التفسير عن عشرات من الصحابة، فهو لا يقبل هذا التفسير إذا كان هو لا يراه، وهذا الذي يقول هذا القول لا يستطيع أن يقرأ آية بدون لحن وغلط وخطأ فيها، هذا هو سبب انحراف الخوارج القدامى، الذين كانوا عرباً أقحاحاً، فماذا نقول عن الخوارج المحدثين اليوم، الذين هم إن لم يكونوا أعاجم فعلاً فهم عرب استعجموا، وليسوا عجماً استعربوا، هذا واقعهم، فهؤلاء يصرحون بأنهم لا يقبلون تفسير النص إطلاقاً، إلا إذا أجمع عليه السلف، هكذا يقول قائلهم تمويهاً وتضليلاً. فقلت له: وهل تعتقد إمكان إجماع السلف على تفسير لنص من القرآن؟ قال: هذا مستحيل. قلت: إذاً أنت تريد المستحيل، أم أنك تتستر؟ فخنس وسكت. الشاهد: أن سبب ضلال الفرق كلها قديماً وحديثاً هو عدم التمسك بهذه الدعامة الثالثة: أن نفهم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح. المعتزلة المرجئة القدرية الأشعرية الماتريدية؛ وما في هذه الطوائف كلها من انحرافات، سببها أنهم لم يتمسكوا بما كان عليه السلف الصالح؛ لذلك قال العلماء المحققون: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف. فهذا ليس شعراً، بل هذا الكلام مأخوذ من الكتاب والسنة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] لماذا قال: ويتبع غير سبيل المؤمنين؟ كان يستطيع ربنا أن يقول: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) فلم قال: ويتبع غير سبيل المؤمنين؟ حتى لا يركب أحد رأسه، ولا يقول: أنا فهمت القرآن هكذا، وفهمت السنة هكذا، فيقال له: يجب أن تفهم القرآن والسنة على طريقة السلف المؤمنين الأولين السابقين. وقد أيد هذا النص من القرآن نصوص من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، كحديث الفرق، قال عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: في رواية الجماعة. وفي أخرى: ما أنا عليه وأصحابي) لماذا وصف الفرقة الناجية بأن تكون على ما كانت عليه الجماعة، وهي جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لكي يسد الطريق على المؤولين، وعلى المتلاعبين بالنصوص.

منهج المعتزلة في تأويل النصوص

منهج المعتزلة في تأويل النصوص يقول تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] نص صريح في القرآن أن الله عز وجل يمتن على عباده المؤمنين يوم القيامة، فيرون وجهه الكريم، كما قال الفقيه الشاعر السلفي: يراه المؤمنون بغير كيفٍ وتشبيهٍ وضربٍ للمثال قالت المعتزلة: لا يمكن للعبد أن يرى ربه لا في الدنيا ولا في الآخرة. أين تذهبون بالآية؟ قالوا: معناها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا} [القيامة:22-23] أي: إلى نعيم ربها ناظرة، فهذا تأويل، بمعنى: إلى نعيم ربها، ربنا قال: {إِلَى رَبِّهَا} [القيامة:23] من أين جئت بهذه؟ قال: هذا مجاز الحذف، ومن هنا أنكر ابن تيمية المجاز في القرآن؛ لأنه كان معولاً من أعظم وأقوى المعاول هدماً للعقيدة الإسلامية، هذا النص يثبت لله عز وجل نعمة منه على عباده أن يروه يوم القيامة، ويقول هؤلاء: لا يمكن! الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فيقولون: لا. ليس سميعاً ولا بصيراً، لم؟ لأننا إذا قلنا: سميع بصير شبهناه بأنفسنا، إذاً ما معنى: سميع بصير؟ قالوا: عليم، سميع بصير لفظتان عربيتان تساوي عندهم عليم فقط، وهل خلصنا من المشكلة، وفلان العليم! اليوم يقال عند الدكتور في اللغة العربية: عليم، تعبير لا بأس فيه، ويجوز أن نقول عن الإنسان: عليم، مبالغة في الوصف، هل يجوز أن نقول: فلان عليم؟ نعم. إذاً: لا نقول الله عليم؛ لأنه صار فيه تشبيه لله بعبد الله، وهكذا عطلوا صفات الله عز وجل، ووصل بهم الأمر أن أنكروا وجود الله، سواء اعترفوا أو لم يعترفوا فذلك يلزمهم، ورحم الله ابن القيم حين يقول: (المجسم يعبد صنماً، والمعطل -أي: المؤول- يعبد عدماً) ، ولذلك يقول هؤلاء المؤولة الذين لم يلتزموا منهج السلف الصالح في آيات وأحاديث الصفات، يقولون: الله لا فوق. هل تجدون في القرآن (الله لا فوق) ؟ نجد في القرآن يصف عباده: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] هم يقولون: لا فوق، تجدون في القرآن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] إلى آخر ذلك الله لا فوق -مثلاً- إذاً هل هو تحت؟ لا تحت، إذاً هل هو يمين؟ لا يمين ولا يسار، لا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه، إذاً ماذا بقي؟ العدم. هذا هو العلم الذي تورط فيه كل علماء الكلام بدون استثناء، إلا من كان على منهج السلف الصالح، فكل علماء الكلام، لا أستثني لا أشاعرة ولا ماتريدية إلا أفراداً منهم آمنوا بما كان عليه السلف الصالح، كما قال صاحب قصيدة بذل الأماني: ورب العرش فوق العرش لكن بلا وصف التمكن واتصال يعني: ليس كمثله شيء، الله وصف نفسه بأنه على العرش استوى. ورب العرش فوق العرش لكن بلا وصف التمكن واتصال انظروا -يا إخواننا الشباب! - بصورة خاصة، نحن الآن نزعم بأننا نريد أن نحقق المجتمع الإسلامي، وأن نقف جبهة أمام الإلحاد، وأمام الشيوعية، ونحوها من الأحزاب، فبم نقف أمامهم؟ أبعلم كتاب الله وحديث رسول الله على منهج السلف الصالح، أم بعلم الكلام؟ لا تشعرون في الواقع -ولعل هذا من الخير لبعضكم- لو أنكم درستم علم الكلام لأقام المبطلون الحجة عليكم؛ لأن الملحد الشيوعي ونحوه حين يقول لك: لا يوجد في هذا الكون إله، لا تستطيع أنت أن تقيم الحجة عليه وأنت تقول: يوجد إله؛ لأنه قد يقول لك: أرني إياه، مثلما قال لي أحدهم: إن الذي صعد إلى القمر ما رأى الله عليه، يقول لك الشيوعي: أرني رب العالمين. تقول له أنت: لا فوق ولا تحت، لا يمين ولا يسار، لا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه، فهذا الكلام أتقدر أن تقيم به الحجة على الملحد؟ A لا. لكن لو أنك تلوت آيات الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] والله أكبر من كل شيء إلخ، نحن لا نريد أن تقنعه، حسبنا أن نقيم الحجة عليه، ولله الحجة البالغة على الناس، فإذا قلت له هذا الكلام الذي يوجد في كتب الماتريدية والأشاعرة -إلا قليلاً منهم -كما قلنا- ما استطعت أن تدعو إلى إسلامك، لكن أقول: من الخير لكم أو لبعضكم، أنه لم يقرأ علم الكلام، هذه حقيقة، ولا يعرف أنه قد يسمع هذا الكلام فيستغرب، ويقول: أيوجد من المسلمين من يعتقد هذه العقيدة؟ نعم. اقرءوا كتب الغزالي اقرءوا إحياء علوم الدين اقرءوا بعض الرسائل الجديدة المطبوعة والمنشورة اليوم باسم العقائد؛ فستجدون فيها الجحد الذي يساوي: أنا أؤمن بالله، ولا أؤمن بالله أؤمن بالله على أساس لا كبير ولا صغير، أي: لا يوصف بأنه كبير ولا صغير، وهذا مطبوع في طبعة جديدة وعصرية، وأنه لا فوق ولا تحت، لا يمين ولا يسار. إلخ، سيجد أنها لا توزن لا بميزان، ولا بقبّان، ولذلك رحم الله أحد أمراء دمشق حيث حضر مناقشة جرت بين شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثال هؤلاء المعطلة، لما سمع كلامهم، وسمع كلام ابن تيمية المستند إلى الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح؛ اقتنع أن هذه هي العقيدة الصحيحة، والتفت إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: هؤلاء -يشير إلى المشايخ- قوم أضاعوا ربهم. لماذا؟ لا فوق ولا تحت، لا يمين ولا يسار إلخ.

من ضلالات الصوفية

من ضلالات الصوفية الشاهد -والكلام طويل في هذا المجال- ما الذي أودى بعلماء المسلمين، فضلاً عن طلاب العلم، فضلاً عن عوام المسلمين، إلى هذا الحضيض وهذا الضلال المبين؟ اليوم على غير ما مبالاة أحدنا يقول: الله موجود في كل مكان الله موجود في كل الوجود، هذه هي بذاتها ولكنه إلحاد على نمط آخر، ووحدة الوجود التي يقول بها غلاة الصوفية هي على ألسنتنا في كل يوم: الله موجود في كل مكان الله موجود في كل الوجود. وحدة الوجود تفخر بأنها موحدة، لا يوجد خالق ومخلوق، فالخالق والمخلوق شيء واحد، وهذه هي وحدة الوجود، وهذه فلسفة من علم التصوف، كما أن عامة المسلمين -والحمد لله- ما قرءوا هذا العلم، لكن هم واقعون ولا يجهرون، هم يقولون: الله موجود في كل مكان. هذا شخص جاء إلي في رمضان منذ ثلاثين سنة، وأنا سهران بعد صلاة التراويح، فجاء إلي ليقول: أنت الذي تنكر وجود الخضر وتقول: إنه ميت؟ قلت له: نعم. قال: أنا الخضر، فلما سمعت هذا الكلام قلت له: اتق الله يا رجل! ظناً مني أنه عاقل، فقال: أنا شرعة الله ومحمد، ماذا أعمل؟ هذا صوفي، وقد قرأ الفتوحات المكية على الشيخ ومات إلخ، ما الذي أوصل المسلمين إلى هذا الكفر باسم الإسلام؟ إنه الانصراف عن منهج السلف الصالح، فنحن ننصح كل المسلمين في عالم الدنيا كلها، إلى ضرورة التمسك بالكتاب والسنة، وهذه هي الركيزة الثالثة، وهي: على منهج السلف الصالح، وإلا فكل طائفة في الدنيا تقول: نحن على الكتاب والسنة.

القاديانية فرقة ضالة

القاديانية فرقة ضالة أضل فرقة اليوم تنتمي للإسلام، وتصلي الصلوات الخمس، وتحج إلى بيت الله الحرام، وهي القاديانية، مع ذلك فهم ينكرون حقائق من الإسلام باسم التأويل، وعدم التمسك بما كان عليه المسلمون -حتى الخلف منهم- لأن المسلمين جميعاً اتفقوا على أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف جاء هؤلاء يدعون الإسلام؟! ويقولون: جاء نبي اسمه ميرزا غلام أحمد القادياني، وسيأتي من بعده أنبياء كثر، وجاء أحد تلامذته هنا، وحاول أن يبث هذه الفكرة، وقام المشايخ والحمد لله تارة بالسياط، وتارة بالصياح، وتارة بالكلام، والحمد لله كفينا شرهم، وكان لي مشاركة في المجادلة معهم كثيراً. الشاهد: كيف ضل هؤلاء؟ يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا نبي بعدي) أتعرفون ما معنى: لا نبي بعدي؟ أي: معي، وليس بعدي، أي: لا يوجد نبي يكون معي أنا، ولكن إذا مِتُّ سيأتي بعدي نبي. ويؤولون النص: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ما معنى: خاتم النبيين؟ يقولون: زينة النبيين، كما أن الخاتم زينة الإصبع، فالرسول زينة الأنبياء، وليس بمعنى أنه لا نبي بعده. إذاً هؤلاء المسلمون كلهم كانوا على خطأ في فهم هذه النصوص. تأتي الآية: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] كيف كان المؤمنون في فهم هذه النصوص يا قاديانيون؟! كانوا يفهمونها خطأ، إذاً ما معنى قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] والبحث كثير وطويل جداً، فحسبنا الآن أصول الدعوة السلفية ثلاثة: الكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح.

مقاصد الدعوة السلفية

مقاصد الدعوة السلفية أما مقاصدها: فلا شك أن من مقاصدها هو أن يحققوا المجتمع الإسلامي الذي به يمكن تحقيق الحكم بالإسلام لا بسواه، فالحكم بالإسلام في غير مجتمع إسلامي ضدان لا يجتمعان، لذلك أختم الجواب على هذا السؤال بكلمة في منتهى الحكمة -عندي- فنقول للمسلمين جميعاً: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم؛ تُقم لكم على أرضكم.

حكم الاعتبار بفهم العامة للقرآن الكريم والسنة في استنباط الأحكام

حكم الاعتبار بفهم العامة للقرآن الكريم والسنة في استنباط الأحكام Q يقال: إن الدعوة السلفية تشترط أخذ الأحكام من الكتاب والسنة، دون اشتراط أخذها عن أهل العلم والاختصاص، فهل يمكن للعامي اعتماد فهمه للنص دون الرجوع إلى أهل العلم؟ A إن ما نسمعه كثيراً وكثيراً جداً من بعض الناس الذين لم يفقهوا ولم يفهموا الدعوة السلفية، لا من أشخاص الدعاة إليها مباشرة ولا من مؤلفاتهم، وإنما فهموا الدعوة السلفية من خصومهم وأعدائهم، وهؤلاء هم الذين يأتون بمثل هذا البلاء في سوء الفهم لهذه الدعوة، كثير من الناس ينقلون عنا، وبعضهم يتصل بنا، وبعضهم يحاربنا ويطعننا في الخفاء، ويقول: بأننا نحن ندعو المسلمين جميعاً حتى عامتهم إلى الفهم من الكتاب والسنة مباشرة. وأنا أقول صراحةً: لو كان هناك فعلاً أناس يدعون الجهال الأميين، الذين لا يقرءون ولا يكتبون، إلى أن يأخذوا الفقه والعقيدة والدين كله من الكتاب والسنة مباشرة، وهم لا يحسنون قراءة آية ولا رواية حديث؛ لصح كلام هذا، وصح كلام أولئك الأعداء، ولكن هل الدعوة هكذا؟ أنحن ندعو من لا يفقه شيئاً من العلم أن يتسلق على الكتاب والسنة، وأن يفرض جهله، وعاميته، وأميته على الكتاب والسنة، ثم يقول: أنا أفهم هكذا، وأنا مأمور باتباع الكتاب والسنة؟! فهذا لا يوجد مسلم -صفه كما شئت، سلفي أو خلفي- أبداً يقول بمثل هذا الكلام، ونحن قلنا دائماً وأبداً، وفي الأمس القريب نهار البارحة جاءني أشخاص من حمص، فيهم شاب مثقف بعض الشيء، وقد بلغه من اللامذهبية المعروفة ونحوها ما يشير إليه هذا الكاتب، من أننا ندعو الناس جميعاً إلى اتباع الكتاب والسنة، يعني: أن الجهال يفهمون الكتاب والسنة بجهلهم، فشرحت له المسألة بشيء من التفصيل، إيجازه قلت له: نص القرآن الكريم جعل الناس من حيث العلم والجهل قسمين: علماء، وهم الذين يفهمون الكتاب والسنة، ويقابلهم غير العلماء، ونسميهم الجهال الذين لا يفهمون الكتاب والسنة، وعلى كل من القسمين واجبه بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] إذاً: هو يخاطب الأمة في مجموعها، في علمائها وجهالها، في مثقفيها وأمييها، يقول: أنتم طائفتان: علماء وغير علماء، غير العلماء عليهم أن يسألوا العلماء: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] نحن هذا الذي ندعو الناس إليه، لكن قد نختلف مع المقلدين في مفهوم العلم والعالم، ما هو العلم؟ ومن هو العالم؟

قاعدة: حمل العام على الخاص لرفع الإشكال في بعض النصوص

قاعدة: حمل العام على الخاص لرفع الإشكال في بعض النصوص Q كيف يمكن الجمع بين قولي الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي إلا كان في أمته قوم يهتدون بهديه ويستنون بسنته) والحديث الآخر (رأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد) ؟ A الذي يبدو لي -والله أعلم- أن الحديث: (ما بعث الله من نبي إلا كان في قومه من يهتدي بهديه) هذا من النصوص العامة التي تخصص بالحديث الآخر، الذي عرض فيه على الرسول صلى الله عليه وسلم: النبي وليس معه أحد أي: أن الغالب -وهذا أمر مقطوع به نظراً وبصراً- الغالب أن الله عز وجل حين بعث الأنبياء، فلا بد أن يكون هناك من يستجيب لدعوتهم؛ ولكن ما بين أن يكون المستجيب قليلاً أو كثيراً؛ ولكن هذا لا ينفي أن يكون هناك بعض الأفراد من الأنبياء لم يستجب لهم أحد، فالحديث الأول يحمل على الغالب من شأن الدعاة مع المدعوين، أي: شأن الأنبياء مع المدعوين، فعلى الغالب أن يستجيب المدعوون لدعوة الأنبياء؛ لأنها دعوة حق، مع الاختلاف -كما قلنا- في الكثرة والقلة، ولكن أحياناً لا يستجيب للرسول أحد إطلاقاً، وهذا من جملة الامتحان والاختبار من الله عز وجل. فإذاً: التوفيق بين الحديثين بقاعدة: حمل العام على الخاص، وبذلك يزول الإشكال، وهذا لا يشكل على طلاب العلم؛ لأنه مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] فهذا يشبه تماماً لو سأل سائل: كيف التوفيق بين الآية، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (أحلت لنا ميتتان ودمان: الحوت والجراد، والكبد والطحال) ؟ الجواب: حرمت عليكم الميتة إلا كذا كذلك الدم إلا كذا، فهذا النص القرآني نص عام، خصص منه ما ذكر في الحديث، كذلك المبدأ العام أن كل نبي بعثه الله عز وجل استجاب له من استجاب إلا، فنأخذ الاستثناء من الحديث الثاني (فرأيت النبي وليس معه أحد) ، إذاً: عام وخاص، فهكذا يكون الجمع.

حكم ترك السنة من أجل ما يرى أنه في مصلحة الدعوة

حكم ترك السنة من أجل ما يرى أنه في مصلحة الدعوة Q يقال: إن الداعية إلى الإسلام يجب ألاّ يكون متشدداً بأمور السنة، وأن يتجنب -أكثر ما يمكن- المواقف التي تثير الأمور المتعلقة بالسنة، وأنه يجب أن يكون له سياسة بعيدة تقريباً عن السنة، فهل هذا صحيح ومفيد في أمور الدعوة؟ وإن كذلك فهل يجوز لنا اتباعه؟ وكيف التوفيق بينه وبين الحرص على السنة؟ A الحقيقة أن السنة -لاسيما في معناها العام- لا يجوز لمسلم أن يعرض عنها ولو مؤقتاً، فالمسلم لاسيما إذا كان يقول، أو يقال عنه: إنه داعية؛ فيجب أن يدعو إلى الإسلام، والإسلام كلٌ لا يتجزأ، وأن يبين للناس كل ما يتعلق بالإسلام، لكن الأمر كما قيل: (العلم إن طلبته كثير، والعمر عن تحصيله قصير، فقدم الأهم منه فالأهم) . وأن يهتم الداعية بالدعوة إلى أهم شيء، ثم الذي يليه وهكذا، ولكن إذا كان في مناسبة ما وبدت له خطيئة من بعض الناس تخالف الشريعة في بعض الأحكام التي ليست من أصول الشريعة، لكن الوقت وقت بيان، ووقت أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؛ فلا يجوز له أن يكتم ذلك باسم السياسة، وإنما يدعو إلى السنة التي يعرفها في تلك المناسبة، ولكن كما قال الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فلم يقل الله عز وجل: ادع إلى شيء واترك شيئاً، وإنما أمر بالدعوة بالحكمة والموعظة وبالتي هي أحسن. فمثلاً: إذا كان هناك إنسان يصلي في مسجد، فرأى بجانبه شاباً في مقتبل العمر يصلي وهو متختم بخاتم من الذهب، فقد يرى بعض الناس أن من السياسة في الدعوة أن يسكت، وألا ينصح هذا المصلي بهذه المخالفة، فهذا من السياسة الشرعية، ومتى ينصحه يا ترى! وهو قد يفوته، ولا يراه مرة أخرى؟! والصور تتعدد وتتكرر، وخاصة من الشخص -كما قلت في أول الجواب- الذي نصب نفسه للدعوة إلى الإسلام، فهو لا يجوز أن يدعو إلى بعض الإسلام ويترك البعض الآخر، لكن يجب أن يهتم بالأهم فالأهم، هذا لا بد منه، ولكن يرى المنكر ويسكت عنه اليوم، واليومين، والثلاثة، والأربعة، والشهر، والشهرين؛ بزعم أن هذا من سياسة الدعوة؛ فلم يكن الأمر كذلك في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا في عهد السلف الصالح، وإنما القاعدة في ذلك من ناحيتين: الناحية الأولى: من حيث الأسلوب. الناحية الثانية: من حيث عموم الأمر، فهو شامل لكل شيء؛ لأن هناك نصوصاً كثيرة جداً، ومن أشهرها ما هو معروف لدينا جميعاً: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رأى منكراً لم يستطع تغييره بيده فينزل إلى المرتبة الثانية، ويغير ذلك المنكر بلسانه، بالتي هي أحسن، كما في الآية السابقة، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، فلم يقل: إن اقتضت حكمة الدعوة أو سياسة الدعوة فعليك أن تسكت، لا. بل قال: إن استطعت، فما دمت تستطيع أن تغير المنكر مهما كان، ما دام أنه -كما جاء في السؤال- مخالف للسنة فعلينا البيان، ثم لست عليهم بمسيطر. الواقع أن المشكلة ليست مشكلة تقسيم الإسلام والدعوة إليه إلى قسمين: القسم الأول: أن ندعو إليه عاجلاً. القسم الثاني: أن ندعو إليه آجلاً، أو لا ندعو إليه بتاتاً. ليست هذه هي المشكلة، لاسيما أنه ليس هناك كتاب مصنف في بيان الإسلام الذي يجب أن ندعو إليه عاجلاً، والإسلام الذي يجب أن ندعو إليه آجلاً، أو لا ندعو إليه مطلقاً، بزعم أن سياسة الدعوة تقتضي ذلك، فليس هناك كتاب، ولا يمكن أن يوجد مثل هذا الكتاب، فهذا الذي يزعم ويريد أن يقسم الإسلام إلى قسمين: قسم ندعو إليه مباشرة، وقسم نؤجل أو ننسئ، من أين له هذا التقسيم؟ وما دليله؟ هذا في الواقع ينبغي أن يكون من أكبر علماء المسلمين؛ حتى قد يسمح له بهذا التقسيم، فأين هؤلاء؟ نحن نعرف الذين يتولون الدعوة لا يعرفون من الإسلام إلا شيئاً قليلاً، ثم هم أنفسهم يخالفون هذه القاعدة، أنا أقولها صريحة: إن الذين يدعون نظرياً إلى تقسيم الإسلام إلى قسمين: قسم هام يبدأ به، وآخر لا يشغل به، نحن نعرف أن هؤلاء يدعون إلى أمور قد لا تكون في الإسلام مطلقاً، فضلاً عن أن تكون من الإسلام الذي هو من القسم الأول الهام، ونحن تكلمنا في هذا كثيراً وكثيراً، ولذلك نقتصر على هذا، وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.

منهج أهل السنة في الأخذ باجتهادات المتقدمين من أهل العلم

منهج أهل السنة في الأخذ باجتهادات المتقدمين من أهل العلم Q يتهمونك بأنك لا تأخذ بأقوال الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، أو إن صح التعبير: باجتهاداتهم الفقهية، فما صحة ذلك؟ A يقصد أننا نأخذ باجتهاداتنا الفقهية، أسأل الله أن يوفقنا والله المستعان. أقول: إن الذين يتهموننا بهذه التهمة شأني معهم كما قال الشاعر: غيري جنى وأنا المعذب فيكم فكأنني سبابة المتندم غيري جنى: غيري الذي لا يأخذ باجتهادات الأئمة، أما نحن فنأخذ باجتهادات الأئمة جميعاً؛ لأن الطالب للعلم لا سبيل له إلى طلب العلم إلا من طريقين: إما أن يأخذ عن إمام فقط من الأئمة الأربعة وأنا أختصر كلاماً، وأقطع مراحل لا بد من شرحها؛ لأن طلاب العلم اليوم لا يستطيعون أن يأخذوا حتى ولا من إمام واحد، إنما بالوسائط، لكن أقول: طالب العلم اليوم لا سبيل له إلى تحصيل العلم إلا من طريقين: إما أن يأخذ عن إمام واحد، والطريق الثاني: أن يأخذ عن كل الأئمة، فالطريق الأول هو طريقة المذهبيين طريقة المقلدين الجامدين، الذين أولاً: لا يلتفتون أبداً إلى ما قال الله، وإلى ما قال رسول الله. وثانياً: لا يلتفتون إلى الأخذ من الأئمة الآخرين، والذين لا ينتمي إلى مذهبهم في طلبه للعلم. إذاً: طريق طلب العلم إما بتقليد مذهب معين، وإما باتباع الأئمة دون تعصبٍ لواحد منهم على الآخرين، فما هي طريقة القوم -اليوم- الذين يتهموننا بأننا لا نأخذ باجتهادات الأئمة؟ وما هي طريقتنا؟ إذا علمتم أن طريقتنا هي الأخذ عن كل إمام، وليس فقط الأئمة الأربعة، فإن الله عز وجل قد تفضل على أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأئمة من أمثال الأئمة الأربعة بالعشرات، بل بالمئات، بل بالألوف المؤلفة، فالذين يأخذون بطريقة اتباع الكتاب والسنة، فهم الذين يأخذون باجتهادات الأئمة، أما الذين يقلدون مذهباً معيناً، فهؤلاء لا يستفيدون من الأئمة الآخرين، ولا يأخذون باجتهاداتهم، إذاً: فقد ظهر أن -كما قلت لكم آنفاً: غيري جنى وأنا المعذب فيكم غيري الذي لا يأخذ باجتهادات الأئمة وليس أنا، فأنا آخذ باجتهادات الأئمة كلهم، دون تفريق بين واحد والآخر منهم. ثم لابد هنا إلى التنبيه بأن هذه الطريقة التي نسلكها نحن لعدم التعصب لإمام على إمام، هي الطريقة التي خطها ونهجها نفس الأئمة الأربعة وغيرهم للمسلمين؛ لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكتاب والسنة، ألا نقلد شخصاً معيناً؛ لأن الشخص المعين معرض للخطأ والصواب، ونحن حين نقول: خطأ، لا نعني الغمز، ولا اللمز، ولا الطعن، كما يتهمنا أولئك الناس، وإنما نعني: أنه -أي: المجتهد من هؤلاء المجتهدين- إما أن يؤجر أجرين، وإما أن يؤجر أجراً واحداً، فإذا أُجر أجراً واحداً فذلك يساوي عندنا (أخطأ) ، وأخطأ يساوي عندنا أجر أجراً واحداً، فالناس من جملة ما اضطربت فيه مفاهيمهم، وخرجوا عن الفهم الصحيح للكتاب والسنة: أن المسلم إذا قال في حق رجل عالم أخطأ، اعتبر هذا طعناً في الذي قيل فيه: إنه أخطأ، وهذا جهل، لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي بكر في قضية: أخطأت. فهل طعن الرسول في صاحبه في الغار؟ حاشا! بل لقد قال في بعض أصحابه حينما أفتى فتوى فأخطأ فيها: كذب فلان، وكذب في اللغة العربية التي نكاد أن ننساها معناها: أخطأ، فنحن إذا قلنا اليوم: كذب فلان. يا لطيف! -ولا نقولها؛ لأن القوم لا يفقهون لغتهم- ولكن لا يسعنا أن نقول إلا: أخطأ، وأخطأ يساوي أجر أجراً واحداً. الخلاصة -والبحث في هذا طويل-: نحن نحترم الأئمة كلهم، ونأخذ باجتهاداتهم، وليس باجتهاد واحد منهم، وعلى العكس من ذلك؛ كل متمذهب إذا قال: نحن نحترم الأئمة ونعظمهم! فهو منافق، يقول ما لا يعتقد، في كتب المذهب الحنفي -بصورة خاصة- يقول ابن عابدين: إذا سُئلنا عن مذهبنا قلنا: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، وإذا سُئلنا عن مذهب غيرنا قلنا: خطأ كله. أي: أنا حنفي ومذهبي كله صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غير أبي حنيفة، مذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم؛ كل هؤلاء مذهبهم خطأ يحتمل الصواب، هذا قولهم مسطور مطبوع، أما نحن إذا قلنا: فلان أخطأ في هذه المسألة، ونعني: أجر أجراً واحداً، يا غيرة الله! أما المطبوعة بالكتب (كل المذاهب خطأ إلا مذهبنا) فهذا لا بأس، وهذه عقيدة يجب أن يعتقدوها. خلاصة القول: فرمتني بدائها وانسلت نحن نتبع الأئمة، وليس المقلدون هم الذين يتبعونهم، واحترامهم للأئمة إن أرادوا أن يكونوا صادقين؛ فعليهم أن يثبتوا لنا في ماذا اتبع الحنفي الشافعية، في أي مسألة؟ وفي أي مسألة اتبع الإمام مالكاً؟ وفي أي مسألة اتبع الإمام أحمد؟ حتى نعتقد أنهم يحترمون الأئمة، أما أن يظل يعيش أحدهم لا يحيد قيد شعرة عن مذهبه، ولا يعترف قيد شعرة بالمذاهب الأخرى، ويعتقد في نفسه أنه على صواب، فهو حين يقول: إنه يحترم الأئمة، يحتاج إلى ما يدعمه ويصدقه، أما نحن فواقعنا يشهد أننا نحترم الأئمة كلهم. أنا -مثلاً- رجل حنفي، وفي بلادي لا يعرف إلا المذهب الحنفي، والإسلام هناك كله مذهب حنفي، وربنا عز وجل تفضل علينا وألهم أبانا فهاجر بنا؛ لنتعلم اللغة العربية ونتعلم الإسلام من مصدريه الصافيين: الكتاب والسنة، فقد عرفنا الأئمة، وعرفنا فضلهم، وعرفنا علمهم إلخ، فأنا حنفي، وتعلمت في الفقه الحنفي أنه يكره رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وقيل: إنه حرام، وقيل: إن الصلاة باطلة إذا رفعت يديك عند الركوع والرفع منه، وهذا مسجل في كتب وهي مطبوعة، فلما تبينت لي السنة في رفع اليدين، فوجدت الإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام مالك أيضاً يقولون بأنها سنة أخذت بها، وكذلك كل مسألة يتبين أنها الحق أخذناها، إما من الجمهور، كـ مالك، والشافعي، وأحمد، أو تارة عن الشافعي دون مالك، وتارة عن مالك دون الشافعي، وتارة عن أحمد دون هذا وهذا، فهذا هو احترامنا للأئمة، لكن هم تارة بقصد سيء، وتارة بسوء فهم -وقد يكون القصد حسناً- يتوهمون أننا إذا قلنا: إن القول بأن رفع اليدين في الصلاة مكروه خطأ، فإننا نطعن في الإمام أبي حنيفة. فنقول لهم: إذاً أنتم ماذا تقولون؟ أنتم تقولون: مذهبنا كله صواب يحتمل الخطأ، إذاً طعنتم في الأئمة كلهم، في أقوالهم كلها، هكذا يجمعون بين متناقضات في أذهانهم، نسأل الله عز وجل أن يهدينا وإياهم لاحترام الأئمة واتباعهم حسب منهجهم هم، لا حسب منهج المقلدين تقليداً أعمى.

تجديد الإسلام يكون بتجديد مفاهيمه الصحيحة

تجديد الإسلام يكون بتجديد مفاهيمه الصحيحة Q ورد أن الله سبحانه وتعالى يبعث على رأس كل قرن هجري مجدداً لهذه الأمة، فهل هذا صحيح أولاً؟ وإن كان صحيحاً فما نوع التجديد الذي يتم على يد هذا المجدد؟ A الحديث صحيح، والتجديد أنواع، هذا هو الصحيح في تفسير الحديث، فالإسلام يحتاج إلى تجديد كلما مضى عليه مدة من الزمن -طويلة أو قصيرة- وتجديد الإسلام يكون من نواحٍ متعددة، أهمها: تجديد مفاهيمه الصحيحة، حيث ينحرف المسلمون مع الزمن عن فهم الإسلام -كتاباً وسنةً- فهماً صحيحاً، فأعظم تجديد هو هذا التجديد، الذي يأتي إلى المسلمين بالمفاهيم الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح لنصوص الكتاب والسنة. ومن هذا التجديد الأهم: أن يصفي السنة مما دخل فيها مما ليس منها، ثم هو يدعو المسلمين إلى الاعتماد على هذه السنة الصحيحة مع القرآن، ومع ذاك البيان الصحيح لكل منهما، الذي كان عليه سلفنا الصالح، هذا تجديد وهو أهم تجديد، ولا تقوم قائمة المسلمين، وقائمة الحركات الإسلامية، والدعوات الإسلامية كلها، والأحزاب الإسلامية كلها؛ إلا إذا بنيت على هذا التجديد الأصيل؛ وهو: تجديد السنة بتمييز ما ليس منها وطرحه جانباً، وتجديد المفاهيم الصحيحة لنصوص الكتاب والسنة، بدعوة المسلمين إلى المفاهيم التي كان عليها سلفنا الصالح. لكن هذا في الواقع لا يكفي، فلا بد من تجديد -مثلاً- لعلوم أخرى يتطلب تطور الحياة العلمية والاجتماعية أن يتوجه بعض الناس إلى تجديدها، ونضرب على ذلك مثلاً علم اللغة، فهذا العلم لا بد من التجديد فيه، وتقريبه إلى الناس، وحتى إلى العرب أنفسهم الذين ابتعدوا قليلاً أو كثيراً عن لغتهم، بسبب العُجمة التي تسربت إليهم، فلا بد إذاً من تجديد هذا العلم، وكذلك يقال: لا بد من تجديد النواحي التربوية والنفسية، وتوجيه المسلمين إلى ما يوافق الكتاب والسنة من هذه النواحي كلها، ولا شك أن فرداً بل جماعة لا تستطيع أن تقوم بكل هذه الجهود وهذه التجديدات، ولذلك ذكر بعض العلماء -كمثال لأنواع التجديد- من المجددين: صلاح الدين الأيوبي؛ مع أن الرجل لم يكن مشهوراً بالعلم، ولكن لما جدد الحياة الإسلامية؛ بأن حضهم على الجهاد، وحملهم على مقاتلة الأعداء، وإخراجهم من البلاد بعد أن احتلوها سنين طويلة؛ فاعتبروه من جملة المجددين، فإذاً: لا يحصر التجديد في ناحية دون أخرى، فما دام أن الحياة تتجدد فلا بد للعلوم من أن تتجدد، وأن تمشي هذه العلوم وفق الكتاب والسنة الصحيحة، وعلى المفهوم الذي كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم.

التزام الصحابة بالنص النبوي في صفة التشهد

التزام الصحابة بالنص النبوي في صفة التشهد Q في كتاب صفة الصلاة ذكرتم الحديث المروي عن الصحابة في كيفية التشهد، والصحابة قد غيروا صيغة (السلام عليك) بـ (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته) ، كيف لنا أن نوفق الأمر الثاني بالأول، علماً بأن الدعوة السلفية منهجها الأخذ بالقرآن والسنة، وفهم الصحابة لهما؟ A كأن السائل فهم أن الصحابة غيروا النص الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الذي هو بصيغة الخطاب: (السلام عليك أيها النبي) ، فكأنه فهم أنهم غيروه من عند أنفسهم، وهذا ما نبرئ منه أقل الناس فهماً للسنة حتى لو كان خلفياً سلفياً، أعني: حتى لو كان من الخلف الذين يتبنون مذهب السلف، فلا نتصور أن رجلاً من المتأخرين يفقه أن الأوراد توقيفية، يتجرأ على أن يغير حرفاً واحداً في ورد تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد، فكيف نتصور صحابياً واحداً -لاسيما إذا كان مثل ابن مسعود - يقدم على تغيير نص تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة؟! هذا الخاطر يجب ألا يخطر على بال السائل أو غيره أبداً، وإنما يقول العلماء في مثل هذا: إن ذلك الذي فعلوه هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، ومعنى التوقيف: أن الرسول عليه السلام هو الذي ألمح وأشار إليهم أن هذا يكون في حياته، أما بعد وفاته فيتكلمون بصيغة الغيبة، وليس بصيغة الحاضر، فيقولون في التشهد: السلام على النبي، ونحن نعرف بعد الصحابي عن الابتداع بصورة عامة، وبعدهم عنه في الأذكار بصورة خاصة، وبالأخص منهم عبد الله بن مسعود الذي جاء النص الصحيح في صحيح البخاري عنه أنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة وكفي بين كفيه) كناية عن اهتمام المعلم بالمتعلم بتلقينه ما هو في طريق تعليمه إياه، قال ابن مسعود: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه، التحيات لله ... ) وذكر التشهد المعروف عن ابن مسعود، والذي عليه الحنفية: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) قال ابن مسعود بعد أن ذكر النص الذي لقنه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفه بين كفي الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (وهو بين ظهرانينا) أي: علمه أن يقول هذا وهو بين ظهرانيهم، وهو حي معهم عليه الصلاة والسلام، قال (فلما مات قلنا: السلام على النبي) ما قال هو: قلت، وحاشاه أن يقول! -كما قلت لكم آنفاً- وحاشاه أن يتصرف في مثل هذا النص الذي تلقاه من الرسول مباشرة، وبهذا الاهتمام الذي عبر عنه بقوله: (وكفي بين كفه) وإنما ذلك مما فهمه في أثناء التلقين، لذلك قال في هذا الحديث: (وهو بين ظهرانينا، فلما مات قلنا ... ) ما قال: قلت، فكيف يقول من عند نفسه شيئاً يبدل فيه نص الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم أن تعليم الرسول صلوات الله وسلامه عليه هو وحي من الله؟! والذين يجهلون هذه الحقيقة، أو يغفلون أو يتغافلون عنها، هم في الواقع في خطر كبير جداً، فالذين يتقدمون إلى أوراد الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى أذكاره، فيزيدون فيها ما شاءوا من الزيادات، لا يتصورون أبداً أنهم يزيدون على الوحي ولا يخطر هذا في بالهم، وهذا في الواقع تفريق خبيث بين الله ورسوله، وهم لا يتنبهون له، وهو تفريقٌ خبيث بين الكتاب والسنة، أي: بين ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة، وإلا هل يجرؤ أحد هؤلاء أن يزيد في نص القرآن حرفاً واحداً؛ من أجل إشباع نهمته وغلوه في حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم؟ مثلاً: هل يقول أحدهم حين قال الله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ. } [الفتح:29] إلخ ما ورد في الآية، هل يقول أحدهم: سيدنا محمد رسول الله؟ لا أحد يقول هذا؛ فمباشرة سيقال له: هذه زيادة على ما في القرآن، وهو وحي فهو أيضاً لا يجوز، لكنهم يفرقون -كما قلت لكم- بجهلهم، كذلك لا يقول أحدهم: محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم رسول الله؛ لأن هذا زيادة على النص، فنحن معشر الذين ينتمون إلى السلف لا نفرق بين الله ورسوله أبداً، ولا نفرق بين كتاب الله وحديث رسول الله، وبين تعليم الله وتعليم رسول الله؛ كلاهما يصدران من مشكاة واحدة وهي مشكاة الوحي من السماء؛ لذلك لما علم النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب ورد الاضطجاع عند النوم: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، قال له: إذا أنت قلت ذلك ومت من ليلتك تلك مت على الفطرة) فأعاد البراء بن عازب هذا الدعاء بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليتمكن من حفظه، فلما وصل إلى قوله في الأخير: (آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) قال: (وبرسولك الذي أرسلت) ، بدل أن يقول: (وبنبيك الذي أرسلت) فصده الرسول عليه الصلاة والسلام ورده عن ذلك، وقال له: قل: (وبنبيك الذي أرسلت) لو سألنا هؤلاء المغيرين والمبدلين في أذكار الرسول عليه الصلاة والسلام: هل هناك فرق يفسد المعنى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الورد، بين تعليم الرسول الذي هو: (وبنبيك الذي أرسلت) وبين ما أخطأ فيه البراء فقال: (وبرسولك الذي أرسلت) . هل هناك فرق؟ لو لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام رسولاً وكان نبياً فقط؛ لصار هناك تغيير للمعنى؛ لأن الرسول أعم من النبي، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، لكن نبينا عليه الصلاة والسلام ليس فقط رسولاً، بل هو خاتم الأنبياء والرسل جميعاً، فحينما قال البراء: وبرسولك الذي أرسلت، ما خالف الواقع أبداً؛ ولكنه خالف التعاليم النبوية -إخواننا انتبهوا لهذا- كل ما في الأمر أنه خالف تعليم الرسول إياه، أما المعنى فمستقيم تماماً؛ لذلك قال له: قل: (وبنبيك الذي أرسلت) وعلى هذا جرى الصحابة.

أمثلة على تقيد الصحابة بألفاظ النصوص

أمثلة على تقيد الصحابة بألفاظ النصوص وقد ذكرت لكم مراراً في مثل هذه المناسبة عن كثير من الصحابة، وكيف كانوا يفرون من أن يعدل الرجل عن لفظ الرسول إلى لفظ من عنده، فهناك -مثلاً- في مسند الإمام أحمد: [أن سعد بن أبي وقاص سمع رجلاً يقول في تلبية الحج: لبيك ذا المعارج، فقال له -وهذا من حكمة الصحابة في إنكار المنكر- قال: إنه لذو المعارج؛ ولكن ما هكذا كنا نقول في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كنا نقول: لبيك اللهم لبيك] إلى آخر التلبية المعروفة، قال له: الله هو ذو المعارج، لكن التلبية ما كانت هكذا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. وأبدع من هذا -أيضاً- في أسلوب الإنكار، قصة ابن عمر التي ذكرتها لكم أكثر من مرة أيضاً، [أن ابن عمر سمع رجلاً عطس فقال: الحمد لله، والصلاة على رسول الله، فقال: وأنا أقول معك: الحمد لله، والصلاة على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله، قل: الحمد لله رب العالمين] كأن القضية الآن تتكرر تماماً، لكن -مع الأسف! - دون أن يكون هناك متجاوبون مع المنكرين. وهذه الزيادة -اليوم- في عبادتنا تأتي في صور عديدة، وأشهرها الزيادة في الأذان، والصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام، كما قال ابن عمر: [وأنا أقول معك: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول ما هكذا علمنا] فهكذا الصحابة، والآثار عنهم كثيرة جداً جداً، كانوا يتورعون أن يأتوا بتغيير للفظ الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أشهرهم وأدقهم في ذلك صاحبنا صاحب حديث التشهد الذي علمه الرسول إياه وكفه بين كفيه، ألا وهو عبد الله بن مسعود، حيث روى الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار، بالسند الصحيح عن ابن مسعود: [أنه كان إذا علم أصحابه التشهد يأخذ عليهم الحرف الواحد] . أي: إذا زاد حرفاً، أو نقص حرفاً، يقول له: لا. ارجع وقلها كما تلقيتها عن الرسول عليه الصلاة والسلام. فهل نتصور مثل هذا الصحابي -لو كان وحده- يأتي إلى التعليم الذي لقنه الرسول عليه السلام إياه مباشرة: السلام عليك أيها النبي، فيأتي ويعدل منه إلى (السلام على النبي) دون أن يكون عنده تعليم وتوجيه من الرسول عليه السلام له بذلك؟ حاشاه من ذلك! فكيف وليس هو في الميدان وحده، هو أولاً: يروي لنا فيقول: [فلما مات الرسول صلوات الله وسلامه عليه قلنا -أي: نحن معشر الصحابة- السلام على النبي] ، ولذلك تأكيداً لهذا المعنى الذي رواه لنا ابن مسعود بصيغة الجمع: قلنا، جاء هذا التشهد مع اختلاف الألفاظ، كما هو مذكور في صفة الصلاة عن السيدة عائشة بـ: السلام على النبي، وجاء عن عمر بن الخطاب في موطأ مالك: السلام على النبي وهكذا. إذا: ما نقوله هو اتفاق وإجماع من الصحابة، وذهبوا إليه ليس اجتهاداً منهم وتغييراً للنص -كما يتبادر من سؤال السائل- وإنما بتوقيف من الرسول صلوات الله وسلامه إياهم. ما أبدع هذا الأمر فيما إذا عرفنا اليوم غلو الناس في دعاء الموتى، والاستغاثة بغير الله عز وجل، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أومأ وأشار إلى هؤلاء الصحابة من باب سد الذريعة، إذا أنا مت فقولوا: (السلام على النبي) ؛ ذلك لأن كثيراً من الناس اليوم يتوهمون أوهاماً كثيرة، منها: أن الموتى كلهم يسمعون كثير من الناس اليوم -إذا لم نقل كلهم- يتوهمون أن الموتى يسمعون، فإن سيدهم وسيد المسلمين جميعاً محمد عليه الصلاة والسلام يسمع من باب أولى، فما بالكم إذا كان الرسول لا يسمع حتى الصلاة عليه، وهو أفضل ما يقال في حقه عليه الصلاة والسلام؟ فهل يسمع استغاثة المستغيثين به من دون الله عز وجل؟ هل يسمع توسل المتوسلين به من دون الله عز وجل؟ فالصلاة على الرسول لا يسمعها هو، وقد يستغرب بعضكم ممن لم يطرق سمعه مثل هذا الكلام من قبل كيف أن الرسول لا يسمع الصلاة عليه؟ نعم. اسمعوا حديث الرسول عليه السلام الذي قال فيه: (أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم تبلغني) . فقال: (فإن صلاتكم تبلغني) ما قال: أسمعها، قالوا: (كيف ذاك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) ويوضح هذا التبليغ: (فإن صلاتكم تبلغني) يوضحه حديث آخر يرويه أيضاً عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام) إذاً الرسول عليه السلام إذا صلى أحدنا عليه، فإنه لا يسمع هذا السلام كما يتوهم جميع الناس تقريباً، وإنما هناك ملائكة مخصصون وموظفون من رب العالمين؛ لينقلوا سلام المصلين عليه إليه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان عليه الصلاة والسلام لا يسمع؛ فإذاً نحن نخاطبه حيث جاء الخطاب فقط كما نخاطب الموتى ونقول لهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ... ) إلى آخر الدعاء المعروف، لكن هذا لا يعني أننا نخاطب من يسمع، فالموتى لا يسمعون بنص القرآن ونص السنة، ولقد شرحت هذا شرحاً وافياً في مقدمتي لكتاب: الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات، وهي مقدمة وافية هناك، فمن شاء منكم رجع إليها بتوسع في هذا الموضوع. خلاصة القول: السلام على النبي، هذا توقيف من النبي للصحابة وليس تغييراً منهم، وحاشاهم في مثل ذلك، وبهذا القدر نكتفي والحمد لله رب العالمين.

الألبسة والأزياء في الإسلام

الألبسة والأزياء في الإسلام العالم الإسلامي اليوم يشهد تداخلات وغزو للحضارات؛ فحصل لديه تأثر في بعض نواحي الحياة ومن هذه النواحي: الأزياء والألبسة، وهذا يثير التساؤلات حول هذا الموضوع! وفي هذه المادة يبين لنا الشيخ رحمه الله أحكاماً كثيرة حول الإسبال في الثياب وإطالتها، وحكم الملابس الوافدة، موضحاً الضوابط الشرعية في زي المسلم وغير ذلك مما له تعلق الأزياء والألبسة.

حكم الإسبال وإطالة الثياب

حكم الإسبال وإطالة الثياب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لا بأس من اغتنام هذه الفرصة لننبِّه على ما ابتلي به جماهير المسلمين اليوم، ويتوجب علينا هذا التنبيه وجوباً مؤكَّداً، حينما لا نكاد نسمع صوتاً يذكِّر بمثل ذلك، مع شدة وكثرة ابتلاء الناس، ولا أخص الشباب دون الشيوخ. فقد سمعتم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذر من إطالة الثوب إلى ما تحت الكعبين، وأن من فعل ذلك خيلاء لم يستحق أن ينظر الله تبارك وتعالى إليه يوم القيامة نظرة رحمة. فواجبُ ولازمُ هذا الحديث أن المسلم يجب عليه أن يراعي ثوبه، وألاّ يرسله فيجعله فوق كعبيه، لا فرق في أن يكون هذا الثوب قميصاً -كما يقال اليوم: جلابية- أو أن يكون عباءة، أو أن يكون سروالاً -أعني: بنطلوناً- أو جُبَّة، أو أي شيء كان، كل هذه الأنواع من الثياب لا يجوز للمسلم أن يطيلها أكثر من الكعبين.

شبهة وردها

شبهة وردها وهنا شبهة ترد كثيراً وكثيراً في مثل هذه المناسبة، يقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال في الحديث السابق: (من جر إزاره خيلاء) ، فنحن اليوم سواءً كنا شباباً أو شيوخاً، لا نجر الثياب تحت الكعبين خيلاء، وإنما هو عادة و (موضة) ويحتج أولئك بما جاء في صحيح البخاري: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع هذا الوعيد الشديد لمن يجر إزاره خيلاء قال: (يا رسول الله! فإن ثوبي يقع، فقال له عليه السلام: إنك لا تفعله خيلاء) ، فيتمسك أولئك بقول الرسول عليه الصلاة والسلام هذا لـ أبي بكر، ويحتجون به على أن إطالة الثوب تحت الكعبين إنما يكون ممنوعاً إذا اقترن بهذا القصد السيئ، ألا وهو: الخيلاء والتكبر. الآن أقول: جوابي على هذا من وجهين اثنين: الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يقل: أنا حينما أُفَصِّل ثوبي أجعله طويلاً تحت الكعبين لا أقصد بذلك الخيلاء، وإنما قال: يقع! وهذا يعرفه الذين اعتادوا أن يلبسوا العباءة، فقد تكون العباءة مُفَصَّلة حسب السنة، أي فوق الكعبين؛ لكن مع الانطلاق والسير والعمل والصلاة تصبح العباءة متدلية إلى الخلف فتنزل إلى ما تحت الكعبين هذا هو الذي أشار إليه أبو بكر في سؤاله، وقال له الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (إنك لا تفعله خيلاء) . أما أن يأتي الرجل فيُفَصِّل الثوب -أيَّ ثوبٍ كان مما سبقت الإشارة إليه- طويلاً خلافاً للشرع، ويبرر ذلك بأنه لا يفعل ذلك خيلاء، فهذا من تلبيسات الشيطان على بني الإنسان. وبعد هذا نقول في الجواب عن هذه الشبهة، بعد أن أوضحنا أن حديث أبي بكر الصديق إنَّما يعني الثوب الذي يستطيل بدون قصد صاحبه، ما لَمْ يُوْصِلُه صاحبه ويفصِّله طويلاً تحت الكعبين، ويدَّعي أنه إنما يفعل ذلك بغير قصد الخيلاء، نقول: ليس من المفروض في المجتمع الإسلامي الصحيح أن يعمل المسلم -فضلاًَ عن جماهير المسلمين- عملاً يحتاج كل منهم إلى أن يبرر هذا العمل بحسن النية، فهذا الأمر لا يكاد ينتهي، وهذا يخالف نصوصاً من الأحاديث الصحيحة التي تربي المسلم على ألاَّ يعمل عملاً، وألاَّ يتكلم كلاماً، وألاَّ يقول قولاً يحتاج بعد ذلك كله إلى أن يقدم له عذراً، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (لا تَكَلَّمَنَّ بكلام تعتذر به عند الناس) هذا خاص بالكلام؛ لكن يأتي الحديث الآخر يشمله ويشمل غيره من الأعمال، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إياك وما يُعْتَذَرُ منه!) . فمن يطيل ثوبه تحت الكعبين، فيُنْكِرُه عليه العارف بالسنة، فيقول: يا أخي! أنا لا أفعل ذلك خيلاءً، -كما قال أبو بكر الصديق -. فأولاً: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف أبا بكر الصديق، وعرف تواضعه، وأنه قد تبرأ من الكِبْر ولو ذرة منه، فقال وشهد له بأنه لا يفعل ذلك خيلاء، فليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد يستطيع أن يشهد مثل هذه الشهادة لإنسان آخر، لا سيما في مثل هذه المجتمعات الفاسدة. وثانياً: قد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (أزْرَة المؤمن إلى نصف الساق ... ) هذا الحديث يضع لك منهجاً عملياً يجب أن تلتزمه، دون أن تبرر مخالفتك إياه بحجة أنك لا تفعل تلك المخالفة خيلاء، حيث يقول: (أزْرَة المؤمن إلى نصف الساق، فإن طال فإلى الكعبين، فإن طال ففي النار) . فهنا لا يُسْمَعُ مِن أحد يطيل ثوبه إلى ما تحت الكعبين أنه لا يفعل ذلك خيلاءً؛ لأننا نقول: إنك تفعل ذلك مخالفة لهذا النهج النبوي، وانتهى الأمر، أما إن انضمَّ إلى ذلك أنك فعلتَه خيلاءً فقد استحققت ذلك الوعيد الشديد، ألاَّ ينظر الله تبارك وتعالى إليك يوم القيامة نظرةَ رحمة. ذلك هو ما ابتلي به شباب اليوم، لاسيما وهم يتخذون ذلك من باب اتباع التقاليد الأوروبية والموضة الغربية، من إطالة السروال -أعني: البنطلون- حتى يكاد يتهرَّى من أسفل بسبب اتصاله بالأرض، فهذا محرم لا يجوز؛ سواءً قصد لابسُه الخيلاء أو لم يقصده، وهي في الأصل ابتُدِعَت من هناك تكبراً وخيلاء، لا شك في هذا ولا وريب؛ لأن الكفار لا يهمهم في هذه الدنيا إلا التمسك بحب الظهور والتكبر على الناس ونحو ذلك، وما دام أن هذه الأزياء إنما تأتينا من تلك البلاد فهي لم يُقْصَد بها قطعاً وجه الله تبارك وتعالى، إنما قُصِد بها وجه الشيطان. وهذا الكلام يشمل كل الأزياء التي تَرِد إلى هذه البلاد الإسلامية؛ سواء ما كان منها متعلقاً بأزياء الرجال أو بأزياء النساء، فكيف ما كان منها مخالفاً لمثل ذلك الحديث الصريح الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أَزْرَة المؤمن إلى نصف الساق، فإن طال فإلى الكعبين، فإن طال ففي النار) ؟! هذا مما يجب على كل مسلم يغار على دينه ويهتم به أن يكون بعيداً عن غضب ربه تبارك وتعالى عليه، ولا نقول: هو حريص على اتباع السنة؛ لأن السنة مراتب، قد تدخل تحتها الأمور المستحبة، نحن الآن نتكلم عن الأمور الواجبة، انظر الحديث السابق: (أزْرَة المؤمن إلى نصف الساق ... ) هذا هو المستحب؛ لكن إذا أطاله إلى الكعبين فهذا جائز وليس بمحرم؛ لكن إن زاد في الإطالة حتى تحت الكعبين فهذا محرم وصاحبه في النار، وينبغي أن يُفْهم من قوله عليه السلام: (وما طال ففي النار) أنه لا يعني: الثوب؛ لأن الثوب ليس مكلفاً ولا يحاسَب! وهذا له أمثلة كثيرة في الشريعة، منها ما نفتتح به خُطَبَنا ودروسَنا من قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) أي: كل بدعة في النار، فما هي البدعة؟! هي شيء معنوي وليس شيئاً مُجَسَّماً؛ لكن معنى قوله: (وكل ضلالة في النار) أي: صاحبها في النار. وكذلك الإزار الذي يطيله صاحبه إلى أسفل الكعبين، صاحبه في النار. هذه تذكرة أردتُ أن أوجهها إليكم؛ لإرشاد من كان يريد منكم أن يكون تحت رحمة ربه عز وجل يوم يُحْشَر الناس {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .

كلمة للأزواج في ضرورة التزامهم بالشرع

كلمة للأزواج في ضرورة التزامهم بالشرع وكلمة أخرى أريد أن أقولها بهذه المناسبة، وهي: أننا نسمع في كثير من الأحيان كثيراً من الشباب يشكون من عدم انصياع زوجاتهم لأوامرهم الشرعية. وإن كنا لا ننسى أنه في كثير من الأحيان تكون المرأة عاصيةً لسوء خُلُقِها؛ لكن الذي يهمني في هذه المناسبة أن نقول: إن الزوج في كثير من الأحيان يكون عوناً لها على عدم طاعتها له، وذلك كأنْ يريد الزوج -مثلاً- من زوجته ألا تتزين ولا تتبرج أمام الرجال، لا سيما إذا خرجت من بيتها، ويريدها أن تتجلبب الجلباب الشرعي؛ ولكنه هو نفسه لا يلبس اللباس الشرعي، فلا يتَزَيَّا بزِيِّ المسلمين، وحتى لو أنها لم تكن فقيهة؛ لكنها تسمع أن هذا اللباس هو لباسٌ أفرنجي، وأن هذا التَّزَيُّن بحلق اللحى -مثلاً- أقل ما يقال فيه: أنه خلاف السنة، بل هو خلاف الواجب والفرض. فإن لم تقل هذا لزوجها بلسان مقالها فهي تقوله له بلسان حالها: الفرس مِن الفارس، اضبط حالك أنت، فأْتَمِرْ وتَشَرَّع حتى أسمع كلامك. هذا لسان حالِ كثيرٍ من النساء. لذلك فأنا أهتبلها فرصة في هذه التذكرة لأقول: يجب على الشباب أن يساعدوا نساءهم على طاعتهن لهم، بأن يكونوا هم مطيعين لربهم ومتبعين لشريعته سبحانه وتعالى.

عموم تحريم إسبال الثياب

عموم تحريم إسبال الثياب كلمة (إطالة الإزار) هو التعبير النبوي، والتعبير العربي القديم، والذي يهمنا اليوم هو: تطويل البنطلون وتنزيله إلى الأرض وجره، على اعتبار أن هذه هي الموضة الوافدة من بلاد الغرب. فاسمعوا الآن معي هذا الحديث، وانتبهوا بعد ذلك لما يلي من التعليق هذا الحديث يرويه الإمام أحمد في مسنده الجامع للأحاديث الكثيرة الطيبة بإسناد قوي: عن عمرو بن فلان الأنصاري -ذهب عن ذهن الراوي اسم عمرو الصحابي بالكامل فقال: عن عمرو بن فلان الأنصاري - قال الراوي: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره، لَحِقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخذ بناصية نفسه وهو يقول: اللهم عبدك ابن عبدك ابن أمتك، قال عمرو: فقلت: يا رسول الله! إني رجل حَمْش الساقين. فقال: يا عمرو! -بيت القصيد في هذا النداء من الرسول الكريم- قال: يا عمرو! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خَلْقَه -هذا جوابه لقوله: إني حَمْش الساقين، أي: دقيقهما، يعني: أنه مُعَظِّم قليل لحم الساقين، وكل من يراه قد يضحك- يا عمرو! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خَلْقَه، يا عمرو! وضرب رسول الله صلى الله عليه وآله سلم بأربع أصابع بكفه اليمنى تحت ركبة عمرو - فقال: يا عمرو! هذا موضع الإزار، ثم فعل ذلك مرة ثانية -أي: وضع أربع أصابع تحت الأربع أصابع الأولى- ثم رفعها، ثم وضعها تحت الثانية -فصارت اثنتي عشرة أصبعاً- فقال: يا عمرو! هذا موضع الإزار) . انتهى الحديث. لاحظوا معي الآتي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاله وعَظُم عليه أمر هذا الصحابي أن يمشي وإزاره مسبَل، ويدلكم على هذا أنه وضع يده على ناصيته، وهذا كأنه عادة لا تزال معروفة عند بعض الناس؛ فمن هاله أمر فإنه يضع يده على رأسه، وهكذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم رفع رأسه إلى ربه عز وجل متضرعاً إليه أن يغفر لهذا الأنصاري - عمرو - فعْلَته هذه؛ ولكنه قال هذه الكلمة مُسْمِعاً عَمْراً إياها. ولذلك كان جواب عمرو معتذراً بقوله: (يا رسول الله! إني رجل حَمْش الساقين) أي: دقيقهما. وبما أن الناس عادة يلفت نظرهم حموشة الساقين ودقتهما، إلا أن أكثر الناس -في الواقع- لا يتذكرون هذه الحقيقة التي لَفَتَ إليها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نظر هذا الرجل الذي خلقه الله حَمْش الساقين، حيث قال له: (إن كل شيء خَلَقَه الله عز وجل فهو حسن) ، وقد {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7] ، كما هو النص في القرآن. وهذا التعليل من الرسول عليه السلام يقصد به الآتي: أولاً: تهويل هذا الذي لا يُعْجِب هذا الإنسان أن الله عز وجل قد خلقه حَمْش الساقين. ثانياً -وهو الأهم-: أن الناس الآخرين الذين يرون هذا الإنسان حَمْش الساقين -وهو من خلق الله عز وجل- فلا تعجبهم هذه الحموشة، فأقول لهم: حذارِ من ذلك! لأن هذا خَلْق الله، وكلُّ ما خَلَق الله عز وجل فهو حسن. أقول هذا وإن كنتُ أذكر بأن هناك قصة أو حديثاً وقع في زمن الرسول عليه السلام وهو في سفر، ولعله كان في حجة الوداع -لا أذكر الآن- وكان معه عبد الله بن مسعود، فأخذ يتسلق شجرة -لعلها الأراك- ولا يخفاكم أن هذا الإنسان الذي يصعد تنكشف ساقاه أكثر مما لو كان على الأرض، ولو كان إزاره على السنة تحت الركبة، فلما رآه بعض الصحابة ضحكوا، وهذا اندفاع واستجابة للطبيعة التي يُفْطَر عليها الإنسان ما لم يُهَذَّب بتهذيب الشارع الحكيم، فكان جواب الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن قال لمن حوله: (إنهما أثقل من أحد في الميزان يوم القيامة) ، أي: ساقي ابن مسعود الدقيقتين الرقيقتين. فنجد نبينا عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو يحاول تلطيف وَقْع هذا الخَلْق الذي قد لا يُعْجِب بعض الناس حتى الرجل نفسه، فلَفَتَ نظره إلى أن خَلْقَ الله كلَّه حسن، وهذا ما كنا نحن نقوله، وهنا الشاهد الأول من هذا الحديث. فعندما نقول: إن الله عز وجل لَمَّا خلق الرجل بلحية والمرأة بدون لحية فإنه ما خلق هذا عبثاً، وما جعل هذا التفاوت هكذا لا لحكمة ولا لغاية، وإنما كل خَلْق الله عز وجل حسن. فإذا كان النظام العام دائماً وأبداً أن الرجل له لحية والمرأة ليست لها لحية، وإذا بنا اليوم نرى بعض مَن يُسَمَّون بالشواذ، حيث يوجد رجل أمرد لا لحية له، وامرأة لها لحية! هذا أيضاً ليس عبثاً، بل هذا -كما قلنا مراراً وتكراراً- يلَفْتِ نظر الملاحدة والزنادقة الذين لا يؤمنون بالله عز وجل، وأنه هو الذي خلق هذا الكون، وأحسن خَلْقَه كما عرفتم. فمن حُسْن خَلْقِه أن يلفت نظر عباده إلى أن القضية ليست صُدفة أن الرجل بلحية والمرأة بدون لحية! انظروا فهو يخلق لكم رجلاً بدون لحية (أمرد) وامرأة بلحية! إذاً هذا خلق الله!! فيجب أن نتذكر هذه الحقيقة، فما خلقه الله عز وجل فهو حسن، ولا يجوز لإنسان أن يستقبحه. فالرسول عليه الصلاة والسلام لفت نظر هذا الصحابي إلى هذه الحقيقة، وكأنه يواسيه إن كان في نفسه شيء من حَمْش ساقيه، ثم رد عليه اعتذاره في إطالته لإزاره بهذا الحَمْش؛ لأن هذا ليس عذراً؛ لما سَبَقَ مِن أنه خَلْق الله، ولذلك قال له: (هذا موضع الإزار) . ومع هذا فإنك لو كان لك مثل هذا الخَلْق وهو حَمْش الساقين؛ لجعلت إزارك طويلاً لستر هذا العيب، كما عند بعض الناس، وهذا ليس عذراً لك أبداً؛ لأن هذا خلق الله، ولستَ أنت مسئولاً عنه، فيجب أن تلتزم النهج الذي شرعه الله عز وجل على لسان النبي عليه الصلاة والسلام في عدم إطالة الإزار.

مواضع الإزار وغيره بين الحظر والجواز

مواضع الإزار وغيره بين الحظر والجواز هذا الحديث -مثل أحاديث كثيرة- يبيِّن مواضع الإزار، والمواضع التي تشرع أو تجوز أو تحرم: وأول ذلك: يقول: (هذا موضع الإزار) تحت أربع أصابع من الركبة، أي: هذا هو الأفضل، وكذلك كان إزار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه سجية وشريعة محمدية شرعها للناس المسلمين المؤمنين به حقاً، فلا يكون الإزار -استحباباً لا إيجاباً وفرضاً- تحت الركبة بنحو أربع أصابع. ثم المرتبة الثانية: بعد أربع أصابع أخرى تحت الأولى. المرتبة الثالثة: في الجواز تحت الأربع الثانية -أعني: تحت اثنتي عشرة إصبعاً- فهذا يجوز، وهذا الحديث صريح في ذلك. وقد جاءت أحاديث أخرى في الصحيح وفي غيره: ما أسفل الكعبين فهو في النار) ، وأحاديث كثيرة في هذا، من ذلك أيضاً: قصةٌ جرت بين الرسول عليه الصلاة والسلام وحذيفة بن اليمان، وحذيفة بن اليمان من أجلة أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وصاحبه الخاص في سِرِّه، أي: صاحب سر الرسول عليه الصلاة والسلام-: (رآه يوماً وإزاره طويل مُسْبَل، فأوقفه، ووضع يده عليه الصلاة والسلام على عضلة ساقه -شك الراوي، هل وَضَع يده عليه الصلاة والسلام على ساقه هو نفسه، أم على ساق حذيفة؟ وأيَّاً كان فالأمر واضح- وضع يده عليه السلام على ساقه أو ساق حذيفة على العضلة، وقال له: هذا موضع الإزار، فإن طال فلا بأس -لا بأس في الأولى- فإن طال فلا حق للكعبين في الإزار) هذا نص حديث حذيفة: لا حق للكعبين في الإزار) . ولا شك أن بعض الأحاديث التي أشرت إليها أصرح في التحريم من هذا، فتلك تقول: (ما طال تحت الكعبين ففي النار) أي: صاحبه بلا شك. إذاً: هذا هو النهج النبوي على هذه المراتب: أولها أفضلها، وآخرها محرم في الإسلام، وما بين ذَيْنِك فهو أمر جائز. وعلى هذا فنحن نأخذ من هذا الحديث أنه لا يشرع للمسلم أن يخالف النهج الذي وضعه الرسول عليه السلام بحُجَّة ما، ولو كانت هناك حجة لمن هو مبتلى اليوم بإطالة الإزار؛ لكان لهذا الإنسان -وهو عمرو الأنصاري - أقوى حُجَّة في إسباله؛ ليظهر أمام الناس بالمظهر الجميل الذي لا يلفت أنظارهم إليه، بل لا يُضْحِك بعض الناس عليه. فإذا رأينا أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعتبر ذلك عذراً، بل وحدد له المراحل التي ينبغي أن يلاحظها: إما في مرتبة الأفضل، أو ما دون ذلك، أو الجواز أخيراً، أما إذا خالف -كما في الأحاديث الأخرى الصحيحة- فما طال تحت الكعبين فهو في النار.

الإسبال يشمل البنطلون والجبة وغيرهما

الإسبال يشمل البنطلون والجبة وغيرهما وهذا يجرني إلى أن أركز على أنه لا ينبغي لإنسان أن يتمسك بلفظية الحديث؛ فلفظ الحديث: (إزار) ، فقد يقول إنسان: إن البنطلون ليس إزاراً! فنحن نقول: صحيحٌ أن البنطلون ليس إزاراً، بل ليس لباساً إسلامياً مطلقاً؛ ولكن إذا كان اللباس الإسلامي وهو الإزار وهو اللباس الذي ليس فيه أي تكلُّف وأي تصنُّع، ولا جرم فقد جعله أن الله عز وجل -لذلك- لباساً للحاج والمعتمر، إذا كان هذا اللباس إذا أطاله الإنسان فوق الحد المشروع جوازاً على الأقل فهو آثم وفي النار، فأَولى ثم أَولى أن يأثَمَ هذا الإثْمَ وأكثرَ منه الذي يلبس لباس الكفار وهو بالبنطلون. ويؤكد لكم هذا أن هناك حديثاً يذكر أن الإسبال الذي في الإزار حكمه أيضاً في القميص وفي ذيل العمامة، فإطالة الثوب ليست خاصةً بالإزار في هذا اللفظ ليكون البنطلون خارجاً عن هذا الحكم؛ لأن العمامة التي لها عَذَبَة من الخلف إطالتها أيضاً تدخل في هذا الحكم، وكذلك القميص الذي كله جائز على المسلمين أيضاً يدخله الإسبال المنهي عنه. فهذه كلها أمور جاء بها الإسلام، فأصبحت اليوم نسياً منسياً. ونقول في مناسبات كثيرة: السبب في ذلك يعود إلى أمرين اثنين: أولُُهُما: بُعْدُ أهلِ العلمِ عن دراسة السنةِ وتدريسِها. ثانيهما: إهمالُ الأحكامِ الشرعيةِ وتطبيقِها. هذه الآفة منتشرة جداً مع الأسف الشديد في مصر بين أهل العلم، إذ لا يمكن -في تلك البلاد- أن تجد عالماً بغير تلك الآفة! وشعار العالم هناك العمامة البيضاء، وهي -كما ذكرنا لكم- عادة وليست سنة تعبدية، على أنها لم تكن على هذه الصورة التي تطورت وأصبحت تارة عبارة عن قطعة قماش ذراعاً أو ذراعين أو عشرة أذرع، أعني: على النقيض. فبعض المشايخ خاصة في مصر عمائمهم بسيطة جداً؛ لكنها على كل حال شعار العلماء والفقهاء عندهم، بخلاف بعض البلاد. وهنا نرى بعض النماذج كما قال محمد عبده رحمه الله: (عمامةٌ كالبرج وجُبَّةٌ كالخُرج) ، فهناك في مصر هذه الظاهرة: عمامة وجُبَّة، وأيضاً الأكمام واسعة جداً؛ لكنها طويلة وطويلة، تكاد تَمَس الأرض، ولا يمكن أن ترى عالِماً هناك إلا وَجُبَّته طويلة، والجبة في اللغة غير الإزار، فالإزار يقابله الرداء، والإزار بمعناه العامي: فوطة، وهي التي يشدها الإنسان في وسطه. فالجبة ليست إزاراً بطبيعة الحال، بل هي أكثر من إزار؛ لأنها تكسو البدن من فوق إلى أسفل، فما قيل في الإزار يشمل الجبة، ولو كانت هذه جُبَّةً وليست إزاراًً؛ لأن الغرض واضح جداً، وهو الخلاص من مظاهر الكبر والبطر؛ فهنا -في الحقيقة- أمران اثنان وهما: - أن يطيل الإنسان ثوبه مهما كان اسم هذا الثوب، ويقصد بذلك الكبر والبطر والعنجهية. هذا شيء. - وشيء آخر: ألا يقصد ذلك؛ ولكن ما يلبسه مما هو طويل، ويلبسه عادة المتكبرون المتجبرون، فهذا مظهر يدل على ذلك، ولو كان قصده على خلافه. فَنَهْيُ الرسولِ صلوات الله وسلامه عليه عن إطالة الإزار يعني بتر وقطع هذه المظاهر، سواءً كانت بقصد سيئ أو ليس هناك قصد سيئ؛ لأن هناك منهجاً وضعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك نجده يهتم بهذه المظاهر المخالفة للشريعة في أصحابه، وأنا لا أتصور خاصة مثل حذيفة بن اليمان أنه قد أطال إزاره وهو يقصد الكبر والعنجهية؛ ولكن الأمر كان من الأمور التي لا يهتم بها بعض الناس، وربَّما كان لا يعلم أن الإسلام يؤكد حتى على من ليس ينوي ذلك المقصد السيئ على ألا يطيل ثوبه؛ وقد قال لـ حذيفة: (فما طال دون ذلك فلا حق للإزار) . وقال لأمثال حذيفة: (لاحق للإزار في الكعبين) . ولآخرين قال صلى الله عليه وسلم:: (فإن طال ففي النار) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وكثيرة جداً. والحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله قد تكلم عن هذه القضية بكثير من الفقه، ومن الأشياء التي استفدتُها منه -وهذه في الواقع يجب أن تفهموها، وأن تجد مكاناً في قلوبكم لتفهموا هذه الحقيقة-: أنه يَذكر أن في بعض الأحاديث، -وهذا مر بنا في بعض الدروس- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: (مَن جَرَّ إزاره خيلاء لم ينظر الله عز وجل يوم القيامة إليه، أو: لا ينظر الله تبارك وتعالى إليه يوم القيامة) ، لما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الحديث، فهَمِتْ إحدى النسوة وأظنها أم سلمة بأن هذا الحديث يدخل فيه النساء أيضاً، وهذا هو اللسان العربي الأصيل، لأن (مَن) من ألفاظ الشمول والعموم، (مَن جَرَّ) سواء كان رجلاً أو امرأة، وعلى هذا الفهم الصحيح توجهت بالسؤال إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: (يا رسول الله! إذاً تنكشف أقدامنا -أي: أقدام النساء- قال: فتطيل شبراً -حتى تتحقق السترة التي أمر الشارع الحكيم بها بالنسبة للنساء- قالت: يا رسول الله! تأتي ريح فترفع الثوب، قال: تطيل شبراً -أي: ثانياً-، ولا تزدن عليه) . الشاهد هنا مما لفت النظر إليه الحافظ ابن حجر: إذا كانت المرأة لا يجوز لها أن تزيد على ما أَذِن الشارع به، فأَولى ثم أَولى ألا يجوز للرجل أن يزيد على ما أَذِن الشارع به في إطالة الثوب، وذلك إلى ما فوق الكعبين، وهذا هو الحد الأخير (فما أسفل الكعبين فهو في النار) كما قال عليه الصلاة والسلام. هذا هو الذي أردت أن أذكِّر به بمناسبة هذا الحديث الثاني. وللأسف واقعنا اليوم يخالف هذا التوجيه النبوي الكريم!

انتكاس الفطرة عند بعض الناس

انتكاس الفطرة عند بعض الناس ومن عجائب ما ابتُلِي به المسلمون -وهم باعتبارهم من البشر جنسان: ذكر، وأنثى-: أن الذكر بما أن له شيئاً من البروز والظهور في جسده، والمرأة ليس لها ذلك إلا في حدود ضيقة جداً جداً، وعلى رأي بعض الفقهاء والذي نتبناه نحن: قرص الوجه فقط والكفان لا يجوز لها أن تظهر أكثر من ذلك، إلا أن القضية انعكست، فصار الرجل يطيل ذيله، يطيله ويطيله حتى يسحب في الأرض، والمرأة التي لا بد أن يسحب إزارها في الأرض صارت ترفع وترفع حتى تكاد تكشف عن عورتها الكبرى. فهذا كله من وحي الشيطان يا جماعة! وليس من وحي الرحمن أبداً؛ لذلك لا تحاولوا أن تبرروا الواقع بشتى التعليلات، والإنسان عندما يرجع إلى دينه وعقله يشعر تماماً أن هذا ليس هو الصلاح. فنحن نفرق بين من يقصد ومن لا يقصد، لذلك وجدتُ أحد العلماء من الحنفية المعتدلين ومن المتفقهين -بل الفقهاء ولا أقول: المتفقهين- وجدته يقول كلمة نادرة جداً أن نجدها عند الآخرين؛ فكأن القضية واضحة عندهم، أما هذا الرجل فقد انتبه لدقة هذا الموضوع، فقال تعليقاً على حديث حذيفة السابق، لما رتب الرسول عليه الصلاة والسلام له مواضع الإزار، وقال له أخيراً: (ولا حق للكعبين في الإزار) قال هذا الفقيه، وهو أبو الحسن السني رحمه الله، صاحب الحواشي على الكتب الستة، قال: يظهر من مجموع ما ورد في هذا الموضوع أن إثم من يطيل الثوب تحت الكعبين دون إثم من يفعل ذلك خيلاء، أي: أن إطالة الثوب تحت الكعبين له حالتان: - حالة عدم قصد التكبُّر، مثل بعض شبابنا المسلم اليوم في قضية الموضة هذه، لا يريد أن ينتقده الناس، فقد يكون في الجامعة، وقد يكون موظفاً إلخ، فهذا لا يفعل ذلك تكبراً؛ لكن هذا لا يبرر له هذا الخطأ، بل يجب عليه أن يجاهد ويحارب كل العادات هذه التي تخالف الشريعة. - فإذا كان الإزار تحت الكعبين، وقصد صاحبه مع ذلك التجبًُّر والتكبُّر، فهذا هو الذي جاء فيه ذلك الوعيد الشديد، وهو ألا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة. وفي مثله جاء الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم: (بينما رجل ممن قبلكم يمشي قد أطال إزاره خيلاء، خسفت به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) فهذه أسوأ المراتب، وأهون منها قليلاً: الإطالة تحت الكعبين بدون هذا التكبر، وما فوق ذلك جائز، وأحسنها: أن يكون تحت الركبتين.

النهي عن التشبه بالكفار في اللباس

النهي عن التشبه بالكفار في اللباس خلاصة القول: أنه ثبت هذا اللباس عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو: العمامة، والقلنسوة، والإنسان في ذلك حر، إن شاء فعل هذا أو هذا أو غير ذلك؛ ولكن يجب أن يلاحِظ شيئاً مهماً، وهو كما قال عليه السلام: (كُلْ ما شئتَ، والبسْ ما شئتَ، ما جاوزك سرف ومخيلة) ، فكلْ ما شئتَ، والبسْ ما شئتَ؛ لكن بشرط واحد: لا تضيِّع شخصيتك المسلمة بأن تَنْماعَ في مظهرك متشبهاً بشعب من الشعوب أو أمة من الأمم الأخرى التي لا تؤمن بالله ورسوله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن التشبه بالكفار، وهذه الناحية -مع الأسف الشديد- مما تعرَّى منه جمهور المسلمين اليوم، فلا يكادون يقيمون وزناً لمثل هذا البحث من الناحية الفكرية العلمية، فلا تجد خطيباً، ولا واعظاً، ولا مرشداً، ولا مؤلفاً يؤلف ولو بطريق المرور سريعاً، فيكتب في تبليغ الناس عن هذه الظاهرة التي انتشرت بين المسلمين، وهي إعراضهم عن تقاليد آبائهم وأجدادهم وأزيائهم إلى تقليدهم لأزياء الكفار. وأصبح هذا مع الأسف الشديد دَيْدَن شباب اليوم! فأي موضة تأتيهم فإنهم لا يدخلون فيها أي تغيير أو تبديل، ولو أنهم حرصوا على الشرع مثل هذا الحرص في عدم التغيير والتبديل لكانوا منصورين على أعدائهم الكافرين. أنا يؤسفني جداً أن أدخل المسجد وأجد فيه شباباً مسلمين يصلون، وبعضهم ممن تبنوا دعوة الكتاب والسنة، فيصلي أمامي فأتعجب! هل هذا مسلم يصلي أم أنه رجل منافق يصلي؟! لِمَ؟! لأنه يلبس لباس الكفار، فما يسمونه بالبنطلون يَعَضُّ على فخِذَيه وعلى إلْيَتَيه عضاً، وربما إذا سجد ظهر لِمَن خلفه ما بينهما، هل هذا هو اللباس الإسلامي يا جماعة؟! حاشا لله عز وجل! لكن هذا هو التقليد، كان هناك تقليد نشكو منه كثيراً وكثيراً، وإذا بنا نبتلى بتقليد أفظع منه؛ لأن ذلك كيفما كان فنحن نقلد مسلمين ونقلد أئمة في الدين؛ لكن الإسلام يريدنا أن نأخذ الدين مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فما بالنا اليوم نقلد أئمة الكافرين الذين يضعون هذه النظم في اللباس، سواءً للنساء أو للرجال أو للشباب، فالذي يأتينا نقبله دون أي بحث أو سؤال أو تفتيش؟! والحق أقول: أنا لا أعتقد أن الأمة المسلمة -ولا أريد التعميم على مائة مليون مسلم، فهذا مستحيل، وإنما نخبة منهم- لا يمكن أبداً أن تعود إليهم العزة بالإسلام وهم على هذا الوضع الذي يعيشون فيه!!

تقسيم الدين إلى لباب وقشور انحراف عقدي

تقسيم الدين إلى لباب وقشور انحراف عقدي وكثيرٌ من الكتاب الإسلاميين اليوم ومن المحاضرين وأمثالهم يصرِّحون بأن هذه القضايا التي جعلها الإسلام مبادئ وقواعد؛ مثل: (مَنْ تشبَّه بقوم فهو منهم) ، يقولون: هذه مسائل تافهة، وهذه أمور تعتبر من القشور! نحن لا بد أن نشتغل الآن باللباب!! وليتهم يشتغلون باللباب؛ لأن الذي لا يحافظ على القشر لا يمكن أن يحافظ على اللباب؛ لأن ربنا عز وجل بحكمته كما حصَّن لباباً مادياً ببعض القشور المتنوعة، كذلك أيضاً حصَّن لباباً روحياً معنوياً بأمور أخرى يسميها هؤلاء بالقشور، ونحن نسميها بمثل ما قال الله في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به. إلخ) . لذلك فإن الأمة المسلمة الحية لا يمكن أبداً أن تكون مسلمة في قلبها، وغير مسلمة في قالبها، لأن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ أبداً.

مظاهر تبشر بالخير

مظاهر تبشر بالخير وإن كنتُ أرى تباشير في العصر الحاضر باعتبار أنني من الممكن أن أُعِدَّ نفسي شبه مخضرم، أي: أنني أدركتُ زمناًَ كان طلاب العلم فيه يحضرون في المساجد، ويحملون شعاراً دخيلاً في الإسلام، وهو اللفتة الصفراء التي على الطربوش الأحمر -هذا شعار طالب علم! - أما لحيته فحليقة، بينما القرآن والسنة والمذاهب الأربعة تؤكد وجوب إعفاء اللحية ما لا تؤكد مطلقاً في العمامة، خاصة هذه العمامة التي وضعها طلاب العلم هؤلاء، فهذا على درجة ذلك الزمان، أما الآن فأجد القضية قد انعكست؛ لكن هذا الانعكاس يحتاج إلى تعديل. واليوم مظاهر الإسلام والتمسك بالدين في الشباب المؤمن واضحة تماماً: أولاً: في إقباله على بيوت الله عز وجل. ثانياً: في إقباله على التمسك بهذه السنة، بل بهذا الواجب، بل بهذه الفريضة. والكثرة تبشر بالخير؛ ولكن لَمَّا يستقيموا على الطريقة؛ لأنهم لا يزالون يمشون في الطرقات حُسَّراً كالكفار، ثم إن هذه اللحية قد يطلقها بعض الناس أيضاً تقليداً؛ لأن في أوروبا أيضاً توجد هذه الظاهرة ولو بنسبة أقل مما عندنا، فمن الممكن إذا فعلها بعض الشباب فإنهم يفعلونها تقليداً أيضاً لأولئك.

نصيحة أخيرة

نصيحة أخيرة لذلك فأنا أرغب من شبابنا المسلم حقاً ألا يختلط مظهرُه بمظهر الكفار، فلا بد من وضع شيء على الرءوس، أما السير حُسَّراً فهذا ليس من الإسلام في شيء، وإلى ما قبل خمسين سنة لم يكن يدخل المسجد إنسانٌ حاسر الرأس، فما الذي أصاب المسلمين؟! هل نزل عليهم وحي جديد من السماء أن الأفضل ديناً وصحة وفلسفة -وما أدري ماذا! - أنه يمشوا حُسَّراً؟! لا والله! وإنما هذه من الأوبئة التي بثها هؤلاء الذين استعمرونا في بلاد الإسلام؛ في سوريا، وفي الأردن وفي مصر إلخ. فيجب إذاً أن نتبنى الإسلام كاملاً، في العقيدة أولاً، ثم نطبقه كاملاً، وأنا أعتقد حينما أقول: كاملاً، أننا لن نستطيع أن نطبقه كاملاً؛ ولكن أن نضع هدفنا أمامنا، وأن نطبق إسلامنا كاملاً غير منقوص في حدود: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . أنا أرى أنه من الأسهل أن يتخذ الشباب المسلم لباساً للرأس انطلاقاً من قبوله اللحية؛ لأن إعفاء اللحية تحتاج إلى جهاد، فلماذا لا يُتِمُّ هذا المجاهد المسلم إسلامَه ظاهراً؛ لأن هذا الظاهر هو عنوان الباطن. فأعتقد أن الأمر يحتاج إلى شيء من الوعي من أهل العلم، وأهل الوعي والإرشاد، ثم شيءٍ من الاجتهاد من هؤلاء الشباب المكلَّفين باتباع السنة بحذافيرها. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياهم لاتباع السنة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم لبس البنطلون

حكم لبس البنطلون Q هل يعتبر لبس السراويل تشبهاً بالكفار إذا كان من غير ارتداء القميص فوقها والعمامة؟ A لا أدري إذا كان السائل يعني بالسراويل الفضفاضة، أو كان يعني بها: البنطلون، فأبدل اسم السروال الفضفاض باسم البنطلون! فإن كان السائل يعني السروال الذي نفهمه، وهو اللباس الفضفاض العريض الذي لا يزال يلبسه بعض المسلمين، فعلى هذا النحو لا يعتبر لبسه تشبهاً بالكفار. أما البنطلون فقد تكلمنا عنه مراراً وتكراراً، وأنه ليس من لباس المسلمين؛ لأنه يصف ويحجِّم ويُظهِِر، فهو يضيق حيث ينبغي أن يتسع، ويتسع حيث ينبغي أن يضيق، وهكذا اعكس تصب، هكذا نظامهم في الحياة اليوم مع الأسف. فالتشبه يكون بلباس البنطلون وليس بلباس السروال. أما إن كان يقصد شيئاً آخر فلم أفهم ما يريد.

شرح حديث: (خرج وعليه مرط مرحل)

شرح حديث: (خرج وعليه مِرْط مرحَّل) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مِرْط مرَحَّل من شعر أسود) رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي ولم يقل: (مرَحَّل) أي قال: (عليه مرط شعر أسود) . قال المصنف: (المِرط) بكسر الميم وإسكان الراء، هو: كساء من صوف أو خز -والخز هو الحرير- يتزر به -أي: مثل الفوطة- كالحاج عندما يشد إزاره. و (المُرَحَّل) بتشديد الحاء المهملة مفتوحة، هو: الذي فيه صور الرحال، والرحال بالنسبة للجمل كالسَّرْج بالنسبة للفرس. وهنا نكتٌ ينبغي أن نتحدث عنها قليلاً: ذكر المصنف -رحمه الله- في تفسير المرْط أنه كساء من صوف أو خزٍّ، وهو لا يعني بهذا التفسير الكساء أو المرط الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتزر به أنه كان من خز، ذلك أن الخز -وهو الحرير-، ولكنه يفسر المِرْط: ما هو في المعهود والمعروف في اللغة العربية؟ وهو أن المرط وهو الكساء، تارة يكون من صوف وتارة يكون من خز، فإذا كان من صوف جاز لباسه، وإذا كان من خزٍّ حينئذ لا بد من نظر: إذا كان الغالب على هذا المرط (الكساء) الحرير فهو حرام، وإن كان الغالب عليه غير ذلك من أنواع القطن أو الصوف أو أي نوع آخر؛ فحينئذٍ الحكم للغالب، فيكون لبسه حلالاً. أما المرط الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزر به إنما كان من صوف، أو من خز يخالط الصوف أو القطن أو غيره. ثم ذكر أن هذا المرط كان (مرَحَّلاً) ، وفسر المرحل بأن عليه صور الرحل (الرحال) ، وفيه إشارة إلى أن التزويق والتصوير والتمثيل -وهو التصوير- كان معهوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنهم كانوا يبتعدون عن تصوير ماله روح أو حياة؛ ذلك لأن الإسلام حرم التصوير ما دام أنها صورة لذات روح، وسواء كانت الصورة مجسمة أو غير مجسمة، وسواء كان لها ظل أو ليس لها ظل.

التصوف

التصوف في هذه المادة تحدث الشيخ رحمه الله عن خوارق العادات، فذكر أقسامها، مبيناً الضوابط التي يميز بها المسلم بين الكرامة والحيل الشيطانية، وقد ذكر بعض روايات وقصص الحيل الشيطانية عند الصوفية، ثم بعد ذلك نبه الشيخ على أخطاء تقع فيها جماعة التبليغ.

خوارق العادات بين الكرامات والابتلاء

خوارق العادات بين الكرامات والابتلاء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أريد أن أستغلها فرصة لأُذكر كثيراً من الناس اليوم ممن يؤمنون بخوارق عادات من نوعية أخرى، ويعتبرونها كرامات للأولياء، لا لشيء إلا لأنها خوارق عادات، ويجب أن نعلم -أيضاً- هذه الحقيقة الشرعية: ألا وهي: أن خوارق العادات تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: معجزات للأنبياء وكرامات للأولياء. - القسم الثاني: خوارق عادات ابتلاء من الله عز وجل لأصحابها، وليست بمعجزة ولا كرامة لأهلها، إنما هي فتنة، كما رأيتم بالنسبة للدجال الأعور. هذان القسمان أمر متفق عليه بين علماء المسلمين، فالأمر الخارق للعادة تارة يكون معجزة أو كرامة -وهذا شيء جميل- وتارة يكون فتنة لمن تصدر منه أو يصدر منه ذلك الأمر الخارق للعادة. وتمييز هذا النوع من ذاك النوع، أو هذا القسم من هذا القسم، إنما هو بالنظر إلى مصدر أي نوع من النوعين، فإن كان مصدره رجلاً مؤمناً -نبياً أو صالحاً- فهي معجزة أو كرامة، أما إذا كان مصدره إنساناً تراه لا يصلي ولا يصوم بل قد تسمع منه كُفريات يتأولها بعض الناس بتسميتها (شطحات) فهذه ليست كرامة؛ لأن الذي صدرت منه هذه الكرامة المزعومة لا يوصف بأنه صالح فضلاً عن أن يوصف بأنه نبي، كما نسمع من كثير من الناس: من أن فلاناً كان يمشي عارياً في الطرقات، ومع ذلك صدرت منه خوارق عادات فهي له كرامات، فهذا لا يجوز أن ينسب إلى هذا الإنسان إطلاقاً ولا تسمى كرامة، وإنما هذه: إما عبارة عن حيل ومخرقة ودجل من بعض هؤلاء الناس، أو هو ابتلاء من الله عز وجل كما ذكرنا، وهذا مذكور في القرآن الكريم، قال الله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] الابتلاء بالخارق للعادة يكون خيراً تارة، وفتنةً تارة أخرى. ومثل هذه الكرامات، التي هي أحق بتسميتها (إهانات) ، قد امتلأت بطون كتب كثير مما يتعلق بتراجم رجال ينتسبون إلى التصوف والصلاح، فمن شاء أن يرى العجب العجاب في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى كتاب: طبقات الأولياء، للشعراني، الذي أعيد طبعه مرات ومرات، لم يعد طباعة صحيح البخاري وصحيح مسلم مثل هذا الكتاب؛ لأنه محشو بالأضاليل والأباطيل تحت عنوان الكرامات. هناك -مثلاً- رجل يترجم له، وكل رجل هناك يترجم له تبتدئ ترجمته بقوله: ومنهم فلان بن فلان رضي الله عنه، كل شخص مترجم له هناك مترضى عنه، ومنهم: فلان بن فلان رضي الله عنه، كان كذا وكذا ففي بعض هؤلاء المترجمين يقول: وكان يقول: (تركت قولي للشيء كن فيكون عشرين سنة أدباً مع الله) ناقد ومنقود! الرجل -أولاً- في ظاهر هذه العبارة وصل إلى مرتبة الربوبية وليس الألوهية فقط، وإنما الربوبية حيث يقول للشيء: كن فيكون، وهذه الصفة لم يكفر بها العرب في الجاهلية الأولى، فقد كانوا يعتقدون أن الذي يقول للشيء كن فيكون هو الله وحده لا شريك له، ولكنهم أشركوا معه حين عبدوا غيره، أما هؤلاء ففي كتبهم حتى اليوم هذه العبارة: من كرامات ذلك الإنسان أنه كان يقول: (تركت قولي للشيء كن فيكون عشرين سنة أدباً مع الله) ، فترى حينما كان يقول بزعمه للشيء كن فيكون كان مخلاً بالأدب مع الله، فما بال هذا الولي تارة يتأدب وتارة لا يتأدب؟! لو لم يكن في هذا الكلام شيء من الكفر الصريح لكفى أنه ينقض بعضه بعضاً؛ لأن الولي يتأدب مع الله في كل السنين، أما أن يستمر ويقول للشيء: كن فيكون بعد عشرين سنة، فلماذا ترك ذلك عشرين سنة؟ يقول: أدباً مع الله، وقبل ذلك وبعد ذلك كان غير متأدب مع الله، هذا مما ذكر في كرامات هذا الإنسان. وإنسان آخر يحكيه مؤلف الكتاب نفسه عن نفسه، قال: ذهبت لزيارة رجل من الأولياء -أدركه هو- فوقفت على الباب وإذا بي أسمع صوتاً من فوق -من شرفة- كأنه تلاوة قرآن، فأصغيت إليه، قال: فإذا هو يقرأ قرآناً غير قرآننا، وختم ذلك بقوله: اللهم أوهب ثواب ما تلوته من كلامك العزيز إلى شيخي فلان وشيخي فلان وفلان إلخ، فمن هذه الجملة تأكد الشيخ نفسه أن هذا قرآن غير القرآن الذي بين أيدي المسلمين! هذا -يا جماعة- مطبوع، يطبع في مصر حيث هناك الأزهر الشريف، وقد طُبع مراراً وتكراراً.

أمثلة من كرامات الصوفية (الدجل والحيل الشيطانية)

أمثلة من كرامات الصوفية (الدجل والحيل الشيطانية) ومثل هذه الكرامات، التي هي أحق بتسميتها (إهانات) ، قد امتلأت بطون كتب كثير مما يتعلق بتراجم رجال ينتسبون إلى التصوف والصلاح، فمن شاء أن يرى العجب العجاب في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى كتاب: طبقات الأولياء، للشعراني، الذي أعيد طبعه مرات ومرات، لم يعد طباعة صحيح البخاري وصحيح مسلم مثل هذا الكتاب؛ لأنه محشو بالأضاليل والأباطيل تحت عنوان الكرامات. هناك -مثلاً- رجل يترجم له، وكل رجل هناك يترجم له تبتدئ ترجمته بقوله: ومنهم فلان بن فلان رضي الله عنه، كل شخص مترجم له هناك مترضى عنه، ومنهم: فلان بن فلان رضي الله عنه، كان كذا وكذا ففي بعض هؤلاء المترجمين يقول: وكان يقول: (تركت قولي للشيء كن فيكون عشرين سنة أدباً مع الله) ناقد ومنقود! الرجل -أولاً- في ظاهر هذه العبارة وصل إلى مرتبة الربوبية وليس الألوهية فقط، وإنما الربوبية حيث يقول للشيء: كن فيكون، وهذه الصفة لم يكفر بها العرب في الجاهلية الأولى، فقد كانوا يعتقدون أن الذي يقول للشيء كن فيكون هو الله وحده لا شريك له، ولكنهم أشركوا معه حين عبدوا غيره، أما هؤلاء ففي كتبهم حتى اليوم هذه العبارة: من كرامات ذلك الإنسان أنه كان يقول: (تركت قولي للشيء كن فيكون عشرين سنة أدباً مع الله) ، فترى حينما كان يقول بزعمه للشيء كن فيكون كان مخلاً بالأدب مع الله، فما بال هذا الولي تارة يتأدب وتارة لا يتأدب؟! لو لم يكن في هذا الكلام شيء من الكفر الصريح لكفى أنه ينقض بعضه بعضاً؛ لأن الولي يتأدب مع الله في كل السنين، أما أن يستمر ويقول للشيء: كن فيكون بعد عشرين سنة، فلماذا ترك ذلك عشرين سنة؟ يقول: أدباً مع الله، وقبل ذلك وبعد ذلك كان غير متأدب مع الله، هذا مما ذكر في كرامات هذا الإنسان. وإنسان آخر يحكيه مؤلف الكتاب نفسه عن نفسه، قال: ذهبت لزيارة رجل من الأولياء -أدركه هو- فوقفت على الباب وإذا بي أسمع صوتاً من فوق -من شرفة- كأنه تلاوة قرآن، فأصغيت إليه، قال: فإذا هو يقرأ قرآناً غير قرآننا، وختم ذلك بقوله: اللهم أوهب ثواب ما تلوته من كلامك العزيز إلى شيخي فلان وشيخي فلان وفلان إلخ، فمن هذه الجملة تأكد الشيخ نفسه أن هذا قرآن غير القرآن الذي بين أيدي المسلمين! هذا -يا جماعة- مطبوع، يطبع في مصر حيث هناك الأزهر الشريف، وقد طُبع مراراً وتكراراً. عن ماذا أحدثكم؟ هذا المجال واسع جداً، ولو أن هذا صار في خبر كان لما كان لي أن أحدثكم في شيء من ذلك، نقول: انتهى أمره والحمد لله، لكن يا إخواننا! من عرف منكم فقد عرف، ومن لا يعرف فنحن نعرف أن هذه الطامات لا تزال تسري في عروق جماهير المسلمين اليوم، وفيهم الخاصة والمشايخ.

قصة إمام مسجد في حلب

قصة إمام مسجد في حلب كان هناك في حلب رجل فاضل أرادوا أن يوظفوه إمام مسجد، فأرسلوا إليه لاختباره، فسأله المختبر: هل تؤمن بكرامات الأولياء؟ سأله هذا السؤال؛ لأنه تسرب إلى مسامعه أن هذا الإمام أو المرشح للإمامة رجل كما يقولون اليوم: (وهابي) ، أي: لا يؤمن بالكرامات المزعومة، فأراد أن يمتحنه، فكان هذا الممتحن لبيباً، فقال له: مثل ماذا؟ قال: مثل ما حدثنا به شيخنا أن خطيباً صعد على المنبر فبينما هو يخطب وإذا به يكاشف تلميذاًَ له بأنه حاقن -أي: مزنوق- وهو جالس يسمع خطبة الشيخ ويخجل أن ينسحب بين الملأ جميعاً فيلفت أنظار الناس، فما كان من الشيخ الخطيب إلا أن مد له يده هكذا -وتعرفون أن جبب المشايخ واسعة- وأشار له هكذا، يقول: فدخل التلميذ من كم جبة الشيخ، وإذا به يجد بستاناً، وفيه مكان -بيت الخلاء- فقضى حاجته ثم رجع وهو في مكانه، فقال له: أما هذه الكرامة فوالله أنا لا أؤمن بها، بل هذه خرافة وسخافة.

قصة حدثت مع الشيخ الألباني

قصة حدثت مع الشيخ الألباني أما أنا فأحدثكم عن قضية جرت لي كنت منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة في بئر عطية -قرية في الطريق إلى حلب - كنت سامراً ساهراً وإذا بنا نسمع طرق النافذة، ليس الباب، فخرج المضيف -صاحب الدار- لينظر من الطارق، فسمعنا احتفاء ومبالغة في الاحتفاء بالرجل الطارق ولم نره بعد: أهلاً وسهلاً يا أبا فلان، وأنا ومن في المجلس أردنا أن نعرف من هذا الضيف الكريم، فكانت مفاجئة لي منه ومني له؛ لأننا ضدان اجتمعنا، الرجل أعرفه ويمكن بعض الحاضرين يشاركونني في المعرفة من أهل محلة العمارة هذا الزائر الذي دخل كان يجلس دائماً وأبداً بجانب الركن الجنوبي الغربي من مسجد جامع اليوسفي في الساحة التي أمام دكاني، كان يجلس في رمضان يشرب الدخان علناً، ثيابه رثة، وعيناه جاحظتان محمرتان -والله أعلم- من شرب الحشيش والدخان، وإذا بصاحب البيت يعتقد فيه الولاية، ولذلك احتفى به احتفاءً بالغاً، فلما دخل الرجل فوجئ بي، فتظاهر بأنه أبله أو مجنون أو مأفون -كما يقولون- فأخذ يركع ويسجد بدون وعي، ويذكر كلاماً كما يقول ابن الجارم جملة غير تامة لكنها كلمات غريبة بيض، وباذنجان ونحو هذه الكلمات، وهو لم يذكر أي شيء لكنه خلط في الكلام، حينئذٍ افتتحت كلمة بقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] {لَهُمُ الْبُشْرَى} [يونس:64] وعلقت على كلمة الإيمان والتقوى ولستم بحاجة إلى مثل هذا التعليق. إنما الخلاصة: أن الولي لله عز وجل هو المؤمن بالله إيماناً جازماً بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة، والعامل بأحكام الشريعة أمراً واجتناباً، وبلا شك ما ابتدأت الكلام بمثل هذا إلا لأصل إلى ضيفنا هذا، لأقول: إن هناك أناساً يتظاهرون بالولاية وقد يأتون بأمور خارقة للعادة فيظنها بعض الناس كرامات، وإنما هي إهانات، وتكلمت طويلاً في هذا الصدد، ثم سكت ففوجئت بكلام المضيف -رجل عاقل- قال: والله يا أستاذ نحن كنا نعتقد هكذا مثلما تقول: أن الكرامة والولاية هي العمل بالكتاب والسنة. والشاهد ليس هذا، فالشاهد فيما يحكيه هذا الرجل كيف طور عقيدته الصحيحة إلى العقيدة الباطلة، بمجيء رجل كان من أهل القرية، وعاش في الأزهر الشريف عشرين سنة أو نحو ذلك، فلما رجع إليهم رجع يعلمهم خلاف الإسلام، وأن المهابيل هؤلاء هم أولياء الله. قال: كنا نعتقد أن هذا هو الإيمان وهذا هو الإسلام -كما ذكرت- حتى جاءنا هذا الشيخ، قال: فأخذ يحدثنا بحكايات وقصص تتلخص في أن الله عز وجل له أشخاص وضع سره فيهم، إذا نظرتم إليهم لا يعجبكم عملهم ولا أقوالهم ولا أفعالهم، ولكن هؤلاء من كبار الأولياء هؤلاء تنظرون إليهم أنهم تاركون للصلاة، لكنهم يصلون الصلوات الخمس في المسجد الحرام -هذه كرامة لهم- وتنظرون إليهم أنهم مفطرون ويأكلون في رمضان، لكنهم في الحقيقة صائمون، ولكنكم أنتم الذين تنظرون إليهم بأنهم مفرطون، وغير هذا من المخاريق والأكاذيب.

قصة شيخ من الأزهر

قصة شيخ من الأزهر وهذه قصة حكاها الشيخ الأزهري للجماعة، فقلب أهل القرية إلى أمثال هؤلاء يؤمنون بالخرافات والأباطيل المخالفة للشريعة، ما هي القصة؟ قال الشيخ الأزهري لأهل القرية في مجالسه: كان هناك فيما مضى من الزمان رجل عالم فاضل، وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، كان يحتسب وينزل إلى السوق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حتى وقف ذات يوم على عطّار وهو يبيع الحشيش المخدر المحرم، فأنكر عليه كعادته في إنكار المنكر، قال الشيخ الأزهري لأصحابه: فما كاد الشيخ ينكر على بائع الحشيش حتى سُلِب عقله، وعاد كأنه بهيمة لا يفهم شيئاً، وكان أتباعه وتلاميذه من حوله، فأخذوه إلى داره وهو لا يعرف شيئاً، كالدابة، لكنهم أهمهم الأمر فأخذوا يتساءلون كيف العلاج؟ من نسأل؟ من نطلب معالجته؟ . إلخ، قال: فدلوا على رجل يسمى ذا الجناحين وهذه تساوي طامتها طامتين، ذو الجناحين أي: يعلم بالشريعة والحقيقة، علم الظاهر وعلم الباطن، وهذه من الدسائس التي أدخلت على الإسلام، ليتسنى لأعداء الإسلام هدم الإسلام باسم الإسلام، ما هذا يا أخي؟ قال: هذا حقيقة، الحقيقة شيء والشريعة شيء. ما هذا؟ يقول: هذا من علم الباطن، فعلم الباطن شيء وعلم الظاهر شيء. فدل على رجل يسمى ذا الجناحين، فجاءوا إليه وقصوا عليه قصة عالمهم، فسرعان ما قال لهم -هنا العبرة-: ذاك البائع للحشيش هو رجل من كبار الأولياء -عندهم- وقد أصيب عالمكم بسبب اعتراضه على ذلك الولي. فأنا أجمع بين متناقضات في وصفه بين الولي الحشاش بائع الحشيش، هذه حقيقة أمره، هو ولي وهو بائع حشيش، هذا الولي الحشاش هو من كبار الأولياء عند هؤلاء الناس، لذلك ذو الجناحين نصح تلامذة العالم بأن يقودوه - وهو لا يزال كالدابة- إلى ذاك الولي الحشاش، وأن يطلبوا منه العفو والمغفرة لعالمهم ويعتذرون له بالنيابة عنه حتى يفيء إلى نفسه، وهكذا فعلوا، فما كاد يطيب قلب الولي الحشاش على العامل بعلمه حتى رجع إلى حالته الطبيعية، مثل إنسان كان نائماً واستفاق، ثم عرف العالم بطبيعة الحال مصيبته فاعتذر أيضاً هو بدوره للولي الحشاش. هذه القصة حكاها لي صاحب الدار عن شيخه شيخ القرية، وأن مثل هذه القصص جعلت القرية تؤمن بمثل هذه الطامات وهذه السخافات. خلاصة الكلام: أن التصديق بمثل هذه الطامات والضلالات، بأنها تصدر من أناس يفعلون شراً -هذا في الظاهر- لكنهم في الحقيقة أولياء، يفتح باباً لأمثال هؤلاء الناس أنه إذا بعث فيهم الدجال أن يؤمنوا به، لماذا؟ لأنه يأتيهم بكرامات -بزعمهم- ما جاءت عن أحد من أوليائهم، يقول للسماء: أمطري؛ فتمطر ماذا تريدون من كرامة أعظم من هذه؟ ونحن لا نسميها كرامة، وإنما هذا أمر خارق للعادة، لكن لما رأينا هذا الرجل يدعي الربوبية، كأن يصدر منه ما هو من خوارق العادات؛ كان ذلك دليلاً على أن هذه ليست كرامات وإنما هي (مخابيط وتدجيل) منه على الناس. إذاً: الحكم الفصل بين الكرامة وبين الأمر الخارق للعادة: هو أن ننظر إلى المصدر، فمن كان مصدره ولياً صالحاً فهذا نؤمن بكرامته، وهناك كرامات صحيحة وثابتة عن بعض الصحابة وبعض السلف لا ننكرها أبداً، لكن نحن ننكر مثل هذه الكرامات التي هي في الحقيقة إهانات، أما أصل الكرامة فنحن نؤمن بها، وهي فصل من فصول الخوارق -خوارق العادات- وتختلف الخوارق بين الصالح والطالح، والمميز هو العمل الصالح، فمن كان ذا عمل صالح فما صدر منه من خوارق فهي كرامة، ومن كان عمله طالحاً فما صدرت منه من الخوارق فهي ليست كرامة بل هي إهانة، وحسبكم جمعياً ما ذكرنا لكم من خوارق العادات التي يجريها الله على يدي الدجال.

وقفات مع جماعة التبليغ في بعض وسائلها

وقفات مع جماعة التبليغ في بعض وسائلها النفر في سبيل الله: يقصدون بهذا ما اعتادوه للخروج، يخرجون إلى مختلف البلاد ومعهم العامة من الناس، فدعوتهم قائمة على الصفات الست، التي ذكرها المؤلف في أول الرسالة، وما فيها شيء من الكلام إلا هذه الأخيرة، فقال: قال الله تبارك وتعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] هذه الآية مناسبة للموضوع وهو الخروج في سبيل تعلم العلم وتعليمه، لكن انظر فيما بعد، عطف على الآية السابقة فقال: وقال أيضاً: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة:39] هذه الآية لا علاقة لها بهذا العنوان، فالعنوان: النفير في سبيل -كما قلنا- طلب العلم، وهذا هو الذي يقصدونه كما سيأتي في تمام كلامه، أما الآية الثانية فإنما هو النفير في الجهاد في سبيل الله حينما يأتي الكفار ويهاجمون البلاد الإسلامية، فحين ذاك يجب على كل مسلم يستطيع أن يحمل السلاح أن يخرج في سبيل الله عز وجل، فحملوا آية الجهاد الذي هو فرض عين، على آية الخروج في سبيل طلب العلم الذي هو فرض كفاية، وطلب العلم ليس فرض عين، والآية الأولى التي ذكرها صريحة في ذلك؛ لأنها قالت: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] ليس كلهم، بينما الآية الثانية التي هي الخروج في سبيل الله قال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] أي جميعاً.

الخروج في سبيل الله

الخروج في سبيل الله يقول في المبدأ السادس الذي أقيمت عليها دعوتهم: ومغزى هذا المبدأ هو التخلي عن مشاغلنا اليومية للتمرن وللجهد في إجراء الحياة على السنة النبوية، على صاحبها أتم الصلاة والتسليم، ودعوة الآخرين: التمرن والجهد؛ فإنهم كما قلت في الصفحات الأولى: إننا لا نستطيع التخلي من المشاغل البشرية لطول العمر، فإنه أمر محظور، ولكننا نستطيع دون صعوبة أن نوفر شهوراً في العام، أو أياماً في الشهر، كما نوفر للنزهة والاستجمام. إلى آخر كلامه. قال: وهذا الخروج في سبيل الله نوع من الجهاد، وتدل التجربة -الشاهد الآن هنا- قال: وتدل التجربة والمشاهدة على أن هذا الخروج في الدعوة إذا كان لأربعين يوماً في كل عام، فهو خير معاون على نيل المقصود. الآن نحن قلنا: ونشهد أن محمداً رسول الله، والآن التزم هؤلاء الخروج بأربعين يوماً، فعدد الأربعين من أين جاء؟! إذا كنا ندعو الناس لاتباع سنة الرسول عليه السلام فعدد الأربعين من أين جاء؟ ليس مثل هذا إلا مثل الطرق التي ورثناها. أنا أعتقد أن هذه طريقة صوفية جديدة، وأنا أقول بهذا القول منذ سنين، لما أسأل عن جماعة التبليغ، أقول: صوفية جديدة؛ لأن دعوتها دعوة ليس فيها بغض في الله، وهم يقررون في دروسهم: أن من الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، ولكن من الناحية التطبيقية البغض في الله غير وارد إطلاقاً، وكلامه السابق يدل على ذلك، ولعلي أذكركم بكلامه السابق: أن كل مسلم لابد أن يكون موقفنا تجاهه موقف مسالم. ونحو ذلك. ولفظ هذا المبدأ ظاهره هو التعلق على مكانة المسلم، والنصح له، وتأدية ما له علينا من حقوق دون الطمع في أن يأتي بحقوقنا، وعلى كل مسلم أن يحترم أخاه ويحبه، وينصح له مهما ساءت حالته الدينية. هذا ليس من الإسلام؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وهذا رفع البغض في الله من باب المسايسة والمداراة، وبهذا لن تقوم الدولة المسلمة أبداً، ولن يتحقق المجتمع الإسلامي، إذا كنت أنا أريد أن أحب المصلح وأريد أن أحب المفسد، وأريد أن أوادد المصلح، وأريد أن أوادد المفسد. المهم الناحية الأخيرة: الخروج لأربعين يوماً هذا يعرف كل مسلم أنه لم يكن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا من هدي الصحابة، ولا من هدي السلف الصالح، لاسيما وفي هذا الخروج شيء من الغرابة، إذ لو أنه خرج جماعة من أهل العلم والفقه كنا نقول: لا بأس؛ وإنما هذا التقييد ليس له أصل، لكن من خطتهم: أنهم ينزلون في قرية وفي بلدة، فإذا وجدوا في هذه القرية إنساناً تجاوب معهم من الناحية الروحية قالوا: يخرج معنا، هذا الذي يخرج معهم ماذا يستفيد؟ وهذا في الواقع له صلة بما قلت في كلمة أخيرة: هذا سيبعث الغرور في هؤلاء العامة؛ لأنهم يصور لهم أنهم خرجوا للدعوة، وصاروا دعاة، وهم بحاجة كبيرة جداً إلى أن يتعلموا العبادة والدين، فبدل هذا كله لماذا لا يحضرون مجالس العلم في المساجد، وفي المدارس، وفي حلقات العلوم الشرعية بدل هذا الخروج؟ هذا الخروج فيه إبعاد لهم عن أهلهم وعملهم، وعن العلم أيضاً؛ لأن العلم في هذا الخروج لا يتحقق، ونحن نعرف هذا بالتجربة، لكن لأناس أوتوا حظاً من العلم؛ لأن السفر تقع فيه بعض المسائل التي لم يعتد عليها المقيم، لكن عامة الناس ليس بحاجة إلى مثل هذا الخروج، فإذا ذكروا هذا -أنه يخرج معهم العامة وهم لا يعلمون شيئاً من العقيدة فضلاً عن الفقه- ثم وجدنا أنهم يلتزمون الإخراج والخروج بعدد معين -أربعين يوماً- هذا رقم ما أنزل الله به من سلطان، لا أدري كأن هذا الرقم له معنى أو مغزى خاص في أذهان بعض المسلمين، فهنا -مثلاً- هؤلاء يلتزمون الخروج بأربعين يوماً، تجد أناساً يلتزمون عدداً متتابعاً من الأربعين، هو ناتج الصلاة النارية المعروفة؛ لأن عددها أربعة آلاف وأربع مائة وأربع وأربعون، ما صار خمسة وأربعين وإنما كلهن أربعة، هذا بلا شك من وحي الشيطان، وهذا الذي يتقيد بمثل هذه الأرقام يعلم أنها لم تأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما اتخذها الرسول عليه السلام مشروعاً سديداً وحيداً أبداً. نحن -مثلاً- حينما يعقد أحدنا الأذكار معدودة: ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، وثلاثاً وثلاثين تكبيرة، إنما يفعل ذلك استسلاماً للنص؛ لأن الله عز وجل قال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] لمن هذا التسليم؟ للرسول ولرب العالمين. هذا من خواصه، فنحن الآن نتلقى أرقاماً في كل عصر وفي كل مصر أرقاماً جديدة من الأذكار، ومن غير الأذكار حتى في الخروج للدعوة، هذه الأرقام لم ترد إطلاقاً، ونحن لا نتقيد بها؛ لأن هذا لا يلتقي مع شهادتنا لنبينا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأنه رسول الله. ولا ينطلي هذا إلا على الناس الذين لم يتنبهوا للوازم الشهادة للرسول عليه السلام بالرسالة، أو تنبهوا ولكن ما عرفوا الرسول عليه السلام ما عرفوا سيرته ما عرفوا شريعته، والواقع أن هذه النقطة مهمة جداً؛ لأن معرفة ما كان عليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه يتطلب دراسة السنة وعلم الحديث.

كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة في هذه الرسالة

كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة في هذه الرسالة وبهذه المناسبة أقول: هذه الرسالة على صغرها، انظروا ما فيها من أحاديث غير ثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، مع بعض التعابير التي لا تناسب الشريعة، من جانب ما كنا تكلمنا عليه أكثر من مرة: أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وهو يقول هنا: وإذا آمن العبد بربه، واعترف بعظمته وكبريائه، وأقام الصلاة. إلخ، ويدرك مغزى كونه خليفة الله في الأرض. هذه واحدة، وهذه كلمات سريعة. ثم جاء بحديث: (من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة) هذه القطعة في الصحيح بلا شك، لكن ما بعدها قال: (قلنا: وما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله) يقول في التخريج: رواه الطبراني. وصحيح رواه الطبراني، لكن ما فائدة هذا التخريج إذا كان الطبراني رواه بإسناد ضعيف؛ لذلك أنا أقول كلمة ربما لا تعجب الكثيرين لكنها الحق والحق أقول: إن تخريج الأحاديث على هذه الطريقة المذكورة: رواه الطبراني، رواه أبو داود، رواه أحمد، هذا أبعد ما يكون عن النصح للقراء، لاسيما وأن جماهير القراء اليوم لبعدهم عن الدروس بصورة عامة، ولبُعدهم عن الدروس الحديثية بصورة خاصة، بمجرد أن يسمع: رواه فلان، قال: هذا حديث مثبت. هذا في تعبير العامة: حديث مثبت رواه فلان، مسكين لا يعرف أن (رواه فلان) هي ترجمة هذا التخريج، أي: هذا -فلان- ساق إسناده منه إلى الرسول عليه السلام بهذا الحديث، ولا ندري هل هذا الإسناد صحيح أو غير صحيح؟ هذا معنى رواه الطبراني، والناس لا يفهمون هذا الفهم كما هو الواقع، وإنما يفهمون رواه الطبراني: أنه حديث مثبت وانتهى الأمر؛ لذلك لابد عند طبع التخريج للقراء ألا تأتي بمجرد العزو للحديث إلى مخرجه، وإنما لابد أن تأتي به مقروناً ببيان مرتبته، وإلا فهذا التخريج أقرب إلى الغش للقراء منه إلى النصح. وهذا مثال على ذلك. مثال آخر: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جددوا إيمانكم، قيل: يا رسول الله! كيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله) رواه أحمد. وهم سيقولون: إنه حديث مثبت؛ لأنه رواه أحمد، لكنه حديث ضعيف، وأحمد رواه في المسند بسند ضعيف، ولذلك أنا كنت قد خرجته في سلسلة الأحاديث الضعيفة تحت رقم (900) . ومن هذا القبيل حديث عن معاذ بن جبل، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله) رواه أحمد وهو -أيضاً- حديث ضعيف، وهذا الكتاب فيه أحاديث صحيحة كثيرة، لكن أنا يهمني بيان الأحاديث الضعيفة، أولاً: لما يتعلق بهذه الرسالة، ثانياً: لإفادة الآخرين. ثم قال: عن الحسن مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة) وهذا بطبيعة الحال لو كان إسناده للحسن وهو البصري صحيحاً لكان ضعيفاً؛ لأن الحسن تابعي لم يكن له واسطة بينه وبين الرسول عليه السلام، ولذلك علماء الحديث يقولون: مراسيل الحسن البصري كالريح، أي: لا قيمة لها. ومثل قوله عن واثلة بن الأسقع قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم وأدركه كان له كفلان من الأجر، فمن لم يدركه كان له كفل من الأجر) وهذا الحديث مع كونه ضعيف السند، فالقسمة فيه -باعتقادي- قسمة ضيزى، هل الذي يطلب العلم يحصل له كفلان، والذي لا يطلب العلم يحصل كفل واحد؟ ولا أظن أن هناك عدالة في الموضوع. فيما قال في المبدأ الرابع عند إقرار مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أكرم شابٌ شيخاً من أجل سنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه) هذا حديث جميل، لكنه حديث منكر من حديث ابن وائل غير صحيح، وهو أيضاً في كتابي الأحاديث الضعيفة. أما الحديث الذي بعده على سبيل المثال من الأحاديث الثابتة: (إن من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام السلطان المقسط) هذا حديث صحيح. ثم قال: عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ملعون من ضاد مؤمناً أو مكر به) لكن لأول مرة يقول المؤلف: رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب، لكن تُرى هل يفهم القارئ أن معنى (غريب) : أي: ضعيف؟ الله أعلم. فهذه الكلمة الموجزة عن هذه الرسالة أحتاج أن أتكلم حولها؛ لأنه كثيراً ما نسأل عن الجماعة، وقد وقفنا على هذه الرسالة فعرفنا من مصدر موثوق فيه شيئاً مما يتعلق بها، ومن قبل ذلك كنا نسمع بعض الأشياء نحن على علم بها، وبعض الأشياء نتوقف؛ لأننا ما سمعناها إلا من بعض المصادر، من ذلك مثلاً: أنهم إذا جلسوا على الطعام بدءوا بالملح، ونحن نعرف السر في هذا البدء؛ لأن هناك حديثاً موضوعاً: (إن البدء بالملح في الطعام يدفع عن صاحبه سبعين داءً) ، فمثل هذا الحديث الموضوع جعلوه منهجاً لهم، ولنا صديق دكتور كان قد خالطهم في الكويت مدة طويلة، فقال لهم: يا جماعة! أنتم تحفزون الناس. فعلاً: الكلام العام عندهم: اتباع الرسول عليه السلام كما سمعتم هنا، لكن من حيث الواقع هناك أشياء فعلها الرسول لا يأتون بها، وأشياء لم ترد عن الرسول عليه السلام ويأتون بها، من باب الاستحسان في الدين، كما رأيتم في الخروج أربعين يوماً، أو من باب العمل بالحديث الضعيف، كما يقول اليوم جماهير الناس: يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ثم هم لا يفرقون لسبب عدم دراستهم لعلم الحديث بين الحديث الضعيف والحديث الموضوع، أي حديث وجدوه في أي كتاب عملوا به، إن كان صحيحاً ففيه خير، وإن كان ضعيفاً فالحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، لكنه قد يكون موضوعاً ولا علم لهم به، وهذا مثال البدء بالملح بين يدي الطعام، إذا كان معهم حلوى فلا بد أن يتملحوا قبلها؛ لأنه هكذا جاء الحديث، والحديث موضوع لا يجوز العمل به اتفاقاً.

أبيات من الشعر في الطرق الصوفية

أبيات من الشعر في الطرق الصوفية وأن هذا صراط الله فاتبعوا لا تسلكوا سبلاً تفضي إلى النار ما قاله ربنا في الذكر أنزله بينته واضحاً يا خير مختار علمتنا خطةً في الدين واضحةً على هداها يسير المدلج الساري وليس لله من شرعين فاعتبروا يا أيها الناس يا أصحاب أبطار ماذا جنيتم من الأحزاب من طرق غير اقتتال وتخريب وأضرار أين الشريعة والتوحيد جوهرها توحيد معبودنا توحيد أفكار نوحد الله في أحكام شرعته ما غيره آمرٌ فالشرع للباري محمد وضّح القرآن بيّنه لم يترك الناس في جهل وأسرار على محجته البيضاء فارقنا الليل عاد كصبح بعد إظهار فإن شرع الهدى من شرع من رسموا هذي الطرائق في سر وإضمار قالوا طريقتنا للشرع راجعة قلت اخسئوا نهجكم تشريع أغيار ما لي أراكم تبعتم شيخ معصية باب ولكنه باب إلى النار راقبتم الشيخ دون الله وارتبطت قلوبكم بطواغيت وأحجار أغمضتم العين تضليلاً وشعوذة لتستمدوا به كشفاً لأسرار يمدكم مدداً ما بعده مددٌ من الشياطين من غاد ومن ساري طريقكم كجحور الخلد غامضة فيها متاهات أوكار وأجحار أين الحقيقة ما كانت حقيقتكم غير الخرافات والتضليل والعار أقطابكم رمم أوتادكم صنم وغوثكم قبة حفت بأستار ما من مغيث سوى الرحمن يحفظنا من كل نازلة من كل أخطار أين الكرامات ما كانت كرامتكم غير القذارات في جهر وإسرار هذا الوحيش الذي ينزو على أذن وذاك عريانكم في مسجد عار تأتون فاحشة جهراً بلا خجل أهكذا كشفكم هتك لأستار؟ وقال حلاجكم كفراً وزندقة فقلتم خاطئ في كشف أسرار سميتم الكافر الزنديق عاشقكم وكيف يلقى شهيد العشق في النار كل الطواغيت في الجنات مرتعهم فرعون هامان حلاج أبو العاري إن الولي يفوق الرسل قاطبة والرسل قد شرعوا شرعاً لأغرار خضتم بحاراً ورسل الله عاجزة عن خوضها ليس من فلك ولا صاري نازعتم الله في أكوانه فلكم غوث مغيث وحامٍ حافظ الدار الشيخ رسلان حاميكم وحافظكم وخالد النقش والخراج والعاري وشيخ بصطان والكبريت أحمرهم ودستري عفيف القوم والدار وهيكل صمداني له كتب في مدحهم ضاع حق بين أشرار قالوا تجلى إله الكون في صور فالعبد رب وما التكليف للباري وهل يكلف رب نفسه شططاً والكون مظهره بل سره الساري وهل يعذب رب نفسه بلظى ما سم من جنة ما سم من نار ليس العذاب عذاباً بل عذوبته معروفة في فتوحات وأشعار أبو الفصوص التي فاحت فضائحها فدنست كل أرض كل أقطار كذاك داعيّة ابن الفارض انتشرت أدرانها منذ أيام وأعصار يفني عبادتنا نار الفرس يجعلها حقاً ويمدح من دانوا بأحجار فالكل يعبد رباً واحداً أحداً لكن على شكل أحجار وأشجار كفر بواح وإلحاد وزندقة ما قاله غير فجار وكفار لكنهم زيفوا في الناس باطلهم وأظهروا نسكهم في لبس أطمار وأعلنوها عبادات مضللة للناس فاغتر أقوام بمكار إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب وحش قاتل ضار من حسّن الظن في كفر وزندقة أضحى شريكاً لكفار وفجار فأعلنوا حربكم أهل الحجا علناً على الخديعة في عزم وإصرار واستنصروا الله إن الله يحفظكم من مكر ماكرهم أو غدر غدار هكذا غيرت الصوفية مفهوم الإسلام، يا أبا فتح.

الذكر عند الصوفية

الذكر عند الصوفية إذا انتقلنا إلى الذكر نجد أنهم غيروا كذلك مفهوم الذكر، ولو سألت الناس الذين يعيشون حيث تكثر الصوفية ما هو الذكر؟ تجدهم يشيرون إلى ذلك الرقص والرقصات المختلفة باختلاف أصحاب الطرق، ولا يعرفون الذكر الشرعي الإسلامي. فالذكر عند الصوفية -أي: الأذكار المأثورة- يسمونها أذكار العامة، فلا إله إلا الله وحده لا شريك له، هذا الذكر العظيم والتوحيد الخالص الذي قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير) هذا الذكر عند مشايخ الصوفية ذكر العوام، أما الخواص فقد ترفعوا عن هذا الذكر. وذكر الخاصة عندهم تكرار لفظ الجلالة: (الله الله الله الله ... ) وذكر خاصة الخاصة تكرار ضمير الغيبة: (هو هو هو هو ... ) وقد اقتصر بعضهم على الآهات: (آه آه آه ... ) هكذا عبثوا بهذه العبادة العظيمة: ذكر الله، وغيروا مفهوم الذكر، وعلى هذا المفهوم يعيش جمهور المسلمين في كثير من البلدان، من الذين لا يعرفون الدين إلا من طريق الصوفية، وهذا عبث بالدين. هذا ما رأيت أن أتكلم به في هذه المناسبة، أسأل الله عز وجل أن يلهمنا العمل بالسنة، وعلى منهج السلف الصالح.

الاجتهاد والإفتاء

الاجتهاد والإفتاء إن باب الاجتهاد مفتوح، ولكن هناك شروط لابد من توفرها في المجتهد، وهناك أصول وضوابط ينطلق من خلالها المجتهد. وهذه المادة تحتوي على مباحث تتعلق بالاجتهاد والتقليد وضوابط الفتيا، مع حديث هام عن موضوع العمل بالقوانين الوضعية وحكم من يحكم بها أو يعتقدها.

أحوال الاجتهاد والاتباع والتقليد

أحوال الاجتهاد والاتباع والتقليد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. Q هل صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا اجتهد الإمام فأخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران) ؟ وفي حال صحة الحديث هل المسلم ملزم بالاجتهاد؟ A هذه المسألة طالما تكلمنا عنها مراراً، ويتكرر السؤال كما تسمعون، والسبب في ذلك أن هناك أناساً -مع الأسف- مغرضين، يثيرون هذه المشكلة بين الناس مع كثير من البهت والافتراء على الأبرياء، فلا بد إذاً من الإجابة على هذا السؤال بشطريه:

صحة حديث: (إذا اجتهد الإمام فأخطأ.

صحة حديث: (إذا اجتهد الإمام فأخطأ ... ) الشطر الأول: الحديث صحيح؛ لأنه مما أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد) .

حكم الاجتهاد والتقليد

حكم الاجتهاد والتقليد الشطر الثاني من Q هل المسلم ملزم بالاجتهاد؟ A ملزم وغير ملزم، بمعنى: أن ذلك يختلف باختلاف المسلم من حيث علمه وثقافته وقدرته واستعداده، وكل ذلك يجب أن يلاحظ حينما يقال: يجب على المسلم أن يجتهد. أنا كنت -كما سمعتم ربما- في المدينة المنورة، وهناك أناس يدعون بدعوتنا إلى الكتاب والسنة؛ ولكن هم مبتدئون في الطريق، وبحاجة إلى علمٍ كثير، فهم يقولون بوجوب الاجتهاد على كل مسلم، دون أي تفصيل، والتفصيل: واجب على كل عالمٍ مسلم أن يقوم به، حتى لا يقع في إفراط أو تفريط، فقد قلت لهؤلاء ولغيرهم سابقاً ههنا: إن التقليد الأصل فيه أنه لا يجوز، والأصل أن المسلم -أي مسلم كان- يجب أن ينطلق في حياته الإسلامية على بينة وعلى بصيرة من دينه، كما قال ربنا عز وجل في كتابه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فلئن كان قول الله تبارك وتعالى حكاية على لسان نبيه: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ، إن كان هذا نصاً عاماً يشمل كل متبعٍ للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] إذا كان هذا النص: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] نصاً شاملاً لكل مسلم، فلا شك حين ذاك أنه يجب على كل مسلم أن يكون على بصيرة من دينه، فهذا هو الأصل، لا فرق في هذا بين عالمٍ، ومتعلمٍ، وغير متعلم؛ كما جاء في بعض الآثار الموقوفة: [كن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، ولا تكن الرابعة فتهلك] لا فرق في هذا بين طبقات المسلمين من حيث ثقافتهم؛ لأنه يجب على كل منهم أن يكون على بصيرة من دينه، للآية السابقة وغيرها مما يؤدي مؤداها، ولكن قد لا يستطيع كل مسلم أن يكون على بصيرة في كل مسألة، فحينئذ يعمل ما يستطيع، وأنا قلت لأولئك الأشخاص: إن كثيراً من العلماء المجتهدين يقلدون في بعض الأحايين مضطرين، فالعلماء المجتهدون يقلدون أحياناً؛ لكنهم إنما يفعلون ذلك اضطراراً، وقلت أيضاً: ليس التقليد من حيث أنه ينافي التبصر في الدين بأشد تحريماً مما نص الله عز وجل في القرآن على تحريمه، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] إلى آخر الآية، ولكن هذا التحريم منوط ومربوط بالاستطاعة، لأن القاعدة القرآنية تقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فإذا كان الإنسان في وضع لا يستطيع إلا أن يواقع شيئاً من هذه المحرمات الثلاث المذكورة في الآية السابقة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] فاضطر إلى شيء من هذه المحرمات، فليس ذلك بحرامٍ عليه؛ لقوله في تمام الآية: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وبمثل هذه الآية وغيرها جاءت القاعدة الفقهية الإسلامية: (الضرورات تبيح المحظورات) . أعود لأقول: التقليد ليس أشد تحريماً من هذه المحرمات وأمثالها، فإذا كانت هذه المحرمات تباح للضرورة؛ فالتقليد كذلك يباح للضرورة، ولذلك فكما أنه لا يجوز المغالاة في تحريم التقليد ألبتة في كل الحالات والصور كما ذكرنا آنفاً، فيستثنى من التحريم حالة الاضطرار، كذلك لا يجوز بداهة أن نجعل حالة المسلمين عامة، وفيهم العلماء، والشيوخ، وأهل العلم، والفضل -كما يقولون- أن نجعل حالتهم حالة اضطرار، كما لو قلنا: المسلمون اليوم مضطرون لأكل هذه المحرمات، هذا لا يقوله إنسان؛ لأنهم يعيشون في وضع طبيعي، فهم يستطيعون أن يأكلوا مما أحل الله لهم من غير هذه المحرمات، فكيف يقال: إنهم -والحالة هذه- مضطرون لأكل الميتة والدم ولحم الخنزير؟! هذا لا يقوله إنسان فيه ذرة من عقل، كذلك لا يصح أبداً أن نقلب الوضع فنقول: المسلمون اليوم كلهم -بما فيهم أهل العلم- مضطرون للتقليد؛ لأنهم لا يستطيعون الاجتهاد، هذا قلب لما يجب أن يكون عليه وضع العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان فيه الناس طبقات، عالم، ومتعلم، ومستمع، فكيف نجعل كل الطبقات اليوم هي الطبقة الدنيا وهو مستمع فقط، يسمع الكلمة ويتلقفها، ثم يعمل بها؟ أما من أين جاءت؟ ما أصلها؟ ما فصلها؟ ما دليلها؟ أهو الكتاب أم السنة؟ أهو القياس؟ وهل هذا القياس قياس جلي أم خفي؟ وهل هو قياس صحيح أو قياس أولوي؟ أو ما أشبه ذلك فهذا لا تستطيعه هذه الطبقة الدنيا طبقة المستمعين إنما يستطيع ذلك طبقة أهل العلم. إذاً: التقليد في الوقت الذي هو حرام، ويجب على كل مسلم أن ينجو منه بقدر استطاعته؛ إلا أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

الاتباع وسط بين الاجتهاد والتقليد

الاتباع وسط بين الاجتهاد والتقليد على هذا نحن يجب أن نفهم هذه المسألة حتى لا نقع -كما ذكرنا- في إفراط وتفريط، فليس كل مسلم بملزم أن يجتهد؛ ولكن الذي يلزمه الاجتهاد هو المستطيع؛ ولكن هنا مرتبة وسطى ما بين التقليد والاجتهاد، ذلك لأننا ذكرنا آنفاً أن كل مسلم يجب أن يكون على بصيرة من دينه بنص الآية السابقة العامة، لكن البصيرة بالدين يمكن تحصيلها بطريقة لا هي اجتهاد، ولا هي تقليد محرم في الأصل، لا هي بطريقة الاجتهاد التي لا يستطيعها كل الناس إلا الخواص منهم، ولا هي بطريقة التقليد التي يكون الأصل فيها التحريم، هناك طريقة وسط بين الطريقتين -الاجتهاد والتقليد- ألا وهي طريقة الاتباع، وهذا اصطلاح علمي جرى عليه كثير من المحققين، القدامى والمحدثين، كمثل حافظ الأندلس أبو عمر بن عبد البر، فقد جعل العلم ثلاث طبقات: اجتهاد، واتباع، وتقليد، وعلى ذلك جرى من بعده من أهل التحقيق كـ ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما.

الفرق بين الاتباع والاجتهاد

الفرق بين الاتباع والاجتهاد فطريقة الاتباع فيها حل للمشكلة، وقضاء على التقليد الذي عم وطم في بلاد الإسلام، وليست طريقة الاجتهاد كما يظن الظانون والباغون المفترون اليوم. يمكن القضاء على التقليد الذي هو في الأصل حرام، ليس فقط بطريقة الاجتهاد، وإنما بطريقة أخرى دون ذلك، وهي طريقة الاتباع، والفرق بين طريقة الاجتهاد والاتباع فرقٌ سهل وواضحٌ جداً، ألا وهو: أن الاجتهاد يعني أن يكون المسلم العالم على علمٍ باللغة العربية، وآدابها، وعلوم الشريعة؛ كعلم الحديث، والتفسير، وأصول الفقه، ونحو ذلك، وهذا فعلاً لا يستطيعه حتى الذين درسوا هذه العلوم، لا يستطيعون تحقيقها وتطبيقها عملياً في واقع حياتهم العلمية. لكن الاتباع هو: أنك حينما لا تستطيع الاجتهاد تسأل، فعليك أن تسأل أهل الاجتهاد -أهل العلم والفقه في الدين- عن المسألة التي يقدمونها إليك جازمين بحرمتها، أو جازمين بإباحتها، أو جازمين بوجوبها، أو باستحبابها، أو غير ذلك من الأحكام الشرعية، تستطيع أن تسألهم عن الدليل، فإذا قدّموا إليك الدليل اطمأن قلبك إلى هذا الحكم؛ لأنه قدم مقروناً بدليلٍ شرعي، بخلاف ما لو قال لك: هذا حرام، أو هذا حلال؛ فإنما قدم لك رأيه عارياً ومجرداً عن الدليل الشرعي، فالذي يأخذ هذا الرأي، التحريم، أو غيره، غير مقرون بدليل، فهذا هو التقليد، وهو الذي ينبغي أن نتخلص منه بقدر الإمكان، والذي يأخذ المسألة مقرونةً بدليلها الشرعي، من كتابٍ، أو سنة، أو اجتهاد عالم مجتهدٍ ما، فهو المتبع، والذي يقدم الدليل متفقهاً فيه من الكتاب والسنة فهو المجتهد. لذلك فليس من الطبيعي أن نظل نوجه مثل هذا السؤال، هل كل مسلم ملزم بالاجتهاد؟ نقول: كل مسلم ملزم بأن يكون على بصيرة من دينه، أما الملزم بالاجتهاد فهم أهل العلم، وأهل العلم اليوم إن وجدوا فالمنصفون منهم في هذه المسألة يصرحون بأنهم ليسوا من أهل العلم، وهذا تصريح لا يبوحون به إلا حينما تضطرهم المجادلات العلمية إلى أن يقولوا بصراحة: إننا لسنا بعلماء، فأين هؤلاء العلماء؟ أصبحوا باعترافهم في خبر كان، ولذلك يعترفون بأن باب الاجتهاد أغلق، ومعنى هذا: أن العالم الإسلامي كله، أو على الأقل جله، يعيش في جهل، لا يعيش في حالة اجتهاد، وهذا أمر بدهي؛ لأنه في الزمن الأول ما كان كل أفراد المسلمين مجتهدين.

التقليد هو الجهل بعينه

التقليد هو الجهل بعينه المسلمون اليوم لا يعيشون في حالة اتباع على بصيرة؛ لأنهم يعيشون في حالة تقليد، فهل هكذا أمر الإسلام؟ هل قال: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على تقليد أم على بصيرة؟ ويجب أن تتذكروا أن من مواضع الاتفاق أن كلمة التقليد تساوي جهل، التقليد هو الجهل، ما من خلاف بين سلفي وخلفي في القضية إطلاقاً، كل العلماء يقولون: إن التقليد هو الجهل؛ ولذلك نص في بعض كتب الحنفية على أن المقلد لا يولى القضاء، وجاء الشارح وشرح المتن بقوله: لأن المقلد جاهل، والذي ينبغي أن يتولى القضاء يجب أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، أي يجب أن يكون مجتهداً، ولذلك لا يولى المقلد القضاء؛ لأنه جاهل، وكما قلت: التقليد جهل باتفاق العلماء، فإذا قيل: ما بقي هناك اجتهاد، فمعنى ذلك: أن العالم الإسلامي اليوم يعيش في جهل عميق جداً. إذاً: ما فائدة وجود الكتاب، ووجود السنة، بين ظهراني الأمة؟! والذين يفترض فيهم أن يكونوا على علم ودراسة لهذا الكتاب ولهذه السنة، يقولون: لا أحد يستطيع أن يفهم الكتاب والسنة، فنحن نعيش مقلدين، بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يفخر بأنه مقلد، ناسياً أن التقليد هو الجهل؛ لأني أظن أن إنساناً فيه ذرة من عقل لا يمكن أن يفخر بجهله، ولكنه افتخر بتقليده؛ وما ذلك إلا لأنه نسي ما معنى التقليد؛ لأن كلمة التقليد ليست صريحة في إعطاء المعنى الذي يفهم من كلمة الجهل، فلا أحد يفخر بالجهل؛ لكنه قد يعتذر ويقول: والله أنا لا أعلم، أما أن أحداً يفخر بالتقليد وهو مساوٍ للجهل كما ذكرنا، فهذا مما وقع فيه بعض الدكاترة في العصر الحاضر؛ لأنه نسي أن التقليد هو الجهل بعينه، لذلك أرجو أن يكون هذا واضحاً بينكم جميعاً، وأن يبلغ الشاهد الغائب. من جهة أخرى لا تكثروا Q هل كل مسلم ملزم بالاجتهاد؟ كل مسلم ملزم بالاتباع، أما الاجتهاد فالذين يظن أنهم أهل العلم لا يستطيعونه اليوم باعترافهم، فماذا نقول عن الطلاب الذين يتخرجون تحت أيدي هؤلاء العلماء الذين هم مقلدون، أي: هم جهال، وكما قال قائلهم: هم علماء مجازاً وليس حقيقةً، هذا شأن العلماء في العصر الحاضر، فماذا يكون شأن الطلاب الذين يتخرجون تحت أيدي هؤلاء العلماء مجازاً باعترافهم؟! لذلك احفظوا هذه الآية، وتذكروا دلالتها العامة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] .

كيف يكون المسلم متبعا لرسول الله

كيف يكون المسلم متبعاً لرسول الله يجب على كل مسلم ليتبع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتباعا حقاً، أن يكون على بصيرة من دينه، وهذا لا يتحقق -مع الأسف الشديد- إلا بأن يتحرك من في استطاعتهم أن يدرسوا الكتاب والسنة، وأن يتبينوا الحق مما اختلف فيه الناس ليقدموا هذا الحق إلى الناس ولعل مما يساعد على ذلك أن الجمهور المسلم إذا عرف هذه الحقيقة، وهي: أنه يجب أن يكون على بينة من دينه، وعلى بصيرة من أمره لعل مما يساعد على نشر هذا التبين أن يطالب الجمهور من يظنون فيهم العلم، بأن يبينوا ويوضحوا لهم الحقيقة، حتى يعيشوا على بينة وعلى بصيرة من دينهم. هذا جواب السؤال السابق، وهو: هل المسلم ملزم بالاجتهاد؟ فنقول باختصار: كل مسلم ملزم بالاتباع، وأما الاجتهاد فملزم به من يستطيعه، وأما التقليد فحرامٌ كله إلا عند الضرورة، هذه خلاصة الجواب.

العدل والظلم وعلاقتهما ببقاء الأمم

العدل والظلم وعلاقتهما ببقاء الأمم Q قال ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، نرجو شرح هذا القول، مع بيان الأدلة الشرعية عليه، ورأيكم فيه. A أنا لا أستحضر قول ابن تيمية هذا، ولكن الآية الكريمة التي تقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] ذكر بعض علماء التفسير هذا المعنى الذي ينقله السائل عن ابن تيمية رحمه الله، ذلك بأن الظلم هو سبب خراب البلاد، وهلاك العباد، فإذا كانت الأمة أو الدولة كافرة، ولكنها تحكم بالعدل فيما بينها، هذا العدل الذي يعرفه الناس بفطرهم، فإذا كانوا يحكمون بذلك؛ تقوم دولتهم، وتستمر مدة طويلة، والتاريخ يشهد بهذا، وعلى العكس من ذلك، إذا بغى الحكام وجاروا على العباد؛ كان ذلك سبباً لقيام الثورات، وما يسمى اليوم بالانقلابات العسكرية، ولن تستقر الأوضاع في تلك البلاد حتى يُهلك الشعب الواحد بعضه بعضاً، ويكون ذلك سبباً لفتح الطريق لأمة أخرى لكي تستعبدها، ولا شك أن الإسلام جاء بكل ما فيه خير الدنيا والآخرة، ومن ذلك الأمر بالعدل، والأمر بإقامة الحدود بين الناس، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (حدٌ يقام في الأرض خيرٌ من مطر سبعين صباحاً) وما هذا إلا لتحقيق العدالة في المجتمع الإسلامي، فإذا افترضنا مجتمعاً إسلامياً لا يقيم حكم الله عز وجل في الأرض، وذلك مما لا يمكن إقامته إلا على إقامة العدل بين المسلمين، فلا يمكن أن تقوم قائمة هذه الدولة؛ لأنها حين ذاك تحكم بغير ما أنزل الله ومن حكم بغير ما أنزل الله فقد عرض أمته ودولته للانهيار، هذا ما يحضرني الآن جواباً عن هذا السؤال الأول.

نسخ الاجتهاد للأحكام الثابتة

نسخ الاجتهاد للأحكام الثابتة Q إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه، فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام؟ ومتى يكون ذلك؟ A مما هو مجمع عليه بين علماء المسلمين: أن النسخ لا يمكن أن يقع بعد استقرار الأحكام الشرعية، وذلك لا يظهر يقيناً إلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، فأي حكمٍ انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وقد استقر ذلك الحكم على وجه، فلا يمكن أن يُنسخ هذا الحكم بعده عليه الصلاة والسلام بوجه من الوجوه، ولعلنا نذكر جميعاً أن معنى النسخ هو: إبطال الحكم وإلغاؤه من أصله، وليس من هذا القبيل ما قد يشير إليه السائل في قوله: فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من أحكام؟ ومتى يكون ذلك؟ لا يمكن أن يكون نسخ حكم تقرر أنه حكم ثابت -كما ذكرنا- واستمر ذلك إلى آخر حياته عليه السلام، لا يمكن لمثل هذا الحكم أن ينسخ بأي وجه من الوجوه، لكن الذي يمكن أن يقع في ظروف وملابسات خاصة، هو توقيف حكم من الأحكام الثابتة غير المنسوخة إلى أمد معين؛ بسبب ظروف أحاطت بالناس فأوجبت تأخير ذلك الحكم إلى زمن معين. مثلاً: جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطلاق الثلاث، الذي كان في عهد الرسول عليه السلام يعتبر طلقة واحدة، وكذلك في عهد أبي بكر الصديق، وكذلك في شطر من خلافة عمر نفسه، جعل عمر رضي الله عنه هذا الطلاق ثلاثاً، فمن طلق ثلاثاً في عدةٍ واحدة اعتبره نافذاً ثلاثاً، على خلاف ما كان الأمر عليه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي عهد أبي بكر، وفي شطر من خلافة عمر نفسه، كما ذكرنا. يذهب بعض الفقهاء المتأخرين الذين رأوا جمهور علماء المسلمين تبنوا هذا الحكم وكأنه حكم لازم وثابت إلى يوم الدين، يرون بأن تنفيذ عمر للطلاق بلفظ الثلاث (ثلاثاً) لا يمكن أن يكون إلا ولديه ناسخ، يقولون هذا لأنهم لا يجدون في نصوص السنة فضلاً عن نصوص الكتاب ما يمكنهم أن يدعموا به أن ما فعله عمر هو حكم ثابتٌ قاله الرسول عليه السلام، لا يجدون إلا أن يقولوا: إن عمر ما صار إلى هذا إلا ولديه نصٌ ناسخ للحكم السابق، وهو أن الطلاق بلفظ الثلاث يعتبر طلقة، ولعل الحاضرين جميعاً يفقهون ما معنى طلاق بلفظ الثلاث، وأنه يعتبر ثلاثاً في اجتهاد عمر، ولم يكن كذلك في زمن الرسول عليه السلام، وأبي بكر، وشطر من خلافة عمر، كأني أرى من الضروري أن أقف قليلاً هنا لأبين لكم الفرق؛ لأنها مما يبتلى به كثير من الناس اليوم الأصل في الطلاق الشرعي: أن الذي يريد أن يطلق زوجته طلاقاً شرعياً؛ يشترط في هذا الطلاق أن تتوفر فيه شروط عديدة ولست الآن في صددها، وإنما أذكر هذا الشرط الواحد، وهو ألا يجمع الطلقات الثلاث التي قال الله فيها: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] الطلاق مرتان، في كل مرة إمساك بمعروف، أي: بعد ما طلقت، أو تسريح بإحسان، فإن طلقها في الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} هذا من شروط الطلاق الشرعي؛ أن يطلق ثم يفكر هل يمسكها ويرجعها إلى نفسه، أم يخلي سبيلها والله يعوضه خيراً منها ويعوضها خيراً منه؟ جعل الله عز وجل له ساحة تفكير وهي العدة، فالمرأة بعد أن طلقها زوجها فعدتها ثلاثة قروء، أي: ثلاثة أشهر وعشرة أيام تقريباً، فيفكر الرجل في هذه المدة يعيدها أو لا يعيدها، فإذا انتهت العدة أصبحت المرأة حرة وليس له سبيل إلى إرجاعها، وقبل العدة يستطيع أن يعيدها إليه بدون نكاح، ولكن تحسب عليه طلقة.

الضوابط الشرعية للفتوى

الضوابط الشرعية للفتوى نرجع إلى الفقرة الثالثة والأخيرة من هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن أفتى فتيا بغير ثبتٍ فإثمه على من أفتاه) في هذه الفقرة حكم خاص يتعلق بأهل العلم الذين يتعرضون لفتيا الناس وإفتائهم، وهذه مسألة ثقيلة في الواقع؛ لقوله تعالى لنبيه عليه السلام: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوجب على المستفتى ألا يتسرع في الأفتاء، بل عليه أن يتثبت.

أخذ الحكم من الكتاب والسنة

أخذ الحكم من الكتاب والسنة التثبت في الفتيا هو أن يعرف الحكم من كتاب الله، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أفتاه دون أن يتثبت هذا التثبت، وهو بأن يرجع إلى كتاب الله، وحديث رسول الله، فتبنى المستفتي رأي المفتي وفتواه، وكان قد أفتاه بإثمٍ، فإنما إثمه على مفتيه، ومن ههنا نتوصل إلى مسألة خطيرة جداً، وهي أن العالم حينما يستفتى في مسألة، فيفتي بغير استنادٍ، إلى الكتاب وإلى السنة فهو يفتي بغير ثبتٍ؛ لأن الحديث يقول: (ومن أفتى فتيا بغير ثبتٍ) أي: بغير سندٍ وبغير بينة وحجة، ومعلوم لدى كل مسلم أن الحجة في الإسلام ليس هو إلا الكتاب والسنة، وإلا ما استنبط من إجماعٍ وقياسٍ صحيح، فمن أفتى بغير ثبتٍ، أي: بغير حجة من كتاب الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على التفصيل الثابت السابق؛ فقد أفتى بغير رشدٍ وبغير حجة، فإثم المستفتي حين ذاك على مفتيه، فماذا يجب على المفتي؟ يجب عليه التثبت قبل كل شيء، ولا يتسرع بالفتوى، ومعنى هذا: أنه يجب أن يراجع المسألة إن لم يكن راجعها، فكيف يراجعها؟ ومن أين يستقي الجواب الصحيح على ما استفتي؟ يكون ذلك بالرجوع إلى الكتاب والسنة؛ لأن الحديث يقول: (بغير ثبتٍ) أي: بغير حجة، وما هي الحجة في الإسلام؟ الحجة هي القرآن والسنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض) .

حكم الفتيا بقول أحد العلماء في المسائل الخلافية

حكم الفتيا بقول أحد العلماء في المسائل الخلافية يا ترى من استفتيَ في مسألة أو في قضية فأفتى برأي عالمٍ -أي عالمٍ كان- وهو يعلم أن المسألة فيها قولان فأكثر، فهل أفتى بثبتٍ أي: بحجةٍ وبينة؟ A لا. لأنه حينما تكون المسألة من المسائل الخلافية، وقد صدر للعلماء فيها قولان فأكثر، فهو أفتى بقولٍ من القولين دون أن يدعم فتواه -ولو في نفسه على الأقل- بآية من كتاب الله، أو بحديثٍ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون قد أفتى عن ثبتٍ، وعن حجةٍ، وعن بينة؛ فيكون فتواه بهذا الخطأ لا يتعلق الإثم على المستفتي، وإنما على المفتي، فإثمه عليه. إذاً: على كل متفتٍ أن يتثبت في فتواه، أي: أن يستند في فتواه إلى كتاب الله وإلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى هذا الكلام العلمي بعبارة واضحة بينة: أن المستفتى -أي العالم- إذا استفتيَ في مسألة ما، ولنضرب على ذلك مثلاً: رجل سأله: خروج الدم أينقض الوضوء؟ فقال: نعم، وهو يعني أن المذهب الحنفي هكذا يفتي، فإذا نحن رجعنا إلى هذا الحديث نفهم أن هذا الجواب إثمه عليه وليس على المستفتي، لماذا؟ لأن هناك قولين آخرين في هذه المسألة، فالمذهب الحنفي يحكم ببطلان الوضوء بمجرد خروج الدم عن مكانه، أما المذهب الشافعي فيقول: لا ينقض الدم الوضوء مطلقاً مهما كان الدم كثيراً، بينما مذهب الإمام مالك وأحمد يفصل فيقول: إن كان الدم كثيراً نقض وإلا فلا، فالذي أفتى وقال: ينقض، أين الحجة في حكمه والمسألة فيها اختلاف؟ والله عز وجل يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ولذلك فلا يجوز للمسلم المتمذهب بمذهب واحد إذا استفتي في مسألة أن يفتي على مذهبه؛ لأن هناك مذاهب أخرى، فهذا يجب أن يمسك عن الفتوى، فإن أفتى فهو آثم بدليل هذا الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن أفتى بفتيا بغير ثبتٍ -أي: بغير سندٍ وحجةٍ- فإثمه على من أفتاه) فالذي يقول: خروج الدم ناقض للوضوء، أو غير ناقض، أو ينقض إن كان كثيراً، ولا ينقض إن كان قليلاً، أي جوابٍ كان؛ إذا كان لم يستند صاحبه على سند من الكتاب أو من السنة؛ فإثمه عليه وليس على المستفتي، لماذا؟ لأن المستفتي أدى واجبه الذي أمره به ربه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] جاء هذا الذي لا يعلم إلى من يظن أنه من أهل الذكر، فسأله فأفتاه، فإثمه على هذا المفتي، فهذا المفتي. عليه أن يراقب الله عز وجل حينما يسأل، وألا يفتي إلا عن ثبتٍ وحجة وسند، فإن لم يفعل فهو آثم، وقد نبه لهذه الحقيقة الإمام أبو حنيفة رحمه الله حين قال: لا يحل لرجلٍ أن يفتي بقولي ما لم يعلم من أين أخذت دليلي. هذا نص عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، أول الأئمة الأربعة يفسر لنا هذا الحديث، الذي يقول: (من أفتى فتيا بغير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه وليس على المستفتي) فيقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لرجل أن يفتي بكلامي ما لم يعلم من أين أخذت دليلي. فهذا الحنفي الذي سئل: الدم إذا خرج أينقض الوضوء؟ فأجاب: نعم. لا يجوز له هذا بحكم هذا الحديث، وبحكم قول الإمام السابق؛ لأنه لم يعرف دليله، ومعنى هذا أو حصيلة هذا الحديث هو: وجوب دراسة الكتاب والسنة؛ لكي يتمكن المفتي من أن يفتي بالدليل من الكتاب والسنة، فلا يلحقه إثمٌ، حتى ينجو في حال لو أخطأ في الفتوى؛ لأنه ليس معنى من أفتى معتمداً على الكتاب والسنة أنه معصوم من الخطأ، لا. ولكن إذا اجتهد فأفتى بما فهم من الكتاب والسنة فله حالتان: إما أن يكون أصاب فله أجران، وإما أن يكون أخطأ فله أجرٌ واحد، لكن هذا إنما هو -أي الأجران إذا أصاب، والأجر الواحد إذا أخطأ- إنما هو للذي يفتي اعتماداً على الكتاب والسنة، أما الذي يقلد -والتقليد جهلٌ باتفاق العلماء- ولا يتبصر في الفتوى، فهذا ليس له أجر، ولا حتى أجر واحد، بل عليه وزر؛ لأنه أفتى بغير ثبتٍ، وبغير بينة وحجة، فحصيلة هذا الحديث هو: وجوب رجوع العالم في كل ما يفتي به إلى الكتاب والسنة.

حكم الالتزام بمذهب معين في الفتوى

حكم الالتزام بمذهب معين في الفتوى من هنا ننتهي إلى مسألة خطيرة جداً وهي: ما وقع فيه كثير من البلاد الإسلامية اليوم، أعني بالبلاد الإسلامية التي وقعت في هذه القضية المشكلة: البلاد السورية -مثلاً- والمصرية، حيث أنهم ألزموا القضاة والحكام بأن يقضوا ويفتوا بناءً على مذهبٍ معين، إما على المجلة سابقاً، وإما على القوانين التي وضعت حديثاً بشيء من التعديل لأحكام المجلة سابقاً، هذا بالنسبة للقضاة، وبالنسبة للمفتي فعليه أن يفتي ملتزماً المذهب الحنفي، هذا إلزام بما لا يلزم أولاً، بل هذا أمرٌ بنقيض ما أفاده هذا الحديث، فإن المفتي إذا استفتي فعليه أن يرجع إلى الكتاب والسنة، لا أن يرجع إلى مذهبه الذي قال فيه إمامه، ولا يحل له أن يفتي حتى يعرف دليله، فهذا المفتي المتقيد بالإفتاء بمذهبه لا يرجع إلى الأدلة الشرعية، فهو يفتي بما جاء في المذهب. وأنا أضرب على هذا مثلاً: صدرت فتوى اطلعت عليها بنفسي من بعض المفتين السابقين في هذه البلاد: أنه يجوز للمسلم أن يحفظ لحم الخنزير في البرادات الكبيرة للنصارى؛ لأن أحد المسلمين الطيبين عنده براد ضخم يحفظ فيه الفواكه، واللحوم، ونحو ذلك، فجاءه رجل أرمني وعرض عليه أجراً باهظاً مقابل أن يحفظ له لحوم الخنزير في هذا البراد، فالمسلم شك قلبه في هذا العمل، وهل يجوز للإنسان المسلم أن يحفظ لحم الخنزير المحرم؟ فذهب وسأل المفتي، فقال له المفتي: تعال بعد أيام، فجاء فأعطاه الفتوى، والفتوى في الحقيقة مضحكة مبكية في آن واحد؛ لأنها أولاً: جاءت فتوى على غير ثبت، أي: على غير حجة. وثانياً: جاءت فتوى على أسلوب السياسيين في الكلام المطاط، الذي من الممكن أن نأتي به هكذا، أو نأتي به هكذا، حيث أفتى المفتي بأنه جاء في الكتاب الفلاني من المذهب الحنفي الذي هو يفتي به، لو أن مسلماً استأجره ذميٌ على أن ينقل الخمر جاز له ذلك وطاب له الأجر، وقال فلان في المذهب: جاز لكن مع الكراهة، ثم نقل نقلاً آخر، قال: لو أن مسلماً بناءً استأجره نصراني على أن يبني له كنيسة، جاز وطاب له الأجر. وبعدما انتهى من نقل مثل هذه النقول المتعارضة لم يقل للمستفتي: يجوز لك اتخاذ لحوم الخنزير أو لا يجوز حل لك الأجر أو ما حل لك الأجر، وإنما قال: ومما سبق تعرف جواب سؤالك. فالجواب فيه خطيئتان: الخطيئة الأولى: ما قال له: قال الله وقال رسول الله أبداً، مع أن المسألة من أوضح المسائل بالنسبة لمن كان على علمٍ وفقهٍ في الكتاب والسنة. والخطيئة الثانية: أنه حيره، وأتى له بقولين: قول أول طاب لك الأجر، وقول ثانٍ يكره؛ والكراهة في المذهب الحنفي إذا أطلقت فإنما هي للتحريم. فلو رجع هذا المفتي كما أوجب عليه هذا الحديث، أي: أن يفتي المستفتي على ثبتٍ وبينة ورشد، لو رجع للكتاب والسنة لوجد مثلاً في القرآن الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فهذا تعاون على عدوان، وعلى معصية الرحمن تبارك وتعالى، ولوجد في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه) فلعن كل من يساعد على أكل الربا، وكذلك في الحديث الصحيح: (لعن الله في الخمر عشرة ... ) عشرة أجناس ابتداءً من الشارب وانتهاءً إلى حامل الخمر؛ ذلك لأنهم كلهم يتعاونون على شرب الخمر الذي هو المعصية في الأصل، لكن شرب الخمر لا يمكن أن يحصل بدون بيع الخمر، وبيع الخمر لا يمكن أن يحصل بدون شرائه، وشراء الخمر لا يمكن أن يحصل بدون شراء العنب، وشراء العنب لا يمكن أن يصبح خمراً إلا بعصره، وهذا العصير لا يمكن أن يصبح خمراً -لأنه يمكن أن يصير خلاً- إلا بتعاطيه بطريقة فنية حتى يصير خمراً، فإذا صار خمراً لا يمكن شربه من الدكاكين والحوانيت إلا بأن ينقل من العصارة -أي المخمرة- إلى بائع الخمر وهكذا؛ فلأن هؤلاء كلهم يساعد شارب الخمر على شرب الخمر لعنوا جميعاً، فكيف يخفى هذا على من كان على علم بالكتاب والسنة، فيفتي لذلك المستفتي بأنه يجوز ادخار لحم الخنزير. فإذاً: المصيبة اليوم هي أن الفتوى مفروضة على القاضي بأن يفتي من مصدر ليس هو الكتاب والسنة، والقضاة يجب عليهم أن يفتوا من القوانين وليس هناك قوانين شرعية محضة، كما كان الأمر في زمن (المجلة) ، حيث استنبطت كلها أو جلها من المذهب الحنفي، فأصبح فيها اليوم قوانين وضعية لم تنزل من السماء، وإنما نبعت من الأرض، ففرضت هذه الأحكام على القضاة المسلمين ليقضوا بها بين المسلمين. هذه مصيبة حلت بالبلاد السورية، والبلاد المصرية، وربما في بلاد أخرى لا نعرف حقيقة الأمر فيها، والآن هناك دعاة يدعون إلى تقنين الأحكام، أي: إلى الاقتداء بالدولة السورية، والدولة المصرية، وفرض آراء وأفكار معينة على القضاة الذين يحكمون هناك بالكتاب والسنة، فهذه مصيبة جديدة، ونرجو الله عز وجل ألا تتحقق في تلك البلاد، ولكن يجب على كل مسلم أن يعرف هذه الحقيقة، وهي أنه لا يجوز الإفتاء إلا من كتاب الله، وحديث رسول الله، كما لا يجوز القضاء إلا استنباطاً من كتاب الله، أو حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

حكم من حكم بغير ما أنزل الله

حكم من حكم بغير ما أنزل الله في هذا الحديث تنبيه لأمور تتعلق بنا نحن، وتتعلق بالأمة التي تنصب مفتين وقضاة يحكمون بغير ما أنزل الله، ويتناسى هؤلاء جميعاً الوعيد الشديد المذكور في ثلاث آيات من القرآن الكريم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] هذه آيات صريحة بذم، بل بالحكم بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، ولكن ههنا كلمة قصيرة: أن الحكم بغير ما أنزل الله منه حكمٌ يرادف الردة، ومنه حكمٌ لا يلزم منه الردة، التفصيل الذي ذكرناه في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أيضاً لا بد من استحضاره في تفسير هذه الآيات الثلاث {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قال ابن عباس في تفسير (الكافرون) في هذه الآية: [كفر دون كفر] أي إن الكفر نوعان: كفر اعتقادي قلبي، كفر عملي، وهذا ما يجهله كثيرٌ من المسلمين اليوم وخاصة منهم الشباب الناشئ، فإنهم يتوهمون أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو مرتد عن دينه، وليس كذلك، بل يجب أن يُنظر إلى الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، فإن كان يحكم بغير ما أنزل الله مستحلاً له بقلبه، مؤثراً له على حكم الله وحكم نبيه، فهذا هو الذي يرتد به عن دينه، أما إن كان في قرارة قلبه يعتقد بأن الحكم بما أنزل الله هو الصواب وهو الواجب، لكن يقول: أعاننا الله على هؤلاء البشر كيف لنا أن نحكم إلا بهذا، فهو يجد لنفسه عذراً، ولو أنه عذر غير مقبول، إنما اعتذاره بهذا العذر يدل على أنه يؤمن بحكم الله وحكم رسوله، أنه هو الصواب، ولكن انحرف عن هذا الحكم، كما ينحرف كثيرٌ من الناس الذين نظن بهم خيراً. الحاكم المسلم الذي يحكم بكتاب الله، وبحديث رسول الله ليس معصوماً، فقد يضل في حكمٍ ما، أي: يُرشى -مثلاً- فيحكم بغير ما أنزل الله، فهذا ينطبق عليه قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ولكن بأي معنى (أولئك هم الكافرون) كفر ردة أم كفر معصية؟ ننظر إذا كان حينما ارتشى وحكم للراشي بما ليس له، إن كان يعتقد أنه آثم في نفسه، كما يعتقد الغاش، والسارق، والزاني إلخ، فهو آثم وليس بكافر، وهذا معنى (كفر دون كفر) ، وإن كان يقول كما يقول كثير من الشباب الذي تثقف الثقافة الأجنبية ولما يدخل الإيمان في قلبه، يقول: بلا إسلام بلا إيمان بلا رجعية بلا كذا إلخ، فهذا وضع الغطاء على رأسه بالكفر، فهو إلى جهنم وبئس المصير. فإذاً: يجب أن نعرف أن الواجب على المسلم أن يحكم بما أنزل الله، وبما فسره وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سواءً كان مفتياً عادياً كرجل يمشي في الطريق فيأتي إنسان ويسأله، فيجب عليه أن يتثبت ولا يقول له: حرام حلال؛ لأنه درس في كتاب الله أنه حرام أو حلال، كذلك المفتي الرسمي (الموظف) أولى وأولى ألا يفتي الناس بدون رشد، وبدون بينة وحجة، والقضاء أولى وأولى ألا يحكم القضاة في قضائهم إلا بما جاء في كتاب الله، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولخطورة القضاء على الكتاب والسنة قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (القضاة ثلاثة: فقاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار، قاضٍ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاضٍ عرف الحق فلم يقض به فهو في النار، وقاضٍ لم يعرف الحق فحكم أو فقضى فهو في النار) ؛ لأنه قضى بجهل، إذاً يجب القضاء بالكتاب والسنة، فإذا قضى بالكتاب والسنة فهو الناجي، وإذا قضى بخلاف ما عرف من الكتاب والسنة فهو آثم، وإذا قضى بجهلٍ بالكتاب والسنة، وليس المعنى أنه ما عرف المذهب الحنفي، أو المذهب الشافعي؛ لأن هذا ليس هو العلم- فهو أيضاً آثم، لذلك قال ابن القيم رحمه الله، وبكلامه أختم درسنا هذا: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشبيه والحمد لله رب العالمين.

الزواج في الإسلام

الزواج في الإسلام في هذه المادة أجاب الشيخ رحمه الله عن أسئلة عديدة متعلقة بمسائل الزواج، كمسألة الشروط عند عقد النكاح، وضرب الدفوف في أفراح الزواج، وتعليق الطلاق. وغيرها من المسائل.

تفسير الخلق في الحديث: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه.

تفسير الخلق في الحديث: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه ... ) Q ما هي أبعاد كلمة (خُلقَه) التي وردت في حديث: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) ؟ A الواقع أن هذا السؤال فيه دقة، لا سيما إذا نظرنا إلى ملحقه، وهو قوله: وهل للمرأة أن تشترط على الرجل شروطاً أباحها الشرع الحكيم، كألا يتزوج عليها مثلاً، أو أن تمارس نشاطاً إسلامياً معينا؟ الذي يبدو لي بالنسبة للفظة (خُلقه) في الحديث أنه يعني شيئين اثنين: الأول: لا بد منه وهو الخلق الواجب أن يتخلق به المسلم، والخلق نستطيع أن نقسمه إلى قسمين: قسم واجب، إذا لم يتخلق به المسلم كان آثماً، وخلق آخر ليس واجباً ولكنه من الكمال، مثلاً: رجل غني يخرج زكاة ماله، ومثلما يقول العوام: (حوله وبس) تطوع، صدقة، نافلة، هذا لا يوجد، هذا قام بالواجب الذي عليه، لكن خيرٌ من ذلك أن يحثوا المال -كما جاء في بعض الأحاديث- هكذا وهكذا، لكن هذا كمال لا يلام عليه الإنسان شرعاً إذا لم يأتِ به، فلو فرضنا أن خاطباً جاءك يخطب ابنتك أو أختك أو قريبتك، وأنت ولي أمرها، وأنت تعلم منه أنه كريم وبخيل؛ أي: كريم في حدود الفرض، بخيل فيما دون ذلك فهو لا يجود بالعطاء إلا فيما فرض الله وأوجب، فهذا إذا لم تجد فيه عيباً من النوع الذي يأثم عليه فيجب أن ترضى به زوجاً لوليتك، هذا هو القسم الأول من الخُلق الذي يجب أن يتخلق به المسلم وإلا كان آثماً. النوع الثاني: ليس بالواجب، فإذا جاءك هذا الإنسان وفيه هذا الخُلق الأطيب الأكمل، فلا جدال بأنه يجب أن تبادر إلى تزويجه، أما إذا جاءك من النوع الأول فأنا أقول: في عصرنا الحاضر يجب أن نقنع أيضاً بهذا ولا نطلب وراء ذلك؛ لأنه عزيز ونادر، وإلا يكون قد عطلنا مصالح بناتنا وأخواتنا.

حكم اشتراط المرأة شروطا أباحها الشرع

حكم اشتراط المرأة شروطاً أباحها الشرع أما فيما يتعلق بالمرأة، وهل لها أن تشترط على الرجل شروطاً أباحها الشرع؟ فأنا أقول: الشروط هنا ينبغي أن تكون من نوع لا يتعرض الرجل فيما لو قبل شرطاً من شروطها لحرجٍ ما في مستقبلٍ من الزمان، ولنضرب على ذلك مثلاً: المثال الذي مثل به السائل وهو أن تشترط عليه ألا يتزوج، أي: لا يتزوج زوجة أخرى. أقول: هذا الشرط عاقبة أمره خُسر بالنسبة للرجل، لا سيما أنه قد يمكن ألا يرزق منها الولد، فيعيش معها في حرج وفي ضنك، فلا يستطيع أن يتزوج؛ لأنها غللته وكتفته، فلا يستطيع أن يصبر على هذه الحياة معها، فسيضطر إلى تطليقها والخلاص منها، ويمكن أنها تشترط عدم الطلاق وبعد ذلك لا يجوز أن يطلقها، أو تشترط أن يكون الطلاق بيدها، كما يقول ذلك بعض المذاهب، فأنا أقول: مثل هذه الشروط لا تجوز في الإسلام، والسبب الذي ألمحت إليه: أنها تكون عادة حرجاً للرجل. ولكن بالنسبة للشرط السابق وهو ألا يتزوج عليها، فيوجد في هذا مانع آخر، وهو شرعيٌ، ذلك أن زوجاً من أصحاب النبي توفي وترك زوجته، فقال لها عليه الصلاة والسلام: (إذا انقضت عدتك فأخبريني) فانتهت العدة وجاءت إليه، فقال لها عليه الصلاة والسلام: (إني أرغب فلاناً لك زوجاً، قالت: يا رسول الله! لك رغبت -أي أنا كما تأمر- ولكني اشترطت على زوجي ألا أتزوج من بعده، فقال عليه السلام: هذا لا يصلح) فتزوجت بالرجل الذي نصحها رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وهذا واضح جداً؛ لأن هذا الشرط ما فائدته؟ هذه أمور عاطفية محضة، والعواطف إذا لم تكن مقرونة بالشرع وبالعقل كانت ضرراً على أصحابها، هذه المرأة قد يموت زوجها وهي في أول حياتها الزوجية، فهل تعيش راهبة؟ ستعيش راهبة كما تعيش راهبات الكفار، هي في الظاهر راهبة؟ لكن هي في الباطن مومسة أو مومس؛ لذلك الشرع الحكيم يغلق ويسد جميع النوافذ والأبواب التي يدخل منها الشر إلى الناس. ولذلك فنحن نقول ناصحين للرجال: حذار أن يقبلوا شروطاً مفروضة من النساء؛ لأن المستقبل لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، لا سيما أن النساء يغلب عليهن العواطف وقلة استعمال العقل بل والشرع، فلا جرم أن النبي عليه الصلاة والسلام وصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين، ولسنا بحاجة الآن أن نفسر هذا الحديث؛ لأنه مفسر في نفسه.

حكم خروج المرأة لممارسة نشاط إسلامي

حكم خروج المرأة لممارسة نشاط إسلامي وأخيراً: هل لها أن تمارس نشاطاً إسلامياً معيناً؟ أنا أقول ناصحاً ومذكراً: إن من مصائب العالم الإسلامي الآن أن تنطلق النساء حتى المسلمات، حتى المتحجبات، حتى بعض السلفيات، ينطلقن من بيوتهن إلى ما ليس من اختصاصهن، فممارسة نشاط إسلامي للنساء لا يوجد، ونشاطها في بيتها في عقر دارها، ولا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجال، وكذا لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتشبه برجل مسلم. النساء المسلمات إذا أردن أن يخدمن الإسلام حقاً ففي بيوتهن، ولا يجوز أن تخرج المرأة، وبالتالي لا يجوز أن تشترط على الزوج أنها بعد الزواج يجب أن تمارس نشاطاً إسلامياً، نشاطها السابق لو كان جائزاً -جوازاً مطلقاً- فهو نشاط يتناسب مع فتاة عازبة ليس عليها مسئوليات، أما الآن فقد أصبحت ربة بيت، عليها واجبات أمام زوجها وأمام ما قد يرزقها الله من أولاد، فبديهي جداً أن تتطور حياتها الآن، هذا لو كان الشرط السابق جائزاً، ونحن لا نرى أنه جائز إطلاقاً. لقد كانت النساء الصحابيات فيهن قدوات علماً وثقافة. إلخ، لكن ما عرفنا أن امرأة منهن خرجت لتقود نشاطاً إسلامياً بين الرجال، وحينما تسمعون أن السيدة عائشة رضي الله عنها خرجت من بيتها، فقد خرجت في مسألة وفتنة وقعت، خُيل لها أن خروجها خير للمسلمين ولم يكن كذلك، ولاشك أن علماء الإسلام يحكمون بأنها كانت مخطئة بهذا الخروج، وأن خطبتها في وقعة الجمل وغيرها خطأ، ولكن هذا الخطأ مغتفر بالنسبة لحسناتها، لكن لا ينبغي لامرأة أن تقتدي بخطئها وقد تابت منه هي نفسها، ومع ذلك في كل حياتها ما عرف عنها مثل هذا الانطلاق وهذا الخروج أبداً. إذاً: هو جو خاص واجتهاد خاص منها ومع ذلك كان خطأً. أما تراها ذاهبة راجعة كالشاب النشيط، وربما البعض منهن تسافر لوحدها سفراً محرماً في الإسلام، لا يجوز لامرأة أن تسافر سفراً إلا ومعها زوجها أو محرم لها، فتجد هذه النسوة يسافرن لوحدهن في سبيل الدعوة إلى الإسلام، لكن الواقع هذا سببه أن الرجال لم يقوموا بالواجب، فبقيت الساحة فارغة، فخيل لبعض النساء أنه لا بد أن نشغل هذا المكان الفارغ. فعلينا إذاً نحن الرجال أن نقوم بواجب الدعوة فهماً وعملاً وتطبيقاً ودعوة، وأن يكلف النساء أن يلزمن بيوتهن، وأن يقمن بواجب تربية ذويهن؛ أولاد، أخوات، إخوة. إلخ، ولا بأس أن تجتمع الجارات بعضهن مع بعض في مكان خاص للنساء، وبصوت مناسب منخفض يتناسب مع المكان الذي يجلسن فيه. أما هذا الذي نراه اليوم فأنا اعتقادي أنه هذا ليس من الإسلام في شيء، وإن كانت بعض الجماعات الإسلامية تنظم هذه الحركات النسائية باسم الإسلام، وأنا أعتقد أن هذا من محدثات الأمور، وقد حفظتم وآن لكم أن تحفظوا قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) وبهذا القدر الكفاية. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

حكم ضرب الدفوف في الأعراس

حكم ضرب الدفوف في الأعراس Q قرأت في كتاب ما يلي: وقد جرى الصحابة على ما رخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يجلسون للسماع والطرب في أحفال الزواج ولا حرج، وأيد كلامه بالحديث التالي: قال عامر بن سعد: [دخلت على قرضة بن سعد وأبي مسعود الأنصاري في عرسه، فإذا جوارٍ يغنين، فقلت: يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم! يفعل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن شئت فاذهب؛ فإنه قد رخص لنا في اللهو عند العرس] وقال: -يعني: صاحب الكتاب- بأن الحديث رواه الحاكم وصححه. وتابع يقول: ويباح في أحفال الزواج قياساً على الدف كل ما كان من قبيله، كالعود والقانون والكمنجة والمزمار. انتهى قول الكاتب، أرجو التعليق على ما تقدم مع التوضيح والشرح. A أقول قبل كل شيء: هذا الحديث فعلاً رواه الحاكم في المستدرك، ولا أستطيع الجزم الآن بأنه أصاب في تصحيحه أم لا، وإن كان يغلب على حافظتي وذاكرتي أنه صحيح في واقع الأمر، وهذا إن شاء الله نتحقق منه فيما يأتي. نقول: هذا الحديث يشبه من حيث دلالته حديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت الرسول عليه الصلاة والسلام بغناء بعاث وتضربان عليه بدف، حين دخل أبو بكر الصديق فأنكر ذلك، فقال: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: دعهن يا أبا بكر؛ فإن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا) . هذا الحديث كهذا من حيث دلالتهما على جواز الضرب بالدف في يوم العيد، كما في حديث السيدة عائشة، وفي الزفاف كما في هذا الحديث على افتراض أنه صحيح كما نظن، فلا يجوز أن نلحق بهذه الآلة الآلات الأخرى التي ذكرها الكاتب أو السائل عن الكاتب -المؤلف- والسبب في هذا أن هناك قاعدة فقهية تقول: (ما كان على غير القياس فعليه غيره لا يقاس) عندنا أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف يتقوى بعضه ببعض، تدل هذه الأحاديث كلها على تحريم كل أنواع آلات الطرب. إذاً: الأصل التحريم، فإذا جاء نص خاص يبيح شيئاً من تلك الآلات المحرمة فلا يقاس عليه؛ لأن القياس عليه يخالف النص العام، وإنما يوقف عند هذا النص الخاص، ماذا أباح هذا النص؟ أباح الضرب على الدف في يوم العيد -جائز- لحديث عائشة، وحديث أبي بكر الصديق أيضاً يؤكد هذا، لكن من أين أتى بالكمنجة والقانون وغيرها من الآلات التي سماها وأخرى لم يسمها أيضاً، من أين نلحق هذه الآلات الموسيقية بهذا النوع وهي داخلة في النص العام في تحريم المعازف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليكونن في أمتي أقوامٌ يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف) والمعازف: كل آلات الطرب. إذاً: هذه الأنواع التي سماها داخلة في هذا النص العام، ما الذي استثني من هذا النص العام؟ الدف في العيد وقفنا عنده فقلنا: هذا مستثنى من النص العام. أما إجراء القياس في استباحة ما جاء النص العام بتحريمه، هذا في اعتقادي من مفاسد العصر الحاضر، حيث يريد بعض الكتاب الإسلاميين بحسن نية أو بغيرها -الله حسيبهم- يريدون أن يهونوا على الناس ويفرجوا همومهم وكروبهم، لا سيما وقد هلكوا في ماديتهم، ويظنون أنهم بذلك يحسنون صنعاً، ولا يحسون ولا يشعرون أبداً أنهم يخالفون مقاصد الشريعة حينما أهملوا أصلاً من أصولها، ألا وهو تحريم كل آلات الطرب؛ لأنها تلهي الناس عن الذكر وعن القيام إلى الصلاة، والواقع يشهد أن كل من يتعاطى هذه المعازف وآلات الطرب قلما تجده مصلياً مع جماعة المسلمين أين يحضر الجماعة وهو في لهوٍ وفي سماعٍ للطرب؟ بل لعلهم لا يصلون ولو في عقر دورهم؛ لأنهم في الدور -أيضاً- ساهون لاهون وراء هذه الآلات، لذلك هذا القياس الذي لجأ إليه نقول فيه: أولاً: مخالف للقاعدة الأصولية التي ذكرناها آنفاً: (ما كان على خلاف القياس فعليه غيره لا يقاس) ، فإن إباحة الدف في الأعراس وفي الأعياد الشرعية على خلاف القياس؛ لأنه خلاف النص، فعليه لا يقاس غيره، لا سيما وهذا القياس يخالف النص العام الصحيح الصريح. ثانياً: من العجيب جداً أننا نعيش في عصر فيه المتناقضات الغريبة، أناس -وهم جماهير المسلمين- لا يزالون غارقين في حياتهم العلمية المقلدة، يمشون على غير بصيرة في دينهم، ويدندنون ويجادلون أنه لابد من التمسك والجمود على المذهب، على التقليد الأعمى، وبعض كتابهم ودكاترتهم يفخر أنه مقلد، ولا يحس بأن معنى كلامه أن يفخر بأنه جاهل؛ لأن المقلد يساوي عند أهل العلم الجاهل، قالوا في كتاب القضاء: ولا يجوز نصب المقلد قاضياً، قالوا في الشرح: لأنه جاهل، مع ذلك وجد اليوم كُتّاب ودكاترة يقولون: أنا أفخر أني مقلد. نعيش اليوم في مثل هذا التناقض. وفي الطرف المقابل أناس يجتهدون ليخالفوا الشريعة بنصوصها، فهؤلاء يخالفون نصوص الشريعة بحجة التقليد، وهؤلاء يخالفون نصوص الشريعة بحجة الاجتهاد، ونحن نريد الوسط، والوسط: وهو اتباع الكتاب والسنة، بدون جمود وركون إلى التقليد وما وجدنا عليه الآباء والأجداد، ودون هذا الانطلاق بدون قيد ولا شرط، لإباحة ما حرم الله، فهذا الكلام من هذا النوع مع الأسف الشديد، وهناك فتاوى -كما سمعتم- لإباحة التعامل بالربا، تقول الفتوى: القليل من الربا لا بأس به، فتاوى صدرت في هذا، مع أن القرآن حرم الربا مطلقاً فقال الله: {لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279] فقط: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] والحديث أيد ذلك أيضاً. لذلك فهنا عبرة لمن يعتبر: أنه لا يجوز الجمود على المذهب؛ لأن في ذلك تعطيل العقل والفكر، وتعويد المسلمين على عدم معرفة المسائل من أين جاءت، وفي هذا تهيئة الشباب المسلم لكيلا يتقبل مثل هذه الأقوال؛ لأنه سيعلم حينذاك أن هذه الأقوال مخالفة لنصوص الشريعة العامة. هذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.

حكم المبادلة في الزواج مع إستيفاء شروط النكاح

حكم المبادلة في الزواج مع إستيفاء شروط النكاح Q ما حكم الشرع في أن يزوج الرجل ابنته إلى ولد الرجل الآخر، والرجل الآخر يزوج ابنته إلى ولد الرجل الأول، وكل واحدة لها صداق، ولو ترك أحد الأزواج زوجته ليس للثانية علاقة بها، ولا تضر بتلك، وهناك زوجتان قد أنجبتا عدة أولاد وبعد مضي خمسة وعشرين عاماً أفتى أحد العلماء بأنه يجب التفريق بين كل من الزوجين وزوجاتهم، فهل هذا صحيح أم خطأ؟ A يقول العلماء: الفتوى على قدر النص، إذا كان السائل قد حرر الواقعة تحريراً صحيحاً فالجواب أن هذا النكاح صحيح، وذلك لأن من يشير إليه من بعض المشايخ لما حكم بوجوب فسخ هذا النكاح، تصور أن هذا النكاح كان شغاراً، وقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث واحد عن الشغار، وقال: (لا شغار في الإسلام) إلا أن العلماء اختلفوا في الشغار في حقيقته ما هو؟ هو في الأصل: تبادل رجل عنده بنت وآخر عنده بنت، فكل واحد يأخذ بنت الثاني، هذا هو أصل الشغار، بعد ذلك يأتي الخيار، وليس بصورة خاصة في البنت؛ واحد عنده أخت والآخر عنده أخت، فكل واحد يأخذ أخت الآخر، هذا من الشغار، لكن تمام الشغار أن يجعل كلٌ منهما مهره الذي يجب عليه هو أخته أو بنته التي يقدمها للآخر، فكأن التبادل بضاعة ومقايضة، وهذا لا يجوز في الإسلام؛ لأن في هذا تعطيل حق البنت الذي هو المهر، ومن هنا يبدأ الخلاف. إذاً: من تمام الشغار أن أحد الزوجين يغضب لسبب من زوجته فيطلقها، فتذهب إلى أخيها أو أبيها، فيقوم ذاك بالتالي بدوره ويطلق التي عنده من أخت أو بنت، وهكذا يكون الشغار سبباً لزيادة الفرقة، ووقوع الطلاق بين المتزوجين، هذا هو الشغار المعروف في الجاهلية والذي نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام. أما إذا لم يكن من هذا الشغار سوى مجرد تبادل مع القيام بكل شروط النكاح أنا عندي أختي وأعطيت زيداً من الناس هذه الأخت، وهو بالمقابل أعطاني أخته، لكن كل واحد منا أعطى ما يجب عليه من مهر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: لا يربط طلاق زوجته بالأخرى، كأن تسوء علاقته مع زوجته فتسوء علاقة الأخرى مع زوجها، فإذا كان هذا الزواج مجرد تبادل بدون مراد لتمام الشغار الجاهلي، فقط واحد أخذ قريبة وأعطى بنته أو أخته لقريبٍ له، هذا لا حرج فيه إطلاقاً ما دام أن المهر موجود، وما دام أن الشرط في التطليق في المقابلة أيضاً غير وارد، فإذا كانت الحادثة كما ذكر الرجل على حسب ما فهمت، فهذا النكاح ليس شغاراً ما دام كل واحد دفع المهر، وكل واحد التزم الآداب الشرعية بينه وبين زوجته، لكن أخشى ما نخشى أن يكون في الحادثة شيء من التفاصيل لم يستوعبها السائل، أو ربما استوعبها السائل لكن الشيخ المفتي ما استوعب ذلك، فأفتى بفساد هذا النكاح وبطلانه.

أبيات من الشعر في الزواج

أبيات من الشعر في الزواج الله يغنيه وسيعاً فضله فهو الغني عطاؤه مشكور أمر النبي بذات دينٍ زوجة فاظفر بذات الدين هن الحور المال يفنى والجمال وديعة والجاه يبلى كل ذاك غرور الباقيات الصالحات ذخيرة مذخورة ونعيمها موفور ليس الزواج لشهوةٍ وغريزةٍ إن الزواج تعفف وطهور ليس الزواج ستار أطماعٍ وما تغني عن اللب الشهي قشور ليس الزواج لنزوة عابرة ذاك انفعالٌ فتنة تغرير إن الزواج وظيفة ومهمة ورعاية وتحمل وصغير إن الزواج تصبرٌ وتجلد وعناية ما حقها التقصير إن الأبوة خدمة وقيادة وتودد وتعقل وأمور أمر بكل فضيلة في أهله للمكرمات يقودهم ويسير إن الأمومة عطفها لا ينقضي ومقامها في التضحيات كبير كان النبي معلماً في أهله وهو الرسول مبشر ونذير خير الأنام وخيرهم في أهله في خدمة لعياله مشهور يرعى صغيرهم ويحفظ عهدهم خلقٌ بفرقان الهدى مسطور يحمي النساء يصونهن عفافه وهو الأنيس المؤنس الستير فرض الحجاب وقاية وحماية ومن النفوس رقابة وضمير وسع النساء بحلمه وأناته والحلم طبعٌ في الرسول شهير زوجاته نبع الفضائل والتقى الطاهرات وزوجهن النور للطيبين الطيبات وللألى خبثو خبيثات لهن شرور الله طهر آل بيت محمدٍ بيت النبوة روضة وعطور

حكم معاشرة الزوجة المتبرجة تاركة الصلاة

حكم معاشرة الزوجة المتبرجة تاركة الصلاة Q زوجتي لا تصلي ولي منها كذا وكذا من الولد، وهي تتبرج ولا تتجلبب بجلباب الشرع، ماذا أعمل؟ A نحن في هذه الحالة لا نستطيع أن نقول: طلق أو لا تطلق، لماذا؟ لأن المسألة كان ينبغي التفكير فيها قبل أن يقع الزواج، وإذا وقع الزواج فقبل أن يأتي الولد، وإذا جاء الولد فقبل أن يكبر الولد هذه خطوات لابد أن يمشي عليها هذا الإنسان المكلف، أما بعد فوات الأوان يأتي يسأل ويقول: ماذا أعمل؟ أنا إذا قلت له: طلق هذه الزوجة مادام أنها لا تصلي وما دام أنها تتبرج؛ فأنا أخشى عليك ما قد أخشاه عليها، وأنا لا أستطيع أن أحكم عليك أنت، كيف ضبطك لنفسك وجهادك لربك إلخ؟ فأنا أقول هنا: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] فهل أنت صاحب الزوجة ذات كذا ولد، إذا طلقتها لأنها لا تطيعك -في صورة عامة- لا تطيعك فيما يجب عليها الطاعة، هل أنت تستطيع أن تحتضن الأولاد وتربيهم؟ لا سيما وأن اليوم من فساد الزمن أن الرجل إذا صار عزباً أرملاً -كما يقولون- من الصعب جداً أن يجد امرأة ترضى به زوجاً؛ لأن عندهم أكبر عيب أن يكون زوجاً ومطلقاً، أولاً: لأن الطلاق بسبب التوجيهات غير الإسلامية والتي تنشر من إذاعات إسلامية -زعموا- تنفر المسلمين من الطلاق، وما أسرع ما يقول أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وهذا حديث ضعيف، لو كانوا يعلمون بأنه حديث، ولو كان الأمر كذلك ما طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، ولمّا طلقها جاء جبريل إليه وقال له: (راجع حفصة فإنها صوامة قوامة) ليست تاركة صلاة متبرجة، صوامة قوامة، مع ذلك طلقها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن الرسول طلقها لسبب، وليس كل سبب يكون بين زوجين لابد أن يطلع عليه الناس، ومن هنا يأتي فساد بعض الأحكام الشرعية -زعموا- اليوم، حيث يدخلون القاضي الشرعي، وليته أيضاً يكون قاضياً شرعياً، يحكم بما أنزل الله، يدخل بين المرأة وزوجها يريد أن يعرف كل شيء، حتى دقائق الأمور. لذلك فنحن لا نستطيع أن نقول لأي رجل يشكو من زوجته أنها لا تطيعه في طاعة الله عز وجل: أن طلقها، لماذا؟ للسبب السابق الذكر، أما إن كان هناك رجل عصامي ورجل تقي، يطلقها ويصبر على قضاء الله وقدره، ويقوم بتربية أولاده ولو لم يتح له أن يتزوج زوجة أخرى فلا يجوز أن يمسكها والحالة هذه، ما دامت أنها تعصي الله عز وجل. فهذا السؤال بالذات: المرأة التي لا تطيع زوجها الذي يذكرها بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، التي تحرم معصية الزوج على النساء، فهي عاصية مرتين: المرة الأولى: عاصية للشرع، والمرة الثانية: عاصية لزوجها؛ لأن الزوج له من الطاعة على زوجته كالحاكم المسلم على شعبه، الحاكم المسلم الذي يحكم بما أنزل الله وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا نهى الشعب المسلم عن شيء مباح في الأصل يصبح هذا الشيء حراماً، فالحاكم المسلم إذا نهى الشعب المسلم عن شيء مباح حينئذ يحرم على المسلمين أن يأتوا هذا الأمر المباح؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر في غير ما حديث بطاعة ولاة الأمر، بل الله عز وجل قبل ذلك قال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] لكن هذه الطاعة المطلقة قيدها في قيد واحد، قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) الحاكم إذا أمر بمعصية لا طاعة له ولا سمع. وكذلك الزوج إذا أمر زوجته بمعصية لا سمع له ولا طاعة، لكن الزوج إذا أمر زوجته بأمر مباح، ومعنى مباح هنا أي: ليس عليها ضرر، فإذا وجد الضرر أصبح غير مباح، فبمعنى الكلمة: إذا الزوج أمر زوجته بأمر مباح فعليها أن تطيعه، مثلاً: يقول لها: هات الكاسة، والكاسة ليت فرضاً، لكن مجرد أمره إياها أصبح فرضاً عليها، تأتي بهذه الكأسة إن كانت فارغة ففارغة، وإن كانت مملوءة فمملوءة، إلى غيره.

معاشرة المرأة الناشز

معاشرة المرأة الناشز Q أمر زوجته بألا تشتري أساور الذهب؛ لأنه يحبها، ولأن الرسول نبيه ونبيها قال: (من أحب أن يسور حبيبه بسوار من نار فليسوره بسوار من ذهب) فهو يحبها ولا يريد أن يسورها بسوار من نار، لكن هي تأبى عليه إلا أن تشتري سواراً من ذهب فتسور نفسها بسوار من نار. A في هذه الحالة أنا أقول كما قلت بالنسبة لمن لا تصلي من النساء ولا تحتجب ولا. إلخ: إن كنت تستطيع أن تصبر على تطليق هذه الزوجة، وأنا أتصور أن هذا المثال ليس مثالاً واحداً، بل: هناك كما يقال: (وراء الأكمة لا وراءها) ما تتصور امرأة تعيش مع زوجها في حدود الشرع تطيعه في كل ما يأمرها إلا في معصية الله، وما يؤذي الناس إلا هذه القضية، وأنا أتصور هذا، هذا مثال لعدة أمثلة، فأنا أقول حينئذ: إما أن تستطيع أن تطلقها بعد أن تسلك طريق الشرع معها: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] . وأنا أذكر الرجال أيضاً قبل النساء، أكثر الرجال لا يتقون الله في نسائهم، على الأقل لا يطبقون في النساء هذا المنهج التأديبي الإسلامي؛ لأنه ليس عنده الحزم والصرامة أن يهجرها في الفراش، ويكون هو أول من نقض العهد لسبب ضعف الإرادة وضعف الشخصية، فبعد أن يسلك معها هذا المسلك، ويرى أنه بعد زمن طويل وصبر مديد لا توجد فائدة، فيطلقها والله عز وجل يرزقه خيراً منها إن استطاع، وإن لم يستطع فاستمتع بها على عوج، كما جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! زوجتي لا ترد يد لامسٍ، قال: طلقها، قال: إني أحبها، قال: أمسكها) والسلام عليكم.

مسألة: تقسيم المهر إلى مقدم ومؤخر

مسألة: تقسيم المهر إلى مقدم ومؤخر Q قرأ أحدهم في كتاب إعلام الموقعين: أن رأي ابن تيمية أن إجماع الصحابة على جواز المهر المتأخر، كما هو عليه الناس اليوم، فما جوابكم على هذا؟ A يجب على من يقرأ أن يفهم، وبعد ذلك أن يقابل ما فهم على ما يسمع، وأن يكون قد فهم ما سمع أيضاً، ليس هناك خلاف في جواز المهر المتأخر، ولكن هناك تفصيل لا بد منه، وهو: هذا الجواز الذي يذكره السائل نقلاً عن إعلام الموقعين، نقلاً عن ابن تيمية، هل هو هذا الذي نحن ننكره اليوم وندعو المسلمين إلى أن يجعلوا مهرهم مقدماً ما دام ميسراً؟ اليوم نظام المهر أنه لا بد أن يكون قسمين: مقدم ومؤخر، حتى لو كان الخاطب الذي سيدفع المهر (مليونيراً) لا بد أن يجعل المهر قسمين: متقدم ومتأخر، هل هذا الذي ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين عن ابن تيمية؟ الجواب: لا. لأن هذا لم يكن في ذلك الزمان، الذي كان في ذلك الزمان هو الميسر، نحن نعلم أن كثيراً من الناس تزوجوا ودفعوا المهر كله مؤخراً، بل نعرف شيئاً ينكره بعض المشايخ اليوم، نعرف أناساً تزوجوا ولم يدفعوا من المال ولا درهماً واحداً، وإنما كان مهرهم إما تعليم القرآن وإما الإسلام، كما وقع لـ أم سُليم رضي الله عنها مع أبي طلحة الأنصاري، فخلاصة القول: لا نريد أن نخوض في هذه المسألة، والذي جاء في كتاب الإعلام صحيح، وهو جواز المهر المتأخر، لكن هذا لا يعني جواز تنظيم المهر وجعله قسمين ولا بد، متقدم ومتأخر، حتى لو استطاع أن يقدم المهر كله سلفاً لا يفعل، لماذا؟ لأن نظام المهر: متقدم ومتأخر، هذا لا يقوله لا ابن تيمية ولا من هو أصغر منه، هذا الجواب على السؤال العاجل.

حكم الزواج من الكتابيات في عصرنا الحاضر

حكم الزواج من الكتابيات في عصرنا الحاضر Q ما حكم زواج المحصن الذي يدرس في بلاد الغرب من الكتابيات؟ A لاشك أن الحكم في هذا معروف بنص القرآن: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] يحل ذلك، وهذا رأي أكثر علماء المسلمين قديماً، وأجمعوا أخيراً على ذلك، إلا أن الحكم المباح شرعاً قد يعترضه ويحيط به ما يجعله ممنوعاً في بعض الأحيان، وأرى أن هذا النوع من الزواج هو من هذا القبيل، والسبب في ذلك يعود إلى جنس المسلمين الذي يتزاوجون بالكتابيات من جهة، ويعود أيضاً إلى جنس الكتابيات من جهة أخرى، أعني: أن هؤلاء المسلمين الذين يذهبون إلى تلك الديار ديار الكفر والضلال، هم في الغالب -ونحن لا نخص شخصاً أو أشخاصاً- هم في الغالب غير محصنين بالأخلاق الإسلامية، بل ولا بالعقيدة الإسلامية، التي إذا تجرد الإنسان عن أي شيء فممكن -بغض النظر- إلا عن العقيدة؛ لأن العقيدة فيها النجاة من الخلود في النار، أما ما دون ذلك فهو كمال الإنسان. فكثير من هؤلاء الشباب الذين يذهبون إلى تلك البلاد لم يتثقفوا الثقافة الإسلامية الصحيحة، بل حتى ربما يجوز لي أن أقول: الثقافة الإسلامية حتى غير الصحيحة؛ لأنهم لا يدرسون الإسلام مطلقاً، سواء ما نسميه بالإسلام التقليدي أو بالإسلام القائم على الكتاب والسنة، فهم يدرسون نوعاً من الدراسات العلمية العلمانية اليوم، ثم ينطلقون إلى تلك البلاد لإكمال دراستهم، فهم غالباً غير مسلحين بهذا السلاح من الثقافة الإسلامية الصحيحة، والنادر منهم من يكون متخلقاً بالأخلاق الإسلامية الصحيحة، أي: يعيش في جو عائلي لا يزال يحتفظ بالعادات الإسلامية كلها، هذا نادر جداً في بلادنا، ولذلك فهؤلاء الشباب حينما يذهبون لتلك البلاد، ويريدون أن يضموا إلى أنفسهم زوجة من تلك البلاد النصرانية مثلاً. أما اليهودية -الآن- فاضرب عليها صفحاً؛ لأن الناس يتأثرون بالواقع كثيراً جداً، مع أنه في الواقع -من الناحية الإسلامية- لا فرق بين النصرانية وبين اليهودية، وإذا كان اليوم الذهن المسلم العام قد نبا وانصرف ونأى عن التفكير في أن يتزوج يهودية؛ لأن اليهود احتلوا قسماً عزيزاً من بلادنا الإسلامية، فهذا تفريط لا يراعى فيه العلم، وإنما الواقع الطاري، ما الفرق بين اليهودية والنصرانية من الناحية الإسلامية؟ لا فرق أبداً، ما الفرق بين اليهود والنصارى من حيث أنهم كلهم أعداء للمسلمين، كما قال رب العالمين: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وعرف الخراب من ثغرة اليهود من إثم قتل وصلب عيسى عليه السلام كما زعموا؟ فكل هؤلاء هم أعداء الإسلام، لا فرق بين يهودية ونصرانية إطلاقاً، لكن مع الأسف لا يزال الناس ينظرون إلى النصارى نظرة دون نظرتهم إلى اليهود. فهؤلاء الذين يذهبون إلى تلك البلاد يريدون أن يتزوجوا بنصرانية، أولاً: هذه النصرانية ليست بالوصف التي وصفها الله حين قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] أين المحصنات اليوم في بلاد الكفر؟ فقد انتشر فيها الفساد والفحش والزنا وإلخ، ولا أنسى وأنا أعرف شاباً منذ أربعين سنة كان يتردد على دكاني، وهو ضابط تركي ممن حاربوا في رومانيا في زمن الأتراك في قتال قام بين المسلمين والرومان، قال لي: دخلنا بعض البلاد وأقمنا فيها شهورا، ً فعلمت من بعض النصارى أن من عادة الداعيات في تلك البلاد، أن الجنين أول ما يسقط من بطن الأم فإذا رأتها الداعية بنتاً فضت بكارتها في تلك اللحظة، لماذا؟ لأن المجتمع كله قائم على الفحش، فإذا بلغت البنت سن الزواج وتزوجها الشاب كان قد لقن سلفاً أن هذه البنت قد فضت بكارتها من ساعة ما وقعت من بطن أمها، فيستسلمون لذلك، ولا شيء في ذلك إطلاقاً، فأمة بلغ بها الأمر إلى الحضيض من أين يجد هذا المسلم هذه الفتاة النصرانية المحصنة؟ لا يجدها، ثم إن وجدت، وهذا نادر جداً والنادر لا حكم له، هل عنده هذه الشخصية المسلمة القوية التي تساعده على أن يجذبها إليه وأن تربي أولاده حسب دينه وحسب أصول التربية الإسلامية، أم سيكل الأمر إليها وتربي أطفالها وأولادها على التربية الأوروبية؟ نحن المسلمون في البلاد الإسلامية نربي أطفالنا في بلاد الإسلام تربية غير إسلامية، فكيف إذا قام على هذه التربية امرأة غير مسلمة؟! فلهذه الأسباب وأسباب أخرى لا نرى أن يتمتع المسلم بهذا الحكم الذي أباحه الله عز وجل في نص كتابه؛ لأنه أقل ما يقال: إنه اشترط أن تكون محصنة، أي عفيفة محفوظة، وهذا نادر والنادر لا حكم له. ولعل في هذا الكفاية، والحمد لله رب العالمين.

حكم من واقع زوجته وهي حائض

حكم من واقع زوجته وهي حائض Q رجل وقع على زوجته وهي حائض، فماذا عليه؟ A يجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل ويعزم على ألا يعود.

مسألة: تعليق الطلاق

مسألة: تعليق الطلاق Q ما حكم من قال لزوجته: لا تدخلي بيتي بعد سبعة أيام، ثم أتى بها بعد ثلاثة أيام وقد نوى اليمين، كما يُرجى بيان الحكم فيمن علق الطلاق بفعل الزوجة. A المسألة الأولى: إذا حلف على زوجته ألا تدخل البيت إلا بعد سبعة أيام فدخلت، أو أدخلها قبل مضي الأيام، فوقع عليه يمين وعليه كفارة يمين. وهذا الحكم هو نفسه فيما إذا حلف عليها بالطلاق، وهذا مما يلجأ إليه كثير من الناس، أن يقول لأهله: عليًّ الطلاق ما تدخلي البيت إلا بعد ثلاثة أيام، ودخلت البيت قبل ذلك، فهذا وقع عليه اليمين بالطلاق، واليمين بالطلاق عند بعض العلماء طلاق، وذهب آخرون -ونحن معهم- إلى أنه ليس بطلاق؛ لأن الطلاق من شرطه بنص القرآن العزم، قال الله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227] فلابد من العزم، وهنا الذي حلف على زوجته بالطلاق يريد منعها من شيء أو حملها على شيء ولا يريد تطليقها، ومن هنا نتوصل إلى الإجابة عن الشطر الثاني من السؤال حيث قال: يرجى بيان الحكم فيمن علق الطلاق بفعل الزوجة. فهنا تفصيل لا بد من مراعاته إذا قال لزوجته: إن دخلت بيت جارك فأنتِ طالق. هذا اسمه طلاق معلق، أي: معلق بشرط، هذا الشرط هو الدخول إلى بيت الجار، فهذا الطلاق يعود إلى قصد المعلق له، وهذا يختلف في صوره وفي أشخاصه والقائمين به. امرأة بينها وبين زوجها خصام، فهي تخالفه وتريد أن تذهب إلى بيت أهلها رغماً عن زوجها، وهو يريد أن يمنعها بالتي هي أحسن فلا تمتنع، فيهددها بالطلاق: إن ذهبت لبيت أهلك فأنتِ طالق. هذا طلاق معلق بشرط؛ شرط الدخول، شرط الذهاب إلى البيت، هذا بلا شك يمكن أن يتصور أنه قصد غير قصد الطلاق، بخلاف صورة أخرى، كأن يرى -مثلاً- رجلاً ما زوجته تدخل إلى جارٍ له سيء الخلق، والناس يتحدثون عنه، وهي ما لها شغل في هذا البيت، ما فائدة دخولها البيت؟ أو رآها أو سمع ما يقولون، فقال لها: إن دخلت بيت جارنا فلان فأنت طالق، هنا القصد لا يمكن أن يتصور إلا على بُعد كبير، أن يكون قصده كقصد الرجل الأول، وتوضيح هذا: أن الرجل الأول يقصد منعها من أن تذهب بدون إرادته رغماً عنه إلى بيت أبيها ولا يريد طلاقها، لكنه يخوفها بتعليق الطلاق. أما في الصورة الثانية فهو يريد -والله أعلم- أنه لا يطيق أن يتحمل امرأة من خلقها أنها تدخل على رجل غريب عنها ما يدري ما يفعلان هناك، لذلك فهو لا يطيق الحياة معها، فقال: إن دخلت دار جارنا فأنت طالق. إذاً: هو ونيته، إن كان يقصد تطليقها فعلاً؛ لأنها تأتي بخلق غير إسلامي، فهو ونيته، فمجرد ما تدخل يقع الطلاق؛ لأنه قاصد ذلك. أما الصورة الأولى: فيحتمل أن يكون يقصد ألا يتكرر ذلك منها مثلاً، ويحتمل ألا يقصد فيسأل ويدان، والله عز وجل حسيبه: أنت قاصد تطليقها أم لا؟ وإذا قال: لا أقصد الطلاق، فلا تطلق، وإن كان قاصداً للطلاق فتطلق. إذاً: الطلاق المعلق بشرط يعود إلى نية المعلق، إن كان يقصد وقوع الطلاق بوقوع الشرط وقع الطلاق، وإلا فلا.

الغيبيات

الغيبيات في هذه المادة يجيب الشيخ عن العديد من الأسئلة الواردة إليه، وهي أسئلة تتعلق بالعقيدة، وكان من أهم الأسئلة التي تعرض لها الشيخ: سؤال عن أفعال العباد، وعن حكم السؤال عن الغيبيات وغيرها مما يجده القارئ لهذه المادة.

يأجوج ومأجوج هم الحصة الكبرى من بعث النار

يأجوج ومأجوج هم الحصة الكبرى من بعث النار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. Q نسمع أن من كل ألف من الناس واحداً يدخل الجنة والبقية يساقون إلى النار، هل ثبت هذا في حديث صحيح؟ A هذا ثبت في حديث يأجوج ومأجوج، وجاء معناه في الحديث الطويل كما في الصحيحين أو أحدهما، والمعنى هذا صحيح وثابت، ولما تعاظم الأمر على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بشرهم بيأجوج ومأجوج، وهم حطب جهنم، فأحدهم لا يموت إلا وقد خلّف من بعده ألفي ولد، ومن ذلك: أن منهم الحصة -من يأجوج ومأجوج- الكبرى لجهنم، وهذه الأمة تخرج في آخر الزمان، ولم تخرج بعد خلافاً لبعض التفاسير العصرية التي تنبع من صدور بعض الناس التي لا تتسع صدورهم للإيمان بالأمور الغيبية، أي بدون أن نجعل الدين أمراً عقلياً مهضوماً فكرياً، وذلك خلاف أول شرط من شروط الإيمان بالله عز وجل، كما في أول سورة البقرة: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] فنحن نؤمن بكل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث صحيح.

مسألة أفعال العباد

مسألة أفعال العباد وعندنا مسألة: (خلق الله عز وجل) وأنا مضطر إلى الإيجاز؛ لنستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة، لا سيما ومثل هذا البحث كنا قد طرقناه مراراً طرقاً تفصيلياً، إنما نلفت نظر السائل والحاضرين إلى أن خلق الله عز وجل له صورتان: خلق مباشر لا دخل للإنسان فيه، فهذا الإنسان فيه مسير. وله أمثلة واضحة جداً: نحن في مجلس يجمع كثيراً من الناس، فهذا طويل، وهذا قصير، وهذا أسمر، وهذا أصفر، وهذا أشقر، وهذا أبيض. إلخ، هذا خلق الله ليس لأحد منا فيه إرادة مطلقاً، ولكن نرى بعض الناس ساتر الرأس، وآخرين حسراً، وأناساً حليقين، وأناساً بلحية أهكذا الله خلقنا؟ لا. هذا كله من صنعنا نحن، لكن بمشيئة الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ومثال أدق من هذا الواقع: نحن كذرية لآدم عليه السلام، كل منا له والدان، فنحن مِنْ خلق الله، لو لم يتصل أبي وأمي ما كنت أنا، لو لم يتصل أبوك وأمك ما كنت أنت وأنت إلخ، نحن خلق الله، لكن بالواسطة. ما هي الواسطة؟ كلفنا الله سبحانه أن نحصن أنفسنا وأن نحصن نساءنا، وأن نتمتع بحلالنا، فيأتي من وراء ذلك إذا شاء الله الذرية، فالخلق كله خلق الله، لكن شيء منه يخلقه الله دون تكليف للبشر، وشيء منه هو بتكليف من الله للبشر. فهذا النوع الثاني من خلق الله يجب أن ندندن فيه ليرسخ في الذهن كل شيء هو من خلق الله، ليس كما تقول المعتزلة أبداً، وكل شيء بمشيئة الله، لكن المهم أن تعرفوا التفصيل، فشيء من خلق الله بواسطتنا نحن أمرنا، كلَّفنا، تعبَّدنا، وشيء بمحض إرادتنا واختيارنا، فهذا خلق لكن بكسبنا وإرادتنا. بعد هذه التوطئة المختصرة الوجيزة، فهل الإنسان مسير أم مخير؟ A أولاً: الإنسان في قسم مما يتعلق به مسير، أي: لا كسب ولا إرادة، والأمثلة كثيرة وقد ذكرناكم ببعضها. ثانياً: ليس مسيراً -بمعنى: مجبوراً؟ لا. بل مختار، والآن أنا أتكلم وأنتم تصغون، ترى نحن مسيرون في هذا وهذا، أم مختارون؟ مختارون جميعاً، ما جئتم إلى هنا ولا جئت أنا هنا إلا بمحض اختياري، ولا أتكلم إلا بمحض اختياري، والآن إن شئتم سأصمت، والله لم يفرض عليَّ الكلام، سأصمت، وإن شئتم أطول عليكم الصمت لكن لن يناسبنا الآن. أقول: هذا الكلام هو خلق الله، لكن باختياري، فالإنسان في بعض الأمور مسير، وفي أمور أخرى مخير، وأي إنسان يقول: إن الإنسان مسير دائماً، فأرجو أن تصفعه في وجهه، فإذا قال لك: لِمَ؟ تقول له: أنا مجبور مسير، لست بمخير. والفلسفة التي دخلت في الاعتزال والمعتزلة هي التي أفسدت فِكر المسلمين التي توافق تماماً ما جاء في كتاب الله، وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105] هل يقال لمن كان مجبراً مسيراً، يقال له: اعمل، اركع، اسجد، توضأ؟ هذا الكلام مستحيل، لو كان لك عبد فغللته بالأغلال وقلت له: اذهب إلى السوق واشتر هذه الحاجة لكنت أنت من أظلم الناس، فكيف يتصور هؤلاء القائلون بالجبر أن الله عز وجل خلق الإنسان وأجبره على طريق الخير أو الشر؛ فهو مجبور مسير دائماً، كيف يقال هذا في الله، هو أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، ونحن لا نرضى أن نصف أنفسنا بما يصف هؤلاء ربهم ظلماً وبغيا، وهذا أمر مكتوب وواضح جداً. ولقد بالغ في الكفر وفي الضلال ذاك الشاعر الذي وصف ربه -ممثلاً لعلاقة العبد مع ربه- قائلاً: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء أجبر الجبارين وأظلم الظالمين لو فعل هذا، لكان فوق ظلمه وفوق جبروته، فكيف ينسب هذا إلى الله؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. الحديث المعروف في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال ذات يوم: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر) ثم في القصة شيءٌ من الطول، قال عليه الصلاة والسلام في وصفهم: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) فقام رجل من الصحابة اسمه عُكّاشة فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام رجل آخر فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عُكّاشة) . هؤلاء السبعون ألفاً هم نخبة السبعينات الأخرى -أي: خواص- فإذا هو استزاد من بربه فزاده سبعين ألفاً آخرين، هذا ليس معناه أنهم في نفس المنزلة والفضيلة، بمعنى: إذا كان من الصعب على بعض الحاضرين أن يفهموا أن هؤلاء هم النخبة الأولون، فنحن نتساءل الآن: ترى أي سبعين من هذه السبعينات يدخل الجنة قبل؟ الجواب: هؤلاء السبعون الأولون، فمن هذا يظهر أنه لا تعارض بين هذا وذاك الحديث.

حكم من مات مؤمنا

حكم من مات مؤمناً Q هل الذي يموت مؤمناً سيدخل الجنة، أو إن شاء الله أدخله الجنة وإن شاء أدخله النار؟ A هذا السؤال فيه نوع من الغرابة! لكن كأنه يخيل إليَّ أن السائل إما أن يكون قرأ شيئاً من علم الكلام، أو أنه سمع من بعض الناس شيئاً من هذا العلم، ففي علم الكلام جملة مأثورة عند الأشاعرة، يقولون وهم يظنون أنهم يثنون على ربهم بما يقولون: "لله تعذيب الطائع وإثابة العاصي" هذه جملة مذكورة في الجوهرة وفي غيرها من الشروح وغيرها من الأصول، وهناك تفاصيل لهذه الجملة تضخم المشكلة جداً، حيث يقولون: لله تعالى أن يدخل محمداً صلى الله عليه وسلم النار ويجعله في الدرك الأسفل منها، وعلى العكس من ذلك لله عز وجل أن يدخل إبليس الرجيم جنات النعيم. نقول: لا تستعجلوا حتى لا نظلم الناس؛ لأن هذا الذي يقولونه يكفيهم ظلماً، فلا نريد أن تفهموا شيئاً أكثر مما يقولونه، قالوا على العكس من ذلك: لله عز وجل أن يدخل إبليس الرجيم جنات النعيم، ويجعل مقامه في المقام الأعلى، لماذا؟ وقالوا: "لله تعذيب الطائع وإثابة العاصي" حجتهم في ذلك مثل قوله عز وجل: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] وقوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] لكن مثل هذه النصوص المطلقة لا يجوز الاعتماد عليها بدون ضمها إلى النصوص الأخرى، مثلاً: قال الله تبارك وتعالى وهو الذي يقول: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]- يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:153-154] إذاً: هذه الآية وأمثالها آيات كثيرة وأحاديث أكثر وأكثر تبين أن الله عز وجل حينما يقول: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] لا ظالماً، ولا معرضاً عن الحكمة والعدل، وإنما فعالٌ لما يريد مع حكمته تبارك وتعالى وعدله الذي لا ند له. وحسبكم في هذا من الأحاديث الصريحة الصحيحة قوله عليه الصلاة والسلام: (قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) هذا نص صريح له فائدتان: إحداهما سلبية، والأخرى إيجابية السلبية: أن الله عز وجل لا يظلم، أما الإيجابية: أن الله قادر على الظلم؛ لأنه قال: (حرمت الظلم على نفسي) فهو قادر على أن يظلم الناس، ولكنه عز وجل لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، هذا من تلك النصوص الكثيرة. ولما وجد أولئك من علماء الكلام مثل هذه النصوص الصريحة القاطعة بأن الله عز وجل يعامل عباده بمجموع الصفات العليا التي اتصف بها، ليس فقط بصفة أنه (فعال لما يريد) كما يفهمون قوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ولا بظلم: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] لأنه يظلم، لا. {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] لأن الله عز وجل حكيم عليم، يضع كل شيءٍ في محله المناسب له، فلا أحد يستطيع أن يسأله: لماذا وضعت هذا هنا وهذا هنا؟ لِمَ أدخلت محمداً الجنة وأعطيته الدرجة الرفيعة، وألقيت إبليس في أسفل سافلين من النار؟ لا أحد يسأل هذا السؤال؛ لأن الله عز وجل حكيمٌ عليم، يضع كل شيءٍ في محله المناسب له، ولما وجد علماء الكلام مثل هذه النصوص القاطعة بأن الله عز وجل لا يعذب الطائع، كيف وهو يقول في استفهام استنكاري: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:153-154] قالوا: -لكي ندافع عن كلمة قالها بعض أسلافهم، وكل إنسان خطّاء، والحق أن يَدَعوا تلك الكلمة ولا يحاولوا إثباتها ولو بطريق العقل- قالوا: "شرعاً لا يقال لله عز وجل تعذيب الطائع وإثابة العاصي، وإنما يقال هذا عقلاً. وهذه مشكلة، كانوا في مشكلة فوقعوا في مشكلة أخرى، وذلك أنهم الآن يصورون للناس أن الإسلام شيء والعقل شيء، العقل يجيز شيئاً والإسلام يمنعه، وهل هذا هو الإسلام، أم الإسلام يمشي مع العقل السليم كالتوأمين تماماً؟ لذلك نحن نقول: لا عقلاً ولا شرعاً يجوز للمسلم أن يقول أو أن يصف ربه بقوله: له تعذيب الطائع وإثابة العاصي، فكيف ذلك؟ ألم نفهم؟ ألم نعقل أن ربنا حكيمٌ عليم عادل؟ هكذا فهمناه، فكيف نكابر ونقول: عقلاً له أن يعذب الطائع؟! وعلى هذا لا يجوز إلا أن نقطع بأن الله عز وجل وعد المؤمنين بالجنة، حتى الفساق وحتى أصحاب الكبائر يوماً ما سيدخلون الجنة قطعاً: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] ولا يجوز الشك إطلاقاً في هذه الحقيقة، وهذه يقابلها حقيقةٌ أخرى: أن الكفار، وليسوا عندنا إنما الكفار عند الله تبارك وتعالى، وهم الذين بلغتهم الشريعة الإسلامية في أصولها الصحيحة غير محرفة ولا مبدلة ثم كفروا بها وجحدوا بها واستيقنت بها أنفسهم، فهؤلاء سيدخلون جهنم خالدين فيها أبداً بدون نهاية. وهناك مرتبة بين المرتبتين، وهي مرتبة العصاة من المسلمين، هؤلاء إما أن يشمل الكثير منهم ربنا عز وجل بمغفرته، فيدخلهم الجنة بدون عذاب، أو أن يعذبهم بسبب ذنوبهم، ثم ينجيهم من الخلود في النار إيمانهم، ولو كان هذا الإيمان مثل ذرة، هذا الهباء الصغير، مهما كان هذا الإيمان قليلاً، إذا كان إيماناً صحيحاً مطابقاً للشريعة الإسلامية كتاباً وسنة فصاحبه لا يخلد في النار، ولا يخلد في النار إلا الكفار، هذا الذي يجب على المسلم أن يعتقده: أن المؤمن الذي مات على الإيمان الصحيح، وكانت حسناته أكثر من سيئاته فهو في الجنة بدون عذاب، ومن كان قد ارتكب شيئاً من المعاصي، فإن لم يشمله الله عز وجل بمغفرته فيعذب في النار بالمقدار الذي يستحقه، ثم يخرج منها إلى الجنة. أما الكفار فيخلدون فيها أبداً، كما هو نص القرآن ونص السنة المتواترة عن النبي عليه الصلاة والسلام.

حقيقة إبليس وأصله

حقيقة إبليس وأصله Q هل إبليس من الملائكة؟ A في السؤال خطأ مزدوج؛ لأن السائل أراد أن يقول: كان، فقال: من الملائكة، فهذا إقرار للواقع، فالسؤال خطأ؛ لأن إبليس لم يكن يوماً ما من الملائكة، وهذا وهم شائع عند الناس، يقولون: إن إبليس كان طاوس الملائكة، وليس من الملائكة وحسب، بل طاوس الملائكة! والحقيقة أن إبليس كان جنياً صالحاً يعبد الله مع الملائكة، لكن لما اختبر سقط، لما أُمر بالسجود لآدم استعلى واستكبر وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] ولسنا الآن في هذا الصدد، المهم أن هذا وهم شائع؛ لأن القرآن يقول: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] (كان من الجن) التعليل: (ففسق عن أمر ربه) فهو لم يكن يوماً ما من الملائكة.

حكم السؤال عن الأمور الغيبية

حكم السؤال عن الأمور الغيبية Q لما رفض إبليس السجود أخرجه الله من الجنة وحرمها عليه وبقي آدم في الجنة، فكيف تمكن إبليس من الوسوسة لآدم وحواء؟ وهل من نصوص في بيان ذلك؟ وجزاكم الله خيراً. A السؤال هذا سؤالٌ خَلَفي وليس بسَلَفي، وأنا أقول لكم دائماً وأبداً: إن السؤال عن الأمور المغيبة لا يجوز، والسائل بطبيعة الحال يشعر معي أنه ليس هناك آية، بل ولا حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا كيف تمكن الشيطان من الوسوسة لآدم عليه الصلاة والسلام، ولذلك فنحن نؤمن بأن الشيطان وسوس كما في نص القرآن، أما عن كيف؟ فنخشى أن نقول: السؤال عنه بدعة. أخرجوا الرجل فإنه مبتدع!

حكم لبس السراويل والبنطلونات

حكم لبس السراويل والبنطلونات Q هل يعد ارتداء السراويل من التشبه بالكفار إذا كان من غير ارتداء القميص فوقها والعمامة؟ A لا أدري إذا كان السائل يعني بالسراويل بالمعنى المفهوم لغة، أو أراد أن يستعمل كلمة السروال بدل البنطلون، فإن كان السائل يعني السروال الذي نفهمه، وهو اللباس الفضفاض العريض الذي لا يزال يلبسه بعض المسلمين، فهذا من أين يأتي فيه التشبه؟ ولا يعتبر لبسه تشبهاً بالكفار. أما إذا كان يقصد البنطلون فقد تكلمنا عنه مراراً وتكراراً، وهو ليس من لباس المسلمين؛ لأنه يصف العورة ويحجمها، فهو يضيق حيث ينبغي أن يتسع، ويتسع حيث ينبغي أن يضيق، وهكذا (اعكس تصب) هكذا نظامهم في الحياة اليومية مع الأسف، فالتشبه يكون بلبس البنطلون وليس بلبس السروال. هذا إن كان قصد بالسروال: البنطلون، أما إن كان قصده شيئاً آخر فلم أفهمه.

هل تشترط اللحية للإمام؟

هل تشترط اللحية للإمام؟ Q هل يشترط للإمام في الصلاة أن يكون ملتحياً؟ A نقول: لا يشترط لصحة الصلاة أن يكون ملتحياً، لكني كنت أتمنى أن يكون السؤال كالآتي: هل يشترط في إيمان المسلم أن يكون ملتحياً؟ هكذا ينبغي أن يكون السؤال. ومن كان منكم لا يزال مبتلىً بهذه المعصية فلا يشكلن عليه تحويل السؤال على النحو السابق، إلا من كان يرى أن الإيمان لا يقبل الزيادة، فحينئذٍ سيفهم أن هذا السؤال معناه: أن حليق اللحية خارج من الإيمان فليس بمسلم، لكن إذا علمتم أن الإيمان يقبل الزيادة، وأنه مراتب لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ فحينئذٍ تفهمون الفهم الصحيح: وهو أن من كان حليقاً فإيمانه ناقص، بحيث يمكن إذا كان لنا أن نقيس على بعض تعابير الرسول عليه الصلاة والسلام، يمكننا أن نقول: لا إيمان له، لكن ليس لنا مثل هذا القياس، ولنقس عليه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) ، وفي هذا الحديث نفى الرسول عليه الصلاة والسلام الإيمان عمن لا أمانة له، الذي لا يؤدي الأمانات إلى أهلها، وهو يعني: الإيمان الكامل الذي إذا تحقق به صاحبه كان ذلك بشيراً له أنه من أهل الجنة، أما إن نقص عن ذلك فهو يستحق دخول النار، أما هل يدخلها أو لا؟ فهذا أمره إلى الله وحسابه عند الله. لذلك نقول: حلق اللحية معصية كبيرة، فهي وإن لم تكن شرطاً من شروط صحة الصلاة؛ لأن كون الشيء شرطاً من شروط صحة الصلاة قد يتوهم بعض الناس أنه أمر كبير، مع أن العكس هو الصواب؛ فإن كون الشيء شرطاً من شروط الإيمان الكامل أخطر من أن يكون شرطاً من شروط صحة الصلاة، مثلاً: يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم وليس على عاتقيه من ثوبه شيء) ، لو صلى الإنسان ونصف بدنه الأعلى عارٍ، هذا معروف عند جميع الناس إلا أهل العلم بالحديث أنه لا شيء عليه؛ لأنه صلى ساتر العورة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يلفت النظر إلى أن في الصلاة شيئاً آخر يليق بالصلاة، وهو أن يستر القسم الأعلى من بدنه أيضاً، كما قال: (من وجد إزاراً ورداءً فليتزرْ وليرتدِ، فإن الله أحق أن يتزين له) لكن هذا الرجل لو خرج يمشي في الطريق كاشفاً القسم الأعلى، فليس عليه بأس إطلاقاً من الناحية الإسلامية، أما أهل الأرض فإذا خرجت وأنت مكشوف القسم الأعلى وهو ليس بعورة عيرك الناس حتى النساء، مع أنك رجل أما إذا خرجن وهن مكشوفات القسم الأدنى فلا بأس، وهو من الموضة. المهم أن الكشف خارج الصلاة لا بأس فيه، فإذا كان الحكم حكماً عاماً يتعلق بالمسلم خارج الصلاة فلا يجوز أن يكون حليقاً، فحينئذٍ هذا الحكم أخطر من أن يكون شرطاً من شروط الصلاة، يمعنى: لو كان لا يجوز للمسلم أن يمشي مكشوف القسم الأعلى، هذا أخطر وأشد في الحكم مما هو عليه الآن، لا يجوز هكذا أن يصلي، لكن يجوز أن يمشي هكذا، ولذلك يجب أن نتنبه للأمور ونضعها في مواضعها. فحلق اللحية ليس خاصاً بالصلاة؛ بل هي معصية خارج الصلاة وداخل الصلاة، لكن الإنسان لو صلى وهو حليق فصلاته صحيحة، كما أن إيمانه صحيح، لكن إيمانه ناقص، وصلاته ناقصة بطبيعة الحال. ولذلك فنحن نغتنمها فرصة ونذكر المبتلين بأن يحاولوا الخلاص من هذه المصيبة؛ لأنها مصيبة الدهر، والواقع لا يشعر بقباحتها إلا الذين عافاهم الله عز وجل مما ابتلى به غيرهم. إن أخطر ما يخشى على جماهير المبتلين بهذه المعصية أنه لن يبقى عندهم حتى المرتبة الأخيرة من مراتب إنكار المنكر؛ لأنه مات حسهم بأن هذه معصية، قال عليه الصلاة والسلام كما تعلمون جميعاً: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فإذا مات القلب ولم يعد يحس بأن هذه معصية فليس وراء ذلك ذرة من إيمان، كما جاء في حديثٍ آخر. لذلك أرجو أن يبادر المبتلون إلى طاعة الله والرسول، والخلاص من هذه الموبقة والمعصية.

حكم حلق الشارب

حكم حلق الشارب Q ما حكم حلق الشاربين في الدين؟ وهل حرمته كحرمة حلق اللحى؟ A هذا السؤال طريف؛ لأن الواقع حلق الشاربين له صورتان: كان بعض السلف من الصحابة وغيرهم، ممن ائتمروا بقوله عليه الصلاة والسلام: (وأعفوا اللحى) كانوا يحلقون شواربهم، وذلك فهمٌ منهم للطرف الأول من الحديث: (أحفوا الشارب) أو (حفوا الشارب) وفي رواية: (انهكوا) وفي أخرى: (جزوا) فهموا من هذه الأحاديث استئصال الشارب، فكانوا يستأصلون الشارب ويعفون اللحى، كما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام. لكن علماء آخرون لم يفهموا فهمهم الخاص للشوارب، وإنما فهموا أن المقصود بالاستئصال والحف والجز هو ما يزيد على الشفة، وليس استئصال الشارب من أصله وجذره، ولهم أدلة كثيرة على ذلك لسنا الآن في صددها، من أوضحها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث المغيرة بن شعبة: (أن رجلاً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد وفى شاربه -أي: نما وطال- حتى سد الشفة) كما هو شأن بعض الذين خرجوا عن الإسلام قديماً وحديثاً، ممن يتشبهون بـ استالين ولينين وأمثالهم، فيطيلون شواربهم: (فأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام سواكاً، فوضعه تحت ما طال من الشارب، وأخذ مقراضاً -سكيناً- فقرضه) فكان هذا بياناً عملياً من الرسول عليه الصلاة والسلام لقوله: (أحفوا الشارب) بمعنى: استأصلوا ما زاد على الشفة، هذا هو الصواب في مسألة الشارب وليس الحلق. ولكن إذا كانت النيات لها علاقة ببعض الأعمال أحياناً، فلا شك أن ثمة فرقاً كبيراً بين أولئك الذي يأتمرون بالأمرين: بإحفاء الشارب، وإعفاء اللحى، ولكنهم يخطئون في فهم معنى الإحفاء، لا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين هؤلاء الذين يستأصلون شواربهم، وبين الشباب اليوم الذين يستأصلون الشارب مع اللحية من باب التشبه بالكفار. ولذلك إذا كان الدافع على حلق الشارب هو التشبه فهذا لا يجوز، وإذا كان الدافع على ذلك هو الفهم الخطأ، فهو خطأ وصاحبه مأجور عليه أجراً واحداً، وهو غير آثم.

النهي يفيد التحريم

النهي يفيد التحريم Q أحاديث النهي هل تفيد التحريم لا الحصر مثلاً: (حفوا الشارب واعفوا اللحى) ؟ A نعم. الأصل في الأمر يفيد التحريم، ويفيد الوجوب مخالفة التحريم، وهناك أمور كثيرة جداً اقترنت مع أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى، نصبت القول فيها في كتابي: آداب الزفاف في السنة المطهرة، فمن شاء التوسع فليرجع إليه.

حكم الأخذ من اللحية بعد أن تبلغ القبضة

حكم الأخذ من اللحية بعد أن تبلغ القبضة Q هل يجوز للمرء أن يأخذ من لحيته قبل أن تبلغ قبضة؟ أي: هل الواجب هو مجرد الإطلاق أم القبضة؟ A الذي نختاره القبضة، والمسألة فيها نظر، والأحسن اتباع السنة على كل حال.

التأويل

التأويل تناول الشيخ هذا الموضوع بتوثيقه لغة واصطلاحاً، وربطه بمنهج السلف، ثم أردف أسباباً وقع بسببها أهل الانحراف في أوحال تحريف الآيات عن معناها المراد منها. وتقريباً لأبعاد الموضوع فقد ضربت أمثلة منها: مسألة المجيء، ومسألة الكلام، ومسألة هل الله في مكان أم لا.

حقيقة التأويل

حقيقة التأويل Q نرجو أن تتفضلوا لنا بشرح وافٍ لكل ما يتعلق بموضوع التأويل، وجزاكم الله خيرا. A التأويل له مفهومان: مفهوم لغوي، ومفهوم اصطلاحي. المفهوم اللغوي هو مرادف لمعنى التفسير تماماً، كما جاء في كثير من الآيات: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82] (تأويل) أي: تفسير {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] أي: تفسير، وهكذا فهذا التأويل بهذا المعنى. وللتأويل معنى اصطلاحي، وهذا الذي يجري كثيراً في أقوال العلماء، فمعنى التأويل اصطلاحاً هو: إخراج معنى النص من قرآن أو حديث عن ظاهره إلى معنى آخر يدل عليه الأسلوب العربي، كمثل: تفسير آية ما بالمجاز دون الحقيقة، فتفسير الآية في الحقيقة هو تفسير في الاصطلاح، وتفسير الآية بالتأويل بمعنى: إخراج النص عن ظاهره، هو التأويل المصطلح عليه، وهو على ما يبدو لي المراد بالسؤال.

التأويل بين السلف والخلف

التأويل بين السلف والخلف فمثلاً الآية التي اختلف السلف والخلف في تفسيرها: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فما معنى استوى؟ معنى استوى بدون تأويل: استعلى، وهذا هو تفسير السلف، ومنهم أبو العالية، كما رواه البخاري في صحيحه. أما الخلف فيؤولون الآية، أي: يخرجون معناها عن ظاهرها إلى معنى آخر يبدو لهم، فيقولون -مثلاً-: استوى أي: استولى، فهذا المعنى الذي فيه خروج عن ظاهر الآية هو التأويل، والأمثلة على ذلك كثيرة: فمثل قوله تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فتفسير هذه الآية (وجاء ربك) كما قال بعض السلف: تفسيرها قراءتها، أي: أمر ظاهر (جاء ربك والملك) . أما تأويلها، بمعنى إخراج النص عن ظاهره (جاء ربك) أي: بعض آيات ربك، أو بعض ملائكة ربك، فهذا هو التأويل. فإذاً: التأويل في الاصطلاح هو: الإتيان بمعنى للنص، سواء كان قرآناً أو سنة، لا يجري عليه ظاهر النص، وإنما يشار إليه بطريق المجاز أو الكناية أو نحو ذلك. ومثل هذا التأويل لا يشرع عند علماء السلف، ولا يجوز المصير إليه إلا حينما تتعذر الحقيقة، أي: يتعذر ولا يمكن تفسير النص بدون تأويل؛ حينئذٍ يذهبون إلى التأويل، ومن هنا جاء الخلاف بين السلف والخلف الخلف يتوسعون كثيراً في تأويل الآيات، ويخرجونها عن دلالاتها الظاهرة لمجرد إبعادهم المعنى الظاهر من الآية، وكثيراً ما يكون الاستبعاد الذي قام في أذهانهم، سببه في الحقيقة قياسهم الغائب على الشاهد، وإذا كانت الآية التي يتأولونها تتعلق بالله عز وجل وبصفاته، فهذا أبعد ما يكون عن الصواب حينما تؤول الآية تأويلاً يصرف نص الآية عن ظاهر دلالتها. فها هنا -مثلاً- {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] ما تركوا الآية على ظاهرها كما هو واضح، وإنما قالوا: جاء بعض آيات ربك، لماذا؟ قالوا: لأن الله لا يوصف بأنه يجيء، واستلزموا من المجيء الحركة، فقالوا: الله لا يوصف بأنه يتحرك، وهذا الكلام معناه: أن هؤلاء المتأولين نظروا إلى رب العالمين نظرتهم إلى خلقه، فكما أن الإنسان يوصف بالحركة قالوا: إنه من الضروري ألا نصف الله بما يوصف به الإنسان، فالحركة للإنسان هذه صفته، فلا يجوز أن نصف الله ببعض الصفات التي هي من صفات البشر، فهذا الذي اضطرهم إلى التأويل: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] كمثال ولا شك عند العاقل أنه إذا نظر إلى هذا السبب الذي حملهم إلى التأويل؛ لتبين له بأنه سبب من أضعف الأسباب، بل هو سبب باطل؛ ذلك لأن لازم هذا السبب وقصاراه ما دام أن البشر يتحرك فلا يجوز أن نصِف الله بأنه يتحرك، وما دام أن البشر يجيء فلا يجوز أن نصِف الله بأنه يجيء -وهو باطل بلا شك في الأصل- ما دام أن البشر يبصر ويرى فلا يجوز أن نصف الله بأنه يبصر ويرى ما دام أن البشر يسمع فلا يجوز أن نصف الله بأنه يسمع، بينما نصوص الكتاب والسنة متضافرة متتابعة متواترة على وصف الله عز وجل بأنه يسمع ويرى، قال تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] كذلك قال ربنا تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فهل هناك ضرورة لتأويل هذه النصوص التي تثبت لله عز وجل صفة السمع والبصر بمجرد اشتراك الإنسان مع الله اشتراكاً لفظياً في السمع والبصر؟ لو أنهم فعلوا ذلك لوقعوا في مثل ما وقع المعتزلة من قبلهم؛ فإن المعتزلة اشتطوا في التأويل، فأنكروا السمع والبصر أيضاً، بينما الأشاعرة -مثلاً- الذين تأولوا المجيء فنسبوا المجيء إلى غير الله، والله عز وجل يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] فهؤلاء الذين تأولوا من الأشاعرة هذه الآية لم يتأولوا: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فما أنكروا السمع والبصر، لكن المعتزلة غلوا فأنكروا السمع والبصر.

طريقة إنكار أهل التحريف لآيات الصفات

طريقة إنكار أهل التحريف لآيات الصفات هل أنكروا الآيات المثبتة لهاتين الصفتين، أي: صفة السمع والبصر؟ A لا. ولكنهم أنكروا حقائق معانيها، فقالوا: سميع، بصير، عليم، يساوي عليم شيء، وبصير شيء، وسميع شيء آخر! هذا الذي يسميه علماء السلف بالتعطيل، أي: أنهم عطلوا دلالة الآية على أن الله سميع وبصير بطريق التأويل، فقالوا: وصف الله عز وجل لذاته بأنه سميع بصير كناية عن أنه عليم.

شبهة المؤولة والرد عليها

شبهة المؤولة والرد عليها ما هي الضرورة التي اضطرت هؤلاء إلى تأويل هذا النص تأويلاً يؤدي إلى إنكار هاتين الصفتين؟ قالوا: لأنه إذا قلنا: إن الله سميع حقيقة، معناه: شبهناه بالبشر الذي يوصف بأنه سميع وبصير، فالله وصف آدم فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] هذه هي الشبهة التي إليها استند المؤولة الذين يؤولون الآيات ويخرجونها عن دلالتها الظاهرة، وهذه الشبهة تتلخص بأنهم ينظرون إلى أن الله عز وجل إذا وصفناه بما وصف به نفسه فقد شبهناه بخلقه، ونحن لا يجوز لنا أن نشبهه بخلقه. والرد عليها باختصار وبسهولة بالغة أن يقال: إن الله عز وجل لما أثبت لنفسه السمع والبصر قدم بين يدي ذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فالله عز وجل في مطلع هذه الآية نزه نفسه أن يشابه أحداً من خلقه في شيءٍ من صفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فبعد أن نزه ونفى أن أحداً من خلقه يشبهه تبارك وتعالى في شيء من صفاته؛ أثبت لنفسه تبارك وتعالى صفة السمع والبصر فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ، فطريقة الرد على هؤلاء المؤولة أن يقال لهم: إذا قلنا: إن الله سميع، نقول: ليس كمثل سمعه شيء، وإذا قلنا: بصير؛ ليس كمثل بصره شيء، كذلك حينما نقرأ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] نقول: مجيئه لا يشبه مجيء البشر؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] .

لازم مذهب المؤولة إنكار وجود ذات الله

لازم مذهب المؤولة إنكار وجود ذات الله وإذا اضطرد هؤلاء المؤولة في تأويل آيات الصفات؛ أدى بهم التأويل إلى إنكار وجود ذات الله، والسبب في هذا أننا نقول ببساطة لهؤلاء المؤولة: الله موجود وجوداً حقيقياً أم هو عدم؟ لا شك أنهم سيقولون: هو موجود. فيقال لهم: الخلق الذي خلقه الله؛ كبشر، وحيوان، وشجر، وحجر، موجود أم عدم؟ فيضطرون أن يقولوا: موجود. إذاً: هنا وجودان: وجود خالق المخلوقات كلها، ووجود المخلوقات نفسها، فهل إذا قلنا: إن المخلوقات موجودة والله موجود معنى ذلك: أننا شبهنا الله بمخلوقاته، أو شبهنا مخلوقات الله به نفسه؟ A لا؛ لأننا سنقول: الله موجود منذ الأزل؛ أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية، والإنسان ليس كذلك. إذاً: عندما أثبتنا لله وجوداً أثبتنا له وجوداً ينافي وجود البشر؛ كذلك إذا أثبتنا لله سمعاً، وبصراً، ومجيئاً، واستواءً، ونزولاً، ويداً إلى آخر ما هنالك من صفات كثيرة منصوص عليها في الكتاب والسنة، فإنما نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات. باختصار: لله صفة الوجود وللمخلوق صفة الوجود، فهذا الإثبات للوجودين ليس معناه إثبات وجود مشابه لوجود، فوجود الله يليق بأزليته وبخالقيته، ووجود الإنسان يليق بضعفه وعجزه، وكونه كان عدماً فأوجده الله تبارك وتعالى. إذاً: إثبات كون أن هناك مباينة في الصفة الإلهية عن صفة المخلوقات، هذه المباينة هي التي تنفي المشابهة، وهي التي تجعلنا نؤمن بالصفات كما جاءت في الكتاب والسنة، دون تشبيه بالمخلوقات؛ لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ودون تعطيل، أي: إنكار للصفات؛ لأن الله أثبت لنفسه الصفات منها: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .

المعطل يعبد عدما والمجسم يعبد صنما

المعطل يعبد عدماً والمجسم يعبد صنماً وما أحسن ما يقوله ابن القيم رحمه الله في هذه المناسبة: المعطل يعبد عدماً، والمجسم يعبد صنماً. المعطل يعبد عدماً، لماذا؟ لأن الله تعالى يقول {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] وهو يقول لك: ما جاء ينزل من السماء الدنيا في آخر كل ليلة فيقول: (ألا هل من داعٍ ... ) وهو يقول: ما ينزل استوى على العرش، وهو يقول: ما استوى على العرش له يد، وهو يقول: ليس له يد. هذا هو الإنكار! لماذا تقول: ما استوى وما يجيء؟ يقول: لأن فيه مشابهة لمن يجيء من مخلوقاته. وكذلك سميع بصير فيه مشابهة، إذاً: ليس سميعاً وليس بصيراً. إذاً: هو موجود؟ إن قال: موجود، أقول: أنا أيضاً موجود، وهنا مشابهة! فالخلاص من هذا أن نقول: إن وجوده ليس كوجودنا، وبصره ليس كبصرنا وكل صفات الله ليست كصفات المخلوقات، فـ المؤولة وفي مقدمتهم المعتزلة ثم من يليهم من بعدهم الأشاعرة، يصل بهم الأمر أنهم إذا قالوا: نحن نعبد الله، فإنما يعبدون عدماً؛ لأنه: ما هي صفات هذا الإله؟ لا نعرف الله إلا بما وصف به نفسه، فإذا جئنا إلى الصفات التي يصف بها نفسه فأولناها، أي: أخرجناها عن معانيها الواضحة بحجة أنّا إذا قلنا: جاء، فالإنسان يجيء، إذا قلنا: سميع، الإنسان سميع، قال علماء السلف: هذا هو التعطيل! الله أيضاً له ذات، ولكل منا له ذات! إذاً نقول: لا ذات لله عز وجل، رجع إيمانهم بالله إلى العدم، لذلك قال ابن القيم: المعطل يعبد عدماً؛ لأنه لا يثبت لله صفة، حتى صفة السمع والبصر تأولها إلى صفة العلم، لكن هو سيضطر إلى تأويل العلم أيضاً؛ لأننا نقول: الله عالم، وكذلك فلان عالم، والله تعالى قال في القرآن الكريم: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] .

الاشتراك بين صفات الله وبين صفات المخلوقين اشتراك لفظي لا معنوي

الاشتراك بين صفات الله وبين صفات المخلوقين اشتراك لفظي لا معنوي إذاً: الله عالم، والإنسان عالم، نقول: إن الله ليس بعالم؛ لأنه صار هناك اشتراك -بزعمهم- بين الإنسان العالم وبين الرب العالم، وهذا على طريقتهم ليس لهم جواب إطلاقاً! أما على طريقة السلف فنقول: الله عالم علماً ليس كعلم البشر، ومن الواضح أن علم الله ذاتي، أما علم الإنسان فهو اكتسابي، أي: أن الإنسان كان جاهلاً فتعلم، أما الله عز وجل -إن صح التعبير- ففي طبيعة ذاته تبارك وتعالى هو عالم، فلم يكتسب العلم بعد أن كان جاهلاً، كما هو الإنسان. فإذاً: الاشتراك بالاسم لا يضره، أي: إذا قلنا: إن الله سميع، وقلنا: إن الإنسان سميع، فهذا ليس تشبيهاً؛ لأنه مجرد اشتراك في الاسم. نحن نقول -مثلاً: الإنسان موجود والحيوان موجود، إذاً: إما أننا رفعنا الحيوان إلى صف الإنسان، أو أننا نزلنا الإنسان من مرتبته التي وضعه الله فيها إلى مرتبة الحيوان، لمجرد الاشتراك في الوجود، والأمر ليس كذلك. وإنما نقول: وجود الإنسان يتناسب مع إنسانيته، ووجود الحيوان يتناسب مع حيوانيته، كذلك يقال: الجماد موجود فعلاً، فهل وجود الجماد كوجود الحيوان الصامت أو الناطق؟ A لا. إذاً: هذا يسميه العلماء: اشتراك لفظي، فوجود الجماد والإنسان والحيوان وخالق الموجودات كلها، هذا كله اشتراك لفظي، أما الحقيقة فلا اشتراك فيها أبداً، فوجود الجماد غير وجود الحيوان حقيقة، ووجود الحيوان الأعجم الذي لا ينطق غير وجود الإنسان الناطق حقيقة، ووجود هذا الإنسان غير وجود الملائكة، ووجود الجن، ووجود هذه المخلوقات كلها غير وجود واجد الوجود سبحانه وتعالى. كذلك يقال تماماً عن كل الصفات التي يأتي ذكرها في الكتاب والسنة. فالله يجيء قطعاً؛ لأن النص صريح: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] لكن ليس ضرورياً أن نتصور نحن أنه يأتي على رجليه، أو يأتي على السيارة أو الطيارة. إلخ مما هو من طبيعة الإنسان، هنا نقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] . فالمذهب السلفي هو الجمع بين التنزيه وبين الإثبات، نثبت وننزه، أما مذهب المعتزلة ومن تأثر بمذهبهم من الأشاعرة وغيرهم، فهو لما ضاقت عقولهم عن أن يعقلوا أن هناك وجوداً لله عز وجل حقيقياً ينافي وجود المخلوقات، فهم اضطروا أن يقولوا: لا يجيء ما استوى على العرش، ولا ينزل، وليس له يد، ولا يتكلم، وهذه مشكلة أكبر وأكبر بكثير جداً!

وجود الله تعالى حقيقي أزلي له صفات

وجود الله تعالى حقيقي أزلي له صفات كل المسلمين يشتركون على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم أن الله عز وجل حقيقة، وليس معناً قائماً في الذهن، يعني: هو له وجود خارج الكون وجود حقيقي، وليس هو معنى يتخيله الإنسان فكل موجود له صفات ولا شك وإلا فهذا يكون خيالاً، فالله عز وجل وجوده حقيقي وأزلي. ما هي صفات هذا الموجود الأزلي؟ العقل قد يدرك شيئاً منها، ولكن لا يستطيع أن يستقصي الصفات كلها إلا بطريق النقل الذي هو عبارة عن الكتاب والسنة، فإذا جئنا إلى هذه النصوص التي وردت في الكتاب والسنة تصف هذا الموجود الحقيقي، وهو واجب الوجود سبحانه وتعالى بصفات، فكأن موقفنا تجاه تلك الصفات تأويلها وتعطيل معانيها، بقي وجود الله عز وجل وجود خيالي لا حقيقي؛ لأننا قلنا: إن الوجود الحقيقي له صفاته المناسبة له، فإذا جئنا إلى كل صفة فتأولناها بغير ما يدل عليه النص؛ حينئذٍ كأننا آمنا بوجود خيالي لا حقيقة له. فكما قلنا آنفاً وأكرر وأقول: الله عز وجل وصف نفسه بصفات كثيرة، فهو يقول: يجيء، ويسمع، ويرى إلخ، فإذا قلنا: لا يسمع، لا يرى إلخ، معناها أننا ما وصفنا هذا الوجود الحقيقي الغائب عنا، وإن لم نصفه ما حكمنا بوجوده إلا حكماً ذهنياً.

من أمثلة التأويل: قولهم: إن القرآن حادث

من أمثلة التأويل: قولهم: إن القرآن حادث وضربت لكم بعض الأمثلة السابقة، والآن أريد أن أضرب مثلاً آخر لخطورته. أظن أن الكثيرات منكن يعلمن الخلاف بين المعتزلة وبين أهل السنة بصورة عامة في القرآن الكريم، فـ المعتزلة يقولون: إنه حادث، وأهل السنة يقولون: هو قديم أزلي لماذا؟ لأن أهل السنة يقولون: القرآن كلام الله؛ فهو صفة من صفات الله، والله أزلي بصفاته، فإذاً: صفة الكلام ليست حادثة، وإنما هي صفة أزلية لله قديمة كذاته. والمعتزلة يقولون: كلام الله الذي هو القرآن حادث، والله ما تكلم. كيف هذا والله تعالى يقول: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] أثبت الله لنفسه كلاماً في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات: قال الله كذا وكذا، وقال وتكلم كله يدل على أن لله صفة الكلام، كل هذه النصوص أنكرها المعتزلة.

شبهة تأويلهم لصفة الكلام والرد عليها

شبهة تأويلهم لصفة الكلام والرد عليها هل أنكروها بمعنى أنهم قالوا: ليس في القرآن: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ؟ لا. وإنما أنكروها بتأويلها، أي: بتعطيل معانيها، لماذا؟ قالت المعتزلة: إذا قلنا: إن الله يتكلم فالإنسان يتكلم، فشابهنا الله بالإنسان، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن نقول: إن الله يتكلم، إذاً: هذا الكلام الذي بين أيدينا ليس هو كلام الله، قالوا: هذا الكلام -تخيلوا شيئاً- سجله الله في اللوح المحفوظ، ثم نقله جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن تكلم به إذاً؟ لا بد أن يتكلم به إما جبريل حين أنزله، أو أيضاً جبريل خيله في قلب الرسول عليه السلام، ورسول الله عبر عنه للصحابة، فإذاً: معنى قول المعتزلة: هذا القرآن ليس كلام الله، أي أنه تكلم به غير الله. وحينئذٍ اشتركوا مع الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] وهم المشركون الذين كذبوا الرسول عليه السلام في قوله: هذا كلام الله أوحاه إلي، فكذبوه وقالوا: لا. هذا كلامك، فيلتقي المعتزلة المؤمنون بالله ورسوله، وبأن دين الإسلام قائم على القرآن وعلى الحديث، يلتقون بشؤم التأويل مع هؤلاء الكفار الذين نسبوا القرآن إلى أنه من قول البشر. وكل إنسان يعلم أن الكفر يتحقق؛ سواءً قيل: هذا القرآن هو قول البشر، أو قول ملائكي، كله كفر؛ لأن الحقيقة أنه كلام الله تبارك وتعالى، فما الذي أودى بـ المعتزلة إلى هذه الهوة السحيقة، فأنكروا أن يكون القرآن الكريم كلام الله، ولذلك قالوا: هو حادث؟ هو من فضائل التأويل، أي: من شؤم التأويل الذي أودى بهم إلى أن ينكروا أن يكون لله كلام أصلاً، وبالتالي أنكروا أن يكون هذا القرآن كلام الله تبارك وتعالى. إذاً: ما هو؟ هو إما قول محمد، وإما قول جبريل، وإما قول خلق من خلق الله الكثير، المهم أنهم يقولون صراحة: ليس هو كلام الله عز وجل. والسبب هو عدم انتباههم للفرق بين وجود الله وصفاته وجوداً حقيقاً ينافي وجود المخلوق وصفاته منافاةً حقيقية، لم ينتبهوا لهذا، فقالوا: مجرد ما يشترك المخلوق مع الخالق في صفة من الصفات من ذلك الكلام؛ لزم من ذلك أن يشابه الله خلقه، أو يشابه الخلق ربههم تبارك وتعالى. وA {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، الله يتكلم ولكن كلامه ليس ككلامنا، كما أن ذاته ليست كذاتنا، وكل صفاته ليست كصفاتنا.

دليل يثبت صفة الكلام لله تعالى

دليل يثبت صفة الكلام لله تعالى ثم إن الله تبارك وتعالى خلق في هذا العصر آية فيها رد واقعي على المعتزلة وأمثالهم، ذلك لأن المعتزلة يقولون: إذا قلنا: إن الله يتكلم فمعناه أن له شفتين، ولساناً، وأسناناً، ولثة، معناه ومعناه إلخ، هذا كله من ضيق عطنهم، وقصر تفكيرهم، فلم يتسع عقلهم أن يكون الله عز وجل شيئاً حقيقياً ينافي هذه الحقائق التي خلقها الله، فخلق الله عز وجل في هذا العصر من جملة ما خلق آلة صماء بكماء هي الراديو، فنحن نسمع الراديو يتكلم بكلام عربي مبين لا له شفة، ولا له أسنان، ولا له لهاةً، ولا أي شيء، هذا في الحقيقة من أكبر آيات الله في هذا العصر للرد على المؤولة -أي: المعطلة - الذين يتخيلون أنه من الضروري أن يكون الله مثلنا في صفة كلامه، لكن هو ليس مثلنا، إذاً: أنكرنا كلامه، فخلق الله عز وجل الراديو يتكلم بدون أي آلة، فالأخرس -مثلاً- لماذا لا يتكلم؟ فيه نقص-وأنا لست طبيباً- في تركيبه الجسدي، فلم يستطع أن يتكلم، فالله عز وجل خلق الراديو يتكلم بأوضح كلام بأي لغة من لغات الدنيا، وهو ليس له أي آلة من آلات الإنسان التي يتكلم بها عادة! فإذا كان الله خلق آلة جامدة تتكلم بدون هذه الوسائل، أليس الله عز وجل بقادر على أن يتكلم بدون لسان وشفتين وأسنان؟! بلى. إنه على ذلك قدير! فانظروا إذاً كيف أن المعتزلة ضاق عقلهم أن يتفكروا ويعلموا أن الله إذا وصف نفسه بأنه يتكلم، فليس ضرورياً أن يكون كالإنسان له أعضاء الإنسان التي يتكلم بها هذه آية من آيات الله -الراديو- كما قلنا! باختصار، هذا التأويل الذي ذهب إليه كثيرٌ من المتأخرين وقليلٌ من المتقدمين، كان سبباً لانحراف علماء كبار عن طريق السنة والصحابة، الذين كانوا يؤمنون بكل ما وصف الله عز وجل به نفسه بشرط الإثبات والتنزيه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .

إنكار المعتزلة لمسألة الاستواء وشبهتهم في ذلك

إنكار المعتزلة لمسألة الاستواء وشبهتهم في ذلك حينما أنكر المعتزلة أن الله استوى على العرش -وهذا مثال آخر وله علاقة بحياتنا الفكرية والعقائدية القائمة اليوم- حينما أنكروا أن الله على العرش، كما قال تعالى صراحة: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لماذا أنكروا؟ قالوا: لأننا إذا قلنا: استوى بمعنى استعلى، معناه: وضعناه في مكان، والله منزه عن المكان. وهذا أيضاً جاء من ضيق عقلهم وتفكيرهم، والحقيقة كما يقول -أيضاً- ابن القيم تبعاً لـ ابن تيمية: إن المعتزلة وأمثالهم حينما يتأولون النصوص يتقدم تأويلهم أنهم فهموا من النصوص التشبيه، فهموا أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] مثلما يستوي الشيخ على كرسيه، أو السلطان على عرشه، وهو عز وجل لا ينبغي أن يكون كذلك، إذاً: (استوى) ليس معناه (استعلى) . فمعنى التأويل أنه سبق إلى ذهنهم التشبيه، وإلا لو لم يفهموا التشبيه لما كان بهم من حاجة إلى تأويل، وأنا أُفصِّل لكم هذا لضرورة المسألة: هم فهموا أن الخالق كالمخلوق من جملة أن المخلوق لو أزيل عنه الكرسي لوقع على أم رأسه، الله عز وجل قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، فإذاً: الله حينما استوى -أي: استعلى على العرش- ليس كالإنسان، فلذلك جاء في كلام بعض العلماء في هذه النقطة بالذات شعر فقهاء فيه علم، قال: ورب العرش فوق العرش لكن بلا وصف التمكن واتصال يعني: قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6] فهو غني عن العرش أن يجلس عليه، وإنما له تبارك وتعالى صفة العلو.

مناظرة مع عالم من علماء الأزهر حول مسألة المكان

مناظرة مع عالم من علماء الأزهر حول مسألة المكان وكما قلت مراراً وتكراراً، وكان آخر هذا القول في موسم مضى في الحج: جاءنا رجل من علماء الأزهر، فجرى حديث طويل بيني وبينه في هذه القضية، من جملتها قلنا له: أليس الله كان ولا شيء معه؟ قال: نعم، قلنا: هذه نقطة تلاق، لا خلاف بيننا والحمد لله. قلنا له: إذ كان الله لا شيء معه، هل كان في مكان؟ قال: لا. قلت: وهذا هو اعتقادنا، فالله عز وجل لما خلق الخلق بعد أن كان عدماً هل دخل فيه وامتزج فيه امتزاج الماء في الثلج، أو السمن والزبدة في الحليب، أم بقي مستغنياً عن خلقه؟ قال: بقي مستغنياً عن خلقه. قلنا له: إذ بقي مستغنياً عن خلقه، هل هو لا يزال ليس في مكان كما اتفقنا آنفاً؟ قال: نعم. ليس في مكان. إذاً: الله ليس في مكان قبل الخلق وبعد الخلق. ثم قلت له: المكان شيء وجودي أم عدمي؟ أي: يتخيله في الذهن أم هو له وجود حقيقي؟ قال: له وجود حقيقي، مكان يجلس فيه الإنسان يتمتع به. إلخ. هذه كانت الخطوة الأولى في التلاقي معه، وسلسلنا الأسئلة واتفقنا. قلنا: فلما خلق الله الخلق، هل ظل كما كان مستغنياً عن الخلق وليس في مكان؟ قال: نعم. قلنا: لما خلق الله الخلق -العقل الآن يحكم بشيء من شيئين، والشرع هو المرجح- فإن العقل يقول: إما أن يكون الله عز وجل حينما خلق الخلق وهو فوق خلقه، وإما أن يكون خلق خلقه فوق ذاته، هل يمكن هذا؟ لم يبق إلا الأمر الأول وهو أن يكون الله عز وجل فوق المخلوقات، هذه الفوقية التي يحكم بها العقل ضرورة، هي التي أخبر الله بها في كتابه وفي حديث نبيه، أما الكتاب فخذوا ما شئتم، أشهر هذه الآيات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استعلى، ومنها آية نقرؤها ونمر عليها مر الكرام، ولا نتنتبه إلى أن الله عز وجل يصف فيها شيئين: الشيء الأول: ذاته تبارك وتعالى، نصفه بصفة الفوقية. الشيء الثاني: يصف المؤمنين بأنهم يؤمنون بهذه الصفة، فيقول تبارك وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] أي: أن المؤمن حينما يخشى الله إما دائماً وأبداً، وهذه من صفات الأنبياء والرسل، وإما أحياناً، فهو يلاحظ حين يخشاه ويخافه أنه يخاف رباً على العرش استوى، فإذاً: هذه الآية من جملة الآيات التي تثبت فوقية الله على عرشه وعلى خلقه جميعاً. قلت للشيخ: ما رأيك هل أنت تؤمن معي بهذا الكلام؟ قال: نعم. قلت: فأين المكان الذي تتهمونا؟ المكان هو طبيعة المخلوق، فالله عز وجل فوق المخلوقات، أي: حيث لا مكان ولا زمان؛ لأن الله الآن من هذه الحيثية كما كان، وسلسلنا الموضوع معه كان الله ولا شيء معه، هل كان في مكان؟ قال: لا. فلما تسلسلنا معه في البحث وصلنا إلى نقاط تلاقينا فيها، لكن لا هو شعر أننا أثبتنا لله مكاناً، ولا أنا أيضاً شاعر بأنني أثبت لله مكاناً، فقلت له: إذاً: لماذا تتهمون السلفيين الذين يثبتون ما وصف الله به نفسه، ومنها صفة الفوقية وصفة العلو، أنهم حصروه في مكان؟ لكن الحقيقة (اعكس تصب) الذين أنكروا صفة الله هذه، وأنه فوق مخلوقاته كلها، هم الذين حصروه في مكان، والدليل على هذا الذي أقول: ألسنة الناس اليوم ما بين عالم وجاهل لا فرق في ذلك بينهم، هم الذين يقولون: الله موجود في كل مكان، معناها: إنكار ما جاء في كتاب الله وفي حديث رسول الله معناها: أن الله ليس فوق المخلوقات؛ لأنه لا يوجد فوق المخلوقات مكان كما شرحنا لكم؛ لأنه عدم، كان الله ولا شيء معه إطلاقاً، فلما خلق المخلوقات، بخلق المخلوقات وجد الزمان المكان، فهو سبحانه ما حل في هذا المكان ولا حل في هذا الزمان، فإذاً: الله مستغن عن المخلوقات بما فيه الزمان وبما فيه المكان، فالله ليس في مكان. هذه عقيدة أهل السنة أو السلفيين بالعبارة الصريحة. أما جماهير الناس اليوم فهم يقولون عبارتين كلتاهما تؤديان إلى ضلال معتقدها، يقولون: الله موجود في مكان، أو الله موجود في كل الوجود. الله موجود في كل مكان: هذا مكان المطبخ مكان، وغير المطبخ أيضاً مكان، فالله في كل هذه الأمكنة؟! هذا معنى كلام الناس، الله موجود في كل مكان في الحمام في الأسواق في السينمائيات في إلخ، المكان اسم جنس يشمل كل مكان طاهر أو قذر، فلما يقول القائل: الله موجود في كل مكان، معناه: هو في كل هذه الأمكنة، الأماكن الطاهرة والقذرة، مع أنه لا يجوز لمسلم أن يقول: إن الله موجود في الأمكنة الطاهرة! لا يجوز أن يقول هذا؛ لأننا إذا قلنا: الله موجود في الأمكنة فقد حصرناه، وهو مستغن عن خلقه جميعاً، وهو فوق السماوات كلها.

شرح حديث الجارية في إثبات علو الله تعالى

شرح حديث الجارية في إثبات علو الله تعالى وأخيراً نروي الحديث الآتي تأكيداً لهذه العقيدة، أي: عقيدة استواء الرب على عرشه، واستعلائه على جميع خلقه من جهة، وكدليل لإبطال التأويل الذي مصيره إنكار الحقائق الإلهية. يروي الإمام مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (أنه صلى يوماً وراء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعطس رجل بجانبه فقال له: يرحمك الله) معاوية بن الحكم السلمي يقول للذي عطس بجانبه: يرحمك الله، كأنه خارج الصلاة، لا يعلم أن هذا كلام، وأنه لا يجوز للمصلي أن يتكلم، فنظر إليه من كان عن جنبيه نظرة إسكات، فما كان منه إلا أن انزعج أكثر من قبل وقال: وا ثكل أمي! ما لكم تنظرون إلي؟! لم يعرف بعد هذا المسكين لبعده عن العلم خطأه، وأنه تكلم في الصلاة، وأن الكلام مبطل، ولو كانت بكلمة: يرحمك الله أيها العاطس، فما كان من الصحابة إلا أن أخذوا ضرباً على أفخاذهم تسكيتاً له، يقول معاوية: [فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصلاة أقبل إلي. ] تصوروا نفسية هذا الإنسان الذي شعر بعد زمن أنه مخطئ، والرسول يقبل عليه، ماذا تتصور أن يفعل الرسول معه؟! هل يريد أن يؤنبه أو أن يجهله، مثلما يعامل مشايخنا إلا قليلاً منهم؟ إذا أخطأ شخص خطيئة تافهة يتمنى من شدة التأنيب أن الأرض تبلعه، ربما تصور هذا معاوية، أي: أن الرسول عليه السلام لما أتى أليه يريد أن يخطئه ويؤنبه، قال معاوية: (فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إلي، فوالله ما ضربني، ولا قهرني، ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي تسبيح وتكبير وتحميد) لما رأى معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق اللطيف الناعم، كأنه عاد إلى نفسه يحاسبها أنه جاهل، فلا بد أن يتعلم، لذلك أخذ يلقي على النبي صلى الله عليه وسلم السؤال بعد السؤال، فقال: (يا رسول الله! إن منا أقواماً يأتون الكهان -أي: المنجمين والعرافين- قال: فلا تأتوهم، قال: يا رسول الله! إن منا أقواماً يتطيرون -يتشاءمون- قال: فلا يصدنكم) أي: إذا تشاءم فلا يتجاوب معها، بل يتم مشيه في سبيله، وهذه كلمات سريعة وتحتاج إلى شرح، وربما في مناسبة أخرى نشرحها (قال: يا رسول الله! إن منا أقواماً يخطون -الضرب في الرمل - قال عليه الصلاة والسلام: قد كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطُه خطَه فذاك -وهذه الجملة أيضاً تحتاج إلى شرح فيما بعد- قال: يا رسول الله! -وهنا الشاهد- إن عندي جارية ترعى لي غنماً في أحد، فسطا الذئب يوماً على غنمي، فلما أخبرتني وأنا بشر أغضب كما يغضب البشر فصككتها صكة -هو نادم على ما فعل- يقول: وعلي عتق رقبة) -كأنه يسأل الرسول: هل يجزيني أن أعتق هذه الجارية كفارة الظلم لها، بسبب ثورتي عليها وضربي لها تلك اللطمة؟ قال عليه السلام: (ائت بها، فلما جاءت سألها الرسول عليه السلام، أين الله؟ قالت: في السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة) . هذا حديث في صحيح مسلم، فاعتبروا يا أولي الأبصار! ومع كونه في صحيح مسلم فكثير من المشايخ اليوم ينكرون صحة هذا الحديث من حيث الإسناد، وإسناده من أصح الأسانيد، وبعضهم لا يستطيعون أن ينكروا؛ لأن السند صحيح، فماذا يقولون؟ يقولون: الرسول راعى ثقافة الجارية؛ لأنها بدوية، أي: سايرها في مفاهيمها؛ هي تعني أن الله في السماء أي: الأصنام الموجودة في الأرض ليست هي التي خلقت المخلوقات، إنما غير الأصنام -أي الله- يقولون: إن الرسول عليه السلام لما قالت: في السماء، لا تعني فوق، وإنما تعني مجرد إثبات أن لهذا الكون خالقاً، وليست الأصنام التي تعبدها أهل الجاهلية. نقول لهم: أولاً: رسول الله لا يقر على باطل، ولو كانت جارية، ولو كانت بدوية! واجب الرسول عليه السلام أن يعلم المتعلم أم يعلم الجاهل؟ فإذا افترضتم أن هذه الجارية جاهلة، وتتكلم بالباطل -في ظنكم أنتم الذين لا تثبتون أن الله في السماء- فعندما ينظرون هذا الجواب من الجارية، يقولون: الجارية مخطئة في هذا. كيف أقرها الرسول؟ قالوا: أقرها لأنها عنت معنىً مطلقاً مجرداً عن إثبات أن الله له صفة العلو، فنقول لهم: الجارية في الحقيقة يبدو لي من وراء هذه القرون الطويلة أنها أفقه من هؤلاء العلماء لسببين اثنين: لأنها أولاً: أثبتت ما أثبت الله في كتابه حيث قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16-17] فإذاً: الجارية مثقفة بثقافة القرآن، فهي أثبتت وشهدت بما شهد به القرآن، فكيف تقولون إنها كانت مخطئة في قولها: الله في السماء؟ ثانياً: هل تعتقدون أن الرسول عليه السلام يقر الباطل؟ سيقولون: لا. فكيف أقر هذه الجارية على هذا القول الذي تنكرونه؟ الجارية تقول: إن الله في السماء، وأنتم تقولون: الله ليس في السماء، فكيف وقف الرسول عليه السلام تجاه هذه الجارية موقف المقر للباطل الذي أنتم تعتقدون أنه باطل، أهذا هو إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [لنجم:3-4] ؟ هذا الحديث في صحيح مسلم، لكن الناس اليوم الذين ينكرون علو الله فوق خلقه ما بين منكر له مع صحته، وما بين مقر بأن الجارية مخطئة والرسول سايرها في كلامها؛ لأنها قصدت فقط إثبات أن الله هو الخالق. هذا من شؤم التأويل! الحقيقة أن الذي يدرس موضوع التأويل يجد له أخطاراً لا تكاد تنتهي؛ من إنكار آيات، ومن إنكار أحاديث صحيحة، فإن كان النص آية فبالتأويل، وإن كان النص حديثاً إما بطريقة الإنكار كما هو الشأن في هذا الحديث، أو بطريق التأويل كما يفعل البعض.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (قد كان نبي من الأنبياء يخط)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (قد كان نبي من الأنبياء يخط) Q ما معنى: (قد كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه فذاك) ؟ A هذا السؤال قد ألمحت إلى معناه آنفاً، يقول الرسول عليه السلام في الحديث السابق: نبي من الأنبياء كان الله عز وجل قد أنعم عليه بنعمة الضرب بالرمل، يتخذ بذلك وسيلة للاطلاع على بعض المغيبات، والاطلاع على المغيبات هو من خصوص الأنبياء والرسل، لكن لما علم ذاك النبي ضرب الخط كان ينبئه عن بعض المغيبات بواسطة الرمل، بينما الأنبياء الآخرون ينبئهم فوراً بواسطة جبريل عليه السلام، بمعنى أن الخط على الرمل علم خص الله به بعض أنبيائه معجزة له، يقول الرسول عليه السلام من باب التعليق بالمحال: فمن وافق خطه اليوم خط ذلك النبي فهو مصيب، ومن لا فليس بمصيب وإنما يتعاطى الدجل؛ لأن هذا العلم لم يبق إليه سبيل ولا طريق؛ لأنه خاص بذاك النبي، وهذا يسميه العلماء: التعليق بالمحال، وفي هذا الجواب بهذا الأسلوب نكتة، فهو بدل أن يقول: الضرب بالرمل باطل، يعطيك فائدة أن الضرب بالرمل كان علم نبي من الأنبياء السابقين، فإذاً إذا كان باستطاعتك أن يطابق علمك كعلم ذلك النبي فأنت الموفق. (ماذا سيكون الجواب؟ هل يمكن يصادف ضرب رمل إنسان غير موحى إليه ضرب ذلك النبي الموحى إليه؟. هذا اسمه: تعليق المحال، فإذاً المقصود به: التعجيز، فإن كنت تستطيع أن تعيد الأيام التي فاتت الصلاة فيها فاقض، هو يعرف أنه لا يستطيع أن يعيد الأيام، فإذاً: سيعلم إذا قضاها، كذلك إذا كان هنا إنسان باستطاعته أن يوافق خطه خط ذلك النبي فهو المصيب الموفق، وهو يعلم أن ذاك النبي مضى وانقضى وذهب بمعجزته، فكل الأنبياء الذين ذهبوا ذهبوا بمعجزاتهم. فإذاً: خلاصة معنى (فمن وافق خطه خطه فذاك) هذا تعليق المستحيل، فلا يمكن أن يوافق خط رمالي اليوم -المنجمين- خط ذلك النبي. إذاً: الضرب بالرمل أمر غير مشروع؛ لأنه تعليق المحال، كتعليق قضاء الصلاة بإعادة الأيام. وأخيراً: أسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يلهمنا أن نسلك منهج السلف الصالح في فهم الشريعة، ويحفظنا ويصوننا عن أن ننحرف يميناً أو يساراً، كما وقع في ذلك كثير من الطوائف المنتمية إلى الإسلام.

حقيقة الدعوة السلفية

حقيقة الدعوة السلفية إن الدعوة السلفية على مر العصور قديماً وحديثاً بمبدئها الصافي وهو الكتاب والسنة ستظل علماً شامخاً ومناراً هادياً لكل من أحب الحق، ولعل سبب عدول الخلف عن كثير مما كان عليه السلف هو اتباعهم لغير ما هم عليه واتجاههم إلى من أصابه الزيغ وعمى البصيرة. والدعوة السلفية ترتكز على نقاط كلها تدعو إلى تسوية الصف الإسلامي ولم شمله تحت راية واحدة، بل وزجر كل مستورد لأي فكر يقدح في الدعوة السلفية أو يشرك في التشريع السماوي شريكاً من الهوى.

مخالفة الخلف لمنهج السلف

مخالفة الخلف لمنهج السلف كلمة للشيخ عيد عباسي: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. الموضوع الذي سأتحدث فيه هو عن الدعوة السلفية، ما هي حقيقتها؟ وما هو المراد بها؟ ولمحة عن تاريخها، ثم موقفها من الدعوات الأخرى بشكل إجمالي. الدعوة السلفية: نسبة إلى السلف، وفي اللغة: هم القوم المتقدمون. ويراد بهم في الاصطلاح: أنهم القرون الثلاثة الخيرة التي جاء الثناء عليها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعد ذلك أناس يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويكون فيهم الكذب) فهؤلاء بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: لهذه القرون الثلاثة- أنهم خير القرون، ولا شك أن هديهم وطريقتهم وسنتهم هي خير الهدي وخير السنن وخير الطرائق. ويقابل السلف الخلف، وهم: الذين جاءوا بعد هذه القرون الثلاثة، ونحن نعلم أنه قد اختلفت طريقة السلف عن الخلف في كثير من الأمور، فقد ظهرت بعد القرن الثالث أمور لم تكن، وكان ذلك بسبب اختلاط المسلمين بغيرهم، ودخول الثقافات الأجنبية على الأمة الإسلامية، فقد دخلت ثقافات النصارى الذين أسلموا، وكذلك اليهود، واليونان، والهنود بعد الفتوحات الإسلامية الهائلة، وهذه الثقافات أثرت مع الأسف، وخاصة في الذين لم يتمكن الإسلام في قلوبهم، فقد انبهروا بها، وحين اطلعوا عليها -وهي شيء جديد عليهم- وثقوا بها، وانبهروا، فأخذوا يعتنون بها، وأخذ بعض الأمراء والحكام من الذين لم يفقهوا حقيقة الإسلام ولم يهتموا بالأمر وخطورته، أخذوا يعطونهم الجوائز الكبيرة من أجل ترجمة كتب هذه الأمم الأجنبية إلى المسلمين.

الأدلة النقلية على تحريم مخالفة هدي الكتاب والسنة

الأدلة النقلية على تحريم مخالفة هدي الكتاب والسنة نحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نبه إلى خطورة ذلك وحذر منه، ويكفينا في الدلالة على ذلك حديث عمر رضي الله عنه حينما كتب صحائف من التوراة فرآها عليه الصلاة والسلام فسأله عنها، فقال: إنه كان له صديق يهودي، وإنه نسخ منه بعض الصحائف من التوراة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال: (أمتهوكون أنتم؟! كما تهوكت اليهود والنصارى! والذي نفسي بيده! لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا أن يتبعني) فهو عليه الصلاة والسلام يعلن أنه لا هدي إلا الهدي الذي جاء به عن ربه، ولا يجوز لأحد أن يكون متبعاً وأن يكون إماماً وقدوة ومرضياً للاتباع ومأخوذاً عنه الهدي إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يشير إلى أنه لا يجوز للمسلمين أن يأخذوا دينهم، ولا هدايتهم، ولا إرشادهم، ولا أخلاقهم، ولا كل شيء من الأشكال والتصورات والقيم والسلوك عن أي أمة أخرى، وما السبب في ذلك؟ السبب أن الله عز وجل أرسل إليهم الهدى كاملاً، واختصهم بالفضل عاماً شاملاً، فليسوا بحاجة إلى هدي آخر، وليسوا بحاجة إلى إرشاد قوم آخرين، فقد أخبرهم الله عز وجل بأنه أكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فالذي يلجأ إلى غير طريق الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنما يعتقد بطريق المفهوم أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كافٍ، وأن هناك هدياً آخر وخيراً آخر يمكن أن يستمده لدى الأمم الأخرى، وهذا مؤداه الكفر، وأن كثيراً لا يفقهونه ولا يفهمونه. فهذا النص وحده كافٍ في التحذير من اللجوء إلى طرائق الأمم الأخرى وهديها في أفكارها وعقائدها وأخلاقها وقيمها.

جواز أخذ العلوم الدنيوية من غير المسلمين

جواز أخذ العلوم الدنيوية من غير المسلمين وبالطبع! فإن هذا لا يدخل في الأمور الدنيوية، حتى لا يقول قائل: إن الإسلام حجر على العقول، وضيق على الأفكار؛ لأن العلوم المختلفة هي عامة شاملة لدى الأمم الأخرى، ولا يمكن أن نهمل أو نطرح ما يأتي به الأجانب وغير المسلمين من تقدم علمي، أو تفوق حضاري في بعض العصور. هذا صحيح، فإن العلم الدنيوي غير خاص بالمسلمين، والعقل الإنساني يعمل، والأمم الأخرى تعمل وتنهض، والحضارة والتقدم العلمي الدنيوي كما يقال: متداول بين الأمم، فيومٌ يكون الحكم لهذه الأمة ويوم لتلك، وهي جميعاً تسير وتعمل وتبني هذه الحضارة المادية، في ناحية العلم لم يحرج علينا ربنا سبحانه وتعالى أن نأخذ عنهم العلم الدنيوي المحض الصناعي، الذي يفيد، مثلاً: علم الزراعة، وعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء، والفلك ولكن بشريطة ألا يخالف شيء من هذه العلوم ومن هذه المبتكرات ما جاءنا به الإسلام الحنيف. لأن هناك من مبتكرات العلم ومن نظرياته أموراً قد نجدها تخالف الإسلام فلا يجوز أن نقبلها؛ لأن الإسلام حق لا يتطرق إليه الريب والشك، أما هذه العلوم فهي من فعل بشر، وهي من صفات أناس يحتملون الخطأ والصواب، ولا يخلون من أغراض ومن أهواء، فلذلك إذا اصطدم النص الشرعي الواضح الصريح القطعي بنظرية علمية، أو أفكار خبيثة فيجب أن تكون ثقتنا بما جاء عن الله ورسوله لا غير، فيجب أن نقدمهم على هذه الأمور التي تأتينا من آخرين. أقول: لا حرج من قبول هذه العلوم بهذا الشكل، وعمدتنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي هو حديث تأبير النخل، وخلاصته (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المدينة وجد أهل المدينة يؤبرون النخل فسألهم عما يفعلون، فقالوا: شيء اعتدنا عليه، فقال: لو لم تفعلوا لكان خيراً، فتركوه، فنقصت ثمرته، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما بعد فقال: إذا حدثتكم عن أمر من أمور دينكم فخذوا به، وإذا حدثتكم عن أمر من أمور دنياكم فأنتم أعلم بأمور دنياكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. إذاً: هناك أمران من الأمور: أمور دينية تتضمن العقائد، والأخلاق، والأفكار، والتصورات، والقيم، والثقافة، والأدب، فهذه يجب ألا نقبلها إلا عن طريق كتابنا، ولا نأخذها إلا من طريق الوحي الصادق الصحيح الذي جاء به عليه الصلاة والسلام. وهناك أمور دنيوية بحتة واجتماعية وعلمية، فيجوز أن نأخذها منهم، بل يجب، لكن بالشرط السابق ألا نأخذ ما يخالف ما جاءنا به الوحي الصادق وعن طريق خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.

تاريخ الدعوة السلفية

تاريخ الدعوة السلفية نرجع إلى هذه الدعوة السلفية، فنقول: قد يقول البعض: إنها دعوة طارئة وجديدة، وإن أقدم من تنتسب إليه هو شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ابن عبد الوهاب في العصر الحالي، وهذه فكرة خاطئة، بل هي باطلة، وإنما الدعوة السلفية هي دعوة الإسلام الصحيح نفسه، دعوة الكتاب والسنة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت خاتمة الدعوات، وآخر الشرائع، وآخر الأجيال، وإنما لم يكن يطلق عليها ذلك؛ لأنه لم يكن هناك حاجة، فالمسلمون الأولون كانوا على الإسلام الصحيح، فلم تكن هناك حاجة أو داعٍ للقول: الإسلام السلفي، أو الدعوة السلفية. كما يقرب ذلك إلينا مثلاً العلوم الأخرى كعلوم العربية، كان الناس يتكلمون العربية الفصحى دون لحن ودون خطأ فلم يكن هناك حاجة لوضع قواعد النحو، وإلى اصطلاحات النحو واللغة والبلاعة، لأنها كانت معروفة سليقة، وكذلك الدعوة السلفية كان الناس عليها، ولم يكن هناك شذوذ ولا انحراف، ولكنها بدأت تظهر شيئاً فشيئاً عندما بدأت الأفكار الأخرى تظهر، وعندما بدأت هذه الثقافات الأجنبية تؤثر في المسلمين، فتحرف بعضها، وتزين لبعضهم أشياء تخالف الإسلام في العقائد وغيرها. حين ذلك بدأ أئمة المسلمين من صحابة وتابعين ومن بعدهم يوجهون إلى خطورة هذه الدخائل والمحدثات، فكانت تظهر وتشتد الدعوة شيئاً فشيئاً كلما زادت هذه المحدثات، والثقافات التي تؤثر في المسلمين، وكان من أبرز من ميز هذه الدعوة ووضحها بجلاء الإمام أحمد بن حنبل حيث ظهرت فتنة خلق القرآن في زمانه، وأُرِيْدَ حملُ الناس جميعاً على هذه الفكرة المحدثة الباطلة، فصمد ذلك الصمود المثالي، ووقف ذلك الموقف الشجاع الرائع، وكان معه جمهور المسلمين بقلوبهم وأرواحهم، وكان أولئك المعتزلة في خط آخر خارج النطاق، فتميزت الدعوتان، وظهر الخلط بين الاتجاهين: اتجاه الرأي وأصحاب الرأي، أصحاب تقديم العقل على النقل، الذين لا يعتدون بنصوص الكتاب والسنة، ولا يعتدون بهدي السلف الصالح، وبين من يجعل الأساس الكتاب والسنة، ويجعل الأساس هدي السلف الصالح. وهكذا أخذت تتميز الدعوة السلفية شيئاً فشيئاً كلما ازداد المسلمون بعداً عن دينهم الصافي الحقيقي، وكلما أخذت الأفكار الأجنبية، والثقافات الدخيلة على الإسلام تظهر وتشتد ويعلن بها. وفي زمن شيخ الإسلام ابن تيمية كان ذلك قد استفحل، وكانت الثقافات والتفسيرات الفكرية قد تضخمت حتى صرفت أكثر المسلمين، فلم يبق إلا قلة نادرة غريبة عن المجتمع هم الذين بقوا يحافظون على دعوة الكتاب والسنة، ويتقيدون بطريق السلف الصالح، فحينئذٍ ظهرت الحاجة الملحة إلى توضيح هذه الدعوة وإلى تمييزها، وكانت كتابات شيخ الإسلام رحمه الله الكثيرة والرائعة التي ميز بها الإسلام الصحيح الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانت كتبه إنارة لمن يطلب الهداية، وكانت فيصلاً بين الحق والباطل، وقد أقام الحجة على المخالفين بالمناظرات، وبالرسائل، وبالكتب، وفي المجالس، ولم يبق حجة لمعاند إلا ما يكون بسبب العناد والاستكبار. فلذلك في زمنه ميزت وظهر هذا الاسم دعوة السلف، ومنهج السلف، وطريقة السلف، وإن كانت قد استعملت هذه الكلمات قبله أيضاً، وأظن قائل هذا البيت المشهور في العقائد عن مذهب السلف: وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف أظنه قبل شيخ الإسلام. هذه اللفظة عربية فصيحة، وظهرت في كلامهم ولكن كما قلت: توضحت وتوطدت أكثر في عهد شيخ الإسلام رحمه الله. وكما قُلتُ: الأفكار الصوفية سيطرت على الناس، وطرقها المختلفة، وأفكار علماء الكلام، والتعصب المذهبي، والبدعة في الدين، والأحاديث الضعيفة والموضوعة، فظهرت غربة الإسلام، وظهر أنه كان بحاجة ماسة إلى أن يتبين ويتضح حتى يعرف الناس الحق من الباطل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فقد تابع هذه الرسالة وهذه الدعوة تلاميذ الإمام ابن تيمية، ابن القيم، وابن كثير، وغيرهما على مر العصور، لكنهم كانوا محارَبين مضطهدين، فمات منهم من مات في السجون، وقتل منهم من قتل، وعذب من عذب، وكانت الغلبة المادية في أكثر العصور للمخالفين، وإن كانت الغلبة المعنوية غلبة الحجة والبرهان لـ أهل السنة وفاقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) . ثم جدد هذه الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نجد، حينما كانت في ظلام دامس، وحينما كانت الوثنيات تسيطر على البلاد، فتثقف بثقافة شيخ الإسلام وأخذ عنه، وقرأ كتبه، وأخذ ينشرها ويدعو إليها، ونال من جراء ذلك الأذى الكثير، وحرب العوام، ولكن وفقه الله عز وجل مع من أيده من الأمراء السعوديين الأوائل، كان من ذلك أن ظهرت هذه الدعوة وأثرت في المسلمين، ووصلت إلى بلدان كثيرة، وما تزال منها بقية في بلاد السعودية وغيرها. لن نخوض كثيراً في هذه التفصيلات التاريخية، فلننتقل إلى حقيقة الدعوة السلفية.

الدعوة السلفية حقيقتها وأصولها

الدعوة السلفية حقيقتها وأصولها لماذا تظهر؟ وما هي أهم أشكالها؟ وما هي أهم الأصول التي تركز عليها؟

التوحيد الذي أمر الله به في كتابه

التوحيد الذي أمر الله به في كتابه هناك أمور هامة وأصول أساسية تركز عليها الدعوة السلفية، أول هذه الأمور مسألة التوحيد، وهذه المسألة أخطأ فيها جماهير المسلمين عامتهم وخاصتهم، فقد شاع لديهم أن التوحيد الذي أمر الله به في كتابه وسنة نبيه هو الاعتقاد فقط بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً ورازقاً حكيماً يتصف بصفات الكمال، وقد ملئوا كتبهم وأتعبوا أنفسهم في إثبات هذه الحقيقة، مع أن -كما سمعتم من أستاذنا أكثر من مرة- هذه الحقيقة فطرية مركوزة في النفوس والأذهان، ولا تحتاج إلى كثير إثبات ولا إلى جهد كبير، فقد قال الله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم:10] {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] . وإن كل من ينظر إلى تاريخ البشر على مر العصور ليجد أن كل البشر يؤمنون بإله خالق مدبر وحكيم، إلا قلة نادرة من الملحدين على مر العصور كانوا يُسمَّون دهريين قديماً، ويسمون اليوم ملاحدة أو زنادقة أو شيوعيين، هؤلاء نسبتهم قليلة جداً بالنسبة لبقية البشر، لا يقول قائل: الشيوعيون مثلاً الآن هم سكان روسيا، وسكان الصين، وسكان الدول الشيوعية الأخرى الكثيرة، لا يقول أحد هذا، فإن سكان هذه الدول أكثرهم مؤمنون بالله، أكثرهم إما نصارى أو مجوس أو وثنيون يؤمنون بإله، ولكن الملاحدة منهم والشيوعيين مثلاً هم قلة قليلة، هم الحكام فقط، والذين يسيرون الأمور العسكرية وغيرهم، يعني هم أعضاء الحزب الشيوعي لا غير، أما بقية الشعب فتعلمون أن لهم كنائسهم، ولهم عباداتهم، وكانوا يجرون إحصاءات بين الحين والحين، أذكر أن آخر الإحصاءات أن الشيوعيين في روسيا نحو سبعة ملايين فقط، فإذاً هم قلة، ما قيمة سبعة ملايين أضف إليها مثلاً البلدان الأخرى خمسة عشر مليوناً أو عشرين مليوناً أو خمسين ما قيمتهم بالنسبة لبقية البشر الذين هم الآن نحو أربعة آلاف مليون نسمة؟ إن عامة البشر وجماهير الناس على مر العصور هم مؤمنون بإله، فإذاً ماذا يحتاج هؤلاء؟ إن أحوج ما يكونون إليه هو أن يؤمنوا بالله الإيمان الصحيح الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم والرسل السابقون. إنه الإيمان الذي يعتد به إنه الذي ينجي صاحبه من الخلود في النار إنه طريق دخول الجنة إنه هو وحده الإيمان الصحيح وما عداه كفر، وكلنا نعرف أن المشركين كانوا يؤمنون بإله خالق إلا قلة نادرة جداً أيضاً، أشار إلى ذلك القرآن حيث قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] وبين سبب ضلالهم وشركهم أنه بسبب اعتقاد الشفعاء والوسطاء بينهم وبين الله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وفي شعر للجاهليين تجد كثيراً لفظة الإله والخالق ويسلمون به، ويعظمونه، ولكنهم يعتقدون أن هذه الأصنام هي وسائط، وهي مقربات لهذا الإله، وإن ذكرها ودعوتها هو ضمان ليستجيب لهم الله دعاءهم ويغيثهم إذا استغاثوا به.

اهتمام الدعوة السلفية بتبيين التوحيد الصحيح وتفصيل أنواعه

اهتمام الدعوة السلفية بتبيين التوحيد الصحيح وتفصيل أنواعه الدعوة السلفية تهتم بتبيين التوحيد الصحيح الذي يكون الناس أحوج ما يكونون إليه، وهو ما استخلصه العلماء المحققون من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، من أن هناك ثلاثة أنواع للتوحيد، التوحيد السابق واصطلحوا عليه أنه توحيد الربوبية وهو: الإيمان بأن لهذا الكون خالقاً رازقاً متصفاً بصفات الكمال. والنوع الثاني للتوحيد: هو توحيد الألوهية. والنوع الثالث: هو توحيد الصفات. صحيح أن هذه أسماء اصطلح عليها من هؤلاء الأئمة الأعلام، ولكن مدلولها وحقيقتها موجود في ثنايا الكتاب والسنة، وإنما هؤلاء وضحوها وميزوها واصطلحوا عليها لتتضح الأمور وتتبين الحقائق. أما توحيد الربوبية فقد شرحنا المراد به، أما توحيد الألوهية فهو أيضاً بصورة إجمالية أن يخص المسلم أصناف العبادة كلها لله عز وجل، هذا الخالق المدبر الذي آمن به، وهذا في الحقيقة أمر طبيعي، فإذا كان الله هو المدبر الخالق الرازق إلخ، فلماذا يدعون غيره؟ ولماذا يعبدون سواه؟ يعبدون المخلوقين والمحتاجين، يعبدون الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، كما يقول الشاعر: ومن قصد البحر استقل السواقيا هذا العبد الضعيف العاجز الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا بعثاً ولا حياة ولا نشوراً، كيف تدعوه وتترك ربك الذي بيده كل شيء، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، هل هو قاسٍ عليك؟ هل هو لا يستجيب دعائك؟ هل هو بعيد؟ هل هو ظالم حتى تخاف منه وتلجأ إلى سواه؟ إنه رحيم بعباده، رءوف بهم، يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، يقبل التوبة عن عباده، إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، إنه الذي يفرح بتوبة التائب أشد من فرح الإنسان الذي كان في سفر وضلت راحلته ثم وجدها وعليها طعامه وشرابه بعدما يئس وأيقن بالهلاك. فإذاً: هذا الإله العظيم الحكيم الرحيم لِمَ تتركه وتلجأ إلى غيره من هؤلاء الآلهة الضعفاء العجزة الذين لا يملكون لأنفسهم حياة ولا ضراً ولا نفعاً؟! فلذلك هذا التوحيد أمر فطري ضروري طبيعي. ويعد توحيد الألوهية من أخص خصائص التوحيد، وهو من أهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في الحقيقة معنى قولنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فكلمة (لا إله إلا الله) هي التي تدخل الإنسان في الإسلام، وهي الكلمة الطيبة، وهي التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة) فإذاً: علق دخول الجنة على من يقول هذه الكلمة مؤمناً بها مخلصاً من قلبه. ما معنى هذه الكلمة؟ هل هي ألفاظ تقال باللسان هكذا دون فقه ولا اعتقاد ولا تطبيق؟ ليس كذلك، إن الأمور بحقائقها، هذه الكلمة معناها: الإله المعبود، أله يأله أي: عُبِد ويُعْبَد، الإله: المعبود، فلا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله. فإذاً: من ألصق معاني (لا إله إلا الله) توجيه وتخصيص العبادة كلها بأنواعها المختلفة لله عز وجل. كثير من المسلمين يجهلون العبادة، فيظنون أن معنى (لا إله إلا الله) آمنا بالله مع تخصيص العبادة لله، ونحن أيضاً نؤمن بذلك فلا نخصص صلاة ولا نسجد لأحد إلا لله، وهذا قصور في الفهم، فإنهم يجهلون أن العبادة معنى أشمل وأوسع من ذلك، إن العبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه، العبادة تشمل أنواع التعظيم التي يجب أن تخص بالخالق الحكيم، إنها تشمل الدعاء، والنذر، والذبح، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والخوف، والخشية، والاستغاثة، والرجاء، والمحبة، كل هذه الأنواع من العبادات، وهؤلاء لجهلهم يظنونها مقصورة على الصلاة والحج مثلاً. فيدل على ذلك نصوص كثيرة أيضاً لا نحصيها وإنما نذكر بعض الأمثلة، مثلاً: الدعاء والاستعانة يقول الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وتقديم المفعول هنا يراد به التخصيص، (إياك نعبد) أي: لا نعبد غيرك، (وإياك نستعين) أي لا نستعين بسواك، وهذا الفرق بين قولنا: إياك نعبد، وبين قولنا: نعبدك، لم يقل: نعبدك؛ لاحتمال أن يراد بها وأن تشمل نعبدك، ولا مانع من أن نعبد غيرك، فقدم المفعول لهذا التخصيص. كذلك قوله عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فقابل بين (ادعوني) و (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) مبيناً أن الدعاء هو عبادة، ويوضح هذا تماماً قوله صلى الله عليه وسلم الصادق: (الدعاء هو العبادة) وهكذا الذبح في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ونسكي أي: ذبحي، ونصوص كثيرة تشمل الخوف والرجاء {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] وما أشبه ذلك من النصوص الكريمة. هذا النوع الثاني من أنواع التوحيد الذي يجهله المسلمون وتركز عليه الدعوة السلفية؛ لأن من أخطأ فيه؛ أو جهله؛ أو اعتقد خلافه؛ فهو مشرك ويحكم عليه بالخلود في النار، إلا إذا كان لم تبلغه هذه الدعوة فأمره إلى الله فيعذره الله، ويوضح مصيره الحديث الذي رواه أحمد وغيره أنه يبعث إليه يوم القيامة رسول إلى آخر الحديث المعروف. النوع الثالث من أنواع التوحيد الذي يجهله المسلمون ويخالفون مضمونه، ويشركون فيه بالله هو توحيد الصفات، وهو: اعتقاد أن أحداً يشارك الله في صفة من صفاته، الله من صفاته: يعلم الغيب، فحينما يعتقد إنسان أن بشراً من البشر يعلم الغيب كما يعتقد الصوفية أن شيوخهم يكاشفون فيعلمون ما في نفسك، ويطلعون على أحوالك ولو كنت في مشرق الأرض وهم في مغربها، فهذا لا شك أنه شك في الصفات، وكذلك حينما يعتقدون في بعض مشايخهم أنهم يقدرن على كل شيء، وأنهم يقولون للشيء: كن فيكون كما ورد في بعض كتبهم، وحينما يعتقدون صفات أخرى هي من أخص خصائص الله عز وجل في أوليائهم أو في مشايخهم أو الأنبياء والرسل، فإنما هم قد أشركوا بالله عز وجل. ومع الأسف فقد انتشر هذا في كلام المتأخرين كثيراً فتجد الشعراء منهم الذين يسمون المداح للنبي صلى الله عليه وسلم الذين كتبوا قصائد في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ويهتم الناس بتلاوتها في الموالد والاحتفالات الدينية، هذه تكثر فيها هذه الصفات، وهذه الأمور التي لا تجوز إلا لله نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى مشايخهم وأوليائهم. والرسول عليه الصلاة والسلام قد حذر كثيراً من هذا، وقد أمر بعدم المبالغة في مدحه عليه الصلاة والسلام خشية من الوقوع في هذا الانحراف الخطير، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وحينما جاء بعض الناس وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا قال لهم عليه الصلاة والسلام: (قولوا بقولكم هذا أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان) فكلمة (سيدنا وابن سيدنا) الرسول صلى الله عليه وسلم وجد فيها شططاً؛ لأن ابن سيدنا معناه: أن عبد الله والد رسول الله هو سيد لهم، وأنه كان مشركاً كما في الأحاديث المعروفة، فهذا من الشطط وقد حذرهم منه. وحينما سمع بعض الجواري والأولاد ينشدون: وفينا نبي يعلم ما في غد. نهاهم عن ذلك أيضاً وقال: لا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل. فمع هذا التنبيه وهذا التحذير من النبي صلى الله عليه وسلم خالفه الناس صراحة وقال قائلهم البوصيري مثلاً: دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم معنى البيت: لا تقل: إن محمداً ابن الله وقل ما شئت فيه من الأقوال، وهذا واضحٌ ضلاله وواضحٌ انحرافه وشططه لكل ذي لب. فتوحيد الصفات من أخطر أنواع التوحيد التي جهلها المسلمون وخالفوها، ومعروف أن مسألة التوحيد هي الفيصل بين الإسلام والكفر كما قلنا، فلو كان إنسان متعبداً أعظم درجات التعبد، يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق، ويزكي ويقوم بأنواع النوافل المختلفة، ويتقرب إلى الله بشتى القربات، ويصل الأرحام إلى آخره، لو أشرك في عمره كله مرة واحدة كأن يكون استغاث بغير الله، أو قال كلمة فيها وصف أحد المخلوقات بصفة لله، فإن كل عمله باطل، وإنه خالد مخلد في النار إذا لم يتب منه، قال الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] . فإذاً: المسألة خطيرة وخطيرة جداً، ولذلك يوليها السلفيون الاهتمام الكبير. ومن العجب! أن باقي المشايخ والعلماء لا يدندنون حولها، بل يخاصموننا فيها فيقولون: ما فيها شيء، المسألة تتعلق بالنية -مثلاً- نية هذا الإنسان إنما يريد بذلك وجه الله، أو يريد التقرب والتحبب وتعظيم هذا النبي وهؤلاء الأولياء، مع أنهم يعلمون أن النية لا تشفع للعمل مهما كانت صالحة، فلابد أن يكون العمل صالحاً والنية صالحة مصداقاً لقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] (لا يشرك) أي: لتكن نيته صالحة، (فليعمل عملاً صالحاً) أي: موافقاً للسنة، كما فسرها بذلك الأئمة والمفسرون مثل ابن كثير وغيره. فإذاً: يجب الاهتمام بمسألة التوحيد بأنواعه الثلاثة -وخاصة النوعين الأخيرين- اهتماماً بالغاً لإنقاذ الناس من الهاوية ومن الضلال.

الدعوة السلفية واهتمامها بمسألة الاتباع

الدعوة السلفية واهتمامها بمسألة الاتباع المسألة الثانية التي يركز عليها السلفيون هي مسألة الاتباع، مسألة طريقة الأحكام وطريقة التفقه في الدين: الشائع لدى الناس خاصة في الآونة المتأخرة أن على كل إنسان إذا بلغ سن الرشد أن يأخذ مذهباً من المذاهب الأربعة هو مذهب والده -مثلاً- فيتفقه فيه ويلتزمه ولا يخالفه في مسألة من المسائل، ويقلده تقليداً ولا يسأله عن الدليل، ولا يسعى للاجتهاد، لأن الاجتهاد قد أغلق، ولأنه ليس أمامه إلا التقليد. هذه المسألة أيضاً خطيرة وهامة، ويخالف فيها السلفيون جمهور الناس، فهم يرون أن الأصل في التفقه في أحكام الشرع الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة اتباعاً لقول الله عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] . فالأصل -إذاً- أخذ الأحكام من الكتاب والسنة، لكن من المعروف أن الناس يتفاوتون في ذلك، وأنه ليس بمقدور كل إنسان أن يأخذ من الكتاب والسنة، وخاصة بعد ما فشا اللحن، وبَعُدَ الناس عن لغة العرب وعن السليقة العربية وعن الفطرة، فأصبحوا غريبين عن لغة القرآن ولغة الحديث النبوي الشريف. ولا شك أن من المعروف من قواعد الشريعة أنه إذا لم يستطع الإنسان أمراً فإنه يكلف بما دونه، فلم يستطع هذا الإنسان الأخذ من الكتاب والسنة -أخذ أحكام الكتاب والسنة- مباشرة فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] كما قال الله عز وجل، فينزل درجة في ذلك إلى الاتباع، وهو مما نختلف فيه عنهم أنهم يقولون: لا يوجد اتباع، إما مجتهد وإما مقلد فقط، وهذه مكابرة وعناد؛ لأنه مخالف لما هو مشاهد ومحسوس، فأنت ترى في الناس من هو عالم قد بلغ من العلم شوطاً بعيداً، قد تفقه في لغة العرب، ودرس علم أصول الفقه، وأخذ وسائل الاجتهاد، فهذا هو المجتهد الذي يتفق الكل على أنه يجوز له الأخذ من الكتاب والسنة، بل يجب عليه مباشرة. وهناك بقية الناس غير هذا الإنسان نحن نرى صنفين اثنين وإن كانا يتفاوتان فيما بينهما، وفيهما مراتب كثيرة، هذان الصنفان هما عامة الناس الذين لا عناية لهم بالعلم، ولا دراسة لهم في الدين، فهؤلاء الذين يسمون مقلدين، هؤلاء إذا تلوت عليهم الآية لا يفقهونها إلا ما ندر من الآيات الواضحة الصريحة، أو ذكرت لهم الحديث لا يستطيعون أن يعرفوا معناه، أو يعرفوا الطريق الذي يعرفون صحته من ضعفه، فهؤلاء لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، يكلفون أن يسألوا أهل العلم، لكن عليهم أن يبذلوا جهدهم أيضاً في اختيار أهل العلم الموثوقين الذين لا تعصُب لديهم، والذين هم ثقات في دينهم وفي علمهم، ومع ذلك فليس عليهم أن يلتزموا واحداً بعينه من هؤلاء، وإنما عليهم كما قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] إن كنتم لا تعلمون فاسألوا أهل الذكر، لم يحدد واحداً بعينه وإنما يكون إزاء ذلك حسب ما يتيسر له فلان ممن يثق بعلمه ودينه، فيسأله ويسأل في مرة أخرى آخر فيسأله، ولا يضيق على نفسه ويحدد اتباعه وتقليده لعالم معين. هناك بين هذا المقلد وذلك المجتهد أناس كثيرون لهم عناية بالعلم، دراسة للغة دراسة للعلوم الشرعية دراسة للقرآن للتفسير للحديث، فهؤلاء لا نستطيع أن نقول: إنهم مثل أولئك الأولين أو المقلدين، إنهم يختلفون عنهم وإننا نظلمهم حينما نسويهم بهم، لا شك أن لهم فضلاً عليهم، ولا يجوز أن نعاملهم مثلهم، فإنهم إذا ذكرت لهم الآيات والأحاديث عرفوا معانيها، أو تفقهوا في أكثرها بالجملة وقد تخفى عليهم طبعاً بعض المعاني، لكن إذا استعانوا ببعض العلماء يفقهونها ويفهمونها، فهؤلاء عليهم أن يبذلوا جهدهم، وجهدهم هو أن يعرفوا الحكم الشرعي عن طريق عالم من العلماء، ويعرفوا دليله الذي وصل به إلى الرأي الذي يتبناه، هؤلاء يستطيعون هذا، فكيف نسامحهم ونتساهل معهم فنقول لهم: يكفي أن تقلدوا العالم، تسأل العالم ما هو حكم الشرع في هذا؟ فيقول لك: كذا وكذا، أنت بإمكانك إذا ذكر لك الدليل أن تفقهه فلِمَ تتنازل عن ذلك؟ ولِمَ تتساهل؟ مع أنك في أمور الدنيا إذا كنت تاجراً -مثلاً- فلا تكتفي بسؤال المختص بذلك سؤالاً مجملاً معارضاً وإنما عليك أن تعلم وتدقق وتحاسب وتقارن، وتسأل أكثر من واحد، لماذا في أمور الدنيا تفعل ذلك، وأما في أمور الدين تتهاون وتتساهل؟ هل أمر دينك أهون عليك وأضعف عندك وأقل شأناً من أمور دنياك؟ إنك إن كنت كذلك فما أخطأك وما أضلك. فلا شك أن مفسدةً نشَأت بين المقلد المجتهد وبين المقلد المبتدع الذي يتبع إمامه بدون حجة ولا معرفة الدليل وهذا بخلاف من يقتدي بعالم مجتهد بعد أن يفقه دليله، ويطلع على حجته ويقتنع بها ويرجح من أقوال العلماء ما يطمئن لها في نفسه، هذا موقف السلفيين في مسألة أخذ الأحكام الشرعية، ومسألة التفقه في الدين، ففي اعتقادنا أنه هو الموقف الحق العدل الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. ويفتري علينا المخالفون افتراءات باطلة، نحن دائماً نكرر براءتنا منها، يدَّعون أننا نكره الأئمة الأربعة، وأننا نطعن فيهم، وأننا نوجب الاجتهاد على كل مسلم، وأننا نأمر كل أحد أن يكون مجتهداً عالماً ولا يجوز له أن يقلد، وهذا ظلم وافتراء طالما بينّا بطلانه، وطالما بينّا براءتنا منه، ومع ذلك فلا يتقون الله، ويصرون على نسبته إلينا، ويشهد الله أننا منه برآء، كما يقال: براءة الذئب من دم ابن يعقوب، مع أن كتبنا مليئة ببيان هذه الحقيقة، فبعضهم -مثلاً- سود كتاباً ملأه وحشاه لإثبات جواز التقليد، والاستدلال على أن التقليد جائز وواجب على بعض الناس، كل ذلك يرد به على السلفيين على أنهم ينكرون التقليد. فهذا من الظلم الشنيع، كما أنه قد جُزم له بذلك وأُثبت له أن السلفيين يقولون: إن الجاهل عليه أن يقلد، مع ذلك يصرون على هذا، وهذا يبين ما في نفوسهم من الضغينة والحقد والتحامل والظلم.

الدعوة السلفية وموقفها من مسألة التزكية النفسية والروحية

الدعوة السلفية وموقفها من مسألة التزكية النفسية والروحية المسألة الثالثة هي: مسألة التزكية النفسية والتزكية الروحية، هذه المسألة قد شاع لدى المتأخرين فيها طريق المتصوفة، هؤلاء الذين يعتمدون لتزكية النفوس على المجاهدات الروحية، والوسائل النفسية، وما أحدثه مشايخهم من أمور ادّعوا أنها توصلهم إلى الله، وقد اعتمدوا فيها على غير ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء المتصوفة -والحق يقال-: إن أول درجات التصوف اتباع، وآخر درجاته زندقة، أول ما يدخل الإنسان في الصوفية لابد أن يقوم ببعض البدع؛ لأنه ما الذي يميز الصوفي عن غيره من أهل السنة؟ أهل السنة يلتزمون بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، فبم يختلف الصوفي عنهم؟ إن قالوا: نحن على الكتاب والسنة، فلماذا -إذاً- تختصون لأنفسكم طريقاً؟ لماذا تلتزمون بأوراد؟ لماذا تلتزمون بنوع معين من الذكر، وطريقة خاصة به؟ لماذا تفرقون المسلمين؟ فهذا شاذلي، وهذا رفاعي، وهذا قادري وما أشبه ذلك؟ لا شك أن الحقيقة البينة الناصعة تدل على أنهم يخيرون في دين الله، فلا يكتفون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهدي السلف الصالح وإنما يزيدون ما استحسنوه لأنفسهم وما أضافوه إلى الدين من أمور هو منها بريء، وأمور هي ضلالات، فلذلك طرق الصوفية السلفيون ينكرونها جملة وتفصيلاً، وليست المسألة -كما يتوهم البعض- اتباع، وأن الصوفية هي نفس ما جاء به الإسلام من درجة الإحسان أو التزكية أو تلطيف القلوب أو الجانب الروحي. وهناك ضلال آخر وهو أنهم يعتقدون أن هناك طريقاً لمعرفة الغيب ولمعرفة حقائق الأمور عن طريق الكشف، ولا يرجعون فيه إلى ما جاءهم عن طريق الشرع، ويزهدون في التعلم، وبعضهم أحرق كتبه، وقال آخرون: أنتم تأخذون علومكم ميتاً عن ميت ونحن نأخذها عن الحي الذي لا يموت! وهذا الذي يسمى بنظرية الكشف وهو من أبشع الباطل، ومن أضل الضلال، وهو إذا نظر فيه الإنسان نظرة شاملة صحيحة يجده إلغاء لكل ما جاءنا به الإسلام، واستبدال ما جاء عن طريق الحدس والتخمين والأهواء والنزغات الشيطانية به. وهذا خطر عظيم ما بعده خطر، إنه الكهانة، يدعون أن الملائكة تأتيهم وتلهمهم، وأن الله هو الذي يخبرهم ويلهمهم، وما الدليل على ذلك؟ ما الذي يضمن أنه إلهام من الله وليس نزغات الشياطين؟! والأمور بنتائجها وتعلم من آثارها. أيضاً: لا يتسع المقام للإفاضة في ذلك فحسبنا أن نكتفي بهذا، هذه أسس هامة ثلاثة للدعوة السلفية.

الدعوة السلفية وتحذيرها من البدع وما دخل على الدين مما ليس منه

الدعوة السلفية وتحذيرها من البدع وما دخل على الدين مما ليس منه وهناك أمور أخرى تتصف بها ومن مبادئها وتركز عليها ونحذر من أمور لأنها سلبية، وهي: التحذير من أمور البدع، وما دخل على الدين من المحدثات التي شوهت جماله، وكدرت صفاءه، وعكرت ما كان عليه من جمال ونقاء. هذه المحدثات دخلت على الدين فغيرت حُكم الله وضللت الناس، فالسلفيون يهتمون بتنبيه الناس إليها، ويحذرونهم منها، والابتداع أمر ليس سهلاً؛ ليست المسألة كما يقال: فرعيات ليس فيها شيء؛ الخير خير؛ لأن حقيقة الابتداع أنه استدراك على الله عز وجل، وأنه تشريع بالرأي وبالعقل، هذا الأمر يقال لك: يتعبد به ويتقرب به إلى الله عز وجل، ما مستند ذلك؟ إنه الرأي والاستحسان ليس غير، وهو ينسف آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ} [المائدة:3] من أساسها، وغير ذلك من الآيات. مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من البدع كثيراً، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحدثات الأمور) وجعلها في خطبة الحاجة التي كان يكررها كل أسبوع في خطبة الجمعة، وفي غيرها من المجالس، كل ذلك توكيداً وتذكيراً لخطورة البدع، ولأهمية الالتزام بما جاءنا عن الله ورسوله، ومع ذلك فقد أصم هؤلاء الخلف آذانهم عن هذه الأحاديث البينة وعن نصوص الكتاب الواضحة، وأصروا على البدع وزادوا فيها.

الدعوة السلفية وتحذيرها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة

الدعوة السلفية وتحذيرها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة أمر آخر -أيضاً- سلبي يحذر منه السلفيون وينبهون عليه وهو تلك الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي كانت عمدة لكثير من البدع، هذه الأحاديث شاع لدى الناس إيرادها وذكرها، الخطباء والمدرسون والكتاب والمؤلفون، تجد الكتب طافحة بنسبة الأقوال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم منها براء، ولا يتحرزون، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبه إلى ذلك كثيراً ويحذر منه، ويبين خطورته وأنه كذب عليه، (وإن كذباً عليَّ ليس ككذباً على أحدكم) فيستحل بالحديث المنسوب إلى رسول الله مما لا يصح أن يستحل به الحرام ويبنى به الأحكام، وهذا أيضاً أمر هام تقوم به الدعوة السلفية وتبين ما صح من الحديث وما لم يصح. هذه الكلمة أصل فيها، ولقد أشرت أن التتمة لا يتسع الآن المقام لها، وهو: موقف السلفية من الدعوات الأخرى، فلعل ذلك في موقف آخر أو مجلسنا الثاني إن شاء الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كلمة الشيخ الألباني: الفرق بين الإمامين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب

كلمة الشيخ الألباني: الفرق بين الإمامين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب اثنتان منهما من باب التنبيه والتذكير، والأخرى من باب التوضيح والتأكيد والبيان، لقد جاء في تضاعيف كلام الأستاذ عيد عباسي أنه ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه من أولئك الدعاة السلفيين، وهو كذلك بلا شك، ولكن الواقع يشهد بأنه سلفي في العقيدة، وما دمتم سمعتم شيئاً من التفصيل في كلامه عن الدعوة السلفية، وأن منها أنها تدعو إلى اتباع الكتاب والسنة كلاً حسب استطاعته كما سمعتم، وأنها تحذر من اتخاذ التقليد مذهباً وديناً، ما دام أن الدعوة السلفية هذا من مذهبها فيجب أن نعلم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان سلفياً في العقيدة، وله الفضل الأول من بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله جميعاً في نشر دعوة التوحيد في العالم الإسلامي بصورة عامة، وفي البلاد النجدية والحجازية فيما بعد بصورة خاصة، يعود الفضل إليه بعد ابن تيمية. ولذلك فلعل انكبابه واجتهاده في دعوة الناس إلى هذا التوحيد الخالص المصفى من أدران الشرك والوثنية بكل التفاصيل هو الذي صرفه عن الاشتغال بإتمام الدعوة السلفية، وذلك في محاربة الجمود على التقليد، وعلى التمذهب الذي صار فيما قبل زمانه وفي زمانه وفيما بعده صار ديناً، كل من ترك التقليد نبذ بالزيغ والانحراف ونحو ذلك مما ألمح الأستاذ المحاضر إليه في كلمته السابقة. وهو من هذه الحيثية، أي: من حيث أنه كان يدعو إلى التوحيد دون ما سوى ذلك مما يتعلق بالإسلام المصفى على ما سمعتم؛ يختلف عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإن هذا الشيخ الجليل قد دعا إلى الإسلام بعموم الإسلام من كل نواحيه أن يُفهم على الوجه الصحيح، على التفصيل الصحيح الذي سمعتموه، فهو -مثلاً- يحذر من الأحاديث الضعيفة، ويحذر من بناء الأحكام الشرعية عليها، وو إلى آخر ما هنالك من تفاصيل ذكرها الأستاذ، بخلاف الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فلم تكن له هذه العناية، لا في الحديث ولا في الفقه السلفي، فهو من الناحية المذهبية حنبلي، ومن الناحية الحديثية كغيره، فليس له آثار في الفقه تدلنا على أنه كـ ابن تيمية سلفي المنهج في التفقه في الدين، لعل له في ذلك عذراً كما ألمحنا إليه آنفاً. وكذلك في الأحاديث فهو كغيره مع الأسف الشديد، لا معرفة عنده بالحديث الصحيح والضعيف، ومن الأدلة التي تدلنا على هذا أن له رسالة مطبوعة متداولة عند أتباعه النجديين حتى اليوم، اسمها آداب المشي إلى المسجد، وقد أورد في مطلع هذه الرسالة الحديث المعروف عند السلفيين عامة إلا القليل منهم بضعفه، ألا وهو حديث أبي سعيد الخدري، الذي أخرجه الإمام ابن ماجة في سننه، من طريق الفضيل بن مرزوق، عن عطية السعدي - عطيه العوفي، والسعدي أيضاً، لكنه مشهور بـ العوفي أكثر- عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته إلى المسجد قال: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا ... ) إلى آخر الحديث. فهو أولاً أورده دون أن ينبه على ضعفه، مع أن فيه علتين اثنتين، لو أن واحدة منهما استقلت لنهضت بتضعيف الحديث، فكيف بالعلتين مجتمعتين معاً؟! وثانياً: أن ظاهر هذا الحديث يخالف ما كان يدعو إليه من عقيدة، ومن إخلاص التوحيد والدعوة لله عز وجل وهو التوسل بالمخلوقين، فهو كـ ابن تيمية وككل سلفي بصير في سلفيته وفي دعوته، يحارب التوسل إلى الله بعبادة غير الله عز وجل، وهذا الحديث في ظاهره التوسل إلى الله بحق السائلين، وبحق هذا العبد الذي يمشي إلى طاعة الله وإلى عبادته، أقول هذا غير ناسٍ أن الحديث لو صح لأمكن تأويله كما كنت ذكرت في بعض مؤلفاتي. لكن موضع الشاهد من هذا أنه أورده كأدب من آداب المشي إلى المسجد، إذا خرج المسلم من بيته فعليه أن يدعو بهذا الدعاء، وهو حديث ضعيف، فهذا يدل على أن شيخ الإسلام الثاني في التوحيد محمد بن عبد الوهاب ليس كـ شيخ الإسلام الأول من حيث أنه كان سلفياً في كل نواحي الدعوة ومجالاتها الكثيرة. هذه الناحية الأولى أردت التنبيه عليها، وهذا -طبعاً- من باب إعطاء كل ذي حق حقه، نحن بلا شك لا يسرنا أبداً أن ينال أحد من الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما يفعل أعداء الدعوة، وأعداء التوحيد حيث يتهمونه بكل ما يتهم به السلفيون في كل بلاد الدنيا، ولكن هذا لا يحملنا على الغلو في إعطاء كل شخص من حملة الدعوة السلفية ما ليس فيه، فيجب أن نفرق بين ابن تيمية وبين محمد بن عبد الوهاب، ونعطي كل ذي حق حقه، من أجل هذا قلت ما قلت، وإلا فشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب له منزلته في الدعوة عندنا بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

الرد على من قال: إن المشركين يعتقدون الحكمة لله تعالى

الرد على من قال: إن المشركين يعتقدون الحكمة لله تعالى التنبيه الثاني: جاء في كلام الأستاذ: عيد عباسي في صدد تحدثه عن توحيد الربوبية، وأن هذا التوحيد يعتقده جماهير الناس والأمم حتى المشركين وهذا كلام حق، ولكن جاء في أثناء كلامه بأنهم يعتقدون في الله أنه خالق مدبر حكيم، فأنا أريد أن ألفت النظر، ولي هدف غير الهدف الظاهر من كلمتي هذه. قوله: إن المشركين كانوا يعتقدون بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً، لو وقف إلى هنا لكان الكلام مُسلَّماً، ولكنه أضاف إلى ذلك وصفاً وصفة أخرى وهي صفة حق لله تبارك وتعالى، ولكنه نسب إلى الكفار أنهم كانوا يعتقدون في الله هذه الصفة أيضاً وهي أنه حكيم. من المؤسف أن أقول -وهذا هو الشيء الآخر الذي أرمي إليه في هذا الكلام-: إن اعتقاد أن الله حكيم ليس فقط مما لا يعتقده المشركون الذين كانوا يشركون في توحيد الألوهية، وفي توحيد الصفات كما سمعتم شيئاً من التفصيل في ذلك، ليس المشركون هؤلاء وحدهم كانوا لا يعرفون الله حكيماً، يعرفونه خالقاً مربياً مدبراً، أما أنهم يعرفونه حكيماً فلا، ولكن مع الأسف الشديد هناك جماهير من المسلمين اليوم لا يعتقدون هذه الصفة لله رب العالمين، هذا ما أردت التنبيه عليه، يعني: وصف المشركين بأنهم يعتقدون بأن الله حكيم خطأ؛ لأننا نعلم أن هذه الحكمة هي في كثير من الأمور الإيمانية، ومن أجل ذلك شك في هذه الصفة بعض الطوائف الإسلامية، بعض المذاهب الإسلامية، ولا أكتم الحق، ولذلك أقول: إن كتب الأشاعرة طافحة بأن الله عز وجل لا يوصف بأنه حكيم، مع علمهم بأن هذا الاسم الكريم مذكور في القرآن الكريم، ولكنهم يتأولون هذا الاسم: حكيم بأنه من الحكم وليس من الحكمة، فهو حكيم على وزن فعيل بمعنى فاعل، أي: أنه حاكم، أما أنه حكيم بمعنى أنه يضع الشيء في محله مقروناً بالحكمة، فهذا مع الأسف الشديد لا أقول: إن الأشاعرة لا يؤمنون به، بل يصرحون بنفيه، وكتبهم طافحة بذلك، وشبهتهم معروفة؛ لأنهم يتساءلون فيقولون: ما الحكمة من تعذيب الأطفال، أين الحكمة في تعذيب الأطفال؟ أين الحكمة في تعذيب الحيوانات؟ لا شك أن المسلم المؤمن بحكمة الله عز وجل يقول: قد لا أدري ما الحكمة في تعذيب الأطفال وإن كان بعض علماء التوحيد المؤمنين بهذا الاسم (حكيم) وبمعناه الصحيح يحاولون أن يوجدوا حكمة ظاهرة في تأليم الأطفال وتعذيب الحيوانات، ولكن أنا في اعتقادي ليس كل مسلم يستطيع أن يستكشف الحكمة الإلهية في كل تصرف إلهي، ولذلك فلابد في نهاية الأمر من الإيمان الذي هو الشرط الأول في وصف المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، فالإيمان بالغيب هو الفصل الحق بين المؤمن الصادق والمؤمن الكاذب، فإذا عرفنا الله عز وجل أنه وصف نفسه بأنه حكيم، فيجب أن نؤمن سواء ظهرت لنا الحكمة أو لم تظهر، على أن حكمة الحكيم العليم واضحة بينة في كثير من هذا الخلق المشهود، لا سيما المتخصصون في دراسة نظام هذا الكون. لكن تبقى هناك أمور كثيرة أو قليلة يخفى الحكمة فيها على كل الناس، أو جُل الناس أو أقل الناس، فما الذي يمنعنا أن نقول: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ؟ عجْز الأشاعرة عن أن يقفوا على الحكمة في بعض تصرفات الله عز وجل فيما يخلق، فحملهم إلى تحريف عن هذا النص القرآني، فيقولون: قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] لا يسأل عما يفعل؛ لأنه يفعل ما لا حكمة فيه ولا عدل فيه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] أي: كأي جبار من جبابرة الأرض يتصرف في حدود جبروته دون أن يتقيد بعدل أو بحكمة، هكذا وهم يقولون: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ويغالون في ذلك حتى نفوا عنه الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه في حديثه، ومع ذلك يتأولون هذه الصفات، لماذا؟ قالوا: تنزيهاً لله رب العالمين، ثم ينسون هذا كله فيصفون الله عز وجل بمثل ما يصفون به الجبابرة، إنه فعال لما يريد بدون عدل وبدون حكمة. ومن هنا توصلوا إلى التصريح بقولهم في عقيدة الجوهرة المشهورة عند الأشاعرة: لله تعذيب الطائع وإثابة العاصي، وشرح هذا عند بعضهم ممن لا يستحي ولا يخجل أن الله تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً له أن يدخل محمداً عليه الصلاة والسلام وأن يلقيه في الدرك الأسفل من النار مكان إبليس الرجيم، وأن يرفع إبليس الرجيم ويجعله في الدرجة الوحيدة التي قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أرجو أن أكون أنا هو) في الحديث المعروف لديكم جميعاً، قالوا هذا في كتبهم: له إثابة العاصي وتعذيب الطائع، فلماذا لا يعذب الحيوان، ولماذا لا يعذب الطفل الذي لا يعرف الطاعة من المعصية، وهم يقولون: لله أن يعذب الطائع، أن يدخل الرسول في الدرك الأسفل من النار، ويرفع إبليس في أعلى درجات الجنان، قالوا هذا صراحة، من أين أخذوا هذا؟ من إطلاقات الآيات الكريمات {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107، البروج:16] بلا شك أنه فعال لما يريد، هل يستطيع أحد أن يحول بينه وبين ما يريد، ولكن هل فعال لما يريد، بمعنى أنه لا عدل عنده؟! حاشا لله، هل معنى فعال لما يريد، لا حكمة عنده؟ حاشا لله! ولذلك يجب كما نقول دائماً وأبداً: كل مسألة يجب أن تضم النصوص فيها بعضها إلى بعض، وتؤخذ الخلاصة من مجموع هذه النصوص، ففعال لما يريد إنما يريد الله عز وجل من هذا النص وأمثاله ألا أحد يستطيع أن يحول بينه وبين ما يريد أن يفعله، لكن هذا ليس معناه أنه ليس بحكيم، وليس بعادل، كيف والله عز وجل يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35-36] . الجبابرة من العبيد قد يفعلون هذا كما هو الواقع اليوم والمشاهد، يرفعون السفلة المجرمين في وظائف وفي منازل رفيعة جداً، ويعكسون فيضعون الناس الصالحين في وظائف يستطيع أن يقوم بها الأطفال الصغار، هذا شأن الجبابرة، أما الله عز وجل الجبار بحق، والحكيم العليم فهو منزه عن كل شيء ينافي صفة الكمال فيه تبارك وتعالى. هذا ما أردت التنبيه عليه بالمناسبة، وأنا أريد أن أرمي عصفورين بحجر واحد. العصفور الأول: ألا نصف الكفار بأنهم كانوا يعتقدون بأن الله حكيم؛ لأن بعض المسلمين ما آمنوا به، مع أن الله عز وجل أنزل هذه الصفة في القرآن الكريم. والعصفور الثاني: إلفات النظر إلى أهمية الدعوة السلفية، التي تدعو المسلمين جميعاً إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة دون انحراف إلى الأخذ بأقوال علماء الكلام، ففي علماء الكلام ما هو إلحاد وكفر بالقرآن، وهذا مثاله قد جاءكم من باب التحذير عن وصف الكفار بأنهم يؤمنون بأن الله حكيم، وفي الوقت الذي يقولون: بأن الله خالق ومدبر الكون يؤمنون بأن الله حكيم، هذا إذا آمن به المسلمون فهذا هو واجبهم؛ لأن الله ذكر لهم في القرآن أن الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى آخره، فلا يمكن أن يؤمنوا بأن الله حكيم؛ لأن حكمته تخفى في كثير من الأمور، من أجل ذلك وقعت الأشاعرة في هذا الانحراف الخطير.

الدعوة السلفية ورجوعها قديما وحديثا إلى الكتاب والسنة عل منهج السلف الصالح

الدعوة السلفية ورجوعها قديماً وحديثاً إلى الكتاب والسنة عل منهج السلف الصالح المسألة الثالثة: وهي في الواقع زيادة بيان لبعض ما جاء في كلام الأخ، الدعوة السلفية تلتقي مع الدعوات الأخرى كلها قديمها وحديثها مما يحوم دعاتها في دائرة الإسلام، كلهم يلتقون في كلمة سواء وهي: أنهم يرجعون إلى الكتاب والسنة، فالدعوة السلفية من هذه الحيثية لا مزية لها على سائر الدعوات، خاصة ما كان منها قائماً في العصر الحاضر اليوم، ولكن إنما تتميز الدعوة السلفية في هذا المجال الذي يدندن الجميع حول الكتاب والسنة، أنهم يدعون إلى فهم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، لا يكتفون فقط بدعوة المسلمين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، بل يزيدون على ذلك إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح؛ لأن هذه الفرق الكثيرة التي أشار إليها الرسول عليه الصلاة والسلام إشارة عابرة في حديث الفرق الثلاث والسبعين، (كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هي ما أنا عليه وأصحابي) وفي رواية أخرى وهي الأصح قال: (هي الجماعة) وفي الحديث الآخر: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) إلى آخر الحديث. فنجد هنا في هذين الحديثين تنبيهاً إلى هذا القيد الذي يتمسك به السلفيون من بين سائر الدعاة: كتاب وسنة وفهم على منهج السلف الصالح؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما قال: (ما أنا عليه) فقط، وإنما قال: (وأصحاب) وما قال: (عليكم بسنتي) فقط، وإنما قال: (وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) وهذا في الواقع اقتباس من القرآن الكريم، كمثل قول رب العالمين: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] . فالله عز وجل قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] لماذا جاء بهذه الجملة؟ هذه جملة بيانية خطيرة جداً، كان يكفي أن يقول: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى) ولكنه أضاف إلى مشاقّة الرسول قوله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] بحكمة بالغة ألا وهي: أن مشاقّة الرسول إنما تظهر بمخالفة سنة المؤمنين، ومنهج السلف الصالح الذي سمعتم عنه في الكلمة السابقة. وفي ذلك يقول ابن القيم تأكيداً وإشارة عابرة سريعة إلى هذا القيد في فهم الكتاب والسنة، يقول: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه أيضاً لم يكتف بقوله: العلم قال الله قال رسوله كما يقول جماهير المسلمين، وإنما أضاف إلى ذلك: قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشبيه أريد أن أقول باختصار: إن الدعوة السلفية تدندن في جملة ما تدندن حول فهم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، ومن هنا تأتيهم العصمة من الوقوع في العقائد التي تكلم عنها علماء الإسلام، وأنها انحرفت عن الجادة كـ المعتزلة وكـ المرجئة وكـ الجبرية ونحو ذلك، ومن الأفكار الحديثة اليوم التي يتكلم بها ويسطرها كثير من الكتاب الإسلاميين باسم الإسلام وهي ليست من الإسلام في شيء، ولا يمكن لأحد من أهل العلم أن يعرف ذلك إلا إذا كان متمسكاً بالكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، هذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.

مواضيع متنوعة في العقيدة

مواضيع متنوعة في العقيدة هذه المادة هي مجموعة من الأسئلة المختلفة في باب العقيدة، والتي أجاب عنها فضيلة الشيخ الألباني رحمه الله، فمنها ما يتعلق بالخلافة والاستخلاف ومعنى هاتين الكلمتين لغة وشرعاً، وحكم قول القائل: الإنسان خليفة الله في الأرض وغيرها من الأحكام التي تختص بهاتين الكلمتين، كما ألقيت عليه أسئلة أخرى مختلفة، ولكنها في باب واحد وهو باب العقيدة.

معنى الخلافة والاستخلاف لغة وشرعا

معنى الخلافة والاستخلاف لغة وشرعاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. Q ما معنى الخلافة والاستخلاف لغة وشرعاً؟ A السائل يسأل: ما معنى الخلافة والاستخلاف لغةً وشرعاً؟ ليس هناك فرق بين اللغة والشرع في هذه المسألة فكلاهما متحد فيها، لكن الشرع يؤكد التزام اللغة في ذلك. الخلافة هي مصدر، كما جاء في القاموس يقال: خلفه خلافةً، أي: كان خليفته -ولاحظوا تمام التعبير- وبقي بعده. ومما جاء في القاموس: الخليفة السلطان الأعظم كالخليف، أي: يقال بالتذكير والتأنيث، الخليف والخليفة، والجمع خلائف وخلفاء. هذا ما في القاموس، لكن الشيء البديع ما في النهاية في غريب الحديث والأثر لـ ابن الأثير، فقد ذكر أثراً فانتبهوا له! يقول: [جاء أعرابيٌ فقال لـ أبي بكر: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا. قال: فما أنت إذا كنت تقول لست خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا الخالفة بعده] أي: الذي يأتي بعده، أما أن يكون خليفة فلا، لماذا؟ لأن معنى الخليفة فيه معنى دقيق على ما كنا نعبر عنه إجمالاً ونستنكر في التعبير، بأن الإنسان خليفة الله في الأرض، من أجل ذلك المعنى الذي يوضحه لنا الآن الإمام ابن الأثير، يقول: فقال: [أنا الخالفة بعده] أبو بكر لم يرض لنفسه أن يقول: إنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: [أنا الخالفة بعده] أي: جاء من بعده فقط، يفسر ابن الأثير فيقول: الخليفة من يقوم مقام الذاهب ويسدُّ مسدَّه، والهاء فيه للمبالغة، وجمعه الخلفاء إلى آخره. فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو بشر لم يرض أبو بكر الصديق أن يقول: إنه خليفته؛ لأن معنى الخلافة بهذه اللفظة: أنه ينوب مناب الذي خلف ومضى وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن لـ أبي بكر مهما سما وعلا أن يداني كماله عليه الصلاة والسلام. ومن هنا نعرف بأنه لا ينبغي من باب أولى أن يقال: الإنسان هو خليفة الله في الأرض؛ لأن البون أكبر من أن يذكر بين الخالق والمخلوق، فإذا كان أبو بكر لم يرض أن يقول عن نفسه إنه خليفة الرسول، فنحن لا نرضى أن نقول: إن الإنسان خليفة الله في الأرض. السائل: إذاً: فما معنى قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:36] ؟ الشيخ: أنا كنت في صدد الإجابة عن مثل هذا السؤال؛ لأن الواقع أن هذا السؤال يكثر إيراده، والجواب عنه باختصار: جاء أنه في الأرض خليفة للعلماء، وهناك أكثر من قول في تفسير هذه الآية أو هذه اللفظة بخصوص هذه الآية، والقول الذي يجنح إليه ابن كثير وهو في ذلك تابع لـ ابن جرير، يقول ابن كثير في تفسير الآية نفسها: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] : ليس المراد هنا الخليفة آدم عليه السلام فقط، كما يقول طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى فلان وفلان، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره، والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً، إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك إلخ. ثم قال ابن كثير: قال ابن جرير: وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرنٍ بعد قرن، قال: والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلانٌ فلاناً في هذا الأثر، إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر، فكان منه خلفاً. هذا هو معنى الخلافة، فنحن يجب أن نستحضر هذا المعنى العربي حتى نستعظم التعبير بأن الإنسان لا سيما إذا أطلقنا فنقول: إنه خليفة الله عز وجل؛ لأن الذي يريد أن يخلف غيره يجب أن يكون أقلَّ ما يكون قريباً منه، وكما أقول دائماً وأبداً: لا يحسن مطلقاً أن يقول القائل: فلان الجاهل، فلان الزبال، هو خليفة العالم الفلاني؛ هذا مستهزئ كل الاستهزاء؛ لأنه لا يصلح أن يكون خليفةً لذلك العالم؛ لبعد الشقة بينهما في صفة الخلافة، فماذا يقال عن إنسان بالنسبة لخالق الأكوان سبحانه وتعالى؟! ولذلك نجد التعابير في السنة الصحيحة تأتي لتضع الخليفة الحق، كما جاء في حديث في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر سفراً دعا قائلاً: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل) وفي رواية: (في الحضر) ، فإذا غاب الزوج عن بيته فمن الخليفة من بعده؟ هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يحسن الخلافة، أما أن يكون العبد العاجز الجاهل، مهما كان قوياً وعالماً، أن يكون خليفة عن الله عز وجل في الأرض، فهذا تعبير مستهجن لغةً وشرعاً!! هذا ما عندنا بالنسبة لهذا السؤال.

الضابط في تمييز الأمور الاعتقادية عن التشريعية

الضابط في تمييز الأمور الاعتقادية عن التشريعية Q ما هو الضابط الذي يميز الأمور الاعتقادية عن غيرها من الأمور التشريعية؟ A قبل الإجابة عن هذا الضابط أقول: إن مما دخل في الإسلام ولا يعرفه السلف الصالح، هو تقسيم الدين إلى أقسام لم يأتِ عليها نص في الكتاب ولا في السنة، من ذلك تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ومن ذلك ما جاء السؤال حوله، وهو تقسيم الإسلام إلى أمور اعتقادية وأحكام شرعية، وبناءً على هذا الاصطلاح الحادث جاء هذا السؤال: ما هو الضابط في تمييز الأمور الاعتقادية عن الأمور التشريعية -أي: الأحكام الفقهية-؟ من حيث اعتقادنا أن هذا التفريق لا أصل له، فأنا أنصح السائل بأنه لا يهتم بمعرفة هذا الضابط، بقدر ما يجب عليه أن يعرف أي شيءٍ كان هل هو من الإسلام أم ليس من الإسلام؟ ثم لا عليه بعد ذلك إذا عرف هذا الاصطلاح بقسميه، وأنه ينطبق على هذه الجزئية، القسم الأول أو القسم الآخر؛ لأن المهم عهو طاعة الله عز وجل في كل ما شرع، ولا يهمنا أبداً أن نعرف الأمور الاصطلاحية، لا سيما إذا كان يترتب من وراء هذه الأمور الاصطلاحية الاهتمام ببعضها دون الاهتمام بالبعض الآخر، أو تقويم -ويقولون اليوم: تقييم وهو خطأ- تقويم قسم منها ما يستحقه دون القسم الآخر وكله شرعي، ويترتب من وراء اصطلاح كهذا تنزيل قيمة بعض هذه الأحكام الشرعية عن البعض الآخر، فهذا اصطلاح يجب الإعراض عنه، بل يجب أن يضرب به عرض الحائط. الآن أجيب على السؤال مع ضرب المثال الذي يتفرع من هذا الاصطلاح يميزون الأمور الاعتقادية عن الأمور التشريعية: بأن كل خبرٍ جاء في الكتاب أو في السنة له علاقة بأمر غيبي وليس له علاقة بحكم شرعي عملي، فهذا هو الذي يعنون به أنه من الأمور الاعتقادية، وبالعكس إذا كان ذلك الأمر الذي جاء في الكتاب والسنة يترتب من ورائه حكم عملي فهو حكم شرعي، ويتبين من هذا التقرير بأن الأمور الغيبية هي الأمور الاعتقادية، فمثلاً: الاعتقاد بعذاب القبر لا يترتب وراءه عمل؛ لأنه يقف فقط عند العقيدة، وكذلك الاعتقاد بالملائكة، ووجود الجن، وأشراط الساعة، ونحو ذلك من أخبار بدء الخلق وقيام الساعة، فكل شيء ليس له علاقة إلا بالعقيدة فهو من الأمور الاعتقادية، وما يقابل هذا من الأمور العملية هي الأحكام الشرعية. وما حصيلة هذا التقرير؟ ذلك ما أشرت إليه أن بعضهم ابتدع فقال: إذا كانت الأمور الشرعية من القسم الأول -أي: لها علاقة بالأمور الغيبية الاعتقادية- وكان ذلك الأمر قد جاء في حديث صحيح فلا يؤخذ به؛ لأن له علاقة بالأمور الاعتقادية، أما إذا جاء هذا الحديث في القسم الثاني من الأحكام الشرعية فيجب الأخذ به؛ لأنه تضمن حكماً شرعياً، وهناك لا يؤخذ؛ لأنه تضمن أمراً اعتقادياً، هذا اصطلاح ليس له أصل في الكتاب والسنة مطلقاً، وإنما هو من علم الكلام والفلسفة الذي تسرب إلى المسلمين في صور شتى، فانحرف بهم عن كثيرٍ من دينهم وشريعتهم. ولنا رسالة في بيان أن هذا التفريق بين الأمور الاعتقادية والأمور التشريعية تفريق لا أصل له، وأنه مجرد أن يأتي الخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام صحيحاً يجب الإيمان والتصديق به؛ سواءً تضمن عقيدةً فقط أو تضمن حكماً شرعياً. وهذه الرسالة مطبوعة، وباستطاعة من كان حريصاً على التوسع في هذه المسألة أن يرجع إليها. لكني قبل الانتقال إلى الإجابة عن سؤال آخر أريد أن أذكر بحقيقة هامة، قلت في تلك الرسالة وفي غيرها: إن هذا التفريق مع أنه لا أصل له، لو عكس ذلك رجلٌ مثلي لكان أقرب إلى الصواب، أي: أن يقول: لا يجوز الأخذ بالأحكام إلا بالحديث المتواتر القطعي الذي اشترطوه في العقيدة فقط، أنا أقول: لو عكسوا لكانوا أقرب إلى الصواب، ولا أقول: لأصابوا؛ لأن التفريق لا أصل له في الشريعة، لكن لو عكسوا لكانوا أقرب إلى الصواب؛ لأن كل حكم شرعي يتضمن عقيدةً، وليس كل عقيدة تتضمن حكماً شرعياً، فمثلاً: الإيمان بعذاب القبر قضية اعتقادية محضة، لكن اعتقادك بأنه يجب كذا، أو يستحب كذا، أو يحرم كذا، فهذا يتضمن عقيدة، لو أن رجلاً صلى ركعتين والناس نيام بغير قصد التقرب إلى الله فلا يستفيد من ذلك شيئاً إطلاقاً، ولو صلاهما بقصد الفرض لا يستفيد من ذلك شيئاً؛ لأنه تضمن عقيدة عملها لكنه تضمن عقيدة غير مشروعة، عندما صلاهما بنية الفرض، لكن لما صلاهما بنية النفل صارت عبادة. فكل أحكام الشريعة لا يمكن أن نفصل فيها بين الحكم وبين الاعتقاد بمضمونه، فالأحكام الخمسة التي تعرفونها: الفرض والسنة والحرام والمباح والمكروه، هذه كلها لا تنفصل عنها العقيدة، وإذا تصورنا حكماً عملياً قام به مسلم وفصلنا عنه الاعتقاد به لم يكن حكماً شرعياً مطلقاً. لذلك فاشتراط الحيطة والحذر في الأحكام الشرعية التي تتضمن عقيدة وعملاً، أولى من اشتراط الحيطة والحذر في الأمور التي لا يقترنها حكم عملي، كالإيمان بعذاب القبر مثلاً، لكننا نقول: لا يجوز التفريق بين هذا وهذا مطلقاً. عرفنا إذاً أننا بصفتنا مسلمين نتمسك بما كان عليه السلف الصالح من مفاهيم الكتاب والسنة، ونمشي على آثارهم، أننا لا نفرق بين الأمور الاعتقادية وبين الأحكام الشرعية، فكل ذلك دين يجب أن نتعبد الله به، لا نفرق بين العقيدة وبين الحكم الشرعي والعبادة، فإذا ثبت حديث وتضمن حكماً شرعياً سلمنا تسليماً، وإذا جاء حديث صحيح -أيضاً- وتضمن أمراً غيبياً سلمنا تسليماً، لا نفرق بين هذا وهذا؛ لأن السلف ما فرقوا بين هذا وهذا، وكذلك الأئمة الأربعة لا يصح عن أحدٍ منهم التفريق بين العقيدة وبين الأحكام الشرعية، وإنما حدث التفريق -كما أشرنا آنفاً- من بعض المتأخرين من علماء الكلام. الذي نريد أن نذكر به مرة أخرى: موضوع الكفر الاعتقادي والكفر العملي، الذي تخبط فيه الشباب في العصر الحاضر تخبطاً خطيراً جداً، حتى وقع ألوف منهم في مذهب الخوارج، فكفَّروا المسلمين بسبب عدم تفريقهم بين الكفر الاعتقادي والعملي نحن نقول: الكفر الاعتقادي مقره القلب، وهذا لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، والكفر اللساني نحن نعرفه؛ لأننا نسمع، وإنما ندين الناس مما يظهر لنا منهم من أعمالهم ومن أقوالهم، فعندما نفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي لا نريد أن نقول: فلان عند الله مؤمن، أو هو عند الله كافر، بل أمره إلى الله تبارك وتعالى، فإذا ظهر لنا منه ما يدلنا على أنه كافر بقلبه، فنحن نعامله على ما ظهر لنا منه وحسابه إلى الله تبارك وتعالى، لكن المشكلة التي هي نقطة الدقة في الموضوع، أننا نجد في العصر الحاضر أناساً يظهر منهم ما يدل على إسلامهم وإيمانهم، ومن جهة أخرى يظهر منهم ما يدل على كفرهم، فما هو الشيء الذي نغلبه على هذا الجنس من البشر؟ هنا يقع الخبط والخوض، فمجرد أن نرى في الإنسان -مثلاً- تركاً للصلاة حكمنا عليه بأنه مرتد عن دينه، وهو لم ينكر مشروعية الصلاة، فضلاً عن أن يكون موظفاً -مثلاً- في دولة لا تحكم بما أنزل الله، فنقول: إنه كافر مرتد عن دينه. هذه الظواهر لا تدل على ما في قلب هذا الإنسان يقيناً حتى نتبنى الحكم عليه بالظاهر، لا سيما -كما قلت آنفاً- أن هناك ظواهر أخرى تدلنا على إسلامه، ولست أريد الخوض في هذه المسألة إلا بمقدار ما أنبه السائل أننا حينما نقول: الكفر الاعتقادي والكفر القلبي؛ لنحكم بالعدل بالنسبة للمكلفين أمام الله يوم القيامة، أما هنا في الدنيا فقد يظهر لنا إنسان كافر وهو ليس بكافر عند الله، وبالعكس؛ يظهر لنا أنه مسلم وهو منافق كبير عند الله تبارك وتعالى، وهذا معروف في التاريخ الإسلامي الأول فضلاً عن تاريخنا الحاضر. أضرب لكم مثالاً نبهتكم عليه مراراً: أكثر أئمة المسلمين يقولون بالنسبة لتارك الصلاة: إنه يقتل حداً ويدفن بمقابر المسلمين، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا يتصور إنسان يؤثر القتل على أن يصلي، فهو يقتل كفراً؛ لوجود القرينة على أن هذا رجل كما يقال اليوم في لغة العصر الحاضر: عقائدي؛ لأنه لو كان لا ينكر الصلاة لما أثر القتل عليها وصلى ولو نفاقاً. أما هذا السؤال الذي أنت تسأل عنه، تريد قرينة ظاهرة تستند إليها، تقول: يقتل حداً أو كفراً، ما دام أنك ما استطعت أن تصل إلى قرينة ظاهرة، وتدل قطعاً أنه منافق بقوله، فحينئذٍ حسبك أن الشارع أعطاك صلاحية استئصال شره من وجه الأرض، ثم حكمه إلى الله عز وجل، فهو يعلم السر وأخفى.

إثبات صفة العلو لله عز وجل

إثبات صفة العلو لله عز وجل Q ما القول في الحديث الذي رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمطرت السماء حسر عن منكبيه حتى يصيبه المطر ويقول: إنه حديث عهدٍ بربه) مع العلم أن السحابة مصدر المطر قريب من الأرض وهو في السماء الدنيا؟ A كأن السائل يفرق بين العلو القريب والعلو البعيد، وهناك فرق بين ما يتعلق بصفة العلي الأعلى المطر صحيح أنه ينزل من السحاب، لكن السحاب من السماء، وكل ما علاك فهو سماء، فهو ينزل من مكان يوصف بالعلو، فحينما رئي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد نزل المطر وخرج يتوقاه بصدره، فاستغرب منه ذلك بعض أصحابه وسألوه عن السبب، فقال: (إنه حديث عهدٍ بربه) في ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل له صفة العلو، لكن نحن كما نقول دائماً وأبداً: علو الله عز وجل صفة من صفاته كأي صفةٍ أخرى، ومجموعة صفاته كذاته، كما أن ذاته لا تشبه شيئاً من الذوات، كذلك صفاته لا تشبه شيئاً من الصفات، فإذا كان الكتاب والسنة متواردين في آيات وأحاديث كثيرة جداً على إثبات صفة العلو للعلي الغفار؛ فهذا الحديث من تلك الأحاديث التي تشير إلى صفة العلو، لكن الحديث لا يعني أن الله في السحاب، وإنما يعني أن هذا المطر نزل من جهة العلو الذي هو صفة من صفات الله عز وجل، لكن العلو باعتباره صفة من صفات الله، فهو عالٍ على جميع مخلوقاته تبارك وتعالى، ونحن مجرد أن نتصور هذه الصفة بدون أي تكلف؛ لأن الأمر كما يقول العلماء: كل ما خطر في بالك فالله خلاف ذلك، لكن مجرد أن نتصور أنه عالٍ على جميع مخلوقاته يكفي أن نقنع أنفسنا؛ لأن هذه الصفة لا تشبه صفات المخلوقات، وأي مخلوق يكون فوق المخلوقات كلها؟! فالله عز وجل الذي له هذه الصفات المطلقة أن يكون عالياً على جميع مخلوقاته، فنزول المطر من السماء، وتلقي نبينا إياه بصدره وقوله: (إنه حديث عهدٍ بربه) أي: حديث عهد لانصبابه من الجهة التي تشترك في صفة العلو، ونحن دائماً وأبداً نقول: إن المخلوقات تشترك مع الله في الصفات اسماً لا حقيقةً، فنحن نقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. } [البقرة:255] ونحن أحياء ولسنا أمواتاً، لكن سنقول: حياة الله ليست كحياتنا، إذاً انتهت المشكلة، فردوا هذه القاعدة واستريحوا من فلسفة علم الكلام، كل صفة ثبتت في الكتاب والسنة فاحملوها على آية التنزيه والإثبات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11] . الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إنه حديث عهدٍ بربه) أي: انفصاله من الجهة العليا، والجهة العليا هي صفة من صفات ربنا تبارك وتعالى، لكن هل هذه الصفة كهذه الصفة؟ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .

الإيمان يزيد وينقص

الإيمان يزيد وينقص Q يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويخلعه أخرى) ، وعنه مرفوعاً: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان) ، وقال أحمد: عن ابن عباس أنه قال لـ ابن مالك: [من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زانٍ إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه] الأحاديث السابقة تدل حسب ما بدا لي على أن الإيمان يخلع مرة واحدة أو ينفى مرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين الآيات التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه؟ وما تعليق فضيلتكم على مذهب الأحناف في موضوع أن الإيمان يكون أو لا يكون في حديث إيمان الزاني، هذا مع أنه يوافق مذهبهم كما يبدو وجزاكم الله خيراً؟ A الحديث الأول لا أذكر إذا كان ثابتاً أو لا، وهو: (إن الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويخلعه أخرى) . الذي يستحق التعليق في ظني على هذا السؤال هو الحديث المرفوع الذي ذكره السائل بعد الحديث المروي عن أبي هريرة المرفوع في الأول، هذا على أنه موقوف، فأنا لا أذكر إذا كان ثابتاً عن أبي هريرة أم لا. أما الحديث الثاني وهو قوله عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان) ، هذا الحديث متمسك به لمن ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأرجو من السائل والسامع في آن واحد أن يكونوا أو يحاولوا أن يكونوا ممن تحدث رسولنا صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فهو ينبغي أن ينظر في الحديث نظرة صادقة عن تأييد مذهب على مذهب، فإذا كان هذا الحديث -كما يتوهم السائل- يؤيد مذهب الحنفية، فهل الحنفية يقولون: إن الزاني إذا زنى كفر؟ فالحديث نفسه لا يكون للحنفية خلافاً لما توهم السائل؛ (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، هم الأحناف أنفسهم، وهذا في الواقع مما يقيم الحجة عليهم بكلامهم، لا يجدون تفسيراً لهذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وهو مفسر لهذا الحديث إلا على طريقة الجمهور من السلف الصالح الذين يقولون: إن الإيمان لا يعني الاعتقاد فقط، بل وفيه يدخل -أيضاً- العمل الصالح. ومن هنا جاء اعتقادهم الآخر الصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا صريح في القرآن الكريم، ولذلك فقوله عليه السلام في الحديث المذكور: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) كيف تأوله الأحناف؟ قالوا: وهو مؤمن كامل الإيمان. إذاً: الإيمان له مراتب وله درجات، يدخل فيه نقص وزيادة، فتأويلهم للحديث هو تأييد لرأي الجمهور الذين يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، وإن الإيمان من معناه العمل الصالح، إذا عرفنا هذه الحقيقة ورجعنا إلى هذا الحديث فلا يمكن أن يفسر هذا الحديث لا على مذهب الجمهور الذين يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، ولا على مذهب الحنفية الذين يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإنما هو حقيقة واحدة. فقوله: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة) نحن إذا نظرنا هنا إلى لفظتين: أولاً: الإيمان، وثانياً: الظلة، فهل نأخذ لفظ الإيمان بالمعنى الجامد الذي لا يقبل الزيادة والنقص؟ وهذا لا يقوله علماء السلف قاطبةً، وهنا بالذات لا يقوله الحنفية أيضاً؛ لأنهم لو قالوا: خرج منه الإيمان، معناها أنهم قالوا بقول الخوارج، وهو أن ارتكاب الذنب الكبير هو خروج من الدين، وهذا -والحمد لله- لا يقوله الحنفية، لذلك فهم سيضطرون إلى تأويل الإيمان مثلما أولوا الحديث الآخر: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي: وهو مؤمن كامل الإيمان، فهنا يخرج منه الإيمان كله، أو الإيمان الثاني الذي يستلزم ألا يقع في مثل هذه المعصية. هذا التأويل الأول، أن نقول: الإيمان يعني الإيمان الثاني، أما الإيمان المنجي من الخلود يوم القيامة فأقل منه بكثير ينجي، هذه اللفظة ينبغي النظر إليها -أولاً- لفهم الحديث على الوجه الصحيح. اللفظة الأخرى: (فكان عليه كالظلة) هذا لا يعني أن الإيمان خرج منه خروجاً، حتى لو فسرنا الإيمان بالإيمان المطلق، أي: خرج الإيمان الكامل والناقص بحيث لم يبق في قلبه شيء من الإيمان، لو فسرنا هذا التفسير -أيضاً- فلا يعني الحديث أن هذا الرجل خرج منه الإيمان وانفصل عنه بالكلية، أي: إنه مات موتاً معنوياً، صار كافراً، لا؛ لأنه خرج منه وصار متعلقاً به تعلق الظلة بالمستظل بها، وأقرب شيء نستطيع أن نفسر تعلق الإيمان والحالة هذه بصاحب هذه الجريمة، خروج الروح من الإنسان وهو نائم، وفرق بين خروج الروح من الإنسان وهو نائم فهو لا يزال حياً، لكن حياته غير الحياة الطبيعية وهو يقظ، وعلى العكس من ذلك خروج الروح من بدن الإنسان نهائياً، فيصبح بدنه كالخشبة، هكذا نستطيع أن نفرق بين خروج الإيمان كله من الإنسان فيموت موتاً معنوياً كما يموت الجسد في انفصال الروح منه انفصالاً كلياً، وبين أن يموت نصف موتة، أو بعض موتة -إذا صح التعبير- أن يخرج من الإنسان هذا الإيمان الكامل الذي لا يليق بهذا المجرم الذي ارتكب الزنا. فإذاً: هذا خروج لا يزال الإيمان متعلقاً بصاحبه، كما لا تزال الروح متعلقة بصاحبها في حالة نوم الجسد ولا تزال الروح متعلقة، فإذاً خرج منه الإيمان الكامل ولم يخرج منه خروجاً مطلقاً بحيث لم يبق له علاقة، فإذا انقلع -هكذا جاء في اللفظ وأظن أنه أقلع- رجع إليه الإيمان. وأخذ الحديث ودراسته دراسة سطحية ظاهرية، هذا أولاً: ليس من طريقة العلماء إطلاقاً، لا فرق بين الماتريدية والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الإيمان زيادته وعدم زيادته، وماذا يقول السائل في مثل الحديث الصحيح وهو أصح من هذا: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) هل نفسره هكذا على الظاهر، لا إيمان مطلقاً؟ لا أحد يقول هذا، لا حنفي ولا شافعي. إذاً: لا إيمان كامل ولا دين كامل، كذلك هذا الحديث الذي يفسر ملاحظاً فيه الإيمان الكامل أولاً، وشيء زائد وهو أن يكون عليه كالظلة ليس منفصلاً عنه كلياً، لذلك إذا ما أقلع عن الذنب عاد هذا الإيمان إلى صاحبه؛ لأنه لم ينفصل عنه كلياً. ومن هذا البيان والشبه أظن يؤخذ الجواب عن سؤال السائل حين أتبع ما سبق بقوله: وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: [من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زانٍ إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه] فهنا نزع الله منه نور الإيمان بُين المنزوع وليس هو الإيمان نفسه، وإنما نوره، وهذا بدل. السائل: الأحاديث السابقة تدل حسب ما بدا لي على أن الإيمان يسقط مرة، أو ينفى مرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين الآيات التي تدل على زيادة الإيمان؟ الشيخ: قد عرفنا يا أخي الجواب! ما دام الإيمان يزداد وينقص فالمنفي هو الإيمان بالكامل، وليس أصل الإيمان، وقد ضربت مثلاً آنفاً واضحاً جداً: (لا إيمان لمن لا أمانة له) ومثله أحاديث كثيرة، لا إيمان كاملاً، وإذا أخذنا الأحاديث وفسرناها على ما يريد السائل تركنا مذهب أهل السنة جميعاً على ما بينهم من اختلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، والتحقنا بـ الخوارج الذين يكفرون المسلمين لمجرد وقوعهم في بعض المعاصي الكبيرة. السائل: وما تعليل استشهادكم على مذهب الأحناف في موضوع أن الإيمان يكون مرة أو لا يكون بحديث إيمان الزاني، مع أنه يوافق مذهبهم، كيف يوافق مذهبهم؟ وهل الأحناف يقولون: الزاني يكفر؟ الشيخ: لا. وقد فسرت ماذا يقول الأحناف، مما يؤيد أن الصواب في موضوع الإيمان هو ما يرجفون، ويكفي تنبيهاً للسائل أن الآيات التي أشار الشارع إليها صريحة في زيادة الإيمان، ولذلك إذا جاءنا الحديث الذي سأل عنه، أو حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فلابد من تفسير هذه الأحاديث تفسيراً يتفق مع النصوص الأخرى من الكتاب والسنة، حتى نكون في حرزٍ وفي حصن من الانحراف يميناً أو يساراً، وأننا لسنا من الخوارج أو من المعتزلة والعياذ بالله تعالى!

رأي الشيخ في أصول قررها أحد الكتاب الإسلاميين وتعليقه عليها

رأي الشيخ في أصول قررها أحد الكتاب الإسلاميين وتعليقه عليها Q ما رأيكم في هذه الأصول التي قررها كاتب إسلاميٌ كبير: آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يلحق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من اختلافٍ بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ؟ A هذا كلام سليم وجميل، لولا أن فيه غموضاً في ناحية واحدة، فلا بد من توضيحها وبيانها، وهي قوله في آخر بيانه: وإنما يسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو كما قال نقول: نعم. ولكن آيات الصفات هذه وأحاديث الصفات حينما لم يتأولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعطلها، يرد سؤال هنا: هل فهمها، أم لم يفهمها؟ إن قيل: فهمها، إذاً لا بد لنا من فهمها اقتداءً بالنبي عليه السلام؛ لأن الكاتب يقول: يسعنا ما وسع الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا كلام حق. وإن قيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فهمها ولا بحث عنها، فهذا صدم وضرب لأعز شيء في الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أنه قد أنزل القرآن عليه، وكلف ببيانه للناس، فإذا قيل بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفهم هذه الآيات، فهو بطبيعة الحال لم يبينها للناس؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والقول بأنه لم يبين ذلك منافٍ لعديدٍ من النصوص، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] إلى آخر الآية، وإن قيل: لا. حاشا لله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد فهم هذه الآيات كما فهم القرآن كله، تجاوباً منه مع مثل قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] فحينئذٍ لا بد للخلاص من التأويل والتعطيل، من الفهم لنصوص آيات الصفات وأحاديث الصفات بدون تعطيل وبدون تشكيك. الأصل في هذا أن في مسألة آيات الصفات وأحاديث الصفات مذاهب ثلاثة: مذهب السلف، وهو فهم النصوص كما جاءت بدون تشبيه وبدون تأويل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا نقول: الله أعلم بمراده. المراد مفهوم من قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ، لكن في الوقت الذي نفهم هاتين الصفتين بالأسلوب العربي لا نشبه ربنا عز وجل بشيءٍ من عباده، جمعاً بين التنزيه والإثبات المذكورين في هذه الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] هذا مذهب السلف. مذهب الخلف: هو المذهب الثاني، وهو تأويل آيات الصفات -زعموا- خشية التشبيه، فوقعوا -مع الأسف الشديد- في التعطيل، أي: أنكروا كثيراً من الصفات، والمذاهب هنا منها المؤولة المتعمقة في التأويل، حتى لتكاد تنكر وجود الله بسبب إنكارهم لصفات الله، ولا شك أن بعض الفلاسفة الإسلاميين وقعوا في هذا الجحد المطلق، يقولون: لا نصفه بأنه حي، ولا نقول: إنه حي أو ليس بحي، لماذا؟ لأنه لو قلت: إن الله حي، فأنا متكلم وأنا حي وأنت حي، وهذا تشبيه، ولا نقول: ليس بحي؛ لأننا حكمنا عليه بالعدم، وهكذا وقعوا في (حيص بيص) وفي حيرة، أدت بهم في الواقع إلى الجحد المطلق. لذلك أحسن التعبير عن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ثم تبعه بعد ذلك ابن القيم فقال: المعطل يعبد عدماً. لا شك، لكن قلت: إن المؤولة يتفاوتون في التأويل، فمنهم من أغرق في التأويل حتى وصل به الأمر إلى الجحد المطلق، ومنهم دون ذلك، ومنهم أقل وأقل، ومن هؤلاء الأشاعرة والماتريدية مع الأسف؛ فهؤلاء -والكلام يهمنا بالنسبة إليهم؛ لأن جماهير المسلمين اليوم من أهل السنة يتمذهبون بمذهب هذين المذهبين- فهؤلاء -مثلاً- في الآية السابقة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا يتأولون السمع والبصر، لا يقولون كما تقول المعتزلة (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: عالم، فـ المعتزلة أشد إغراقاً في تعطيل آيات الصفات بطريق التأويل، فهم لا يقولون: نصف ربنا بأن له سمعاً وله بصراً، لكن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، والمعتزلة يقولون: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] أي: العليم. فنقول: الله وصف نفسه في غير ما آية بأنه عليم، فكيف تعطلون هذه الآية أو هاتين الصفتين؟ الماتريدية والأشاعرة سلكوا هنا على الجادة، قالوا: نقول كما قال ربنا: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لكن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] بينما أولوا آيات أخرى وأحاديث أخرى في صفات، لماذا؟ قالوا: نخشى من التشبيه، أي: إما أن تطردوا هذه الخشية فيصل بكم الأمر إلى الجحد المطلق، وإما أن تقفوا موقف السلف عند هذه الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] هذان مذهبان: مذهب السلف: الفهم، وما يجب على ذلك من القواعد العربية مع التنزيه، ومذهب الخلف: التأويل خشية التشبيه، فوقعوا في كثيرٍ من التعطيل. ووجدت طائفة ثالثة، وهم الذين -زعموا- يريدون أن يقفوا وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، وهؤلاء يسمون بـ المفوضة، هم لا يفسرون تفسير السلف، ولا يؤولون تأويل الخلف، فإذا قيل لهم: ما معنى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ؟ قالوا: الله أعلم بمراده {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] قالوا: الله أعلم بمراده وهكذا كل آيات الصفات لسان حالهم يقول: لا نعلم، لا نعلم، لماذا لا تعلمون؟ الآيات واضحة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] إلخ، ويقولون: نحن إذا أردنا أن نفصل نريد أن نؤول، وإذا أولنا خالفنا السلف، إذاً نقف بين هؤلاء وهؤلاء. وأنا أعرف من تجربتي وقراءتي للبحوث التي تقع في هذا العصر، أن أكثر الكتاب الإسلاميين اليوم من غير السلفيين مذهبهم التفويض، لا يأخذون بمذهب السلف وهو واضح جداً؛ لأن الخلف هونوا وقللوا من قيمة مذهب السلف حينما قالوا: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحسن. بئس ما قالوا! معنى هذا الكلام: أن السلف ومن بينهم محمد صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهم، لم يفهموا الفهم الصحيح لهذه الآيات، لماذا؟ قالوا: لأن الولوج في تفسيرها قد يورط المفسر فيقع في شيء من التعطيل أو التشبيه، أما الخلف فقد ابتعدوا عن هذا وهذا، وجاءوا بالعلم الدقيق الصحيح بتفسير هذه الآيات كيف يمكن أن يعقل هذا؟!

أبيات شعرية توضح العقيدة السلفية

أبيات شعرية توضح العقيدة السلفية عقيدتنا سلفية الأفكار والإيمان أصل الصواب على مدى الأزمان تفنى العقائد والشعوب وتمتحي وتظل دعوتنا بكل مكان حفظ الإله لنا عقيدة أحمدٍ بالحفظ من مكلوم والقرآن لا زيغ فيها لا انحراف يمسها سلمت من التحريف والنقصان خلبت على الأيام دعوة أحمدٍ عمت جميع الأرض والعمران هي للبرايا رحمةٌ من ربهم جلت وعزت رحمة الرحمن أخذ الصحابة ما أتاهم من هدى واستسلموا لعقيدة الفرقان ما أولوا أو عطلوا أو شبهوا بل صدقوا ما جاء في إذعان لم يعملوا أفكارهم في ذاته أو في صفات الخالق الحنَّان فهموا من الأوصاف معنىً واضحاً في الوهلة الأولى مدى الأذهان مرت كما جاءت على أفهامهم من دونما لفٍ ولا دوران قالوا: سميع ذاك سمعٌ لائقٌ بجلاله لا السمع بالآذان فالذات ليست كالذوات وسمعها لا يشبه الأسماع في الإنسان وله يدٌ لا بل يدان وأعينٌ ليست كعين الخلق والأعيان من قال إن العين تعني حفظه أو قال إعطاء العطاء يدان مبسوطتان يداه جل جلاله بالخير والإكرام والإحسان الله فوق العرش فوق عباده هو مستوٍ لا كاستوا إنسان قالوا بل استولى لتأويل استوى قلنا: أكان العرش غير مصان أم كان مملوكاً لربٍ غيره فأتى الإله منافساً للثاني قالوا: استوى جهةٌ وحصرٌ عندها والله موجودٌ بكل مكان جعلوا المكان لمن بغاه حاوياً والله فوق مكانهم وزمان ليس العلو لربنا كجهاتهم هو ظاهرٌ فوق العباد وداني الله خالق كل شيءٍ عالمٌ وهو المحيط بكل خلقٍ ثان الأمر أمر الله حكمٌ نافذٌ لا يكره الإنسان في الأديان أقداره خيرٌ ولا يرضى لنا كفراً وكسب الشر فعلٌ جاني أفكارنا من أعطيات كتابنا ليست بتأويلٍ ولا هذيان من فهم أحمد ثم فهم صحابه فلك الهدى والخير في الأكوان من منهج الأصحاب نهج حياتنا في الفكر والأخلاق والإيمان لا نرتضي بدعاً فكل ضلالة في النار صاحبها مع الشيطان من شرع الأحكام كان منافساً لله في التشريع والتبيان لا نأخذ الأحكام من زيدٍ ولا من أي إنسان بلا برهان قال الإله وقال خاتم رسله برهاننا فالوزن بالميزان بالحق نعرف قائلاً فنجله لا نعصم الإنسان عن نسيان ما كثرة تعطي الصواب لكثرة لا توزن الأفكار بالقبان لا نعبد الأشخاص في تقليدهم من دون فكرٍ مشية العميان فإطاعة الأشخاص نوع عبادةٍ إن خالفوا هدياً من العدنان ما طاعة مفروضة في شرعنا إلا لرب العرش والأكوان وله العبادة لا شريك له بها هو وحده المخصوص بالإذعان لا نستغيث بغيره أو نرتدي شيئاً من الطاغوت والكهان كل التضرع والتذلل والرجا والخوف والإشفاق للديان إن العبادة لا تجوز لغيره إن جوزت كانت إلى الأوثان إن التوكل والخضوع عبادةٌ وكذا الدعاء وطلبة الغفران ثم الذبائح والنذور تقرباً بالأولياء وكل صاحب شان من يسأل المقبور يشرك عامداً ما الشرك والإيمان يجتمعان كل الذنوب يجوز غفران لها لا يغفر الإشراك بالرحمن الشرك يخفى عن كثيرٍ أمره أخفى دبيباً من دم الشريان هذي عقيدتنا وهذا شأنها وبها نواجه منزل القرآن في الله لا نخشى ملامة لائمٍ فاللوم بعض مصائب الشيطان ندعو لكثرتنا ولا نخشى الردى لا يرهب الآجال غير جبان لكننا لا ننثني عن عزمنا والله يعصمنا من الطغيان

تفسير القرآن الكريم

تفسير القرآن الكريم إن تفسير القرآن الكريم يعتمد أول ما يعتمد على تفسيره بالقرآن، ثم بالسنة، وذلك وفق القواعد التي أقرها أهل العلم، وبهذا يتم الجمع بين النصوص التي ظاهرها الاختلاف في بعض الأحيان، مع فهمها فهماً صحيحاً دون ضرب النصوص بعضها ببعض. وفي هذه المادة أجاب الشيخ عن بعض الأسئلة التي تجلِّي هذا المفهوم، كما أجاب عن بعض الأسئلة لبيان ضوابط حمل ألفاظ النصوص على المعاني المرادة فيها.

حكم عدم الإنصات لتلاوة القرآن

حكم عدم الإنصات لتلاوة القرآن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. Q عندما تكون المسجلة مفتوحة على القرآن الكريم، وبعض الحاضرين لا يستمعون بسبب أنهم مشغولون بالكلام، فما حكم عدم الاستماع؟ وهل يأثم الذي فتح المسجلة أو أحد الحاضرين؟ A الجواب عن هذه القضية يختلف باختلاف المجلس الذي يتلى فيه القرآن من المسجلة، فإن كان المجلس مجلس علمٍ وذكرٍ وتلاوة للقرآن؛ فيجب والحالة هذه الإصغاء التام، ومن لم يفعل فهو آثم؛ لمخالفته لقول الله تعالى في القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] أما إذا كان المجلس ليس مجلس علم، ولا مجلس ذكر، ولا مجلس تلاوة قرآن، وإنما مجلساً عادياً، كأن يكون الإنسان يعمل في البيت، أو يدرس، أو يطالع؛ ففي هذه الحالة لا يجوز فتح آلة التسجيل ورفع صوت التلاوة، بحيث يصل إلى الآخرين الذين هم في البيت أو في المجلس، فهؤلاء في هذه الصورة ليسوا مكلفين بالسماع؛ لأنهم لم يجلسوا له، والمسئول هو الذي رفع صوت المسجلة، وأسمع صوتها للآخرين؛ لأنه يحرج الناس، ويحملهم على أن يستمعوا للقرآن وهم ليسوا مستعدين لهذا الاستماع. وأقرب مثال على هذا: أن أحدنا يمر في الطريق فيسمع السمان، وبائع الفلافل، والذي يبيع (الكاسيتات) -الأشرطة-، وقد ملأ صوتُ القرآنِ الطريقَ، وأينما ذهبت تسمع الصوت، فهؤلاء الذين يمشون في الطريق كل في سبيله، هل هم مكلفون بأن ينصتوا لهذا القرآن الذي يتلى في غير محله؟ الجواب: لا، وإنما المسئول هو هذا الذي يحرج الناس ويسمعهم صوت القرآن، إما للتجارة، أو للفت نظر الناس إليه، ونحو ذلك من المصالح المادية. فإذاً: هم يتخذون القرآن من جهة مزامير، كما جاء في بعض الأحاديث، ثم هم يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً بأسلوب آخر غير أسلوب اليهود والنصارى، الذين قال الله عز وجل في حقهم: {يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران:199] .

إثبات صفة المكر لله تعالى

إثبات صفة المكر لله تعالى Q جاء في القرآن الكريم أن الله عز وجل يخبر عن نفسه سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] فربما يضيق عقل بعض الناس عن فهم هذه الآية على ظاهرها؛ لأننا لسنا بحاجة إلى التأويل كما قلنا آنفاً، فكيف يكون الله خير الماكرين؟ A المسألة سهلة بفضل الله؛ ذلك لأننا نستطيع أن نعرف أن المكر من حيث هو مكر لا يوصف دائماً وأبداً بأنه شر، كما أنه لا يوصف دائماً وأبداً بأنه خير، فرب كافر يمكر بمسلم؛ لكن هذا المسلم كيس فطن ليس مغفلاً، وليس غبياً، فهو متنبه لمكر خصمه الكافر، فيعامله على نقيض مكره هو، بحيث تكون النتيجة أن هذا المسلم بمكره الحسن قضى على الكافر في مكره السيئ، فهل يقال: إن هذا المسلم حينما مكر بالكافر؛ قد تعاطى أمراً غير مشروع؟ لا أحد يقول هذا. ومن السهل أن تفهموا هذه الحقيقة من قوله عليه الصلاة والسلام: (الحرب خدعة) ويقال في الخداع ما يقال في المكر تماماً، فمخادعة المسلم لأخيه المسلم حرام، لكن مخادعة المسلم للكافر عدو الله وعدو رسوله ليست حراماً، بل واجب. كذلك مكر المسلم بالكافر الذي يريد المكر به، بحيث يبطل هذا المسلم مكر الكافر، فهذا مكر حسن، وهذا إنسان وهذا إنسان، فماذا نقول بالنسبة لرب العالمين، القادر العلي الحكيم؟ فهو يبطل مكر الماكرين جميعاً، لذلك قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] . فحينما وصف ربنا عز وجل نفسه بهذه الصفة؛ فإنه قد لفت نظرنا بأن المكر حتى من البشر ليس مذموماً بإطلاق؛ لأنه قال: {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، فهناك ماكر بخير وماكر بشر، فمن مكر بخير فلن يذم، والله عز وجل كما قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] . وباختصار أقول: كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك، فإذا توهم الإنسان أمراً لا يليق بالله فليفترض مباشرة أنه مخطئ، فهذه الآية هي مدح لله عز وجل، وليس فيها أي شيء لا يجوز نسبته إلى الله تبارك وتعالى.

مصير من لم يدخل الإسلام من أهل الديانات السابقة

مصير من لم يدخل الإسلام من أهل الديانات السابقة Q كيف نوفق بين هاتين الآيتين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] . A لا تعارض بين الآيتين كما يوهم السؤال؛ ذلك لأن آية الإسلام هي بعد أن تبلغ دعوة الإسلام أولئك الأقوام الذين وصفهم الله عز وجل في الآية الثانية بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذكر منهم الصابئة، والصابئة عندما يذكرون يسبق إلى الذهن أن المقصود بهم عباد الكواكب، والحقيقة أنهم كل قوم وقعوا في الشرك بعد التوحيد، والصابئة كانوا موحدين، ثم عرض لهم الشرك وعبادة الكواكب، فالذين ذكروا في هذه الآية هم المؤمنون الموحدون منهم. فهؤلاء قبل مجيء دعوة الإسلام هم كاليهود والنصارى، وذكروا أيضاً في نفس السياق الذي ذكر الصابئة، فهؤلاء من كان منهم متمسكاً بدينه في زمانه؛ فهو من المؤمنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولكن بعد أن بعث الله عز وجل محمداً عليه الصلاة والسلام بدين الإسلام، وبلغت دعوة الإسلام أولئك الناس من يهود ونصارى وصابئة؛ فلا يقبل منهم إلا الإسلام. إذاً: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً} [آل عمران:85] أي: بعد مجيء الإسلام على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلوغ دعوة الإسلام إليه، فلا يقبل منه. أما الذين كانوا قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو الذين قد يوجدون اليوم على وجه الأرض ولم تبلغهم دعوة الإسلام، أو بلغتهم دعوة الإسلام ولكن بلغتهم محرفة عن أساسها وحقيقتها، كما ذكرت لكم في بعض المناسبات عن القاديانيين -مثلاً- اليوم، الذين انتشروا في أوروبا وأمريكا، يدعون إلى الإسلام، ولكن هذا الإسلام الذي يدعون إليه ليس من الإسلام في شيء؛ لأنهم يقولون بمجيء أنبياء بعد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء الأقوام الأوروبيون الذين دُعُوا إلى إسلام قادياني لم تبلغهم دعوة الإسلام. إذاً: باختصار من كان قبل الإسلام، ومن قد لا يزال حتى بعد الإسلام ولم تبلغه دعوة الإسلام، فهؤلاء يقسمون إلى قسمين: قسم منهم على دين سابق وهم متمسكون به، وعلى ذلك تحمل آية: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] . وقسم انحرف عن هذا الدين، كما هو شأن الكثير من المسلمين اليوم، فالحجة قائمة عليهم. أما من لم تبلغهم دعوة الإسلام مطلقاً سواء بعد الإسلام أو قبله؛ فهؤلاء لهم معاملة في الآخرة، وهي أن الله عز وجل يبعث إليهم رسولاً يمتحنهم كما امتحن الناس في الحياة الدنيا، فمن استجاب لذلك الرسول في عرصات يوم القيامة وأطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.

الإرادة الشرعية والإرادة الكونية

الإرادة الشرعية والإرادة الكونية Q قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الإسراء:46] يشم البعض منها رائحة الجبر، فما رأيكم؟ A الجعل هو جعل كوني، ولفهم هذا لا بد من شرح الإرادة الإلهية، فإن الإرادة الإلهية تنقسم إلى قسمين: - إرادة شرعية. - وإرادة كونية. الإرادة الشرعية هي: كل ما شرعه الله عز وجل لعباده، وحضهم على القيام به، من طاعات وعبادات، على اختلاف أحكامها من فرائض إلى مندوبات، وهذه الطاعات والعبادات يريدها الله تبارك وتعالى ويحبها. أما الإرادة الكونية فهي: قد تكون تارة مما شرع الله وأحبها لعباده، وقد تكون تارة مما لم يشرعها ولكنه قدرها، وهذه الإرادة إنما سميت بالإرادة الكونية اشتقاقاً من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فشيئاً: اسم نكرة يشمل كل شيء؛ سواءً كان طاعة أو كان معصية، إنما يكون ذلك بقوله تعالى: (كن) . أي: بمشيئته وبقضائه وقدره، فإذا عرفنا هذه الإرادة الكونية، وهي أنها تشمل كل شيء؛ سواء كان طاعة أو كان معصية، حين ذلك لا بد من الرجوع بنا إلى موضوع القضاء والقدر؛ لأن قوله عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] معنى ذلك أن هذا الذي قال له (كن) جعله أمراً مقدراً كائناً لا بد منه. حينئذٍ طرقنا بحث القضاء والقدر مراراً وتكراراً، وقلنا: إن كل شيء عند الله عز وجل بقدر، أيضاً هذا يشمل الخير ويشمل الشر، ولكن ما يتعلق منه بنا نحن الثقلين الإنس والجن المكلفين المأمورين من الله عز وجل، فما يتعلق بنا نحن يجب أن ننظر إلى ما نقوم به نحن، حيث إنه: إما أن يكون بمحض إرادتنا واختيارنا، وإما أن يكون رغماً عنا، وهذا القسم الثاني لا يتعلق به طاعة ولا معصية، ولا يكون عاقبة ذلك جنة ولا نار، وإنما القسم الأول عليه تدور الأحكام الشرعية، وعلى ذلك يكون جزاء الإنسان الجنة أو النار. أي: ما يفعله الإنسان بإرادته ويسعى إليه بكسبه واختياره، فهو الذي يحاسب عليه الإنسان إن خيراً فخير أو شراً فشر، هذه حقيقة! أي: كون الإنسان مختاراً في قسم كبير من أعماله؛ فهذه حقيقة لا يمكن المجادلة فيها لا شرعاً ولا عقلاً، أما الشرع فنصوص الكتاب والسنة متواترة يأمر الإنسان في أن يفعل ما أمر به، وفي أن يترك ما نهي عنه، وهي أكثر من أن تذكر، وأما عقلاً فواضح لكل إنسان متجرد عن الهوى والغرض بأنه حينما يتكلم حينما يمشي حينما يأكل حينما يشرب حينما يفعل أي شيء مما يدخل في اختياره؛ فهو مختار في ذلك وغير مضطر إطلاقاً. هأنذا أتكلم معكم الآن، لا أحد يجبرني بطبيعة الحال، ولكنه مقدر، فمعنى كلامي هذا مع كونه مقدراً، أي: أنه مقدر مع اختياري لهذا الذي أقوله وأتكلم به، أنا الآن أتابع الحديث ولا أسكت، ولكن باستطاعتي أن أصمت لأبين لمن كان في شك مما أقول أني مختار في هذا الكلام، هأنا أصمت الآن ولو للحظات؛ لأنني مختار. إذاً فاختيار الإنسان من حيث الواقع أمر لا يحتاج المناقشة والمجادلة، وإلا يكون الذي يجادل في مثل هذا إنما هو يسفسط ويشكك في البديهيات، وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة انقطع معه الكلام. إذاً: أعمال الإنسان تنقسم إلى قسمين: اختيارية، واضطرارية. فالاضطرارية ليس لنا فيها كلام، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الواقعية، إنما الشرع يتعلق بالأمور الاختيارية، فهذه الحقيقة إذا ما ركزناها في ذهننا؛ استطعنا أن نفهم الآية السابقة: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الإسراء:46] فهذا الجعل كوني، ويجب أن تتفكروا في الآية السابقة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} [يس:82] كوني، ولكن ليس رغماً عن هذا الذي جعل الله على قلبه أكنة، هذا مثاله من الناحية المادية: الإنسان حينما يخلق، يخلق ولحمه غض طري، ثم إذا ما كبر، وكبر، وكبر، يغلظ لحمه ويشتد عظمه، ولكن الناس ليسوا كلهم في ذلك سواء، ففرق كبير جداً بين إنسان منكب على نوع من الدراسة والعلم، فهذا ماذا يقوى فيه؟ يقوى عقله، ويقوى دماغه في الناحية التي هو ينشغل بها، وينصب في كل جهوده عليها، لكن من الناحية البدنية جسده لا يقوى، وعضلاته لا تنمو. والعكس بالعكس تماماً؛ بالنسبة لشخص منصب على الناحية المادية، فهو كل يوم يتعاطى تمارين رياضية، فهذا تشتد عضلاته، ويقوى جسده، ويصبح له صورة، كما نرى ذلك أحياناً في الواقع وأحياناً في الصور، فهؤلاء الأبطال -مثلاً- تصبح أجسادهم كلها عضلات، فهل هو خلق هكذا، أم هو اكتسب هذه البنية القوية ذات العضلات الكثيرة؟ هذا شيء وصل إليه هو بكسبه وباختياره. ذلك هو مثل الإنسان الذي يظل في ضلاله، وفي عناده، وفي كفره وجحوده، فيصل إلى الران إلى هذه الأكنة التي يجعلها الله عز وجل على قلوبهم، لا بفرض من الله واضطرار من الله لهم؛ وإنما بسبب كسبهم واختيارهم، فهذا هو الجعل الكوني الذي يكتسبه هؤلاء الناس الكفار، فيصلون إلى هذه النقطة التي يتوهم الجهال أنها فرضت عليهم، والحقيقة أن ذلك لم يفرض عليهم، وإنما ذلك بما كسبت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد.

الجمع بين وجوب الأوامر الشرعية وتفويض الإتيان بها إلى الإرادة

الجمع بين وجوب الأوامر الشرعية وتفويض الإتيان بها إلى الإرادة Q ما رأيكم في مسألة الأضحية أواجبة هي أم سنة؟ فإن كانت سنة فكيف نصنع بحديث أم سلمة في صحيح مسلم ولفظه: (إذا دخل عشر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي) علماً بأن الصنعاني نقل عن الشافعي قوله: وتفويض الأمر إلى الإرادة مشعر بعدم الوجوب؟ A الواقع أن هذه شبهة ليس لها قيمة من ناحية النصوص الشرعية (وأراد أحدكم أن يضحي) نحن نقول: نسبة الأمر إلى إرادة الإنسان له علاقة كبيرة جداً بموضوعنا السابق، أي: إن الإنسان مكلف بالعبادة وبالطاعة، فهو عليه أن يريدها، وأن يعملها وينهض بها، فإذا لم يردها فليس الله عز وجل بالذي يفرض ذلك عليه فرضاً، ويقصره على ذلك قصراً، لا. فالنكتة هنا في أنه نسب حكم من أراد أن يضحي إلى إرادة الإنسان من هذه الناحية، وهذا واضح جداً في نفس القرآن الكريم {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] إذاً: الاستقامة على هذا الفهم -مع الأسف أن هذا الفهم نسب إلى بعض الأئمة- ينتج قياساً على هذا الفهم أن الاستقامة غير واجبة، لماذا؟ لأن الله عز وجل نسبها إلى مشيئتنا، فكل شيء أمرنا به فلا بد للقيام به من مشيئتنا وإرادتنا في ذلك، ولذلك قلنا قبل أن نعرف ما ادخر لنا وما خبئ لنا من مثل هذا السؤال، قلنا: إن الإرادة قسمان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فالبحث ليس في الإرادة الكونية، وإنما في الإرادة الشرعية، فالمفهوم هنا: يجب أن تفعل، وإن لم تفعل انتقل الأمر من الإرادة الشرعية إلى الإرادة الكونية؛ لأنه لا يقع شيء في هذا الكون رغماً عن الله عز وجل، فهنا لما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] لماذا نسب الاستقامة إلى المشيئة؟ الجواب: لأن بها ربطت التكاليف الشرعية كلها. ومثال على هذا الذي نقوله، وإن كانت الآية كافية في ذلك وشافية، ولكن على سبيل التفريع، قال عليه الصلاة والسلام: (من أراد الحج فليعجل) أيضاً نسب الإرادة هنا للإنسان في الحج الذي هو من أركان الإسلام الخمسة، فهل معنى ذلك أن الحج غير واجب؟ الجواب: لا. لكن كل واجب لا بد له من إرادة تصدر من هذا الإنسان ليصبح مكلفاً، وإلا إذا كان لا إرادة له فلا تكليف عليه، ولذلك -كما تعلمون في الحديث الصحيح- (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ) .

حقيقة وقوع المسخ في أمة الإسلام

حقيقة وقوع المسخ في أمة الإسلام Q أرجو بيان حكم الإسلام فيما نسمعه عن مسخ بعض الناس على صور حيوانات! A أما الجواب عن السؤال الأول، ففي السؤال غموض؛ لأنه إن كان يعني (ببعض الناس) ما أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم، أن الله تبارك وتعالى قال لليهود الذين عصوا أنبياءهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] فلا مجال للسؤال عن هذا ما دام أنه جاء في النص القرآني. أما إن كان يعني بذلك أنه سمع أن بعض الناس مسخوا، فأنا لا أعلم بشيء من هذا أنه وقع، وما نعلم أن أحداً مسخ إلا بخبر القرآن، ونعلم أنه سيقع مسخ في آخر الزمان، لكن متى يكون ذلك؟ الله أعلم. كذلك إذا كان السؤال الأول يربطه بالإسلام، فالإسلام أخبر بأن المسخ وقع، وأخبر بأنه سيقع بالنسبة لبعض العصاة والفساق والفجار، ولعل السائل يشكل عليه ما قد يقرؤه في بعض التفاسير الحديثة، التي لا تجري في تفسيرها للآيات مجرى مذهب السلف الصالح، فهم يحكمون عقولهم في بعض النصوص القرآنية، التي يثقل عليهم تبني معانيها الظاهرة، مثل ما نحن فيه الآن من القول بالمسخ لليهود، فمع تصريح القرآن بذلك فهم تأولوا هذا المسخ بأنه مسخ خُلُقي وليس مسخاً بدنياً، أي: صارت أخلاقهم كأخلاق القردة!! ما الداعي إلى هذا التضييق للمسخ؟! فالذين يمسخون مسخاً حقيقياً قردة أو خنازير، بطبيعة الحال تصبح أخلاقهم أخلاق القردة والخنازير، فلماذا القول مسخوا من جهة ولم يمسخوا من جهة أخرى؟! والآيات التي جاءت في هذا الصدد مطلقة، فلا شيء يحملهم على تضييق دائرة المسخ إلا استبعادهم أن يستحق هؤلاء الكفار من اليهود قتلة الأنبياء ذلك المسخ. فأقول: سبحان الله! هل هؤلاء هم الذين يحكمون على الله، ويضعون لهم منهاجاً لنسبة التعذيب، فلا يجوز لله أن يمسخ الذين يقتلون الأنبياء بغير حق قردة وخنازير! من الذي يحكم على الله بذلك؟!! فهذا تفسير أقل ما يقال فيه أنه تفسير مبتدع، وحديث لا يعرفه السلف الصالح فضلاً عن بعده عن اللغة العربية: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] لا سيما والسنة -كما تعلمون- دائماً وأبداً تأتي لتوضح القرآن الكريم، ولترد على أهل البدع والأهواء، فقد جاء في صحيح مسلم: (إن الله عز وجل لم يمسخ قوماً فجعل لهم نسلاً، وإنما كانت القردة والخنازير قبل ذلك) وفي هذا رد على بعض القصص التي قد توجد في بعض كتب الرقائق والمواعظ ولا سند لها، من أن القرود الموجودة اليوم هي من سلالة اليهود الممسوخين قردة، وهذا لا أصل له؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث يعطينا فائدتين: الفائدة الأولى: يؤكد فيها المعنى الظاهر من الآية الكريمة، من أن المسخ مسخ حقيقي. والفائدة الأخرى: أن الله عز وجل إذا مسخ قوماً أهلكهم، ولا يبقيهم يتناسلون، وهذا هو الذي يجب أن ندين الله به فيما يتعلق بقضية المسخ، كما أن المسخ كان وسيكون؛ لأنه جاء في ذلك بعض الأحاديث الصحيحة، ومن أشهرها حديث البخاري: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف، يمسون في لهو ولعب، ويصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير) .

تأملات في فعل بعض الصحابة من الزيادة والنقص في سور القرآن

تأملات في فعل بعض الصحابة من الزيادة والنقص في سور القرآن Q هل صحيح أنه ثبت عن ابن مسعود أنه كان لا يعد المعوذتين من القرآن؟ وأن أُبي بن كعب أثبت في مصحفه دعاء القنوت وجعله سورتين؟ وجزاكم الله خيراً. A بالنسبة لهذا السؤال فهو ذو شطرين كما تقدم، أما فيما يتعلق بـ ابن مسعود، فقد صح عنه، ولا غرابة في ذلك، وهذا دليل على أن الأمر كما قال الله عز وجل مخاطباً كل إنسان منا في عموم قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] أن ابن مسعود رضي الله عنه الذي كان من السابقين في الدخول في الإسلام، ومع ذلك فاتته بعض الأشياء، والتي بعضها هام جداً جداً، ومن ذلك ما تضمنه هذا السؤال، إذ لم يكن قد فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أن المعوذتين: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) من القرآن الكريم، إنما فهم أنهما معوذتان، أي: دعاء؛ ولذلك فحرصاً منه على ألا يدخل في المصحف الذي فيه القرآن شيء غريب عنه؛ فقد كان يحكه، ويكشط كل صفحة فيها هاتان السورتان؛ لأنه لم يعلم ذلك، ولكن هذه مزية القرآن، أنه لم يجمع من شخص واحد وإنما جمع من عشرات، بل مئات الأشخاص، بعد أن كانت كتبت في صحف من نوعية غريبة في تلك الأزمان، عبارة عن أكتاف الحيوانات -عظم- أو أوراق الشجر، أو غير ذلك، إذ سخر الله عز وجل مئات الصحابة ليحفظوا القرآن كله في صدورهم أولاً، وليسطروه في الوسائل التي كانت معروفة عندهم ثانياً. من أجل هذه الحقيقة اعترف بعض الكتاب الغربيين بأن الإسلام لا يماثله دين آخر، في أن دستوره الأول ألا وهو القرآن مروي بالتواتر ومحفوظ، ويشهد بهذا الكثير منهم، ونحن لا نفخر ولكننا نقول: والفضل ما شهدت به الأعداء فلا يضرنا أبداً أن تكون هذه الرواية صحيحة وثابتة عن ابن مسعود، بل نحن نأخذ من ثبوت هذه الرواية عبرة نعالج بها الغلاة من المسلمين قديماً وحديثاً، ممن يعتبرون بيان خطأ الشيخ الفلاني غمزاً فيه وطعناً له، لا كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه فـ ابن مسعود صحابي جليل، له الفضل على الإسلام والمسلمين في أنه نقل إلينا مئات الأحكام الشرعية، وكان من حفاظ القرآن، وممن يحسنون تلاوته، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يثني عليه ويقول: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) يعني: عبد الله بن مسعود، وهذا أسلوب لطيف جداً في التعبير. الشاهد: هذا الرجل الفاضل إذا وجدت له بعض الأخطاء فهي أولاً: لا يؤاخذ عليها إطلاقاً؛ لأنها لم تكن مقصودة منه، بل على العكس -كما تقدم آنفاً- كان يكشط ويحك هاتين السورتين حفظاً للقرآن الكريم من الزيادة، فهذا لا يؤاخذ عليه إطلاقاً، ولذلك فلا عيب في أن نصرح بهذه الحقيقة، بل نستفيد من ذلك كما قلنا: أن الإنسان مهما سما وعلا فلا بد أن يكون له شيء من الأخطاء، كما جاء في بعض الأحاديث الموقوفة، والتي يروى بعضها عن ابن عباس، وبعضها عن بعض التابعين، ثم أخيراً ما اشتهر عن مالك: ما منا من أحدٍ إلا رُدّ عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك لم يعبأ المسلمون إطلاقاً بهذه الرواية وبهذا الخطأ الذي صدر من ابن مسعود، فسجلت السورتان في المصحف، وهما متواترتان مع المصحف كله. ومن غرائب ابن مسعود أيضاً: أنه كان إذا صلى -وأنا أذكر هذا لا عيباً وإنما عبرة فقط- يطبق، والتطبيق عند الفقهاء والمحدثين هو أن يشبك بين كفيه ثم يدخلهما وهو راكع بين فخذيه، ولا يقبض بكفيه على ركبتيه كما هو السنة، وهذا ثابت وصحيح عن ابن مسعود أيضاً، ولا مجال لإنكار ذلك، ولم يأخذ المسلمون بهذا لماذا؟ لأن الله عز وجل قد ألهم غيره من الصحابة أن يحفظوا لنا السنة، بل وأن يبينوا لنا أن ابن مسعود في تطبيقه هذا إنما حفظ ما كان مشروعاً في الإسلام أولاً، فقد ثبت أن ابناً لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان في الكوفة حيث كان عبد الله بن مسعود، فصلى بجانب عبد الله بن مسعود يوماً وقبض -كما نفعل نحن اليوم- بكفيه على ركبتيه، فما كان من حرص ابن مسعود على المحافظة على ما علمه من الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا أن أخذ بيدي الرجل - ابن سعد - في الصلاة، وطبقهما، ووضعهما بين فخذيه، وبعد الصلاة الظاهر أنه أفهمه أنه هكذا السنة، وهكذا رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل. فلما رجع ابن سعد إلى أبيه في المدينة - سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة- قص عليه قصة ابن مسعود معه، فقال: صدق! -انظروا إلى الأدب واللطف- قال: صدق أخي عبد الله بن مسعود! كنا نفعل ذلك ثم أمرنا بالأخذ بالركب. فلا عيب في هذا إذ فاته شيء، لكنه حفظ أشياء وأشياء كثيرة، فهذا ما يحضرنا. أما بالنسبة لـ أُبي بن كعب، وأنه كان يكتب في مصحفة: اللهم إنا نستعينك فقد مر بي قديماً شيء من ذلك، لكن لا أحفظ إذا كانت الرواية عنه صحيحة أم لا، ولعله يتيسر لي المراجعة لذلك، وآتيكم بالجواب -إن شاء الله- في الدرس الآتي بإذن الله، وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.

آداب الإسلام

آداب الإسلام إن الناظر إلى حال المسلمين اليوم، ليرى البون الشاسع والفرق الواضح بينهم وبين تعاليم دينهم وأخلاقهم وآدابهم الإسلامية؛ بل أصبحت هذه الآداب مجهولة علماً، ومتروكة عملاً. وفي هذه المادة يذكر الشيخ رحمه الله ببعض الآداب الإسلامية التي تفيد القارئ، وغيرها من الفوائد مما ستجدونه في طيات هذه المادة.

من آداب مجالس العلم: التجمع وعدم التفرق

من آداب مجالس العلم: التجمع وعدم التفرق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يبدو أنه لا بد من التفكير ما بين آونة وأخرى في بعض السنن والآداب الإسلامية التي أصبحت مجهولة علماً، ومتروكةً عملاً، فقد كنا ذكرنا في أكثر من مرة في مثل هذه الجلسة أن لمجالس العلم آداباً. ومن ذلك: أنه لا يصح التفرق في مجالس العلم، أن نجلس هكذا كيف ما اتفق، أو كيف ما راق لأحدنا، فهذا ليس من الأدب العلمي في شيء مطلقاً، هذه جلسات (المقاهي والنوادي) ، يأتي الآتي، ولا يأتي إلى تلك المجالس إلا للترويح عن النفس -زعموا- أو للتسلية، أو نحو ذلك، فهو حرٌ يجلس أينما شاء وكيفما شاء، أما مجلس العلم فله آدابه، وقد ذكرت لكم أكثر من مرة حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه الذي يقول فيه: (أنهم كانوا إذا سافروا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه ونزلوا منزلاً تفرقوا في الوديان والشعاب، فسافروا يوماً ونزلوا وادياً وتفرقوا كما كانوا يفعلون سابقاً) وهذا التفرق يوحي بالمصلحة الذاتية والشخصية، حيث كل شخص منهم يختار المكان المناسب له الذي له ظل وارف مثلاً فتفرقوا كما كانت عادتهم، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: (إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان) أي: إنما تفرقكم هذا في الوديان والشعاب من عمل الشيطان. قال أبو ثعلبة رضي الله عنه: (فكنا بعد ذلك إذا نزلنا منزلاً اجتمعنا فيه، حتى لو جلسنا على بساطٍ لوسعنا) . فأحق المجالس بالمحافظة على مثل هذا الأدب -أدب التجمع- هي مجالس العلم، ولا أريد أن أطيل؛ لأن الحصة التي خصصتها في هذا الدرس الذي بدأت باستئنافه بعد تركٍ له دام مدة طويلة، الوقت المحدد نصف ساعة فقط في درس الترغيب، لذلك لا أريد أن أطيل في توظيف السر والحكمة من هذا الاجتماع الذي يوحيه لنا هذا الحديث الصحيح، ولكني أجمل القول فأقول: إن الظاهر عنوان الباطن، ففي كل شيء يتفرق فيه المسلمون في ظواهرهم؛ كان لهذا التفرق تأثير سيء في باطنهم، فالظاهر مرتبط بالباطن أشد الارتباط، وعندنا أدلة كثيرة وكثيرة جداً، ولذلك سأقتصر الآن على هذه الإشارة السريعة هذا التفرق بدنياً يؤدي إلى التفرق قلبياً، هذه حقيقة شرعية، ولدينا أدلة على ذلك، وحسبنا الآن هذه الإشارة العابرة.

المحافظة على ذكر الله لفظا وعملا

المحافظة على ذكر الله لفظاً وعملاً وهذا تذكير ببعض المسائل، ومنها ما يتعلق بكل فردٍ، ومنها ما يتعلق بجماعتهم، حينما يجلسون في بيتٍ من بيوت الله يتلقون العلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما المسألة الأولى: ينبغي أن يكون المسلم دائماً على ذكرٍ من ذكر الله عز وجل، وعلى ذكر من تعاليم الله عز وجل، فإن قوله تبارك وتعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] مما يدخل فيه الذكر العملي وليس فقط الذكر اللفظي، الذكر العملي مثلاً: إنسان وهو يمشي في الطريق بادره البصاق، فأراد أن يلفظ هذه الفضلة من فمه، فهل يلفظها أمامه؟ فهنا ذكرٌ لله عز وجل قل من يذكره وهو قبل أن تلفظ ما في فمك يجب أن تستعبر هل أنت مستقبل للقبلة أم لا؟ فإن كنت مستقبلاً للقبلة فيجب ألا تبصق أمامك؛ احتراماً لجهة القبلة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بصق تجاه القبلة جاء يوم القيامة وبصقه بين عينيه) ، وهذا من آداب المسلمين الأولين التي أصبحت نسياً منسياً في الآخرين، فلا تكاد ترى مسلماً يذكر هذا الأدب الإسلامي حتى ولو كان في المسجد، فكثيراً ما شاهدنا بعض الناس في المسجد الذي له نوافذ مطلة إلى جهة القبلة، يأتي فيبصق إلى الجهة التي قد صلى إليها، أو سرعان ما سيصلي إليها، فهذه غفلة عن ذكر الله، لكن هذا من الذكر الذي لا يعرفه -مع الأسف- أهل الذكر المبتدع الذين يرقصون في أذكارهم، ولم يعرفوا من ذكر الله إلا هذا النوع الذي لا أصل له في كتاب الله ولا في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وليس المقصود التذكير بهذه المسألة، وإنما أختها وهي ألصق بالمصلي من هذه، فإنه إذا كان لا يجوز للمسلم أن يبصق تجاه القبلة وهو يمشي، أو هو جالس ليس في صلاة، فمن باب أولى إذا كان في صلاة؛ لأنه يكون قائماً متوجهاً إلى الله عز وجل في صلاته بكل جوارحه، وهذه المسألة فيها أحاديث كثيرة لست الآن بصددها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم سب علماء الدين

حكم سب علماء الدين Q ما حكم الإسلام في سب الأئمة والعلماء أحياءً وأمواتاً؟ A قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا الأموات فقد أفضوا إلى ما قدموا) ، أي: لا يجوز سب المسلم حتى لو كان مطعوناً في إسلامه؛ لأنه ليس هناك فائدة من هذا الطعن بعد أن انتقل إلى حكم الله عز وجل، فالأولى ألا يجوز سب المسلمين الصالحين، ثم أولى وأولى ألا يجوز سب الأئمة؛ لأنهم يجمعون إلى صلاحهم العلم وخدمة الدين، ونقل الأحاديث، والتوضيح، وتفصيل أحكام الشريعة، وغير ذلك مما هو معروف، وأنا أستغرب مثل هذا السؤال؛ لأننا لا نعتقد أن في المسلمين ولو في الدرجة السفلى من الإسلام من يسب علماء الإسلام! السائل: أحياناً يبين الإنسان خطأ العالم، لكن بعض العلماء قد يفهمونه سباً، وهذا ليس من السب في شيء. الشيخ: إن كان هذا هو المقصود فبئس ما قصد؛ لأن تخطئة الإنسان لآخر هذا أمر واجب في الإسلام، والتخطئة لا تعني نقداً ولا طعناً، فضلاً عن أن تعني شتماً وسباً، وإنما بيان الحق؛ ولذلك قال عليه السلام في الحديث الصحيح في صحيح البخاري: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد) ، من الذي يخطر في باله أن الرسول قد يقول عن قاضٍ أو حاكمٍ ما: أنه أخطأ أنه ينال منه ويسبه ويجعل له أجراً واحداً؟ كذلك في قصة رواها البخاري -أيضاً- في تأويل رؤيا فسرها أبو بكر بين يدي الرسول عليه السلام، فقال له عليه السلام: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) فهل يخطر في بال الإنسان أن يقول: بأن الرسول سب صاحبه في الغار أبا بكر الصديق، حينما قال له: أخطأت بعضاً؟ لكن هذا من تأخر المسلمين في ثقافتهم الإسلامية، وابتعادهم عن اللغة الشرعية، والحقيقة أن المتأخرين حتى من الفقهاء، أو لعل الأصح أن نقول: المتفقهين يتحاشون مثل هذه العبارة؛ لأنهم هم أنفسهم قد انقلبت عليهم هذه الحقيقة، فهم قد يتصورون والعامة تبعاً لهم في ذلك، أنه إذا قيل: أخطأ فلان، فهذا طعن ولمز في هذا المخطئ، والأمر -كما سمعتم- ليس كذلك، وهذا أمر لا يحتاج إلى كبير بيان، فحسبنا هذا القدر.

من منهج الخوارج

من منهج الخوارج العلماء دائماً هم حرز الأمة، وإليهم يلجأ المسلمون فيما يحدث ويستجد من أحداث؛ لمعرفة الحكم الشرعي، والاسترشاد بقولهم في النوازل العظيمة. وعلماء الحديث لهم الصدارة في ذلك؛ لصفاء منهلهم ورسوخهم في العلم. وفي هذه المادة يجيب الشيخ رحمه الله عن أسئلة وردت عن الأحداث الدامية في الجزائر إذ قد أصبحت تغلي بالحرب والمجازر، وركزت الأسئلة على جانب مهم وهو التكفير، والخروج على الحكام، وخصائص جماعة التكفير.

حديث حول الأحداث في الجزائر

حديث حول الأحداث في الجزائر Q شيخنا! فيما يخص الوضع في الجزائر، في هذا الفترة الأخيرة! خاصة ما يحدث من كوارث وفتن، وحيث صار الأمر إلى استخدام المتفجرات التي تودي بحياة العشرات من الناس؛ أكثرهم من الأبرياء، وفيهم نساء، وأطفال، ومن تعلمون، وقد سمعنا من بعض الناس الكبار أنهم ينددون بسكوت أهل العلم والمفتين من المشايخ الكبار، وعدم إنكارهم مثل هذه التصرفات الغير إسلامية قطعاً، ونحن أخبرناهم برأي أهل العلم ورأيكم في المسألة، ولكنهم ردوا بالجهل بما تقولونه، وعدم وجود الأشرطة المنتشرة لبيان الحق في المسألة، ولهذا نحن طرحنا السؤال بهذا الأسلوب الصريح حتى نكون على بينة من رأيكم ورأي من تنقلون عنهم، فبينوا الحق في القضية، وكيف يعرف الحق فيها عند كل مسلم؟ وهل الشيخ يسمع ما يدور من أحداث، أو يسمح لنا أن نبين له؟ الشيخ: لا يوجد داعٍ لذلك. A إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أنت جزاك الله خيراً أشرت بأننا كنا تكلمنا في هذه المسألة، وذكرت بأنهم يردون بجهل وبغير علم، فإذا كان الكلام يصدر ممن يُظَنُّ فيه العلم، ثم يقابل ممن لا علم عندهم بالرفض والرد فما فائدة الكلام حينئذٍ؟؟ لكن نحن نجيب لمن قد يكون عنده شبهة بأن هذا الذي يفعلونه أمر جائزٌ شرعاً، وليس لإقناع ذوي الأهواء وأهل الجهل، وإنما لإقناع الذين قد يترددون في قبول أن هذا الذي يفعله هؤلاء المعتدون هو أمر غير مشروع.

أهمية تصحيح القاعدة على الكتاب والسنة

أهمية تصحيح القاعدة على الكتاب والسنة لا بد لي قبل الدخول بشيء من التفصيل من أن أذكِّر -والذكرى تنفع المؤمنين- بقول أهل العلم: ما بني على فاسد فهو فاسد، فالصلاة التي تبني على غير طهارة -مثلاً- ليست بصلاة، لماذا؟ لأنها لم تقم على أساس الشرط الذي نص عليه الشارع الحكيم في نص قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا صلاة لمن لا وضوء له) فمهما صلى المصلي بدون وضوء فلا تصح؛ لأن ما بني على فاسد فهو فاسد، والأمثلة في الشريعة من هذا القبيل شيء كثير وكثير جداً. فنحن نذكر دائماً وأبداً أن الخروج على الحكام -ولو كانوا من المقطوع بكفرهم- ليس مشروعاً إطلاقاً؛ ذلك لأن هذا الخروج -إن كان ولا بد- ينبغي أن يكون خروجاً قائماً على الشرع، كالصلاة التي قلنا آنفاً أنها ينبغي أن تكون قائمة على الطهارة وهو الوضوء. ونحن نحتج في مثل هذه المسألة بمثل قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] إن الدور الذي يمر به المسلمون اليوم من تحكم بعض الحكام، وعلى افتراض أن كفرهم كفر جليٌ واضح ككفر المشركين تماماً، إذا افترضنا هذه الفرضية فنقول: إن الوضع الذي يعيشه المسلمون بأن يكونوا محكومين من هؤلاء الحكام، ولنقل: الكفار؛ مجاراة لـ جماعة التكفير لفظاً لا معنى؛ لأن لنا في ذلك التفصيل المعروف فنقول: إن الحياة التي يحياها المسلمون اليوم تحت حكم هؤلاء الحكام، لا تخرج عن الحياة التي كان يحياها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه الكرام فيما يسمى في عرف أهل العلم بالعصر المكي لقد عاش عليه الصلاة والسلام تحت حكم الطواغيت الكافرة المشركة، والتي كانت تأبى صراحة أن تستجيب لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يقولوا كلمة الحق: لا إله إلا الله، حتى إن عمه أبا طالب وهو في آخر رمق من حياته قال له: (لولا أن تعيرني بها قومي لأقررت بها عينك) . أولئك الكفار الصريحون في كفرهم، المعاندون لدعوة نبيهم، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش تحت حكمهم ونظامهم، ولم يتكلم معهم إلا أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وجاء العهد المدني، وتتابعت الأحكام الشرعية، وبدأ القتال بين المسلمين وبين المشركين، كما هو معروف في السيرة النبوية أما في العهد الأول العهد المكي فلم يكن هناك خروج، كما يفعل اليوم كثير من المسلمين في غير ما بلد إسلامي، فهذا الخروج ليس على هدي الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أمرنا بالاقتداء به، وبخاصة في الآية السابقة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] . الآن -كما نسمع- في الجزائر طائفتان، وأنا أَهْتَبِلُها فرصة إذا كنت أنت أو أحد الحاضرين على بينة من الإجابة عن السؤال التالي، أقول: أنا أسمع وأقرأ بأن هناك طائفتين أو أكثر من المسلمين الذين يعادون الحكام هنالك؛ مثلاً جماعة جبهة الإنقاذ، وأظن أن هناك جماعة تكفير. مداخلة: جيش الإنقاذ قوات مسلحة غير الجبهة. الشيخ: أليس له علاقة بالجبهة؟ الرجل: انفصل عنها، وهو متشدد. الشيخ: إذاً: هذه مصيبة أكبر! وأنا أردت أن أستوثق من وجود أكثر من جماعة مسلمة، ولكلٍ منها سبيلها ومنهجها في الخروج على الحاكم. ترى لو قضي على هذا الحاكم وانتصرت طائفة من هذه الطوائف التي تعلن إسلامها ومحاربتها للحاكم الكافر بزعمهم، ترى هل ستتفق هاتان الطائفتان فضلاً عما إذا كانت هناك طائفة أخرى، ويقيمون حكم الإسلام الذي يقاتلون من أجله؟ سيقع الخلاف بينهم! الشاهد الآن موجود مع الأسف الشديد في أفغانستان، يوم قامت أن الحرب في أفغانستان كانت فعلاً في سبيل الإسلام والقضاء على الشيوعية، فما كادوا يقضون على الشيوعية -والأحزاب كانت قائمة وموجودة أثناء القتال- إلا وينقلب بعضهم عدواً لبعض. فإذاً: كل من خالف هدي الرسول عليه الصلاة والسلام فلن يكون عاقبة أمره إلا خسراً.

(التصفية والتربية) هي القاعدة الصحيحة للتغيير

(التصفية والتربية) هي القاعدة الصحيحة للتغيير هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الحكم الإسلامي، وتأسيس الأرض الإسلامية الصالحة لإقامة حكم الإسلام عليها إنما يكون بالدعوة أولاً دعوة التوحيد، ثم تربية المسلمين على أساس الكتاب والسنة. وحينما نقول -إشارة إلى هذا الأصل الهام بكلمتين مختصرتين-: لا بد من التصفية والتربية. بطبيعة الحال لا نعني بهما أن تصير هذه الملايين المملينة من هؤلاء المسلمين أمة واحدة، وإنما نريد أن نقول: إن من يريد أن يعمل للإسلام حقاً، وأن يتخذ الوسائل التي تمهد له إقامة حكم الله في الأرض؛ لابد أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكماً وأسلوباً. بهذا نحن نقول: إنه ما يقع؛ سواءً في الجزائر أو في مصر، هذا خلاف الإسلام؛ لأن الإسلام يأمر بالتصفية والتربية. أقول: (التصفية والتربية) لسبب يعرفه أهل العلم نحن اليوم في القرن الخامس عشر ورثنا هذا الإسلام كما جاءنا طيلة هذه القرون الطويلة، لم نرث الإسلام كما أنزله الله على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، لذلك فالإسلام الذي آتى أكله وثماره في أول أمره، هو الذي سيؤتي أيضاً أكله وثماره في آخر أمره، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أمتي كالمطر لا يدرى الخير في أوله أم في آخره) فإذا أرادت الأمة المسلمة أن تكون حياتها على هذا الخير الذي أشار إليه الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث المذكور آنفاً، وفي الحديث الآخر، والذي هو منه أشهر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) . أقول: لا نريد بهاتين الكلمتين أن تصبح الملايين المملينة من المسلمين قد تبنوا الإسلام مصفىً، وربوا أنفسهم على هذا الإسلام المصفى، لكننا نريد لهؤلاء الذين يهتمون بشئون المسلمين حقاً: أولاً: تربية نفوسهم، ثم تربية ذويهم، ثم ثم فيصل الأمر إلى هذا الحاكم الذي لا يمكن تعديله أو إصلاحه أو القضاء عليه إلا بهذا التسلسل الشرعي المنطقي. بهذا نحن كنا نجيب بأن هذه الثورات، وهذه الانقلابات التي تقام، حتى الجهاد الأفغاني كنا غير مؤيدين له، أو غير مستبشرين بعواقب أمره حينما وجدناهم خمسة أحزاب، والآن الذي يحكم والذي قاموا ضده معروف بأنه من رجال الصوفية -مثلاً-، فالقصد أن من أدلة القرآن الكريم أن الاختلاف ضعف، حيث أن الله عز وجل ذكر من أسباب الفشل هو التنازع والاختلاف: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] إذاً: إذا كان المسلمون أنفسهم شيعاً لا يمكن أن ينتصروا؛ لأن هذا التشيع وهذا التفرق إنما هو دليل الضعف. إذاً: على الطائفة المنصورة التي تريد أن تقيم دولة الإسلام بحق، أن تتمثل بكلمة أعتبرها من حِكَمِ العصر الحاضر، قالها أحد الدعاة -ولكن أتباعه لا يتابعونه- ألا وهي قوله: (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم؛ تقم لكم على أرضكم) . فنحن نشاهد، لا أقول: الجماعات التي تقوم بهذه الثورات؛ بل أستطيع أن أقول: نشاهد كثيراً من رءوس هذه الجماعات لم يطبقوا هذه الحكمة التي تعني ما نقوله نحن بتلك اللفظتين: (التصفية والتربية) ، إذ لم يقوموا بعدُ بتصفية الإسلام مما دخل فيه، مما لا يجوز أن ينسب إلى الإسلام في العقيدة، أو في العبادة، أو في السلوك، لم يحققوا هذا، أي: تصفية نفوسهم؛ فضلاً عن أن يحققوا التربية في ذويهم، فمن أين لهم أن يحققوا التصفية والتربية في الجماعة التي هم يقودونها ويثورون معها على هؤلاء الحكام؟! أقول: إذا عرفنا -بشيء من التفصيل- تلك الكلمة وهي (ما بني على فاسد فهو فاسد) فجوابنا واضح جداً أن ما يقع في الجزائر وفي مصر وغيرها هو: أولاً: سابق لأوانه. ثانياً: مخالف لأحكام الشريعة غايةً وأسلوباً. لكن لابد من شيء من التفصيل فيما جاء في السؤال.

حكم الاعتداء على الأبرياء بالقتل

حكم الاعتداء على الأبرياء بالقتل نحن نعلم أن الشارع الحكيم بما فيه من عدالة وحكمة، نهى الغزاة المسلمين الأولين أن يتعرضوا في غزوهم للنساء، فنهى عن قتل النساء، وعن قتل الصبيان -الأطفال-، بل ونهى عن قتل الرهبان المنطوين على أنفسهم بعبادة ربهم -زعموا- وهم على شرك وعلى ضلال؛ نهى الشارع الحكيم قواد المسلمين أن يتعرضوا لهؤلاء، تطبيقاً لأصلٍ من أصول الإسلام، ألا وهو قوله تبارك وتعالى في القرآن: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:36-39] فهؤلاء الأطفال وهؤلاء النسوة، والرجال الذين ليسوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، قتلهم لا يجوز شرعاً. وقد جاء في بعض الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى ناساً مجتمعين على شيء، فسأل، فقالوا: هذه امرأة قتيلة، قال عليه الصلاة والسلام: ما كانت هذه لتقاتل) وهنا نأخذ حكمين متقابلين: أحدهما: سبقت الإشارة إليه، ألا وهو أنه لا يجوز قتل النساء لأنها لا تقاتل. الحكم الآخر: إذا وجدنا بعض النسوة يقاتلن المسلمين في جيش المحاربين أو الخارجين، حينئذٍ يجوز للمسلمين أن يقتلوا هذه المرأة التي شاركت في القتال. فإذا كان السؤال بأن هؤلاء إنما يفخخون -كما يقولون- بعض السيارات، ويفجرونها، فتصيب بشظاياها من ليس عليه المسئولية إطلاقاً في أحكام الشرع، فما يكون هذا من الإسلام في شيء إطلاقاً. لكني أقول: إن هذه جزئية من كلية أخطر وهي الخروج الذي مضى عليه بضع سنين، ولا يزداد الأمر إلا سوءاً، بهذا نحن نقول: إنما الأعمال بالخواتيم، والخاتمة لا تكون حسنة إلا إذا كانت قائمة على الإسلام، فما بني على خلاف الإسلام فسوف لا يثمر إلا الخراب والدمار.

حول لقاء الشيخ الألباني بعلي بلحاج

حول لقاء الشيخ الألباني بعلي بلحاج Q بالنسبة للشريط الذي سجل فيه لقاؤكم مع الشيخ علي بلحاج، فإنه لا يعلم عنه شيء في الوقت الحاضر، فيما علمتموه من العهد الذي أخذه الشيخ علي بلحاج في عدم إخراجه للناس، وقد تردد على ألسنة الكثير من الجزائريين التساؤل عما في هذا الشريط، وضرورة إخراجه للناس والأمة حتى يُعرف الحق الذي فيه، وخاصة أنه أمر متعلق بحق وباطل، ومصير شعب وأمة بأكملها، ولقد كلَّمنا الشيخ أبا ليلى عن إخراج الشريط فعلق الأمر بكم، أي: بشيخنا محمد ناصر الدين الألباني، وبالشيخ أبي مالك محمد إبراهيم شقرة، أما الشيخ أبو مالك فقد أخبرناه بذلك فأبدى القبول والرضا، وقال عن العهد المذكور: إنه باطل، وفيه كتم للحق، وبقي قولكم، فهل أنت موافق على إخراج الشريط للناس؟ A أنا قد أوافق وقد لا أوافق، لأني لست مستحضراً ما فيه من المسائل، فهل هو موجود عندك؟ السائل: هل تذكر أن الرجل رفض التسجيل، وجلست أكثر من ربع ساعة في إلحاح بيني وبينه أمامكم؟ أخيراً: أنتَ قلتَ له: لماذا لا تريد أن تسجل؟ قال: أنا لا أحب الشهرة وكذا، وفي النهاية قال له الشيخ أبو مالك: لا يخرج الشريط إلا بإذنك، وهذا الكلام مُسَجَّل، فسألتكم مرة أنا، وقلت: نجلس أنا والشيخ أبو مالك وإياكم حتى نتباحث في هذا الموضوع. الشيخ: هل يذكر أبو مالك هذا الكلام؟ وعلى كل حال إن العهد كان مسئولاً. السائل: كثير من الشعب من هؤلاء الخارجين متبعون لـ علي بلحاج، ويجعلونه كأنه الشيخ المتبع وقوله هو النافذ. الشيخ: لكن لو لم يكن مثل هذا العهد كنا نقول فوراً بوجوب الإخراج. السائل: مع أن الأمر يا شيخ! متعلق بالأمة، والشيخ أبو مالك سألناه فقال: هذا عهد باطل، وقال: فيه كتمٌ للحق. الشيخ: سألتك آنفاً: هل يتذكر أبو مالك هذه الكلمة التي قالها؟ السائل: أبو مالك حضر الجلسة، لأنني ما سمعت الشريط أنا ولا أحد. الشيخ: على كل حال ينبغي أن نتدارس الموضوع إن شاء الله. السائل: لا تنسوا يا شيخ! الشيخ: أيوجد أحد لا يتذكر مثل هذا؟!

حوار حول منهج الخوارج

حوار حول منهج الخوارج Q كما قد سئلت من قبل وما زلت تسأل عن خوارج يسمون بخوارج السيف، أو من يدعون إلى مثل هذه الكلمة، وقد جلت وصلت في أناس كتبوا في منهج الخوارج؛ منهجا، فوجدت من بعد استقراء هذا المنهج أنه على منوال خوارج أهل القرون الأولى كما بدا لي، ورتبت كلاماً لعلي أن أقتصر على الفائدة منه إن شاء الله كالآتي: خوارج العصر ينقلون عن السلف أقوالاً مبتورة مقطوعة ليس لها معنى ذا وحدة موضوعية، فإن أخذ الناقل منهم عن أحدهم أخذ الأول من كلامه دون التالي أو التالي دون الأول. التقول عليهم بما لم يقولوا، وتحميلهم معاني لكلامهم لم يعنوها، وتقصيدهم ما لم يقصدوه في أقوالهم، أمينهم ينقل معتمداً أقوال السلف اعتضاداً بها ليس اعتماداً عليها! بحيث أن الإجمال سِمَتُهَا، وعدم الإيضاح في فكرتها واضح، وهذه الطريقة الوحيدة المعتضدة عندهم في منهجهم وإعلانه وإشهاره. الموضوع الذي أحببت أن أظهره أمامك: أن الخروج عن منهج السلف كان بما كتبته هنا، أن من مات مقراً بالتوحيد ولم يعمل بمقتضاه، وأول مقتضى التوحيد هو الصلاة؛ فإنه منافق لم ينفعه هذا الإقرار. الشيخ: هذا كلام من؟ السائل: هذا كلام خوارج العصر. النقطة الثانية: أن أصل الإيمان ابتداءً هو الإقرار والتصديق، فمن لم يأت بمقتضاه نُقض هذا الأصل الذي زعمه صاحبه، وأن من شابه الكافر بفعلته أو بفعله أو بقوله وإن كان ملياً مهما كان متأولاً، ولو كان تأوله غير سائغ، فإنه بمشابهته يكفر بهذا القول أو الفعل. كذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوصاً أو من كتاب الله مبتورة لا يفهم لها منهج، يتخذه أو اتخذه صاحبه دليلاً يُفْهِم القارئ أو السامع له أنه صاحب حجة. وكذلك في مسألة العذر بالجهل، أن من كان معذوراً بالجهل هو الذي لم تصله الحجة، سواءً كانت عقلية، أو نقلية، أنا سأورد واحدة. مداخلة: هذا كله يعرفه شيخنا. الشيخ: أنت قلت عندك سؤال! وهذه محاضرة! والجلسة لا تتحمل محاضرة، فما سؤالك؟

منزلة العمل من الإيمان

منزلة العمل من الإيمان Q هل صحيح أن من مات على التوحيد وإن لم يعمل بمقتضاه -وأول مقتضى التوحيد إقامة الصلاة- يكفر ويخلد مع الخالد الكافر في نار جهنم أم لا؟ A السلف فرقوا بين الإيمان وبين العمل، فجعلوا العمل شرط كمال في الإيمان، ولم يجعلوه شرط صحة؛ خلافاً للخوراج، واضح هذا الجواب؟ السؤال: ما قولكم في تأويلهم لقوله صلى الله عليه وسلم أن كلمة (لم يعمل خيراً قط) ليست على ظاهرها؟ الشيخ: ولماذا؟ السائل: لأنها جاءت من باب إفهام القارئ أنها من جملة نفي كمال العمل لا جنسه. الشيخ: نطيل السؤال فنقول: ما الدليل؟ السائل: الدليل من قوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) . الشيخ: هل الكفر حينما يطلق يراد به الكفر المقارن للردة؟ السائل: لا. وهم يقولون: لا، لكن الصلاة الشيخ: إذا قالوا: لا، فما هو الحد الفاصل بين كفرٍ في نص ما فيقال: إنه كفر ردة، وفي نص آخر: ليس بكفر ردة، وكل من الأمرين المذكورين في النصين عمل، ما الفرق بين هذا وهذا؟ السائل: التفريق كثير جداً يطول تفصيله عندهم بتأويلات منها: أن من ترك جزء العمل ليس كمن ترك كل العمل، أو أن من شابه ببعض أعمال الكافرين، ليس كمن يشابه بعض أفعالهم التي نص عليها الشرع أنها كفر تخرج عن الملة. الشيخ: هل أجبت عن السؤال؟ السائل: هذا جوابهم. الشيخ: لا. ما أريد جوابهم. هل أنت شعرت بأن هذا الذي تقول أنه جوابهم هو جواب سؤالي؟ السائل: لا. الشيخ: إذاً: ما الفائدة يا أخي؟! أنا أريد أن ينتبه إخواننا الطلاب أنه ليس بمجرد الدعوى تثبت القضية، أنا أقول: ما الفرق بين كفر يُذكر في مثل هذا الحديث وبين كفر يُذكر في حديث آخر، وكل من الأمرين الذي أنيط به الكفر في كل من النصين هو عملي؟ أي: الجامع هو العمل، فلماذا هذا العمل كفر ردة وذاك العمل ليس كفر ردة؟ مثلاً قال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) هل هذا كفر ردة أم دون ذلك؟ كذلك -مثلاً- قوله عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في هذا الصدد كثيرة جداً: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ما هو الفارق بين الكفر في حديث الصلاة والكفر في حديث القتال؟ لا بد أن يكون هناك دليل يعتمد عليه الذي يفرق. قول أهل السنة والجماعة الذين نقلنا عنهم آنفاً: أن العمل ليس شرط صحةٍ وإنما هو شرط كمال، ولا يفرقون بين عمل وعمل آخر، بشرط أن يكون المؤمن قد آمن بذلك الحكم الذي تساهل في القيام به والعمل به، وما نقلتَه عنهم آنفاً في معنى (لم يعمل خيراً قط) تأويل، وإذا صح التأويل في نص كهذا يمكن أن يصح التأويل في نصهم أيضاً، وأنا أريد الآن أن ألفت النظر بأن هؤلاء الذين يأتون بمفاهيم جديدة تدندن حول تكفير المسلمين؛ بسبب إهمالهم في القيام بعملٍ أَمَرَ الشارع الحكيم به، هؤلاء ينبغي ألا يأتوا بشيء نابع من أهوائهم، أو لِنَقُلْ: من جهلهم، بل لِنَقُلْ: من علمهم؛ لأن علمهم مهما كان صحيحاً ودقيقاً فهو لا يساوي علم السلف.

وجوب التزام فهم السلف

وجوب التزام فهم السلف هنا لا بد من أن نذكر بما أذكره دائماً وأبداً حول قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] هؤلاء يتبعون غير سبيل المؤمنين، هؤلاء لا يقيمون وزناً لهذا المقطع من هذه الآية الكريمة، وسواءً آمنوا بهذا المقطع ومعناه أو لم يؤمنوا به، لا فرق عندهم بين أن تكون الآية: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى) -لو كانت الآية هكذا- وبين ما هي عليه: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} . فنحن نسألهم: هذه التآويل وهذه التفاسير التي تأتون بها من حيث اللغة العربية الأمر واسع جداً، ولا يستطيع أحد أبداً أن يوقف باب التأويل أمام الناس، وبخاصة إذا كانوا من أهل الأهواء، إذاً: ما هو الأمر الفاصل القاطع في الموضوع؟ هو الرجوع إلى ما كان عليه السلف، هؤلاء كما أنهم لا يؤمنون بمعنى هذا الجزء من الآية: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هم -أيضاً، وأنا على مثل اليقين- لا يؤمنون بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) لا يؤمنون بمثل قوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن الفرقة الناجية فقال: (هي الجماعة) ؛ لأنهم خرجوا عن الجماعة، وفي الرواية الأخرى: (هي ما أنا عليه وأصحابي) لا يقيمون وزناً إطلاقاً لما كان عليه السلف الصالح،هذا يكفينا في بيان خروجهم عن مفاهيم السلف الصالح، وبالتالي خروجهم عن الفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة. كأن عندك شيئاً؟ السائل: عندي جواب على سؤال الشيخ من وجهة نظرهم هم، أذكره؟ الشيخ: تفضل. السائل: ينقلون ويتكئون على كلمة لـ شيخ الإسلام رحمه الله في الاقتضاء يقول فيها: إن لفظة (كفر) إذا جاءت منكَّرة تدل على أنها كفر عملي، أما إذا جاءت معرفة بـ (ال) ومصدراً فإنها تدل على الكفر الاعتقادي، كما في الحديث (بينه وبين الكفر ترك الصلاة) فلم يقل: كفراً أو كفر، وإنما قال: الكفر، فهذا هو الكفر الاعتقادي. الشيخ: المسألة هنا تكون فرعية، والموضوع ليس فرعياً وإنما هو أصل، فنحن نعلم أن بعض الحنابلة لا يزالون إلى اليوم يفتون بأن ترك الصلاة كفر وردة، لكنهم ليسوا خوارج، ولا يتبنون الخط الذي يمشي عليه الخوارج، فلو سلمنا لهم جدلاً بمثل هذا الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وغضضنا النظر عن النصوص الأخرى التي نذكرها خاصة في رسالة الصلاة التي تعرضها، فإذا صرفنا النظر عن هذه المسألة بالذات لأن الأدلة فيها متقابلة متشابهة، لكن المهم أنهم إذا وفقوا للصواب في تكفير تارك الصلاة، فذلك لا يعني تكفير المؤمن في أي عمل فرض عليه لا يقوم به، ههنا المعنى أن القاعدة سليمة، لكن لكل قاعدة شواذ، كما هو مذهب الحنابلة مثلاً، هم لا يقولون بصحة مذهب الخوارج، بل هم ضد هذا المذهب، لكنهم التقوا مع هؤلاء، أو بعبارة أصح: هؤلاء التقوا مع الحنابلة في القول بتكفير تارك الصلاة، لكنهم خرجوا عن الحنابلة وعن الشافعية والمالكية والحنفية، وعن جماهير المسلمين في قولهم بتكفير التارك للعمل، كما قلتَ أنت: إن الإيمان لا يكفي -نقلاً عنهم- إنما لا يصح إلا بمقتضاه وهو العمل، بينما الأحاديث التي تعرفونها جيداً والتي هي من بعض أجزاء أحاديث الشفاعة، أن الله عز وجل يأمر أن يخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، هذا الإيمان هو الذي ينجي من الخلود في النار، وهذا هو من معاني قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] . السائل: بعد إذنك؛ أعطيك مثالاً على بتر هذا النص، أعني: حديث الشفاعة الطويل سئل أحدهم سؤالاً فقال: والدليل على أن العمل لازم للإيمان أن آخر فوج يخرج من النار يعرفون بآثار السجود، فعجبت منه أين بقية النص: (ثم يقول الجبار: قد شَفَّعْتُ الملائكة والنبيين. إلى قوله: فيخرج من النار -برواية مسلم - أقوامٌ لم يعملوا خيراً قط قد امتحشوا فيدخلهم الجنة فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجبار بغير عمل عملوه ولا خير قدموه) فأجاب بهذا الجواب، ولاحظ أنه وقف عند آثار السجود ولم يكمل. الشيخ: كيف؟ بعدما سمع الجواب؟ معناه كفر بهذا النص. السائل: هذا مثال والأمثلة كثيرة.

الضابط في كفر المتأول

الضابط في كفر المتأوِّل السؤال الثاني: ما ضابط كفر المتأول الذي يقول أو يفعل فعل الكافر أو قوله؟ A الضابط بين البشر مأخوذ، لكن الله يعلم ما في القلوب، علماء السلف -كما تعلمون- يضلِّلون المرجئة، ويضللون المعتزلة لكنهم لا يكفرونهم، أما عن صحة هذه الرواية من حيث السند، فلم يتح لي الوقوف على السند لكن المعنى صحيح، بمعنى: أنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه؛ لأننا نعلم أن المؤاخذة هي كالإيمان، فمن آمن هكذا دون قصد لا يحكم بإيمانه، ومن كفر دون قصد للكفر فلا يحكم بكفره (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) وهناك أحاديث كثيرة وكثيرة جداً، ومنها ما له صلة بما نقلتَ -آنفاً- عنهم من الغلو من قولهم أن من فَعَل فِعْل الكفار فهو كافر سبحان الله! ما هو الدليل؟ سيعودون إلى الدعوى التي لا أصل لها، وهي أن الإيمان يستلزم العمل، نحن نقول: الإيمان الكامل يستلزم العمل، لكن ليس شرطاً في كل إيمان، حتى ولو كان ذرة تنجيه من الخلود يوم القيامة في النار. ومن تلك الأقوال والأحاديث التي تبطل دعواهم: الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه في مسيرٍ لهم مروا بشجرة ذات أنواط، فقال بعض أصحابه: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! هذه السنن؛ لقد قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) . إذاً: مجرد القول بكلمة الكفر لا يستلزم أن يكون قائله كافراً فعلاً. وتعلمون قصة عمار بن ياسر ونزول قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] . كذلك الرجل الذي أشرتَ إلى حديثه آنفاً، حيث جاء في حديثه: (كان فيمن قبلكم رجل لم يعمل خيراً قط، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه حوله فقال لهم: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أبٍ، قال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباًَ شديداً، فإذا أنا مت فحرقوني بالنار، ثم ذروا نصفي في البر ونصفي في البحر في يوم عاصف، فلما مات فعلوا ونفذوا وصيته، فقال الله عز وجل لذراته: كوني فلاناً فكان، فقال الله عز وجل: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، قال: اذهب فقد غفرت لك) فلو كان قول الكفر كفراً فالكفر لا يغتفر بنص الآية، لكنه ليس كفراً لأنه لم يقصد الكفر، إذاً: هذا من أدلة ضلال هؤلاء، وأنهم: {يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران:7] .

القول في كفر الاستحلال

القول في كفر الاستحلال Q هل يلزم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل فلان لارتكابه محرماً ما، بأنه قد استحله فأمر بقتله، أي: هل يلزم إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل فلان لأنه اقترف ذنباً، أن يكون بمجرد اقترافه له مستحلاً، فيكون بهذا الاستحلال كافراً؟ A هذه من كذباتهم أيضاً، وحديث التي زنت وقال عليه الصلاة والسلام في حقها: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) ، مع أنه أقام الحد عليها، فهذا من أكاذيبهم أيضاً، ومن إعراضهم عن كثير من النصوص التي تخالف أهواءهم، ولذلك ما أرى -يا أخي- فائدة من ذكر شبهات هؤلاء الضلال؛ لأن هذا باب لا ينتهي. السائل: أَذكرُ الحديث -يا شيخ- عن البراء بن عازب قال: (لقيت عمي أبا بردة بن نيار معه لواء، فقلت: أي عم! أين تريد؟ قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أذهب إلى رجل تزوج بامرأة أبيه فأقتله) . الشيخ: حسناً؛ ماذا في هذا؟ السائل: إن هذا النص دليل على أن من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله لارتكابه هذا المحظور، لزم من هذا أنه استحل ذلك الشيخ: يا أخي! فهمت قصدك، لكن ما الدليل على هذا؟ السائل: أنه تزوج زوجة أبيه؛ وهذا استحلال. الشيخ: يا أخي! ما اختلفنا، الذي يقتل النفس المؤمنة أليس استحلالاً؟ السائل: نعم. الشيخ: فهل هو كافر؟ السائل: ليس بكافر. الشيخ: ما هو الفرق بين هذا وذاك؟ كما قلت لك آنفاً: ما هو الفرق بين كفر في عمل وكفر في عمل؟ السائل: لا فارق. الشيخ: وهذا من هذا -يا أخي- فيمكن أن يضع الإنسان احتمالات في نصوص الكتاب والسنة، فإن النصارى -ولعلكم تعرفون ذلك- يحتجون ببعض نصوص القرآن على تثليثهم وعلى كفرهم، الأهواء لا يمكن وضع حدود لها، إلا أن نتبع السلف الصالح تماماً، وهذا هو الحكم الفصل بيننا وبينهم، وإلا سيأتونك بكل دليل ويضعون له تأويلاً حتى يتطابق مع أهوائهم، ولذلك قلت لك: هذا باب لا ينتهي. مداخلة: يبدو أن شيخنا يقصد أن أفراد الشبهات لا تنتهي، فينبغي أن تكون الأسئلة عن أصول كاملة، بمعنى أن كل الكلام الذي تفضلت بالحديث عنه يدل على قضية تحريفهم واستدلالهم وترك أصل الإيمان وما شابهه، فإذا كان هناك أصل آخر دون الإكثار من أمثلتهم فهو أجدر بالبحث. الشيخ: بلا شك.

ضابط الجهل الذي يمنع وقوع الكفر على فاعله

ضابط الجهل الذي يمنع وقوع الكفر على فاعله Q هل مَن تأول عن تقصير ولم يقصد قلنا بأنه لا يكفر؟ الشيخ: نعم؛ لكنه يؤاخذ. السائل: الجاهل الذي يقصد بجهله الكفر، هذا أظن أنه لا يعذر بجهله، أليس كذلك؟ الشيخ: نعم، لكن ظنك سابقٌ لأوانه إلا بعد أن تتأمل في الكفر الذي قصده هذا الجاهل، هل هو يعلم أنه كفر شرعاً؟ السائل: يعلم نعم. الشيخ: بهذا القيد ممكن، أما بدون القيد فلا يكفر، وحينئذٍ لا فرق بينه وبين من يكفر بعلم. إذاً: يكون سؤالك -ولا مؤاخذة- شكلي محض؛ لأنه إن كان يعلم أن هذا العمل كفرٌ شرعاً فهو والعالم سواء، ولذلك أنا خشيت أن تطلق عليه الكفر وهو يجهل، مع أنه قصد هذا الكفر لكنه يجهل أنه كفرٌ شرعاً، فحينئذٍ نقول: هذا لا يكفر، لكن إذا كان عالماً فلا فرق إذاً بينه وقد وصفته بأنه جاهل، وبين غيره وقد وصفته بأنه عالم؛ لأنهما اشتركا كلاهما في معرفة أن هذا العمل كفرٌ شرعاً، فإذاً لا عذر لهذا.

الرد على من لا يعتمد فهم السلف

الرد على من لا يعتمد فهم السلف Q ما الرد على من يتأول قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] فسيقول: سبيل المؤمنين هو الكتاب والسنة؟! A هذا ما أشرت إليه آنفاً رجع الأمر إلى أنه لا فرق بين واقع الآية وبين ما لو كانت: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى) . هذا لغو يترفع الكلام الإلهي عن أن ينسب إليه، ليس في القرآن كلمة فضلاً عن جملة -كهذه الآية (ويتبع غير سبيل المؤمنين) - إلا وضعت لقصدٍ وغاية عظيمةٍ جداً. وهذا من جملة التآويل التي لا تنتهي، ولنسمها بالاسم الصحيح: من جملة التعطيل الذي يوصف به المعطلة في الصفات، ثم ماذا يقولون فيما إذا فعل بعض الصحابة فعلاً؟ انظر الآن كيف ينكشف ضلال هؤلاء من جوانب عديدة وكثيرة جداً جداً، ماذا يقولون فيما إذا جاء عن بعض الصحابة قولٌ أو فعل أو فتوى لا تخالف الكتاب والسنة؟ أيأخذون بها، أم يقولون: نحن رجال وهم رجال؟ ماذا تظن فيهم؟ السائل: لا يقولون: نحن رجال وهم رجال، لكنهم يقولون تأدباً: إن الفهم الذي فهمناه هو الفهم المطلوب، والفهم الذي تلزمنا إياه هو فهمك الذي تلزم به نفسك فقط. الشيخ: حِدتَ عن الجواب! ما موقفهم بالنسبة لما فعله الصحابة من فعل أو ما أصدروه من فتوى، هل يتبنون هذا الفعل أو هذه الفتوى، أم يقولون: نحن رجال وهم رجال؟ السائل: يقولون: واقعنا أو حال المعصية التي بين أيدينا، والظاهر الذي نراه بين أيدينا ليس كما تصوره سلف الأمة الأوائل. الشيخ: الله أكبر! يعني يؤثرون فهمهم على فهم أولئك؟ السائل: نعم. الشيخ: وما معنى: (ما أنا عليه وأصحابي) أيضاً لا بد من تحريفه؟ السائل: قال الشيخ سفر: المجتمع الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صحابة مؤمنون كثيرو الإيمان كالبحر، لو أخطأ أحدهم -وإن لم يقصد- فإن هذه القطرة لا تؤثر في البحر، بينما من دونهم قد يتكلم أو يفعل وعنده ماء قليل -يمثل الإيمان بالماء- لو قطرت فيه قطرة نجاسة لوثته ونجسته وأصبح غير قابل للطهارة أو للتصفية. الجواب: كلام شعري جميل، لكنه حَيْد عن الجواب، وأعيد عليك السؤال، أنا لا أسأل عن الفرق بين خطأ الأولين والآخرين حتى يأتي هذا الجواب بهذا الكلام الشعري الجميل، إنما أنا أسأل: إذا فعل بعض الصحابة فعلاً أو أفتوا بفتوى وليس هناك في الكتاب والسنة ما يخالفهم هل نؤثر فهمنا نحن على فهمهم، أم نتنازل عن فهمنا لفهمهم؛ لأنهم أطهر قلوباً، وأغزر علماً، وو إلى آخره، ما هناك من صفات معروفة جداً؟ لعل السؤال واضح، ولعلي أحظى بالجواب هذه المرة. السائل: الجواب هو نفس القول في المسألة الثانية: أنهم هم أولى منهجاً وفهماً من غيرهم، لكن التأويل أبى إلا أن يكون الأول، والحق أن هؤلاء أولى منهجاً وفهماً. الشيخ: أنا لا أسألك عن رأيك وإنما أسألك عن رأيهم هم. السائل: جوابهم التالي: لكن التأويل يأبى إلا بالتقصيد أو أو أو. إلخ، يتنزهون ويتأدبون أن يجيبوا عن هذا السؤال بالجملة الأولى. الشيخ: أسأل عن عملهم؟ السائل: التأويل. الشيخ: أسألك عن عملهم في المسألة التي يعملها الصحابة، لأنك تقول أنت: إنهم يتأدبون لفظاً، لكن هناك فتوى صدرت منهم، لنضرب مثلاً: أنا قلت آنفاً من باب التدرج وما وصلنا بعد إلى الدرجة الثانية لا نزال في الدرجة الأولى، قلت: بعضهم، بمعنى: يشمل واحداً فأكثر، الآن أضرب مثلاً من الناحية العملية، بحيث لا يمكن أن يقال عنهم وحكاية عنهم: إنهم يتأدبون لفظاً، أنا أسأل الآن: ماذا يفعلون عملاً، مثلاً: هناك حديث في صحيح مسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الشرب قائماً) وفي لفظٍ: (زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً) قيل لراوي الحديث أنس بن مالك خادم الرسول عليه الصلاة والسلام كما هو معلوم: [والأكل؟ قال: شر] . نحن الآن الذين نؤثر فهم الصحابي على فهمنا، وبخاصة أننا لا نجد في السنة -وقبل ذلك في القرآن- ما يخالف هذا الجواب من هذا الصحابي الجليل أنس بن مالك، نحن الآن عملاً لا نفرق بين الشرب قائماً والأكل قائماً، كما أننا لا نشرب قياماً وإنما جلوساً، كذلك لا نأكل قياماً وإنما جلوساً هم ماذا يفعلون؟ السائل: أظن أنهم في هذه الأحكام متبعون مقتفون لطريقة السلف. الشيخ: ما أظن ذلك؛ لأنهم يحاجّون في ذلك، وأنا أرجو أن تكون حكايتك هذه حكاية صحيحة، وليست من باب إحسان الظن، أنا أرجو أن تكون هذه الحكاية عنهم حكاية مطابقة لواقعهم؛ لأننا حينئذٍ نؤاخذهم من هنا من هذه الجزئية، ونقيم عليهم الحجة لماذا أنتم الآن اتبعتم السلف في هذه الجزئية، بل اتبعتم شخصاً واحداً، بينما أنا كان كلامي في السابق قلت: (بعضهم) يشمل الواحد والاثنين والأكثر من ذلك؟ أنت أجبت بجواب يخالف هذا الجواب الآن، لماذا؟ لأني طورت السؤال بناءً على تطور إجابتك عنهم، قلت: إنهم يتأدبون باللفظ، فماذا يفعلون في العمل الذي عملوه؟ هذا ما عملوه جميعاً وإنما عمله صحابي واحد، إذا قال: [الأكل شر] إذاً: نحن أتباع السلف إن شاء الله -أيضاً- لا نأكل من قيام، وهم ماذا يفعلون؟ قلت عنهم -وأرجو أن يكون هذا عنهم صواباً-: إنهم يتبعون السلف، نقول: بأي حجة أنتم اتبعتم السلف في هذه الجزئية؟ أنتم مدينون ومكلفون بأن تتبعوا السلف فيما هو أهم من هذه الجزئية بكثير، خاصة فيما يتعلق بالعقيدة وبصورة أخص فيما يتعلق بالتكفير. مداخلة: كلمة في تأييد كلام شيخنا في قضية فهم السلف، كلمة في سطرين للإمام الشاطبي رائعة جداً، يقول في كتاب الموافقات (ج3 ص 77) : يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل. الشيخ: إي والله! آمنت بالله والذي جاء به رسول الله، وبما اتبعه سلفنا الصالح. مداخلة: ابن عبد البر في الاستذكار ينقل عبارة وينسبها إلى أبي حنيفة وحماد بن سليم وربيعة الرأي، فيقول: كانوا يقولون: رأينا لمن بعدنا خير لهم من رأيهم لأنفسهم. الشيخ: فما بال رأي الصحابي بالنسبة لمن بعده؟ من باب أولى.

حكم الحاكم بغير ما أنزل الله

حكم الحاكم بغير ما أنزل الله السائل: يتأولون تفسير قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] تأدباً، أن ابن عباس لم يقصد بقوله هذا فيمن ضاهى بتشريعه أحكام وتشريع الله تعالى، وأتى بتشريعات مضاهية لتشريع الله، بل قصد هذا فيمن غيَّر وبدل في نظام الحكم من شورى أو خلافة إلى ملكي. إلخ فقط، فأرجو الجواب عن هذا. الشيخ: لا يفيدهم هذا التأويل الهزيل شيئاً إطلاقاً، ذلك لأنه: أولاً: كأي تأويل من تأويلاتهم سنقول لهم: ما دليلكم على هذا التأويل؟ وسوف لا يحررون جواباً. ثانياً: الآية التي قال فيها عبد الله بن عباس هذه الكلمة معروفة، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] بماذا فسرها علماء التفسير؟ فيعود للمناقشة من أولها. علماء التفسير اتفقوا على أن الكفر قسمان: كفر اعتقادي، وكفر عملي، وقالوا في هذه الآية بالذات: من لم يعمل بحكمٍ أنزله الله فهو في حالة من حالتين: إما أنه لم يعمل بهذا الحكم كفراً به؛ فهذا من أهل النار خالداً فيها أبداً، وإما اتباعاً لهواه لا عقيدة وإنما عملاً كهؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالإسلام؛ فلا كلام فيه، هذا بالنسبة للكفر الاعتقادي. وكهؤلاء المسلمين الذين فيهم المرابي، وفيهم الزاني، وفيهم السارق وو. إلخ، هؤلاء لا يطلق عليهم كلمة الكفر بمعنى الردة إذا كانوا يؤمنون بشرعية تحريم هذه المسائل، حينئذٍ علماء التفسير في هذه الآية صرحوا بخلاف ما تأولوا، فقالوا: الحكم الذي أنزله الله إن لم يعمل به اعتقاداً فهو كافر، وإن لم يعمل به إيماناً بالحكم لكنه تساهل في تطبيقه فهذا كفره كفر عملي. إذاً: هم خالفوا ليس السلف الأولين بل وأتباعهم من المفسرين والفقهاء والمحدثين، إذاً: هم خالفوا الفرقة الناجية. مداخلة: ذكر أخونا في معرض كلامه تلك الفقرة، ونسألكم ما هو القصد منها؟ الشيخ: هم يفكرون ويظنون أن كلام سفر له علاقة بموضوعنا، وقد قلت: هذا الكلام شعري وجميل، لكن ليس جواباً لسؤالنا!! وأنا لا أدري ما رمى إليه! مداخلة: لدي فائدة لك في أثر علي رضي الله تعالى عنه لما سألوه [أمشركون أو كفار هم؟ قال: لا. بل من الكفر فروا] وجدتها في سنن البيهقي بسندها، ووجدتها كذلك في مصنف ابن أبي شيبة، لكنها ليست عندي، وممكن إذا اتصلت بك أو أعطيتها للأخ الشيخ علي يفيدك بها. الشيخ: ما تمت الفائدة إذاً: مداخلة: شيخنا يتكلم عن الصحة، أما المصادر فأمرها سهل! الشيخ: على كل حالٍ جزاك الله خيراً. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الرد على المفوضة

الرد على المفوضة وردت الكثير من الشبه حول مسألة التفويض في آيات الصفات، ونسبتها إلى أهل السنة، وعقيدة السلف في هذه ذلك هو الإيمان بالمعنى وتفويض الكيف، أما المعطلة فيظهر فساد مذهبهم في ذلك وتأثرهم بعلم المنطق. وعلى هذا فقد بين الشيخ هذه القضية في معرض الرد على بعض الأسئلة، مفنداً بعض هذه الشبه.

فهم الصحابة للنصوص على الحقيقة لا على المجاز

فهم الصحابة للنصوص على الحقيقة لا على المجاز إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. نفتتح الليلة مباشرة بتلقي الأسئلة المتوفرة عند بعض إخواننا، ونجيب عليها -إن شاء الله- بما يسر الله لنا، ثم نختصر الجلسة بقدر الإمكان لظروف عارضة، وهي وإن كانت عارضة فليس فيها ما يزعج، وإنما نحن معكم إلى الساعة العاشرة والنصف، وبالكثير إلى الحادية عشرة، فتوكلوا على الله، وهاتوا ما عندكم. Q هل العقيدة التي يحملها السلفيون هي عقيدة الصحابة؟ فإن من الناس من يزعم ويقول: إن كانت هي عقيدة الصحابة؛ فأتونا ولو بصحابي واحد يقول في الصفات: نؤمن بالمعنى ونفوض الكيف، فما هو قولكم؟ A نحن نعكس السؤال، ثم نجيب عن هذا السؤال فنقول: هل هناك صحابيٌ تأول تأويل الخلف؟ ونريد على ذلك مثالاً أو مثالين؟ السائل: يذكرون أحياناً عن ابن عباس رضي الله عنه أنه تأول آية من كتاب الله تبارك وتعالى. الشيخ: إذا كان قد تأول، فما الذي حمله على التأويل؟ وهل كان ذلك هو منهج الصحابة الأولين؟ فجواباً على السؤال الأول نقول: إن السلف الصالح لم يكونوا بحاجة إلى أن يشرحوا ما هو واضح لديهم وضوح الشمس في رابعة النهار، والمثال السابق يشبه تماماً ما لو قال قائل: أعطونا مثالاً واحداً على أن أحد الصحابة قال: هذا فاعل، وهذا مفعول به، وهذا مفعول للتمييز، وهذا للحال إلى آخر ما هنالك من مصطلحات وضعت بعد الصحابة، وبعد السلف؛ لضبط فهم النصوص على الأسلوب القرآني والعربي الأصيل؛ فلن نستطيع أن نأتيهم بنص من مثل هذه النصوص التي اصطلح عليها العلماء الذين وضعوا قواعد النحو، ووضعوا قواعد الصرف، وكذلك سائر العلوم التي منها أصول الفقه، ومنها أصول الحديث إلى آخره؛ ذلك لأن الصحابة الأولين كانوا عرباً أقحاحاً، فلم يكونوا بحاجة إلى أن يفسروا ما يفسره اليوم السلفيون الذين ينتمون إلى السلف الصالح؛ ذلك لأنهم يفهمون النصوص المتعلقة بآيات الصفات، وأحاديث الصفات كما فهمها السلف. المهم أن الأصل ليس هو التأويل، بل الأصل هو عدم التأويل، وهذا الأصل أمر متفق عليه عند جميع العلماء، حتى الذين يؤولون أي كلام عربي سواءً أكان متعلقاً بآيات الصفات، أو أحاديث الصفات، أو متعلقاً بأي خبرٍ عربي، فكلهم يتفقون فيقولون مثلاً: الأصل في كل جملة عربية أن تحمل على الحقيقة، وليس على المجاز، فإذا تعذرت الحقيقة حينئذٍ يقولون: نصير إلى المجاز. ففي هذه القاعدة المتفق عليها بين السلف والخلف، نحن نقول: إن العرب الأولين -الصحابة الذين قصد السائل فهمهم لتلك النصوص- سائرون على هذه القاعدة التي عليها الخلف فضلاً عن السلف. فإذاً حينما قال الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ما الذي يفهمه العربي فيما يتعلق بالملائكة -مثلاً- من كلمة (جاء الملائكة) ؟ هل يفهم المعنى المؤول، أم يفهم المعنى الحقيقي؟ لاشك أن الجواب سيكون: إنه يفهم المعنى الحقيقي، سنقول له: أعطنا نصاً على أن الصحابة فسروا مجيء الملائكة بالمعنى الحقيقي، فلن يستطيع أن يصل إلى ذلك أبداً! لماذا؟ لأن الأمر واضح لديهم، فهم يسيرون على قاعدة علمية مجمع عليها ليس فقط بين السلف بل والخلف أيضاً، فما كان جوابهم عن هذا المثال السهل البسيط، فهو نفس جوابنا على السؤال الذي وجهته آنفاً. الحق أن نقول: إن هؤلاء المعطلة متأثرون بعلم المنطق الذي يخرج كثيراً أصحابه من دائرة الاتباع إلى دائرة الابتداع، فحينما يوردون هذا السؤال، معنى ذلك: أنه ليس هناك ضابطٌ لفهم نصوص الشريعة إطلاقاً؛ لأنه لا يمكننا أن نتصور إلا أن كل من يدعي العلم، سواءً كان سلفياً أو كان خلفياً لا بد له من أن يفسر نصاً في القرآن أو في السنة على القاعدة المذكورة آنفاً، وهي: الأصل الحقيقة، وليس المجاز، فحينما يأتينا أي خلفي من هؤلاء، ويفسر لنا تفسيراً ما لنصٍ ما، نسأله قائلين: ما هو مستندك في هذا التفسير؟ هل عندك نص عن الصحابة عن التابعين عن أتباع التابعين؟ فسيضطر إلى أن يعود إلى أصل اللغة، وحينئذ نقول: هذه حجتنا عليكم، لماذا تتأولون النصوص التي لا تعجبكم ظواهرها ولا إشكال فيها؟ إنما جاء الإشكال -كما هو الأصل- من التكييف والتشبيه. لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أصل المعطلة أنهم وقعوا في التشبيه، فلما أرادوا الخلاص من التشبيه لجئوا إلى التأويل، فلو أنهم أخذوا بمثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وكذلك سورة الصمد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] لو أنهم وقفوا عند هذا النص لما احتاجوا إلى التأويل؛ لأن الذي دفعهم إلى التأويل هو أنهم فهموا هذه الآيات على مقتضى التشبيه. فإذا قلنا: (جاء ربك) أي: كما يليق بجلاله، كذلك الملائكة خلقٌ من خلق الله، لكن لا شك ولا ريب أن مجيئهم لا يشبه مجيء البشر، بل الجن الذين خلقوا من نار، مجيئهم، وذهابهم، وإيابهم، لا يشبه بأي وجه من الوجوه مجيء البشر، فهل نؤول المجيء المتعلق بالجن، أو المجيء المتعلق بالملائكة، أم نقول: إن مجيء كل ذات تتناسب مع تلك الذات؟ هكذا ينبغي أن تفهم نصوص الكتاب والسنة، أي: على القاعدة العربية: الأصل في كل جملة الحقيقة وليس المجاز، فإذا تعذرت الحقيقة صير إلى المجاز، فهذا جواب ذلك السؤال. ثم يخطر في بالي شيءٌ آخر وهو: أن هذا السؤال يعني عدم الاعتداد بفهم الأئمة والذين يتظاهر هؤلاء بالتمسك بعلمهم وبفهمهم، بينما هنا لا يقيمون لفهمهم وزناً إطلاقاً، مع أن الأئمة هم الذين اقتدينا بمنهجهم وبأسلوبهم في تفسير الآيات، وتفسير الأحاديث. لذلك كان كثير من علماء السلف يحذرون عامة الناس من أن يجالسوا أهل الأهواء؛ لأنهم أهل شبهات، وطرح إشكالات، ومع الأسف لا يستطيع كثيرٌ من أهل العلم أن يجيبوا جواباً مقنعاً موافقاً للكتاب والسنة من جهة، ومتابعاً للعقل الصحيح من جهة أخرى، وكثير من الناس لا يستطيعون أن يقدموا الحجة والبيان لأولئك الذين تأثروا بالشبهات والإشكالات التي يطرحها أهل الأهواء والبدع؛ لذلك حسموا الأمر، ونهوا عن مخالطة أهل البدع والأهواء.

عقيدة السلف في رؤية الله تعالى في الآخرة

عقيدة السلف في رؤية الله تعالى في الآخرة Q بالنسبة لقوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] والنظر الذي فسره بعض الأئمة بأنه النظر إلى الله تعالى، ثم هناك حديث: (إن أعلى أهل الجنة منزلة هو من ينظر إلى الله كل يومٍ مرتين) مع أن هذا الحديث قد أوردتموه في ضعيف الجامع، فهل هناك وصفٌ لرؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وقد جاء في حديث أن يوم الجمعة في الجنة ينظر فيه المؤمنون لربهم؟ وكيف يكون التفسير هنا بالنسبة للآية: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] فهم متكئون على الأرائك ينظرون، ومع ذلك هناك يوم يخصص للنظر، والحديث الذي ورد في هذا أيضاً ضعيف، فكيف يوجه هذا؟ A سامحك الله! هل تسأل عن أصل رؤية المؤمنين لربهم؟ أم تسأل عن عدد المرات التي ينظرون فيها إلى ربهم؟ سؤالك ذو شعب كثيرة، فلو أنك حددت سؤالاً أولاً، وثانياً، وثالثاً، إن كان الأمر كما نتصور، ليكون هذا أوضح للحاضرين سؤالاً وجواباً، فإن كان في سؤالك ثلاثة أسئلة؛ فابدأ إذاً بالأهم فالأهم. السائل: بالنسبة لقول الله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) [المطففين:23] هل هذا دائم في الجنة؟ الشيخ: نعم. السائل: أقصد هل هذا دائم من حيث الوقت؟ الشيخ: (رجعت حليمة إلى عادتها القديمة) ، يا أخي! حدد سؤالك بارك الله فيك، هل أنت مؤمن بأصل الرؤية؟ السائل: نعم. الشيخ: إذاً ما هو سؤالك؟ السائل: هل هذا النظر دائم في كل وقت في الجنة؟ الشيخ: لا نعلم! لماذا مثل هذا السؤال؟ هلا سألت -مثلاً- عن حديث الجمعة، المسمى بـ (حديث يوم المزيد) ، هل هو صحيح أم لا؟! نقول: نعم. فالحمد لله هو صحيح، إذاً المؤمنون يرون ربهم كل يوم جمعة، أما كل ساعة وكل لحظة، فما عندنا علم! ولماذا السؤال في الأمور الغيبية؟! وأنت بلا شك تعلم -في حدود ما علمت- أنك لم تقف على أن المؤمنين يرون ربهم في كل لحظة وفي كل ساعة، ولا غيرك يعلم ذلك إطلاقاً! إذاً الذي يجب على كل مؤمن هو أن يؤمن بأصل الرؤية التي ثبتت في الكتاب والسنة، ولذلك أنا استغربت أول الأمر حينما سألت عن قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] فهل معنى هذا: أنهم ينظرون إلى ربهم؟ الجواب: نعم. لكن هناك نصوص أوضح في إثبات أصل الرؤية من هذه الآية، ولسنا بحاجة إلى أن نذكر شيئاً من هذا الآن؛ لأني لا أعتقد أن أحداً من الحاضرين -على الأقل- عنده شكٌ في أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، حتى الذين ينكرون الصفات بطريق تأويلها كـ الأشاعرة والماتريدية -مثلاً- مما يحجون به وتقام عليهم الحجة به: أنهم يؤمنون برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، خلافاً للمعتزلة، وخلافاً للخوارج، فهؤلاء المعتزلة والخوارج ينكرون أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة. أما الماتريدية والأشعرية فهم يشاركون أهل السنة -أهل الحديث- في إيمانهم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة. هنا تأتي الحجة القاصمة لظهر المنكرين لاستواء الله عز وجل على عرشه، واستعلائه على مخلوقاته؛ ذلك لأن هذه الرؤية التي اشترك الماتريدية والأشاعرة مع أهل الحديث في الإيمان بها، تستلزم إثبات العلو لله عز وجل، وهم ينكرون العلو، فيقال لهم: كيف تنكرون علو الله على خلقه، ومع ذلك تثبتون رؤية المؤمنين لربهم؟! فكيف تعتقدون رؤية المؤمنين لربهم وأنتم تنكرون علو الله عز وجل على خلقه؟! فهذا تنافر وتضاد؛ ولذلك الآن تجد ذاك الرجل الذي ملأت رائحته الكريهة أنوف المؤمنين جميعاً، لا يتعرض إطلاقاً لإثبات هذه العقيدة، وهي عقيدة رؤية المؤمنين لرب العالمين؛ مع أنها عقيدة الأشاعرة، وعقيدة الماتريدية، لماذا؟ لأن هذه العقيدة وحدها تكفي لإبطال قولهم: إن الله عز وجل ليس فوق العرش، وليس فوق المخلوقات كلها. إذاً يجب أن نؤمن بأصل هذه الرؤية، وبثبوتها في الكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف، وإقرار الماتريدية والأشاعرة بها، أما الدخول في التفاصيل فيقف المؤمن عند ما علم منها، علمنا حديث يوم المزيد، وهو يوم الجمعة، وأن المؤمنين يرون ربهم في كل جمعة؛ فآمنا بذلك، ولسنا مكلفين، بل لا يجوز لنا أن نتعمق أكثر من ذلك. ويعجبني بهذه المناسبة قول أحد علماء الحنفية الماتريدية الذين -كما ذكرت آنفاً- يشتركون مع أهل الحديث في الإيمان بهذه النعمة العظمى، وهي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، قال هذا الرجل العالم الفاضل الحنفي الماتريدي: يراه المؤمنون بغير كيفٍ وتشبيه وضربٍ بالمثال هذا ما يمكنني أن أتحدث به في هذه اللحظة جواباً عن تلك المسألة.

رد شبهة حول منهج السلف في إثبات الصفات

رد شبهة حول منهج السلف في إثبات الصفات Q كثيراً ما يُزعم أن مذهب السلف هو التفويض في الصفات، ويستندون في ذلك على بعض الأقوال لأهل العلم، كالإمام أحمد في قوله: أمروها كما جاءت بلا تفسير. شيخنا! لو توضحون هذه الأقوال، خاصة وأنها ثابتة عن الإمام أحمد وغيره، نرجو منكم بيان هذه المسألة، وجزاكم الله خيراً. A سبق أن تكلمنا عن هذه المسألة، وجواباً عنها نقول: إن السلف كما جاء في كتب أئمة الحديث، وكما جاء في بعض كتب الأشاعرة كالحافظ ابن حجر العسقلاني، وهو من حيث الأصول والعقيدة أشعري -على علمه وفضله- وهو قد ذكر في أكثر من موضعٍ واحد في كتابه العظيم المسمى بـ فتح الباري، أن عقيدة السلف تحمل آيات على ظاهرها دون تأويل ودون تشبيه، فقول الإمام أحمد: أمروها كما جاءت، أي: افهموها كما جاءت، دون أن تتعمقوا في محاولة معرفة الكيفية. والذين يقولون: إن مذهب السلف هو التفويض، يلزمهم أولاً أمران اثنان، وكما يقال: أحلاهما مر، فيلزمهم أن الآيات التي وصف الله عز وجل نفسه فيها، فضلاً عن الأحاديث الكثيرة التي وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه فيها؛ كل هذه النصوص معناها على مذهب التفويض: أننا لا نفهم هذه النصوص، بل ولا ندري لماذا أنزلها ربنا عز وجل في كتابه! ولا ندري لماذا وصف النبي ربه بهذه الصفات! والواجب علينا ألا نفهم هذه الصفات المذكورة في القرآن والسنة؛ علماً بأن الله عز وجل نعى على قومٍ أنهم لا يهتمون بفهم القرآن الكريم، حينما قال رب العالمين: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فلا شك أن أعظم شيء يتعلق بهذا الإسلام هو: معرفة الرب الذي شرع هذا الدين على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، فحينما يقال في آيات الصفات، وفي أحاديث الصفات: لا نفهم منها شيئاً، إذاً هم لم يعتبروا بمثل قوله في الآية السابقة: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ويشملهم أيضاً قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] ، وقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] ، والآيات كلها إنما أنزلت لتعقل وتفهم عن الله عز وجل، فإن كانت متعلقة بالعقيدة تبناها عقيدة، وإن كانت متعلقة بالأحكام تبناها وعمل بها. إذاً: إذا كانت الآيات المتعلقة بصفة الله عز وجل لا تفهم؛ فإذاً نحن لا ندري عن ربنا شيئاً إلا أن له وجوداً، وعلى هذا فهناك صفات مجمع عليها بين العلماء حتى علماء الخلف: مثلاً: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فهل نفهم من صفة السميع أن نفوض فنقول: لا ندري ما هي صفة السمع؟ كذلك البصير، لا ندري ما هي صفة البصر! والقدير والحكيم والعليم إلخ، معنى ذلك التفويض المزعوم: أننا لا نفهم شيئاً من هذه الصفات!! إذاً: على هذا نكون قد آمنا بربٍ موجود، لكن لا نعرف له صفة من الصفات، وحينئذٍ كفرنا برب العباد حينما أنكرنا الصفات بزعم التفويض، وهذا هو الذي يرد -أولاً- على أولئك المفوضة زعموا. اللازم الثاني: إذا قال الإمام أحمد أو غيره: أمروها كما جاءت، فقبل الإمام أحمد كان هناك إمام دار الهجرة وهو الإمام مالك رحمه الله تعالى، فهل كان على هذا المذهب؟ حينما جاءه ذلك السائل فقال له: يا مالك! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، فلا يعني أن الاستواء مفوض معناه، بل إن الاستواء معلوم وهو العلو، ولكن الكيف مجهول، وهذا هو مذهب السلف؛ ولذلك كان تمام كلام الإمام مالك رحمه الله أن قال: أخرجوا الرجل فإنه مبتدع. فهذا الرجل السائل لم يكن مبتدعاً لأنه سأل عن معنى خفي عليه من قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وإنما أخرج وبُدِّع لأنه سأل عن كيفية الاستواء، فكان قول الإمام مالك هذا هو الذي يمثل منهج السلف الصالح، والمتبعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وهو أن معاني آيات، وأحاديث الصفات مفهومة لغة، لكن كيفياتها مجهولة تماماً، فلا يعرف كيفية الذات إلا صاحب الذات! ولا يعرف كيفية الصفات إلا الذات نفسها! لكن الاستواء معلوم، والسمع معلوم، والبصر معلوم، والعلم معلوم وو إلخ. ولذلك فأنا أعتقد أن تفسير كلمة الإمام أحمد: أمروها كما جاءت، بأنها تعني عدم فهم الآيات، وأن نقول: الله أعلم بمراده -كما يزعم الخلف- فهذا هو أصل التعطيل المؤدي إلى جحد الخالق سبحانه وتعالى. لذلك فأنا يعجبني كلمة الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأكررها على مسامعكم لتحفظوها؛ لأن فيها جماع هذه المسألة في كلمتين اثنتين، يقول رحمه الله: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً. فإذا قال الإنسان: إن الله ليس فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا داخل العالم ولا خارجه؛ كما يقول بعض المبتدعة الضالين في هذا البلد خاصة؛ حيث يزعمون بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فهذا وصف للمعدوم الذي لا وجود له، ولو قيل لإنسان: هل العدم شيءٌ؟ ماذا تتصورون أن يكون الجواب؟! سيكون الجواب: العدم لا شيء. وإذا قيل: هذا العدم الذي هو لا شيء، هل هو داخل العالم أو خارجه؟ هل يصح هذا الوصف؟ لا يصح، فإذا كان هناك شيء له وجوده، وله كيانه، فهل يقال: إنه ليس داخل العالم ولا خارجه؟ كذلك هذا لا يقال. إذاً: من هنا قال ابن تيمية رحمه الله: والمعطل يعبد عدماً، أي: شيئاً لا وجود له، وقد قلنا في بعض المناسبات الكثيرة: إن حديث عمران بن حصين رضي الله عنه المروي في صحيح البخاري: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن العرش، وعما خلق الله بعد العرش، وعما كان قبل العرش، فقال عليه الصلاة والسلام: كان الله ولا شيء معه) أي: لا مخلوقات. فإذاً هو كان ولا مخلوق معه، ثم خلق العرش، ثم خلق السماوات والأرض. فإذاً: حينما خلق الله السماوات والأرض صارت هي الموجود بإيجاد الله إياها، فلا شك ولا ريب أن الله -والحالة هذه- ليس في المخلوقات، أما أن يقال: إنه ليس خارج المخلوقات، فهذا جحد لوجود الله عز وجل؛ لأنه كان ولا مخلوقات، ولا عرش، ولا كرسي، ولا سماء، ولا أرض، ولا إلخ. لذلك نحن نقول: إن عاقبة التأويل هي التعطيل، لهذا يقول ابن تيمية: المجسم يعبد صنماً، وهذا حرام بلا شك؛ لأن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] والمعطل يعبد عدماً، أي: يعبد شيئاً لا وجود له، فآمنوا بالله ورسوله على أساسٍ من الفهم للآيات، على الأسلوب العربي الذي كان عليه سلفنا الصالح أولاً، مع الاحتفاظ بأن حقائق هذه الصفات وهذه الأسماء لا يعرفها إلا الله تبارك وتعالى. السائل: كذلك مما يثبت أن الإمام أحمد رضي الله عنه ورحمه الله تعالى يعرف ويفهم معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، عندما أثبت أن الله عز وجل فوق السماوات بذاته، حيث سئل وقيل له: يا إمام! ماذا تقول في قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] ؟ قال: بعلمه. فهذا أيضاً يدل على أن الإمام أحمد يفهم ويعرف معنى قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] . الشيخ: أن يقال: إن السلف ما فسروا، فهذا جحد لحقيقةٍ تشبه جحد المنهجيات من الأمور، والله المستعان!

الرد على السقاف

الرد على السقاف Q هناك بدعة جديدة يا شيخ! ابتدعها السقاف في هذه الأيام بالنسبة لهذه المسألة، حيث تكلمت مع أحد تلامذته أو رواده، فعندما ناقشته في هذه المسألة قال: حين سئل شيخنا عن حديث الجارية، وهو في صحيح مسلم قال: الصحابة قالوا: إن الرحمن على العرش استوى، ولكنهم يريدون التأويل، فعندما ناقشت هذا الرجل، كنت كلما يأتي بشيء آتي له بشيء ينقضه، حتى قال في النهاية: أنا أثبت أن الله عز وجل فوق السماء كما أثبتته الجارية، وبقي مصراً على كلام شيخه، وأن الجارية أثبتته؛ ولكنها تريد التأويل. الشيخ: وما يدريه؟ السائل: أنا قلت له: ما هي الحجة والبرهان؟ فهذا لا بد له من برهان ودليل؟ A على كل حال أنا أعتقد أنها كلمة يقولونها بألسنتهم، ويقولونها هرباً من الحجة التي تقام عليهم؛ لأن الرجل يصرح في كتبه بأن القول بأن الله في السماء كفر، في مثل قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] قال في بعض كتبه، ونقلاً عن بعض المفسرين المؤولين -مع الأسف-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] كما يقوله أهل الشرك، هكذا هو مطبوع في الكتاب، ولذلك إذا وصل معك إلى أن يقول: أنا أقول كما قالت الجارية؛ لكن مع التأويل، فهذا في اعتقادي أنه سيكون أحد شيئين، وذلك حتى ننصف هذا الرجل الذي تشير إليه: فإما أنه كفر بشيخه، أو تأول كلام الشيخ بتأويل لا يرضاه الشيخ، أو أن الشيخ علمهم: أن إذا قيل لكم كذا فقولوا كذا، لكن قولهم هذا يخالف المسطور في كتبهم؛ لأن الرجل يصرح بأنه لا يجوز للمسلم أن يقول: إن الله في السماء؛ لأن هذه قولة الكفار المشركين في العهد الجاهلي، وهو تلقاه عن الشيخ عبد الله الغماري المغربي، فهو يصرح -أيضاً- في بعض تعليقاته على كتاب التمهيد، هذا الكتاب العظيم الذي ابتلي ببعض المعلقين من أهل الأهواء وأهل التعطيل، ولا أقول: التأويل-. ولذلك إذا قال هذا القول حقيقة فهذه خطوة إلى الأمام، لكن الحقيقة أن السقاف لا يؤمن إلا أن كلمة: (الله في السماء) كفر؛ لأنه يفسر (في السماء) أي: (في جوف السماء) ، وهذا كفر، لهذا يقول بأننا نحن نقول: إن الله عز وجل ليس في مكان، ومن قال: إن الله في مكان؛ فقد كفر، لذلك يتأولون (في) بمعنى (على) كما هو صريح الآيات الأخرى، ثم يقول: إن الله عز وجل ليس في مكان، وليس خارج المكان، أو إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، تلك هي شنشنة المعطلة، ومن عجائب أقوالهم أنهم يكفرون من يقول بقول الله ورسوله ويؤمنون بمن يقول بقولةٍ ما قالها رسول الله، ولا صحابي، ولا تابعي، ولا إمام من أئمة المسلمين! فنقول لذلك السائل: من من العلماء الذين يعرفون بعلمهم وصلاحهم قال: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه؟ وهؤلاء المعطلة من أين جاءوا بهذه العقيدة؟ نقول: فهم مهما حاولوا أن يتأولوا مثل هذا الكلام؛ فإن هذا التأويل لا يقبل في شطره الثاني إلا إنكار وجود الله تبارك وتعالى، ونحن نعتقد أن كثيراً من المؤولة ليسوا زنادقة، لكن في الحقيقة إنهم يقولون قولة الزنادقة، فالزنديق المنكر لوجود الله هو الذي سيقول: لا شيء مما تزعمون يصح، فإن الله لا داخل العالم ولا خارجه، لكن هم بسبب تأثرهم بعلم الكلام وصلوا إلى أن يقولوا كلمة هي الزندقة بعينها، لكن مع ذلك فهم لا يعلمون، ويصدق فيهم قول رب العالمين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} [الكهف:103] {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104] .

بيان قول البخاري في تفسير: (كل شيء هالك إلا وجهه)

بيان قول البخاري في تفسير: (كل شيء هالك إلا وجهه) Q لي عدة أسئلة، ولكن قبل أن أبدأ أقول: أنا غفلت بالأمس عن ذكر هذه المسألة، وهي عندما قلت: إن الإمام البخاري ترجم في صحيحه في معنى قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] قال: إلا ملكه. صراحة أنا نقلت هذا الكلام عن كتاب اسمه: دراسة تحليلية لعقيدة ابن حجر، كتبه أحمد عصام الكاتب، وكنت معتقداً أن نقل هذا الرجل إن شاء الله صحيح، ولازلت أقول: يمكن أن يكون نقله صحيحاً، ولكن أقرأ عليك كلامه في هذا الكتاب. إذ يقول: قد تقدم ترجمة البخاري لسورة القصص في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، أي: إلا ملكه، ويقال: (إلا) ما أريد به وجه الله، وقوله: إلا ملكه، قال الحافظ في رواية النسفي وقال معمر فذكره، ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى، وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن، لكن بلفظ (إلا هو) ، فأنا رجعت اليوم إلى الفتح نفسه فلم أجد ترجمة للبخاري بهذا الشيء، ورجعت لـ صحيح البخاري دون الفتح، فلم أجد هذا الكلام للإمام البخاري، ولكنه هنا كأنه يشير إلى أن هذا الشيء موجود برواية النسفي عن الإمام البخاري، فما جوابكم؟ A جوابي تقدم سلفاً. السائل: أنا أردت أن أبين هذا مخافة أن أقع في كلام على الإمام البخاري. الشيخ: أنت سمعت مني التشكيك في أن يقول البخاري هذه الكلمة؛ لأن تفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] أي: ملكه، يا أخي! هذا لا يقوله مسلم مؤمن، وقلت أيضاً: إن كان هذا موجوداً فقد يكون في بعض النسخ، فإذاً الجواب تقدم سلفاً، وأنت جزاك الله خيراً الآن بهذا الكلام الذي ذكرته تؤكد أنه ليس في البخاري مثل هذا التأويل الذي هو عين التعطيل. السائل: يا شيخنا! على هذا كأن مثل هذا القول موجود في الفتح، وأنا أذكر أني مرة راجعت هذه العبارة باستدلال أحدهم، فكأني وجدت مثل نوع هذا الاستدلال، أي: أنه موجود وهو في بعض النسخ، لكن أنا قلت له: إنه لا يوجد إلا الله عز وجل، وإلا مخلوقات الله عز وجل، ولا شيء غيرها، فإذا كان كل شيء هالك إلا وجهه، أي: إلا ملكه، إذاً ما هو الشيء الهالك؟!! الشيخ: هذا يا أخي! لا يحتاج إلى تدليل على بطلانه، لكن المهم أن ننزه الإمام البخاري عن أن يؤول هذه الآية وهو إمام في الحديث وفي الصفات، وهو سلفي العقيدة والحمد لله. وسبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

التعامل مع الجن

التعامل مع الجن هذا اللقاء عبارة عن مجموعة من الأسئلة ألقاها الحاضرون على الشيخ رحمه الله، وهذه الأسئلة تختلف في مواضيعها، فمنها ما يتعلق بالسفر والمدة التي يقصر فيها المسافر، ومنها ما يتعلق بحكم التعامل مع الجن وإمكانية التعامل معهم وغيرها من المسائل المختلفة.

مدة القصر والجمع في السفر

مدة القصر والجمع في السفر Q مدة القصر والجمع بالنسبة للمسافر، كأن يأتي المسافر زائراً إلى عمّان وينوي الإقامة شهراً إلى شهر ونصف، فهل له الجمع والقصر؟ A أولاً -يا أخي- الجمع إنما هو رخصة بالنسبة للمسافر؛ سواء كان بحاجة إليها أو لم يكن بحاجة إليها، والعمل بها هو أمر يحبه الله عز وجل، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) فإذا كان الرجل مسافراً فعلاً فله أن يجمع؛ سواءً كان في حاجة إلى الجمع أو لم يكن في حاجة إليه، لكن الجمع ليس خاصاً بالمسافر فقط وإنما يجوز أيضاً للمقيم، لكن ليس من باب الترخص وإنما من باب الحاجة الملحة؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه كما في صحيح مسلم: (جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، بدون سفر ولا مطر، قالوا: ماذا أراد بذلك يا ابن العباس؟ قال: أراد ألا يحرج أمته) . فأقف هنا قليلاً؛ لأن هذه المسألة مهمة جداً، ألا وهي الجمع بالنسبة للمقيم، ثم نعود إلى الجمع بالنسبة للمسافر؛ لأن أكثر الناس كما قال رب العالمين: (لا يعلمون) ومن جملة ما لا يعلمون الجمع بالنسبة للمقيم، بعضهم يعلم أن الجمع للمقيم يجوز لكنه لا يشترط له أي شرط، فيجعل الجمع للمقيم كالجمع للمسافر، لا يستويان مثلاً؛ لأن الجمع للمقيم يختلف عن الجمع للمسافر. الجمع للمسافر -كما قلت آنفاً- رخصة، ولو لم يكن مضطراً، ولا في حاجة ملحة إلى هذه الرخصة، وله أن يفعل ذلك ولا يستطيع أحد أن ينكر؛ لأنه ثبت الجمع بين الصلاتين في الأحاديث الصحيحة، خلافاً لمن يصور هذا الجمع في السفر ويسميه بالجمع الصوْري، وأنتم تقولون: الجمع الصُوري، وهذا لا حاجة إليه لغة، إنما هو جمع صوري، والجمع الحقيقي هو: إما تأخير الصلاة الأولى كالظهر مثلاً إلى الصلاة الأخرى العصر، فتصليهما معاً في وقت العصر، ويسمى جمع تأخير، وإما أن تقدم الصلاة الأخرى فتضمها إلى الصلاة الأولى وتصليهما في وقت الأولى الظهر، فيسمى جمع تقديم، فهذا جمع حقيقي وليس جمعاً صورياً. كذلك الجمع في حالة الإقامة جمع حقيقي، ولكن يشترط هناك شرط لا يشترط في الجمع للمسافر، ألا وهو: الحاجة التي تعترض سبيل المصلي، فيجد حرجاً يوماً ما في وقت ما أن يصلي الظهر في وقتها والعصر في وقتها، فيجمع بينهما جمع تقديم أو جمع تأخير تمسكاً بالرخصة. إذا عرفنا هذه الحقيقة في الجمع في السفر والجمع في الحضر، وأنهما من حيث صورة الجمع جمعاً حقيقياً، أما من حيث جواز الجمع ففي السفر للرخصة وفي الحضر لدفع الحرج. نعود إلى الإجابة على السؤال فنقول: هذا الذي نوى الإقامة في بلد سفره شهراً أو شهرين، أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك هذه الإقامة ليس لها في الشرع أيام معدودات، وإنما هي تتعلق بحالة المقيم، فإن كان أقام تلك الأيام أو أقل منها أو أكثر وهو نوى الإقامة فعلاً، واطمأن في نزوله في ذلك المكان، فهذا أصبح مقيماً ولو أنه ليس في بلده، فلا يجوز له القصر حيث يجب القصر على المسافر فضلاً عن أنه لا يجوز له الجمع، إلا كما ذكرت آنفاً لدفع الحرج، أي: هذا الذي نوى الإقامة شهراً أو أقل أو أكثر أصبح مقيماً، فتجري عليه أحكام المقيم. أما من نزل في بلد غير بلده ولم ينوِ الإقامة، إنما له في هذا البلد مصالح يريد أن يقضيها، لكنه لا يدري متى ستنقضي، بحيث أنها إذا انقضت عاد أدراجه إلى بلده، فما دام أنه لم ينوِ الإقامة وإنما قال في نفسه: متى أنتهي من قضاء حاجتي رجعت إلى بلدي؛ فهذا غير مقيم، وصورته أن يقول: أول ما أكمل عملي أسافر، فلو مضت أيام كثيرة بل وشهور ولم يكمل عمله فهو مسافر. فإذاً: القضية لها علاقة بوضع الإنسان في حالة الإقامة المؤقتة ونيته، إذا نوى الإقامة والاستقرار أياماً معدودات فهو مقيم، وإذا لم ينو الإقامة وإنما هو مقيم إقامة مؤقتة لقضاء تلك المصالح ومتابعة تلك الأعمال فإذا انتهى منها يعود إلى بلده، فهذا مسافر مهما طالت الأيام.

حكم الصيام على المسافر الذي نوى الإقامة

حكم الصيام على المسافر الذي نوى الإقامة Q بالنسبة للمسافر أيضاً من حيث الصيام، كأن يصل وينوي الإقامة، فهل له أن يفطر أم أن عليه أن يواصل صومه؟ A أنا في اعتقادي أن جوابي السابق يعطيك جواب هذا السؤال اللاحق، قلت: أنه إذا نوى الإقامة فهو مقيم، وارتبطت به أحكام المقيم، وإما أنه لم ينوِ هذه الإقامة وله أعمال يريد أن يقضيها فإذا انتهت رجع، فهو مسافر.

الجمع بين السنن بنية واحدة

الجمع بين السنن بنية واحدة Q هناك من يقول: يجمع المصلي سنة تحية المسجد وسنة الظهر ركعتين ويأخذ أجر الأربعة، ما رأيكم في هذا القول؟ A وهذا القول يمكن تصحيحه ويمكن تضعيفه؛ لأن فيه إجمالاً يحتاج إلى تفصيل، عندما يقول هذا السائل: بأنه يأخذ الأجر، فنحن نقول: يقول الله عز وجل لملائكته في الحديث القدسي: (يا ملائكتي! إذا همَّ عبدي بحسنة فعملها فاكتبوها له عشر حسنات، إلى مائة حسنة، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء) وللحديث تتمة ما أظن أني بحاجة إليها الآن، فهذا الذي يقول: يصلي سنة الوضوء والتحية ويأخذ أجر اثنتين، هذا الإطلاق خطأ، لماذا؟ لأننا نفترض أنه لو صلى تحية المسجد لوحدها وصلى سنة الظهر -مثلاً- لوحدهما صلى أربع ركعات، فهذا كتب له تلقاء صلاة التحية على الأقل عشر حسنات، وقد يكون مائة وقد يكون سبعمائة إلخ، فنحن نأخذ الآن أقل عدد وهو عشر حسنات، ولما صلى سنة الظهر كتب له على الأقل عشر حسنات، إذاً مجموع الصلاتين عشرون حسنة، فنقول للذي تنقل عنه هذا الكلام: إذا صلى شخص ركعتين بنية العبادتين هل تكتب له عشرون حسنة؟ إن قال: نعم. نقول له: أخطأت، لماذا؟ (إذا همَّ عبدي بحسنة فعملها فاكتبوها له عشر حسنات) هذا ما عمل العبادة الثانية -أي: سنة الوضوء- وإنما صلى ركعتين فقط، إذاً هذا لا يكتب له إلا عشر حسنات، لكن هناك زيادة حسنة واحدة فقط، وهي تمام الحديث السابق: (وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة واحدة) إذاً هذا عمل عبادة واحدة فكتبت له عشر حسنات على الأقل، والعبادة الثانية ما عملها ولكن نواها، فيكتب له حسنة واحدة. إذاً الجواب: يكتب له العشر حسنات مقابل العمل، وحسنة واحدة مقابل النية وإذا فرضنا أن الله عز وجل تفضل عليه وكتب له مقابل الركعتين مائة حسنة، يكتب له مع النية حسنة فتصبح مائة وواحدة، وهكذا دواليك، لذلك نحن نقول: عندنا الآن ثلاث صور وهي في التفاضل كما يأتي: الصورة الأولى: وهي أعلاها: يصلي ركعتين تحية، وركعتين سنة وضوء، وركعتين سنة الوقت، صارت ست ركعات. الصورة الثانية: أن يصلي ركعتين بثلاث نيات: التحية، ونية الوضوء، ونية سنة الوقت. الصورة الثالثة والأخيرة: يصلي ركعتين بنية واحدة، فهذا يكتب له عشر حسنات، والذي قبله يكتب له عشر حسنات زائداً أجر النية أو النيتين، والذي قبله كذلك يكتب له أجر العبادة الواحدة زائداً مائتين، المهم كل عمل له عشر حسنات، إذا تكرر العمل تتكرر العشر حسنات وإذا لم يتكرر العمل إنما النية تكررت فالنية لها أجر واحد.

حكم التبرع بأعضاء الميت

حكم التبرع بأعضاء الميت Q أوصى رجل إذا توفى أن يتبرع بأحد أعضاء جسمه، كأمثال الذين يتبرعون بالقرنية حالياً، فما هو الحكم بارك الله فيكم؟ A نحن لا نعتقد جواز هذا التبرع؛ لأن فيه اعتداء على الميت، وحرمة الميت المسلم لا تزال قائمة كما لو كان حياً، ولذلك جاءت أحاديث تنهى المسلم أن يطأ قبر المسلم وأن يجلس عليه، بل جاء وعيد شديد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كسر عظم الميت ككسره حياً) ، أي: من حيث العقوبة، وإلا الميت بعد أن يموت لا يحس بأي شيء يقع في جسده، لكن من حيث الحكم الشرعي، فكسر عظم الميت ككسره حياً. كثيراً ما يرد سؤال في ذكر مثل هذه المناسبة: أنهم يجرون عمليات جراحية تشريحية ليتعلموا على حساب جثث الموتى، فنقول: لا يجوز؛ لأن الرسول قال: (كسر عظم الميت ككسره حياً) ، بالإضافة إلى أحاديث كثيرة تنهى عن المثلة بالميت، حتى الكافر لا يجوز التمثيل به إذا ما قتله المسلم، أما أن يمثل به ويشوهه فيقطع آذانه وأنفه وأعضاءه. إلخ. هذا لا يجوز حرمة لهذا الميت الكافر فضلاً عن المسلم. فنقول: إذا كان لابد للطبيب المسلم أن يتمرن على حساب جثث الموتى فليبتعد عن جثث المسلمين؛ لأنه جاء في رواية صحيحة: (كسر عظم المؤمن الميت ككسره حياً) حتى هنا نحن نقول: إذا كان هناك مجال للتمرن في التشريح أن يجري هذا التمرن على جثث الحيوانات -أيضاً- ينبغي الابتعاد عن جثث أموات الكفار فضلاً عن المسلمين؛ لما ذكرت آنفاً من أن النبي عليه السلام نهى عن التمثيل.

حكم التعامل مع الجن

حكم التعامل مع الجن Q ما حكم التعامل مع الجن؟ A أقول: التعامل مع الجن ضلالة عصرية، لم نكن نسمع من قبل -قبل هذا الزمان- تعامل الإنس مع الجن، ذلك أمرٌ طبيعي جداً، ألا يمكن تعامل الإنس مع الجن لاختلاف الطبيعتين؛ قال عليه الصلاة والسلام تأكيداً لما جاء في القرآن: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] وزيادة على ما في القرآن قال عليه السلام: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) فإذاً البشر خلقوا من طين والجان خلقوا من نار، فأنا أعتقد أن من يقول بإمكان التعامل مع الجن مع هذا التفاوت في أصل الخلقة، مثله عندي كمثل من قد يقول -وما سمعنا بعد من يقول - تعامل الإنس مع الملائكة. هل يمكن أن نقول بأن الإنس بإمكانهم أن يتعاملوا مع الملائكة؟ الجواب: لا. لماذا؟ نفس الجواب، خلقت الملائكة من نور وخلق آدم مما وصف لكم، أي: من تراب، فهذا الذي خلق من تراب لا يمكنه أن يتعامل مع الذي خُلق من نور. كذلك أنا أقول: لا يمكن للإنسي أن يتعامل مع الجني بمعنى التعامل المعروف بيننا نحن البشر، نعم. يمكن أن يكون هناك نوع من التعامل بين الإنس والجن، كما أنه يمكن أن يكون هناك نوع من التعامل بين الإنس والملائكة أيضاً، لكن هذا نادر نادر جداً، ولا يمكن ذلك مع الندرة إلا إذا شاء الملك وشاء الجان. أما أن يشاء الإنسي أن يتعامل معاملة ما مع ملك ما فهذا مستحيل، وأما أن يشاء الإنسي أن يتعامل مع الجني رغم أنف الجني فهذا مستحيل؛ لأن هذا كان معجزة لسليمان عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاء في الحديث الصحيح في البخاري أو مسلم أو في كليهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قام يصلي يوماً بالناس إماماً، وإذا بهم يرونه كأنه يهجم على شيء ويقبض عليه، ولما سلّم قالوا له: يا رسول الله! رأيناك فعلت كذا وكذا، قال: نعم. إن الشيطان هجم -أو قال عليه السلام هذا المعنى- علي وفي يده شعلة من نار يريد أن يقطع علي صلاتي، فأخذت بعنقه حتى وجدت برد لعابه في يدي، ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] لربطته بسارية من سواري المسجد حتى يصبح أطفال المسلمين يلعبون به) لكنه عليه الصلاة والسلام تذكر دعاء أخيه سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] ، لولا هذه الدعوة لربطه الرسول، لكنه لم يفعل؛ فأطلق سبيله برغم أنه أراد أن يقطع عليه صلاته. فالآن ما يشاع في هذا الزمان من تخاطب الإنس مع الجن، أو الإنسي المتخصص في هذه المهنة يزعم أنه يتخاطب مع الجني، وأنه يتفاهم معه، وأنه يسأله عن داء هذا المصاب أو هذا المريض وعن علاجه، هذا إلى حدود معينة يمكن، لكن يمكن واقعياً ولا يمكن شرعاً؛ لأن ليس ما هو ممكن واقعاً يمكن أو يجوز شرعاً فإنه يمكن للمسلم أن ينال رزقه بالحرام، كما ابتلي المسلمون اليوم بالتعامل بالربا معاملات كثيرة وكثيرة جداً، لكن هذا لا يجوز ولا يمكن شرعاً، فما كل ما يجوز واقعاً يجوز شرعاً. لذلك نحن ننصح الذين ابتلوا بإرقاء المصروعين من الإنس بالجن، ألا يحيدوا أو ألا يزيدوا على تلاوة القرآن على هذا المصروع أو ذاك في سبيل تخليص هذا الإنسي الصريع من ذاك الجني الصريع -صريع اسم مفعول، اسم فاعل- ففي هذه الحدود فقط يجوز، وما سوى ذلك فيه تنبيه لنا في القرآن الكريم على أنه لا يجوز بشهادة الجن الذين آمنوا بالله ورسوله، وقالوا كما حكى ربنا عز وجل في قرآنه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] وكانت الاستعاذة على أنواع، ولا توجد حاجة للتعرض لها. المهم أن الاستعانة بالجن سبب من الأسباب لإضلال الإنس؛ لأن الجني لا يخدم الإنسي لوجه الله، وإنما ليتمكن منه لقضاء وطره منه بطريقة أو بأخرى. لقد كنا في زمن مضى ابتلينا بضلالة لم تكن معروفة من قبل، وهي التنويم المغناطيسي، فكانوا يضللون الناس بشيء سموه بالتنويم المغناطيسي، يسلطون بصر شخص معين على شخص عنده استعداد لينام ثم يتكلم -زعم- في أمور غيبية، ومضى على هذه الضلالة ما شاء الله عز وجل من السنين تقديراً، ثم حل محلها ضلالة جديدة وهي استحضار الأرواح، ولا نزال إلى الآن نسمع شيئاً عنها، ولكن ليس كما كنا نسمع من قبل ذلك؛ لأنه حل محلها الآن الاتصال بالجن مباشرة لكن من طائفة معينين، وهم الذين دخلوا في باب الاتصال بالجن باسم الدين، وهذا أخطر من ذي قبل، فالتنويم المغناطيسي لم يكن باسم الدين وإنما كان باسم العلم، واستحضار الأرواح كذلك لم يكن باسم الدين إنما كان باسم العلم أيضاً. أما الآن فبعض المسلمين وقعوا في ضلالة الاستعانة بالجن باسم الدين، ذلك أن الرسول عليه السلام ثبت عنه أنه قرأ بعض الآيات على بعض الناس الذين كانوا يصرعون من الجن فشفاهم الله، هذا صحيح؛ لكن هؤلاء بدءوا من هذه النقطة ثم وسعوا الدائرة إلى الكلام: هل أنت مسلم؟ ما دينك؟ نصراني يهودي بوذي؟ وبعد ذلك يقولون له: أسلم تسلم، وبعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، آمن الإنس بكلام الجني وهم لا يرونه ولا يحسون به إطلاقاً، نحن نعيش اليوم سنين طويلة نتعامل مع بني جنسنا -إنس مع إنس-. وبعد كل هذه السنين يتبين لك أن الذي كنت تعامله كان غاشاً لك، فكيف تريد أن تتعامل مع رجل من الجن لا تعرف حقيقته؟ ويقول لك: أسلمت، ويقول لك: أنا مؤمن، وأنا في خدمتك، ماذا تريد مني؟ أنا حاضر. هذا نسمعه كثيراً، سبحان الله! من هنا يدخل الضلال على المسلمين كما يقال: (ومعظم النار من مستصغر الشرر) . بدأنا مهنة نتعاطها في استخراج الجن من الإنس وتوسعنا فيها حتى صارت واسعة. وقد يسأل سائل فيقول: هل يمكن التعامل مع الجن؟ فنقول: لا يمكن إلا بما ذكرته آنفاً من التفصيل والنصيحة، كما قلت آنفاً: أنه لا يجوز لمسلم أن يزيد على الرقية في معاجلة الإنسي الذي صرعه الجني، يقرأ عليه ما يشاء من كتاب الله ومن أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة. وهناك أشياء عجيبة جداً، كلها توهيم على الناس ومحاولة للانفراد بهذه المهنة عن كل الناس؛ لأنه لو بقيت القضية على تلاوة الآيات فكل أحد يستطيع أن يقرأ بعض الآيات وإذا بالجني يخرج، يقولون: لا. نريد أن نحيطه بشيء من التمويه والسرية -زعموا- حتى تكون مخصصة في طائفة دون طائفة. أذكر بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] . نسأل الله عز وجل أن يحفظنا عن الانصراف إلى الاستعانة بالجن.

الجمع بين حديث ابن عباس والقول بإتمام الصلاة للمسافر إذا نوى الإقامة

الجمع بين حديث ابن عباس والقول بإتمام الصلاة للمسافر إذا نوى الإقامة Q بارك الله فيك، قرأت في صحيح مسلم عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع تسعة عشر يوماً جمعاً وقصراً) ، وفي رواية عن عائشة: (أحد عشر يوماً) والسؤال: كيف نوفق بين أن الإنسان إذا نوى أن يقيم يصلي صلاة المقيم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع وهو مسافر؟ الشيخ: أنت تتسرع يا أبا فارس. السائل: أنا كنت حذراً قلت: شبهة. الشيخ: أنت تتسرع في سرد الحديث، وهل الحديث له علاقة بالجمع؟ السائل: نعم. له علاقة بالجمع والقصر، والأخ سأل عن مدة القصر. الشيخ: أنت تروي الحديث في الجمع، والحديث ليس له علاقة بالجمع، وإنما يتعلق بالقصر. السائل: القصر ليس مرتبطاً بالجمع؟ A ليس ضرورياً يا أخي، القصر هو عزيمة والجمع رخصة، والحديث الذي أنت تذكره عن ابن عباس ليس له علاقة بالجمع، وإنما هو أداة ذكرناها وهو يتعلق بالقصر. السائل: يمكن شيخنا تفيدنا في هذه النقطة؟ الجواب: أنا ذكرتها بروايتين، أنت ذكرت رواية الجمع، وحديث ابن عباس في الجمع وحديث عائشة في الجمع وهو شيء إنما هو في القصر. السائل: إذاً أنا ملتبس علي جمع وقصر أم قصر؟ انتفت الشبهة.

حكم التركة إذا لم توزع بالعدل

حكم التركة إذا لم توزع بالعدل Q يقول السائل: بأن أباه وزع التركة على الذكور بالتساوي، أما الإناث فأعطاهم مبالغ بالتراضي دون أن يأخذن الحصة الصحيحة لهن، يقول: حصل هذا وأنا صغير والآن أنا كبرت وعلمت بما صنعه والدي، فماذا عليَّ؟ A هؤلاء الذكور أحياء كلهم وكذلك البنات؟ السائل: نعم. الشيخ: بما أن أباهم مات إذاً يتصافون جميعاً، ما في سبيل إلا هذا. السائل: يجب على الجميع أن يجلسوا ويعطوا الإناث حقهن من جديد؟ الشيخ: وكل واحد يأخذ حصته بعد ما مات أبوهم.

حكم جلوس المرأة المسلمة مع الأجنبي بقصد الدعوة مع وجود المحرم

حكم جلوس المرأة المسلمة مع الأجنبي بقصد الدعوة مع وجود المحرم Q أخونا في الله ذهب إلى البيت بعد صلاة المغرب ووجد سائحاً سويدياً، وكان جالساً هو وأخوه، وهما لا يستطيعا أن يتكلما اللغة الإنجليزية؛ فأحضروا أختهم وجلست معهم في الغرفة من باب الدعوة إلى الله، ومن باب أن الضرورات تبيح المحظورات، فأجلس أخته في هذه الجلسة حتى تترجم ما يقوله، فهل يجوز هذا؟ وهل يجوز لنا أن نتحدث معهم؟ الشيخ: أنا ما فهمت سؤالك، مهد لي قليلاً قليلاً، من في المجلس؟ السائل: الشاب وأخوه. الشيخ: ومن هو الثالث؟ السائل: الشاب السويدي. الشيخ: هو كافر أجنبي، صاروا ثلاثة شباب، ثم ماذا بعد ذلك؟ السائل: الشاب وأخوه لا يستطيعان أن يتكلما باللغة الإنجليزية المتقنة حتى يدعواه إلى الله؛ فأخونا في الله جاء بأخته وأجلسها في الغرفة حتى تترجم الكلام، فهل يجوز هذا؟ الشيخ: إذا كانت متحجبة فيجوز لها أن تترجم كلام أخيها العالم إن كان الأمر كذلك، وتبين هذه المترجمة الدين لذلك السويدي.

حكم التحدث مع المرأة الأجنبية بقصد الدعوة

حكم التحدث مع المرأة الأجنبية بقصد الدعوة Q هل يجوز للأخ المسلم حينما يدعو الناس الأوروبيين الذين يأتون عن طريق السياحة إلى هنا هل يجوز له أن يتحدث معهم، وهم غالباً يكونون رجالاً ونساءً؟ A إذا كان متزوجاً ومحصناً خلقياً فيجوز وإلا فلا. السؤال: وإذا كان أخونا أعزب؟ الجواب: لا يجوز على كل حال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] .

حكم التدخين

حكم التدخين Q هل الدخان محرم وما الدليل من الكتاب والسنة؟ A لا شك في تحريم الدخان، وهو حرام لأسباب كثيرة: أولاً: أن المدخن يضر بنفسه، وهذا الضرر في النفس له صورتان: ضرر في بدنه، وضرر في ماله، ثم الضرر الذي في بدنه يتعدى إلى غيره؛ فيصير التحريم يعلو ويتضاعف. والمعصية إما أن يأتي بها العاصي سراً، وإما أن يأتي بها جهراً أمام الناس، فإذا أتى بها سراً فهو عاصٍ لله مرة، وإذا أتى بها جهراً فهو عاصٍ لله مرتين، والسبب في ذلك أن عدوى معصيته تنتقل إلى غيره فيتضرر الغير بمعصيته في نفسه. ثانياً: كذلك الدخان الذي يشربه الإنسان لا يكتفي بأنه يضر نفسه وماله بل يتعدى في ضرره إلى غيره، وهذا الذي يسمى في لغة العرب: الإضرار ما يتعلق بنفسه الضرر وما يتعلق بغيره الإضرار، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) فلا يجوز للمسلم أن يضر بنفسه فضلاً عن أن يضر بغيره. فشارب الدخان جمع الخبيثتين: خبيثة الإضرار بنفسه على التفصيل السابق مادياً وبدنياً، وخبيثة الإضرار بالغير، لا أعني هنا بالإضرار بالغير كالذي يعلن شرب الدخان أمام الناس، هذا واضح، لكنه بهذا الدخان الذي يبثه في الجو الصافي النقي يضر الآخرين، ومعلوم الآن من الأخبار والمجلات الطبية، أن سبب إضرار الدخان في بدن متعاطيه إنما يعود إلى المادة الكمينة فيه وهي التي يسمونها بالنيكوتين، يقولون: هذا الدخان الذي ينفثه شارب الدخان وفيه مادة النيكوتين، فهؤلاء الأبرياء الذين طهرهم الله من شرب الدخان، مكرهون من هذا الشارب أن يشموا وأن يبلعوا رغم أنوفهم شيئاً من مادة النيكوتين هذه. إذاً: هو جمع المصيبتين في الحديث: الضرر بنفسه والإضرار بغيره، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم من رأفته ورحمته بأمته أنه جاءهم بكل شيء، وحذرهم من كل شر، حتى وصل به الأمر إلى أن ينهى المسلم أن يتعاطى الطعام الحلال الذي فيه رائحة كريهة، إذا ما كان من الواجب عليه أن يحضر مجلساً فيشم الجالسون منه تلك الرائحة الكريهة، فنهاه عن هذا الطعام الحلال؛ لكي لا يؤذي غيره برائحة الطعام الحلال، وقد عرفتم أن الطعام هو الثوم والبصل، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) ، إذاً كأن الرسول عليه السلام يقول: أيها المسلم المصلي! لا تأكلن طعاماً فيه ثوم أو بصل وتحضر المسجد، كل الطعام الذي فيه الثوم والبصل قبل أن تحضر المسجد؛ أما إذا أكلت هذا الطعام قبيل حضورك المسجد فنحن في غنى عن حضورك المسجد، مع أن حضور المسجد فرض عليه كالصلاة نفسها، ولم يقتصر عليه الصلاة والسلام على هذا التوجيه: (من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا) بل طبق ذلك عملياً، حيث دخل ذات يوم المسجد النبوي فشم من أحدهم رائحة الثوم فأمر بإخراجه من المسجد، وإلى أين؟ إلى البقيع -إلى المقابر- لأنه يشير بهذا التنفيذ العملي، أن المسلم الذي يحضر مساجد المسلمين وهو يحمل في فمه رائحة كريهة يؤذي المصلين، هذا لا يليق بأن يعيش مع المصلين، بل ولا مع الأحياء الذين خارج المسجد، بل عليه أن يعيش مع الأموات في المقابر. تُرى لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عصرنا هذا، ودخل المسجد، وشم رائحة الدخان من إنسان يصلي بجانبه أو من خلفه، كان سيخرجه إلى المريخ وليس إلى المقابر، لماذا؟ لأنه يضر المسلمين، لكن الطعام ماذا فيه؟ فيه منفعة، الأطباء اليوم يذكرون منافع البصل والثوم أشياء عجيبة غريبة جداً، وعلى العكس من ذلك؛ فهم يذكرون الآن من أضرار الدخان المرض الخبيث السرطان. فإذا كانت رائحة الطعام النافع بسبب رائحة كريهة في المسجد أخرجه إلى البقيع، فإذا شم رائحة شارب الدخان الذي يضر نفسه ويضر زوجه وأولاده، ومن عجبه أن ترى بعض الآباء يدمنون شرب الدخان، فإذا رأى ابنه يشرب الدخان ينهره، حُق له أن ينهره وما حق له أن ينهره، لماذا؟ لأنه هو قدوة سيئة له. {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11] لماذا هو لا ينتهي؟ لأنه نشأ على هذا الداء الوبيل. ولذلك فلا شك ولا ريب شرعاً بأن الدخان حرام، ربما يكون تحريمه من حيث آثاره السيئة أشد من الخمر التي جاء تحريمها بنص القرآن الكريم، والمحرمات في الشرع ليس من الضروري أن تكون كلها بنصوص يشترك في فهمها كل مسلم، الآن لو ضربنا مثلاً هذه المخدرات التي انتشرت في بلاد الكفر والضلال، كـ أوروبا وأمريكا إلخ، وهم يجهزون جيوشاً من أنواع مختلفة لمقاومة انتشار هذا الفساد، ولا يكادون يقضون عليه، لا يوجد عندنا نص في القرآن يتحدث عن الحشيش المخدر، لكن هل هو حلال أم حرام؟ حرام من حيث: (لا ضرر ولا ضرار) . إذاًَ أخذت الجواب إن شاء الله.

حكم المسح على الخفين أكثر من المدة المحددة

حكم المسح على الخفين أكثر من المدة المحددة Q الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز للمسافر المسح ثلاثة أيام بلياليها وللمقيم يوماً وليلة، فإذا تعدى المقيم هذا اليوم ومسح فهل يجوز ذلك؟ A لا يجوز، وإذا قلنا بالجواز فما هي فائدة التحديد؟ السائل: التحديد هذا هل هو للوجوب أم للسنية؟ الشيخ: نفس الجواب، ماذا كان الجواب السابق؟ لا يجوز، الآن عندما تقول أنت: هل هو للوجوب أم للسنية؟ ماذا يكون الجواب: يجوز أم لا يجوز؟ السائل: لا يجوز. الشيخ: هذا هو، الجواب تقدم، ولو أنك طورت السؤال، أما الجواب فهو هو، يعني: للوجوب وليس للسنية؛ لأنه لو قيل للسنية، معناها أنك مخير أن تمسح ما شئت، كما هو القول في مذهب الإمام مالك.

مدة المسح للمقيم

مدة المسح للمقيم Q ما معنى قول الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (وقت لنا المسح) هل إذا توضأت الصبح ومسحت الظهر أمسح يوماً وليلة وانتقض وضوئي -مثلاً- في المغرب، هل تعتبر هذه مسحة أم مسحتان؟ وكيف أعمل؟ A متى يبدأ المسح؟ دعنا نضرب مثالاً: مع أذان الفجر مسح فله أن يمسح إلى قبيل أذان الفجر بلحظة، مسح المسحة قبيل أذان الفجر، فيصلي بهذا الوضوء ما شاء من الصلوات حتى ينتقض.

حكم العمليات الاستشهادية

حكم العمليات الاستشهادية Q العمليات الاستشهادية التي تقوم بها بعض الحركات الإسلامية هل تجوز أم لا تجوز؟ A لا تجوز.

حكم إخراج المبتلى بالحشرات من المسجد

حكم إخراج المبتلى بالحشرات من المسجد Q قياساً على إخراج آكل الثوم والبصل هل يخرج المبتلى بالحشرات في جسمه؟ A كل مؤذٍ يُخرج، لكن من المخرج؟

حكم التلقيح الصناعي

حكم التلقيح الصناعي Q ما حكم التلقيح الصناعي بين الزوجين؟ A لا يجوز، إلا إذا كان الزوجان طبيبين أو أحدهما على الأقل ويتعاطى أحدهما التلقيح بيده، أما التلقيح بين الزوجين على أيدي رجال أو نساء غرباء عنهما فهذا لا يجوز، فالقضية من حيث أنها تلقيح صناعي ليس فيها شيء إطلاقاً، كالتفقيس بالنسبة للدجاجة تماماً، لكن باعتبار ما قد يطرأ على هذا التلقيح من غش، ومن ضياع النسب، فمن هنا لا يجوز. ولذلك قلنا: إذا افترضنا أن الزوجين طبيبان أو أحدهما على الأقل، فأحدهما يسحب ماء الثاني ويعملون عملية التلقيح الصناعي إن كان فيها أمل، وإلا فلا تجوز. السائل: حتى لو عرف من صلاح الرجل القائم على هذا العمل؟ الشيخ: حتى لو عرف.

حكم الجوائز التي تضعها الشركات لتسويق منتجاتها

حكم الجوائز التي تضعها الشركات لتسويق منتجاتها Q شخص اشترى علبة دهان فربح سيارة، فما حكم هذه الجوائز؟ A هذه فيها تفصيل بارك الله فيكم، وهي مشكلة قائمة في هذا الزمان، ولها صور كثيرة وكثيرة جداً، فيجب النظر في هذه الأمور التي تباع للجماهير، ثم يوضع في بعضها أوراق اليانصيب، حتى مرة فعلوا ذلك في قارورات البيبسي، فالجواب في هذه الصورة أو في تلك، أو في نوع آخر من الأمور التجارية، ينبني على معرفة ما إذا كانت هذه الجوائز صادرة من جيب التاجر، أو من جيوب المشتركين في شراء هذه المواد. مثال مصغر لتوضيح المسألة: لو فرضنا أن شركة البيبسي التي كانت تصدر هذا الشراب، كانت تبيع القارورة بسبعة قروش ونصف، فلما قررت أن تضع جائزة رفعت السعر من سبعة ونصف إلى ثمانية فضلاً عن عشرة ووضعت جائزة، هذه الصورة لو جمعناها، خاصة في زمن الكمبيوتر الحسيب الدقيق، مثلاً: مليون قارورة، زادوا بهذه المليون نصف، قرش أو اثنين ونصف فيشترون بهذا المجموع -مثلاً- دراجة نارية أو ما شابه ذلك، فوضعوا بمقدار الفرق الذي أضافوه وضعوا جوائز، إذاً هذا الفرق ليس من كيس الشركة أو من المعمل، إنما هو من كيس هؤلاء الذين اشتروا، فهذه القوارير هذا قمار وهو لا يجوز. أما إذا كانت الشركة دفعت قيمة الجوائز من جيبها والسعر هو هو سبعة ونصف، لكن ترويجاً وتشجيعاً للزبائن على شرائها وضعت هذه الجائزة، فهذه اسمها في الشرع جُعالة، فمثلاً إذا قلت لشخص: إذا أنت قطعت المسافة في ظرف كذا لك كذا، هذه جُعالة، فإذاً وضح الجواب. فعلبة الدهان التي ربح منها الرجل سيارة، هل تباع بسعر معين دائماً، أم رفعوا سعرها لأجل الجائزة؟ فإذا رفعوا سعرها فلا يجوز، وقس على المثال السابق. أنا ضربت مثالاً لكي يفهم الموضوع، فإذا كانت هناك بضاعة جديدة -مثلاً- ونظامهم أن يربحوا في المائة عشرة، فلما قرروا أن يجعلوا جائزة رفعوا سعر الربح وقالوا: بالمائة اثنا عشر ونصف، أو خمسة عشر، من أجل ماذا؟ من أجل أن يشتروا بالزيادة قيمة الجوائز، فهذا قمار لا يجوز، أنا لا أحكي عن حقائق وعلم، وإنما أصور لك متى يكون حلالاً ومتى يكون حراماً. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الشدة عند السلفية

الشدة عند السلفية كان الرفق سمة بارزة وخلقاً غالباً على النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه أحياناً كان يستعمل الشدة لما تقتضيه الحكمة في الدعوة. وفي هذه الأيام نجد من كثير من المتساهلين في دينهم وصْفَهم للسلفيين جميعاً بالشدة، ولا يخفى ما في ذلك من مجازفة وعدم إنصاف. وقد أبان الشيخ رحمه الله في هذه المادة أبعاد هذا الاتهام، موضحاً أن الحكمة تستلزم الرفق في الدعوة إلا لما تقتضيه المصلحة الشرعية، ومركزاً على العدل والإنصاف كأساس للتربية المثالية. وفي ختامها أثنى على ناصر العمر، مع بيان انحراف السقاف في عقيدته.

دعوى الشدة عند السلفيين

دعوى الشدة عند السلفيين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: Q فضيلة الشيخ! هناك سؤال في مجال الدعوة، يقول: الرفق والسماحة ولين الجانب من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهل توفر الرفق واستعماله واجب في الدعوة أم مستحب؟ A واجب. السائل: السؤال له مغزى وله هدف. الشيخ: طبعاً؛ وراء الأكمة ما وراءها. السائل: السلفيون بشتى أصنافهم مشهورٌ عنهم -وقد يكون صحيحاً- الشدة في نشر الدعوة وقلة الرفق، فهل ترى أن هذا صحيحٌ -وهذا ما أراه أنا- وما هو تعليقك على ذلك؟ الشيخ: أولاً في كلامك ملاحظة، وهي قولك: وقد يكون صحيحاً. السائل: قلت: فهل تراه صحيحاً. الشيخ: أولاً: قلتَ: وقد يكون صحيحاً، أي: ما يقال عنهم من الشدة؟ السائل: معذرة. الشيخ: قلت هذا؟ السائل: نعم، وأرجو المعذرة. الشيخ: فهنا الملاحظة، نحن نلفت نظر إخواننا حينما يتكلمون بمثل هذا الكلام، نقول: هذا الكلام للسياسيين، وقد لا يعنونه، لكنه: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً فحينما يقول المتكلم في أمر ما: قد يكون كذا، فيقابله: قد لا يكون كذا، فهنا يَرِدُ على سؤالك أمران اثنان، وبعد ذلك نتابع الجواب: هل أنت متأكد من هذا الذي يقال: إن السلفيين لا لين عندهم وإنما الشدة هي نبراسهم أو هي منهجهم؟ وأنت فتحت لي باب هذا السؤال؛ لأنك قلت: وقد يكون صحيحاً! السائل: يا شيخ! أنا قلت: معذرة من قولي: قد يكون. الشيخ: هكذا؟ السائل: نعم. الشيخ: إذاً نسمع الكلام الصحيح، ما هو؟ السائل: هل أعيده؟ الشيخ: لا تُعده لأنه خطأ، وإلا من ماذا تعتذر، تعيد على الوجه الصحيح بدون (قدقدة) ، هل كلامي واضح؟ السائل: نعم. الشيخ: تفضل. السائل: السؤال من أوله. الشيخ: لا بأس، وهذا لك الخيار فيه. السائل: نحن قلنا -وأنت أجبت وهذا حاصل- أن الرفق، والسماحة، ولين الجانب، واجب في الدعوة، وأنا سؤالي عن الدعوة ليس عن الأمور الشخصية أو الحياتية، كما ذكرت أنه يجب توفر اللين والرفق في الدعوة والرفق بالناس المدعوين، فالسلفيون مشهور عنهم -فيما أراه أنا- الشدة وقلة الرفق في الدعوة، فهذا رأيي أنا، فما هو رأيك؟ الشيخ: أنت منهم؟ السائل: أرجو ذلك. الشيخ: أنت منهم، هل أنت سلفي؟ السائل: نعم. الشيخ: إذاً: هل أنت من هؤلاء السلفيين المتشددين؟ السائل: لا أزكي نفسي، أنا أقصد سمة بارزة لهم. الشيخ: القضية الآن ليست قضية تزكية، بل قضية بيان واقع، وقلنا: إنك الآن تثير هذا السؤال من أجل التناصح، فأنا عندما أسألك: هل أنت من هؤلاء المتشددين؟ ما يرد هنا موضوع (أنا لا أزكي نفسي) ، لأنك تريد أن تبين الواقع، بمعنى أنك لو سألتني هذا السؤال لقلت لك: أنا فيما أظن لست متشدداً، وأنا لا أعني أنني أزكي نفسي؛ لأني أخبر عن واقعي، ففكر في السؤال. السائل: نعم -يا شيخ- وجوابي مثل جوابك. الشيخ: إذاً: لا يصح أن نطلق أن السلفيين متشددون، والصواب أن نقول: بعضهم متشددون، فإذاً نقول: إن بعض السلفيين عنده أسلوب في الشدة، لكن تُرى هل هذه الصفة اختص بها السلفيون؟ السائل: لا. الشيخ: إذاً: ما الفائدة وما المغزى من مثل هذا السؤال؟ ثانياً: هل اللين الذي قلنا أنه واجب، هل هو واجب دائماً وأبداً؟ السائل: لا.

وجود بعض صور الشدة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

وجود بعض صور الشدة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ: فإذاً أولاً: لا يجوز لك ولا لغيرك أن تصف طائفة من الناس بصفة تعممها على جميعهم. ثانياً: لا يجوز لك أن تطلق هذه الصفة على فرد من أفراد المسلمين، سواءً كان سلفياً أو خلفياً في حدود تعبيرنا، إلا في جزئية معينة، ما دمنا اتفقنا أن اللين ليس هو المشروع دائماً وأبداً، فنحن نجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل الشدة التي لو فعلها سلفي اليوم لكان الناس ينكرون عليه أشد الإنكار. مثلاً: لعلك تعرف قصة أبي السنابل بن بعكك. السائل: لا. الشيخ: امرأة مات عنها زوجها وهي حامل فوضعت، وكان قد بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضعها للحمل، يقول في الحديث -وهو في صحيح البخاري - أنها بعد أن وضعت تشوفت للخطاب وتجملت وتكحلت، فرآها أبو السنابل -وكان قد خطبها لنفسه فأبت عليه- فقال لها: لا يحل لك إلا بعد أن تنقضي عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام -وهي فيما يبدو أنها امرأة تهتم بدينها- فما كان منها إلا أن سارعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ما قال لها أبو السنابل، فقال عليه السلام: (كذب أبو السنابل) هذه شدة أم لين؟ السائل: شدة. الشيخ: شدة ممن؟ من أبي اللين: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ، إذاً ليس مبدأ اللين بقاعدة مطردة كما ذكرنا آنفاً، وإنما ينبغي على المسلم أن يضع اللين في محله والشدة في محلها. وكذلك -مثلاً- ما جاء في مسند الإمام أحمد: (لما خطب عليه الصلاة والسلام خطبة قام رجل من الصحابة وقال له: ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده) هذه شدة أم لين؟ السائل: أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم. الشيخ: هذه أنا أسميها حيدة؛ لأنك لم تجبني كما أجبتني من قبل، عندما قلت لك: إن أبا السنابل قال عليه الصلاة والسلام في حقه: (كذب أبو السنابل) ، شدة أم لين؟ السائل: هذه شدة. الشيخ: وهذه الثانية؟ السائل: بيّن له فقط وقال: (أجعلتني لله نداً؟!) . الشيخ: هذه حيدة بارك الله فيك، أنا ما أسألك: بيّن أم لم يُبيّن؟ أنا أسألك: شدة أم لين؟ لماذا الآن اختلف منهجك في الجواب؟ من قبل ما قلتَ: بيّن له، لما قال له: كذب أبو السنابل، هو بين، ولكن هذا البيان كان بأسلوب هين لين -كما اتفقنا أنه القاعدة- أم كان فيه شدة؟ قلتها بكل صراحة: كان فيه شدة. فماذا تجيب به عن السؤال الثاني؟ السائل: السؤال الثاني لم يقل له: (كذب) ، وإنما قال له: (أجعلتني لله نداً) . الشيخ: الله أكبر! هذا أبلغ في الإنكار، بارك الله فيك، وهناك حديث آخر: (قام خطيب فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس الخطيب أنت) شدة أم لين؟ السائل: شدة. الشيخ: المهم بارك الله فيك، هناك أسلوب لين، وأسلوب شدة، فالآن بعد أن اتفقنا أنه ليس هناك قاعدة مطردة باستمرار: لين دائماً أو شدة دائماً، إذاً تارة هكذا وهكذا.

أسباب وصف السلفيين بالشدة

أسباب وصف السلفيين بالشدة الآن: حينما يتهم السلفيون بعامة أنهم متشددون، ألا ترى أن السلفيين بالنسبة لبقية الطوائف والجماعات والأحزاب هم يهتمون بمعرفة الأحكام الشرعية وبدعوة الناس إليها أكثر من الآخرين؟ السائل: لا شك في ذلك. الشيخ: بارك الله فيك! إذاً بسبب هذا الاهتمام الذي فاق اهتمام الآخرين من هذه الحيثية، فإن الآخرين يعتبرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -ولو كان مقروناً باللين- شدة، بل بعضهم يقول: هذا ليس زمانه اليوم، بل بعضهم غلا وطغى وقال: البحث في التوحيد يفرق الصفوف اليوم. فإذاً: بارك الله فيك! الذي أريد أن أصل معك إليه هو: أن القضية نسبية، فهناك إنسان ليس متحمساً للدعوة -وخاصة للدخول في الفروع التي يسمونها القشور أو أموراً ثانوية- فهو يعتبر البحث ولو كان مقروناً بالأسلوب الحسن؛ يعتبره شدة في غير محلها. ولا ينبغي وأنت سلفي -مثلنا- أن تشيع بين الناس -ولو بين هؤلاء الناس القليلين الآن- وتذكر أن السلفيين متشددون؛ لأننا اتفقنا أن بعضهم متشدد، وهذا لا يخلو حتى من الصحابة، ففيهم اللين وفيهم المتشدد، ولعلك تعرف قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فهمَّ الصحابة بضربه، هذا لين أم شدة؟ السائل: شدة. الشيخ: لكن قال لهم الرسول: دعوه، فإذاً قد لا يستطيع أن ينجو من الشدة إلا القليل من الناس، لكن الحق هو أن الأصل في الدعوة أن تكون على الحكمة والموعظة الحسنة، ومن الحكمة أن تضع اللين في محله والشدة في محلها. أما أن نصف خير الطوائف الإسلامية، التي امتازت على كل الطوائف بحرصها على اتباع الكتاب والسنة، وعلى ما كان عليه السلف الصالح بالشدة، هكذا على الإطلاق؟ ما أظن هذا من الإنصاف في شيء، بل هو من السرف. أما أن يقال: فيهم من هو متشدد؛ فمن الذي يستطيع أن ينكر؟ ما دام أن من الصحابة من كان متشدداً في غير محل شدة، فأولى وأولى في الخلف من أمثالنا -خلف بالمعنى اللغوي- بأن يوجد فينا متشدد، ثم الآن نتكلم عن شخص بعينه، هب أنه هين لين، هل ينجو من استعمال الشدة في غير محلها؟ السائل: لا، أبداً. الشيخ: فإذاً: بارك الله فيك! القضية مفروغ منها، فإذا كان الأمر كذلك فما علينا إلا أن نتناصح، فإذا رأينا إنساناً وعظ ونصح وذكّر بالشدة في غير محلها ذكرناه، فقد يكون له وجهة نظر، فإن تذكر فجزاه الله خيراً، وإن كان له وجهة نظر سمعناها منه وينتهي الأمر.

الحكمة في الدعوة بين اللين والشدة

الحكمة في الدعوة بين اللين والشدة Q كثير من السلفيين يستخدمون الشدة ولا يستخدمون اللين، فيستخدمون الشدة في غير موضعها، ولا يستخدمون الرفق في موضعه، وليسوا قليلاً، أنا أقول: كل الطوائف تفعل هذا، وأنا لا أقيس السلفيين على غيرهم من الطوائف الأخرى، فأنا لا يهمني أمر الطوائف الأخرى، بل يهمني أمر السلفيين، فكثير من السلفيين يصدون عن المنهج السلفي بأسلوب دعوتهم للناس، فأنا قصدت من السؤال أن توجه نصيحة لمن ابتلوا بالشدة وبضيق الصدر. A بارك الله فيك، ويحتاج إلى واحد مثلي لكي يوجه النصيحة، والسلفيون وغير السلفيين يعلمون الآية التي ذكرناها آنفاً: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ، ويقرأ السلفيون أكثر من غيرهم حديث السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: (حينما جاء ذلك اليهودي مسلِّماً على النبي صلى الله عليه وسلم لاوياً لسانه قائلاً: السام عليكم، فسمعت السيدة عائشة هذا السلام الملوي فانتفضت وراء الحجاب حتى تكاد تنفلق فلقتين -كما جاء في الحديث غضباً- فكان جوابها: وعليك السام واللعنة والغضب, يا إخوة القردة والخنازير! أما الرسول فما زاد على قوله له: وعليك، ولما خرج اليهودي من عند الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر صلى الله عليه وسلم عليها وقال لها: يا عائشة! ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه، قالت: يا رسول الله ألم تسمع ما قال؟ قال لها: ألم تسمعي ما قلته) . فإذاً السيدة عائشة التي ربيت منذ نعومة أظفارها في بيت النبوة والرسالة، ما وسعها إلا أن تستعمل الشدة مكان اللين، فماذا نقول في غيرها؟ السلفيون لم يربوا في بيت النبوة والرسالة، بل أنا أقول الآن كلمة ربما طرقت سمعك يوماً ما من بعض الأشرطة المسجلة من لساني: إن آفة العالم الإسلامي اليوم مقابل ما يقال في الصحوة الإسلامية، هو أن هذه الصحوة لم تقترن بالتربية الإسلامية، لا يوجد تربية إسلامية اليوم، ولذلك فأنا أعتقد أن أثر هذه الصحوة العلمية سيمضي زمناً طويلاً حتى تظهر آثارها التربوية في الجيل الناشئ الآن في حدود الصحوة الإسلامية، ففيها تصرفات وعثرات، لكن هؤلاء الأفراد يعيشون تحت رحمة الله عز وجل، ومنهم القريب ومنهم البعيد، ولذلك فمن الناحية الفكرية والعلمية، سوف لا تجد من يخاصمك ويخالفك في أن الأصل في الدعوة أن تكون باللين والموعظة الحسنة، لكن المهم التطبيق، والتطبيق هذا يحتاج إلى مرشد وإلى مربي يربي تحته عشرات من طلاب العلم، وهؤلاء يتخرجون على يد هذا المربي مربين لغيرهم، وهكذا تنتشر التربية الإسلامية رويداً رويداً، بتربية هؤلاء المرشدين لمن حولهم من التلامذة، وبلا شك أن الأمر كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] . ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الأمة الوسط لا إفراط ولا تفريط. السائل: جزاك الله خيراً يا شيخ. السؤال: أحياناً يلاقي السني ممن يقابله من أهل البدع عتواً واستكباراً، والأمر كما أمر الله عز وجل موسى باللين مع فرعون قال له: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] يوجد دكاترة في الكلية يستهزئون بنا عندما نقول لهم: قال الرسول، ويمثلون صلاة السلفيين وبعض التصرفات، فيخرج الإنسان عن طوره ويستعمل معهم الشدة، وأعجبني المثل الذي سمعته منك يا شيخ الذي يقول: (قال الحائط للوتد: لِمَ تشقني؟ قال: سل من يدقني) . وكذلك في إحدى المرات كنا نناقش بعض أفراد حزب التحرير -وكما لا يخفى عليكم هدفهم هو مسألة الخلافة، ونحن -بحمد لله- هدفنا أولاً العقيدة والتوحيد- فلما بدأنا معهم في البحث العلمي من الأساس -كما تعلمنا منكم- فجاءت مسألة الأسماء والصفات، فكان أحدهم ومن كبارهم يقول: نحن ننتظر طول الليل بإصبعه ورجله! يستهزئ بصفات الله عز وجل. فماذا نقول لهذا؟ الشيخ: على كل حال، نسأل الله أن يؤتينا الحكمة وهي أن نضع كل شيء في محله. السائل: عمر لما قال له رجل: [استغفر لأخيك، قال: لا غفر الله له] . الشيخ: عندي أمثلة كثيرة جداً، يذكرنا الأخ أبو عبد الله بأثر عن عمر أن رجلاً قال له: [استغفر لأخيك، فقال: لا غفر الله له] ما رأيك في هذا؟ لا شك أنك لو رأيتني أقول هذه الكلمة لقلت: الشيخ متشدد، لكن هنا يكون في نفس المُنكِر الغيرة على الشريعة فتحمله أن يقسو في العبارة، بينما ذلك المتفرج لا توجد لديه هذه الغيرة التي ثارت في نفس هذا الإنسان فيخرج منه هذا الكلام. وهنا عندنا في سوريا يقولون: (شوها الشدة يا رسول الله؟) هذه لهجة سورية خاطئة، يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن الشدة صادرة منه صلى الله عليه وسلم، وهم يعنون هذا الإنسان.

وجوب العدل والإنصاف في تقييم الآخرين

وجوب العدل والإنصاف في تقييم الآخرين سبحان الله! المسألة ينبغي أن تراعى جوانبها من كل النواحي، حتى الإنسان يكون حكمه عدلاً، ثم أيضاً مما يبدو لي الآن أن من أسباب إشاعة هذه التهمة -إذا صح أنها تهمة- عن السلفيين، تعرف أنت أن من كثر كلامه كثر خطؤه. فالذين يتكلمون في المسائل الشرعية هم السلفيون، فلذلك لا بد أن يخطئوا لكثرة ما يتكلمون، فيتجلى خطؤهم، ومن هذا الخطأ الشدة عند الآخرين الذين هم لا يجولون ولا يخوضون في هذه القضايا، بينما لو نظرت هذه الشدة في عموم ما يصدر منهم من نصح على العدل وعلى الإنصاف واللين؛ لوجدنا من مثل بعض الأمثلة التي ذكرناها عن بعض السلف وأمام الرسول عليه السلام فيها شدة، ولكن هذه الشدة لا تسوغ لنا أن ننسب هؤلاء الصحابة الذين وقعوا في الشدة في جزئية معينة أنهم كانوا متشددين، وإنما قد نقع -كما قلنا- أنا وأنت وغيرك في شيء من الشدة. السائل: كانت السمة البارزة عليه اللين والرفق، حتى وإن قال: كذب فلان، أو أجعلتني لله نداً وما شابهه. الشيخ: نعم.

رأي الشيخ الألباني في ناصر العمر

رأي الشيخ الألباني في ناصر العمر السائل: علمت أن الشيخ ناصر العمر زاركم قريباً. الشيخ: نعم. السائل: فكيف كانت زيارة الشيخ؟ وما هو انطباعكم عن الشيخ ناصر العمر؟ الشيخ: ما شاء الله، نعم الرجل طالب علم قوي فيما يبدو لنا، ولا نزكي على الله أحداً، متجرد عن الهوى. السائل: الحمد لله. الشيخ: الحمد لله، وفيه خير كبير، ونسأل الله أن يكون كل طلاب العلم بهذا الخلق الإسلامي العالي.

السقاف وانحرافاته في العقيدة

السقاف وانحرافاته في العقيدة السائل: ما رأيكم في شريط ناصر العمر الذي رد فيه على المدعو السقاف؟ الشيخ: قام بواجب طيب، ونحن الآن نحاول أن ننشر هذا الشريط في هذا البلد. لأن هذا السقاف رجل مجرم كبير، وهو في اعتقادي أن وراءه أناساً، ليس هو وحده في الميدان، وهو جهمي جلد مُرٌّ، ويتلاعب بالسنة، يصحح منها ما يشاء وهو ضعيف، ويضعف منها ما يشاء وهو صحيح عند العلماء، وحسبك دليلاً على ذلك حديث الجارية: (أين الله؟) يقول: أنا أقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقل هذا الحديث، وهو يعلم بل ويعزوه إلى صحيح مسلم، ومع ذلك فهو يقطع بأن هذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه يصححه كثير من العلماء الذين هو يركن إليهم فيما يتعلق بتأويل الصفات أو في تأويل بعض الصفات، كالإمام البيهقي مثلاً. فالإمام البيهقي -والحمد لله- هو من كبار علماء الحديث وإن كان فيه أشعرية، فهو من هؤلاء الذين صححوا هذا الحديث، فهو لا يبالي به أي مبالاة، فضلاً عن الحافظ ابن حجر أيضاً الذي صحح الحديث لا يبالي به، فهو يقول أنه يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال هذا الحديث. ويأتي بأحاديث بعضها صحيح، ليس فيها جملة (أين الله) ، فيضرب هذه الجملة بتلك الروايات التي ليس فيها هذه الجملة، مع أنه لا تَعَارُض، وأكثر الروايات التي يعتمد عليها لا تخلو من علة حديثية، ومع ذلك هو لا يبالي، وهو ينطلق فيما يرد على أهل السنة من القاعدة اليهودية الصهيونية التي تقول: (الغاية تبرر الوسيلة) ، هكذا.

اعتداءات السقاف في تعليقاته على كتاب دفع شبه التشبيه

اعتداءات السقاف في تعليقاته على كتاب دفع شبه التشبيه وما أدري وصلكم كتاب دفع شبهة التشبيه لـ ابن الجوزي بتعليق هذا الرجل الدجال؟ السائل: ما رأيته. الشيخ: هذه مصيبة المصائب، هذا وضع فيه مقدمة طويلة كلها رد على أهل السنة، ويسمي المثبتين للصفات وأنا في مقدمتهم بـ المجسمة، لمجرد أننا نثبت الصفات، وأظنك وقفت على كتابي: مختصر العلو للذهبي، وقفت عليه؟ السائل: نعم. الشيخ: والمقدمة التي تبلغ سبعين صفحة تقريباً كلها جمع بين الإثبات مع التنزيه، ومع ذلك كلما ذكرني جعل بين هلالين (المجسم) ، وهو يقول في تفسير قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء} [الملك:16] أن اعتقاد أن الله في السماء عقيدة المشركين في الجاهلية، ومن هنا ينطلق ويضرب حديث الجارية بأنه موضوع، لأنه يحمل عقيدة المشركين، الجارية تقول: الله في السماء، هذا قول المشركين. السائل: ممن زار السقاف قبل مدة الشيخ نسيب الرفاعي، وبعد أن صلينا الجمعة في مسجدنا صلى الشيخ أحمد السالك، لأن الشيخ نسيب كان مريضاً، وإذا بـ السقاف أتى، وكنا قد سبقناه. الشيخ: جاء إلى من؟ السائل: إلى الشيخ نسيب. الشيخ: يأتيه باستمرار؟ السائل: لا. هذه ثاني مرة جاء، فقال له الشيخ نسيب: أنت تؤول الصفات وتنفيها، فما دليلك على هذا التأويل؟ فقال: دليلي أن البخاري أوَّل. الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله! السائل: فقال له الشيخ أحمد السالك: يا حسن! أتثبت لله ذاتاً، قال: نعم، قال: والصفات فرع عن الذات، فكما أن له ذاتاً ليست كالذوات، أي أن يده ليست كالأيدي، فقال: أنا ما جئت هنا للمناقشة. الشيخ: هذا دأبهم. السائل: ثم قال للشيخ نسيب: إن الشيخ ناصر يقول: إنك مشرك، فقال: له الشيخ نسيب: ومع ذلك فأنا معه ضدك، فجلس قليلاً ثم انصرف وما عاد بعدها. الشيخ: كذاب لا شك، أعوذ بالله! السائل: أنا تتبعت جميع رسائل السقاف ما عدا هذه، لا لمناقشة أقواله فقط، بل أرجع إلى المصادر التي ينقل منها وأقواله، فوجدت العجب العجاب في جميع رسائله التي طبعها! الشيخ: أحسنت. السائل: وهي مجموعة، وأعطيتها للشيخ علي حتى ينظر فيها. الشيخ: جزاك الله خيراً. السائل: فوجدت ضعفه في اللغة. الشيخ: حدث ولا حرج. السائل: فعجبت جداً! حتى في بعض رسائله وجدته ينقل إجماع أهل الحديث على أنه لا يجوز التصحيح ولا التضعيف إلا من قبل حافظ، ويقول: ومنهم الحافظ ابن حجر، والسيوطي. الشيخ: الله أكبر! الله أكبر! السائل: وهذه دعوى ما ادعاها أحد قبله. الشيخ: نعم هو دجال، الله أكبر عليه! الله أكبر عليه!

طعن السقاف في شيخ الإسلام ابن تيمية

طعن السقاف في شيخ الإسلام ابن تيمية السائل: وفي بعض رسائله رأيته يدعي ويقول: إن سير أعلام النبلاء تطبع إلا المجلد الأخير الذي فيه ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: والله أعلم لماذا أخفوا هذا الكتاب. مع أن ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية نقلها ابن الوزير في العواصم، وعندي صورة من مخطوطتها لما حققه شعيب الأرنؤوط وفيها المدح لـ شيخ الإسلام. الشيخ: نقلها من السير؟ السائل: ابن الوزير يقول: ولقد أكثرت في هذا الجزء من النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية فهاك ترجمته من سير أعلام النبلاء، وساقها، وعندي صورة المخطوطة، وفيها الثناء القوي على ابن تيمية. الشيخ: هل تنوي أن تنشر هذه الحقائق عن الرجل هذا؟ السائل: ما نصحنا من باب عدم شهرة هذا الرجل، وعدم الرد عليهم أولى، وعدم متابعتهم، والقلب يميل إلى أنه لابد من إخراج شيء منه. سائل آخر: الفرق بين كتاب السقاف وغيره من الكتب التي تهاجم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: أنه يتأثر به حتى العامي الذي يقرأ الكتب، وحتى المثقف، والمهندس، حتى الكيميائي بخلاف الردود الأخرى، مثل ردود محمود ممدوح سعيد أو غيره فلا يستطيع أن يعرفها أو يتفاعل معها حتى كثير من طلبة العلم، فمن ههنا تكمن خطورة هذا الكتاب، وفي نفس الوقت أهمية الرد على هذا الكتاب برد موجز في رسالة قابله للانتشار من الرسائل الصغيرة التي بقدر الكف، فقط لإعطاء نماذج من تحريفاته ومن خزعبلاته، ويضاف ما لديه من شذوذ من تكفيره للألباني مثلاً وتكفيره لـ شيخ الإسلام وغيره. الشيخ: أنا أعتقد أن هذا المشروع الذي أشرت إليه مهم جداً. السائل: هلا ناقشته يا شيخ! فهو جاهل. الشيخ: مناقشته تحتاج إلى مجلدات، كم تريد أن تناقش لو كنت مناقشاً له؟ الله أكبر عليه! العجيب أنه نقل من تفسير البحر المحيط لـ أبي حيان في تفسير الآية السابقة: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء} [الملك:16] تفسيراً عجيباً جداً، قال: إن ربنا عز وجل يقول للمشركين: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء، أعوذ بالله! الله أكبر! شيء فظيع لا مثيل له في قلب الحقائق!! فتجد هنا في كتاب ابن الجوزي، وابن الجوزي مع الأسف انحرف عن المنهج السلفي في الصفات، فينقل عن بعض الحنابلة -والحقيقة أن عندهم شيئاً من الغلو في الإثبات- فـ السقاف هذا عندما يذكر ابن الجوزي رجلاً من هؤلاء الحنابلة يضع بين هلالين (المجسم فلان) كيف استجاز لنفسه أن يدسَّ في كتاب غيره، وليته ذكر في المقدمة أنه اصطلح هذا الاصطلاح، بل جعلها معمية كي يضل الناس.

طعنه في الشيخ الألباني

طعنه في الشيخ الألباني السائل: يا شيخ! رأيت له كتاب: الشهاب الحارق في الرد على الألباني المارق، يذكر في أول الكتاب مقدمة زعفرانية كما يسميها -ما شاء الله! بلغ به العلم إلى كتابة مقدمة- فيورد عليك بعض الأسئلة وهي لغتها قوية، فوقع في نفسي أنها ليست من قوله، وبعد أن أكملها وبدأ ينشئ قال: (ونحن على ثقة) فخطر على بالي أن أراجع كتب المقامات، فراجعت مقامات الحريري وإذا بالمقامة نفسها التي كتبها الحريري وذكر بأنه ذهب إلى الحرم، وكان هناك شيخ متصدر للفتوى، وجاءه رجل يكني عنه الحريري أبا يزيد فقام له فتىً فتيق اللسان، وسأله أسئلة فقهية فيها ألغاز، فـ السقاف أوردها وجعلك أنت ذلك الشيخ، وهو الفتى السائل فصيح اللسان، وغيَّر المقامة. الشيخ: الله أكبر! السائل: حتى يوهم الناس أنها من مقاماته. الشيخ: الله المستعان. السائل: يا شيخ! وأنا عندما جلست عند الشيخ نسيب قلت له أنك تقول في كتابك: رفاعة أو شداد بن رفاعة القِتباني، فقال: إن الصواب الفتباني وهذا دليل على جهل الألباني أنه قال: القِتباني، فقلت له: أولاً: الشيخ ناصر العمر نقل من سنن ابن ماجة وفيها القِتباني. ثانياً: الحافظ ابن حجر يقول في التقريب: شداد بن رفاعة أو رفاعة بن شداد القِتباني، بكسر القاف، فهل الشيخ ناصر ملزم أن يتتبع كل الكتب حتى يتأكد أنها الفتباني أو القِتباني، وخاصة أن هناك نسبتين عند أهل الحديث، هناك الفتباني والقِتباني، فهو غير ملزم بعد قول الحافظ ابن حجر. قال: أعرف أن الحافظ ابن حجر قال هكذا. قلت: فكيف تدلس على الناس؟ قال: حتى أري الناس أن الألباني غير معصوم. الشيخ: ما شاء الله، مسكين يتتبع العثرات. السائل: وجاءه الشيخ أحمد السالك وقال له الشيخ نسيب: هذه مؤلفاتي انظر فيها، فالشيخ أحمد السالك مسك الكتاب وقال: تنشر هذه على الناس؟ قال: نعم، قال: هذا غلط إملائي وهذا غلط نحوي وهذا غلط؛ فاحمر وجهه واستحيا. الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله!

الرد على الأحباش

الرد على الأحباش الأحباش هم تلاميذ عبد الله الحبشي، وهم من الفرق التي تأخذ عقيدتها من علم الكلام القائم على العقل، فهم لا يعتمدون على فهم السلف الصالح للكتاب والسنة وإنما يعتمدون على عقولهم. وقد قام الشيخ الألباني رحمه الله بالرد عليهم ودحض عقائدهم الباطلة في الله عز وجل بأدلة الكتاب والسنة.

نعمة العقل واختلاف الناس فيه

نعمة العقل واختلاف الناس فيه بعض الأحباش -تلاميذ عبد الله الحبشي - قاموا بمخاطبة بعض نساء هذا البلد عن طريق الفطرة، كأن يقولوا لهن: من خلق المكان؟ فيقلن: الله. فيقول هذا الحبشي: وهل يجوز أن الله هو خالق المكان أن يكون داخل هذا المكان؟ فتجيب المرأة: لا. فيقول لها: إذاً الله لا يحده شيء، لا هو في الأعلى ولا في الأسفل، ولا في الأمام ولا في الخلف، ولا في اليمين ولا في اليسار، وكذلك سائر الصفات، يقولون: إن اليد المتعارف عليها هي الجارحة المتعارف عليها بين البشر، وهذا محال أن يكون لخالق البشر وهو رب العباد، أفيدونا جزاكم الله خيراً. A ليتها كانت طريقة فطرية! إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قبل أن أشرع في الإجابة عن هذا السؤال، أطمئن المسلمين جميعاً الحاضرين منهم والغائبين، الرجال منهم والنساء: بأن الله تبارك وتعالى منزه عن كل مكان؛ ذلك لأن المكان حينما يطلق فإنما يقصد به ما كان عدماً ثم خلقه الله عز وجل، فجعله مكاناً لمثل هذه المخلوقات المختلفة من إنس وجن وملائكة، ولكن هذه الكلمة التي تلقى من أولئك الناس، وهم معلومون عند أهل العلم بأنهم يحيون سنة سيئة من علم الكلام القائم على العقل، وليت هذا العقل كان عقلاً موحداً بين جميع الناس، بين المسلمين منهم والكافرين، وبين الصالحين من المسلمين والطالحين، ليت هذا العقل كان عقلاً موحداً؛ حتى يصح لكل عاقل أن يرجع في الحكم إليه! ولذلك كان من الحماقة بمكان عظيم أن يحكم هؤلاء المنتمون إلى الإسلام بإخلاص أو بغير إخلاص، فحسابهم على الله!! لكن لو كان العقل موحداً لكان لهم نوع من العذر أن يحكموا عقولهم، أما والعقول -أولاً- مختلفة -كما قلنا ولا أعيد التفصيل- بين صالح وطالح؛ فليس لهم عذر أن يحكموا عقولهم. والآن أقول فرقاً آخر: عقل العالم يختلف كل الاختلاف عن عقل الجاهل، ولا أقول: عقل عالم بالشرع، وإنما أقول: عقل عالم بأي علم، يختلف كل الاختلاف عن عقل آخر ليس بعالم ذاك العلم الذي عقله الرجل الأول -فمثلاً الطبيب العاقل لا يمكن أن يشاركه في عقله وفي علمه من لم يكن مشاركاً له في طبه، والعكس بالعكس تماماً، من كان عالماً -مثلاً- بالفيزياء أو الكيمياء لا يمكن أن يشاركه من كان عالماً بالطب.

الفرق بين العاقل العالم وبين العاقل الجاهل في فهم الكتاب والسنة

الفرق بين العاقل العالم وبين العاقل الجاهل في فهم الكتاب والسنة وهكذا نقول في نهاية المطاف: لا يمكن أن يكون العاقل العالم بالكتاب والسنة كذاك العاقل الجاهل بالكتاب والسنة. والأمر أهم من هذا التقسيم وهذا التفصيل، العاقل العالم بالكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، لا يمكن أن يكون عقله كعقل ذلك الرجل الذي يتكئ على عقله في فهم الكتاب والسنة، ولا يرجع في فهمه إلى ما كان عليه السلف الصالح، فهنا إذاً في نهاية هذا التقسيم عالمان بالكتاب والسنة، لكن أحدهما يعتمد في فهمه للكتاب والسنة على الآثار السلفية، التي تعود -أولاً- إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأولين، ثم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. هذا الذي يعتمد على الكتاب والسنة، وعلى المنهج السلفي، يختلف عقله كل الاختلاف عن ذاك الرجل الآخر الذي يعتمد على الكتاب والسنة ولكن يعتمد على فهمه إياهما وليس على فهم السلف لهما، هؤلاء الناس من علماء الكلام المحدثين، أو أولئك العلماء -علماء الكلام القدامى- الذين يحكمون عقولهم، وليت عقلهم كان معتمداً فقط على الكتاب والسنة! وليس كالفريق الأول الذي يعتمد على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح. لا أدري إذا كان هذا المكان يتطلب مني وقفة أرجو أن تكون قصيرة للتفريق بين الرجلين: الأول: الذي يعتمد على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح. والثاني: الذي يعتمد على الكتاب والسنة دون أن يلوي رأسه وعقله وفهمه إلى ما كان عليه سلفنا الصالح. لعل هذا لا يحتاج إلى التوضيح.

مسألة المكان وضلال الأحباش والمتكلمين فيها

مسألة المكان وضلال الأحباش والمتكلمين فيها فإذا كان هذا التفريق واضحاً في أذهان إخواننا الحاضرين وأخواتنا الحاضرات، فأقول: هذه فلسفة نعرفها من أخزم -شنشنة نعرفها من أخزم- حينما يعتمدون على الكلام، ولا أقول على العقل بعد ذاك التفصيل، وإنما على عقلهم فقط يريدون أن ينزهوا الله عز وجل عن المكان وهو منزه عن المكان بحكم قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فالله عز وجل -كما نعلم جميعاً على اختلاف الفرق الإسلامية- كان الله ولا شيء معه، لم يكن ثمة زمان ولا مكان، ثم خلق الله عز وجل المكان والزمان؛ فلذلك لا شك ولا ريب أن الله عز وجل ليس في مكان، ولكن الذي يجب الانتباه له: أن تلك الكلمة الحبشية -إذا صحت هذه النسبة- كلمة حق أريد بها باطل، أي: قولهم: إن المكان مخلوق، ولا يُعقل أن يكون الله عز وجل حالاً في مخلوق!! هذا كلام صحيح، لكنها كلمة حق أريد بها باطل، ما هو الباطل الذي يراد بهذه الكلمة؟ يريدون أن يعطلوا الله عز وجل عن صفاته وعن أسمائه تبارك وتعالى المصرح بها في القرآن وفي السنة الصحيحة. فنحن نقول معهم بأن الله عز وجل ليس في مكان، ولكن هل يقولون معنا كما قال الله عز وجل في القرآن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ؟ هل يقولون معنا كما في الآية الكريمة: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ؟ هل يقولون معنا كما قال ربنا: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ؟ الجواب -مع الأسف-: لا. إذاً تلك كلمة حق أريد بها باطل، والآن سيتضح لكم، ولكل من قد يكون تسربت إليهم أو إليهن شيء من شبه أولئك الأحباش، فنقول: إن الله عز وجل قد وصف في هذه الآيات وفي غيرها، وفي أحاديث كثيرة وكثيرة جداً، أن له تبارك وتعالى صفة العلو، فلا جرم أن المصلي حينما يسجد يقول: سبحان ربي الأعلى، وأن من أدب التلاوة في صلاة الليل إذا قرأ الإمام: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] أن يقول المقتدون من ورائه: سبحان ربي الأعلى، ونحو ذلك من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، قاطعة الدلالة على أن لله عز وجل صفة العلو على المخلوقات كلها، هل هم يقولون مع قولهم: إن الله ليس في مكان، أن الله عز وجل على العرش استوى؟ لا يقولون بذلك؛ والسبب يعود إلى أحد أمرين اثنين، والأمران كما يقال: أحلاهما مر؛ فإما أن يكون هذا الأمر يعود إلى انحراف في الفكر والعقل، وإلى نقص في العقل والفهم، وإما أن يكون القصد الهدم للإسلام من أقوى جوانبه، ألا وهو العقيدة المتعلقة بالله تبارك وتعالى، وكما علمتم أحلاهما مر، سواءً كان قولهم هذا بأن ينكروا ما صرح الله عز وجل في تلك الآيات والنصوص ما ذكرنا منها وما لم نذكر، بأن له صفة العلو. نحن سنقول الآن: الله عز وجل ليس في مكانٍ خلقه بعد أن كان عدماً، هذه حقيقة لا شك ولا ريب فيها، لكن هل الله عز وجل فوق المخلوقات كلها وهو ليس في مكان؟ لا تلازم -وهنا يظهر جهل هؤلاء أو كيدهم- لا تلازم إطلاقاً بين إثبات صفة العلو لله عز وجل على المخلوقات كلها، وبين أن يكون هو في مكان؛ لأن المكان حينما يطلق إنما يراد به شيء كان مسبوقاً بالعدم ثم خلقه الله عز وجل. إذاً: هؤلاء الذين يبدءون الكلام بالفلسفة الكلامية: المكان مخلوق أم ليس بمخلوق؟ نعم. هو مخلوق هل يليق بالله عز وجل أن يكون في مكان خلقه؟ A لا يليق، إذاً كيف يقال: إن الله في مكان؟ نقول: لا أحد من المسلمين يقول: إن الله في مكان، إلا المنحرفين عن الكتاب والسنة.

الفرق المنحرفة في إثبات المكان لله تعالى

الفرق المنحرفة في إثبات المكان لله تعالى هناك طائفتان اثنتان: طائفة تثبت المكان لله ولعلكم تسمعون هذا الإثبات من ألسنة من ينتمون إلى أهل السنة والجماعة من بين أظهرنا، ولا نذهب بكم بعيداً عنا، فأحدنا في بعض المجالس طالما سمع بأذنيه قائلاً من المسلمين وليسوا من الأحباش يقول: الله في كل مكان، الله موجود في كل الوجود، هذه عقيدة ليست من عقائد المسلمين إطلاقاً، وإنما هي عقيدة طائفتين انحرفتا عن العقيدة الصحيحة التي ذكرنا آنفاً أنها من المقطوع بها في القرآن وفي السنة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى. الطائفة الأولى: هم المعتزلة قديماً وحديثاً، المعتزلة القدامى يصرحون بأن الله في كل مكان، ومن هؤلاء الطوائف التي لا تعرف اليوم باسم المعتزلة، لكنهم يعرفون باسم آخر، وهم طائفة من الخوارج، الذين نعرف جميعاً شيئاً من تاريخهم ومن إسرافهم في كثير من العقائد الصحيحة، تلك الطائفة الموجودة اليوم هم المعروفون بـ الإباضية، وهم يتبنون عقيدة المعتزلة أن الله عز وجل في كل مكان، ولا كلام لنا الآن مع هؤلاء؛ لأنكم قد عرفتم بأنهم مبطلون حينما يحشرون الله عز وجل في كل مكان، لكن يجب أن تتنبهوا وأن تتذكروا أن هؤلاء الأحباش وأمثالهم حينما يلتقون مع بعض المسلمين أو المسلمات، ويشككونهم في عقيدتهم الصحيحة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى، كيف؟ لا كيف -كما تعلمون- وهذا له بحث آخر، فبدل أن يعالجوا ما نسمع في مجالس أهل السنة والجماعة -كما يقولون اليوم أن الله موجود في كل مكان- بدل أن يعالجوا هذا الخطأ يعالجون عقيدة صحيحة باسم إنكار هذا الخطأ. المعتزلة قديماً ومن على شاكلتهم من الإباضية حديثاً، يصرحون بأن الله في كل مكان، وهذا ضلال ما بعده ضلال، ولعلنا نعرج لتفصيل شيء من هذا الضلال. أما الطائفة الأخرى فهم الذين يقولون: إن الله ليس في مكان مطلقاً، سواء كان المكان مكاناً وجودياً -أي: الذي كان عدماً ثم خلقه الله- أو كان مكاناً ذهنياً. كلنا يعلم -كما ذكرت لكم آنفاً- بأن الله عز وجل كان ولا زمان ولا مكان، هل كان في مكان؟ إن كان المقصود بالمكان المكان المخلوق فحاشاه! فقد كان ولا شيء معه مطلقاً، لكنه كان، فكان في مكان، أما إن كان في هذا العدم الذي كونه فيما بعد، فجعل قسماً منه خلقاً بقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] فالله كان وهو من هذه الحيثية لا يزال كما كان، أي: ليس في مكان مخلوق، هذا واضح جداً. فالطائفة الأخرى ينكرون أن يكون الله عز وجل كما كان في الأزل ليس في مكان، ولذلك فهم لا يثبتون له صفة العلو على المخلوقات كلها. هؤلاء لهم مقولة من أبطل ما يقوله كافر -لا أقول: مسلم- وهم الفرقة الثانية الذين يخالفون المعتزلة في ضلالهم، وقد عرفتم أن المعتزلة يقولون: إن الله في كل مكان، وهذا ضلال واضح ولا يحتاج إلى بيان إن شاء الله، على الأقل الآن أولئك الذين يقولون: الله ليس في مكان -كما تقول المعتزلة وكما تقول الأحباش- هؤلاء لا يقولون: إن الله عز وجل له صفة العلو على المخلوقات كلها، لا يعلم كيفية ذلك إلا الله عز وجل، ماذا يقولون؟ يقولون وهذه عقيدة الأحباش، فأرجو ممن تمكنوا من الوسوسة إليهم أن يعرفوا حصيلة وسوستهم، ألا وهي جحد الخالق، والمصير إلى الإلحاد المطلق، كما هو مذهب الشيوعيين والدهريين والزنادقة والملاحدة، الذين يقولون: لا شيء إلا المادة، هؤلاء يصفون ربهم ويقولون: الله تبارك وتعالى لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه. نحن اتفقنا معهم أن المكان مخلوق وهو العالم، فالله ليس داخل العالم، ولكن ما بالهم يقولون أيضاً: ليس خارج العالم؟ هذا هو الإلحاد، وهذا هو الجحد المطلق. زاد بعضهم إغراقاً في التعطيل وفي النفي فقالوا -بعد أن قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه- قالوا: لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه هذا هو الجحد، هذا هو الذي يقوله الدهريون جميعاً، ويعجبني -بهذه المناسبة- مناظرة وقعت بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وبين بعض علماء الكلام من أمثال الأحباش هؤلاء، الذين شكوا شيخ الإسلام ابن تيمية إلى حاكم البلد يومئذ في دمشق بأنه يقول كذا وكذا، ويجسم، ويتهمونه بما ليس فيه، وطلبوا عقد مجلس مناظرة معه؛ فاستجاب الأمير لذلك، ودعا شيخ الإسلام ابن تيمية والمخالفين له، فجلسوا أمام الأمير، فسمع الأمير دعوى هؤلاء المشايخ، وسمع من شيخ الإسلام الآيات والأحاديث التي تثبت لله عز وجل صفة العلو على خلقه، مع التنزيه التام، كما صرح به القرآن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فلما سمع كلام الشيخ من جهة وكلام أولئك العلماء من جهة أخرى؛ قال -وهذا يدل على عقل وذكاء ممتاز- قال: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم. هذه كلمة حق تقال لأناس يقولون عن ربهم باختصار: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، صدق ذلك الأمير حينما قال عن هؤلاء الأقوام: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم؛ لأننا إذا قلنا لأفصح رجل في اللغة العربية: صف لنا المعدوم الذي لا وجود له لما استطاع أن يصف بأكثر مما يصف هؤلاء معبودهم وربهم، فالمعدوم: الذي ليس داخل العالم ولا خارجه، فهل الله كذلك؟ حاشا لله! بل كان الله ولا شيء معه. لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يصف المجسمة الذين يشبهون الله ببعض مخلوقاته، وهؤلاء هم الذين يتستر من ورائهم الأحباش، فينكرون أن يكون لله -مثلاً- صفة اليد التي ذكرها في القرآن، والصفات الأخرى التي قد نتعرض لذكر شيء منها قريباً إن شاء الله. وصف ابن تيمية هؤلاء المجسمة بوصف دقيق جداً، كما أنه وصف المعطلة، وقرن الطائفتين وجمعهم في وصف يجمعهم الضلال قال: المجسم يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً. هذا هو الحق، المجسم يعبد صنماً، الله ليس جسماً، حاشا لله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] أما المعطل فيعبد عدماً، كيف؟ لا داخل العالم ولا خارجه، لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، هذه هي عقيدة المعتزلة وعلماء الكلام ومنهم الأشاعرة اليوم، ومنهم بعض الماتريدية قديماً، وقد يكونون اليوم عامةً ماتريدية حيث لا يقولون بقولة الحق التي قالها بعض الماتريدية القدامى، الذين تمسكوا بهدي السلف الصالح، فقال قائلهم بحق: ورب العرش فوق العرش لكن بلا وصف التمكن واتصال أي: إن الله عز وجل -كما قال- هو الغني عن العالمين، فالله عز وجل استوى على العرش، أي: استوى على المخلوقات كلها، ليس لأنه بحاجة إليها، وإنما ليكون مهيمناً وقاهراً لكل مخلوقاته.

إثبات صفة العلو لله عز وجل والرد على من أنكرها

إثبات صفة العلو لله عز وجل والرد على من أنكرها يأتي هنا أن نقول لهؤلاء الأحباش وأمثالهم من المنحرفين عن عقيدة السلف الصالح: إن الله عز وجل فوق العرش، استعلى بنص القرآن الكريم وتفسير السلف الصالح، هأنتم تقولون: إن الله ليس في مكان، فهل يجوز للمسلم أن يقول: أين الله؟! هنا ينكشف البرقع عن هؤلاء المتسترين بتنزيه الله عز وجل عن المكان المخلوق، لكننا نسألهم: هل الله عز وجل في السماء؟ علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن لنا -نحن معشر المسلمين، المتبعين للكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح- هو الذي سن لنا أن نسأل من نشك في إيمانه بالله عز وجل: أين الله؟ وبالتالي سن لنا الجواب أن نقول: الله في السماء، لكن هذا لا بد أنه بحاجة إلى شيء من البيان -أي: حينما نقول: الله في السماء- وهذا سأقوم به -إن شاء الله- بعد أن أذكر إخواننا وأخواتنا الحاضرات بحديث أخرجه الأئمة في كتبهم، واتفق علماء الحديث، وعلماء التفسير، وفقهاء الأئمة الأربعة وغيرهم على صحة الحديث التالي، وقد أخرجه من أهل الحديث الإمام مسلم في صحيحه، ومن قبله الإمام مالك في موطئه، ومن بعده الإمام أحمد في مسنده، وغيرهم كثير وكثير جداً ممن تبعوهم بإحسان، ذلك الحديث هو ما جاء بالسند الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى يوماً وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل بجانبه فقال له وهو يصلي: يرحمك الله، فنظروا إليه بأطراف أعينهم مسكتين له) لكن يبدو أنه كان حديث عهد بالإسلام ومعرفة الأحكام المتعلقة بالصلاة؛ ولذلك فقد ضاق بهم ذرعاً حينما رآهم ينظرون إليه نظرة تسكيت له- (فقال رافعاً صوته: واثكل أمي! ما بالكم تنظرون إلي؟! فأخذوا ضرباً على أفخاذهم) أيضاً يتابعونه بالإسكات، فحينئذٍ كأنه تبين أنه على خطأ، فذكر من هديه عليه السلام ولطفه معه قال: (فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة أقبل إلي، فوالله ما قهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي تسبيح وتكبير وتحميد) . ولما وجد الرجل هذا اللطف -وكل شيء من معدنه جميل، فهو الذي وصفه رب العالمين في القرآن الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] حينما وجد منه هذا اللطف في التعليم؛ طمع أن يزداد علماً بعد أن عرف أنه أخطأ في الصلاة وتكلم ولا يجوز له الكلام، فقال: (يا رسول الله! إن منا أقواماً يتطيرون. قال: فلا يصدنكم، قال: إن منا أقواماً يأتون الكهان. قال: فلا تأتوهم، قال: إن منا أقواماً يخطون بالرمل ... ) وضرب الرمل معروف، وهو إلى اليوم مع الأسف، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه خطه فذاك) والشاهد الآن يأتي، وما مضى يحتاج إلى محاضرة بل وأكثر من محاضرة، ولكن الشاهد هو ما سيأتي الآن (قال: يا رسول الله! لي جارية ترعى غنماً لي في أحد، فسطا الذئب يوماً على غنمي، وأنا رجل أغضب كما يغضب البشر، فصككتها صكة وعليَّ عتق رقبة. فقال عليه الصلاة والسلام: هاتها، فلما جاءت قال لها عليه الصلاة والسلام: أين الله؟ قالت: في السماء. قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال لسيدها: اعتقها فإنها مؤمنة) هذا الحديث اتفق علماء المسلمين على اختلاف تخصصاتهم؛ من علماء الحديث -وهذا تخصصهم- وعلماء التفسير، والفقه، والتوحيد، كلهم اتفقوا على تصحيح هذا الحديث، إلا علماء الكلام الذين يركبون رءوسهم ويتبعون أهواءهم، فهم الذين يردون هذا الحديث بعقولهم التي عرفتم أنها لا قيمة لها.

جواب الأحباش وغيرهم عن سؤال: أين الله؟

جواب الأحباش وغيرهم عن سؤال: أين الله؟ هذا الحديث أجاز لنا أن نسأل الأحباش وأمثالهم من أذناب المعتزلة أو الإباضية: أين الله؟ فستراهم حيارى، والجيد منهم يقول: هذا سؤال لا يجوز. وهم يجهلون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا السؤال لأمته، فهم إذاً يردون على نبيهم الذي يزعمون أنهم يؤمنون به. قد لا تصدقون، لكن الكتاب موجود، وبعض العلماء في العصر الحاضر يقولون: إن القول بأن الله في السماء هي عقيدة الجاهلية وليست عقيدة المسلمين، وأن هذه الكلمة "إن الله في السماء" حكاها عنهم رب العالمين في القرآن الكريم من سورة تبارك: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17] . وهناك قسم آخر أقرب إلى الهدى وأبعد عن ضلال القسم الأول الذين قالوا: إن القول بأن الله في السماء هو قول جاهلية، يتأولون هذه الآية بتأويل، فيقولون: (من في السماء) أي: الملائكة. وهذا من شؤم ما يسمونه بالمجاز، إنهم يسلكون طرق المجاز لتعطيل الصفات الإلهية، وتأتي هنا أحاديث كثيرة لإبطال مثل هذا التأويل، من ذلك: الحديث المتداول بين الناس اليوم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بل لا يفقهون ما به يتكلمون، ذلك الحديث هو: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ، من في السماء؟ الله، ومن في الأرض؟ خلق الله؛ من إنسان، وحيوان، ودواب إلخ. هذا الحديث لأنه يوضح المعنى المقصود من قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وهذا الذي قلت آنفاً: ربما نعرج لبيان معنى (من في السماء) لأن (في) من حيث الاستعمال العربي تأتي في بعض الأحيان بمعنى الظرفية، وأحياناً تأتي بمعنى آخر من حروف الجر، فتأتي بمعنى على، فيا ترى (في) هنا في هذه الآية هل هي بالمعنى المعهود أي أنها ظرف؟ A لا. ومن هنا يظن علماء الكلام أنهم إذا نفوا أن يكون الله في السماء أنهم نزهوه، وهم في الحقيقة نزهوه عن فهمهم الخطأ للآية، لكن قد أنكروا أن يقولوا كما قال الله "الله في السماء" فجهلوا معنى أن الله في السماء أنه على السماء، وفي هذه الحالة تلتقي معنا هذه الآية مفسرة بالحديث السابق: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (من في الأرض) ليس المقصود من كان في جوف الأرض من ديدان وحشرات إلخ، وإنما المعنى واضح جداً: من على الأرض، من تتعاملون معهم من بني جنسكم من الإنس، أو مما ذلل الله لكم من الحيوانات، ارحموا من على الأرض يرحمكم من في السماء، أي: من على السماء. وحينئذ هذا التفسير الذي يوضحه هذا الحديث، يلتقي تماماً مع كل الآيات التي ذكرنا بعضها، وأحاديث أخرى أن الله عز وجل له صفة العلو، فحينما نوجه السؤال إلى هؤلاء الأحباش، أو إلى غيرهم ممن هم على شاكلتهم في ضلالهم: أين الله؟ يجب أن يكون جوابهم كما قالت الجارية: الله في السماء. لكن ليس بمفهومهم "في" ظرفية، لا. وإنما بالمفهوم الذي وضحه الحديث أولاً، وكان عليه سلفنا الصالح ثانياً، ومعنى: (إن الله في السماء) أي: على السماء، فوق العرش؛ لأن كل ما علاك فهو سماء. فحينئذٍ تسد الطرق كلها أمام هؤلاء الأحباش الذين يظنون أولاً: أنه لا يجوز أن يسأل المسلم: أين الله؟ وثانياً: يظنون أنه لا يجوز أن يقول: الله في السماء، بعد أن تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا Q أين الله؟ وهو الذي شهد لتلك الجارية بالإيمان؛ حينما نطقت بلفظ القرآن: الله في السماء.

الفرق بين الصحابة وبين عامة الناس اليوم في فهم العقيدة

الفرق بين الصحابة وبين عامة الناس اليوم في فهم العقيدة وهنا عبرة لا بد أن أذكرها، وهي: يتبين لنا الفرق بين الحياة التي كان يعيشها عامة المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى الجارية راعية الغنم، وبين ما يعيشه اليوم عامة المسلمين وكثير من خاصتهم؛ لأن هذا السؤال لو وجه إلى كثير من الخاصة، وفيهم بعض كبار علماء الأزهر الذي يوصف فيقال: الأزهر الشريف، لو وجه إليهم هذا Q أين الله؟ لم يجيبوا بجواب الجارية ما هذه الفارقة بين كبار العلماء في العصر الحاضر لا يجيبون عن سؤال الرسول عليه السلام، بينما راعية الغنم تعرف الجواب الصحيح لهذا السؤال الوجيه؟ أقول: هذا دليل على أن المسلمين في العهد الأول ربوا جميعاً -لا فرق بين خاصتهم وعامتهم- ربوا جميعاً بتربية النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق -على الأقل- بالعقيدة التي لا بد لكل مسلم أن يكون فاهماً لها أولاً، ثم مؤمناً بها. هذه الجارية كيف عرفت العقيدة الصحيحة؟ A الجارية لا نتصور أنها كانت تتمكن أن تحضر حلقات العلم، التي كان يحضرها كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخاصتهم، بينما الآخرون ما كانوا يحضرون جلسات الرسول عليه السلام، إذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما سمع حديثاً من أبي هريرة رضي الله عنه ندم فقال: [شغلنا الصفق في الأسواق] إذا كان هذا عمر فماذا نقول عن الصحابة الآخرين؟ وماذا نقول عن النساء؟ بل ماذا نقول أخيراً عن الجواري وعن راعية الغنم؟ أريد من هذه التوطئة: كيف فهمت هذه الجارية هذه العقيدة الصحيحة، التي إلى الآن لم يفهمها بعض الخاصة من أهل العلم؟ إنها كانت تعيش في جو موحد بالتوحيد الصحيح الذي لا مثيل له في الدنيا إطلاقاً؛ بسبب وجود النور بين ظهراني أولئك الصحابة من الرجال والنساء، من الخاصة والعامة، وهو الرسول عليه السلام، هذه الجارية تلقت هذه العقيدة من سيدها، فسيدها يسمع العقيدة الصحيحة؛ بل والأحكام الشرعية من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يقتصر على الاحتفاظ بها بل ينقلها إلى من يعوله، إلى من ينفق عليه مادة وينفق عليه -أيضاً- علماً ومعنى. من هنا نعرف لماذا عرفت الجارية هذه العقيدة الصحيحة؛ لأنها عاشت في ذلك الجو الوحيد في فهمه بالتوحيد الصحيح، أما اليوم فالمسلمون يعيشون في أجواء متباينة في عقائد متفرقة متضاربة أشد التضارب؛ ولذلك فلا نجاة للمسلمين في هذا الزمان إلا أن يعودوا إلى ما كان عليه السلف الصالح، وأن يحققوا في أنفسهم خبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، حينما قال واصفاً للفرقة الناجية: (هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي) .

الرد على الأحباش في تحريفهم لصفة اليد لله

الرد على الأحباش في تحريفهم لصفة اليد لله أردت أن أختم الكلمة بهذا الحديث، لكني تذكرت أنه كان في جملة السؤال المطروح: أن هؤلاء الأحباش ينكرون في جملة ما ينكرون اليد التي وصف الله عز وجل نفسه بها، ويقولون: اليد جارحة سبحان الله! وهم يتكلمون عن أنفسهم، فكيف يقولون في اليد التي ذكرها الله: إنها جارحة؟ هؤلاء من أجهل الناس إن لم يكونوا من أضل الناس؛ ذلك لأنهم يقيسون الغائب على الشاهد، بل يقيسون غيب الغيوب وهو الله تبارك وتعالى على أنفسهم، هذا في منتهى الحماقة إن لم يكن في منتهى الضلال! نحن نجاريهم جدلاً لا عقيدة، وحاشا أن نشاركهم في عقيدتهم، نقول لهم: الله ذات متصف بصفات الكمال، هل تقولون معنا؟ لا بد أن يقولوا: نعم. أو يقولوا: لا. فإن قالوا: لا. فذاك هو الذي يدل على ضلالهم، ويؤكد ما هم فيه، فلا كلام لنا معهم؛ لأن الكلام حينئذٍ يكون مع الزنادقة، والمفروض أننا نتكلم مع مسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون وإلخ، فإذا قالوا: نحن معكم بأن الله عز وجل ذات له كل صفات الكمال، فإذا قالوا هذه الكلمة فقد تناقضوا حينما قالوا: الله ذات وله صفات، وأنت أيها المتكلم بكلام علماء الكلام حينما تقول: اليد جارحة، هذه الجارحة بالنسبة لذاتك؛ فهل ذاتك كذات الله أو ذات الله كذاتك؟ ستقول: حاشا له! ذاته ليست كالذوات، وبالتالي صفاته ليست كسائر صفات المخلوقات. إذاً: انتهت المشكلة، يقال في الذات ما يقال في الصفات، ويقال في الصفات ما يقال في الذات، إيجاباً وسلباً، الله ذات، له كل صفات الكمال، ومنزه عن كل صفات النقص، ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فهو سميع وبصير؛ لكن سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، ولا بد لهؤلاء المجادلين بالباطل، والمتسترين بكلام ظاهره حق وباطنه باطل، لا بد لهم أن ينكروا كل صفات الله عز وجل لماذا؟ لأن وصف الله بهذه الصفات في الغالب فيها اشتراك لغوي ليس حقيقياً معنوياً، الله عز وجل قال عن آدم: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] ووصف نفسه بأنه سميع بصير فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ، فعلى طريقة هؤلاء الأحباش وأمثالهم من المعطلة لا بد من أحد شيئين: إما أن نقول: إن الله ليس كما قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لأنه قال في آدم: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] أو أن نقول: لا. هو كما وصف به نفسه، لكن قوله في آدم: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] ليس كذلك، فلا بد من تعطيل أحد الوصفين: إما ما كان منهما متعلقاً بالله عز وجل، وهذا كفر، وإما ما كان متعلقاً بوصف الله لآدم عليه السلام بأنه جعله سمعياً بصيراً، فهذا إنكار، وهو أيضاً كفر، وهم دائرون ما بين كفر وكفر، وذلك عاقبة من لا يتبع السلف الصالح، ولذلك قيل: وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف فنوصي الحاضرين جميعاً ألا يصغوا لعلماء الكلام ولا لأذنابهم، وعليهم أن يعرفوا عقيدة السلف؛ ليكونوا -إن شاء الله- مهتدين، والحمد لله رب العالمين.

أهمية العلم بالسنة والبدعة للرد على أهل البدع

أهمية العلم بالسنة والبدعة للرد على أهل البدع Q لا يخفى عليكم أن أهل البدع بين كل فينة يظهرون أمراً يحاولون في ظنهم أن يخفوا منار السنة، فهل نواكب أهل البدع في الرد عليهم؟ وما هي النصيحة منكم في مثل هذا لنا ولإخواننا في الداخل والخارج؟ وبارك الله فيكم. A الرد على أهل البدع لا يجوز إلا من كان عالماً بالسنة من جهة، والبدعة من جهة أخرى، لعلكم تذكرون معي حديث حذيفة بن اليمان في الصحيحين حين قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه) وهذا كما قال الشاعر: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه فمن كان عالماً بالخير والشر كـ حذيفة بن اليمان، وكان بالتالي في هذا الزمان عارفاً بالسنة، فيتبعها ويحض الناس عليها، وعالماً بالبدعة فيجتنبها ويحذر الناس منها، هذا الشخص هو الذي يجوز له أن يجادل أهل البدعة أو المبتدعة. أما أن يفعل كما يفعل بعض إخواننا الذين لم يؤتوا من العلم إلا حظاً قليلاً، ثم يدخلون في مجادلة من هم أقوى منهم علماً، ولو كان هذا العلم مشوباً بكثير من البدعة أو علم الكلام -كما قلنا آنفاً- فهؤلاء ننصحهم أن ينطووا على أنفسهم، وأن يعتزلوا المبتدعة، وألا يجادلوهم؛ لأنهم سيتأثرون بشبهاتهم، كمثل ذاك السؤال الذي سمعتم في أول الجلسة، وسمعتم الرد عليه، أنهم يصغون لكل ناعق ولكل صائح، فتتعلق الشبهة في ذهن السامع؛ حتى يتيسر له عالم يتمكن من إزالة هذه الشبهة من نفسه. لذلك تكاثرت النصوص عن سلفنا الصالح من العلماء، كـ مالك وأحمد وغيرهم، أنهم كانوا يحذرون الناس كل التحذير من الجلوس مع أهل البدع؛ بل وكانوا يأمرونهم بمقاطعتهم؛ خشية أن يتسرب شيء من شبهاتهم إلى نفوسهم. فهذا -أظن- جواب ما سألت، والأجر للجميع -إن شاء الله- ما دمنا مخلصين وقاصدين -أولاً- العلم النافع المستقى من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج السلف الصالح، ثم قاصدين -أيضاً- أن نعمل بما تعلمنا، ثم بعد ذلك نسأل الله عز وجل أن يزيدنا وإياكم علماً. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

§1/1